ج15.وج16. كتاب أحكام القرآن ابن العربي
الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { أَقِمْ الصَّلَاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا
} .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : {
أَقِمْ الصَّلَاةَ } : أَيْ اجْعَلْهَا قَائِمَةً ، أَيْ دَائِمَةً .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ
: { لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } : وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : زَالَتْ عِنْدَ كَبِدِ
السَّمَاءِ ؛ قَالَهُ عُمَرُ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَابْنُ
عَبَّاسٍ ، وَطَائِفَةٌ سِوَاهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ وَغَيْرُهُمْ .
الثَّانِي :
أَنَّ الدُّلُوكَ هُوَ الْغُرُوبُ ؛ قَالَهُ ابْنُ
مَسْعُودٍ ، وَعَلِيٌّ ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : { غَسَقِ اللَّيْلِ } : فِيهِ ثَلَاثَةُ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : إقْبَالُ ظُلْمَتِهِ .
الثَّانِي : اجْتِمَاعُ ظُلْمَتِهِ .
الثَّالِثُ : مَغِيبُ الشَّفَقِ .
وَقَدْ قَيَّدْت عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الدُّلُوكَ
إنَّمَا سُمِّيَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَدْلُكُ عَيْنَيْهِ إذَا نَظَرَ إلَى
الشَّمْسِ فِيهِ ، أَمَّا فِي الزَّوَالِ فَلِكَثْرَةِ شُعَاعِهَا ، وَأَمَّا فِي الْغُرُوبِ
فَلِيَتَبَيَّنَهَا ، وَهَذَا لَوْ نُقِلَ عَنْ الْعَرَبِ لَكَانَ قَوِيًّا ، وَقَدْ
قَالَ الشَّاعِرُ : هَذَا مُقَامُ قَدَمَيْ رَبَاحِ حَتَّى يُقَالَ دَلَكْت
بَرَاحِ كَقَوْلِهِ قَطَامِ وَجَذَامِ ، وَفِي ذَلِكَ كَلَامٌ .
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : دُلُوكُ الشَّمْسِ مَيْلُهَا .
وَغَسَقُ اللَّيْلِ اجْتِمَاعُ اللَّيْلِ وَظُلْمَتُهُ
وَرِوَايَةُ مَالِكٍ عَنْهُ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ
مَالِكٍ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ
.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ صَلَّى الْمَغْرِبَ
وَالنَّاسُ يَتَمَارَوْنَ فِي الشَّمْسِ لَمْ تَغِبْ ، فَقَالَ : مَا شَأْنُكُمْ ؟
قَالُوا : نَرَى أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَغِبْ .
قَالَ :
هَذَا وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ وَقْتُ هَذِهِ
الصَّلَاةِ ، ثُمَّ قَرَأَ : { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ
اللَّيْلِ } ؛ قَالَ : وَهَذَا دُلُوكُ الشَّمْسِ ،
وَهَذَا غَسَقُ اللَّيْلِ .
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ : أَنَّ الدُّلُوكَ هُوَ الْمَيْلُ ،
وَلَهُ أَوَّلٌ عِنْدَنَا وَهُوَ الزَّوَالُ ، وَآخِرٌ وَهُوَ الْغُرُوبُ ،
وَكَذَلِكَ الْغَسَقُ هُوَ الظُّلْمَةُ ، وَلَهَا ابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ ،
فَابْتِدَاؤُهَا عِنْدَ دُخُولِ اللَّيْلِ ، وَانْتِهَاؤُهَا عِنْدَ غَيْبُوبَةِ
الشَّفَقِ ، فَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ الْآيَةَ تَضَمَّنَتْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ،
فَقَوْلُهُ : دُلُوكِ الشَّمْسِ يَتَنَاوَلُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ، وَقَوْلُهُ :
{ غَسَقِ اللَّيْلِ } اقْتَضَى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ ، وَقَوْلُهُ : { قُرْآنَ
الْفَجْرَ } اقْتَضَى صَلَاةَ الصُّبْحِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ :
وَسَمَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ قُرْآنًا لِيُبَيِّنَ أَنَّ رُكْنَ الصَّلَاةِ
وَمَقْصُودَهَا الْأَكْبَرُ
الذِّكْرُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاقْرَءُوا
مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } ؛ مَعْنَاهُ صَلُّوا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ
إنْ شَاءَ اللَّهُ ، أَطْوَلُ الصَّلَوَاتِ قِرَاءَةً ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ
عَبْدِي نِصْفَيْنِ ، يَقُولُ الْعَبْدُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ ، يَقُولُ اللَّهُ : حَمِدَنِي عَبْدِي } .
{ وَيَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ : اقْرَأْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ
وَمَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ } ، مَعْنَاهُ صَلُّوا عَلَى مَا يَأْتِي
بَيَانُهُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَهِيَ أَطْوَلُ الصَّلَوَاتِ قِرَاءَةً .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { الْفَجْرِ } : يَعْنِي سَيَلَانَ الضَّوْءِ ، وَجَرَيَانَ النُّورِ فِي الْأُفُقِ ، مِنْ فَجَرَ الْمَاءُ وَهُوَ ظُهُورُهُ وَسَيَلَانُهُ ، فَيَكُونُ كَثِيرًا ، وَمِنْ هَذَا الْفَجْرُ وَهُوَ كَثْرَةُ الْمَاءِ وَهُوَ ابْتِدَاءُ النَّهَارِ وَأَوَّلُ الْيَوْمِ وَالْوَقْتُ الَّذِي يَحْرُمُ فِيهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ ؛ وَتَجُوزُ فِيهِ صَلَاةُ الصُّبْحِ فِعْلًا وَتَجِبُ إلْزَامًا فِي الذِّمَّةِ وَحَتْمًا ، وَيُسْتَحَبُّ فِيهِ فِعْلُهَا نَدْبًا ، حَسْبَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ فِيهَا مِنْ مُوَاظَبَتِهِ عَلَى صَلَاتِهَا فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالْمَنَازِلِ ، لَا بِالطَّالِعِ مِنْهَا ، وَلَا بِالْغَارِبِ ، وَلَا بِالْمُتَوَسِّطِ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ ؛ لِأَنَّك إذَا تَرَاءَيْت الطَّالِعَ أَوْ الْغَارِبَ فَتَرَاءَى الْفَجْرُ أَوَّلًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْأَصْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، وَالرُّجُوعُ إلَى الْبَدَلِ ؛ وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ بَيِّنَةً لِيَتَسَاوَى فِي دَرْكِهَا الْعَامِّيُّ وَالْخَاصِّيُّ ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ نَصَبَهَا بَيِّنَةً لِلْأَبْصَارِ ، ظَاهِرَةً دُونَ اسْتِبْصَارٍ ، فَلَا عُذْرَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّبَهَا خُفْيَةً ؛ فَذَلِكَ عَكْسُ الشَّرِيعَةِ ، وَخَلْطُ التَّكْلِيفِ وَتَبْدِيلُ الْأَحْكَامِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : { إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ
كَانَ مَشْهُودًا } : يَعْنِي مَشْهُودًا بِالْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ
وَالْكَاتِبِينَ .
ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ قَالَ : { يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ
مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي
صَلَاةِ الصُّبْحِ وَفِي صَلَاةِ الْعَصْرِ .
ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ
فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي ؟ فَيَقُولُونَ
: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ } .
وَبِهَذَا فُضِّلَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ
، وَيُشَارِكُهَا فِي ذَلِكَ الْعَصْرُ ، فَيَكُونَانِ جَمِيعًا أَفْضَلَ
الصَّلَوَاتِ ، وَيَتَمَيَّزُ عَلَيْهَا الصُّبْحُ بِزِيَادَةِ فَضْلٍ حَتَّى
تَكُونَ الْوُسْطَى ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ
يَتَمَادَى وَقْتُهَا مِنْ الزَّوَالِ إلَى الْغُرُوبِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَلَّقَ وُجُوبَهَا
عَلَى الدُّلُوكِ ، وَهَذَا دُلُوكٌ كُلُّهُ ؛ قَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَبُو
حَنِيفَةَ فِي تَفْصِيلٍ ، وَأَشَارَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي حَالِ
الضَّرُورَةِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : وَقْتُ الْمَغْرِبِ يَكُونُ مِنْ
الْغُرُوبِ إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ ؛ لِأَنَّهُ غَسَقٌ كُلُّهُ ، وَهُوَ
الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَقَوْلُهُ فِي مُوَطَّئِهِ الَّذِي قَرَأَهُ
طُولَ عُمُرِهِ ، وَأَمْلَاهُ حَيَاتَهُ .
وَمِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ الَّتِي
بَيَّنَّاهَا فِيهَا ، وَأَشَرْنَا إلَيْهَا فِي كُتُبِنَا عِنْدَ جَرَيَانِهَا
أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُعَلَّقَةَ بِالْأَسْمَاءِ ، هَلْ تَتَعَلَّقُ بِأَوَائِلِهَا
أَمْ بِآخِرِهَا ؟ فَيَرْتَبِطُ الْحُكْمُ بِجَمِيعِهَا .
وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ ، وَجَرَى الْخِلَافُ
فِي مَسَائِلِ مَالِكٍ عَلَى وَجْهٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ
عِنْدَهُ .
وَالْأَقْوَى فِي النَّظَرِ أَنْ يَرْتَبِطَ الْحُكْمُ
بِأَوَائِلِهَا ، لِئَلَّا يَعُودَ ذِكْرُهَا لَغْوًا ، فَإِذَا ارْتَبَطَ
بِأَوَائِلِهَا جَرَى بَعْدَ ذَلِكَ النَّظَرُ فِي تَعَلُّقِهِ بِالْكُلِّ إلَى
الْآخِرِ أَمْ اقْتِصَارُهُ عَلَى الْأَوَّلِ عَلَى مَا يُعْطِيه الدَّلِيلُ ،
وَلَا بُدَّ مِنْ تَعَلُّقِ الصَّلَاةِ بِالزَّوَالِ ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ الدُّلُوكِ .
وَكُنَّا نُعَلِّقُهَا بِالْجَمِيعِ ، إلَّا أَنَّ
صَلَاةَ الْعَصْرِ قَدْ أَخَذَتْ مِنْهَا وَقْتَهَا ، مِنْ كَوْنِ ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ
مِثْلَهُ ؛ فَانْقَطَعَ حُكْمُ الظُّهْرِ لِدُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ ، فَبَقِيَ
النَّظَرُ فِي اشْتِرَاكِهِمَا مَعًا ، بِدَلِيلٍ آخَرَ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ
الْفِقْهِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ ، وَفِيهِ طُولٌ .
وَأَمَّا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ فَأَمْرُهَا أَبْيَنُ مِنْ
الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الدُّلُوكِ ، وَهُوَ الْغُرُوبُ ،
وَلَيْسَ بَعْدَهَا صَلَاةٌ تُقْطَعُ بِهَا ، وَتَأْخُذُ الْوَقْتَ مِنْهَا إلَى
مَغِيبِ الشَّفَقِ ، فَهَلْ يَتَمَادَى وَقْتُهَا إلَى دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ
الْأُخْرَى ، أَمْ يَتَعَلَّقُ
بِالْأَوَّلِ خَاصَّةً ؟ وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ هَذَا كُلَّهُ ، فَقَالَ : { وَقْتُ
الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَحْضُرْ وَقْتُ الْعِشَاءِ } .
وَقَالَ أَيْضًا فِيهِ : { وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ
يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ } ؛ فَارْتَفَعَ الْخِلَافُ بِبَيَانِ مُبَلِّغِ
الشَّرِيعَةِ .
الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ اللَّيْلِ
فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا
مَحْمُودًا } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْلُهُ : { فَتَهَجَّدْ بِهِ } : يَعْنِي اسْهَرْ بِهِ .
وَالْهُجُودُ : النَّوْمُ ، وَالتَّهَجُّدُ تَفَعُّلٌ
، وَهُوَ لِاكْتِسَابِ الْفِعْلِ وَإِثْبَاتِهِ فِي الْأَصْلِ ، وَقَدْ يَأْتِي
لِنَفْيِهِ فِي حُرُوفٍ مَعْدُودَةٍ ، جِمَاعُهَا سَبْعَةٌ : تَهَجَّدَ : نَفَى
الْهُجُودَ ، تَخَوَّفَ : نَفَى الْخَوْفَ ، تَحَنَّثَ : نَفَى الْحِنْثَ ،
تَنَجَّسَ : أَلْقَى النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ .
تَحَرَّجَ ، نَفَى الْحَرَجَ ، تَأَثَّمَ : نَفَى
الْإِثْمَ ، تَعَذَّرَ : نَفَى الْعُذْرَ .
تَقَذَّرَ : نَفَى الْقَذَرَ .
وَفِي الْبُخَارِيِّ : تَجَزَّعَ : نَفَى الْجَزَعَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { نَافِلَةً لَك } : وَالنَّفَلُ
هُوَ الزِّيَادَةُ ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ؛ وَفِي وَجْهِ الزِّيَادَةِ هَاهُنَا
قَوْلَانِ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى فَرْضِهِ خَاصَّةً دُونَ
النَّاسِ .
الثَّانِي : قَوْلُهُ : { نَافِلَةً لَك } ؛ أَيْ
زِيَادَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يُكَفِّرُ شَيْئًا ؛ إذْ غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ فَاسِدٌ ؛
إذْ نَفْلُهُ وَفَرْضُهُ لَا يُصَادِفُ ذَنْبًا ، و لَا صَلَاةُ اللَّيْلِ وَلَا
صَلَاةُ النَّهَارِ تُكَفِّرَانِ خَطِيئَةً ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي
حَدِّهِ وُجُودًا ، مَعْدُومٌ فِي حَقِّهِ مُؤَاخَذَةً لَوْ كَانَ لِفَضْلِ
الْمَغْفِرَةِ مِنْ اللَّهِ عَلَيْهِ
.
وَمِنْ خَصَائِصِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَامُ اللَّيْلِ ، { وَكَانَ يَقُومُ حَتَّى تَرِمَ
قَدَمَاهُ } ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ " الْأَحْزَابِ " وَفِي
سُورَةِ " الْمُزَّمِّلِ
" .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي صِفَةِ هَذَا
التَّهَجُّدِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ النَّوْمُ ، ثُمَّ الصَّلَاةُ
، ثُمَّ النَّوْمُ ، ثُمَّ الصَّلَاةُ
.
الثَّانِي : أَنَّهُ الصَّلَاةُ بَعْدَ النَّوْمِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ .
وَهَذَا دَعَاوَى مِنْ التَّابِعِينَ فِيهَا ،
وَلَعَلَّهُمْ إنَّمَا عَوَّلُوا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَنَامُ وَيُصَلِّي ، وَيَنَامُ وَيُصَلِّي ، فَعَوَّلُوا عَلَى
أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ كَانَ امْتِثَالًا لِهَذَا الْأَمْرِ ، فَإِنْ كَانَ
ذَلِكَ فَالْأَمْرُ فِيهِ قَرِيبٌ
.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي وَجْهِ كَوْنِ قِيَامِ
اللَّيْلِ سَبَبًا لِلْمَقَامِ الْمَحْمُودِ وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَارِئَ يَجْعَلُ مَا شَاءَ مِنْ فِعْلِهِ سَبَبًا
لِفَضْلِهِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِوَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهِ ، أَوْ
بِمَعْرِفَةِ وَجْهِ الْحِكْمَةِ
.
الثَّانِي
: أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ فِيهِ الْخَلْوَةُ مَعَ
الْبَارِئِ وَالْمُنَاجَاةُ دُونَ النَّاسِ ؛ فَيُعْطَى الْخَلْوَةَ بِهِ وَمُنَاجَاتُهُ
فِي الْقِيَامَةِ ، فَيَكُونُ مَقَامًا مَحْمُودًا ، وَيَتَفَاضَلُ
فِيهِ الْخَلْقُ بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِمْ ؛ فَأَجَلُّهُمْ فِيهِ دَرَجَةً مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يُعْطَى مِنْ الْمَحَامِدِ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ ، وَيَشْفَعُ وَلَا يَشْفَعُ أَحَدٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَك عَنْ
الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إلَّا
قَلِيلًا } .
قَدْ أَطَلْنَا النَّفَسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي
كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ وَشَرْحِ الصَّحِيحِ بِمَا يَقِفُ بِكُمْ فِيهَا عَلَى الْمَعْرِفَةِ
، فَأَمَّا الْآنَ فَخُذُوا نَبْذَةً تُشْرِفُ بِكُمْ عَلَى الْغَرَضِ : ثَبَتَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ { ابْنِ
مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ قَالَ بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرْثٍ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ إذْ مَرَّ
الْيَهُودُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ .
فَقَالَ : مَا رَابَكُمْ إلَيْهِ ؟ لَا
يَسْتَقْبِلْنَكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ .
قَالُوا :
سَلُوهُ ، فَسَأَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ ، فَأَمْسَكَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا
فَعَلِمْت أَنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ ، فَقُمْت مَقَامِي ، فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ
قَالَ : يَسْأَلُونَكَ عَنْ " الرُّوحِ " الْآيَةَ } .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ : لَمْ يَأْتِهِ فِي
ذَلِكَ جَوَابٌ ، وَقَدْ قَالَ بَكْرُ بْنُ مُضَرَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ
: إنَّ الْيَهُودَ قَالُوا : سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ
فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْكُمْ فَهُوَ نَبِيٌّ ، فَسَأَلُوهُ
فَنَزَلَتْ الْآيَةُ .
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا
يَتَكَلَّمُونَ مَعَ الْخَلْقِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ ، وَلَا يُفِيضُونَ مَعَهُمْ
فِي الْمُشْكِلَاتِ ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُونَ فِي الْبَيِّنِ مِنْ الْأُمُورِ الْمَعْقُولَاتِ
، وَالرُّوحُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى جَعَلَهُ اللَّهُ فِي
الْأَجْسَامِ ، فَأَحْيَاهَا بِهِ ، وَعَلِمَهَا وَأَقْدَرَهَا ، وَبَنَى
عَلَيْهَا الصِّفَاتِ الشَّرِيفَةَ ، وَالْأَخْلَاقَ الْكَرِيمَةَ ، وَقَابَلَهَا
بِأَضْدَادِهَا لِنُقْصَانِ الْآدَمِيَّةِ ، فَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ
إنْكَارَهَا لَمْ يَقْدِرْ لِظُهُورِ آثَارِهَا ، وَإِذَا أَرَادَ مَعْرِفَتَهَا
وَهِيَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ لَمْ يَسْتَطِعْ ؟ ؛ لِأَنَّهُ قَصُرَ عَنْهَا وَقَصُرَ
بِهِ دُونَهَا .
وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ سُبْحَانَهُ رَكَّبَ ذَلِكَ فِيهِ عِبْرَةً ، كَمَا قَالَ : { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } لِيَرَى أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى لَا يُقْدَرُ عَلَى جَحْدِهِ لِظُهُورِ آيَاتِهِ فِي أَفْعَالِهِ : فَفِي كُلِّ شَيْءٍ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ وَلَا يُحِيطُ بِهِ لِكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ ، فَإِذَا وَقَفَ مُتَفَكِّرًا فِي هَذَا نَادَاهُ الِاعْتِبَارُ : لَا تَرْتَبْ ، فَفِيك مِنْ ذَلِكَ آثَارٌ ، اُنْظُرْ إلَى مَوْجُودٍ فِي إهَابِك لَا تَقْدِرُ عَلَى إنْكَارِهِ لِظُهُورِ آثَارِهِ ، وَلَا تُحِيطُ بِمِقْدَارِهِ ، لِقُصُورِك عَنْهُ فَيَأْخُذُهُ الدَّلِيلُ ، وَتَقُومُ لِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَيْهِ .
الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا
مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ
لَهُ فِرْعَوْنُ إنِّي لَأَظُنُّك يَا مُوسَى مَسْحُورًا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
تَفْسِيرِ الْآيَاتِ : وَفِيهَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ : هِيَ يَدُهُ ، وَعَصَاهُ ، وَلِسَانُهُ ، وَالْبَحْرُ ، وَالطُّوفَانُ
، وَالْجَرَادُ ، وَالْقُمَّلُ ، وَالضَّفَادِعُ ، وَالدَّمُ .
الثَّانِي
: أَنَّهَا الطُّوفَانُ ، وَالْجَرَادُ ، وَالْقُمَّلُ ،
وَالضَّفَادِعُ ، وَالدَّمُ ، وَالْبَحْرُ ، وَعَصَاهُ ، وَالطَّمْسَةُ ،
وَالْحَجَرُ ؛ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ،
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : مَا الطَّمْسَةُ قَالَ قَوْلُهُ : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى
أَمْوَالِهِمْ } .
قَالَ : فَدَعَا عُمَرُ بِخَرِيطَةٍ كَانَتْ لِعَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ مَرْوَانَ أُصِيبَتْ بِمِصْرَ ، فَإِذَا فِيهَا الْجَوْزَةُ وَالْبَيْضَةُ
وَالْعَدَسَةُ ، مُسِخَتْ حِجَارَةً كَانَتْ مِنْ أَمْوَالِ فِرْعَوْنَ بِمِصْرَ .
الثَّالِثُ : رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ هِيَ :
الْحَجَرُ ، وَالْعَصَا ، وَالْيَدُ ، و الطُّوفَانُ ، وَالْجَرَادُ ،
وَالْقُمَّلُ ، وَالضَّفَادِعُ ، وَالدَّمُ ، وَالطَّوْدُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : الطُّوفَانُ : الْمَاءُ .
الرَّابِعُ :
رَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ هِيَ : الطُّوفَانُ ،
وَالْجَرَادُ ، وَالْقُمَّلُ ، وَالضَّفَادِعُ ، وَالدَّمُ ، وَالْعَصَا ،
وَالْيَدُ ، وَالْبَحْرُ و الْجَبَلُ ، فِي أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ .
الْخَامِسُ
: رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ
عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ أَنْ { يَهُودِيَّيْنِ سَأَلَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ التِّسْعِ الْآيَاتِ ؛ فَقَالَ : هِيَ أَلَّا تُشْرِكُوا
بِاَللَّهِ شَيْئًا ، وَلَا تَسْرِقُوا ، وَلَا تَزْنُوا ، وَلَا تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ
إلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ ، وَلَا تَسْخَرُوا ، وَلَا تَقْذِفُوا
الْمُحْصَنَاتِ ، وَلَا تُوَلَّوْا الْأَدْبَارَ عِنْدَ الزَّحْفِ ، وَعَلَيْكُمْ
خَاصَّةً يَهُودُ أَلَّا تَعْتَدُوا فِي
السَّبْتِ .
فَقَبَّلَا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ، وَقَالَا : نَشْهَدُ
أَنَّك نَبِيٌّ .
فَقَالَ :
وَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَتَّبِعَانِي ؟ فَقَالَا :
إنَّ دَاوُد دَعَا أَلَّا يَزَالَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ ، وَإِنَّا نَخَافُ
إنْ اتَّبَعْنَاك أَنْ تَقْتُلَنَا يَهُودُ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الَّذِي جَرَى مِنْ الْأَحْكَامِ
هَاهُنَا ذِكْرُ الْعَصَا ، وَسَنَسْتَوْفِي الْقَوْلَ فِيهَا فِي سُورَةِ "
طَهَ " إنْ شَاءَ اللَّهُ
.
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى : { قُلْ اُدْعُوا
اللَّهَ أَوْ اُدْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ
الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ
سَبِيلًا } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
وَفِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الصَّلَاةَ هُنَا الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ قَالَ : {
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ
رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا
الْقُرْآنَ ، وَمَنْ أَنْزَلَ وَمَنْ جَاءَ بِهِ ؛ فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ : { وَلَا
تَجْهَرْ بِصَلَاتِك } فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ { وَلَا تُخَافِتْ بِهَا }
حَتَّى لَا يَسْمَعَكَ أَصْحَابُك الْآيَةَ } .
الثَّانِي
: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ ؛ قَالَهُ
الْبُخَارِيُّ ، وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ ، وَابْنِ وَهْبٍ أَيْضًا ، رَوَاهُ
عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ .
الثَّالِثُ : قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ : قِيلَ لِمُحَمَّدٍ : لَا تُحْسِنْ صَلَاتَك فِي الْعَلَانِيَةِ
مُرَاءَاةً ، وَلَا تُسِيئُهَا فِي الْمُخَافَتَةِ .
الرَّابِعُ : رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
إنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ لِأَمْرٍ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَنْزَلَ عَلَى
رَسُولِهِ فِي عَدَدِ خَزَنَةِ النَّارِ : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ }
قَالُوا فِي ذَلِكَ مَا قَالُوا ، وَجَعَلُوا إذَا سَمِعُوا النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَفَرَّقُونَ عَنْهُ ، فَكَانَ الرَّجُلُ إذَا
أَرَادَ أَنْ يَسْمَعَ اسْتَرَقَ السَّمْعَ دُونَهُمْ فَرَقًا مِنْهُمْ ، فَإِذَا
رَأَى أَنَّهُمْ قَدْ عَرَفُوا أَنَّهُ يَسْتَمِعُ ] ذَهَبَ خَشْيَةَ أَذَاهُمْ ،
وَإِنْ خَفَضَ صَوْتَهُ يَظُنُّ الَّذِي يَسْمَعُ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ مِنْ قِرَاءَتِهِ
شَيْئًا وَسَمِعَ هُوَ شَيْئًا مِنْهُمْ أَصَاخَ لَهُ يَسْمَعُ مِنْهُ ، فَقِيلَ
لَهُ : لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِك فَيَتَفَرَّقُوا عَنْك ، وَلَا تُخَافِتْ بِهَا
فَلَا يَسْمَعُهَا مَنْ يَسْتَرِقُ
السَّمْعَ ، رَجَاءَ أَنْ يَرْعَوِيَ إلَى بَعْضِ مَا يَسْمَعُ
فَيَنْتَفِعُ بِهِ الْوَسْنَانُ .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ : كَانَ أَبُو بَكْرٍ
يُخَافِتُ ، وَعُمَرُ يَجْهَرُ ، فَقِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ :
أُسْمِعُ مَنْ أُنَاجِي .
وَقِيلَ لِعُمَرَ فِيهِ ، فَقَالَ : أُوقِظُ
الْوَسْنَانَ ، وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ ، وَأَذْكُرُ الرَّحْمَنَ .
فَقِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ : ارْفَعْ قَلِيلًا .
وَقِيلَ لِعُمَرَ : اخْفِضْ قَلِيلًا ، وَذَكَرَ هَذَا
عِنْدَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : عَبَّرَ اللَّهُ هَاهُنَا
بِالصَّلَاةِ عَنْ الْقِرَاءَةِ ، كَمَا عَبَّرْ بِالْقِرَاءَةِ عَنْ الصَّلَاةِ
فِي قَوْلِهِ : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا }
؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُرْتَبِطٌ بِالْآخَرِ ؛ الصَّلَاةُ تَشْتَمِلُ
عَلَى قِرَاءَةٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ ، فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَجْزَائِهَا ، فَيُعَبَّرُ
بِالْجُزْءِ عَنْ الْجُمْلَةِ وَبِالْجُمْلَةِ عَنْ الْجُزْءِ ، عَلَى عَادَةِ
الْعَرَبِ فِي الْمَجَازِ وَهُوَ كَثِيرٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي تَتَبُّعِ
الْأَسْبَابِ بِالتَّنْقِيحِ : أَمَّا رِوَايَاتُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَصَحُّهَا
الْأَوَّلُ وَأَمَّا رِوَايَةُ عَائِشَةَ فَيُعَضِّدُهَا مَا رُوِيَ { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي مَسِيرٍ ، فَرَفَعُوا
أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
إنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ ، وَلَا غَائِبًا ، وَإِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا
قَرِيبًا ؛ إنَّهُ بَيْنَكُمْ و بَيْنَ رُءُوسِ رِحَالِكُمْ } .
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَإِنْ صَحَّ فَيَكُونُ خِطَابًا
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ و الْمُرَادُ أُمَّتُهُ ، إذْ لَا
يَجُوزُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
.
وَأَمَّا الرَّابِعُ فَمُحْتَمَلٌ ، لَكِنَّهُ لَمْ
يَصِحَّ .
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَيُشْبِهُ
الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي الدُّعَاءِ ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى
الزِّيَادَةِ فِي الْجَهْرِ ، حَتَّى يَضُرَّ ذَلِكَ بِالْقَارِئِ ، وَلَا
يُمْكِنُهُ التَّمَادِي عَلَيْهِ ، فَأَخَذَ بِالْوَسَطِ مِنْ
الْجَهْرِ الْمُتْعِبِ وَالْإِسْرَارِ الْمُخَافِتِ .
وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ فِيهَا
قَوْلًا سَادِسًا ؛ وَهُوَ لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِك بِالنَّهَارِ وَلَا تُخَافِتْ
بِهَا بِاللَّيْلِ ، وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا سَنَّهَا اللَّهُ
لِنَبِيِّهِ وَأَوْعَزَ بِهَا إلَيْكُمْ .
سُورَةُ الْكَهْفِ فِيهَا عِشْرُونَ آيَةً الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله
تَعَالَى : { إنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ
أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا
} .
قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ : { قُلْ مَنْ
حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ
الرِّزْقِ } فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ
بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ
قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا
لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلَى الْمَدِينَةِ
فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ
وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إنَّهُمْ إنْ يَظْهَرُوا
عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا
إذًا أَبَدًا } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى
: { فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلَى الْمَدِينَةِ } هَذَا
يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ ، وَهُوَ عَقْدُ نِيَابَةٍ أَذِنَ اللَّهُ
فِيهِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ ، وَقِيَامِ الْمَصْلَحَةِ بِهِ ، إذْ يَعْجَزُ كُلُّ
أَحَدٍ عَنْ تَنَاوُلِ أُمُورِهِ إلَّا بِمَعُونَةٍ مِنْ غَيْرِهِ ، أَوْ
يَتَرَفَّهُ فَيَسْتَنِيبُ مَنْ يُرِيحُهُ ، حَتَّى جَازَ ذَلِكَ فِي
الْعِبَادَاتِ ؛ لُطْفًا مِنْهُ سُبْحَانَهُ ، وَرِفْقًا بِضَعَفَةِ الْخَلِيقَةِ
، ذَكَرَهَا اللَّهُ كَمَا تَرَوْنَ ، وَبَيَّنَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَسْمَعُونَ ، وَهُوَ أَقْوَى آيَةٍ فِي
الْغَرَضِ .
وَقَدْ تَعَلَّقَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي صِحَّةِ
الْوَكَالَةِ مِنْ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا
} وَبِقَوْلِهِ : { اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي
يَأْتِ بَصِيرًا } .
وَآيَةُ الْقَمِيصِ ضَعِيفَةٌ ، وَآيَةُ الْعَامِلِينَ
حَسَنَةٌ .
وَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : {
أَرَدْت الْخُرُوجَ إلَى خَيْبَرَ ، فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُلْت لَهُ : إنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَى خَيْبَرَ ،
فَقَالَ : ائْتِ وَكِيلِي ، فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا ، فَإِنْ
ابْتَغَى مِنْك آيَةً فَضَعْ يَدَك عَلَى تَرْقُوَتِهِ } .
وَقَدْ وَكَّلَ عُمَرَ بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ
عَلَى عَقْدِ نِكَاحِ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ عِنْدَ
النَّجَاشِيِّ ، وَوَكَّلَ أَبَا رَافِعٍ عَلَى نِكَاحِ مَيْمُونَةَ فِي
إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، وَوَكَّلَ حَكِيمَ بْنُ حِزَامٍ عَلَى شِرَاءِ
شَاةٍ ، وَالْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ حَقٍّ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ ؛
وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ ، تَحْرِيرُهُ فِي خَمْسَةٍ
وَعِشْرِينَ مِثَالًا : الْأَوَّلُ : الطَّهَارَةُ : وَهِيَ عِبَادَةٌ تَجُوزُ
النِّيَابَةُ فِيهَا فِي صَبِّ الْمَاءِ خَاصَّةً عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ ،
وَلَا تَجُوزُ عَلَى عَرْكِهَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُتَوَضِّئُ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ
عَلَيْهِ .
الثَّانِي : النَّجَاسَةُ .
الثَّالِثُ
: الصَّلَاةُ : وَلَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا بِحَالٍ
بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ ، وَإِنَّمَا يُؤَدِّيهَا الْمُكَلَّفُ ، وَلَوْ
بِأَشْفَارِ عَيْنَيْهِ إشَارَةً ، إلَّا فِي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ .
الرَّابِعُ : الزَّكَاةُ : وَتَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي
أَخْذِهَا وَإِعْطَائِهَا .
الْخَامِسُ :
الصِّيَامُ : وَلَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ بِحَالٍ
، إلَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَجُمْلَةٍ مِنْ السَّلَفِ الْأَوَّلِ ،
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
السَّادِسُ الِاعْتِكَافُ وَهُوَ مِثْلُهُ .
السَّابِعُ : الْحَجُّ .
الثَّامِنُ : الْبَيْعُ : وَهِيَ الْمُعَاوَضَةُ
وَأَنْوَاعُهَا .
التَّاسِعُ : الرَّهْنُ .
الْعَاشِرُ :
الْحَجْرُ : يَصِحُّ أَنْ يُوَكِّلَ الْحَاكِمُ مَنْ
يَحْجُرُ وَيُنَفِّذُ سَائِرَ الْأَحْكَامِ عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ الْحَوَالَةُ ، وَالضَّمَانُ
، وَالشَّرِكَةُ ، وَالْإِقْرَارُ ، وَالصُّلْحُ ، وَالْعَارِيَّةُ ؛ فَهَذِهِ
سِتَّةَ عَشَرَ مِثَالًا .
وَأَمَّا الْغَصْبُ : فَإِنْ وَكَّلَ فِيهِ كَانَ
الْغَاصِبُ الْوَكِيلَ دُونَ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُحَرَّمٍ فِعْلُهُ لَا
تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ الشُّفْعَةُ ، وَالْقَرْضُ ،
وَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِي اللُّقَطَةِ .
وَأَمَّا قَسْمُ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ فَتَصِحُّ
النِّيَابَةُ فِيهِ .
وَالنِّكَاحُ وَأَحْكَامُهُ تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ
، كَالطَّلَاقِ .
وَالْإِيلَاءُ يَمِينٌ لَا وَكَالَةَ فِيهِ .
وَأَمَّا اللِّعَانُ : فَلَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ فِيهِ
بِحَالٍ .
وَأَمَّا الظِّهَارُ : فَلَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ
؛ لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ
، وَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ .
وَالْخِيَانَاتُ : لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِيهَا
لِهَذِهِ الْعِلَّةِ مِنْ أَنَّهَا بَاطِلٌ وَظُلْمٌ ، وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ
عَلَى طَلَبِ الْقِصَاصِ وَاسْتِيفَائِهِ ، وَكَذَلِكَ فِي الدِّيَةِ ، وَلَا
وَكَالَةَ فِي الْقَسَامَةِ ؛ لِأَنَّهَا أَيْمَانٌ .
وَيَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِي الزَّكَاةِ ، وَفِي
الْعِتْقِ وَتَوَابِعِهِ إلَّا فِي الِاسْتِيلَادِ ؛ فَهَذِهِ خَمْسَةٌ
وَعِشْرُونَ مِثَالًا ، تَكُونُ دُسْتُورًا لِغَيْرِهَا ، وَإِنْ كَانَ لَمْ
يَبْقَ بَعْدَهَا إلَّا يَسِيرُ فَرْعٍ لَهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي هَذِهِ الْآيَةِ
دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّعَامِ الْمُشْتَرَكِ وَأَكْلِهِ
عَلَى الْإِشَاعَةِ .
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَا قَالُوهُ
؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْ أَعْطَاهُ
وَرِقَهُ مُفْرَدًا ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ اشْتِرَاكٌ ، وَلَا مُعَوِّلَ فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَّا عَلَى حَدِيثَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ابْنَ
عُمَرَ مَرَّ بِقَوْمٍ يَأْكُلُونَ تَمْرًا ، فَقَالَ : { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِقْرَانِ إلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ } .
الثَّانِي : حَدِيثُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي جَيْشِ
الْخَبَطِ { وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُمْ
وَفَقَدُوا الزَّادَ ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ ،
فَجُمِعَتْ ، فَكَانَ يَقُوتُنَا كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلًا } .
وَهَذَا دُونَ الْأَوَّلِ فِي الظُّهُورِ ؛ لِأَنَّهُ
كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو عُبَيْدَةَ كَانَ يُعْطِيهِمْ كَفَافًا مِنْ
ذَلِكَ الْقُوتِ ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ عَلَيْهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَحَادِيثَ ذَلِكَ وَمَسَائِلَهُ فِي
شَرْحِ الصَّحِيحِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ نُكْتَةٌ وَهِيَ أَنَّ
الْوَكَالَةَ فِيهَا إنَّمَا كَانَتْ مَعَ التَّقِيَّةِ وَخَوْفِ أَنْ يَشْعُرَ
بِهِمْ أَحَدٌ لَمَّا كَانُوا يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْهُمْ ، وَجَوَازُ
تَوْكِيلِ ذِي الْعُذْرِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ
فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ تَوْكِيلِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ .
وَكَانَ سَحْنُونٌ قَدْ تَلَقَّفَهُ عَنْ أَسَدِ بْنِ
الْفُرَاتِ ، فَحَكَمَ بِهِ أَيَّامَ قَضَائِهِ .
وَلَعَلَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِأَهْلِ الظُّلْمِ
وَالْجَبَرُوتِ ؛ إنْصَافًا مِنْهُمْ ، وَإِرْذَالًا بِهِمْ .
وَهُوَ الْحَقُّ ، فَإِنَّ الْوَكَالَةَ مَعُونَةٌ ،
وَلَا تَكُونُ لِأَهْلِ الْبَاطِلِ
.
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي ذَلِكَ قَائِمٌ
؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا ،
فَجَازَتْ الْوَكَالَةُ عَلَيْهِ ؛ أَصْلُهُ دَفْعُ الدَّيْنِ .
وَمُعَوِّلُهُمْ عَلَى أَنَّ الْحُقُوقَ تَخْتَلِفُ ،
وَالنَّاسُ فِي الْأَخْلَاقِ يَتَفَاوَتُونَ ، فَرُبَّمَا أَضَرَّ الْوَكِيلُ
بِالْآخَرِ .
قُلْنَا : وَرُبَّمَا كَانَ أَحَدُهُمَا ضَعِيفًا
فَيَنْظُرُ لِنَفْسِهِ فِيمَنْ يُقَاوِمُ خَصْمَهُ ، وَهَذَا مِمَّا لَا
يَنْضَبِطُ ، فَرَجَعْنَا إلَى الْأَصْلِ ، وَهُوَ جَوَازُ النِّيَابَةِ فِي
الْإِطْلَاقِ ، وَلِلْوَكَالَةِ مَسَائِلُ يَأْتِي فِي أَبْوَابِهَا ذِكْرُ
فُرُوعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى
طَعَامًا } قِيلَ : أَرَادَ أَكْثَرَ .
وَقِيلَ :
أَرَادَ أَطْهَرَ ، يَعْنِي أَزْكَى وَأَحَلَّ ، وَلَا
يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَبْعِدَ طَلَبَهُ أَكْثَرَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ
النَّهَامَةِ ، وَإِنَّمَا مَحْمَلُهُ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ مُرَادًا
فَمَعْنَاهُ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ رِزْقَهُمْ كَانَ مِنْ عَدَدِهِمْ ، فَاحْتَاجُوا
إلَى وَضْعٍ فِي الْمَطْعُومِ لِيَقُومَ بِهِمْ .
وَالْمَعْنَى الْآخَرُ مِنْ طَلَبِ الطَّهَارَةِ بَيِّنٌ
، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ
إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ
وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا } فِيهَا
سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قَالَ
ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ : قَالَ أَبُو جَهْلٍ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ،
وَاَللَّهِ مَا أَرَانَا إلَّا قَدْ أُعْذِرْنَا فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ مِنْ
بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَاَللَّهِ لَئِنْ أَصْبَحْت ، ثُمَّ صَنَعَ كَمَا
كَانَ يَصْنَعُ فِي صَلَاتِهِ ، لَقَدْ أَخَذْت صَخْرَةً ، ثُمَّ رَضَخْت رَأْسَهُ
فَاسْتَرَحْنَا مِنْهُ ، فَامْنَعُونِي عِنْدَ ذَلِكَ ، أَوْ أَسْلِمُونِي .
قَالُوا : يَا أَبَا الْحَكَمِ ، وَاَللَّهِ لَا
نُسْلِمُك أَبَدًا .
فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ غَدَا إلَى مُصَلَّاهُ الَّذِي كَانَ
يُصَلِّي فِيهِ ، وَغَدَا أَبُو جَهْلٍ مَعَهُ حَجَرٌ ، وَقُرَيْشٌ فِي
أَنْدِيَتِهِمْ يَنْظُرُونَ مَا يَصْنَعُ ، فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ إلَيْهِ أَبُو جَهْلٍ بِذَلِكَ الْحَجَرِ
، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ رَجَعَ مُنْهَزِمًا مُنْتَفِعًا لَوْنُهُ ، كَادَتْ
رُوحُهُ تُفَارِقُهُ ، فَقَامَ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِمَّنْ سَمِعَ مَا قَالَ
تِلْكَ اللَّيْلَةِ ، قَالُوا : يَا أَبَا الْحَكَمِ ، مَالَك ؟ فَوَاَللَّهِ
لَقَدْ كُنْت مُجِدًّا فِي أَمْرِك ، ثُمَّ رَجَعْت بِأَسْوَإِ هَيْئَةٍ رَجَعَ
بِهَا رَجُلٌ ، وَمَا رَأَيْنَا دُونَ مُحَمَّدٍ شَيْئًا يَمْنَعُهُ مِنْك .
فَقَالَ : وَيْلَكُمْ ، وَاَللَّهِ لَعَرَضَ دُونَهُ لِي
فَحْلٌ مِنْ الْإِبِلِ ، مَا رَأَيْت مِثْلَ هَامَتِهِ وَأَنْيَابِهِ وَقَصَرَتِهِ
لِفَحْلٍ قَطُّ ، يَخْطِرُ دُونَهُ ، لَوْ دَنَوْت لَأَكَلَنِي .
فَلِمَا قَالَهَا أَبُو جَهْلٍ قَامَ النَّضْرُ بْنُ
الْحَارِثِ فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، وَاَللَّهِ لَقَدْ نَزَلَ
بِسَاحَتِكُمْ أَمْرٌ مَا أَرَاكُمْ اُبْتُلِيتُمْ بِهِ قَبْلَهُ ، قُلْتُمْ
لِمُحَمَّدٍ : شَاعِرٌ ، وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِشَاعِرٍ .
وَقُلْتُمْ : كَاهِنٌ ، وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنٍ .
وَقُلْتُمْ سَاحِرٌ ، وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِسَاحِرٍ .
وَقُلْتُمْ : مَجْنُونٌ ، وَاَللَّهِ مَا هُوَ
بِمَجْنُونٍ .
وَاَللَّهِ لَقَدْ كَانَ مُحَمَّدٌ أَرْضَاكُمْ فِيكُمْ
: أَصْدَقَكُمْ حَدِيثًا ، وَأَعْظَمَكُمْ أَمَانَةً ، وَخَيْرَكُمْ جِوَارًا ،
حَتَّى بَلَغَ مِنْ السِّنِّ مَا بَلَغَ ، فَأَبْصِرُوا بَصَرَكُمْ ،
وَانْتَبِهُوا لِأَمْرِكُمْ .
فَقَالَتْ قُرَيْشٌ : هَلْ أَنْتَ يَا نَضْرُ خَارِجٌ إلَى
أَحْبَارِ يَهُودَ بِيَثْرِبَ ، وَنَبْعَثُ مَعَك رَجُلًا ؛ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ
الْكِتَابِ الْأَوَّلِ ، وَالْعِلْمِ بِمَا أَصْبَحْنَا نَخْتَلِفُ نَحْنُ
وَمُحَمَّدٌ فِيهِ ، تَسْأَلُهُمْ ، ثُمَّ تَأْتِينَا عَنْهُمْ بِمَا يَقُولُونَ ؟
قَالَ : نَعَمْ .
فَخَرَجُوا ، وَبَعَثُوا مَعَهُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي
مُعَيْطٍ ، فَقَدِمَا عَلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ ، فَوَصَفَا لَهُمْ أَمْرَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَدْعُوهُمْ إلَيْهِ ،
وَخِلَافَهُمْ إيَّاهُ ، فَقَالُوا لَهُمَا : سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثِ خِلَالٍ ،
نَأْمُرُكُمْ بِهِنَّ : سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ مَضَوْا فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ ،
وَقَدْ كَانَ لَهُمْ خَبَرٌ وَنَبَأٌ ، وَحَدِيثٌ مُعْجِبٌ ، وَأَخْبَرُوهُمْ
خَبَرَهُمْ .
وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ قَدْ بَلَغَ مِنْ
الْبِلَادِ مَا لَمْ يَبْلُغْ غَيْرُهُ مِنْ مَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا يُقَالُ
لَهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ ، وَأَخْبَرُوهُمْ خَبَرَهُ .
وَسَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ مَا هُوَ ؟ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ
بِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثِ فَالرَّجُلُ نَبِيٌّ فَاتَّبِعُوهُ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ
فَالرَّجُلُ كَذَّابٌ ، فَرَوْا رَأْيَكُمْ .
فَقَدِمَ النَّضْرُ وَعُقْبَةُ عَلَى قُرَيْشٍ مَكَّةُ ،
فَقَالَا : قَدْ أَتَيْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ ،
أَمَرَتْنَا أَحْبَارُ يَهُودَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ ثَلَاثَةٍ أُمُورٍ ، فَإِنْ
أَخْبَرَنَا بِهِنَّ فَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ ، فَاتَّبِعُوهُ ، وَإِنْ عَجَزَ
عَنْهَا فَالرَّجُلُ كَذَّابٌ .
فَمَشَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ ؛ أَخْبِرْنَا عَنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ ، نَسْأَلُك
عَنْهَا ، فَإِنْ أَخْبَرْتنَا عَنْهَا فَأَنْتَ نَبِيٌّ .
أَخْبِرْنَا عَنْ فِتْيَةٍ مَضَوْا فِي
الزَّمَنِ الْأَوَّلِ ، كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ مُعْجِبٌ ، وَعَنْ رَجُلٍ
طَوَافٍ بَلَغَ مِنْ الْبِلَادِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ غَيْرُهُ ، وَعَنْ الرُّوحِ مَا
هُوَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { غَدًا أُخْبِرُكُمْ
عَنْ ذَلِكَ } وَلَمْ يَسْتَثْنِ ، فَمَكَثَ عَنْهُ جِبْرِيلُ بِضْعَ عَشْرَةَ
لَيْلَةً ، مَا يَأْتِيهِ ، وَلَا يَرَاهُ حَتَّى أَرْجَفَ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ ،
قَالُوا : إنَّ مُحَمَّدًا وَعَدَنَا أَنْ يُخْبِرَنَا عَمَّا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ
غَدًا ، فَهَذِهِ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ، فَكَبُرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُبْثُ جِبْرِيلُ عَنْهُ ، ثُمَّ جَاءَهُ
بِسُورَةِ الْكَهْفِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَقَدْ
احْتَبَسْت عَنِّي يَا جِبْرِيلُ حَتَّى سُؤْت ظَنًّا } فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ :
{ وَمَا نَتَنَزَّلُ إلَّا بِأَمْرِ رَبِّك } .
ثُمَّ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ .
فَنَزَلَ فِي أَمْرِ الْفِتْيَةِ : { أَمْ حَسِبْت أَنَّ
أَصْحَابَ الْكَهْفِ } إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ .
فَقَالَ حِينَ فَرَغَ مِنْ وَصْفِهِمْ ، وَتَبَيَّنَ
لَهُ خَبَرُهُمْ : { فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا } .
يَقُولُ لَا مُنَازَعَةَ ، وَلَا تَبْلُغْ بِهِمْ فِيهَا
جَهْدَ الْخُصُومَةِ ، وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ، لَا
الْيَهُودُ الَّذِينَ أَمَرُوهُمْ أَنْ يَسْأَلُوك ، وَلَا الَّذِينَ سَأَلُوا
مِنْ قُرَيْشٍ ، يَقُولُ : قَدْ قَصَصْنَا عَلَيْك خَبَرَهُمْ عَلَى حَقِّهِ
وَصِدْقِهِ .
وَنَزَلَ فِي قَوْلِهِ : أُخْبِرُكُمْ بِهِ غَدًا قَوْله
تَعَالَى : { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ } فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا اللَّهُ صَانِعٌ فِي ذَلِكَ أَيُخْبِرُهُمْ
عَمَّا يَسْأَلُونَك عَنْهُ ؟ أَمْ يَتْرُكُهُمْ ؟ { وَاذْكُرْ رَبَّك إذَا نَسِيت }
الْآيَةَ .
وَجَاءَهُ : { وَيَسْأَلُونَك عَنْ الرُّوحِ } الْآيَةَ
، وَزَعَمُوا أَنَّهُ نَادَاهُمْ الرُّوحُ جِبْرِيلُ .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : وَبَلَغَنَا { أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَالَ لَهُ
أَحْبَارُ يَهُودَ : بَلَغَنَا يَا مُحَمَّدُ أَنَّ فِيمَا تَلَوْت
حِينَ سَأَلَك قَوْمُك عَنْ الرُّوحِ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ
إلَّا قَلِيلًا ، فَإِيَّانَا أَرَدْت بِهَا أَمْ قَوْمَك ؟ فَقَالَ : كُلًّا أُرِيدُكُمْ
بِهَا } .
قَالُوا : أَوَلَيْسَ فِيمَا تَتْلُو : إنَّا أُوتِينَا
التَّوْرَاةَ فِيهَا بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ ؟ قَالَ : { بَلَى ، وَالتَّوْرَاةُ فِي
عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ ، وَهِيَ عِنْدَكُمْ كَثِيرٌ مُجْزِئٌ } فَيَذْكُرُونَ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ نَزَلْنَ عِنْدَ ذَلِكَ : { وَلَوْ
أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ } إلَى آخِرِ الْآيَاتِ .
وَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْيَهُودَ
سَأَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ بِالْمَدِينَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ .
وَهُوَ أَصَحُّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } قَالَ
عُلَمَاؤُنَا : هَذَا تَأْدِيبٌ مِنْ اللَّهِ لِرَسُولِهِ ، أَمَرَهُ فِيهِ
أَنْ يُعَلِّقَ كُلَّ شَيْءٍ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ إذْ مِنْ دِينِ الْأُمَّةِ
وَمِنْ نَفِيسِ اعْتِقَادِهِمْ ( مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ
يَكُنْ ) لَا جَرَمَ فَلَقَدْ تَأَدَّبَ نَبِيُّنَا بِأَدَبِ اللَّهِ حِينَ
عَلَّقَ الْمَشِيئَةَ بِالْكَائِنِ لَا مَحَالَةَ ، فَقَالَ يَوْمًا وَقَدْ خَرَجَ
إلَى الْمَقْبَرَةِ : { السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ،
وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ } .
وَقَالَ أَيْضًا : { إنِّي وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ
عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ
خَيْرٌ ، وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي
} .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَالَهُ
الْمَرْءُ كَمَا يَلْزَمُهُ فِي الِاعْتِقَادِ ، فَهَلْ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً فِي
الْيَمِينِ أَمْ لَا ؟ قَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ : يَكُونُ
اسْتِثْنَاءً .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَأَشْهَبُ ، وَابْنُ عَبْدِ
الْحَكَمِ ، وَأُسَامَةُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَالِكٍ .
إنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ
إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } .
إنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ ذِكْرَ اللَّهِ عِنْدَ
السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ وَلَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ .
وَهَذَا الَّذِي قَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
لَمْ أَجِدْ عَلَيْهِ دَلِيلًا ؛ لِأَنَّ رَبْطَ الْمَشِيئَةِ ، وَذِكْرَهَا
قَوْلًا مِنْ الْعَبْدِ لِفِعْلِ الْعَبْدِ ، فَقَالَ لِعَبْدِهِ : لَا تَقُلْ
إنِّي فَاعِلٌ شَيْئًا فِيمَا تَسْتَقْبِلُهُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ، تَقْدِيرُهُ
عِنْدَ قَوْمٍ : إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ .
وَتَقْدِيرُهُ عِنْد آخَرِينَ : إلَّا أَنْ تَقُولَ إنْ
شَاءَ اللَّهُ .
وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي رِسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ ،
وَهَذَا عَزْمٌ مِنْ اللَّهِ لِعَبْدِهِ عَلَى أَنْ يُدْخِلَ قَوْلًا وَعَقْدًا
فِي مَشِيئَةِ رَبِّهِ ، فَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ؛ وَقَوْلُ
ذَلِكَ أَجْدَرُ فِي
قَضَاءِ الْأَمْرِ ، وَدَرْكِ الْحَاجَةِ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد
: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً
تَحْمِلُ كُلُّ امْرَأَةٍ فَارِسًا يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ : إنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَلَمْ
يَقُلْ ، فَلَمْ تَحْمِلْ شَيْئًا إلَّا وَاحِدًا سَاقِطًا أَحَدُ شِقَّيْهِ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
لَوْ قَالَهَا لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
فَهَذَا بَيَانُ الثُّنْيَا فِي الْيَمِينِ ، وَأَنَّهَا
حَالَةٌ لِعَقْدِ الْأَيْمَانِ ، وَأَصْلٌ فِي سُقُوطِ سَبَبِ الْكَفَّارَةِ
عَنْهَا ، وَإِنَّمَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ يُذْكَرَ اللَّهُ عِنْدَ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ
يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ : { وَاذْكُرْ رَبَّك إذَا نَسِيت } .
وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ : مَعْنَاهُ وَاذْكُرْ رَبَّك إذَا نَسِيت بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي
الْأَيْمَانِ ، مَتَى ذَكَرْتَ ، وَلَوْ إلَى سَنَةٍ ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ
أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَالْحَسَنُ
.
الثَّانِي : قَالَ عِكْرِمَةُ : مَعْنَاهُ وَاذْكُرْ
رَبَّك إذَا غَضِبْت .
الثَّالِثُ :
أَنَّ مَعْنَاهُ وَاذْكُرْ رَبَّك إذَا نَسِيت
بِالِاسْتِثْنَاءِ ، فَيَرْفَعُ عَنْهُ ذِكْرُ الِاسْتِثْنَاءِ الْحَرَجَ ،
وَتَبْقَى الْكَفَّارَةُ .
وَإِنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا انْتَفَى
الْحَرَجُ وَالْكَفَّارَةُ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَاهُ وَاذْكُرْ رَبَّك
إذَا نَسِيت بِالِاسْتِثْنَاءِ فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَإِنِّي
وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا
أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : مَعْنَاهُ وَاذْكُرْ رَبَّك إذَا
غَضِبْتَ بِالْغَيْنِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ فَمَعْنَاهُ التَّثَبُّتُ
عِنْدَ الْغَضَبِ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ عَجَلَةٍ ، وَمَزَلَّةُ قَدَمٍ ، وَالْمَرْءُ
يُؤَاخَذُ بِمَا يَنْطِقُ بِهِ فَمُهُ ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَمَنْ رَوَاهُ بِالْعَيْنِ وَالصَّادِ
الْمُهْمَلَتَيْنِ فَهُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ ، لِاسْتِحَالَةِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ
شَرْعًا بِالْخَبَرِ الْوَارِدِ الصَّادِقِ فِي تَنْزِيهِهِمْ عَنْهَا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَاهُ وَاذْكُرْ رَبَّك
بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ لِيَرْتَفِعَ عَنْك الْحَرَجُ دُونَ
الْكَفَّارَةِ فَهُوَ تَحَكُّمٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ .
فَتَبَيَّنَ أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ
إرَادَةُ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي يَرْفَعُ الْيَمِينَ الْمُنْعَقِدَةَ بِاَللَّهِ
تَعَالَى وَهِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَدَتْ فِي الْيَمِينِ بِهِ خَاصَّةً لَا
تَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَيْمَانِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو
حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ فَقَالُوا : إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ نَافِعٌ فِي كُلِّ
يَمِينٍ كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ تَنْعَقِدُ مُطْلَقَةً ، فَإِذَا
قَرَنَ بِهَا ذِكْرَ اللَّهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ كَانَ ذَلِكَ مَانِعًا
انْعِقَادَهَا ، كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ .
وَمُعَوِّلُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ مَشِيئَةَ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ إنَّمَا تُعْلَمُ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا
يَكُونُ إلَّا مَا يَشَاءُ ، فَإِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ ،
أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ إنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَقَدْ كَانَ
الطَّلَاقُ بِوُجُودِ الْمَشِيئَةِ ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْفِعْلِ عَلَامَةٌ
عَلَيْهَا ، وَهَذَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ السُّنَّةِ ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ
الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَقُلْ عَسَى أَنْ
يَهْدِيَنِ رَبِّي } الْآيَةَ : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَمْرٌ
قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَعْنَى التَّبَرُّكِ
أَوْ التَّأْدِيبِ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمَعْنَى عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ
رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ مِيعَادِكُمْ
.
فَإِنْ قِيلَ : وَأَيُّ قُرْبٍ ، وَقَدْ فَاتَ الْأَجَلُ
؟ قُلْنَا : الْقُرْبُ هُوَ مَا أَرَادَ اللَّهُ وَقْتَهُ وَإِنْ بَعُدَ ،
وَالْبُعْدُ مَا لَمْ يُرِدْ اللَّهُ وَقْتَهُ وَإِنْ قَرُبَ الثَّالِثُ :
الْمَعْنَى إنَّكُمْ طَلَبْتُمْ مِنِّي آيَاتٍ دَالَّةً عَلَى نُبُوَّتِي ،
فَأَخْبَرْتُكُمْ ، فَلَمْ تَقْبَلُوا مِنِّي ، فَعَسَى أَنْ يُعْطِيَنِي اللَّهُ
مَا هُوَ أَقْرَبُ لِإِجَابَتِكُمْ مِمَّا سَأَلْتُمْ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ قَوْمٌ : أَيُّ فَائِدَةٍ لِهَذَا
الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ حَقِيقٌ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ
قَامَ ، وَكُلُّ أَحَدٍ قَدْ عَلِمَ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ .
قُلْنَا
: عَنْهُ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ
تَعَبُّدٌ مِنْ اللَّهِ ، فَامْتِثَالُهُ وَاجِبٌ ، لِالْتِزَامِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ ، وَانْقِيَادِهِ إلَيْهِ ، وَمُوَاظَبَتِهِ
عَلَيْهِ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمَرْءَ قَدْ اشْتَمَلَ عَقْدُهُ
عَلَى أَنَّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ كَانَ مَا وَعَدَ بِفِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ
وَاتَّصَلَ بِكَلَامِهِ فِي ضَمِيرِهِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَّصِلَ ذَلِكَ مِنْ
قَوْلِهِ فِي كَلَامِهِ بِلِسَانِهِ ، حَتَّى يَنْتَظِمَ اللِّسَانُ وَالْقَلْبُ
عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ شِعَارُ أَهْلِ السُّنَّةِ ،
فَتَعَيَّنَ الْإِجْهَارُ بِهِ ، لِيُمَيَّزَ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ .
الرَّابِعُ :
أَنَّ فِيهِ التَّنْبِيهَ عَلَى مَا يَطْرَأُ فِي
الْعَوَاقِبِ بِدَفْعٍ أَوْ تَأَتٍّ ، وَرَفْعَ الْإِيهَامِ الْمُتَوَقَّعِ
بِقَطْعِ الْعَقْلِ الْمُطْلَقِ فِي الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ مَشِيئَةِ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ .
وَهَذِهِ كَانَتْ فَائِدَةُ الِاسْتِثْنَاءِ دَخَلَتْ
فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ رُخْصَةً ، وَبَقِيَتْ سَائِرُ الِالْتِزَامَاتِ عَلَى
الْأَصْلِ ؛ وَلِهَذَا يُرْوَى عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ
: أَنْتَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَهُوَ حُرٌّ ؛ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ .
وَلَوْ قَالَهَا فِي الطَّلَاقِ لَمْ تَلْزَمْ ؛
لِأَنَّهُ أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ
يَرْفَعُ الْعَقْدَ الْمُلْتَزَمَ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَالطَّلَاقِ
فَلْيَرْفَعْهُ فِي الْعِتْقِ ، وَإِنْ كَانَتْ رُخْصَةً فِي الْيَمِينِ
بِاَللَّهِ لِكَثْرَةِ تَرَدُّدِهَا فَلَا يُقَاسُ عَلَى الرُّخَصِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ حُجْزَةٌ بَيْنَ الْكُفْرِ
وَالْإِيمَانِ وَالْبِدْعَةِ وَالسُّنَّةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَدَّبَ
رَسُولَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِرَبْطِ الْأُمُورِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ ،
تَقَدَّسَ تَعَالَى ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ
آخَرَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ : وَاَللَّهِ لَأُعْطِيَنَّكَ حَقَّك غَدًا إنْ شَاءَ
اللَّهُ ، فَجَاءَ الْغَدُ وَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا أَنَّهُ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ
فِي يَمِينِهِ ، وَلَا يَلْحَقُهُ فِيهِ كَذِبٌ ، وَالتَّأْخِيرُ مَعْصِيَةٌ مِنْ
الْغَنِيِّ الْقَادِرِ ، وَلَوْ كَانَ اللَّهُ لَمْ يَشَأْ التَّأْخِيرَ ؛
لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ ، وَهُوَ لَا يَشَاءُ الْمَعَاصِيَ ، كَمَا يَقُولُونَ ،
إذَنْ كَانَ يَكُونُ الْحَالِفُ كَاذِبًا حَانِثًا .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأُعْطِيَنَّكَ حَقَّك
إنْ عِشْت غَدًا ، فَعَاشَ فَلَمْ يُعْطِهِ كَانَ حَانِثًا كَاذِبًا .
وَعِنْدَ مُعْتَزِلَةِ الْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ أَنَّ
مَشِيئَةَ اللَّهِ لِإِعْطَاءِ هَذَا الْحَالِفِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ
أَمْرُهُ ، وَقَدْ عُلِمَ حُصُولُ أَمْرِهِ بِذَلِكَ ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ
اسْتِثْنَاءُ الْحَالِفِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْمَعْلُومِ حُصُولُهُ
بِمَنْزِلَةِ اسْتِثْنَاءِ الْحَالِفِ بِكُلِّ مَعْلُومٍ حُصُولُهُ ، وَكَمَا لَوْ
قَالَ : وَاَللَّهِ لَأُعْطِيَنَّكَ حَقَّك إنْ أَمَرَنِي اللَّهُ غَدًا بِذَلِكَ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ، بَيْدَ أَنَّ أَهْلَ
الْبَصْرَةِ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ أَرَادَ إعْطَاءَ حَقِّ هَذَا إرَادَةً
مُتَقَدِّمَةً لِلْأَمْرِ بِهِ ، وَبِذَلِكَ صَارَ الْأَمْرُ أَمْرًا ، وَهِيَ
مُتَجَدِّدَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ ، وَالْحَالِفُ كَاذِبٌ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ
، حَانِثٌ .
وَقَدْ زَعَمَ الْبَغْدَادِيُّونَ أَنَّ مَشِيئَةَ
اللَّهِ هِيَ تَقِيَّةُ الْعَبْدِ إلَى غَدٍ وَتَأْخِيرُهُ لَهُ ، وَرَفْعُ
الْعَوَائِقِ عَنْهُ .
وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَوَجَبَ إذَا أَصْبَحَ
الْحَالِفُ حَيًّا بَاقِيًا سَالِمًا مِنْ الْعَوَائِقِ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا
حَانِثًا إذَا لَمْ يُعْطِهِ حَقَّهُ
.
وَقَدْ قَالُوا : إنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْحِنْثُ
إذَا قَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛
رُخْصَةً مِنْ الشَّرْعِ .
قُلْنَا :
حَكَمَ الشَّرْعُ بِسُقُوطِ الْحَرَجِ وَالْحِنْثِ
عَنْهُ إذَا قَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَبَقَائِهِ عَلَيْهِ إذَا قَالَ : إنْ
أَبْقَانِي اللَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بَيِّنٌ مَعْنًى ، كَمَا
هُوَ بَيِّنٌ لَفْظًا ؛ إذْ لَوْ كَانَ مَعْنًى وَاحِدًا لَمَا اخْتَلَفَ
الْحُكْمُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَاهُ إلَّا أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ إلْجَائِي إلَيْهِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَوْ
أَلْجَأَهُ إلَيْهِ لَمْ يُتَصَوَّرْ التَّكْلِيفُ فِيهِ بِالْإِلْزَامِ ؛ لِأَنَّ
الْإِكْرَاهَ عَلَى فِعْلِ الشَّيْءِ مَعَ الْأَمْرِ بِهِ عِنْدَهُمْ مُحَالٌ ،
فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِمْ بِحَالٍ
.
وَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ بِأَعَمَّ
مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ
مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ
وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَالَ مَالِكٌ : الْكَهْفُ مِنْ نَاحِيَةِ الرُّومِ .
وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : غَزَوْنَا مَعَ مُعَاوِيَةَ
غَزْوَةَ الْمَضِيقِ نَحْوَ الرُّومِ ، فَمَرَرْنَا بِالْكَهْفِ الَّذِي فِيهِ
أَصْحَابُ الْكَهْفِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ
بِطُولِهِ .
وَاسْمُ الْجَبَلِ الَّذِي فِيهِ الْكَهْفُ بنجلوس .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ : الْكَهْفُ الْغَارُ فِي الْوَادِي
، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
وَقَالَ قَوْمٌ : إنَّ الْكَهْفَ فِي نَاحِيَةِ الشَّامِ
عَلَى قُرْبٍ مِنْ وَادِي مُوسَى ، يَنْزِلُهُ الْحُجَّاجُ إذَا سَارُوا إلَى
مَكَّةَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ : " أَمْ حَسِبْت
أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ " .
ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ بَابَ " حَدِيثُ الْغَارِ
" وَذَكَرَ عَلَيْهِ خَبَرَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ آوَاهُمْ الْمَطَرُ إلَى
غَارٍ ، وَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ ، فَقَالُوا : " { وَاَللَّهِ لَا يُنْجِيكُمْ
إلَّا الصِّدْقُ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي قَوْلِهِ : { قُلْ اللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } هِيَ الْحُجَّةُ : لِأَنَّ قَوْلَهُ : { وَلَبِثُوا فِي
كَهْفِهِمْ } مِنْ كَلَامِهِمْ
.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِيمَا قَبْلُ سُكْنَى الْجِبَالِ
وَدُخُولَ الْغِيرَانِ لِلْعُزْلَةِ عَنْ الْخَلْقِ وَالِانْفِرَادِ بِالْخَالِقِ
، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِيهِ جَوَازُ الْفِرَارِ مِنْ الظَّالِمِ :
وَهِيَ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ ، وَحِكْمَةُ اللَّهِ فِي
الْخَلِيقَةِ .
وَقَدْ شَرَحْنَاهَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْلَا إذْ دَخَلْتَ
جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ إنْ تَرَنِ
أَنَا أَقَلَّ مِنْك مَالًا وَوَلَدًا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الذِّكْرُ
مَشْرُوعٌ لِلْعَبْدِ فِي كُلِّ حَالٍ عَلَى النَّدْبِ ، وَقَدْ رَوَى
التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللَّهَ كُلَّ أَحْيَانِهِ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي الصَّحِيحِ : { لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ : بِسْمِ
اللَّهِ ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا
رَزَقْتنَا ، فَقُضِيَ بَيْنَهَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ أَبَدًا } .
وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ
فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ إذَا دَخَلَ أَحَدُنَا مَنْزِلَهُ أَوْ مَسْجِدَهُ ، وَهِيَ
: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولَ كَمَا قَالَ اللَّهُ : { وَلَوْلَا
إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ } أَيْ مَنْزِلَك قُلْت : { مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ
إلَّا بِاَللَّهِ } .
قَالَ أَشْهَبُ : قَالَ مَالِكٌ : يَنْبَغِي لِكُلِّ
مَنْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا .
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ لِي حَفْصُ بْنُ
مَيْسَرَةَ : رَأَيْت عَلَى بَابِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ مَكْتُوبًا { مَا شَاءَ
اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ
} .
وَرُوِيَ أَنَّ مَنْ قَالَ أَرْبَعًا أَمِنَ مِنْ أَرْبَعٍ
، مَنْ قَالَ هَذِهِ أَمِنَ مِنْ هَذَا ، وَمَنْ قَالَ : حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ أَمِنَ مِنْ كَيْدِ النَّاسِ لَهُ قَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ قَالَ
لَهُمْ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ
إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } .
وَمَنْ قَالَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ أَمَّنَهُ
اللَّهُ مِنْ الْمَكْرِ .
قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ الْعَبْدِ الصَّالِحِ
أَنَّهُ قَالَ : { وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ
بِالْعِبَادِ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ
سُوءُ الْعَذَابِ } .
وَمَنْ قَالَ : { لَا إلَهَ
إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ } ، أَمِنَ مِنْ
الْغَمِّ ، وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ : مَا مِنْ أَحَدٍ يَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ
كَانَ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ إلَّا رَضِيَ بِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا
وَخَيْرٌ أَمَلًا } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ
بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مَا عَدَا اللَّهَ
وَصِفَاتِهِ الْعُلَا لَهُ أَوَّلٌ ، فَإِنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مَا عَدَا نَعِيمَ
أَهْلِ الْجَنَّةِ وَعَذَابَ أَهْلِ النَّارِ لَهُ آخِرٌ ، وَكُلُّ مَا لَا آخِرَ
لَهُ فَهُوَ الْبَاقِي حَقِيقَةً
.
وَلَكِنَّ الْبَاقِيَ بِالْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ هُوَ
اللَّهُ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ .
فَأَمَّا نَعِيمُ الْجَنَّةِ فَأُصُولٌ مُذْ خُلِقَتْ
لَمْ تَفْنَ وَلَا تَفْنَى بِخَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ وَفُرُوعٌ وَهِيَ النِّعَمُ
، هِيَ أَعْرَاضٌ إنَّمَا تُوصَفُ بِالْبَقَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ أَمْثَالَهَا يَتَجَدَّدُ
مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ ، كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ وَغَيْرِهَا إنْ
شَاءَ اللَّهُ ، وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَبْلُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ
بِقَوْلِهِ : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا
} فَهَذَا فَنَاءٌ وَتَجْدِيدٌ ، فَيَجْعَلُهُ بَقَاءً مَجَازًا بِالْإِضَافَةِ
إلَى غَيْرِهِ ، فَإِنَّهُ يَفْنَى فَلَا يَعُودُ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فَالْأَعْمَالُ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْ الْخَلْقِ مِنْ حَسَنٍ
وَقَبِيحٍ لَا بَقَاءَ لَهَا ، وَلَا تَجَدُّدَ بَعْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ ، فَهِيَ
بَاقِيَاتٌ صَالِحَاتٌ وَطَالِحَاتٌ ، حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ فِي الْحَقِيقَةِ ،
لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ الْأَعْمَالُ أَسْبَابًا فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ،
وَكَانَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ دَائِمَيْنِ لَا يَنْقَطِعَانِ ، وَبَاقِيَيْنِ
لَا يَفْنَيَانِ ، كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ ، وُصِفَتْ الْأَعْمَالُ بِالْبَقَاءِ
، حَمْلًا مَجَازِيًّا عَلَيْهَا ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ
مِنْ وَجْهِ تَسْمِيَةِ الْمَجَازِ
.
وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِسَبَبِهِ
الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ ، أَوْ تَسْمِيَتُهُ بِفَائِدَتِهِ
الْمَقْصُودَةِ بِهِ ، فَنَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى الْأَعْمَالِ
الصَّالِحَةِ ، وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهَا خَيْرُ مَا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلٍ
وَمَالٍ ، وَعَمَلٍ وَحَالٍ فِي الْمَآلِ ، فَقَالَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّك ثَوَابًا مِنْ الْمَالِ
وَالْبَنِينَ ، وَخَيْرٌ أَمَلًا فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ إرَادَتَهُ ، وَاقْتَضَى
ذَلِكَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ بِهَذَا الْعُمُومِ
الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ كُلَّ عَمَلٍ صَالِحٍ ، وَهُوَ الَّذِي وَعَدَ
بِالثَّوَابِ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ عَيَّنُوا فِي ذَلِكَ
أَقْوَالًا ، وَرَوَوْا فِيهِ أَحَادِيثَ ، وَاخْتَارُوا مِنْ ذَلِكَ أَنْوَاعًا يَكْثُرُ
تَعْدَادُهَا ، وَيَطُولُ إيرَادُهَا ، أُمَّهَاتُهَا أَرْبَعَةٌ : الْأَوَّلُ : رَوَى مَالِكٌ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، { أَنَّ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ قَوْلُ
الْعَبْدِ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ،
وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ } .
الثَّانِي : رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ مِثْلَهُ .
الثَّالِثُ : مِثْلُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الرَّابِعُ :
أَنَّهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ ؛ وَبِهِ أَقُولُ ، وَإِلَيْهِ أَمِيلُ ، وَلَيْسَ فِي
الْبَابِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، أَمَّا أَنَّ فَضْلَ التَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ
وَالْحَوْقَلَةِ مَشْهُورٌ فِي الصَّحِيحِ كَثِيرٌ ، وَلَا مِثْلَ لِلصَّلَوَاتِ
الْخَمْسِ فِي ذَلِكَ بِحِسَابٍ وَلَا تَقْدِيرٍ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ
لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا } .
وَهِيَ آيَةٌ سَيَرْتَبِطُ بِهَا غَيْرُهَا ؛ لِأَنَّهُ
حَدِيثُ الْخَضِرِ كُلُّهُ ، وَذَلِكَ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً .
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَرْدِ الْحَدِيثِ ،
وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ بِغَايَةِ الْإِيعَابِ ،
وَشَرَحْنَا مَسَائِلَهُ ، وَتَكَلَّمْنَا عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ، وَنَحْنُ
الْآنَ هَاهُنَا لَا نَعْدُو مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآيَاتِ عَلَى التَّقْرِيبِ
الْمُوجِزِ الْمُوعِبِ فِيهَا بِعَوْنِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ .
فَأَمَّا حَدِيثُهُ فَهُوَ مَا رَوَى أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ
وَغَيْرُهُ ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ : قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيُّ يَزْعُمُ أَنَّ
مُوسَى صَاحِبَ بَنِي إسْرَائِيلَ لَيْسَ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ ، فَقَالَ :
كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ ، سَمِعْت أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ يَقُولُ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : قَامَ مُوسَى خَطِيبًا فِي بَنِي
إسْرَائِيلَ ، فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ ؟ فَقَالَ : أَنَا أَعْلَمُ .
فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، إذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ
إلَيْهِ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ
الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْك
.
قَالَ مُوسَى : أَيْ رَبِّ ، فَكَيْفَ لِي بِهِ ؟
فَقَالَ لَهُ : احْمِلْ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ ، فَحَيْثُ تَفْقِدُ الْحُوتَ فَثَمَّ
هُوَ ، وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ ، فَجَعَلَ مُوسَى حُوتًا
فِي مِكْتَلٍ ، فَانْطَلَقَ وَفَتَاهُ يَمْشِيَانِ حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ ،
فَرَقَدَ مُوسَى وَفَتَاهُ ، فَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ
الْمِكْتَلِ ، فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ قَالَ : وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُ جَرْيَةَ
الْمَاءِ ، حَتَّى كَانَ مِثْلَ الطَّاقِ ، وَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا ،
وَلِمُوسَى وَلِفَتَاهُ عَجَبًا ، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا
وَلَيْلَتِهِمَا ، وَنَسِيَ صَاحِبُ مُوسَى أَنْ يُخْبِرَهُ .
فَلَمَّا أَصْبَحَ مُوسَى قَالَ لِفَتَاهُ : {
آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا } .
قَالَ : وَلَمْ يَنْصَبْ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ
الَّذِي أُمِرَ بِهِ .
قَالَ :
{ قَالَ أَرَأَيْتَ إذْ أَوَيْنَا إلَى الصَّخْرَةِ
فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ
وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ
فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا
} .
قَالَ : فَكَانَا يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا .
قَالَ سُفْيَانُ : يَزْعُمُ نَاسٌ أَنَّ تِلْكَ
الصَّخْرَةَ عِنْدَهَا عَيْنُ الْحَيَاةِ ، وَلَا يُصِيبُ مَاؤُهَا مَيِّتًا إلَّا
عَاشَ .
قَالَ : وَكَانَ الْحُوتُ قَدْ أَكَلَ مِنْهُ ، فَلَمَّا
قَطَرَ عَلَيْهِ الْمَاءُ عَاشَ
.
قَالَ :
فَقَصَّا آثَارَهُمَا حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ ،
فَرَأَى رَجُلًا مُسَجًّى عَلَيْهِ بِثَوْبٍ ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ :
إنِّي بِأَرْضِك السَّلَامِ ؟ قَالَ : أَنَا مُوسَى .
قَالَ : مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ ؟ قَالَ : نَعَمْ
قَالَ : يَا مُوسَى ، إنَّك عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ لَا
أَعْلَمُهُ ، وَأَنَا عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا
تَعْلَمُهُ .
فَقَالَ مُوسَى : { أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي
مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا } .
قَالَ لَهُ الْخَضِرُ : { فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلَا
تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَك مِنْهُ ذِكْرًا } قَالَ : نَعَمْ .
فَانْطَلَقَ الْخَضِرُ وَمُوسَى يَمْشِيَانِ عَلَى
سَاحِلِ الْبَحْرِ ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ ، فَكَلَّمَاهُمْ أَنْ
يَحْمِلُوهُمَا ، فَعَرَفُوا الْخَضِرَ ، فَحَمَلُوهَا بِغَيْرِ نَوْلٍ ، فَعَمَدَ
الْخَضِرُ إلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ ، فَقَالَ لَهُ
مُوسَى .
قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْت إلَى
سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا ، لَقَدْ جِئْت شَيْئًا إمْرًا .
قَالَ :
{ أَلَمْ أَقُلْ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا
قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا } .
ثُمَّ خَرَجَا مِنْ السَّفِينَةِ ، فَبَيْنَمَا هُمَا
يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ إذَا بِغُلَامٍ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ ،
فَأَخَذَ
الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ ، فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ ، فَقَتَلَهُ .
قَالَ لَهُ مُوسَى : { أَقَتَلْت نَفْسًا زَكِيَّةً
بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إنَّكَ
لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا
} .
قَالَ : وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنْ الْأُولَى : { إنْ سَأَلْتُكَ
عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا
فَانْطَلَقَا حَتَّى إذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا
فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ
فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاِتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ هَذَا فِرَاقُ
بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ
صَبْرًا } .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَوَدِدْنَا أَنَّهُ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ
عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِهِمَا } قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْأُولَى كَانَتْ مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا .
قَالَ
: وَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ
، ثُمَّ نَقَرَ فِي الْبَحْرِ ، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ : مَا عِلْمِي وَعِلْمُك
فِي عِلْمِ اللَّهِ إلَّا بِمِقْدَارِ مَا أَخَذَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ
الْبَحْرِ .
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ
يَقْرَأُ : وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ
غَصْبًا .
وَكَانَ يَقْرَأُ : وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَالَ أُبَيٌّ : قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْغُلَامُ الَّذِي قَتَلَهُ
الْخَضِرُ طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِرًا } .
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ ؛ لِأَنَّهُ جَلَسَ
عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَاهْتَزَّتْ تَحْتَهُ خَضْرَاءَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ
مُوسَى لِفَتَاهُ } فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ يَخْدُمُهُ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ ابْنُ أُخْتِهِ وَهُوَ يُوشَعُ
بْنُ نُونِ بْنِ أَفْرَائِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ .
وَإِنَّمَا سَمَّاهُ
فَتَاهُ ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْفَتَى ، وَهُوَ الْعَبْدُ ؛ قَالَ
تَعَالَى : { وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ } وَقَالَ : {
تُرَاوِدُ فَتَاهَا } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا
يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي ، وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي } .
فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي أَنَّهُ عَبْدٌ .
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ .
وَفِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ ابْنُ أُخْتِهِ .
وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَا يُقْطَعُ بِهِ ، فَالْوَقْفُ
فِيهِ أَسْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِيهِ الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ الَّذِي لَيْسَ بِفَرْضٍ ، وَقَدْ رَحَلَتْ الصَّحَابَةُ فِيهِ وَأُذِنَ لَهُمْ فِي التَّرَحُّلِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا فَضْلًا عَنْ الدِّينِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ الْآيَةِ الثَّامِنَةِ : { فَلَمَّا
بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي
الْبَحْرِ سَرَبًا } .
جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى النِّسْيَانَ سَبَبًا
لِلزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ الْحَاجَةِ فِي الْمَسِيرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ كَانَ
كَتَبَ لَهُ لِقَاءَهُ ، وَكَتَبَ الزِّيَادَةَ فِي السَّيْرِ عَلَى مَوْضِعِ
اللِّقَاءِ ، فَنَفَذَ الْكُلُّ ؛ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النِّسْيَانِ
عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ، وَكَذَلِكَ عَلَى الْخَلْقِ فِي مَعَانِي الدِّينِ ، وَهُوَ
عَفْوٌ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، كَمَا تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ مِنْ الْآيَةِ التَّاسِعَةِ : قَوْله تَعَالَى : { قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا } بَيَّنَ ذَلِكَ جَوَازَ الِاسْتِخْدَامِ لِلْأَصْحَابِ أَوْ الْعَبِيدِ فِي أُمُورِ الْمَعَاشِ وَحَاجَةِ الْمَنَافِعِ ، لِفَضْلِ الْمَنْزِلَةِ ، أَوْ لِحَقِّ السَّيِّدِيَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ مِنْ الْآيَةِ الْعَاشِرَةِ : قَوْله تَعَالَى
: { وَمَا أَنْسَانِيهِ إلَّا الشَّيْطَانُ } : نَسِيَهُ يُوشَعُ ، وَنَسِيَهُ أَيْضًا
مُوسَى ، وَنِسْبَةُ الْفَتَى نِسْيَانَهُ إلَى الشَّيْطَانِ ؛ لِأَنَّهُ
مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ .
وَلَا يُنْسَبُ نِسْيَانُ الْأَنْبِيَاءِ إلَى الشَّيْطَانِ
؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُمْ ، وَإِنَّمَا نِسْيَانُهُمْ أُسْوَةٌ
لِلْخَلْقِ وَسُنَّةٌ فِيهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا } قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَصَارَ الْمَاءُ عَلَى الْحُوتِ مِثْلَ الطَّاقِ ، لِيَكُونَ ذَلِكَ عَلَامَةً لِمُوسَى ، وَلَوْلَاهُ مَا عَلِمَ أَيْنَ فَقَدَ الْحُوتَ ، وَلَا وَجَدَ إلَى لِقَاءِ الْمَطْلُوبِ سَبِيلًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ مِنْ الْآيَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ } : وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَلِّمَ تَبَعٌ لِلْعَالِمِ ، وَلَوْ تَفَاوَتَتْ الْمَرَاتِبُ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ مِنْ الْآيَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله
تَعَالَى : { إنَّك لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا } .
حَكَمَ عَلَيْهِ بِعَادَةِ الْخَلْقِ فِي عَدَمِ
الصَّبْرِ عَمَّا يَخْرُجُ مِنْ الِاعْتِيَادِ ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي الْحُكْمِ
بِالْعَادَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ مِنْ الْآيَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله
تَعَالَى : { سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَك
أَمْرًا } .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ :
اسْتَثْنَى فِي التَّصَبُّرِ ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ ،
فَلَا جَرَمَ وَجَّهَ مَا اسْتَثْنَى فِيهِ ، فَكَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرِقَ
السَّفِينَةَ أَوْ يَقْتُلَ الْغُلَامَ لَمْ يَقْبِضْ يَدَهُ ، وَلَا نَازَعَهُ ،
وَخَالَفَهُ فِي الْأَمْرِ ، فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ ، وَسَأَلَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ الْآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ
: قَوْله تَعَالَى : { لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ } .
ذَكَرَ أَنَّ النِّسْيَانَ لَا يَقْتَضِي الْمُؤَاخَذَةَ
؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ
التَّكْلِيفِ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ فِي طَلَاقٍ وَلَا غَيْرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ الْآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ
: قَوْله تَعَالَى : { إنْ سَأَلْتُك عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي } .
فَهَذَا شَرْطٌ ، وَهُوَ لَازِمٌ ، وَالْمُسْلِمُونَ
عِنْدَ شُرُوطِهِمْ ، وَأَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا الْتَزَمَهُ
الْأَنْبِيَاءُ ، أَوْ اُلْتُزِمَ لِلْأَنْبِيَاءِ ، فَهَذَا أَصْلٌ مِنْ
الْقَوْلِ بِالشُّرُوطِ وَارْتِبَاطِ الْأَحْكَامِ بِهَا ، وَهُوَ يُسْتَدَلُّ
بِهِ فِي الْأَيْمَانِ وَغَيْرِهَا
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { قَدْ
بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا } هَذَا يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ الِاعْتِذَارِ
بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مُطْلَقًا ، وَبِقِيَامِ الْحُجَّةِ مِنْ الْمَرَّةِ
الثَّانِيَةِ بِالْقَطْعِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : صَبَرَ مُوسَى
عَلَى قَتْلِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ عِنْدَهُ الْقَتْلَ ، وَلَمْ يَغْتَرَّ لَمَّا
كَانَ أَعْلَمَهُ مِنْ أَنَّ عِنْدَهُ عِلْمًا لَيْسَ عِنْدَهُ ، وَلَوْ لَا
ذَلِكَ مَا صَبَرَ عَلَى حَالٍ ظَاهِرُهَا الْمُحَالُ ، وَكَانَ هُوَ أَعْلَمُ
بِبَاطِنِهَا فِي الْمَآلِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ الْآيَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ
: قَوْله تَعَالَى : { فَانْطَلَقَا حَتَّى إذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ
اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا } .
وَصَلَا إلَى الْقَرْيَةِ مُحْتَاجَيْنِ إلَى الطَّعَامِ
، فَعَرَضُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِمْ ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً ، فَأَبَوْا عَنْ
قَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُمْ ، وَهَذَا سُؤَالٌ ، وَهُوَ عَلَى مَرَاتِبَ فِي
الشَّرْعِ ، وَمَنَازِلَ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ .
وَهَذَا السُّؤَالُ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ هُوَ
سُؤَالُ الضِّيَافَةِ ، وَهِيَ فَرْضٌ أَوْ سُنَّةٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ هُنَالِكَ ،
وَسُؤَالُهَا جَائِزٌ ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
أَنَّهُمْ نَزَلُوا بِقَوْمٍ فَاسْتَضَافُوهُمْ ، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ ،
فَلُدِغَ سَيِّدُهُمْ ، فَسَأَلُوهُمْ : هَلْ مِنْ رَاقٍ ، فَجَعَلُوهُمْ عَلَى
قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ .
.
الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ .
وَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَجَوَّزَ الْكُلَّ ، وَقَدْ كَانَ مُوسَى حِينَ سَقَى لِبِنْتَيْ
شُعَيْبٍ أَجْوَعَ مِنْهُ حِينَ أَتَى الْقَرْيَةَ مَعَ الْخَضِرِ ، وَلَمْ
يَسْأَلْ قُوتًا ؛ بَلْ سَقَى ابْتِدَاءً ، وَفِي الْقَرْيَةِ سَأَلَا الْقُوتَ ،
وَفِي ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ انْفِصَالَاتٌ كَثِيرَةٌ ، مِنْهَا أَنَّ مُوسَى كَانَ
فِي حَدِيثِ مَدْيَنَ مُنْفَرِدًا ، وَفِي قِصَّةِ الْقَرْيَةِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ .
وَقِيلَ : كَانَ هَذَا سَفَرَ تَأْدِيبٍ فَوُكِلَ إلَى تَكْلِيفِ
الْمَشَقَّةِ ، وَكَانَ ذَلِكَ سَفَرَ هِجْرَةٍ فَوُكِلَ إلَى الْعَوْنِ
وَالْقُوَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ الْآيَةِ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ
: قَوْله تَعَالَى : { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ
فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْت أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ
كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا } .
فَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ : إنَّ الْمِسْكِينَ هُوَ
الَّذِي لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ ، وَفَرَّ مِنْ ذَلِكَ قَوْمٌ حَتَّى قَرَءُوهَا لِمَسَّاكِينَ
بِتَشْدِيدِ السِّينِ مِنْ الِاسْتِمْسَاكِ ، وَهَذَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ ؛
فَإِنَّهُ إنَّمَا نَسَبَهُمْ إلَى الْمَسْكَنَةِ لِأَجْلِ ضَعْفِ الْقُوَّةِ ،
بَلْ عَدَمِهَا فِي الْبَحْرِ ، وَافْتِقَارِ الْعَبْدِ إلَى الْمَوْلَى كَسْبًا
وَخَلْقًا .
وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ يَقِينًا أَنَّ الْحَوْلَ
وَالْقُوَّةَ لِلَّهِ فَلْيَرْكَبْ الْبَحْرَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنْ الْآيَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّك أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } .
الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { قَالُوا يَا ذَا
الْقَرْنَيْنِ إنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ
نَجْعَلُ لَك خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا } .
فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ : الْخَرْجُ : الْجَزَاءُ
وَالْأُجْرَةُ ، وَكَانَ مَلِكًا يَنْظُرُ فِي أُمُورِهِمْ ، وَيَقُومُ
بِمَصَالِحِهِمْ ، فَعَرَضُوا عَلَيْهِ جَزَاءً فِي أَنْ يَكُفَّ عَنْهُمْ مَا
يَجِدُونَهُ مِنْ عَادِيَةِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ، وَعَلَى الْمَلِكِ فَرْضُ
أَنْ يَقُومَ بِحِمَايَةِ الْخَلْقِ فِي حِفْظِ بَيْضَتِهِمْ ، وَسَدِّ فُرْجَتِهِمْ
، وَإِصْلَاحِ ثَغْرِهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي تَفِيءُ عَلَيْهِمْ ،
وَحُقُوقِهِمْ الَّتِي يَجْمَعُهَا خَزَنَتُهُمْ تَحْتَ يَدِهِ وَنَظَرِهِ ،
حَتَّى لَوْ أَكْلَتهَا الْحُقُوقُ ، وَأَنْفَدَتْهَا الْمُؤَنُ ،
وَاسْتَوْفَتْهَا الْعَوَارِضُ ، لَكَانَ عَلَيْهِمْ جَبْرُ ذَلِكَ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ ، وَعَلَيْهِ حُسْنُ النَّظَرِ لَهُمْ ، وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ
شُرُوطٍ : الْأَوَّلُ : أَلَّا يَسْتَأْثِرَ بِشَيْءٍ عَلَيْهِمْ .
الثَّانِي : أَنْ يَبْدَأَ بِأَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْهُمْ
فَيُعِينُهُمْ .
الثَّالِثُ :
أَنْ يُسَوِّيَ فِي الْعَطَاءِ بَيْنَهُمْ عَلَى
مِقْدَارِ مَنَازِلِهِمْ ، فَإِذَا فَنِيَتْ بَعْدَ هَذَا ذَخَائِرُ الْخِزَانَةِ وَبَقِيَتْ
صِفْرًا فَأَطْلَعَتْ الْحَوَادِثُ أَمْرًا بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ قَبْلَ
أَمْوَالِهِمْ ، فَإِنْ لَمْ يُغْنِ ذَلِكَ فَأَمْوَالُهُمْ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ
عَلَى تَقْدِيرٍ ، وَتُصْرَفُ بِأَحْسَنِ تَدْبِيرٍ .
فَهَذَا ذُو الْقَرْنَيْنِ لَمَّا عَرَضُوا عَلَيْهِ
الْمَالَ قَالَ : لَسْت أَحْتَاجُ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا أَحْتَاجُ إلَيْكُمْ
فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ، أَيْ اخْدِمُوا بِأَنْفُسِكُمْ مَعِي ، فَإِنَّ
الْأَمْوَالَ عِنْدِي وَالرِّجَالَ عِنْدَكُمْ ؛ وَرَأَى أَنَّ الْأَمْوَالَ لَا
تُغْنِي دُونَهُمْ ، وَأَنَّهُمْ إنْ أَخَذُوهَا أُجْرَةً نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا
يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، فَعَادَ عَلَيْهِمْ بِالْأَخْذِ ، فَكَانَ التَّطَوُّعُ
بِخِدْمَةِ الْأَبْدَانِ أَوْلَى
.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي كِتَابِ الْفَيْءِ
وَالْخَرَاجِ وَالْأَمْوَالِ مِنْ شَرْحِ الْحَدِيثِ بَيَانًا شَافِيًا ،
وَهَذَا الْقَدْرُ يَتَعَلَّقُ بِالْقُرْآنِ مِنْ الْأَحْكَامِ ،
وَتَمَامُهُ هُنَالِكَ .
وَضَبْطُ الْأَمْرِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَخْذُ
مَالِ أَحَدٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ تَعْرِضُ فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ الْمَالُ جَهْرًا لَا
سِرًّا ، وَيُنْفَقُ بِالْعَدْلِ لَا بِالِاسْتِئْثَارِ ، وَبِرَأْيِ الْجَمَاعَةِ
لَا بِالِاسْتِبْدَادِ بِالرَّأْيِ
.
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } .
فِيهَا مَسْأَلَةٌ : أَجَابَ اللَّهُ عَمَّا وَقَعَ
التَّقْرِيرُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ
رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَزْنًا } .
لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ حَمَلُوا عَلَيْهِمْ غَيْرَهُمْ ، وَأَلْحَقُوا بِهِمْ مَنْ سِوَاهُمْ
مِمَّنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ ، وَيَرْجِعُونَ فِي الْجُمْلَةِ إلَى ثَلَاثَةِ
أَصْنَافٍ : الصِّنْفُ الْأَوَّلُ
: الْكُفَّارُ بِاَللَّهِ ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ،
وَالْأَنْبِيَاءِ ، وَالتَّكْلِيفِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ زَيَّنَ لِكُلِّ أُمَّةٍ
عَمَلَهُمْ ، إنْفَاذًا لِمَشِيئَتِهِ ، وَحُكْمًا بِقَضَائِهِ ، وَتَصْدِيقًا لِكَلَامِهِ .
الصِّنْفُ الثَّانِي : أَهْلُ التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ الدَّلِيلِ
الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ
وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } كَأَهْلِ حَرُورَاءَ وَالنَّهْرَوَانِ ، وَمَنْ عَمَل
بِعَمَلِهِمْ الْيَوْمَ ، وَشَغَبَ الْآنَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَشْغِيبَ
أُولَئِكَ حِينَئِذٍ ، فَهُمْ مِثْلُهُمْ وَشَرٌّ مِنْهُمْ .
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَوْمًا ، وَهُوَ عَلَى
الْمِنْبَرِ : لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إلَّا
أَخْبَرْته ، فَقَامَ ابْنُ الْكَوَّاءِ ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا
سَأَلَ عَنْهُ صُبَيْغُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، فَقَالَ : مَا الذَّارِيَاتُ
ذَرْوًا ؟ قَالَ عَلِيٌّ : الرِّيَاحُ
.
قَالَ : مَا الْحَامِلَاتُ وِقْرًا ؟ قَالَ : السَّحَابُ .
قَالَ : فَمَا الْجَارِيَاتُ يُسْرًا ؟ قَالَ :
السُّفُنُ .
قَالَ : فَمَا الْمُقَسِّمَاتُ أَمْرًا ؟ قَالَ :
الْمَلَائِكَةُ .
قَالَ : فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا } قَالَ : ارْقَ إلَيَّ أُخْبِرْك .
قَالَ : فَرَقَى إلَيْهِ دَرَجَتَيْنِ قَالَ :
فَتَنَاوَلَهُ
بِعَصًا كَانَتْ بِيَدِهِ ، فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِهَا .
ثُمَّ قَالَ : أَنْتَ وَأَصْحَابُك .
وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِتَكْفِيرِ الْمُتَأَوِّلِينَ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا نُبْذَةً مِنْهُ ، وَتَمَامُهَا فِي
كُتُبِ الْأُصُولِ .
الصِّنْفُ الثَّالِثُ : الَّذِينَ أَفْسَدُوا
أَعْمَالَهُمْ بِالرِّيَاءِ وَضَيَّعُوا أَحْوَالَهُمْ بِالْإِعْجَابِ ، وَقَدْ
أَتَيْنَا عَلَى الْبَيَانِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ ، وَيَلْحَقُ بِهَؤُلَاءِ
الْأَصْنَافِ كَثِيرٌ ، وَهُمْ الَّذِينَ أَفْنَوْا زَمَانَهُمْ النَّفِيسَ فِي
طَلَبِ الْخَسِيسِ .
كَانَ شَيْخُنَا الطُّوسِيُّ الْأَكْبَرُ يَقُولُ : لَا يَذْهَبُ
بِكُمْ الزَّمَانُ فِي مُصَاوَلَةِ الْأَقْرَانِ وَمُوَاصَلَةِ الْإِخْوَانِ .
وَقَدْ خَتَمَ الْبَارِي الْبَيَانَ ، وَخَتَمَ الْبُرْهَانَ
بِقَوْلِهِ : { قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا
إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ
عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } .
سُورَةُ مَرْيَمَ فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ : الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله
تَعَالَى : { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّك عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إذْ نَادَى رَبَّهُ
نِدَاءً خَفِيًّا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذَا
يُنَاسِبُ قَوْلَهُ : { اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } .
وَقَدْ رَوَى سَعْدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ ، وَخَيْرُ
الرِّزْقِ مَا يَكْفِي } وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الرِّيَاءِ ، فَأَمَّا دُعَاءُ
زَكَرِيَّا فَإِنَّمَا كَانَ خَفِيًّا ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ :
لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَانَ لَيْلًا .
وَالثَّانِي :
لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي دُعَائِهِ أَحْوَالًا تَفْتَقِرُ
إلَى الْإِخْفَاءِ ، كَقَوْلِهِ : وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي .
وَهَذَا مِمَّا يُكْتَمُ وَلَا يُجْهَرُ بِهِ ، وَقَدْ
أَسَرَّ مَالِكٌ الْقُنُوتَ ، وَجَهَرَ بِهِ الشَّافِعِيُّ ، وَالْجَهْرُ أَفْضَلُ
؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو بِهِ
جَهْرًا حَسْبَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ
مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْك وَلِيًّا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ
بَيَّنَّا أَنَّ لِلْمَوْلَى ثَمَانِيَةَ مَعَانٍ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ
وَالْحَدِيثِ ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا الْوَارِثُ ، وَابْنُ
الْعَمِّ .
وَلَمْ يَخَفْ زَكَرِيَّا إرْثَ الْمَالِ ، وَلَا
رَجَاهُ مِنْ الْوَلَدِ ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ إرْثَ النُّبُوَّةِ ، وَعَلَيْهَا
خَافَ أَنْ تَخْرُجَ عَنْ عَقِبِهِ ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا
تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ } .
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ : { إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ
يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا ، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا عِلْمًا } .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَجَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ
فِي الْوَلَدِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ دَعَاهُ لِإِظْهَارِ دِينِهِ ،
وَإِحْيَاءِ نُبُوَّتِهِ ، وَمُضَاعَفَةِ أَجْرِهِ ، فِي وَلَدٍ صَالِحٍ نَبِيٍّ بَعْدَهُ
، وَلَمْ يَسْأَلْهُ لِلدُّنْيَا
.
الثَّانِي : لِأَنَّ رَبَّهُ كَانَ قَدْ عَوَّدَهُ
الْإِجَابَةَ ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ
شَقِيًّا } .
وَهَذِهِ وَسِيلَةٌ حَسَنَةٌ أَنْ يَتَشَفَّعَ إلَيْهِ
بِنِعَمِهِ ، وَيَسْتَدِرَّ فَضْلَهُ بِفَضْلِهِ .
يُرْوَى أَنَّ حَاتِمَ الْجَوَادَ لَقِيَهُ رَجُلٌ ،
فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ حَاتِمٌ : مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : أَنَا الَّذِي أَحْسَنْت
إلَيْهِ عَامَ أَوَّلٍ .
قَالَ : مَرْحَبًا بِمَنْ تَشَفَّعَ إلَيْنَا بِنَا .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ
بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ
بَيَّنَّا الْحِكْمَةَ وَالْحُكْمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا
، وَفِي غَيْرِهِ مِنْ الْكُتُبِ ، وَأَوْضَحْنَا وُجُوهَهَا ومُتَصَرَّفاتِها ومُتَعَلَّقاتِها
كُلَّهَا .
وَأَجَلُّهَا مَرْتَبَةُ النُّبُوَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْمُرَادِ
بِالْحُكْمِ هَاهُنَا : وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : الْوَحْيُ .
وَالثَّانِي : النُّبُوَّةُ .
وَالثَّالِثُ : الْمَعْرِفَةُ وَالْعَمَلُ بِهَا .
وَهَذَا كُلُّهُ مُحْتَمَلٌ يَفْتَقِرُ إلَى تَحْقِيقٍ ؛
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْوَحْيُ فَجَائِزٌ أَنْ يُوحِيَ اللَّهُ إلَى
الصَّغِيرِ ، وَيُكَاشِفَهُ بِمَلَائِكَتِهِ وَأَمْرِهِ ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْمُكَاشَفَةُ
نُبُوَّةً غَيْرَ مَهْمُوزَةٍ رِفْعَةً وَمَهْمُوزَةً إخْبَارًا ، وَيَجُوزُ أَنْ
يُرْسِلَهُ إلَى الْخَلْقِ كَامِلَ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ مُؤَيَّدًا
بِالْمُعْجِزَةِ ، وَلَكِنْ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ خَبَرٌ ، وَلَا كَانَ فِيمَنْ
تَقَدَّمَ .
وَقَوْلُ عِيسَى : { إنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ
الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا
} .
إخْبَارٌ عَمَّا وَجَبَ لَهُ حُصُولُهُ ، لَا عَمَّا
حَصَلَ بَعْدُ .
وَأَمَّا الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ فَقَدْ رَوَى ابْنُ
وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ : { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } .
قَالَ عِيسَى : أُوصِيكُمْ بِالْحِكْمَةِ ،
وَالْحِكْمَةُ فِي قَوْلِ مَالِكٍ هِيَ طَاعَةُ اللَّهِ ، وَالِاتِّبَاعُ لَهَا ،
وَالْفِقْهُ فِي الدِّينِ وَالْعَمَلُ بِهِ ، وَقَالَ : وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّك
تَجِدُ الرَّجُلَ عَاقِلًا فِي أَمْرِ الدُّنْيَا ذَا بَصَرٍ فِيهَا ، وَتَجِدُ
آخَرَ ضَعِيفًا فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ عَالِمًا بِأَمْرِ دِينِهِ بَصِيرًا بِهِ ، يُؤْتِيهِ
اللَّهُ إيَّاهُ ، وَيَحْرِمُهُ هَذَا ، فَالْحِكْمَةُ الْفِقْهُ فِي دِينِ
اللَّهِ .
وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ
تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى : { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } قَالَ :
الْمَعْرِفَةُ وَالْعَمَلُ بِهِ
.
انْتَهَى قَوْلُ مَالِكٍ .
وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ أَنَّهُ قِيلَ
لِيَحْيَى ، وَهُوَ صَغِيرٌ : أَلَا تَذْهَبُ نَلْعَبُ ؟ قَالَ : مَا خُلِقْت لِلَّعِبِ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { هُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ
النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْلُهُ : { هُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ } أَمْرٌ بِتَكَلُّفِ الْكَسْبِ
فِي الرِّزْقِ ، وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا مِنْ غَيْرِ
تَكَسُّبٍ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا
الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا
قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ
حِسَابٍ } .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : كَانَ قَلْبُهَا فَارِغًا لِلَّهِ
، فَفَرَّغَ اللَّهُ جَارِحَتَهَا عَنْ النَّصَبِ ، فَلَمَّا وَلَدَتْ عِيسَى ،
وَتَعَلَّقَ قَلْبُهَا بِحُبِّهِ ، وَكَّلَهَا اللَّهُ إلَى كَسْبِهَا ،
وَرَدَّهَا إلَى الْعَادَةِ فِي التَّعَلُّقِ بِالْأَسْبَابِ ، وَفِي مَعْنَاهُ
أَنْشَدُوا : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمَرْيَمَ إلَيْك فَهُزِّي
الْجِذْعَ يَسَّاقَطْ الرُّطَبْ وَلَوْ شَاءَ أَحْنَى الْجِذْعَ مِنْ غَيْرِ
هَزِّهَا إلَيْهَا وَلَكِنْ كُلُّ شَيْءٍ لَهُ سَبَبْ وَقَدْ كَانَ حُبُّ اللَّهِ
أَوْلَى بِرِزْقِهَا كَمَا كَانَ حُبُّ الْخَلْقِ أَدْعَى إلَى النَّصَبْ الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِي صِفَةِ الْجِذْعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَانَ
لِنَخْلَةٍ خَضْرَاءَ ، وَلَكِنَّهُ كَانَ زَمَانَ الشِّتَاءِ ، فَصَارَ وُجُودُ
التَّمْرِ فِي غَيْرِ إبَّانِهِ آيَةً
.
الثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ جِذْعًا يَابِسًا فَهَزَّتْهُ
، فَاخْضَرَّ وَأَوْرَقَ وَأَثْمَرَ فِي لَحْظَةٍ .
وَدَخَلْتُ بَيْتَ لَحْمٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ ، فَرَأَيْت فِي مُتَعَبَّدِهِمْ غَارًا عَلَيْهِ جِذْعٌ
يَابِسٌ كَانَ رُهْبَانُهُمْ يَذْكُرُونَ أَنَّهُ جِذْعُ مَرْيَمَ بِإِجْمَاعٍ ،
فَلَمَّا كَانَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ دَخَلَتْ بَيْتَ
لَحْمٍ قَبْلَ اسْتِيلَاءِ الرُّومِ عَلَيْهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ، فَرَأَيْت الْغَارَ
فِي الْمُتَعَبَّدِ خَالِيًا مِنْ الْجِذْعِ .
فَسَأَلَتْ الرُّهْبَانَ بِهِ ، فَقَالُوا : نَخَرَ
وَتَسَاقَطَ ، مَعَ أَنَّ الْخَلْقَ كَانُوا يَقْطَعُونَهُ اسْتِشْفَاءً حَتَّى
فُقِدَ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ :
قَالَ مَالِكٌ : قَالَ اللَّهُ : رُطَبًا جَنِيًّا .
الْجَنِيُّ :
مَا طَابَ مِنْ غَيْرِ نَقْشٍ وَلَا إفْسَادٍ ،
وَالنَّقْشُ أَنْ يُنْقَشَ فِي أَسْفَلِ الْبُسْرَةِ حَتَّى تُرَطَّبَ ، فَهَذَا
مَكْرُوهٌ يَعْنِي مَالِكٌ أَنَّ هَذَا تَعْجِيلٌ لِلشَّيْءِ قَبْلَ رِقَّتِهِ ، وَإِفْسَادٌ
لِجَنَاهُ ؛ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُ ، وَلَوْ فَعَلَهُ فَاعِلٌ
مَا كَانَ ذَلِكَ مُجَوِّزًا لِبَيْعِهِ ، وَلَا حُكْمًا بِطِيبِهِ ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إنْ كُلُّ مَنْ فِي
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ : لَقَدْ كَادَ أَعْدَاءُ اللَّهِ أَنْ يُقِيمُوا عَلَيْنَا
السَّاعَةَ بِقَوْلِهِمْ هَذَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ
مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا
لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إنْ
كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } .
وَصَدَقَ ، فَإِنَّهُ قَوْلٌ عَظِيمٌ سَبَقَ الْقَضَاءَ
وَالْقَدْرَ ، وَلَوْلَا أَنَّ الْبَارِئَ لَا يَضَعُهُ كُفْرُ الْكَافِرِ ، وَلَا
يَرْفَعُهُ إيمَانُ الْمُؤْمِنِ ، وَلَا يَزِيدُ هَذَا فِي مُلْكِهِ ، كَمَا لَا
يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِهِ ، مَا جَرَى شَيْءٌ مِنْ هَذَا عَلَى الْأَلْسِنَةِ
، وَلَكِنَّهُ الْقُدُّوسُ الْحَكِيمُ الْحَلِيمُ ، فَلَمْ يُبَالِ بَعْدَ ذَلِكَ
بِمَا يَقُولُهُ الْمُبْطِلُونَ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { إنْ كُلُّ مَنْ فِي
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
الرَّجُلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ ابْنَهُ وَوَجْهُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مِنْ
هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْوَلَدِيَّةَ وَالْعَبْدِيَّةَ
فِي طَرَفَيْ تَقَابُلٍ ، فَنَفَى إحْدَاهُمَا ، وَأَثْبَتَ الْأُخْرَى ، وَلَوْ
اجْتَمَعَتَا لَمَا كَانَ لِهَذَا الْقَوْلِ فَائِدَةٌ يَقَعُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا
، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهَا ، وَالتَّبَرِّي مِنْهَا ؛ وَلِهَذَا أَجْمَعَتْ
الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ أَمَةَ الرَّجُلِ إذَا حَمَلَتْ فَإِنَّ وَلَدَهَا فِي
بَطْنِهَا حُرٌّ لَا رِقَّ فِيهِ بِحَالٍ ، وَمَا جَرَى فِي أُمِّهِ مَوْضُوعٌ
عَنْهُ ، وَلَوْ لَمْ يُوضَعْ عَنْهُ ، فَلَا خِلَافَ فِي الْوَلَدِ ، وَبِهِ
يَقَعُ الِاحْتِجَاجُ .
وَإِذَا اشْتَرَى الْحُرُّ أَبَاهُ وَابْنَهُ عَتَقَا
عَلَيْهِ ، حِينَ يَتِمُّ الشِّرَاءُ
.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ
وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ } .
فَهَذَا نَصٌّ .
وَالْأَوَّلُ دَلِيلٌ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ فَإِنَّ
الْأَبَ إذَا لَمْ يَمْلِكْ ابْنَهُ مَعَ عُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ عَلَيْهِ
فَالِابْنُ بِعَدَمِ مِلْكِ الْأَبِ أَوْلَى مَعَ قُصُورِهِ عَنْهُ ، وَكَانَ
الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مَمْلُوكٌ لِغَيْرِهِ ، فَإِذَا
أَزَالَ مِلْكَ الْغَيْرِ بِالشِّرَاءِ إلَيْهِ تَبْطُلُ عَنْهُ ، وَعَتَقَ ،
وَالْتَحَقَ بِالْأَوَّلِ ، وَفِي ذَلِكَ تَفْرِيعٌ وَتَفْصِيلٌ مَوْضِعُهُ شَرْحُ
الْحَدِيثِ ، وَمَسَائِلُ الْفِقْهِ ، فَلْيُنْظَرْ فِيهَا .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رَوَى
مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ إذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ : إنِّي
أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ .
ثُمَّ يُنَادِي مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ : إنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ ؛ فَتُحِبُّهُ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ ، ثُمَّ
يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : {
إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ
وُدًّا } .
وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا فَذَكَرَ مِثْلَهُ } .
وَفِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَحَادِيثُ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ أَعْرَضْنَا عَنْهَا لِضَعْفِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى ابْنُ وَهْبٍ
وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ فِي حَدِيثِ
: { اتَّقِ اللَّهَ يُحِبَّك النَّاسُ ، وَإِنْ كَرِهُوك
} ، فَقَالَ : هَذَا حَقٌّ ، وَقَرَأَ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا } الْآيَةَ .
وَقَرَأَ مَالِكٌ : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْك مَحَبَّةً
مِنِّي } .
وَهَذَا يُبَيِّنُ سَبَبَ حُبِّ اللَّهِ ، وَخَلْقَهُ
الْمَحَبَّةَ فِي الْخَلْقِ ؛ وَذَلِكَ نَصٌّ فِي قَوْلِهِ : { فَإِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } وَهُوَ أَحَدُ قِسْمَيْ الشَّرِيعَةِ مِنْ اجْتِنَابِ
النَّهْيِ .
سُورَةُ طَهَ فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : {
إنِّي أَنَا رَبُّك فَاخْلَعْ نَعْلَيْك إنَّك بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طَوًى } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
خَلْعِ النَّعْلَيْنِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا أَنْبَأَنَا أَبُو زَيْدٍ
الْحِمْيَرِيُّ ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ اللَّخْمِيُّ ، أَنْبَأَنَا
أَبُو عَلِيٍّ أَحْمَدَ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ ، أَنْبَأَنَا عَمِّي عَبْدُ الصَّمَدِ
، حَدَّثَنَا عَمِّي أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا
إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ
يُونُسَ ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحَارِثِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كَانَتْ نَعْلَا مُوسَى مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ } .
وَحَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ الْهَرَوِيُّ ، حَدَّثَنَا
خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ الْأَشْجَعِيُّ ، عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : يَوْمَ كَلَّمَ اللَّهُ
مُوسَى كَانَ عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ ، وَكِسَاءُ صُوفٍ ، وَسَرَاوِيلُ صُوفٍ ،
وَكُمَّةُ صُوفٍ ، وَنَعْلَانِ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ غَيْرِ مُذَكًّى .
وَرَوَاهُ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ خَلَفِ بْنِ خَلِيفَةَ
بِمِثْلِهِ مُسْنَدًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الثَّانِي : قَالَ مُجَاهِدٌ : قَالَ لَهُ رَبُّهُ :
اخْلَعْ نَعْلَيْك ، أَفِضْ بِقَدَمَيْك إلَى بَرَكَةِ الْوَادِي .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي الْمَسْأَلَةِ
الثَّانِيَةِ : إنْ قُلْنَا : إنَّ خَلْعَ النَّعْلَيْنِ كَانَ لِيَنَالَ بَرَكَةَ
التَّقْدِيسِ فَمَا أَجْدَرَهُ بِالصِّحَّةِ ، فَقَدْ اسْتَحَقَّ التَّنْزِيهَ
عَنْ النَّعْلِ ، وَاسْتَحَقَّ الْوَاطِئُ التَّبَرُّكَ بِالْمُبَاشَرَةِ ، كَمَا
لَا تُدْخَلُ الْكَعْبَةَ بِنَعْلَيْنِ ، وَكَمَا كَانَ مَالِكٌ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً
بِالْمَدِينَةِ ، بِرًّا بِتُرْبَتِهَا الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى الْأَعْظُمِ
الشَّرِيفَةِ ، وَالْجُثَّةِ الْكَرِيمَةِ .
وَإِنْ قُلْنَا بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَإِنْ
لَمْ تَصِحَّ ، فَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يَكُونَ
مُوسَى أُمِرَ بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ ، وَكَانَ أَوَّلُ تَعَبُّدٍ أُحْدِثَ إلَيْهِ ، كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَا قِيلَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } .
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ عَلَى حَالِهِ ، وَإِنْ لَمْ
يُدْبَغْ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ ، لِمُطْلَقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { هَلَّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ } وَلَمْ
يَذْكُرْ دِبَاغًا .
الثَّانِي :
أَنَّهُ يُدْبَغُ فَيُنْتَفَعُ بِهِ مَدْبُوغًا ،
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { هَلَّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ
فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ } قَالَهُ مَالِكٌ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ إذَا دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ ، لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ } .
خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ .
وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْ قِرْبَةٍ مَدْبُوغَةٍ مِنْ جِلْدِ مَيْتَةٍ ،
حَتَّى صَارَتْ شَنًّا } قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي ، وَهُوَ الرَّابِعُ
، وَوَرَاءَ هَذِهِ تَفْصِيلٌ .
وَالصَّحِيحُ جَوَازُ الطَّهَارَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ،
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ نَعْلَا مُوسَى لَمْ تُدْبَغَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ
تَكُونَا دُبِغَتَا ، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهِ إذْنٌ فِي اسْتِعْمَالِهَا .
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لَمْ تُدْبَغْ ، وَقَدْ
اسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ فِي الْبَابِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا
إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي مَعْنَى قَوْلِهِ : { لِذِكْرِي } وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ :
أَقِمْ الصَّلَاةَ ، لَأَنْ تَذْكُرَنِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّانِي : أَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي لَك
بِالْمَدْحِ .
الثَّالِثُ : أَقِمْ الصَّلَاةَ إذَا ذَكَرْتنِي .
وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ
وَرُوِيَتْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
: أَقِمْ الصَّلَاةَ لِلذِّكْرِ ، وَقُرِئَ :
لِلذِّكْرَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : لَا خِلَافَ فِي أَنَّ
الذِّكْرَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إلَى الضَّمِيرِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا
إلَى الْفَاعِلِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ .
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ
نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : أَقِمْ الصَّلَاةَ
لِلذِّكْرَى ، وَلِذِكْرِي ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ : لِلذِّكْرَى إذَا ذَكَّرْتُك
بِهَا ، وَلِتَذْكُرَنِي فِيهَا ، وَلِذِكْرِي لَك بِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : الذِّكْرُ مَصْدَرٌ فِي الْإِثْبَاتِ ،
وَلَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ .
قُلْنَا :
بَلْ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ ، كَمَا تَقُولُ : عَجِبْت
مِنْ ضَرْبِي زَيْدًا ، إذَا كَانَ الضَّرْبُ الْوَاقِعُ بِهِ عَامًّا فِي جَمِيعِ
أَنْوَاعِ الضَّرْبِ ، فَيَكُونُ الْعُمُومُ فِي كَيْفِيَّاتِ الضَّرْبِ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ
، وَالْإِثْبَاتُ فِي النَّكِرَةِ الَّتِي لَا تَعُمُّ مَا يَتَنَاوَلُ
الْأَشْخَاصَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { مَنْ نَامَ
عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } يَقْتَضِي وُجُوبَ
الصَّلَاةِ عَلَى كُلِّ ذَاكِرٍ إذَا ذَكَرَ ، سَوَاءٌ كَانَ الذِّكْرُ دَائِمًا ،
كَالتَّارِكِ لَهَا عَنْ عِلْمٍ ، أَوْ كَانَ الذِّكْرُ طَارِئًا ، كَالتَّارِكِ
لَهَا عَنْ غَفْلَةٍ ، وَكُلُّ نَاسٍ تَارِكٌ ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ
بِقَصْدٍ وَبِغَيْرِ قَصْدٍ ، فَمَتَى كَانَ الذِّكْرُ وَجَبَ الْفِعْلُ دَائِمًا
أَوْ مُنْقَطِعًا .
فَافْهَمُوا هَذِهِ النُّكْتَةَ تُرِيحُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ
شَغَبِ الْمُبْتَدِعَةِ ، فَمَا زَالُوا يُزَهِّدُونَ النَّاسَ فِي الصَّلَاةِ ،
حَتَّى قَالُوا : إنَّ مَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهَا ،
وَنَسَبُوا ذَلِكَ إلَى مَالِكٍ
.
وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنَّ ذِهْنَهُ أَحَدُّ ،
وَسَعْيَهُ فِي حِيَاطَةِ الدِّينِ آكَدُ مِنْ ذَلِكَ ، إنَّمَا قَالَ : إنَّ مَنْ
تَرَكَ صَلَاةً مُتَعَمِّدًا لَا يَقْضِي أَبَدًا .
كَمَا قَالَ فِي الْأَثَرِ : { مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا
مِنْ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا لَمْ يُجْزِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ }
إشَارَةً إلَى أَنَّ مَا مَضَى لَا يَعُودُ ، لَكِنْ مَعَ هَذَا لَا بُدَّ مِنْ
تَوْفِيَةِ التَّكْلِيفِ حَقَّهُ بِإِقَامَةِ الْقَضَاءِ مَقَامَ الْأَدَاءِ ،
وَإِتْبَاعِهِ بِالتَّوْبَةِ ، وَيَفْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَتْ الْمُتَزَهِّدَةُ : مَعْنَى : {
أَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } أَيْ : لَا تَذْكُرْ فِيهَا غَيْرِي ، فَإِنَّهُ
قَالَ : فَاعْبُدْنِي ، أَيْ لِي تَذَلَّلْ ، وَأَقِمْ الصَّلَاةَ
لِمُجَرَّدِ ذِكْرِي ، تَحَرَّمَ عَنْ الدُّنْيَا ، وَأَخْلِصْ لِلْأُخْرَى ،
وَاعْمُرْ لِسَانَك وَقَلْبَك بِذِكْرِ الْمَوْلَى .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ
هُوَ الْأَوْلَى ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ كُتِبَ لَهُ مِنْهَا بِمِقْدَارِ ذَلِكَ
فِيهَا ، وَقَدْ مَهَّدْنَا هَذَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا تِلْكَ
بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا
عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا
سَأَلَهُ عَنْهَا لَمَّا كَانَ أَضْمَرَ مِنْ الْآيَةِ لَهُ فِيهَا ، حَتَّى إذَا
رَجَعَ عَلَيْهَا ، وَتَحَقَّقَ حَالَهَا ، وَكُسِيَتْ تِلْكَ الْحُلَّةَ الثُّعْبَانِيَّةَ
بِمَرْأًى مِنْهُ لِابْتِدَائِهَا كَانَ تَبْدِيلُهَا مَعَ الذِّكْرِ أَوْقَعَ فِي
الْقَلْبِ وَأَيْسَرَ لَهُ مِنْ أَنْ يَغْفُلَ عَنْهَا ، فَيَرَاهَا بِحُلَّةِ
الثُّعْبَانِيَّةِ مَكْسُوَّةً ، فَيَظُنُّ أَنَّمَا عَيَّنَ أُخْرَى سِوَاهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : { قَالَ هِيَ عَصَايَ }
قَالَ أَرْبَابُ الْقُلُوبِ : الْجَوَابُ الْمُطْلَقُ أَنْ يَقُولَ هِيَ عَصًا ، وَلَا
يُضِيفُ إلَى نَفْسِهِ شَيْئًا ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكُونَا اثْنَيْنِ أَفْرَدَ
عَنْهَا بِصِفَةِ الْحَيَّةِ ، فَبَقِيَ وَحْدَهُ لِلَّهِ ، كَمَا يُحِبُّ ، حَتَّى
لَا يَكُونَ مَعَهُ إلَّا اللَّهُ ، يَقُولُ اللَّهُ : أَنْتَ عَبْدِي ، وَيَقُولُ
مُوسَى : أَنْتَ رَبِّي .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَجَابَ مُوسَى بِأَكْثَرَ
مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي
الْجَوَابِ أَرْبَعَةَ مَعَانٍ ، وَكَانَ يَكْفِي وَاحِدٌ قَالَ : الْإِضَافَةُ ،
وَالتَّوَكُّؤُ ، وَالْهَشُّ ، وَالْمَآرِبُ الْمُطْلَقَةُ ، وَكَانَ ذَلِكَ
دَلِيلًا عَلَى جَوَابِ السُّؤَالِ بِأَكْثَرَ مِنْ مُقْتَضَى ظَاهِرِهِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } لِمَنْ سَأَلَهُ
عَنْ طَهُورِ مَاءِ الْبَحْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : الْهَشُّ : هُوَ أَنْ
يَضَعَ الْمِحْجَنَ فِي أَصْلِ الْغُصْنِ وَيُحَرِّكَهُ فَيَسْقُطُ مِنْهُ مَا سَقَطَ
، وَيَثْبُتُ مَا ثَبَتَ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ ، وَرُوِيَ عَنْهُ
أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : { مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِرَاعٍ يَعْضِدُ شَجَرَةً فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ ، وَقَالَ : هُشُّوا وَارْعَوْا } ،
وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاقْتِصَادِ فِي الِاقْتِيَاتِ ، فَإِنَّهُ إذَا
عَضَّدَ الشَّجَرَةَ الْيَوْمَ لَمْ يَجِدْ فِيهَا غَدًا شَيْئًا وَلَا غَيْرَهُ
مِمَّنْ يَخْلُفُهُ ، فَإِذَا هَشَّ وَرَعَى أَخَذَ وَأَبْقَى ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ
فِيهِ شُرَكَاءُ ، فَلْيَأْخُذْ وَلْيَدْعُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ
كَثِيرًا فَلْيَأْخُذْهُ كَيْفَ شَاءَ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ .
تَعَرَّضَ قَوْمٌ لِتَعْدِيدِ مَنَافِعِ الْعَصَا ،
كَأَنَّهُمْ يُفَسِّرُونَ بِذَلِكَ قَوْلَ مُوسَى { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى
} ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْعِلْمِ ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي
أَنْ يَصْرِفَ الْعَصَا فِي حَاجَةٍ عَرَضَتْ ؛ أَمَّا إنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهَا
فِي الدِّينِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ إجْمَاعًا وَهُوَ الْخُطْبَةُ ، وَفِي مَوْضِعٍ
آخَرَ بِاخْتِلَافٍ وَهُوَ التَّوَكُّؤُ عَلَيْهَا فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهِ ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا
ذِكْرَهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ هُنَا وَسِوَاهُ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ
إنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى
قَالَا رَبَّنَا إنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
يَجُوزُ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ رَسُولَيْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذِكْرَ قَاضِيَيْنِ
وَأَمِيرَيْنِ ، وَالرِّسَالَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ ، فَإِنَّهَا تَبْلِيغٌ عَنْ
اللَّهِ ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ وَقُلْنَا
لَا يَجُوزُ لِنَبِيٍّ أَنْ يُشَرِّعَ إلَّا بِوَحْيٍ جَازَ أَنْ يَحْكُمَا مَعًا
، وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ النَّبِيُّ لَمْ يَحْكُمْ إلَّا
أَحَدُهُمَا ، وَهَذَا يَتِمُّ بَيَانُهُ فِي قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي جَوَازِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ بِاللِّينِ لِمَنْ مَعَهُ الْقُوَّةُ ، وَضُمِنَتْ
لَهُ الْعِصْمَةُ ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ لَهُمَا : قَوْلَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا
، وَلَا تَخَافَا إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى .
فَفِي الإسرائليات أَنَّ مُوسَى أَقَامَ عَلَى بَابِ
فِرْعَوْنَ سَنَةً لَا يَجِدُ رَسُولًا يُبَلِّغُ كَلَامًا ، حَتَّى لَقِيَهُ
حِينَ خَرَجَ فَجَرَى لَهُ مَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِ ، وَكَانَ
ذَلِكَ تَسْلِيَةً لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي سِيرَتِهِمْ مَعَ
الظَّالِمِينَ .
وَرَبُّك أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلَى آدَمَ
مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي مِثْلِهَا مِنْ أَحْكَامٍ ؛
بَيْدَ أَنَّهُ كُنَّا فِي الْإِمْلَاءِ الْأَوَّلِ قَدْ وَعَدْنَا فِي قَوْلِهِمْ
: إنَّهُ أَكَلَهَا نَاسِيًا بِبَيَانِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، فَهَا نَحْنُ
بِقُوَّةِ اللَّهِ نَنْتَقِضُ مِنْ عُهْدَةِ الْوَعْدِ ، فَنَقُولُ : كَمَا قَالَ
فِي تَنْزِيهِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِمَنْزِلَتِهِمْ مِمَّا
يَنْسِبُ الْجَهَلَةُ إلَيْهِمْ مِنْ وُقُوعِهِمْ فِي الذُّنُوبِ عَمْدًا مِنْهُمْ
إلَيْهَا ، وَاقْتِحَامًا لَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِهَا ، وَحَاشَ لِلَّهِ ، فَإِنَّ
الْأَوْسَاطَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَتَوَرَّعُونَ عَنْ ذَلِكَ ، فَكَيْفَ
بِالنَّبِيِّينَ ، وَلَكِنَّ الْبَارِئَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِحُكْمِهِ
النَّافِذِ ، وَقَضَائِهِ السَّابِقِ ، أَسْلَمَ آدَمَ إلَى الْمُخَالَفَةِ ،
فَوَقَعَ فِيهَا مُتَعَمِّدًا نَاسِيًا ، فَقِيلَ فِي تَعَمُّدِهِ : { وَعَصَى
آدَم رَبَّهُ } .
وَقِيلَ فِي بَيَانِ عُذْرِهِ : { وَلَقَدْ عَهِدْنَا
إلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ
} .
وَنَظِيرُهُ مِنْ التَّمْثِيلَاتِ أَنْ يَحْلِفَ
الرَّجُلُ لَا يَدْخُلُ دَارًا أَبَدًا ، فَيَدْخُلَهَا مُتَعَمِّدًا نَاسِيًا
لِيَمِينِهِ ، أَوْ مُخْطِئًا فِي تَأْوِيلِهِ ، فَهُوَ عَامِدٌ نَاسٍ ،
وَمُتَعَلِّقُ الْعَمْدِ غَيْرُ مُتَعَلِّقِ النِّسْيَانِ ، وَجَازَ لِلْمَوْلَى
أَنْ يَقُولَ فِي عَبْدِهِ : عَصَى تَحْقِيرًا وَتَعْذِيبًا ، وَيَعُودَ عَلَيْهِ
بِفَضْلِهِ فَيَقُولَ : نَسِيَ تَنْزِيهًا ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ
يُخْبِرَ بِذَلِكَ عَنْ آدَمَ ، إلَّا إذَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَثْنَاءِ قَوْلِ
اللَّهِ عَنْهُ ، أَوْ قَوْلِ نَبِيِّهِ .
وَأَمَّا أَنْ نَبْتَدِئَ فِي ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِنَا
فَلَيْسَ بِجَائِزٍ لَنَا فِي آبَائِنَا الْأَدْنَيْنَ إلَيْنَا ،
الْمُمَاثِلَيْنِ لَنَا ، فَكَيْفَ بِأَبِينَا الْأَقْدَمِ الْأَعْظَمِ ،
النَّبِيِّ الْمُقَدَّمِ ، الَّذِي عَذَرَهُ اللَّهُ ، وَتَابَ عَلَيْهِ ،
وَغَفَرَ لَهُ .
وَوَجْهُ الْخَطَأِ فِي قِصَّةِ آدَمَ غَيْرُ
مُتَعَيَّنٍ ، وَلَكِنَّ وُجُوهَ الِاحْتِمَالَاتِ تَتَصَرَّفُ ، وَالْمُدْرَكُ
مِنْهَا عِنْدَنَا أَنْ يُذْهَلَ عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ ، كَمَا
ضَرَبْنَا الْمَثَلَ فِي دُخُولِ الدَّارِ .
الثَّانِي :
أَنْ يُذْهَلَ عَنْ جِنْسٍ مَنْهِيٍّ مِنْهُ ،
وَيَعْتَقِدَهُ فِي عَيْنِهِ ؛ إذْ قَالَ اللَّهُ لَهُ هَذِهِ الشَّجَرَةُ ، كَمَا
تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
.
الثَّالِثُ : أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ
عَلَى مَعْنَى الْجَزْمِ الشَّرْعِيِّ لِمَعْنًى مُغَيَّبٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ : { فَتَكُونَا مِنْ
الظَّالِمِينَ } .
قُلْنَا : قَدْ قِيلَ مَعْنَاهُ مِنْ الظَّالِمِينَ
لِأَنْفُسِكُمَا ، كَمَا قَالَ : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } .
وَالصَّحِيحُ هُوَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ ، وَهُوَ
الَّذِي نَسِيَ مِنْ تَحْذِيرِ اللَّهِ لَهُ ، أَوْ تَأْوِيلُهُ فِي تَنْزِيلِهِ ،
وَرَبُّك أَعْلَمُ كَيْفَ دَارَ الْحَدِيثُ .
وَالتَّعْيِينُ يَفْتَقِرُ إلَى تَأْوِيلِهِ ، وَكَذَلِكَ
قُلْنَا إنَّ النَّاسِيَ فِي الْحِنْثِ مَعْذُورٌ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ
آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّك تَرْضَى } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى
: { وَمِنْ آنَاءِ } وَزْنُهُ أَفْعَالٌ ، وَاحِدُهَا إنْيٌ مِثْلُ عَدْلٍ ،
وَإِنًى مِثْلُ عِنَبٍ فِي السَّالِمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { غَيْرَ نَاظِرِينَ
إنَاهُ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى هَاهُنَا : { سَبِّحْ } ، صَلِّ ؛ لِأَنَّهُ غَايَةُ التَّسْبِيحِ
وَأَشْرَفُهُ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ ذَلِكَ بَيَانٌ لِصَلَاةِ
الْفَرْضِ أَمْ لِصَلَاةِ النَّفْلِ ؟ فَقِيلَ : قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَعْنِي
الصُّبْحَ .
وَقَبْلَ غُرُوبِهَا يَعْنِي الْعَصْرَ .
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
إنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ،
فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَلَّا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ
وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا
} .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا : { مَنْ صَلَّى
الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ
} .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ
} يَعْنِي سَاعَاتِهِ ، يُرِيدُ بِذَلِكَ قِيَامَ اللَّيْلِ كُلِّهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ .
وَفِي الثَّانِي صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ
عَلَى حَدِّ قَوْله تَعَالَى : { حِينَ تُمْسُونَ } فِي الْفَرْضِ ، وَعَلَى حَدِّ
قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا } ،
عَلَى حَدِّ قَوْلِنَا فِي أَنَّهُ النَّفَلُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَطْرَافَ النَّهَارِ
} : يَعْنِي فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ صَلَاةَ الظُّهْرِ .
وَقِيلَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ ؛ لِأَنَّهَا فِي الطَّرَفِ
الثَّانِي .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ مِنْ طَرَفِ
اللَّيْلِ ، لَا مِنْ طَرَفِ النَّهَارِ .
وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي بِعْنِي بِهِ صَلَاةَ
التَّطَوُّعِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لَعَلَّكَ تَرْضَى } : هُوَ مُجْمَلُ قَوْلِهِ الْمُفَسِّرِ : { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } ، وَيُمَاثِلُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } .
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله
تَعَالَى : { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إنْ كَانُوا
يَنْطِقُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ ، وَاللَّفْظُ لَهُ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ فِي
شَيْءٍ قَطُّ إلَّا فِي ثَلَاثٍ : قَوْلُهُ : إنِّي سَقِيمٌ ، وَلَمْ يَكُنْ
سَقِيمًا ، وَقَوْلُهُ لِسَارَةَ : أُخْتِي ؛ وقَوْله تَعَالَى : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ
هَذَا } } .
وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَمْ يَكْذِبْ
إبْرَاهِيمُ إلَّا ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ : ثِنْتَيْنِ مِنْهَا فِي ذَاتِ اللَّهِ ،
قَوْلُهُ : { إنِّي سَقِيمٌ } وَقَوْلُهُ : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا }
وَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ إذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنْ
الْجَبَابِرَةِ فَقِيلَ : إنَّ هَاهُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ
النَّاسِ ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ ، فَسَأَلَهُ عَنْهَا ، فَقَالَ : مَنْ هَذِهِ ؟
قَالَ : أُخْتِي .
فَأَتَى سَارَةَ فَقَالَ : يَا سَارَةُ ، لَيْسَ عَلَى
وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَك ، وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِي
فَأَخْبَرْته أَنَّك أُخْتِي ، فَلَا تَكْذِبِينَنِي .
فَأَرْسَلَ إلَيْهَا فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ
يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ ، فَأُخِذَ ، فَقَالَ : اُدْعِي اللَّهَ لِي وَلَا
أَضُرُّك ، فَدَعَتْ اللَّهَ ، فَأُطْلِقَ .
ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ فَأُخِذَ مِثْلَهَا
أَوْ أَشَدَّ .
فَقَالَ :
اُدْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّك ، فَأُطْلِقَ ،
فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ فَقَالَ : لَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ ، إنَّمَا
أَتَيْتنِي بِشَيْطَانٍ ، فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هَذَا } اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ظَاهِرِ الْمَقْصُودِ بِهِ ،
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هَذَا تَعْرِيضٌ ، وَفِي التَّعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ
الْكَذِبِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ إنْ
كَانُوا يَنْطِقُونَ ؛ فَشَرَطَ النُّطْقَ
فِي الْفِعْلِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ : لِأَنَّهُ عَدَّدَهُ عَلَى
نَفْسِهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّعْرِيضِ ، وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَيَتَّخِذُونَهُمْ آلِهَةً دُونَ اللَّهِ ،
وَهُمْ كَمَا قَالَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا
يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْك شَيْئًا ؟ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ :
بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ، لِيَقُولُوا إنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يَفْعَلُونَ
وَلَا يَنْفَعُونَ وَلَا يَضُرُّونَ ، فَيَقُولُ لَهُمْ : فَلِمَ تَعْبُدُونَ ؟ فَتَقُومُ
الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ
.
وَلِهَذَا يَجُوزُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ فَرْضُ
الْبَاطِلِ مَعَ الْخَصْمِ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الْحَقِّ مِنْ ذَاتِ نَفْسِهِ ،
فَإِنَّهُ أَقْرَبُ فِي الْحُجَّةِ وَأَقْطَعُ لِلشُّبْهَةِ ، كَمَا قَالَ
لِقَوْمِهِ : هَذَا رَبِّي ، عَلَى مَعْنَى الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ ، حَتَّى إذَا
أَفَلَ مِنْهُمْ تَبَيَّنَ حُدُوثُهُ ، وَاسْتِحَالَةُ كَوْنِهِ إلَهًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : هَذَا رَبِّي ،
هَذِهِ أُخْتِي ، وَإِنِّي سَقِيمٌ ، وَبَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ : هَذِهِ وَإِنْ
كَانَتْ مَعَارِيضَ وَحَسَنَاتٍ ، وَحُجَجًا فِي الْحَقِّ ، وَدَلَالَاتٍ ،
لَكِنَّهَا أَثَّرَتْ فِي الرُّتْبَةِ ، وَخَفَّضَتْ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ الْمَنْزِلَةِ
، وَاسْتَحْيَا مِنْهَا قَائِلُهَا عَلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ ؛
لِأَنَّ الَّذِي كَانَ يَلِيقُ بِمَرْتَبَتِهِ فِي النُّبُوَّةِ وَالْخِلَّةِ أَنْ
يَصْدَعَ بِالْحَقِّ ، وَيُصَرِّحَ بِالْأَمْرِ فَيَكُونُ مَا كَانَ ، وَلَكِنَّهُ
رُخِّصَ لَهُ فَقَبِلَ الرُّخْصَةَ ، فَكَانَ مَا كَانَ مِنْ الْقِصَّةِ ،
وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ : { إنَّمَا اُتُّخِذْت خَلِيلًا مِنْ
وَرَاءَ وَرَاءَ } يَعْنِي بِشَرْطِ أَنْ تُتَّبَعَ عَثَرَاتِي ، وَتُخْتَبَرَ أَحْوَالِي
، وَالْخِلَّةُ الْمُطْلَقَةُ لِمُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَهُ : { لِيَغْفِرَ
لَك اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ } ، وَلِذَلِكَ تَقُولُ
الْعَرَبُ فِي أَمْثَالِهَا : ابْغِنِي مِنْ وَرَائِي ، أَيْ اخْتَبِرْ حَالِي .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي هَذَا الْحَدِيثِ نُكْتَةٌ عُظْمَى تَقْصِمُ الظَّهْرَ ، وَهِيَ أَنَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : { لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ إلَّا ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ : ثِنْتَيْنِ مِنْهَا مَاحَلَ بِهِمَا عَنْ دِينِ اللَّهِ } وَهِيَ قَوْلُهُ : إنِّي سَقِيمٌ ، وَبَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ، وَلَمْ يَعُدَّ قَوْلَهُ : هَذِهِ أُخْتِي فِي ذَاتِ اللَّهِ ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَ بِهَا مَكْرُوهًا ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ لِإِبْرَاهِيمَ فِيهَا حَظٌّ مِنْ صِيَانَةِ فِرَاشِهِ ، وَحِمَايَةِ أَهْلِهِ ، لَمْ يَجْعَلْ فِي جَنْبِ اللَّهِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْعَلُ فِي ذَاتِ اللَّهِ إلَّا الْعَمَلَ الْخَالِصَ مِنْ شَوَائِبِ الْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، أَوْ الْمَعَانِي الَّتِي تَرْجِعُ إلَى النَّفْسِ ، حَتَّى إذَا خَلَصَتْ لِلدِّينِ كَانَتْ لِلَّهِ ، كَمَا قَالَ : { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } وَهَذَا لَوْ صَدَرَ مِنَّا لَكَانَ لِلَّهِ ، وَلَكِنَّ مَنْزِلَةَ إبْرَاهِيمَ اقْتَضَتْ هَذَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَدَاوُد
وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ
وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا
حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ وَالنَّسَائِيُّ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ
وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ
} .
فِيهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : قَوْلُهُ : { وَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ }
لَمْ يُرِدْ إذْ جَمَعَهُمَا فِي الْقَوْلِ اجْتِمَاعَهُمَا فِي الْحُكْمِ ، فَإِنَّ
حَاكِمَيْنِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ لَا يَجُوزُ ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ ، وَإِنَّمَا
حَكَمَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادٍ بِحُكْمٍ ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ هُوَ
الْفَاهِمُ لَهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي دُسْتُورٍ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ :
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ لِرَسُولِهِ مَا جَرَى مِنْ الْأُمَمِ وَعَلَيْهَا
، وَأَقْوَالَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَفْعَالَهَا ، فَأَحْسَنَ الْقَصَصَ وَهُوَ أَصْدَقُهُ
؛ فَإِنَّ الإسرائليات ذَكَرُوهَا مُبَدَّلَةً وَبِزِيَادَةٍ بَاطِلَةٍ
مَوْصُولَةٍ ، أَوْ بِنُقْصَانٍ مُحَرَّفٍ لِلْمَقْصِدِ مَنْقُولَةٍ ، وَمَا
نُقِلَ مِنْ حَدِيثِ نَفْشِ الْغَنَمِ ، وَقَضَاءِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ فِيهَا ،
اُنْظُرُوا إلَيْهِ ، فَمَا وَافَقَ مِنْهُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ فَهُوَ صَحِيحٌ ،
وَمَا خَالَفَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَمَا لَمْ يَرِدْ لَهُ فِيهِ ذِكْرٌ فَهُوَ
مُحْتَمَلٌ ، رَبُّك أَعْلَمُ بِهِ .
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي ذِكْرِ وَصْفِ مَا قَضَاهُ النَّبِيَّانِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ فِيهِ : وَفِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَانَ زَرْعًا وَقَعَتْ فِيهِ الْغَنَمُ لَيْلًا ، قَالَهُ
قَتَادَةُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ كَرْمًا نَبَتَتْ
عَنَاقِيدُهُ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَشُرَيْحٍ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّفْشَ رَعْيُ اللَّيْلِ ،
وَالْهَمَلَ رَعْيُ النَّهَارِ ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي ذِكْرِ وَصْفِ
قَضَائِهِمَا : أَمَّا حُكْمُ دَاوُد فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّهُ قَضَى لِصَاحِبِ
الْحَرْثِ بِالْغَنَمِ .
وَأَمَّا حُكْمُ سُلَيْمَانَ فَإِنَّهُ قَضَى بِأَنْ
تُدْفَعَ الْغَنَمُ لِصَاحِبِ الْحَرْثِ عَلَّه يَغْتَلُّهَا ، وَيُدْفَعَ
الْحَرْثُ إلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ لِيَقُومَ بِعِمَارَتِهِ ، فَإِذَا عَادَ فِي السَّنَةِ
الْمُقْبِلَةِ إلَى مِثْلِ حَالَتِهِ رُدَّ إلَى كُلِّ أَحَدٍ مَالُهُ قَالَهُ
ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، فَرَجَعَ دَاوُد إلَى حُكْمِ سُلَيْمَانَ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي صِفَةِ حُكْمِ الْمُصْطَفَى صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا : رَوَى الزُّهْرِيُّ ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ
بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَحَرَامُ بْنُ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ { أَنَّ نَاقَةً
لِلْبَرَاءِ دَخَلَتْ حَائِطًا ، فَأَفْسَدَتْ ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظُهَا
بِالنَّهَارِ ، وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتْ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَامِنٌ عَلَى
أَهْلِهَا } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { وَعَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِي
حِفْظُهَا بِاللَّيْلِ } .
وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا كَلَامَ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فِي هَذِهِ دَلِيلٌ عَلَى رُجُوعِ الْقَاضِي عَمَّا حَكَمَ بِهِ ، إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْحَقَّ فِي غَيْرِهِ ، وَهَكَذَا فِي رِسَالَةِ عُمَرَ إلَى أَبِي مُوسَى : فَأَمَّا أَنْ يَنْظُرَ قَاضٍ فِيمَا حَكَمَ بِهِ قَاضٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَدَاعَى إلَى مَا لَا آخِرَ لَهُ ، وَفِيهِ مَضَرَّةٌ عُظْمَى مِنْ جِهَةِ نَقْضِ الْأَحْكَامِ ، وَتَبْدِيلِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ ، وَعَدَمِ ضَبْطِ قَوَانِينِ الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ إلَى نَقْضِ مَا رَآهُ الْآخَرُ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَحْكُمُ بِمَا يَظْهَرُ إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّ دَاوُد لَمْ
يَكُنْ أَنْفَذَ الْحُكْمَ ، وَظَهَرَ لَهُ مَا قَالَ غَيْرُهُ .
وَقَالَ آخَرُونَ : لَمْ يَكُنْ حُكْمًا ، وَإِنَّمَا
كَانَتْ فُتْيَا ، فَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ دَاوُد كَانَ فُتْيَا
فَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ النَّبِيُّ ، وَفُتْيَاهُ حُكْمٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ الْآخَرُ : إنَّهُ لَمْ يَكُنْ
أَنْفَذَ الْحُكْمَ فَظَهَرَ لَهُ مَا قَالَ غَيْرُهُ .
فَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : { إذْ يَحْكُمَانِ }
، فَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ قَدْ حَكَمَ ، عَلَى أَنَّهُ
قَدْ قِيلَ : إنَّ الْفُتْيَا حُكْمٌ ، وَهُوَ صَحِيحٌ لَفْظًا ، وَفِي بَعْضِ
الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُقَلِّدَ قَوْلُهُ ، وَلَا يَلْزَمُ
الْمُجْتَهِدَ قَوْلُ غَيْرِهِ
.
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ اللَّهَ أَوْحَى أَنَّ الْحُكْمَ حُكْمُ
سُلَيْمَانَ ، فَعَلَى هَذَا كَانَ الْقَضَاءُ مِنْ اللَّهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ
مُحْتَمَلٌ .
وَهَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ
يَجُوزُ لَهُمْ الْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : وَقَدْ
بَيَّنَّا فِي كِتَابِ التَّمْحِيصِ أَنَّ اجْتِهَادَهُمْ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ
دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ ، فَلَا إحَالَةَ فِي أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا إذَا عُدِمَ
النَّصُّ ، وَهُمْ لَا يَعْدَمُونَهُ ، لِأَجْلِ نُزُولِ الْمَلَكِ .
قُلْنَا : إذَا لَمْ يَنْزِلْ الْمَلَكُ فَقَدْ عَدِمُوا
النَّصَّ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّهُ عِنْدَنَا دَلِيلٌ
مَعَ عَدَمِ النَّصِّ ، وَعِنْدَهُمْ هُوَ دَلِيلٌ مَعَ وُجُودِهِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : فِي تَحْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كُلِّهَا
: وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا إشْكَالَ فِي أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ
، لَكِنَّ الْمَوَاشِيَ جَاءَ فِيهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْعَجْمَاءُ
جَرْحُهَا جُبَارٌ } .
فَحَكَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ بِأَنَّ فِعْلَ الْبَهَائِمِ هَدَرٌ ، وَهَذَا عُمُومٌ مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ سَنَدًا وَمَتْنًا ، وَحَدِيثُ نَاقَةِ الْبَرَاءِ خَاصٌّ ، وَمَا قَضَى
بِهِ دَاوُد وَسُلَيْمَانُ غَيْرُ مَعْلُومٍ عَلَى التَّعْيِينِ مِمَّنْ يَقْطَعُ
بِصِدْقِهِ ، فَتَعَيَّنَ أَنْ نَعْتَنِيَ بِشَرْعِنَا ، فَنَقُولَ : لَا خِلَافَ
أَنَّ الْعَامَّ يَقْضِي عَلَيْهِ الْخَاصُّ ، وَقَضَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاقَةِ الْبَرَاءِ بِأَنَّ حِفْظَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ
بِالنَّهَارِ عَلَى أَرْبَابِهَا ؟ لِمَا عَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِي مِنْ الْمَشَقَّةِ
فِي حِفْظِهَا بِالنَّهَارِ ، وَبِأَنَّ حِفْظَ الْكُلِّ بِاللَّيْلِ عَلَى
أَرْبَابِ الْمَوَاشِي ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حِفْظِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ
شَاقٌّ عَلَى أَرْبَابِهَا ، فَجَرَى الْحُكْمُ عَلَى الْأَوْفَقِ وَالْأَسْمَحِ
بِمُقْتَضَى الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ ، وَمَجْرَى الْمَصْلَحَةِ ، وَكَانَ
ذَلِكَ أَوْفَقَ لِلْفَرِيقَيْنِ ، وَأَسْهَلَ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ ،
وَأَحْفَظَ لِلْمَالِكَيْنِ .
وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ ؛ لِمَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّينَ
الْمُتَقَدِّمِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ فِي أَصْلِ الضَّمَانِ ،
وَإِنَّمَا هُوَ خِلَافٌ فِي صِفَتِهِ
.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ،
وَالشَّافِعِيُّ : لَا ضَمَانَ عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي فِيمَا أَصَابَتْ
بِالنَّهَارِ وَقَالَ اللَّيْثُ : يَضْمَنُ أَرْبَابُ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا أَفْسَدَتْ الْمَوَاشِي
لَيْلًا أَوْ نَهَارًا لَمْ يَكُنْ عَلَى صَاحِبِهَا ضَمَانٌ .
وَتَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ مَعْنَى حَدِيثِ {
الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ } وَهَذَا يَنْفِي الضَّمَانَ كُلَّهُ ، وَمَعْنَى حَدِيثِ
الْبَرَاءِ ، وَهُوَ نَصٌّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ،
فَوَجَبَ تَخْصِيصُ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بِحَدِيثِ الْعَجْمَاءِ ، وَلَيْسَ
عِنْدَنَا بِقَضَاءِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ نَصٌّ ، فَنَقُولُ : إنَّهُ يُعَارِضُ
هَذَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا ،
فَيُفْتَقَرُ حِينَئِذٍ إلَى الْكَلَامِ عَلَيْهِ ، وَالتَّرْجِيحِ فِيهِ ، فَوَجَبَ
الْوُقُوفُ عِنْدَهَا وَقْفَ بِنَاءِ النَّصِّ عَلَيْهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا قُلْنَا :
إنَّ أَرْبَابَ الْمَوَاشِي يَضْمَنُونَ مَا أَفْسَدَتْ مَاشِيَتُهُمْ بِاللَّيْلِ
، فَإِنَّهُمْ يَضْمَنُونَ قِيمَةَ الزَّرْعِ عَلَى رَجَاءِ أَنْ يَتِمَّ أَوْ لَا
يَتِمَّ قَالَ عَنْهُ مُطَرِّفٌ ، وَلَا يَسْتَأْنِي بِالزَّرْعِ أَنْ يَنْبُتَ
أَوْ لَا يَنْبُتَ كَمَا يَفْعَلُ فِي سِنِّ الصَّغِيرِ .
وَقَالَ عِيسَى ، عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ : قِيمَتُهُ
لَوْ حَلَّ بَيْعُهُ .
وَقَالَ أَشْهَبُ ، وَابْنُ نَافِعٍ عَنْهُ فِي
الْمَجْمُوعَةِ : وَإِنْ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ .
وَالْأَوَّلُ أَقْوَى ؛ لِأَنَّهَا صِفَتُهُ ،
فَيُقَوَّمُ كَذَلِكَ لَوْ تَمَّ أَوْ لَمْ يَتِمَّ ، كَمَا يُقَوَّمُ كُلُّ
مُتْلَفٍ عَلَى صِفَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا أَفْسَدَتْ
الْمَوَاشِي ذَلِكَ فَعَلَى أَرْبَابِهَا قِيمَةُ مَا أَفْسَدَتْ ، وَإِنْ زَادَ
عَلَى قِيمَتِهَا .
وَقَالَ اللَّيْثُ : تَسْقُطُ الزِّيَادَةُ عَلَى
الْقِيمَةِ ، وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ إنَّمَا هِيَ عَلَى أَرْبَابِ
الْمَوَاشِي ، وَلَيْسَتْ عَلَى الْمَوَاشِي ، وَتُخَالِفُ هَذَا جِنَايَةُ
الْعَبْدِ ، فَإِنَّهَا عَلَيْهِ ، فَيَحْمِلُ
السَّيِّدُ مِنْهَا إنْ أَرَادَ فِدَاءَهُ قِيمَتَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : لَوْ لَمْ يُقْضَ فِي الْمُفْسِدِ
بِشَيْءٍ حَتَّى نَبَتَ أَوْ انْجَبَرَ فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ مَنْفَعَةُ
رَعْيٍ أَوْ شَيْءٍ ضَمِنَ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ
مَنْفَعَةٌ فَلَا ضَمَانَ رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ .
وَقَالَ أَصْبَغُ : يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ قَدْ
تَحَقَّقَ ، وَالْجَبْرُ لَيْسَ مِنْ جِهَتِهِ ، فَلَا يُعْتَدُّ لَهُ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَالَ أَصْبَغُ
فِي الْمَدِينَةِ : لَيْسَ لِأَهْلِ الْمَوَاشِي أَنْ يُخْرِجُوا مَوَاشِيَهُمْ
إلَى قُرَى الزَّرْعِ بِغَيْرِ ذُوَّادٍ ، فَرَكَّبَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا
أَنَّ الْبُقْعَةَ لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ بُقْعَةَ زَرْعِ أَوْ بُقْعَةَ سَرْحٍ
، فَإِنْ كَانَتْ بُقْعَةَ زَرْعٍ فَلَا تَدْخُلُهَا مَاشِيَةٌ إلَّا مَاشِيَةً تُحْتَاجُ
فِي الزَّرْعِ ، وَعَلَى أَرْبَابِهَا حِفْظُهَا ، وَمَا أَفْسَدَتْ [
فَصَاحِبُهَا ] ضَامِنٌ عَلَى أَهْلِهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ، وَإِنْ كَانَتْ
بُقْعَةَ سَرْحٍ فَعَلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ الَّذِي يَحْرُثُهُ فِيهَا حِفْظُهُ ،
وَلَا شَيْءَ عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَالَ أَشْهَبُ ،
وَابْنُ نَافِعٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ : سَوَاءٌ كَانَتْ الثِّمَارُ
وَالزُّرُوعُ مُحْظَرًا عَلَيْهَا أَوْ بِغَيْرِ حِظَارٍ ، وَلَا يَخْتَلِفُ
الْحُكْمُ بِالْحِظَارِ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : يَخْتَلِفُ .
وَهَذَا أَصْوَبُ ، فَإِنَّ الْعَجْمَاءَ لَا يَرُدُّهَا
حِظَارٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : الْمَوَاشِي عَلَى قِسْمَيْنِ
ضَوَارِي ، وَحَرِيسَةٌ ، وَعَلَيْهَا قَسَّمَهَا مَالِكٌ ، فَالضَّوَارِي هِيَ الْمُعْتَادَةُ
لِلزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ ، فَقَالَ مَالِكٌ : تُغَرَّبُ وَتُبَاعُ فِي بَلَدٍ لَا
زَرْعَ فِيهِ رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ .
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ رَبُّهَا ،
وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي الدَّابَّةِ الَّتِي ضَرِيَتْ إفْسَادَ الزَّرْعِ :
تُغَرَّبُ وَتُبَاعُ .
وَأَمَّا مَا يُسْتَطَاعُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَلَا
يُؤْمَرُ صَاحِبُهُ بِإِخْرَاجِهِ ، هَذَا بَيِّنٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَالَ أَصْبَغُ : النَّحْلُ ،
وَالْحَمَامُ ، وَالْإِوَزُّ ، وَالدَّجَاجُ ، كَالْمَاشِيَةِ ، لَا يُمْنَعُ
صَاحِبُهَا مِنْ اتِّخَاذِهَا ، وَإِنْ أَضَرَّتْ ، وَعَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ
حِفْظُ زُرُوعِهِمْ .
وَهَذِهِ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا ،
وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِمَّا لَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِ
مُكِّنَ مِنْهُ ، وَأَمَّا انْتِفَاعُهُ بِمَا يَتَّخِذُهُ بِإِضْرَارِهِ بِأَحَدٍ
فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ ، وَهَذِهِ الضَّوَارِي عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي
الْمَدِينَةِ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى أَرْبَابِهَا إلَّا بَعْدَ التَّقَدُّمِ .
وَأَرَى الضَّمَانَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّقَدُّمِ ،
إذَا كَانَتْ ضَوَارِيَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَالَ الْحَسَنُ : لَوْلَا هَذِهِ
الْآيَةُ لَرَأَيْت الْقُضَاةَ قَدْ هَلَكُوا ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى أَثْنَى
عَلَى سُلَيْمَانَ بِصَوَابِهِ ، وَعَذَرَ دَاوُد بِاجْتِهَادِهِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُجْتَهِدِينَ فِي
الْفُرُوعِ إذَا اخْتَلَفُوا ، هَلْ الْحَقُّ فِي قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرَ
مُعَيَّنٍ ، أَمْ جَمِيعُ أَقْوَالِهِمْ حَقٌّ ؟ وَاَلَّذِي نَرَاهُ أَنَّ جَمِيعَهَا
حَقٌّ لِقَوْلِهِ : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا
وَعِلْمًا } .
وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّمْحِيصِ ،
فَلْيُنْظَرْ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
.
سُورَةُ الْحَجِّ فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ آيَةً الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله
تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ
فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ
مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي
الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ
لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ
إلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى
الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ
وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى : { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ } يَعْنِي آدَمَ ، { ثُمَّ مِنْ
نُطْفَةٍ } يَعْنِي وَلَدَهُ ، وَهُوَ الْمَنِيُّ سُمِّيَ نُطْفَةً لِقِلَّتِهِ ،
وَهُوَ الْقَلِيلُ مِنْ الْمَاءِ { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } يَعْنِي قِطْعَةً صَغِيرَةً
مِنْ دَمٍ .
{ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ } يَعْنِي ثُمَّ مِنْ جُزْءٍ
مُخَثَّرٍ يُشْبِهُ اللُّقْمَةَ الَّتِي مُضِغَتْ .
وَقَوْلُهُ :
{ مُخَلَّقَةٍ } فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : صَارَتْ خَلْقًا ، وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ مَا قَذَفَتْهُ الرَّحِمُ نُطْفَةً
؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ .
الثَّانِي : تَامَّةُ الْخَلْقِ ، وَغَيْرُ تَامَّةِ
الْخَلْقِ قَالَ قَتَادَةُ .
الثَّالِثُ : مَعْنَاهُ مُصَوَّرَةٌ وَغَيْرُ
مُصَوَّرَةٍ كَالسَّقْطِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الرَّابِعُ : يُرِيدُ تَامَّةَ الشُّهُورِ ، وَغَيْرَ تَامَّةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَدْ قَدَّمْنَا شَيْئًا
مِنْ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْغَرَضِ ، وَنَحْنُ الْآنَ نُفِيضُ فِيهِ بِمَا إذَا
اتَّصَلَ بِمَا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ كَانَ بَيَانًا لِلْمَسْأَلَةِ وَعِرْفَانًا
، فَنَقُولُ : فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْوَالٌ عَنْ السَّلَفِ : فَأَمَّا الرِّوَايَاتُ فَقَدْ قَدَّمْنَا
بَعْضَهَا وَنُعِيدُ مِنْهَا هَاهُنَا الرِّوَايَةَ الْأُولَى : رَوَى يَحْيَى
بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ ، حَدَّثَنَا دَاوُد عَنْ عَامِرٍ عَنْ
عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوه ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ
النُّطْفَةَ إذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ أَخَذَهَا مَلَكٌ بِكَفِّهِ ،
فَقَالَ : أَيْ رَبِّ ؟ ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى ؟ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ ؟ مَا
الْأَجَلُ ؟ مَا الْأَثَرُ ؟ وَبِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ؟ قَالَ دَاوُد :
وَشُكِّلَتْ فِي الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ ، فَيُقَالُ لَهُ : انْطَلِقْ إلَى أُمِّ
الْكِتَابِ ، فَإِنَّك تَجِدُ فِيهَا قِصَّةَ هَذِهِ النُّطْفَةِ ، فَيَنْطَلِقُ
فَيَجِدُ قِصَّتَهَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ تَتَخَلَّقُ فَتَأْكُلُ رِزْقَهَا ،
وَتَطَأُ أَثَرَهَا ، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهَا قُبِضَتْ فَدُفِنَتْ فِي الْمَكَانِ
الَّذِي قُدِّرَ لَهَا ، ثُمَّ قَرَأَ عَامِرٌ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنْ كُنْتُمْ
فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ
ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } .
الثَّانِيَةُ : مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ
دَاوُد بِمِثْلِهِ ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : إذَا اسْتَقَرَّتْ النُّطْفَةُ فِي
الرَّحِمِ أَدَارَهَا مَلَكٌ بِكَفِّهِ ، وَقَالَ : أَيْ رَبِّ ، مُخَلَّقَةٌ أَوْ
غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ ؟ قَالَ : فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ قَذَفَتْهَا
الْأَرْحَامُ دَمًا ، وَإِنْ كَانَتْ مُخَلَّقَةً قَالَ : أَيْ رَبِّ ، أَذَكَرٌ
أَمْ أُنْثَى ؟ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ ؟ مَا الرِّزْقُ ؟ مَا الْأَثَرُ ؟ بِأَيِّ
أَرْضٍ تَمُوتُ ؟ وَآثَارُ السَّلَفِ أَرْبَعَةٌ : الْأَوَّلُ : قَالَ عَامِرٌ فِي
النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ : فَإِذَا انْتَكَسَتْ فِي الْخَلْقِ
الرَّابِعِ كَانَتْ نَسَمَةً مُخَلَّقَةً ، وَإِذَا قَذَفَتْهَا قَبْلَ ذَلِكَ
فَهِيَ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ .
الثَّانِي : قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : غَيْرُ
مُخَلَّقَةٍ : السَّقْطُ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ .
الثَّالِثُ : قَالَ قَتَادَةُ : تَامَّةٌ وَغَيْرُ
تَامَّةٍ .
الرَّابِعُ : قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : الْمُخَلَّقَةُ الَّتِي
خَلَقَ فِيهَا الرَّأْسَ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ .
وَغَيْرُ مُخَلَّقَةٍ الَّتِي لَمْ يَخْلُقْ فِيهَا
شَيْئًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ : إنَّهُ
كَانَ يَأْمُرُ بِالصَّلَاةِ عَلَى السَّقْطِ ، وَيَقُولُ : سَمُّوهُمْ
وَاغْسِلُوهُمْ ، وَكَفِّنُوهُمْ وَحَنِّطُوهُمْ ، فَإِنَّ اللَّهَ أَكْرَمَ
بِالْإِسْلَامِ صَغِيرَكُمْ وَكَبِيرَكُمْ ، وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ : { إنَّا خَلَقْنَاكُمْ
مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ
مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } ، لَمْ يَسْتَتِمَّ سَائِرُ خَلْقِهَا ،
فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَلْقًا تَامًّا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا رَجَعْنَا إلَى أَصْلِ
الِاشْتِقَاقِ فَإِنَّ النُّطْفَةَ وَالْعَلَقَةَ وَالْمُضْغَةَ مُخَلَّقَةٌ ؛
لِأَنَّ الْكُلَّ خَلْقُ اللَّهِ ، وَإِذَا رَجَعْنَا إلَى التَّصْوِيرِ الَّذِي
هُوَ مُنْتَهَى الْخِلْقَةِ كَمَا قَالَ : ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ
فَذَلِكَ مَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : إنَّهَا الَّتِي صُوِّرَتْ بِرَأْسٍ وَيَدَيْنِ
وَرِجْلَيْنِ ، وَبَيْنَهَا حَالَاتٌ
.
فَأَمَّا النُّطْفَةُ فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ يَقِينًا ، وَأَمَّا
إنْ تَلَوَّنَتْ فَقَدْ تَخَلَّقَتْ فِي رَحِمِ الْأُمِّ بِالتَّلْوِينِ ،
وَتَخَلَّقَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِالتَّخْثِيرِ ؛ فَإِنَّهُ إنْشَاءٌ بَعْدَ إنْشَاءٍ .
وَيَزْعُمُ قَوْمٌ أَنَّ مَعَ التَّخْثِيرِ يَظْهَرُ
التَّخْطِيطُ وَمِثَالُ التَّصْوِيرِ ، فَلِذَلِكَ شَكَّ مَالِكٌ فِيهِ ، وَقَالَ
: وَمِنْ رَأْيِي مَنْ يُعْرَفُ أَنَّهُ سَقْطٌ فَهُوَ الَّذِي تَكُونُ بِهِ أُمَّ
وَلَدٍ .
وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ ،
وَشَرْحُ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .
وَعَلَى هَذَا يُحْمَلَ مَا جَاءَ مِنْ الْأَخْبَارِ
وَالْآثَارِ عَلَى الْمُخَلَّقِ وَغَيْرِ الْمُخَلَّقِ ، وَعَلَى التَّامِّ
وَالنَّاقِصِ .
وَلَعَلَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَرَادَ السَّقْطَ
مَا تَبَيَّنَ خَلْقُهُ فَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى ، وَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ
خَلْقُهُ فَلَا وُجُودَ لَهُ ، وَالِاسْمُ فِيهِ دُونَ مَوْجُودٍ يُسَمَّى
وَبِمَاذَا تَكُونُ الْوَلَدُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ هُنَالِكَ كَمَا أَشَرْنَا
إلَيْهِ ، وَاَللَّهُ يَنْفَعُنَا بِعِزَّتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ
عِدَّةَ
الْمَرْأَةِ تَنْقَضِي بِالسَّقْطِ الْمَوْضُوعِ ، ذَكَرَهُ إسْمَاعِيلُ
الْقَاضِي ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ حَمْلٌ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ : { وَأُولَاتُ
الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } ،
وَكَذَلِكَ قَالَ : لَا تَكُونُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ ، وَلَا يَرْتَبِطُ شَيْءٌ مِنْ
الْأَحْكَامِ بِهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُخَلَّقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ
ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } ،
فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَلْقٌ ، كَمَا أَنَّهُ حَمْلٌ .
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ
الْوَلَدَ لَيْسَ بِمُضْغَةٍ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى تَنْبِيهًا عَلَى الْقُدْرَةِ .
قُلْنَا : فَأَيْنَ الْمَقْدُورُ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ
الْقُدْرَةُ ؟ هَلْ هُوَ تَصْرِيفُ الْوَلَدِ بَيْنَ الْأَحْوَالِ ، وَنَقْلِهِ
مِنْ صِفَةٍ إلَى صِفَةٍ ؟ فَذَكَرَ أَنَّ أَصْلَهُ النُّطْفَةُ ، ثُمَّ
تَتَدَاوَلُهُ الصِّفَاتُ ، فَيَكُونُ خَلْقًا وَحَمْلًا .
قَالَ الْمُعْتَرِضُ : وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : {
وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ } مَا يُسَمَّى وَلَدًا .
قُلْنَا :
بَلْ الْمُرَادُ بِهِ مَا يُسَمَّى حَمْلًا وَخَلْقًا
لِشَغْلِ الرَّحِمِ ؛ فَإِذَا سَقَطَ بَرِئَتْ الرَّحِمُ مِنْ شُغْلِهَا .
قَالَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ : وَالدَّلِيلُ عَلَى
صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّهُ يَرِثُ أَبَاهُ ، فَدَلَّ عَلَى وُجُودِهِ خَلْقًا ،
وَكَوْنِهِ وَلَدًا وَحَمْلًا .
قَالَ الْمُعْتَرِضُ : لَا حُجَّةَ فِي الْمِيرَاثِ ؛
لِأَنَّهُ جَاءَ مُسْتَنِدًا إلَى حَالِ كَوْنِهِ نُطْفَةً .
قُلْنَا لَوْ لَمْ يَكُنْ خَلْقًا مَوْجُودًا ، وَلَا
وَلَدًا مَحْسُوبًا مَا أُسْنِدَ مِيرَاثُهُ إلَى حَالٍ وَلَا قُضِيَ لَهُ بِهِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ
سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ
نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ { أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ عَامَ سِتٍّ ، فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ
عَنْ دُخُولِ الْبَيْتِ ، وَمَنَعُوهُ ، فَقَاضَاهُمْ عَلَى الْعَامِ
الْمُسْتَقْبَلِ ، وَقَضَى عُمْرَتَهُ فِي مَكَانِهِ ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ ،
وَحَلَقَ رَأْسَهُ ، وَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : {
وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ
وَالْبَادِ } فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَسْجِدَ
نَفْسَهُ ، دُونَ الْحَرَمِ ؛ وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَذْكُرْ غَيْرَهُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْحَرَمَ كُلَّهُ ؛ لِأَنَّ
الْمُشْرِكِينَ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابَهُ عَنْهُ ، فَنَزَلَ خَارِجًا مِنْهُ فِي الْحِلِّ ، وَعَيَّرَهُمْ
اللَّهُ بِذَلِكَ ، وَدَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ : { وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ،
فَصِفَةُ الْحَرَامِ تَقْتَضِي الْحَرَمَ كُلَّهُ ، ؛ لِأَنَّهُ بِصِفَتِهِ فِي
التَّحْرِيمِ ، وَآخِذٌ بِجَزَاءٍ عَظِيمٍ مِنْ التَّكْرِمَةِ وَالتَّعْظِيمِ
بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى : { جَعَلَ
اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ } ، وَكَانَ الْحَرَمُ
مِثْلَهُ ؛ لِأَنَّهُ حَرِيمُهُ ، وَحَرِيمُ الدَّارِ مِنْ الدَّارِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ
} يُرِيدُ خَلَقْنَاهُ لَهُمْ ، وَسَمَّيْنَاهُ ، وَوَضَعْنَاهُ شَرْعًا وَدِينًا
، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْجَعْلِ وَتَصَرُّفَاتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { سَوَاءً
الْعَاكِفُ } .
يَعْنِي الْمُقِيمَ ، وَكَذَلِكَ اسْمُهُ فِي اللُّغَة .
وَالْبَادِي : يُرِيدُ
الطَّارِئَ عَلَيْهِ
.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : سَأَلْت مَالِكًا عَنْ
قَوْلِ اللَّهِ : { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } فَقَالَ لِي مَالِكٌ :
السَّعَةُ وَالْأَمْنُ وَالْحَقُّ
.
قَالَ مَالِكٌ : وَقَدْ كَانَتْ الْفَسَاطِيطُ تُضْرَبُ
فِي الدُّورِ يَنْزِلُهَا النَّاسُ
.
وَالْبَادِي أَهْلُ الْبَادِيَةِ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ
يَقْدُمُ عَلَيْهِمْ .
ثُمَّ قَالَ : { وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ } قَالَ
ابْنُ الْقَاسِمِ : وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : سَوَاءٌ فِي
الْحَقِّ وَالسَّعَةِ ، وَالْبَادِي أَهْلُ الْبَادِيَةِ ، وَمَنْ يَقْدُمُ عَلَيْهِمْ
، وَقَدْ كَانَتْ تُضْرَبُ الْفَسَاطِيطُ فِي الدُّورِ ، وَلَقَدْ سَمِعْت أَنَّ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَنْزِعُ أَبْوَابَ مَكَّةَ إذَا قَدِمَ النَّاسُ .
قَالَ : وَالْحَجُّ كُلُّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي الْمَعْنَى الَّذِي
فِيهِ التَّسْوِيَةُ : وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي دُورِهِ
وَمَنَازِلِهِ ، لَيْسَ الْمُقِيمُ فِيهَا أَوْلَى بِهَا مِنْ الطَّارِئِ
عَلَيْهَا .
هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمَالِكٍ كَمَا تَقَدَّمَ
وَغَيْرِهِ .
الثَّانِي : أَنَّهُمَا فِي الْحَقِّ سَوَاءٌ
وَالْحُرْمَةُ وَالنُّسُكُ .
وَالصَّحِيحُ عُمُومُ التَّسْوِيَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ
، كَمَا قَالَ مَالِكٌ ، وَعَلَيْهِ حَمَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، فَقَدْ
رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ فِي الْمَوْسِمِ بِقَلْعِ أَبْوَابِ دُورِ مَكَّةَ
حَتَّى يَدْخُلَهَا الَّذِي يَقْدُمُ ، فَيَنْزِلُ حَيْثُ شَاءَ ، وَهَذَا يَنْبَنِي
عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ دُورَ مَكَّةَ [ هَلْ هِيَ ] مِلْكٌ
لِأَرْبَابِهَا أَمْ هِيَ لِلنَّاسِ ؟ الثَّانِي : يَنْبَنِي عَلَيْهِ هَذَا
الْأَصْلُ ، وَهُوَ أَنَّ مَكَّةَ هَلْ اُفْتُتِحَتْ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا ؟
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ رَوَى عَلْقَمَةُ بْنُ نَضْلَةَ قَالَ :
تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ
وَمَا نَرَى رِبَاعَ مَكَّةَ إلَّا السَّوَائِبَ ، مَنْ احْتَاجَ سَكَنَ ، وَمَنْ
اسْتَغْنَى أَسْكَنَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ الْقَوْلَ
فِي رِبَاعِ مَكَّةَ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي الْآنَ
فِيهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَتَحَ
مَكَّةَ عَنْوَةً ، لَكِنَّهُ مَنَّ عَلَيْهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ ، فَسُمُّوا الطُّلَقَاءَ
، وَمَنَّ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ ، أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى : مَنْ
أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ ، وَتَرَكَهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ عَلَى
أَحْوَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ عَلَيْهِمْ } ،
وَلَكِنَّ النَّاسَ إذَا كَثُرُوا وَارِدِينَ عَلَيْهِمْ شَارَكُوهُمْ بِحُكْمِ
الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ .
وَقَدْ رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ
كَانَ نَهَى أَنْ تُغْلَقَ مَكَّةُ زَمَنَ الْحَاجِّ ، وَأَنَّ النَّاسَ كَانُوا
يَنْزِلُونَ مِنْهَا حَيْثُ وَجَدُوا فَارِغًا ، حَتَّى كَانُوا يَضْرِبُونَ
الْفَسَاطِيطَ فِي جَوْفِ الدُّورِ
.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ
بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي دُخُولِ الْبَاءِ هَاهُنَا ،
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهَا زَائِدَةٌ ، كَزِيَادَتِهَا فِي قَوْلِهِ : { تَنْبُتُ
بِالدُّهْنِ } ، وَعَلَيْهِ حَمَلُوا قَوْلَ الشَّاعِرِ : نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ
أَصْحَابُ الْفَلَجْ نَضْرِبُ بِالسَّيْفِ وَنَرْجُو بِالْفَرَجْ أَرَادَ
وَنَرْجُو الْفَرَجَ .
وَهَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي سَبِيلِ
الْعَرَبِيَّةِ ؛ لِأَنَّ حَمْلَ الْمَعْنَى عَلَى الْفِعْلِ أَوْلَى مِنْ
حَمْلِهِ عَلَى الْحَرْفِ .
فَيُقَالُ الْمَعْنَى : وَمَنْ يُهِمُّ فِيهِ بِمِيلٍ
يَكُونُ ذَلِكَ الْمَيْلُ ظُلْمًا ؛ لِأَنَّ الْإِلْحَادَ هُوَ الْمَيْلُ فِي
اللُّغَةِ ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي عُرْفِ الشَّرِيعَةِ مَيْلًا مَذْمُومًا
، فَرَفَعَ اللَّهُ الْإِشْكَالَ ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْمَيْلَ بِالظُّلْمِ هُوَ
الْمُرَادُ هَاهُنَا ، وَالظُّلْمُ فِي الْحَقِيقَةِ لُغَةً وَشَرْعًا وَضْعُ
الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالذُّنُوبِ الْمُطْلَقَةِ
بَيْنَ الْعَبْدِ وَنَفْسِهِ ، وَبِالذُّنُوبِ الْمُتَعَدِّيَةِ إلَى الْخَلْقِ ، وَهُوَ
أَعْظَمُ .
وَلِذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَهُ فُسْطَاطَانِ : أَحَدُهُمَا فِي
الْحِلِّ ، وَالْآخَرُ فِي الْحَرَمِ ؛ فَكَانَ إذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ دَخَلَ
فُسْطَاطَ الْحَرَمِ ، وَإِذَا أَرَادَ الْأَمْرَ لِبَعْضِ شَأْنِهِ دَخَلَ
فُسْطَاطَ الْحِلِّ ، صِيَانَةً لِلْحَرَمِ عَنْ قَوْلِهِمْ : كَلًّا وَاَللَّهِ ،
وَبَلَى وَاَللَّهِ ، حِينَ عَظَّمَ اللَّهُ الذَّنْبَ فِيهِ ، وَبَيَّنَ أَنَّ
الْجِنَايَاتِ تُعَظَّمُ عَلَى قَدْرِ عِظَمِ الزَّمَانِ ، كَالْأَشْهُرِ
الْحُرُمِ ، وَعَلَى قَدْرِ عِظَمِ الْمَكَانِ ، كَالْبَلَدِ الْحَرَامِ ،
فَتَكُونُ الْمَعْصِيَةُ مَعْصِيَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا بِنَفْسِ الْمُخَالَفَةِ ، وَالثَّانِيَةُ
بِإِسْقَاطِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ، أَوْ الْبَلَدِ الْحَرَامِ فَإِنْ
أَشْرَكَ فِيهِ أَحَدٌ فَقَدْ أَعْظَمَ الذَّنْبَ ، وَمَنْ اسْتَحَلَّهُ
مُتَعَمِّدًا فَقَدْ أَعْظَمَ الذَّنْبَ ، وَمَنْ اسْتَحَلَّهُ مُتَأَوِّلًا
فَقَدْ أَعْظَمَ الذَّنْبَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { إنَّ
مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ،
فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي ، وَلَا تَحِلُّ
لِأَحَدٍ بَعْدِي ، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ فِيهَا بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا : إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ ،
وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ } .
وَهَذَا نَصٌّ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو شُرَيْحٍ الْعَدَوِيُّ لِعَمْرِو
بْنِ سَعِيدٍ الْعَاصِي ، وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إلَى مَكَّةَ : { ائْذَنْ
لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثُك قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ
، وَوَعَاهُ قَلْبِي ، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ ، حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ : حَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ
يُحَرِّمْهَا النَّاسُ ، لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا ، أَوْ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً ، فَإِنْ
أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقُولُوا لَهُ : إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ ،
وَإِنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا
الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ ، وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ } .
فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ : مَا قَالَ لَك عَمْرٌو ؟
قَالَ : أَنَا أَعْلَمُ مِنْك بِذَلِكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ ، إنَّ الْحَرَمَ لَا
يُعِيذُ عَاصِيًا ، وَلَا فَارًّا بِدَمٍ ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ .
وَهَذَا مِنْ احْتِجَاجِ عَمْرٍو بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ
ابْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ قَائِمًا بِالْحَقِّ ، عَادِلًا
فِي الْحَرَمِ ، دَاعِيًا إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا
لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ
بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَالُوا مَعْنَاهُ وَطَّأْنَا وَمَهَّدْنَا .
وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا ؛ إنَّمَا الْمَبَاءَةُ
الْمَنْزِلُ ، وَبَوَّأْنَا فَعَّلْنَا مِنْهُ فَالْمَعْنَى وَإِذْ نَزَّلْنَا
بِتَشْدِيدِ الزَّايِ لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ، أَيْ عَرَّفْنَاهُ بِهِ
مَنْزِلًا ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ اللَّامُ فِيهِ ، فَخَفِيَ الْأَمْرُ عَلَى
يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا حَتَّى قَالَ : إنَّ اللَّامَ هَاهُنَا زَائِدَةٌ ، وَلَيْسَ
كَذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ النَّاسُ : جَعَلَ اللَّهُ
لِإِبْرَاهِيمَ عَلَامَةً رِيحًا هَبَّتْ حَتَّى كَشَفَتْ أَسَاسَ آدَمَ فِي
الْبَيْتِ .
وَقِيلَ : نَصَبَ لَهُ ظِلًّا عَلَى قَدْرِ الْبَيْتِ ،
فَقَدَّرَهُ بِهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَطَّهُ لَهُ جِبْرِيلُ .
وَهَذِهِ الْجُمَلُ لَا تَتَخَصَّصُ إلَّا بِنَصٍّ
صَرِيحٍ صَحِيحٍ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا حَدِيثَ إبْرَاهِيمَ وَمَا كَانَ
مِنْهُ مَعَ هَاجَرَ وَابْنِهَا ، وَكَيْف عَادَ ، وَكَيْف بَنَى ، وَلَيْسَ فِيهِ
ذِكْرٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : رَوَى أَبُو ذَرٍّ ، عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ لَهُ : أَيُّ
الْمَسْجِدِ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ الْأَوَّلَ ؟ قَالَ : الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ .
قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى .
قُلْت : كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ : أَرْبَعُونَ
سَنَةً .
ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْك الصَّلَاةُ فَصَلِّ } ،
كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هَاهُنَا وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَطَهِّرْ بَيْتِي } يَعْنِي لَا تَقْرَبْهُ بِمَعْصِيَةٍ وَلَا نَجَاسَةٍ وَلَا
قَذَارَةٍ ، وَكَانَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى شَاءَ اللَّهُ فَعُبِدَ فِيهِ غَيْرُهُ ،
وَأُشْرِكَ فِيهِ بِهِ ، وَلُطِّخَ بِالدِّمَاءِ النَّجِسَةِ ، وَمُلِئَ مِنْ
الْأَقْذَارِ الْمُنْتِنَةِ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَأَذِّنْ فِي
النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوك رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ
كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى : { وَأَذِّنْ
} تَقَدَّمَ بَيَانُ { أَذِّنْ } فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ
، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ مَعْنَاهُ أَعْلِمْ ، وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ
إبْرَاهِيمَ أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ، وَذَلِكَ نَصُّ الْقُرْآنِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ النِّدَاءِ كَيْف
وَقَعَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أُمِرَ بِهِ فِي جُمْلَةِ شَرَائِعِ
الدِّينِ ، الصَّلَاةُ ، وَالزَّكَاةُ ، وَالصِّيَامُ ، وَالْحَجُّ ، حَسْبَمَا تَمَهَّدَتْ
بِهِ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ الَّتِي أَسَّسَهَا لِسَانُهُ ، وَأَوْضَحَهَا
بِبَيَانِهِ ، وَخَتَمَهَا مُبَلَّغَةً تَامَّةً بِمُحَمَّدٍ فِي زَمَانِهِ .
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَرْقَى عَلَى
أَبِي قُبَيْسٍ وَيُنَادِي : أَيُّهَا النَّاسُ ، إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ
الْحَجَّ فَحُجُّوا ، فَلَمْ تَبْقَ نَفْسٌ إلَّا أَبْلَغَ اللَّهُ نِدَاءَ إبْرَاهِيمَ
إلَيْهَا ، فَمَنْ لَبَّى حِينَئِذٍ حَجَّ ، وَمَنْ سَكَتَ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ
نَصِيبٌ ، وَرَبُّنَا عَلَى ذَلِكَ مُقْتَدِرٌ ، فَإِنْ صَحَّ بِهِ الْأَثَرُ
اسْتَمَرَّ عَقِيدَةً وَاسْتَقَرَّ ، وَإِلَّا فَالْأَوَّلُ يَكْفِي فِي
الْمَعْنَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { يَأْتُوك رِجَالًا } قَالَ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ : لَا يُفْتَرَضُ الْحَجُّ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ زَادٌ وَلَا رَاحِلَةٌ ، وَهِيَ الِاسْتِطَاعَةُ ، حَسْبَمَا تُفَسَّرُ فِي حَدِيثِ الْجَوْزِيِّ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي سُورَةِ آلِ عُمْرَانِ ، فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ ، بَيْدَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَصٌّ فِي أَنَّ حَالَ الْحَاجِّ فِي فَرْضِ الْإِجَابَةِ مُنْقَسِمَةٌ إلَى رَاجِلٍ وَرَاكِبٍ ، وَلَيْسَ عَنْ هَذَا لِأَحَدٍ مَذْهَبٌ ، وَلَا بَعْدَهُ فِي الدَّلِيلِ مَطْلَبٌ ، حَسْبَمَا هِيَ عَلَيْهِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَذْهَبِ ، فَإِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ عِنْدَنَا صِفَةُ الْمُسْتَطِيعِ ، وَهِيَ قَائِمَةٌ بِبَدَنِهِ ، فَإِذَا قَدَرَ يَمْشِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْعِبَادَةُ ، وَإِذَا عَجَزَ وَوَجَدَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَتَحَقَّقَ الْوَعْدُ بِالْوَجْهَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ
يَأْتِينَ } يَعْنِي الَّتِي انْضَمَّ جَنْبَاهَا مِنْ الْهُزَالِ حَتَّى
أَكَلَتْهَا الْفَيَافِي ، وَرَعَتْهَا الْمَفَازَاتُ ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ
مِنْهَا أَوَانَ انْفِصَالِهِ مِنْ بَلَدِهِ عَلَى بَدَنٍ ، فَإِنَّ حَرْبَ
الْبَيْدَاءِ وَمُعَالَجَةَ الْأَعْدَاءِ رَدَّهَا هِلَالًا ، فَوَصَفَهَا اللَّهُ
بِالْمَآلِ الَّذِي انْتَهَتْ عَلَيْهِ إلَى مَكَّةَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { يَأْتِينَ } رَدَّ
الضَّمِيرَ إلَى الْإِبِلِ تَكْرِمَةً لَهَا ؛ لِقَصْدِهَا الْحَجَّ مَعَ
أَرْبَابِهَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى
: { وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا } فِي خَيْلِ الْجِهَادِ
تَكْرِمَةً لَهَا حِينَ سَعَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { عَمِيقٍ }
يَعْنِي بَعِيدٌ ، وَبِنَاءُ " عَمُقَ " لِلْبُعْدِ قَالَ الشَّاعِرُ
يَصِفُ قَفْرًا : وَقَاتِمُ الْأَعْمَاقِ خَاوِي الْمُحْتَرَقِ يُرِيدُ
بِالْأَعْمَاقِ الْأَبْعَادَ تَرَى عَلَيْهَا قَتَامًا يُخْتَرَقُ مِنْهَا جَوًّا
خَاوِيًا ، وَتَمْشِي فِيهِ كَأَنَّك وَإِنْ كُنْت مُصْعِدًا هَاوٍ ، وَلِذَلِكَ
يُقَالُ بِئْرٌ عَمِيقَةٌ ، أَيْ بَعِيدَةُ الْقَعْرِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ
{ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ قَبْلَ الْهِجْرَةِ
حَجَّتَيْنِ ، وَحَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ ثَالِثَةً } ،
وَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ حَجَّهُ كَانَ عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ وَدَعْوَتِهِ ،
وَإِنَّمَا حَجَّ عَلَى دِينِهِ وَمِلَّتِهِ تَنَفُّلًا بِالْعِبَادَةِ ، وَاسْتِكْثَارًا
مِنْ الطَّاعَةِ ، فَلَمَّا جَاءَهُ فَرْضُ الْحَجِّ بَعْدَ تَمَلُّكِهِ لِمَكَّةَ
وَارْتِفَاعِ الْعَوَائِقِ ، وَتَطْهِيرِ الْبَيْتِ ، وَتَقْدِيسِ الْحَرَمِ ،
قَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ لِيُقِيمَ لِلنَّاسِ حَجَّهُمْ ، ثُمَّ أَدَّى الَّذِي
عَلَيْهِ فِي الْعَامِ الثَّانِي ، وَقَدْ قَدَّمْنَا وَجْهَ تَأْخِيرِهِ إلَى
حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ قَبْلُ
.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ :
لَمَّا قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَهُ رِجَالًا عَلَى كُلِّ ضَامِرٍ دَلَّ
عَلَى أَنَّ حَجَّ الرَّاجِلِ أَفْضَلُ مِنْ حَجِّ الرَّاكِبِ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّهَا لَحَوْجَاءُ فِي
نَفْسِي أَنْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَحُجَّ مَاشِيًا ، لِأَنِّي سَمِعْت اللَّهَ
يَقُولُ : { يَأْتُوك رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ } فَبَدَأَ بِأَهْلِ الرِّجْلَةِ .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ إبْرَاهِيمَ
وَعِيسَى حَجَّا مَاشِيَيْنِ ، وَإِنَّمَا { حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاكِبًا وَلَمْ يَحُجَّ مَاشِيًا } ؛ لِأَنَّهُ إنْ اقْتَدَى
بِهِ أَهْلُ مِلَّتِهِ لَمْ يَقْدِرُوا ، وَإِنْ قَصَّرُوا عَنْهُ تَحَسَّرُوا ،
وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفًا رَحِيمًا .
وَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ طَافَ رَاكِبًا لِيَرَى
النَّاسُ هَيْئَةَ الطَّوَافِ .
قَوْله تَعَالَى : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ
اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ
فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
هَذِهِ لَامُ الْمَقْصُودِ وَالْفَائِدَةُ الَّتِي يَنْسَاقُ الْحَدِيثُ لَهَا
وَتُنَسَّقُ عَلَيْهِ ، وَأَجَلُّهَا قَوْلُهُ : { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } .
وَقَدْ تَتَّصِلُ بِالْفِعْلِ ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ ؛
وَتَتَّصِلُ بِالْحَرْفِ ، كَقَوْلِهِ { لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ } .
وَقَدْ حَقَّقْنَا مَوْرِدَهَا فِي مَلْجَئَةِ
الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ { مَنَافِعَ } فِيهَا أَرْبَعَةُ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : الْمَنَاسِكُ .
الثَّانِي : الْمَغْفِرَةُ .
الثَّالِثُ : التِّجَارَةُ .
الرَّابِعُ : مِنْ الْأَمْوَالِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ نُسُكٍ وَتِجَارَةٍ وَمَغْفِرَةٍ
وَمَنْفَعَةٍ دُنْيَا وَآخِرَةٌ
.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ عُمُومُ قَوْلِ : { مَنَافِعَ }
فَكُلُّ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ هَذَا الْقَوْلُ ، وَهَذَا يُعَضِّدُهُ مَا
فِي الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } وَذَلِكَ هُوَ التِّجَارَةُ بِإِجْمَاعٍ مِنْ
الْعُلَمَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَيَذْكُرُوا
اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ } فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا عَشْرُ ذِي
الْحِجَّةِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ .
وَبِالْأَوَّلِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمَعْلُومَاتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا يُغْنِي عَنْ
إعَادَتِهِ هَاهُنَا .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ :
الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ النَّحْرِ ؛ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ
بَعْدَهُ .
وَقَالَ : هُوَ النَّهَارُ دُونَ اللَّيْلِ .
وَمِثْلَهُ رَوَى أَشْهَبُ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ
عَنْ مَالِكٍ ، وَثَبَتَ يَقِينًا أَنَّ الْمُرَادَ بِذَكَرِ اسْمِ اللَّهِ
هَاهُنَا الْكِنَايَةُ عَنْ النَّحْرِ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { فَكُلُوا } قَدْ
تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَكْلِ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ ، وَجَرَى فِيهِ شَيْءٌ مِنْ
ذِكْرِ الْهَدْيِ ، وَحَقِيقَتُهُ تَأْتِي بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : { وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ
} : فَأَمَّا الْفَقِيرُ فَهُوَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ عَلَى نَعْتِ مَا
تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ .
وَأَمَّا الْبَائِسُ فَهُوَ الَّذِي ظَهَرَ عَلَيْهِ
الْبُؤْسُ ، وَهُوَ ضَرَرُ الْمَرَضِ أَوْ ضَرَرُ الْحَاجَةِ .
: قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا
نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } : فِيهَا أَرْبَعُ
مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي ذِكْرِ التَّفَثِ : قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ
: هَذِهِ لَفْظَةٌ غَرِيبَةٌ عَرَبِيَّةٌ لَمْ يَجِدْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ فِيهَا
شِعْرًا ، وَلَا أَحَاطُوا بِهَا خَبَرًا ، وَتَكَلَّمَ السَّلَفُ عَلَيْهَا عَلَى
خَمْسَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ
: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ : التَّفَثُ حَلْقُ
الشَّعْرِ ، وَلُبْسُ الثِّيَابِ ، وَمَا أَتْبَعَ ذَلِكَ مِمَّا يَحِلُّ بِهِ
الْمُحْرِمُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ مَنَاسِكُ الْحَجِّ ؛ رَوَاهُ ابْنُ
عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّالِثُ : حَلْقُ الرَّأْسِ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الرَّابِعُ : رَمْيُ الْجِمَارِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الْخَامِسُ :
إزَالَةُ قَشَفِ الْإِحْرَامِ ، مِنْ تَقْلِيمِ
أَظْفَارٍ ، وَأَخْذِ شَعْرٍ ، وَغُسْلٍ ، وَاسْتِعْمَالِ طِيبٍ قَالَهُ الْحَسَنُ
، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ الْأَوَّلُ
.
فَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ فَلَوْ
صَحَّ عَنْهُمَا لَكَانَ حُجَّةً ، لِشَرَفِ الصُّحْبَةِ وَالْإِحَاطَةِ
بِاللُّغَةِ .
وَأَمَّا قَوْلُ قَتَادَةَ إنَّهُ حَلْقُ الرَّأْسِ
فَمِنْ قَوْلِ مَالِكٍ .
وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ إنَّهُ رَمْيُ الْجِمَارِ
فَمِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، ثُمَّ تَتَبَّعْت التَّفَثَ لُغَةً
فَرَأَيْت أَبَا عُبَيْدَةَ مَعْمَرَ بْنَ الْمُثَنَّى قَدْ قَالَ : إنَّهُ قَصُّ الْأَظْفَارِ
، وَأَخْذُ الشَّارِبِ ، وَكُلُّ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ ، إلَّا
النِّكَاحُ ، وَلَمْ يَجِيءَ فِيهِ بِشِعْرٍ يُحْتَجُّ بِهِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ : التَّفَثُ هُوَ الرَّمْيُ ،
وَالْحَلْقُ ، وَالتَّقْصِيرُ ، وَالذَّبْحُ ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ وَالشَّارِبِ
، وَنَتْفُ الْإِبْطِ .
وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ نَحْوَهُ ، وَلَا
أُرَاهُ أَخَذَهُ إلَّا مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ قُطْرُبٌ : تَفِثَ الرَّجُلُ إذَا كَثُرَ
وَسَخُهُ ، وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ : حَفُّوا رُءُوسَهُمْ لَمْ
يَحْلِقُوا تَفَثًا وَلَمْ يَسُلُّوا لَهُمْ قَمْلًا وَصِئْبَانًا وَإِذَا
انْتَهَيْتُمْ إلَى هَذَا الْمَقَامِ ظَهَرَ لَكُمْ أَنَّ مَا
ذُكِرَ أَشَارَ إلَيْهِ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ ، وَمَا ذَكَرَهُ
قُطْرُبٌ هُوَ الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي التَّفَثِ ،
وَهَذِهِ صُورَةُ قَضَاءِ التَّفَثِ لُغَةً .
وَأَمَّا حَقِيقَتُهُ الشَّرْعِيَّةُ فَإِذَا نَحَرَ
الْحَاجُّ أَوْ الْمُعْتَمِرُ هَدْيَهُ ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ ، وَأَزَالَ وَسَخَهُ
، وَتَطَهَّرَ وَتَنَقَّى ، وَلَبِسَ الثِّيَابَ ، فَيَقْضِي تَفَثَهُ وَأَمَّا
وَفَاءُ نَذْرِهِ ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَإِنَّ النَّذْرَ كُلُّ مَا لَزِمَ
الْإِنْسَانَ أَوْ الْتَزَمَهُ .
وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ
الْقَاسِمِ وَابْنِ بُكَيْر : إنَّهُ رَمْيُ الْجِمَارِ ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ هُوَ الْعَقْلُ
، فَهُوَ رَمْيُ الْجِمَارِ ، لِأَجَلِ النَّذْرِ يَعْنِي بِالْعَقْلِ الدِّيَةَ .
وَالْأَوَّلُ أَقْوَى : لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ
بِرَمْيِ الْجِمَارِ ، وَبِنَحْرِ الْهَدْيِ ، وَيَجْتَنِبُ الْوَطْءَ وَالطِّيبَ
، حَتَّى تَقَعَ الزِّيَارَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } هَذَا هُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ ، وَهُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ ، وَهُوَ رُكْنُ الْحَجِّ بِاتِّفَاقٍ ، وَبِهِ يَتِمُّ الْحَجُّ ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ أَعْمَالِهِ وَنِهَايَةُ أَرْكَانِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ } : وَفِي تَسْمِيَتِهِ بِالْعَتِيقِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مِنْ عَتُقَ
أَيْ قَدُمَ ؛ إذْ هُوَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ عَتَقَ ، أَيْ خَلُصَ مِنْ
الْجَبَابِرَةِ عَنْ الْهَوَانِ إلَى انْقِضَاءِ الزَّمَانِ ، حَسْبَمَا
بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ .
قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ
خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الْأَنْعَامُ إلَّا مَا يُتْلَى
عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ
الزُّورِ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
الْحُرُمَاتُ : امْتِثَالُ مَا أَمَرَ بِهِ ، وَاجْتِنَابُ مَا نَهَى عَنْهُ ،
فَإِنَّ لِهَذَا حُرْمَةَ الْمُبَادَرَةِ إلَى الِامْتِثَالِ ، وَلِذَلِكَ
حُرْمَةُ الِانْكِفَافِ وَالِانْزِجَارِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَأُحِلَّتْ لَكُمْ
الْأَنْعَامُ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي
سُورَةِ الْمَائِدَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ } وَصَفَ اللَّهُ الْأَوْثَانَ بِأَنَّهَا رِجْسٌ ، وَالرِّجْسُ النَّجِسُ ، وَهِيَ نَجِسَةٌ حُكْمًا ، وَالنَّجَاسَةُ لَيْسَتْ وَصْفًا ذَاتِيًّا لِلْأَعْيَانِ ، وَإِنَّمَا هِيَ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ ، وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّهَا لَا تُزَالُ إلَّا بِالْإِيمَانِ كَمَا لَمْ تَجُزْ الطَّهَارَةُ فِي الْأَعْضَاءِ إلَّا بِالْمَاءِ ، إذْ الْمَنْعَانِ مُتَمَاثِلَانِ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ لَيْسَا بِجِنْسَيْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ
} وَهُوَ الْكَذِبُ .
وَلَهُ مُتَعَلِّقَاتٌ ، أَعْظَمُهَا عُقُوبَةُ الْكَذِبِ
عَلَى اللَّهِ فِي ذَاتِهِ ، أَوْ صِفَاتِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ ، وَهُوَ الشِّرْكُ .
وَيُلْحَقُ بِهِ الْكَذِبُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى اللَّهِ ؛ إذْ بِكَلَامِهِ
يَتَكَلَّمُ .
الْمُتَعَلِّقُ الثَّانِي : الشَّهَادَةُ .
وَهُوَ تَصْوِيرُ الْبَاطِلِ بِصُورَةِ الْحَقِّ فِي
طَرِيقِ الْحُكْمِ ؛ { وَلِهَذَا عَظَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمْرَهَا ، فَذَكَرَ الْكَبَائِرَ ، فَقَالَ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ
، وَشَهَادَةُ الزُّورِ } ، ثُمَّ قَالَ : { وَقَوْلُ الزُّورِ ، أَلَا وَقَوْلُ
الزُّورِ .
فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا : لَيْتَهُ
سَكَتَ } .
وَمِنْ طَرِيقٍ آخَرَ : { عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ
الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ
الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } } .
ثُمَّ تَتَفَاوَتُ مُتَعَلِّقَاتُ الْكَذِبِ بِحَسَبِ
عِظَمِ ضَرَرِهِ وَقِلَّتِهِ .
قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا
مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا
إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ
} .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :
{ شَعَائِرَ اللَّهِ } : وَاحِدُهَا شَعِيرَةٌ ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهَا
الْمَعَالِمُ .
وَحَقِيقَتُهَا أَنَّهَا فَعِيلَةٌ ، مِنْ شَعَرَتْ ،
بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ .
وَشَعَرْتُ :
دَرَيْتُ ، وَتَفَطَّنْتُ ، وَعَلِمْتُ ، وَتَحَقَّقْتُ
؛ كُلَّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي الْأَصْلِ ، وَتَتَبَايَنُ الْمُتَعَلِّقَاتُ فِي
الْعُرْفِ ، هَذَا مَعْنَاهُ لُغَةً
.
فَأَمَّا الْمُرَادُ بِهَا فِي الشَّرْعِ ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ :
أَنَّهَا عَرَفَةُ ، وَالْمُزْدَلِفَةُ ، وَالصَّفَا ، وَالْمَرْوَةُ ، وَمَحَلُّ
الشَّعَائِرِ إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ .
قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ .
الثَّانِي : أَنَّهَا مَنَاسِكُ الْحَجِّ وَتَعْظِيمُهُ
اسْتِيفَاؤُهَا .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا الْبُدْنُ ، وَتَعْظِيمُهَا
اسْتِسْمَانُهَا .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ دِينُ اللَّهِ وَكُتُبُهُ ،
وَتَعْظِيمُهَا الْتِزَامُهَا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا جَمِيعُ مَنَاسِكِ الْحَجِّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { فَإِنَّهَا
مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } يُرِيدُ فَإِنَّ حَالَةَ التَّعْظِيمِ إذَا كَسَتْ الْعَبْدَ
بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَأَصْلُهُ تُقَاةُ الْقَلْبِ بِصَلَاحِ السِّرِّ وَإِخْلَاصِ
النِّيَّةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّعْظِيمَ مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ ، وَهُوَ
الْأَصْلُ لِتَعْظِيمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَفْعَالِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } :
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا التِّجَارَةُ ؛ وَيَكُونُ
الْأَجَلُ عَلَى هَذَا الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمَنَافِعَ الثَّوَابُ ،
وَالْأَجَلَ يَوْمُ الدِّينِ .
الثَّالِثُ :
أَنَّ الْمَنَافِعَ الرُّكُوبُ ، وَالدُّرُّ وَالنَّسْلُ
، وَالْأَكْلُ ؛ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّهَا الْبُدْنُ ، وَالْأَجَلَ
إيجَابُ الْهَدْيِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا الْبُدْنُ ، وَتَدُلُّ عَلَى غَيْرِهَا
إمَّا مِنْ طَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ ، وَإِمَّا مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى
الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } : يُرِيدُ أَنَّهَا تَنْتَهِي إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ،
وَهُوَ الطَّوَافُ ؛ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ : إنَّ الْحَجَّ كُلَّهُ فِي كِتَابِ
اللَّهِ ، يَعْنِي أَنَّ شَعَائِرَ الْحَجِّ كُلَّهَا تَنْتَهِي إلَى الطَّوَافِ
بِالْبَيْتِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : تَنْتَهِي إلَى مَكَّةَ ، هَذَا
عُمُومٌ لَا يُفِيدُ شَيْئًا فَإِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِذِكْرِ الْبَيْتِ ، فَلَا
مَعْنَى لِإِلْغَائِهِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : إنَّهُ إلَى الْحِلِّ
وَالْحَرَمِ ، وَهَذَا إنَّمَا بَنَوْهُ عَلَى أَنَّ الشَّعَائِرَ هِيَ الْبُدْنُ
، وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ
الشَّعَائِرِ مَعَ عُمُومِهَا .
قَوْله تَعَالَى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ
اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إلَهٌ
وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرْ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ
اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي
الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قُرِئَ مَنْسِكٌ
بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا ، وَبَابُ مَفْعَلُ فِي اللُّغَةِ يَخْتَلِفُ حَالُ
دَلَالَتِهِ بِاخْتِلَافِ حَالِ فِعْلِهِ ؛ فَإِذَا كَانَ مَكْسُورَ الْعَيْنِ فِي
الْمُسْتَقْبَلِ فَاسْمُ الْمَكَانِ مِنْهُ مَفْعَلُ ، وَالْمَصْدَرُ مَفْتُوحُ
الْعَيْنِ ، وَاسْمُ الزَّمَانِ مِنْهُ كَاسْمِ الْمَكَانِ ، قَالُوا : أَتَتْ
النَّاقَةُ عَلَى مَضْرِبِهَا وَمَحْلَبِهَا .
وَمَا كَانَ الْعَيْنُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْهُ
مَفْتُوحًا فَالْمَصْدَرُ وَالْمَكَانُ مَفْتُوحَانِ ، كَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ
، وَيَأْتِي لِغَيْرِهِ كَالْمَكْبَرِ مِنْ كَبُرَ يَكْبُرُ ، وَمَا كَانَ عَلَى
فَعَلَ يَفْعُلُ بِضَمِّ الْعَيْنِ فَبِمَنْزِلَةِ مَا كَانَ عَلَى يَفْعَلُ
مَفْتُوحًا ، لَمْ يَقُولُوا فِيهِ مَفْعَلُ بِضَمِّ الْعَيْنِ .
وَقَدْ جَاءَ الْمَصْدَرُ مَكْسُورًا فِي هَذَا الْبَابِ
، قَالُوا مَطْلِعَ الشَّمْسِ ، وَالْحِجَازِيُّونَ يَفْتَحُونَهُ ، وَقَدْ
كَسَرُوا اسْمَ الْمَكَانِ أَيْضًا ، فَقَالُوا : الْمَنْبِتُ لِمَوْضِعِهِ ، وَالْمَطْلِعُ
لِمَوْضِعِهِ ، فَعَلَى هَذَا قُلْ : مَنْسَكًا وَمَنْسِكًا بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ ، فَقِيلَ : مَعْنَى مَنْسَكًا حَجًّا .
قَالَهُ قَتَادَةُ .
وَقِيلَ : ذَبْحًا قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
وَقِيلَ : عِيدًا قَالَهُ الْفَرَّاءُ .
وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ نَسَكْت ، وَلَهُ فِي اللُّغَةِ
مَعَانٍ : الْأَوَّلُ : تَعَبَّدْت ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { وَأَرِنَا
مَنَاسِكَنَا } خُصَّ فِي الْحَجِّ عَلَى عَادَةِ اللُّغَةِ .
الثَّانِي : قَالَ ثَعْلَبٌ : هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ
النَّسِيكَةِ ، وَالنَّسِيكَةُ : الْمُخَلَّصَةُ مِنْ الْخَبَثِ ، وَيُقَالُ
لِلذَّبْحِ نُسُكٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْعِبَادَاتِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ
؛ لِأَنَّهُ لَا يُذْبَحُ لِغَيْرِهِ
.
وَادَّعَى ابْنُ عَرَفَةَ أَنَّ مَعْنَى نَسَكْت ذَهَبْت
، وَكُلُّ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبًا فَقَدْ نَسَكَ .
وَلَا يَرْجِعُ إلَّا إلَى الْعِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ .
وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَلَمَّا رَأَى قَوْمٌ أَنَّ الْعِبَادَةَ تَتَكَرَّرُ
قَالَ : إنَّ نَسَكْت بِمَعْنَى تَعَهَّدْت .
وَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْفَرَّاءُ مِنْ أَنَّهُ
الْعِيدُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْمَنَاسِكِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ }
يَعْنِي يَذْبَحُونَهَا لِلَّهِ دُونَ غَيْرِهِ فِي هَدْيٍ أَوْ ضَحِيَّةٍ
حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي إقَامَةِ الصَّلَاةِ :
وَقَدْ تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ .
الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا
لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا
صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جَنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ
وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
فِيهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ
اللَّهِ } الْبُدْنُ جَمْعُ بَدَنَةٍ ، وَهِيَ الْوَاحِدَةُ مِنْ الْإِبِلِ ،
سُمِّيَتْ بِذَلِكَ مِنْ الْبَدَانَةِ وَهِيَ السِّمَنُ ، يُقَالُ : بَدُنَ
الرَّجُلُ بِضَمِّ الْعَيْنِ : إذَا سَمِنَ ، وَبَدَّنَ بِتَشْدِيدِهَا : إذَا
كَبِرَ وَأَسَنَّ ، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا بِصِفَتِهَا لِيُنَبِّهَ بِذَلِكَ عَلَى
اخْتِيَارِهَا ، وَتَعْيِينِ الْأَفْضَلِ مِنْهَا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ مَا
اُخْتِيرَ لَهُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ وَعَطَاءٍ أَنَّ الْبَقَرَةَ
يُقَالُ لَهَا بَدَنَةٌ وَحَكَى ابْنُ شَجَرَةَ أَنَّهُ يُقَالُ فِي الْغَنَمِ ، وَهُوَ
قَوْلٌ شَاذٌّ ، وَالْبُدْنُ هِيَ الْإِبِلُ .
وَالْهَدْيُ عَامٌّ فِي الْإِبِلِ ، وَالْبَقَرِ ،
وَالْغَنَمِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهَا بَعْضُ
الشَّعَائِرِ ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لَكُمْ فِيهَا
خَيْرٌ } يَعْنِي مَنْفَعَةَ اللِّبَاسِ وَالْمَعَاشِ وَالرُّكُوبِ وَالْأَجْرِ ،
فَأَمَّا الْأَجْرُ فَهُوَ خَيْرٌ مُطْلَقًا ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَهُوَ خَيْرٌ
إذَا قَوَّى عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ
.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا
صَوَافَّ } : فِيهَا ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ : صَوَافَّ بِفَاءٍ مُطْلَقَةٍ ،
قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ .
صَوَافِنَ بِنُونٍ ، قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ .
صَوَافِّي بِيَاءٍ مُعْجَمَةٍ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ
تَحْتِهَا ، قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ .
فَأَمَّا قَوْلُ صَوَافَّ فَمِنْ صَفَّ يَصُفُّ إذَا
كَانَتْ جُمْلَةً ؛ مِنْ مَقَامٍ أَوْ قُعُودٍ ، أَوْ مُشَاةٍ ، بَعْضُهَا إلَى
جَانِبِ بَعْضٍ عَلَى الِاسْتِوَاءِ ، وَيَكُونُ مَعْنَاهَا هَاهُنَا صَفَّتْ
قَوَائِمَهَا فِي حَالِ نَحْرِهَا ، أَوْ صَفَّتْ أَيْدِيَهَا قَالَ مُجَاهِدٌ .
وَأَمَّا صَوَافِنُ فَالصَّافِنُ هُوَ الْقَائِمُ .
وَقِيلَ : هُوَ الَّذِي يَثْنِي إحْدَى رِجْلَيْهِ .
وَأَمَّا صَوَافِّي فَهُوَ جَمْعُ صَافِيَةٍ ، وَهِيَ
الَّتِي أَخْلَصَتْ لِلَّهِ نِيَّةً وَجَلَالًا ، وَإِشْعَارًا وَتَقْلِيدًا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا إشْعَارَ ، وَهُوَ
بِدْعَةٌ ؛ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ ؛ وَكَأَنَّهُ لَا خَبَرَ عِنْدَهُ لِلسُّنَّةِ
الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ ، وَلَا لِلْأَحَادِيثِ الْمُتَعَاضِدَةِ ، فَهِيَ فِعْلُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ بَعْدَهُ وَمَعَهُ وَالْخُلَفَاءُ
لِلْإِشْعَارِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ } يَعْنِي انْحَرُوهَا ، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ ذِكْرَ
اللَّهِ اسْمٌ صَارَ كِنَايَةً عَنْ النَّحْرِ وَالذَّبْحِ ، لِمَا بَيَّنَّا مِنْ
أَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ وَأَصْلٌ مَعَهُ
.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فِي كَيْفِيَّةِ نَحْرِ الْهَدْيِ : وَفِيهِ
أَقْوَالٌ : الْأَوَّلُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي
ذِئْبٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ الصَّوَافِّ ، فَقَالَ : يُقَيِّدُهَا
ثُمَّ يَصُفُّهَا .
وَقَالَ لِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مِثْلَهُ .
وَقَالَ
: فَيَنْحَرُهَا قَائِمَةً ، وَلَا يَعْقِلُهَا ، إلَّا
أَنْ يَضْعُفَ إنْسَانٌ فَيَتَخَوَّفَ أَنْ تَتَفَلَّتَ بَدَنَتُهُ ، فَلَا بَأْسَ
بِأَنْ يَنْحَرَهَا مَعْقُولَةً ، وَإِنْ كَانَ يَقْوَى عَلَيْهَا فَلْيَنْحَرْهَا
قَائِمَةً مَصْفُوفَةً يَدَاهَا بِالْقُيُودِ .
قَالَ
: وَسَأَلْت مَالِكًا عَنْ الْبَدَنَةِ تُنْحَرُ وَهِيَ
قَائِمَةٌ هَلْ تُعَرْقَبُ ؟ قَالَ : مَا أُحِبُّ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ
الْإِنْسَانُ يَضْعُفُ عَنْهَا ، فَلَا يَقْوَى عَلَيْهَا ، فَيَخَافُ أَنْ
تَتَفَلَّتَ مِنْهُ ، فَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يُعَرْقِبَهَا ، وَهَذِهِ
الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ لِلْعُلَمَاءِ : الْأَوَّلُ : يُقِيمُهَا .
الثَّانِي : يُقَيِّدُهَا أَوْ يَعْقِلُهَا .
الثَّالِثُ : يُعَرْقِبُهَا .
وَزَادَ مَالِكٌ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ يَخْتَلِفُ
بِحَسَبِ قُوَّةِ الرَّجُلِ وَضَعْفِهِ
.
وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِثْلُهُ .
وَالْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ :
الْأَوَّلُ : فِي نَحْرِهَا مُقَيَّدَةً : فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ
أَنَّهُ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ فَنَحَرَهَا قَالَ : "
ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ " .
الثَّانِي : فِي نَحْرِهَا قَائِمَةً : فِي الصَّحِيحِ
عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ
بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قِيَامًا
} .
وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَأْخُذُ الْحَرْبَةَ
بِيَدِهِ فِي عُنْفُوَانِ أَيْدِهِ فَيَنْحَرُ بِهَا فِي صَدْرِهَا وَيُخْرِجُهَا
عَلَى سَنَامِهَا ، فَلَمَّا أَسَنَّ كَانَ يَنْحَرُهَا بَارِكَةً لِضَعْفِهِ ،
وَيُمْسِكُ مَعَهُ رَجُلٌ الْحَرْبَةَ ، وَآخَرُ بِخِطَامِهَا .
وَالْعَقْلُ بَعْضُ تَقْيِيدٍ ، وَالْعَرْقَبَةُ
تَعْذِيبٌ لَا أَرَاهُ إلَّا لَوْ نَدَّ ، فَلَا بَأْسَ بِعَرْقَبَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا } يَعْنِي
سَقَطَتْ عَلَى جُنُوبِهَا ، يُرِيدُ مَيِّتَةً ، كَنَّى عَنْ الْمَوْتِ بِالسُّقُوطِ عَلَى الْجَنْبِ ، كَمَا كَنَّى عَنْ النَّحْرِ وَالذَّبْحِ بِذَكَرِ اسْمِ اللَّهِ ، وَالْكِنَايَاتُ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ أَبْلَغُ مِنْ التَّصْرِيحِ قَالَ الشَّاعِرُ : لِمُعَفَّرٍ قَهْدٌ يُنَازِعُ شِلْوَهُ غُبْسٌ كَوَاسِبُ مَا يُمَنَّ طَعَامُهَا وَقَالَ آخَرُ : فَتَرَكْنَهُ جَزْرَ السِّبَاعَ يَنُشْنَهُ مَا بَيْنَ قُلَّةِ رَأْسِهِ وَالْمِعْصَمِ فِي مَعْنَاهُ ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَكُلُوا مِنْهَا }
وَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْهَدْيُ تَطَوُّعًا أَوْ وَاجِبًا ، فَأَمَّا هَدْيُ
التَّطَوُّعِ فَيَأْكُلُ مِنْهُ ، وَأَمَّا الْهَدْيُ الْوَاجِبُ فَلِلْعُلَمَاءِ
فِيهِ أَقْوَالٌ ، أُصُولُهَا ثَلَاثَةٌ : الْأَوَّلُ : لَا يَأْكُلُ مِنْهُ
بِحَالٍ ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ
.
الثَّانِي
: أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ هَدْيِ التَّمَتُّعِ
وَالْقِرَانِ ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْ الْوَاجِبِ بِحُكْمِ الْإِحْرَامِ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ .
الثَّالِثُ :
أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ الْوَاجِبِ كُلِّهِ إلَّا مِنْ
ثَلَاثٍ : جَزَاءُ الصَّيْدِ ، وَفِدْيَةُ الْأَذَى ، وَنَذْرُ الْمَسَاكِينِ .
وَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ
إخْرَاجُهُ مِنْ مَالِهِ ، فَكَيْفَ يَأْكُلُ مِنْهُ ؟ وَتَعَلَّقَ أَبُو
حَنِيفَةَ بِأَنَّ مَا وَجَبَ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ الْتَحَقَ بِجَزَاءِ الصَّيْدِ .
وَتَعَلَّقَ مَالِكٌ بِأَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ جَعَلَهُ
اللَّهُ لِلْمَسَاكِينِ بِقَوْلِهِ : { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } ،
وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ ، وَقَالَ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى : {
فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } .
{ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي فِدْيَةِ الْأَذَى : وَأَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ مُدَّيْنِ لِكُلِّ
مِسْكِينٍ } ، وَنَذْرُ الْمَسَاكِينِ مُصَرَّحٌ بِهِ ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ
مِنْ الْهَدَايَا فَهُوَ عَلَى أَصْلِ قَوْله تَعَالَى : { وَالْبُدْنَ
جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا
اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا
الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } .
وَهَذَا نَصٌّ فِي إبَاحَةِ الْأَكْلِ ، وَقَدْ ثَبَتَ
فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ
بُدْنَهُ ، وَأَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ ، فَطَبَخَهَا وَأَكَلَ
مِنْهَا ، وَشَرِبَ مِنْ مَرَقِهَا ، وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ وَاجِبًا ، وَهُوَ
دَمُ الْقِرَانِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي حَجِّهِ } .
وَإِنَّمَا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَكْلِ
لَأَجْلِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَرَى أَنْ تَأْكُلَ مِنْ
نُسُكِهَا ، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِمُخَالَفَتِهِمْ ، فَلَا جَرَمَ
كَذَلِكَ شُرِعَ وَبَلَّغَ ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ حِينَ أَهْدَى وَأَحْرَمَ .
وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ غَيْرُ صَحِيحٍ .
فَلَيْسَتْ الْعِلَّةُ مَا ذُكِرَ مِنْ الْحَظْرِ ،
وَإِنَّمَا هُوَ دَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حُكْمِ قَوْله
تَعَالَى { فَكُلُوا } ، { وَأَطْعِمُوا }
عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُمَا وَاجِبَانِ قَالَهُ أَبُو الطَّيِّبِ
بْنُ أَبِي ثَعْلَبَةَ .
الثَّانِي : أَنَّهُمَا مُسْتَحَبَّانِ قَالَهُ ابْنُ
شُرَيْحٍ .
الثَّالِثُ :
أَنَّ الْأَكْلَ مُسْتَحَبٌّ ، وَالْإِطْعَامَ وَاجِبٌ ؛
قَالَهُ الشَّافِعِيُّ ، وَهُوَ صَرِيحُ قَوْلِ مَالِكٍ ؛ فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُمَا وَاجِبَانِ
فَتَعَلَّقَ بِظَاهِرِ الْقَوْلِ ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ
الْجَاهِلِيَّةِ ، فَفِيهِ غَرِيبَةٌ مِنْ الْفِقْهِ لَمْ تَقَعْ لِي ، مُذْ
قَرَأْت الْعِلْمَ ، لَهَا نَظِيرٌ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ :
إنَّهُمَا جَمِيعًا يُتْرَكَانِ ؛ لِأَنَّهُمَا مُسْتَحَبَّانِ لَمْ يُتَصَوَّرْ
شَرْعًا ، فَإِنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ إلَّا إتْلَافُهَا ، وَذَلِكَ لَا
يَجُوزُ ، فَلَا يَصِحُّ اسْتِحْبَابُهُمَا مَعًا ؛ وَإِنَّمَا يُقَالُ
أَحَدُهُمَا وَاجِبٌ عَلَى الْبَدَلِ ، أَوْ يُقَالُ الْأَكْلُ مُسْتَحَبٌّ ،
وَالْإِطْعَامُ وَاجِبٌ ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ .
وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْأَكْلَ وَاجِبٌ ، وَقَدْ
احْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا بِأَمْثِلَةٍ وَرَدَتْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ ، وَلَمْ تَكُنْ
وَاجِبَةً ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَقَطَ أَمْرٌ
بِدَلِيلٍ لَا يَسْقُطُ غَيْرُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : إذَا أَكَلَ مِنْ لَحْمِ الْهَدْيِ الَّذِي
لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ ، فَفِيهِ لِعُلَمَائِنَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا
وَقَعَ فِي الْمَدِينَةِ أَنَّهُ إنْ كَانَ جَهْلٌ فَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ ، وَلَا
شَيْءَ عَلَيْهِ .
قَالَ مَالِكٌ : وَقَدْ كَانَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ يَقُولُونَ : يَأْكُلُ مِنْهُ .
وَقَالَ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِنَا : إنَّهُ
إذَا أَكَلَ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ أَوْ فِدْيَةِ الْأَذَى بَعْدَ أَنْ بَلَغَ
مَحَلَّتَهُ غَرِمَ .
وَمَاذَا يَغْرَمُ ؟ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُ
الْهَدْيَ كُلَّهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ .
الثَّانِي : لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا غُرْمُ قَدْرِ مَا
أَكَلَ ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ ، لَا شَيْءَ غَيْرُهُ .
وَكَذَا لَوْ نَذَرَ هَدْيَ الْمَسَاكِينِ ، فَأَكَلَ
مِنْهُ بَعْدَ أَنْ بَلَغَ مَحِلَّهُ لَا يَغْرَمُ إلَّا مَا أَكَلَ ، خِلَافًا
لِلْمُدَوِّنَةِ ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدِي مَا ذَكَرْته لَكُمْ ، إذْ
النَّحْرُ قَدْ وَقَعَ ، وَالتَّعَدِّي إنَّمَا هُوَ فِي اللَّحْمِ ، فَيَغْرَمُ
بِقَدْرِ مَا تَعَدَّى فِيهِ .
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَا يَغْرَمُ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : فَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : إنَّهُ يَغْرَمُ قِيمَةَ اللَّحْمِ .
وَقَالَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ وَابْنِ حَبِيبٍ عَنْ
عَبْدِ الْمَلِكِ : إنَّهُ يَغْرَمُهُ طَعَامًا .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ إنَّمَا هُوَ
فِي مُقَابَلَةِ الْهَدْيِ كُلِّهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ عِبَادَةً ، وَلَيْسَ
حُكْمُ التَّعَدِّي حُكْمَ الْعِبَادَةِ ، فَأَمَّا إذَا عَطِبَ الْوَاجِبُ
كُلُّهُ قَبْلَ مَحَلِّهِ فَلِيَأْكُلْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ بَدَلَهُ ،
وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَعَطِبَ قَبْلَ
مَحَلِّهِ لَمْ يَأْكُلْ ؛ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ أَنْ يَكُونَ أَسْرَعَ بِهِ
لِيَأْكُلَهُ ، وَهَذَا مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ
عَشْرَةَ : الْقَانِعَ : وَالْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : الْمُعْتَرَّ : وَفِي
ذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ
: الْقَانِعُ الْفَقِيرُ ، وَالْمُعْتَرُّ الزَّائِرُ .
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ ، وَعُقْبَةُ :
السَّائِلُ ، وَقَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ .
الثَّالِثُ : الْمُعْتَرُّ الَّذِي يَعْتَرِيك ؛ قَالَهُ
مُجَاهِدٌ ، وَالْقَانِعُ الْجَالِسُ فِي بَيْتِهِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الرَّابِعُ : الْقَانِعُ الَّذِي يَرْضَى بِالْقَلِيلِ .
وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَمُرُّ بِك وَلَا يُبَايِتُكَ ؛
قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ .
الْخَامِسُ : الَّذِي يَقْنَعُ هُوَ الْمُتَعَفِّفُ ،
وَالْمُعْتَرُّ السَّائِلُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : هَذِهِ الْأَقْوَالُ
مُتَقَارِبَةٌ ، فَأَمَّا الْقَانِعُ فَفِعْلُهُ قَنَعَ يَقْنَعُ ، وَلَهُ فِي
اللُّغَةِ مَعْنَيَانِ : أَحَدُهُمَا الَّذِي يَرْضَى بِمَا عِنْدَهُ .
وَالثَّانِي : الَّذِي يُذَلُّ ، وَكِلَاهُمَا
يَنْطَلِقُ عَلَى الْفَقِيرِ ، فَإِنَّهُ ذَلِيلٌ .
فَإِنْ وَقَفَ عِنْدَ رِزْقِهِ فَهُوَ قَانِعٌ ، وَإِنْ
لَمْ يَرْضَ فَهُوَ مُلْحِفٌ .
وَأَمَّا الْمُعْتَرُّ وَالْمُعْتَرِي فَهُمَا
مُتَقَارِبَانِ مَعْنًى ، مَعَ افْتِرَاقِهِمَا اشْتِقَاقًا ، فَالْمُعْتَرُّ
مُضَاعَفٌ ، وَالْمُعْتَرِي مُعْتَلُّ اللَّامِ ، وَمِنْ النَّادِرِ فِي
الْعَرَبِيَّةِ كَوْنُهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ قَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ :
وَشَيْبَةُ فِيهِمْ وَالْوَلِيدُ وَمِنْهُمْ أُمَيَّةُ مَأْوَى الْمُعْتَرِينَ
وَذِي الرَّحَلِ يُرِيدُ بِالْمُعْتَرِينَ مَنْ يُقِيمُ لِلزِّيَارَةِ ، وَذُو
الرَّحْلِ مَنْ يَمُرُّ بِك فَتُضَيِّفُهُ .
وَقَالَ زُهَيْرٌ : عَلَى مُكْثِرِيهِمْ رِزْقُ مَنْ
يَعْتَرِيهِمْ وَعِنْدَ الْمُقِلِّينَ السَّمَاحَةُ وَالْبَذْلُ وَيُعَضِّدُ هَذَا
قَوْله تَعَالَى : { إنْ نَقُولُ إلَّا اعْتَرَاك بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ }
يُرِيدُ نَزَلَ بِك ؛ فَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمُعْتَلِّ .
وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي الْمُضَاعَفِ ، فَكَقَوْلِ
الشَّاعِرِ : يُعْطِي ذَخَائِرَ مَالِهِ مُعَتَّرَهُ قَبْلَ السُّؤَالِ وَقَالَ
الْكُمَيْتُ : أَيَا خَيْرَ مَنْ يَأْتِهِ الطَّارِقُو نَ إمَّا
عِيَادًا وَإِمَّا اعْتِرَارًا وَقَالَ آخَرُ : لَمَالُ الْمَرْءِ
يُصْلِحُهُ فَيُغْنِي مَفَاقِرَهُ أَعَفُّ مِنْ الْقُنُوعِ قَالَ الْقَاضِي
الْإِمَامُ : وَاَلَّذِي عِنْدِي فِيهِ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِمَا مُتَقَارِبٌ
كَتَقَارُبِ مَعْنَى الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ .
وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْأَكْلِ
وَإِطْعَامِ الْفَقِيرِ .
وَالْفَقِيرُ عَلَى قِسْمَيْنِ : مُلَازِمٌ لَك ،
وَمَارٌّ بِك ، فَأَذِنَ اللَّهُ فِي إطْعَامِ الْكُلِّ مِنْهُمَا مَعَ اخْتِلَافِ
حَالِهِمَا ، وَمِنْ هَاهُنَا وَهِمَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهِ ، فَقَالَ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : إنَّ الْقَانِعَ هُوَ جَارُك الْغَنِيُّ ، وَلَيْسَ
لِذَلِكَ وَجْهٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ الْهَدْيَ
يُقَسَّمُ أَثْلَاثًا : قِسْمٌ يَأْكُلُهُ صَاحِبُهُ ، وَقِسْمٌ يَأْخُذُهُ الْقَانِعُ
، وَقِسْمٌ يَأْخُذُهُ الْمُعْتَرُّ ، وَإِنَّمَا يُقَسَّمُ قِسْمَيْنِ : قِسْمٌ
يَأْخُذُهُ الْآكِلُ ، وَقِسْمٌ يَأْخُذُهُ الْقَانِعُ وَالْمُعْتَرُّ ؛ وَلِهَذَا
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : لَيْسَ عِنْدَنَا فِي الضَّحَايَا قِسْمٌ
مَعْلُومٌ مَوْصُوفٌ .
قَالَ مَالِكٌ فِي حَدِيثِهِ : بَلَغَنِي عَنْ ابْنِ
مَسْعُودٍ شَيْءٌ لَيْسَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَنَا ، وَهُوَ الَّذِي أَشَرْنَا
إلَيْهِ : قِسْمَتُهَا أَثْلَاثًا
.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ
فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
لِيُجَزَّأَ أَثْلَاثًا ؛ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ لَيْسَ
بِأَصْلٍ يُرْجَعُ إلَيْهِ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ثَوْبَانَ : { ضَحَّى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ ثُمَّ قَالَ لِي :
أَصْلِحْ لَحْمَهَا ، فَمَا زَالَ يَأْكُلُ مِنْهُ ، حَتَّى قَدِمْنَا
الْمَدِينَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ صَدَقَةً
} .
وَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ .
الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا
وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا
لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْلُهُ : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ } مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَةِ ؛ فَإِنَّ
النَّيْلَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَارِئِ سُبْحَانَهُ ، وَلَكِنْ عَبَّرَ بِهِ
تَعْبِيرًا مَجَازِيًّا عَنْ الْقَبُولِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا نَالَ الْإِنْسَانَ
مُوَافِقٌ أَوْ مُخَالِفٌ ؛ فَإِنْ نَالَهُ مُوَافِقٌ قَبِلَهُ ، أَوْ مُخَالِفٌ
كَرِهَهُ ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْأَفْعَالِ بَدَنِيَّةً كَانَتْ أَوْ مَالِيَّةً بِالْإِضَافَةِ
إلَى اللَّهِ تَعَالَى ؛ إذْ لَا يُخْتَلَفُ فِي حَقِّهِ إلَّا بِمُقْتَضَى
نَهْيِهِ وَأَمْرِهِ ، وَإِنَّمَا مَرَاتِبُهَا الْإِخْلَاصُ فِيهَا وَالتَّقْوَى
مِنْهَا .
وَلِذَلِكَ قَالَ : لَنْ يَصِلَ إلَى اللَّهِ لُحُومُهَا
وَلَا دِمَاؤُهَا ، وَإِنَّمَا يَصِلُ إلَيْهِ التَّقْوَى مِنْكُمْ ، فَيَقْبَلُهُ
وَيَرْفَعُهُ إلَيْهِ وَيَسْمَعُهُ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { كَذَلِكَ سَخَّرَهَا
لَكُمْ } امْتَنَّ عَلَيْنَا سُبْحَانَهُ بِتَذْلِيلِهَا لَنَا وَتَمْكِينِنَا
مِنْ تَصْرِيفِهَا ، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنَّا أَبْدَانًا ، وَأَقْوَى أَعْضَاءً ،
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ الْأُمُورَ لَيْسَتْ عَلَى مَا تَظْهَرُ إلَى
الْعَبْدِ مِنْ التَّدْبِيرِ وَإِنَّمَا هِيَ بِحَسَبِ مَا يُدَبِّرُهَا
الْعَزِيزُ الْقَدِيرُ ، فَيَغْلِبُ الصَّغِيرُ الْكَبِيرَ ، لِيَعْلَمَ الْخَلْقُ
أَنَّ الْغَالِبَ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
اسْمَهُ عَلَيْهَا فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا فَقَالَ : { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ
عَلَيْهَا صَوَافَّ } ، وَذَكَرَ
هَاهُنَا التَّكْبِيرَ ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَجْمَعُ بَيْنَهَا إذَا نَحَرَ
هَدْيَهُ ، فَيَقُولُ : " بِسْمِ اللَّهِ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ " .
وَهَذَا مِنْ فِقْهِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ : التَّسْمِيَةُ
عِنْدَ الذَّبْحِ وَالتَّكْبِيرُ عِنْدَ الْإِحْلَالِ بَدَلًا مِنْ
التَّلْبِيَةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ ، وَفِعْلُ ابْنِ عُمَرَ أَفْقَهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَة عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
سَبَبُ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : رُوِيَ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ
مِنْ مَكَّةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَخْرَجُوا نَبِيَّهُمْ ، إنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، لَيَهْلِكُنَّ .
فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَعَرَفْت أَنَّهُ سَيَكُونُ
قِتَالٌ } ؛ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ .
الثَّانِي :
قَالَ مُجَاهِدٌ : الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ ، نَزَلَتْ فِي
قَوْمٍ مُهَاجِرِينَ ، وَكَانُوا يُمْنَعُونَ ، فَأَذِنَ اللَّهُ فِي قِتَالِهِمْ
، وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ .
الثَّالِثُ : قَالَ الضَّحَّاكُ : اسْتَأْذَنَ أَصْحَابُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ ، فَقِيلَ
: { إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } فَلَمَّا هَاجَرَ نَزَلَتْ
: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } ، وَهَذَا نَاسِخٌ
لِكُلِّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ إعْرَاضٍ وَتَرْكٍ وَصَفْحٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ
فِي قِسْمِ النَّسْخِ الثَّانِي مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مَعْنَى { أُذِنَ } أُبِيحَ ، فَإِنَّهُ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ لِإِبَاحَةِ كُلِّ مَمْنُوعٍ ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ مِنْ الشَّرْعِ ، وَأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ قَبْلَ الشَّرْعِ ، لَا إبَاحَةً وَلَا حَظْرًا إلَّا مَا حَكَمَ بِهِ الشَّرْعُ ، وَبَيَّنَهُ ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ كَانَ بَعَثَ رَسُولَهُ وَدَعَا قَوْمَهُ ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتَصَرَّفُوا إلَّا بِأَمْرٍ ، وَلَا فَعَلُوا إلَّا بِإِذْنٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا
بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُجَّةِ دَعَا قَوْمَهُ
إلَى اللَّهِ دُعَاءً دَائِمًا عَشَرَةَ أَعْوَامٍ ، لِإِقَامَةِ حُجَّةِ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ ، وَوَفَاءً بِوَعْدِهِ الَّذِي امْتَنَّ بِهِ بِفَضْلِهِ فِي
قَوْلِهِ : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } ،
وَاسْتَمَرَّ النَّاسُ فِي الطُّغْيَانِ ، وَمَا اسْتَدَلُّوا بِوَاضِحِ
الْبُرْهَانِ ، وَحِينَ أَعْذَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ إلَى الْخَلْقِ ، وَأَبَوْا
عَنْ الصِّدْقِ أَمَرَ رَسُولَهُ بِالْقِتَالِ ، لِيَسْتَخْرِجَ الْإِقْرَارَ
بِالْحَقِّ مِنْهُمْ بِالسَّيْفِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قُرِئَ يُقَاتِلُونَ بِكَسْرِ
التَّاءِ وَفَتْحِهَا ، فَإِنْ كَسَرْت التَّاءَ كَانَ خَبَرًا عَنْ فِعْلِ
الْمَأْذُونِ لَهُمْ ، وَإِنْ فَتَحْتَهَا كَانَ خَبَرًا عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِمْ
بِهِمْ ، وَإِنَّ الْإِذْنَ وَقَعَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَهُمْ ، فَفِي فَتْحِ
التَّاءِ بَيَانُ سَبَبِ الْقِتَالِ ، وَقَدْ كَانَ الْكُفَّارُ يَتَعَمَّدُونَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالْإِذَايَةِ ،
وَيُعَامِلُونَهُمْ بِالنِّكَايَةِ : لَقَدْ خَنَقَهُ الْمُشْرِكُونَ حَتَّى
كَادَتْ نَفْسُهُ تَذْهَبُ ، فَتَدَارَكَهُ أَبُو بَكْرٍ ، وَقَالَ : {
أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ } وَقَدْ بَلَغَ بِأَصْحَابِهِ إلَى
الْمَوْتِ ؛ فَقَدْ قَتَلَ أَبُو جَهْلٍ سُمَيَّةَ أُمَّ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ .
وَقَدْ عُذِّبَ بِلَالٌ ، وَمَا بَعْدَ هَذَا إلَّا
الِانْتِصَارُ بِالْقِتَالِ .
وَالْأَقْوَى عِنْدِي قِرَاءَةُ كَسْرِ التَّاءِ ؛
لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وُقُوعِ الْعَفْوِ
وَالصَّفْحِ عَمَّا فَعَلُوا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ فِي الْقِتَالِ عِنْدَ
اسْتِقْرَارِهِ بِالْمَدِينَةِ ، فَأَخْرَجَ الْبُعُوثَ ، ثُمَّ خَرَجَ بِنَفْسِهِ
، حَتَّى أَظْهَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَإِنَّ
اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ
} .
.
الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا
دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ
وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ
مَنْ يَنْصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ
عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الْحَرْبِ
، وَلَمْ تَحِلَّ لَهُ الدِّمَاءُ } ، إنَّمَا يُؤْمَرُ بِالدُّعَاءِ إلَى اللَّهِ
، وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى ، وَالصَّفْحِ عَنْ الْجَاهِلِ [ مُدَّةَ عَشَرَةَ
أَعْوَامٍ ، لِإِقَامَةِ حُجَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ ، وَوَفَاءً
بِوَعْدِهِ الَّذِي امْتَنَّ بِهِ بِفَضْلِهِ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولًا } فَاسْتَمَرَّ الطُّغْيَانُ وَمَا اسْتَدَلُّوا بِوَاضِحِ
الْبُرْهَانِ ] .
وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ اضْطَهَدَتْ مَنْ اتَّبَعَهُ
مِنْ قَوْمِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى فَتَنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ،
وَنَفَوْهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ ، فَهُمْ بَيْنَ مَفْتُونٍ فِي دِينِهِ ،
وَمُعَذِّبٍ ، وَبَيْنَ هَارِبٍ فِي الْبِلَادِ مُغَرَّبٍ ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّ
إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَمِنْهُمْ
مَنْ صَبَرَ عَلَى الْأَذَى ، فَلَمَّا عَتَتْ قُرَيْشٌ عَلَى اللَّهِ ، وَرَدُّوا
أَمْرَهُ وَكَرَامَتَهُ ، وَكَذَّبُوا نَبِيَّهُ ، وَعَذَّبُوا مَنْ آمَنَ بِهِ
وَعَبَدَهُ وَوَحَّدَهُ ، وَصَدَّقَ نَبِيَّهُ ، وَاعْتَصَمَ بِدِينِهِ ، أَذِنَ
اللَّهُ لِرَسُولِهِ فِي الْقِتَالِ وَالِامْتِنَاعِ وَالِانْتِصَارِ مِمَّنْ
ظَلَمَهُمْ وَبَغَى عَلَيْهِمْ ؛ فَكَانَتْ أَوَّلُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ فِي إذْنِهِ
لَهُ بِالْحَرْبِ وَإِحْلَالِهِ لَهُ الدِّمَاءَ : { أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } إلَى قَوْلِهِ : ( " الْأُمُورِ " ) .
أَيْ إنَّمَا أَحْلَلْت لَهُمْ الْقِتَالَ ؛ لِأَنَّهُمْ
ظُلِمُوا ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَنْبٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
النَّاسِ إلَّا أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ ، وَأَنَّهُمْ إذَا ظَهَرُوا
أَقَامُوا الصَّلَاةَ .
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ : { وَقَاتِلُوهُمْ
حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } وَقَدْ
تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ .
وَعَنْ هَذَا عَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الزَّاهِدِ قَالَ : حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ مُوسَى ، أَنْبَأَنَا الْمَرْوَزِيِّ ، حَدَّثَنَا الْفَرَبْرِيُّ ،
حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْمُسْنَدِيُّ ، حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ
وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ : سَمِعْت أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أُمِرْت أَنْ
أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ،
فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّ
الْإِسْلَامِ ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ } دَلِيلٌ عَلَى نِسْبَةِ الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ
مِنْ الْمُلْجَأِ الْمُكْرَهِ إلَى الَّذِي أَلْجَأَهُ وَأَكْرَهَهُ ،
وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُ فِعْلِهِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ
الْمُكْرَهَ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ يَلْزَمُهُ الْغُرْمُ ، وَكَذَلِكَ
الْمُكْرَهُ عَلَى قَتْلِ الْغَيْرِ يَلْزَمُهُ الْقَتْلُ .
وَرُوِيَ فِي مُخْتَصَرِ الطَّبَرِيِّ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَأْذَنُوهُ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ ، إذْ
آذَوْهُ بِمَكَّةَ غِيلَةً ، فَنَزَلَتْ : { إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ
خَوَّانٍ كَفُورٍ } فَلَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ أَطْلَقَ قِتَالَهُمْ ،
وَهَذَا إنْ كَانَ صَحِيحًا فَقَدْ نَسَخَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ : إنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ لِكَعْبِ بْنِ
الْأَشْرَفِ ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ
مَسْلَمَةَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ ؟ قَالَ :
نَعَمْ فَقَتَلَهُ مَعَ أَصْحَابِهِ غِيلَةً } .
وَكَذَلِكَ { بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَهْطًا إلَى أَبِي رَافِعٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحَقِيقِ ،
فَقَتَلُوهُ غِيلَةً } .
الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا
مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ
فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ
اللَّهُ آيَاتِهِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ
فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ
وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
سَبَبِ نُزُولِهَا : فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ ، أَظْهَرُهَا وَمَا
فِيهَا ظَاهِرٌ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ
فِي نَادٍ مِنْ أَنْدِيَةِ قَوْمِهِ ، كَثِيرٌ أَهْلُهُ ، فَتَمَنَّى يَوْمَئِذٍ
أَلَّا يَأْتِيَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ فَيَنْفِرُوا عَنْهُ يَوْمَئِذٍ ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَلَيْهِ : { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى } فَقَرَأَ حَتَّى إذَا بَلَغَ إلَى
قَوْلِهِ : { أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ
الْأُخْرَى } .
أَلْقَى الشَّيْطَانُ كَلِمَتَيْنِ : تِلْكَ
الْغَرَانِيقُ الْعُلَا ، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى .
فَتَكَلَّمَ بِهَا ، ثُمَّ مَضَى بِقِرَاءَةِ السُّورَةِ
كُلِّهَا ، ثُمَّ سَجَدَ فِي آخَرِ السُّورَةِ ، وَسَجَدَ الْقَوْمُ جَمِيعًا
مَعَهُ ، وَرَفَعَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ تُرَابًا إلَى جَبْهَتِهِ
وَسَجَدَ عَلَيْهِ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا ، فَلَمَّا أَمْسَى أَتَاهُ جِبْرِيلُ
، فَعَرَضَ عَلَيْهِ السُّورَةَ ، فَلَمَّا بَلَغَ الْكَلِمَتَيْنِ قَالَ : مَا جِئْتُك
بِهَاتَيْنِ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ : { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ
الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْك لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا
لَاِتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ
إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ
الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَك عَلَيْنَا نَصِيرًا } فَمَا زَالَ مَغْمُومًا
مَهْمُومًا
حَتَّى نَزَلَتْ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ
إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } .
} وَفِي رِوَايَةٍ { أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لَهُ : لَقَدْ
تَلَوْتَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى النَّاسِ شَيْئًا لَمْ آتِك بِهِ ، فَحَزِنَ وَخَافَ
خَوْفًا شَدِيدًا ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ : إنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ
رَسُولٌ وَلَا نَبِيٌّ تَمَنَّى كَمَا تَمَنَّى ، وَأَحَبَّ كَمَا أَحَبَّ ، إلَّا
وَالشَّيْطَانُ قَدْ أَلْقَى فِي أُمْنِيَّتِهِ كَمَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى
لِسَانِهِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اعْلَمُوا أَنَارَ اللَّهُ أَفْئِدَتكُمْ
بِنُورِ هُدَاهُ ، وَيَسَّرَ لَكُمْ مَقْصِدَ التَّوْحِيدِ وَمَغْزَاهُ أَنَّ
الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ، فَسُبْحَانَ مَنْ يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ،
وَيَصْرِفُهُ عَمَّنْ يَشَاءُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْآيَةِ فِي فَصْلِ
تَنْبِيهِ الْغَبِيِّ عَلَى مِقْدَارِ النَّبِيِّ بِمَا نَرْجُو بِهِ عِنْدَ
اللَّهِ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى ، فِي مَقَامِ الزُّلْفَى ، وَنَحْنُ الْآنَ نَجْلُو
بِتِلْكَ الْفُصُولِ الْغَمَاءَ ، وَنُرَقِّيكُمْ بِهَا عَنْ حَضِيضِ الدَّهْمَاءِ
، إلَى بِقَاعِ الْعُلَمَاءِ فِي عَشْرِ مَقَامَاتٍ : الْمَقَامُ الْأَوَّلُ :
أَنَّ النَّبِيَّ إذَا أَرْسَلَ اللَّهُ إلَيْهِ الْمَلَكُ بِوَحْيِهِ ، فَإِنَّهُ
يَخْلُقُ لَهُ الْعِلْمَ بِهِ ، حَتَّى يَتَحَقَّقَ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِهِ
، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا صَحَّتْ الرِّسَالَةُ ، وَلَا تَبَيَّنَتْ النُّبُوَّةُ ،
فَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ لَهُ الْعِلْمَ بِهِ تَمَيَّزَ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِهِ ،
وَثَبَتَ الْيَقِينُ ، وَاسْتَقَامَ سَبِيلُ الدِّينِ ، وَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ إذَا
شَافَهَهُ الْمَلَكُ بِالْوَحْيِ لَا يَدْرِي أَمَلُك هُوَ أَمْ إنْسَانٌ ، أَمْ
صُورَةٌ مُخَالِفَةٌ لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ أَلْقَتْ عَلَيْهِ كَلَامًا ،
وَبَلَّغَتْ إلَيْهِ قَوْلًا لَمْ يَصِحَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ ، وَلَا ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّهُ أَمْرُ اللَّهِ ، فَهَذِهِ سَبِيلٌ
مُتَيَقَّنَةٌ ، وَحَالَةٌ مُتَحَقِّقَةٌ ، لَا بُدَّ مِنْهَا ، وَلَا خِلَافَ فِي
الْمَنْقُولِ وَلَا فِي الْمَعْقُولِ فِيهَا ، وَلَوْ جَازَ لِلشَّيْطَانِ أَنْ
يَتَمَثَّلَ فِيهَا ، أَوْ يَتَشَبَّهَ بِهَا مَا أَمِنَاهُ عَلَى آيَةٍ ، وَلَا عَرَفْنَا
مِنْهُ بَاطِلًا مِنْ حَقِيقَةٍ ؛ فَارْتَفَعَ بِهَذَا الْفَصْلِ اللَّبْسُ ،
وَصَحَّ الْيَقِينُ فِي النَّفْسِ
.
.
الْمَقَامُ الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَصَمَ رَسُولَهُ مِنْ
الْكُفْرِ ، وَآمَنَهُ مِنْ الشِّرْكِ ، وَاسْتَقَرَّ ذَلِكَ مِنْ دِينِ
الْمُسْلِمِينَ بِإِجْمَاعِهِمْ فِيهِ ، وَإِطْبَاقِهِمْ عَلَيْهِ ؛ فَمَنْ
ادَّعَى أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْفُرَ بِاَللَّهِ ، أَوْ يَشُكَّ فِيهِ طَرْفَةَ
عَيْنٍ ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ ؛ بَلْ لَا تَجُوزُ
عَلَيْهِ الْمَعَاصِي فِي الْأَفْعَالِ ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَى
الْكُفْرِ فِي الِاعْتِقَادِ ؛ بَلْ هُوَ الْمُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ فِعْلًا
وَاعْتِقَادًا .
وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ
بِأَوْضَحِ دَلِيلٍ .
الْمَقَامُ الثَّالِثُ : أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَرَّفَ رَسُولَهُ بِنَفْسِهِ
، وَبَصَّرَهُ بِأَدِلَّتِهِ ، وَأَرَاهُ مَلَكُوتَ سَمَوَاتِهِ وَأَرْضِهِ ، وَعَرَّفَهُ
سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ إخْوَتِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ
أَمْرِ اللَّهِ مَا نَعْرِفُهُ الْيَوْمَ ، وَنَحْنُ حُثَالَةُ أُمَّتِهِ ؛ وَمَنْ
خَطَرَ لَهُ ذَلِكَ فَهُوَ مِمَّنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ ، غَيْرَ
عَارِفٍ بِنَبِيِّهِ وَلَا بِرَبِّهِ .
الْمَقَامُ الرَّابِعُ : تَأَمَّلُوا فَتَحَ اللَّهُ
أَغْلَاقَ النَّظَرِ عَنْكُمْ إلَى قَوْلِ الرُّوَاةُ الَّذِينَ هُمْ بِجَهْلِهِمْ
أَعْدَاءٌ عَلَى الْإِسْلَامِ ، مِمَّنْ صَرَّحَ بِعَدَاوَتِهِ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَلَسَ مَعَ قُرَيْشٍ تَمَنَّى أَلَّا يَنْزِلَ
عَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ وَحْيٌ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ لِمَنْ مَعَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ
أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
آثَرَ وَصْلَ قَوْمِهِ عَلَى وَصْلِ رَبِّهِ ، وَأَرَادَ أَلَا يَقْطَعَ أُنْسَهُ
بِهِمْ بِمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ مِنْ الْوَحْيِ الَّذِي كَانَ
حَيَاةَ جَسَدِهِ وَقَلْبِهِ ، وَأُنْسَ وَحْشَتِهِ ، وَغَايَةَ أُمْنِيَّتِهِ .
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ ؛ فَإِذَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ
بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ فَيُؤْثِرُ عَلَى هَذَا مُجَالَسَةَ
الْأَعْدَاءِ .
الْمَقَامُ الْخَامِسُ : أَنَّ قَوْلَ الشَّيْطَانِ تِلْكَ الْغَرَانِقَةُ
الْعُلَا ، وَإِنَّ شَفَاعَتَهَا تُرْتَجَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَبِلَهُ مِنْهُ ؛ فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ بِالْمَلَكِ ، وَاخْتَلَطَ
عَلَيْهِ التَّوْحِيدُ بِالْكُفْرِ ، حَتَّى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا .
وَأَنَا مِنْ أَدْنَى الْمُؤْمِنِينَ مَنْزِلَةً ،
وَأَقَلِّهِمْ مَعْرِفَةً بِمَا وَفَّقَنِي اللَّهُ لَهُ ، وَآتَانِي مِنْ
عِلْمِهِ ، لَا يَخْفَى عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ أَنَّ هَذَا كُفْرٌ لَا يَجُوزُ
وُرُودُهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
.
وَلَوْ قَالَهُ أَحَدٌ لَكُمْ لَتَبَادَرَ الْكُلُّ
إلَيْهِ قَبْلَ التَّفْكِيرِ بِالْإِنْكَارِ وَالرَّدْعِ ، وَالتَّثْرِيبِ وَالتَّشْنِيعِ
، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَجْهَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَ
الْقَوْلِ ، وَيَخْفَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ ، وَلَا يَتَفَطَّنُ لِصِفَةِ الْأَصْنَامِ
بِأَنَّهَا الْغَرَانِقَةُ الْعُلَا ، وَأَنَّ شَفَاعَتَهَا تُرْتَجَى .
وَقَدْ عَلِمَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَنَّهَا جَمَادَاتٌ
لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ ، وَلَا تَنْطِقُ وَلَا تَضُرُّ ، وَلَا تَنْفَعُ وَلَا
تَنْصُرُ وَلَا تَشْفَعُ ، بِهَذَا كَانَ يَأْتِيه جِبْرِيلُ الصَّبَاحُ
وَالْمَسَاءُ ، وَعَلَيْهِ انْبَنَى التَّوْحِيدُ ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُهُ مِنْ
جِهَةِ الْمَعْقُولِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمَنْقُولِ ، فَكَيْفَ يَخْفَى هَذَا
عَلَى الرَّسُولِ ؟ ثُمَّ لَمْ يَكْفِ هَذَا حَتَّى قَالُوا : إنَّ جِبْرِيلَ
لَمَّا عَادَ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِيُعَارِضَهُ فِيمَا أَلْقَى إلَيْهِ
الْوَحْيُ كَرَّرَهَا عَلَيْهِ جَاهِلًا بِهَا تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ
فَحِينَئِذٍ أَنْكَرَهَا عَلَيْهِ جِبْرِيلُ ، وَقَالَ لَهُ : مَا جِئْتُك
بِهَذِهِ .
فَحَزِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِذَلِكَ ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ : { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَك عَنْ الَّذِي
أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ } ، فَيَا لِلَّهِ وَالْمُتَعَلِّمِينَ
وَالْعَالَمِينَ مِنْ شَيْخٍ فَاسِدٍ وَسُوسٍ هَامِدٍ ، لَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ
الْآيَةَ نَافِيَةً لِمَا زَعَمُوا ، مُبْطِلَةً لِمَا رَوَوْا وَتَقَوَّلُوا ،
وَهُوَ : الْمَقَامُ السَّادِسُ
: وَذَلِكَ أَنَّ
قَوْلَ الْعَرَبِيِّ : كَادَ يَكُونُ كَذَا : مَعْنَاهُ قَارَبَ
وَلَمْ يَكُنْ ؛ فَأَخْبَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ قَارَبُوا أَنْ
يَفْتِنُوهُ عَنْ الَّذِي أُوحِيَ إلَيْهِ ، وَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ ، ثُمَّ قَالَ
: لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ
.
وَهُوَ :
الْمَقَامُ السَّابِعُ : وَلَمْ يَفْتَرِ ، وَلَوْ
فَتَنُوك وَافْتَرَيْت لَاتَّخَذُوك خَلِيلًا ، فَلَمْ تُفْتَتَنْ وَلَا
افْتَرَيْت ، وَلَا عَدُّوك خَلِيلًا
.
وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاك وَهُوَ :
الْمَقَامُ الثَّامِنُ : { لَقَدْ كِدْت تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا
قَلِيلًا } ؛ فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ ثَبَّتَهُ ،
وَقَرَّرَ التَّوْحِيدَ وَالْمَعْرِفَةَ فِي قَلْبِهِ ، وَضَرَبَ عَلَيْهِ
سُرَادِقَ الْعِصْمَةِ ، وَآوَاهُ فِي كَنَفِ الْحُرْمَةِ .
وَلَوْ وَكَّلَهُ إلَى نَفْسِهِ ، وَرَفَعَ عَنْهُ ظِلَّ
عِصْمَتِهِ لَحْظَةً لَأَلْمَمَت بِمَا رَامُوهُ ، وَلَكِنَّا أَمَرْنَا عَلَيْك
بِالْمُحَافَظَةِ ، وَأَشْرَقْنَا بِنُورِ الْهِدَايَةِ فُؤَادَك ، فَاسْتَبْصِرْ
وَأَزِحْ عَنْك الْبَاطِلَ ، وَادْحَرْ
.
فَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي عِصْمَتِهِ مِنْ كُلِّ مَا نُسِبَ
إلَيْهِ ، فَكَيْفَ يَتَأَوَّلُهَا أَحَدٌ ؟ عَدُّوا عَمَّا نُسِبَ مِنْ
الْبَاطِلِ إلَيْهِ .
الْمَقَامُ التَّاسِعُ : قَوْلُهُ : فَمَا زَالَ
مَهْمُومًا حَتَّى نَزَلَتْ عَلَيْهِ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ } الْآيَةَ
.
فَأَمَّا غَمُّهُ وَحُزْنُهُ فَبِأَنْ تَمَكَّنَ
الشَّيْطَانُ مِمَّا تَمَكَّنَ ، مِمَّا يَأْتِي بَيَانُهُ ؛ وَكَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعِزُّ عَلَيْهِ أَنْ يَنَالَ الشَّيْطَانُ
مِنْهُ شَيْئًا وَإِنْ قَلَّ تَأْثِيرُهُ .
الْمَقَامُ الْعَاشِرُ : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَصٌّ فِي غَرَضِنَا ،
دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا ، أَصْلٌ فِي بَرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا نُسِبَ إلَيْهِ أَنَّهُ قَالَهُ عِنْدَنَا ،
وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي
أَمْنِيَّتِهِ } فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مِنْ سُنَّتِهِ فِي رُسُلِهِ
وَسِيرَتِهِ فِي أَنْبِيَائِهِ أَنَّهُمْ إذَا قَالُوا عَنْ اللَّهِ قَوْلًا زَادَ
الشَّيْطَانُ فِيهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ ، كَمَا يَفْعَلُ سَائِرُ الْمَعَاصِي ،
كَمَا تَقُولُ : أَلْقَيْت فِي الدَّارِ كَذَا ، وَأَلْقَيْت فِي الْعِكْمِ كَذَا ،
وَأَلْقَيْت فِي الْكِيسِ كَذَا .
فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الشَّيْطَانَ زَادَ فِي الَّذِي
قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَنَّ النَّبِيَّ
قَالَهُ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
إذَا قَرَأَ تَلَا قُرْآنًا مُقَطَّعًا ، وَسَكَتَ فِي مَقَاطِعِ الْآيِ سُكُوتًا
مُحَصَّلًا ، وَكَذَلِكَ كَانَ حَدِيثُهُ مُتَرَسِّلًا مُتَأَنِّيًا ، فَيَتَّبِعُ
الشَّيْطَانُ تِلْكَ السَّكَتَاتِ الَّتِي بَيْنَ قَوْلِهِ : { وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ
الْأُخْرَى } وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى : { أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى
} ، فَقَالَ يُحَاكِي صَوْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
وَإِنَّهُنَّ الْغَرَانِقَةُ الْعُلَا ، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى .
فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ لِقِلَّةِ الْبَصِيرَةِ وَفَسَادِ السَّرِيرَةِ فَتَلَوْهَا عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَسَبُوهَا بِجَهْلِهِمْ إلَيْهِ
، حَتَّى سَجَدُوا مَعَهُ اعْتِقَادًا أَنَّهُ مَعَهُمْ ، وَعَلِمَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
فَيُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَيَرْفُضُونَ غَيْرَهُ ، وَتُجِيبُ قُلُوبُهُمْ إلَى
الْحَقِّ ، وَتَنْفِرُ عَنْ الْبَاطِلِ ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ ابْتِلَاءٌ مِنْ اللَّهِ وَمِحْنَةٌ .
فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ ، وَلَيْسَ فِي
الْقُرْآنِ إلَّا غَايَةُ الْبَيَانِ بِصِيَانَةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِسْرَارِ
وَالْإِعْلَانِ عَنْ الشَّكِّ وَالْكُفْرَانِ .
وَقَدْ أَوْعَدْنَا إلَيْكُمْ تَوْصِيَةً أَنْ
تَجْعَلُوا الْقُرْآنَ إمَامَكُمْ ، وَحُرُوفَهُ أَمَامَكُمْ ، فَلَا تَحْمِلُوا
عَلَيْهَا مَا لَيْسَ فِيهَا ، وَلَا تَرْبِطُوا فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا ،
وَمَا هُدِيَ لِهَذَا إلَّا الطَّبَرِيُّ بِجَلَالَةِ قَدْرِهِ ، وَصَفَاءِ
فِكْرِهِ ، وَسَعَةِ بَاعِهِ فِي الْعِلْمِ ، وَشِدَّةِ سَاعِدِهِ وَذِرَاعِهِ فِي
النَّظَرِ ؛ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إلَى هَذَا الْغَرَضِ ، وَصَوَّبَ عَلَى هَذَا الْمَرْمَى
فَقَرْطَسَ بَعْدَمَا ذَكَرَ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ كُلِّهَا بَاطِلَةٌ
، لَا أَصْلَ لَهَا ، وَلَوْ شَاءَ رَبُّك لَمَا رَوَاهَا أَحَدٌ وَلَا سَطَرَهَا
، وَلَكِنَّهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ، عَصَمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ
بِالتَّوْفِيقِ وَالتَّسْدِيدِ ، وَجَعَلَنَا مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ بِفَضْلِهِ
وَرَحْمَتِهِ .
.
الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
حَمَلَهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُنَا لَهُ قَوْمٌ عَلَى
أَنَّهَا سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ ، فَسَجَدُوهَا .
وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ سُجُودُ الصَّلَاةِ ، فَقَصَرُوهُ
عَلَيْهِ .
وَرَأَى عُمَرُ أَنَّهَا سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ .
وَإِنِّي لَأَسْجُدُ بِهَا وَأَرَاهَا كَذَلِكَ ؛ لِمَا
رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ
الْأَنْصَارِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ سُورَةَ الْحَجِّ ،
فَسَجَدَ فِيهَا السَّجْدَتَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ : إنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فُضِّلَتْ
بِسَجْدَتَيْنِ .
قَالَ مَالِكٌ : وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
دِينَارٍ قَالَ : رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ يَسْجُدُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ
سَجْدَتَيْنِ .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ أَكْثَرَ الْخَلْقِ بِالنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُدْوَةً .
رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ { قُلْت لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَفِي سُورَةِ
الْحَجِّ سَجْدَتَانِ ؟ قَالَ : نَعَمْ
.
وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا لَا يَقْرَأْهُمَا } ،
رَوَاهُ وَهْبُ بْنُ لَهِيعَةَ عَنْ مُسَرِّحِ بْنِ هَاعَانَ عَنْهُ .
الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَجَاهِدُوا فِي
اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ
وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ
عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا
بِاَللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْحَرَجُ هُوَ
الضِّيقُ ، وَمِنْهُ الْحَرَجَةُ ، وَهِيَ الشَّجَرَاتُ الْمُلْتَفَّةُ لَا
تَسْلُكُ ؛ لِالْتِفَافِ شَجَرَاتِهَا ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ التَّفْسِيرُ فِيهِ
مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
رُوِيَ أَنَّ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ جَاءَ فِي نَاسٍ
مِنْ قَوْمِهِ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَسَأَلَهُ عَنْ الْحَرَجِ ، فَقَالَ : أَوَ
لَسْتُمْ الْعَرَبَ ؟ فَسَأَلُوهُ ثَلَاثًا .
كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ : أَوَ لَسْتُمْ الْعَرَبَ ، ثُمَّ
قَالَ : اُدْعُ لِي رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ ، فَقَالَ لَهُ : مَا الْحَرَجُ فِيكُمْ
؟ قَالَ : الْحَرَجَةُ مِنْ الشَّجَرَةِ : مَا لَيْسَ لَهُ مَخْرَجٌ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : ذَلِكَ الْحَرَجُ ، وَلَا
مَخْرَجَ لَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي مَحَلِّ النَّفْي :
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله
تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } قَالَ : هَذَا
فِي تَقْدِيمِ الْأَهِلَّةِ وَتَأْخِيرهَا بِالْفِطْرِ ، وَالْأَضْحَى ، وَفِي
الصَّوْمِ .
وَثَبَتَ صَحِيحًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : تَقُولُ
: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ، إنَّمَا ذَلِكَ سَعَةُ
الْإِسْلَامِ : مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ التَّوْبَةِ وَالْكَفَّارَاتِ .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ : أُحِلَّ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ
مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ .
قَالَ الْقَاضِي : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ .
وَقَدْ كَانَتْ الشَّدَائِدُ وَالْعَزَائِمُ فِي
الْأُمَمِ ، فَأَعْطَى اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ مِنْ الْمُسَامَحَةِ وَاللِّينِ
مَا
لَمْ يُعْطِ أَحَدًا قَبْلَهَا فِي حُرْمَةِ نَبِيِّهَا ، وَرَحْمَةِ
نَبِيِّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا } .
فَأَعْظَمُ حَرَجٍ رَفْعُ الْمُؤَاخَذَةِ بِمَا نُبْدِي
فِي أَنْفُسِنَا وَنُخْفِيهِ ، وَمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ إصْرٍ وُضِعَ ، كَمَا
بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا .
وَمِنْهَا التَّوْبَةُ بِالنَّدَمِ ، وَالْعَزْمُ عَلَى
تَرْكِ الْعَوْدِ فِي الْمُسْتَقْبِلِ ، وَالِاسْتِغْفَارُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ .
وَقِيلَ لِمَنْ قَبْلَنَا : { فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ
فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } ، وَلَوْ ذَهَبْت إلَى تَعْدِيدِ نِعَمِ اللَّهِ فِي
رَفْعِ الْحَرَجِ لَطَالَ الْمَرَامُ
.
وَمِنْ جُمْلَتِهِ أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُنَا تَعَالَى
إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا
.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ أَيْضًا فِيمَا قَبْلَ ذَلِكَ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو وَغَيْرِهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ ، فَقَالَ رَجُلٌ :
لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ .
قَالَ : اذْبَحْ ، وَلَا حَرَجَ .
فَجَاءَ آخَرُ ، فَقَالَ : لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ
قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ فَقَالَ : ارْمِ وَلَا حَرَجَ .
فَمَا سُئِلَ يَوْمَهُ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا
أُخِّرَ إلَّا قَالَ : افْعَلْ وَلَا حَرَجَ } .
فَأَعْجَبُ لِمَنْ يَقُولُ : إنَّ الدَّمَ عَلَى مَنْ
قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى النَّحْرِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : وَلَا حَرَجَ ، وَلَقَدْ نَزَلَتْ بِي هَذِهِ النَّازِلَةُ
سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ ، كَانَ مَعِي مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ ،
فَلَمَّا رَمَيْت جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ، وَانْصَرَفْت إلَى النَّحْرِ جَاءَ الْمُزَيِّنُ
وَحَضَرَ الْهَدْيَ ، فَقَالَ أَصْحَابِي : نَنْحَرُ وَنَحْلِقُ ، فَحَلَقْت ،
وَلَمْ أَشْعُرْ قَبْلَ النَّحْرِ ، وَمَا تَذَكَّرْت إلَّا وَجُلُّ شَعْرِي قَدْ
ذَهَبَ بِالْمُوسَى ، فَقُلْت :
دَمٌ عَلَى دَمٍ ، لَا يَلْزَمُ ، وَرَأَيْت بَعْدَ
ذَلِكَ الِاحْتِيَاطَ لِارْتِفَاعِ الْخِلَافِ .
وَالْحَقُّ هُوَ الْأَوَّلُ ، فَهُوَ الْمَعْقُولُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا
بِالْحَظْرِ ، وَالْآخَرُ بِالْإِبَاحَةِ ، فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ مَالَ إلَى الِاسْتِظْهَارِ
، وَقَالَ : يُقَدَّمُ دَلِيلُ الْحَظْرِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُقَدَّمُ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ
، وَيَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ مَقَاصِدُ مَالِكٍ ، إلَّا فِي بَابِ الرِّبَا ،
فَيُقَدَّمُ دَلِيلُ الْحَظْرِ ، وَذَلِكَ مِنْ فِقْهِهِ الْعَظِيمِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى زِيَادَةِ رُكْنٍ
فِي الْعِبَادَةِ ، أَوْ شَرْطٍ ، وَقَامَ الدَّلِيلُ عَلَى إسْقَاطِهِ ،
فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِيهِ ؛ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَخَذَ
بِالِاحْتِيَاطِ ، وَقَضَى بِزِيَادَةِ الرُّكْنِ وَالشَّرْطِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ
أَخَذَ بِالْخِفَّةِ ، وَقَالَ بِدَلِيلِ الْإِسْقَاطِ ، وَلَمْ يُعَوِّلْ مَالِكٌ
هَاهُنَا عَلَى أَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ : كَانَ بِزِيَادَةٍ أَوْ بِإِسْقَاطٍ ،
وَرَأْيُهُ هُوَ الَّذِي نَرَاهُ ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، فَهُنَالِكَ
يُنْظَرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا كَانَ الْحَرَجُ فِي نَازِلَةٍ عَامًّا فِي النَّاسِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ ، وَإِذَا كَانَ خَاصًّا لَمْ يُعْتَبَرْ عِنْدَنَا ، وَفِي بَعْضِ أُصُولِ الشَّافِعِيِّ اعْتِبَارُهُ ، وَذَلِكَ يُعْرَضُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ؛ فَمِنْهُ خُذُوهُ بِعَوْنِ اللَّهِ .
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ آيَةً الْآيَةُ الْأُولَى
قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِي قَالَ : سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
يَقُولُ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ الْوَحْيُ يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ ، فَأُنْزِلَ
عَلَيْهِ يَوْمًا ، فَلَبِثْنَا سَاعَةً ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ ، فَاسْتَقْبَلَ
الْقِبْلَةَ ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ ، وَقَالَ : اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا
تَنْقُصْنَا ، وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا ، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا ،
وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا ، وَارْضِنَا وَارْضَ عَنَّا ثُمَّ قَالَ :
أُنْزِلَ عَلَيَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ .
ثُمَّ قَالَ : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } حَتَّى
خَتَمَ عَشْرَ آيَاتٍ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَهُوَ صَحِيحٌ
وَإِنْ كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ أَبُو عِيسَى وَقَطَعَهُ .
وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ {
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَلِّبُ بَصَرَهُ فِي
السَّمَاءِ إذَا صَلَّى ، فَنَزَلَتْ آيَةٌ } .
قَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ لَمْ تَكُنْ { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ
خَاشِعُونَ } فَلَا أَدْرِي أَيَّةَ آيَةٍ هِيَ ؟ قَالَ الْقَاضِي : هُوَ
مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ : وَهَذَا الْحَدِيثُ مَقْطُوعٌ مَظْنُونٌ ،
فَمَقْصُودُهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ ، فَسُقْنَاهُ عَلَى حَالِهِ لَكُمْ حَتَّى
نَكُونَ فِي مَعْرِفَتِهِ سَوَاءً مَعَكُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هُوَ الْخُضُوعُ ، وَهُوَ الْإِخْبَاتُ ،
وَالِاسْتِكَانَةُ ، وَهِيَ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ أَوْ مُتَقَارِبَةٌ ، أَوْ
مُتَلَازِمَةٌ ؛ { وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : خَضَعَ لَك سَوَادِي ، وَآمَنَ بِك فُؤَادِي } .
وَحَقِيقَتُهُ السُّكُونُ عَلَى حَالَةِ الْإِقْبَالِ
الَّتِي تَأَهَّبَ لَهَا وَاحْتَرَمَ بِهَا بِالسِّرِّ فِي الضَّمِيرِ ،
وَبِالْجَوَارِحِ فِي الظَّاهِرِ ؛ فَقَدْ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ خَاشِعًا خَاضِعًا } ،
وَكَذَلِكَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَلْتَفِتُ ، وَكَذَلِكَ كَانَ حَفِيدُهُ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ
.
قَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ لِعُرْوَةِ : لَوْ رَأَيْت
قِيَامَ ابْنِ الزُّبَيْرِ يَعْنِي أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ لَقُلْت
: غُصْنٌ تَصْفِقُهُ الرِّيَاحُ ، وَحِجَارَةُ الْمَنْجَنِيقِ تَقَعُ هَاهُنَا ، وَرَضْفٌ
عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إذَا قَامَ
يُصَلِّي كَأَنَّهُ عُودٌ مِنْ الْخُشُوعِ .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ : إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ
كَانَ يُصَلِّي فِي الْحِجْرِ مُرْخِيًا ثِيَابَهُ .
فَجَاءَ حَجَرُ الْخَذَّافِ ، فَذَهَبَ بِطَائِفَةٍ مِنْ
ثَوْبِهِ ، فَمَا الْتَفَتَ ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ
إذَا صَلَّى لَا يَتَحَرَّكُ مِنْهُ شَيْءٌ ؛ وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ الْعُلَمَاءُ وَهِيَ
: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إنَّهُ يَضَعُ بَصَرَهُ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ ؛
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالصُّوفِيَّةُ بِأَسْرِهِمْ ، فَإِنَّهُ أَحْضَرُ
لِقَلْبِهِ ، وَأَجْمَعُ لِفِكْرِهِ
.
قَالَ مَالِكٌ : إنَّمَا يَنْظُرُ أَمَامَهُ ، فَإِنَّهُ
إنْ حَنَى رَأْسَهُ ذَهَبَ بَعْضُ الْقِيَامِ الْمَنْقُوضِ عَلَيْهِ فِي الرَّأْسِ
، وَهُوَ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ مِنْهُ ، وَإِنْ أَقَامَ رَأْسَهُ وَتَكَلَّفَ النَّظَرَ
بِبَصَرِهِ إلَى الْأَرْضِ فَتِلْكَ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ وَحَرَجٌ ، يَعْرِفُونَ
ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ ، وَمَا جَعَلَ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ؛
وَإِنَّمَا أُمِرْنَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْجِهَةَ بِبَصَائِرِنَا
وَأَبْصَارِنَا ، أَمَّا إنَّهُ أَفْضَلُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مَتَى
قَدَرَ وَكَيْفَ قَدَرَ ، وَإِنَّمَا الْمَمْنُوعُ أَنْ يَرْفَعَ بَصَرَهُ فِي
الصَّلَاةِ إلَى السَّمَاءِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ أَنْ يَسْتَقْبِلَ السَّمَاءَ
، وَإِنَّمَا أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْجِهَةَ الْكَعْبِيَّةَ ، فَإِذَا رَفَعَ
بَصَرَهُ فَهُوَ إعْرَاضٌ عَنْ الْجِهَةِ الَّتِي أُمِرَ بِهَا ، حَتَّى { قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ رَفْعِهِمْ
أَبْصَارَهُمْ إلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ }
وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : حَتَّى قَالَ
عُلَمَاؤُنَا حِينَ رَأَوْا عَامَّةَ الْخَلْقِ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلَى
السَّمَاءِ وَهِيَ سَالِمَةٌ : إنَّ الْمُرَادَ بِالْخَطْفِ هَاهُنَا أَخْذُهَا
عَنْ الِاعْتِبَارِ حِينَ يَمُرُّ بِآيَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، وَهُوَ
مُعْرِضٌ ، وَذَلِكَ أَشَدُّ الْخَطْفِ ، وَمِنْ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ
بِرَفْعِ الْحَرَجِ الْإِذْنُ فِي أَنْ يَلْحَظَ يَمِينًا وَشِمَالًا ، وَإِنْ
كَانَ يُصَلِّي بِبَصَرِهِ وَرَأْسِهِ دُونَ بَدَنِهِ ، أَذِنَ الشَّرْعُ فِيهِ ،
وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فَمِنْ مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَلْمَحُ فِي الصَّلَاةِ ، وَلَا يَلْتَفِتُ } .
وَرَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ قَالَ : قِيلَ لِابْنِ
عُمَرَ : إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ إذَا صَلَّى لَمْ يَقُلْ هَكَذَا وَهَكَذَا .
فَقَالَ : لَكِنَّا نَقُولُ هَكَذَا وَهَكَذَا ،
وَنَكُونُ مِثْلَ النَّاسِ ؛ إشَارَةً مِنْ ابْنِ عُمَرَ إلَى أَنَّهُ تَكْلِيفٌ
يَخْرُجُ إلَى الْحَرَجِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ
عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ : { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } قَالَ :
الْإِقْبَالُ عَلَيْهَا .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ : لَا يَعْرِفُ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ
، وَلَا مَنْ عَلَى يَسَارِهِ .
صَلَّيْت الْمَغْرِبَ لَيْلَةً مَا بَيْنَ بَابِ
الْأَخْضَرِ ، وَبَابِ حِطَّةٍ مِنْ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ ، وَمَعَنَا شَيْخُنَا
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَغْرِبِيِّ
الزَّاهِدُ ، فَلَمَّا
سَلَّمْنَا تَمَارَى رَجُلَانِ كَانَا عَنْ يَمِينِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَغْرِبِيِّ
؛ وَجَعَلَ أَحَدُهُمَا يَقُولُ لِلْآخَرِ : أَسَأْت صَلَاتَك ، وَنَقَرْت نَقْرَ
الْغُرَابِ .
وَالْآخَرُ يَقُولُ لَهُ : كَذَبْت ؛ بَلْ أَحْسَنْت
وَأَجْمَلْت .
فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الزَّاهِدِ : أَلَمْ يَكُنْ إلَى جَانِبِك ؛ فَكَيْفَ رَأَيْته يُصَلِّي ؟ قَالَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : لَا عِلْمَ لِي بِهِ ، كُنْت مُشْتَغِلًا بِنَفْسِي
وَصَلَاتِي عَنْ النَّاسِ وَصَلَاتِهِمْ .
فَخَجِلَ الرَّجُلُ وَأُعْجِبَ الْحَاضِرُونَ
بِالْقَوْلِ .
وَصَدَقَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزَّاهِدُ ؛
لَوْ كَانَ لِصَلَاتِهِ قَدْرٌ ، أَوْ لَهُ بِهَا شُغْلٌ وَإِقْبَالٌ
بِالْكُلِّيَّةِ لَمَا عَلِمَ مَنْ عَنْ يَمِينِهِ ، أَوْ عَنْ يَسَارِهِ فَضْلًا
عَنْ مَعْرِفَتِهِ كَيْفِيَّةَ صَلَاتِهِ ، وَإِلَّا فَأَحَدُ الرَّجُلَيْنِ
أَسَاءَ صَلَاتَهُ فِي حَذْفِ صِفَاتِهَا ، وَاخْتِصَارِ أَرْكَانِهَا ، وَهَذَا أَسَاءَ
صَلَاتَهُ فِي الِاشْتِغَالِ بِصَلَاةِ هَذَا ، حَتَّى ذَهَبَ حِفْظُ صَلَاتِهِ
وَخُشُوعُهَا .
وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَوْلَك : "
اللَّهُ أَكْبَرُ " يُحَرِّمُ عَلَيْك الْأَفْعَالَ بِالْجِوَارِ ،
وَالْكَلَامَ بِاللِّسَانِ ؛ وَنِيَّةَ الصَّلَاةِ تُحَرِّمُ عَلَيْك الْخَوَاطِرَ
بِالْقَلْبِ ، وَالِاسْتِرْسَالَ عَنْ الْأَفْكَارِ ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ
لَمَّا عَلِمَ أَنَّ ضَبْطَ الشَّرِّ مِنْ السِّرِّ يَفُوتُ طَوْقَ الْبَشَرِ
سَمَحَ فِيهِ ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانًا لَهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
===================
ج16. كتاب : أحكام القرآن ابن العربي
الْآيَةُ
الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
مِنْ غَرِيبِ الْقُرْآنِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ الْعَشْرِ هِيَ عَامَّةٌ فِي
الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، كَسَائِرِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ الَّتِي هِيَ
مُحْتَمَلَةٌ لَهُمْ ، فَإِنَّهَا عَامَّةٌ فِيهِمْ ، إلَّا قَوْلَهُ : {
وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } فَإِنَّهُ خِطَابٌ لِلرِّجَالِ
خَاصَّةً دُونَ النِّسَاءِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } ، وَلَا إبَاحَةَ بَيْنَ النِّسَاءِ وَبَيْنَ
مِلْكِ الْيَمِينِ فِي الْفَرْجِ ؛ وَإِنَّمَا عُرِفَ حِفْظُ الْمَرْأَةِ
فَرْجَهَا مِنْ أَدِلَّةٍ أُخَرَ ، كَآيَاتِ الْإِحْصَانِ عُمُومًا وَخُصُوصًا ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ الْحَكَمِ : سَمِعْت حَرْمَلَةَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ : سَأَلْت
مَالِكًا عَنْ الرَّجُلِ يَجْلِدُ عُمَيْرَةَ ، فَتَلَا هَذِهِ : { وَاَلَّذِينَ
هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ
الْعَادُونَ } .
وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُمْ يَكْنُونَ عَنْ الذَّكَرِ
بِعُمَيْرَةَ ، وَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ : إذَا حَلَلْت بِوَادٍ لَا أَنِيسَ
بِهِ فَاجْلِدْ عُمَيْرَةَ لَا دَاءٌ وَلَا حَرَجٌ وَيُسَمِّيهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ
الِاسْتِمْنَاءَ ، وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ الْمَنِيِّ .
وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَلَى وَرَعِهِ يُجَوِّزُهُ ،
وَيَحْتَجُّ بِأَنَّهُ إخْرَاجُ فَضْلَةٍ مِنْ الْبَدَنِ ؛ فَجَازَ عِنْدَ
الْحَاجَةِ ، أَصْلُهُ الْفَصْدُ وَالْحِجَامَةُ .
وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، وَهُوَ
الْحَقُّ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُدَانَ اللَّهُ إلَّا بِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ كَالْفَاعِلِ
بِنَفْسِهِ ، وَهِيَ مَعْصِيَةٌ أَحْدَثَهَا الشَّيْطَانُ وَأَجْرَاهَا بَيْنَ
النَّاسِ حَتَّى صَارَتْ قِيلَةً ، وَيَا لَيْتَهَا لَمْ تُقَلْ ، وَلَوْ قَامَ
الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهَا لَكَانَ ذُو الْمُرُوءَةِ يُعْرِضُ عَنْهَا
لِدَنَاءَتِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قِيلَ : إنَّهَا خَيْرٌ مِنْ
نِكَاحِ الْأَمَةِ .
قُلْنَا :
نِكَاحُ الْأَمَةِ وَلَوْ كَانَتْ كَافِرَةً عَلَى
مَذْهَبِ الْعُلَمَاءِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ بِهِ قَائِلٌ أَيْضًا
، وَلَكِنَّ الِاسْتِمْنَاءَ ضَعِيفٌ فِي الدَّلِيلِ عَارٌ بِالرَّجُلِ الدَّنِيءِ
، فَكَيْفَ بِالرَّجُلِ الْكَبِيرِ ،
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَالَ قَوْمٌ : هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ
الْمُتْعَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ الْفَرْجَ إلَّا بِالنِّكَاحِ أَوْ
بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، وَالْمُتَمَتِّعَةُ لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ ، وَهَذَا يَضْعُفُ .
فَإِنَّا لَوْ قُلْنَا : إنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ
جَائِزٌ فَهِيَ زَوْجَةٌ إلَى أَجَلٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الزَّوْجَةِ .
وَإِنْ قُلْنَا بِالْحَقِّ الَّذِي أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ
الْأُمَّةُ مِنْ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ لَمَا كَانَتْ زَوْجَةً ، فَلَمْ
تَدْخُلْ فِي الْآيَةِ ، وَبَقِيَتْ عَلَى أَصْلِ حِفْظِ الْفَرْجِ وَتَحْرِيمِهِ مِنْ
سَبَبِهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا ، وَهِيَ الثَّالِثَةُ : { فَمَنْ
ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ } .
فَسُمِّيَ مَنْ نَكَحَ مَا لَا يَحِلُّ عَادِيًا ،
وَأُوجِبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعُدْوَانِهِ ، وَاللَّائِطُ عَادٍ قُرْآنًا
وَلُغَةً ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } فَوَجَبَ أَنْ
نُقِيمَ الْحَدَّ عَلَيْهِ ؛ وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ .
الْآيَةُ
الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ
وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } .
قَدْ قَدَّمْنَا وُجُوبَ حِفْظِ الْأَمَانَةِ
وَالْعَهْدِ ، وَبَيَّنَّا قِيَامَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا مَضَى ،
فَأَدِّ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك ؛ وَكَذَلِكَ مَنْ
نَقَضَ الْعَهْدَ فِيك فَلَا تَنْقُضْهُ فِيهِ ، وَمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ عِنْدَك
فَلَا تَكْفُرْ بِهِ عِنْدَهُ ، وَمَنْ غَدَرَ بِك فَلَا تَغْدِرْ بِهِ .
وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِيمَا سَلَف فِي مَوَاضِعَ ،
فَلْيُنْظَرْ فِيهَا ؛ وَلْيُجْمَعْ فِي الْقَلْبِ مِنْهَا .
الْآيَةُ
الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ
يُحَافِظُونَ } .
قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي حِفْظِ الصَّلَاةِ فِي
نَفْسِهَا ، وَبَيَّنَّا الْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا بِإِدَامَةِ أَفْعَالِهَا فِي
أَوْقَاتِهَا مَتَى تَكَرَّرَتْ مَفْرُوضَاتُهَا ، فَاعْلَمُوهُ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ
قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ
فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذِهِ مِنْ
نِعَمِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ ، وَمِمَّا امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِهِ ، وَمِنْ
أَعْظَمِ الْمِنَنِ الْمَاءُ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْأَبْدَانِ وَنَمَاءُ
الْحَيَوَانِ .
وَالْمَاءُ الْمُنَزَّلُ مِنْ السَّمَاءِ عَلَى
قِسْمَيْنِ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَأَخْبَرَ
عَنْهُ بِأَنَّهُ اسْتَوْدَعَهُ فِي الْأَرْضِ ، وَجَعَلَهُ فِيهَا مُخْزُونَا
لِسُقْيَا النَّاسِ ، يَجِدُونَهُ [ عُدَّةً ] عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، وَهُوَ
مَاءُ الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ ، وَمَا يُسْتَخْرَجُ مِنْ الْآبَارِ .
وَالْقِسْمُ الْآخَرُ هُوَ الَّذِي يَنْزِلُ مِنْ
السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ فِي كُلِّ وَقْتٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى أَشْهَبُ عَنْ
مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا مِنْ
السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ } الْآيَةَ ، أَهُوَ فِي
الْخَرِيفِ فِيمَا بَلَغَك ، قَالَ : لَا وَاَللَّهِ ؛ بَلْ هَذَا فِي الْخَرِيفِ وَالشِّتَاءِ
، وَكُلُّ شَيْءٍ يَنْزِلُ مَاؤُهُ مِنْ السَّمَاءِ إذَا شَاءَ ، ثُمَّ هُوَ عَلَى
ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرٌ .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ
مُحْتَمَلٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً ، فَأَسْكَنَهُ فِي
الْأَرْضِ ، ثُمَّ يُنَزِّلُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ ، فَيَكُونُ مِنْهُ غِذَاءٌ ،
وَمِنْهُ اخْتِزَانٌ زَائِدٌ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ .
وَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ : قَالَ مَالِكٌ : هِيَ الْأَرْضُ
الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا يَعْنِي قَوْلَهُ : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ
الْمَاءَ إلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا } ، وَقَوْلَهُ : {
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ }
يَعْنِي الْمَطَرَ ، { وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ }
يَعْنِي النَّبَاتَ .
وَهَذَا يَكُونُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ، كَمَا جَاءَ فِي
الْأَثَرِ : { إنَّ اللَّهَ لَا يُخَلِّي الْأَرْضَ مِنْ مَطَرٍ فِي عَامِرٍ أَوْ
غَامِرٍ ، وَإِنَّهُ مَا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءٌ إلَّا
بِحِفْظِ
مَلَكٍ مُوَكَّلٍ بِهِ ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ مَاءِ الطُّوفَانِ ، فَإِنَّهُ
خَرَجَ مِنْهُ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ الْمَلَكُ } ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : {
إنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ } لِأَنَّ الْمَاءَيْنِ
الْتَقَيَا عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ مَا كَانَ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَزَلَ مِنْ
السَّمَاءِ بِالْإِقْلَاعِ ، فَلَمْ تَمْتَصَّ الْأَرْضُ مِنْ قَطْرِهِ ، وَأَمَرَ
الْأَرْضَ بِابْتِلَاعِ مَا خَرَجَ مِنْهَا فَقَطْ ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : {
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَك وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ } .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَشْرَبْ
مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ قَطْرَةً
.
نُكْتَةٌ أُصُولِيَّةٌ : قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ :
قَوْلُهُ : { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ } فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ ذَاتُ الْمَطَرِ ؛ لِأَنَّهَا تَرْجِعُ فِي كُلِّ عَامٍ إلَى
الْحَالَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا مِنْ إنْزَالِ الْمَطَرِ مِنْهَا .
وَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا
تَرُدُّ مَا أَخَذَتْ مِنْ الْأَرْضِ مِنْ الْمَاءِ ؛ إذْ السَّحَابُ يَسْتَقِي
مِنْ الْبَحْرِ ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ قَوْلَ الْهُذَلِيِّ : شَرِبْنَ بِمَاءِ
الْبَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ مَتَى لُجَجٌ لَهُنَّ نَئِيجُ يَعْنِي السَّحَابَ ،
وَهَذِهِ دَعْوَى عَرِيضَةٌ طَوِيلَةٌ ، وَهِيَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ جَائِزَةٌ ، وَلَكِنَّهُ
أَمْرٌ لَا يُعْلَمُ بِالنَّظَرِ ، وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ الْخَبَرُ ، وَلَمْ
يَرِدْ بِذَلِكَ أَثَرٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } : يَعْنِي لَقَادِرُونَ عَلَى
إذْهَابِ الْمَاءِ الَّذِي أَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ، فَيَهْلَكُ النَّاسُ
بِالْعَطَشِ ، وَتَهْلَكُ مَوَاشِيهِمْ ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ
} وَقَدْ قَالَ : { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : فَهَذَا عَامٌّ فِي مَاءِ الْمَطَرِ وَالْمَاءِ الْمُخْتَزَنِ فِي
أَرْضٍ ، فَصَارَتْ إحْدَى الْآيَتَيْنِ عَامَّةً وَهِيَ آيَةُ الطَّهُورِ .
وَالْآيَةُ
الْأُخْرَى
خَاصَّةً وَهِيَ مَاءُ الْقَدْرِ الْمُسْكَنِ فِي الْأَرْضِ ، وَمِنْ هَاهُنَا
قَالَ مَنْ قَالَ : إنَّ مَاءَ الْبَحْرِ لَا يُتَوَضَّأُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا
لَمْ يُخْبِرْ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أُنْزِلَ مِنْ السَّمَاءِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } ، وَهَذَا نَصٌّ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْجَنَّةِ إلَى الْأَرْضِ خَمْسَةَ
أَنْهَارٍ : سَيْحُونَ ، وَهُوَ نَهْرُ الْهِنْدِ وَجَيْحُونَ ، وَهُوَ نَهْرُ
بَلْخٍ ، وَدِجْلَةَ ، وَالْفُرَاتِ ، وَهُمَا نَهَرَا الْعِرَاقِ ، وَالنِّيلَ
وَهُوَ نَهْرُ مِصْرَ ، أَنْزَلَهَا اللَّهُ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ مِنْ عُيُونِ
الْجَنَّةِ فِي أَسْفَلِ دَرَجَةٍ مِنْ دَرَجَاتِهَا ، فَاسْتَوْدَعَهَا
الْجِبَالَ ، وَأَجْرَاهَا فِي الْأَرْضِ ، وَجَعَلَ فِيهَا مَعَايِشَ لِلنَّاسِ
فِي أَصْنَافِ مَعَايِشِهِمْ } ، وَذَلِكَ قَوْله
تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي
الْأَرْضِ } فَإِذَا كَانَ عِنْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَرْسَلَ اللَّهُ
جِبْرِيلَ فَرَفَعَ مِنْ الْأَرْضِ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ ، وَهَذِهِ
الْأَنْهَارَ الْخَمْسَةَ ؛ فَيَرْفَعُ ذَلِكَ إلَى السَّمَاءِ ، وَذَلِكَ
قَوْلُهُ : { وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } .
وَهَذَا جَائِزٌ فِي الْقُدْرَةِ إنْ صَحَّتْ بِهِ
الرِّوَايَةُ .
[ وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { سَيْحُونُ وَجَيْحُونُ
وَالْفُرَاتُ كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ } .
وَهَذَا تَفْسِيرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ
وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } يَعْنِي بِهِ نَهْرًا يَجْرِي ،
وَعَيْنًا تَسِيلُ ، وَمَاءً رَاكِدًا فِي جَوْفِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ] .
وَإِنَّمَا الَّذِي فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ رَأَى سِدْرَةَ
الْمُنْتَهَى ، وَذَكَرَ مَا أَنْشَأَ مِنْ الْمَاءِ وَمِنْ النَّبَاتِ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ
قَوْله تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا
إلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْلُهُ : ( رَبْوَةٍ ) فِيهَا خَمْسُ لُغَاتٍ : كَسْرُ الرَّاءِ ، وَفَتْحُهَا ،
وَضَمُّهَا ، ثَلَاثُ لُغَاتٍ ، وَيُقَالُ رِبَاوَةٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ
وَكَسْرِهَا ، وَلَمْ أُقَيِّدْ غَيْرَهُ فِيمَا وَجَدْته الْآنَ عِنْدِي .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَعْيِينِ هَذِهِ
الرَّبْوَةِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ
: الْأَوَّلُ : أَنَّهَا الرَّمْلَةُ ؛ وَهِيَ
فِلَسْطِينُ ؛ قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ .
الثَّانِي : قَالَ قَتَادَةُ : هِيَ بِبَيْتِ
الْمَقْدِسِ أَقْرَبُ الْأَرْضِ إلَى السَّمَاءِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا دِمَشْقُ ؛ قَالَهُ ابْنُ
الْمُسَيِّبِ ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ وَأَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا مِصْرُ قَالَهُ ابْنُ زَيْدِ بْنِ
أَسْلَمَ .
وَلَيْسَ الرُّبَا إلَّا بِمِصْرَ ، وَالْمَاءُ يُرْسَلُ
فَيَكُونُ الرُّبَا عَلَيْهَا الْقُرَى ، وَلَوْلَا ذَلِكَ غَرِقَتْ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ الْمُرْتَفِعُ مِنْ الْأَرْضِ ؛
قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ
.
السَّادِسُ : أَنَّهَا الْمَكَانُ الْمُسْتَوِي ؛
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
قَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ الْأَقْوَالُ مِنْهَا مَا
تُفَسَّرُ لُغَةً ، وَمِنْهَا مَا تُفَسَّرُ نَقْلًا ؛ فَأَمَّا الَّتِي تُفَسَّرُ
لُغَةً فَكُلُّ أَحَدٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهَا مُشْتَرَكَةُ الْمَدْرَكِ بَيْنَ
الْخَلْقِ .
وَأَمَّا مَا يُفَسَّرُ مِنْهَا نَقْلًا فَمُفْتَقِرٌ
إلَى سَنَدٍ صَحِيحٍ يَبْلُغُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إلَّا أَنَّهُ تَبْقَى هَاهُنَا نُكْتَةٌ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا نَقَلَ النَّاسُ
تَوَاتُرًا أَنَّ هَذَا مَوْضِعُ كَذَا ، أَوْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ جَرَى كَذَا
، أَوْ وَقَعَ لَزِمَ قَبُولُهُ ، وَالْعِلْمُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ
الْمُتَوَاتِرَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْإِيمَانُ ، وَخَبَرَ الْآحَادِ لَا بُدَّ
مِنْ كَوْنِ الْمُخْبِرِ بِهِ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ
الشَّاهِدِ ، وَالْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ بِمَنْزِلَةِ الْعِيَانِ ، وَقَدْ
بَيَّنَّا
ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَاَلَّذِي شَاهَدْت عَلَيْهِ النَّاسَ ، وَرَأَيْتهمْ
يُعَيِّنُونَهَا تَعْيِينَ تَوَاتُرٍ دِمَشْقَ ، فَفِي سَفْحِ الْجَبَلِ فِي
غَرْبِيِّ دِمَشْقَ مَائِلًا إلَى جَوْفِهَا مَوْضِعٌ مُرْتَفِعٌ تَتَشَقَّقُ
مِنْهُ الْأَنْهَارُ الْعَظِيمَةُ ، وَفِيهَا الْفَوَاكِهُ الْبَدِيعَةُ مِنْ كُلِّ
نَوْعٍ ، وَقَدْ اُتُّخِذَ بِهَا مَسْجِدٌ يُقْصَدُ إلَيْهِ ، وَيُتَعَبَّدُ فِيهِ
، أَمَّا أَنَّهُ قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَوْلِدَ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ بِبَيْتِ لَحْمٍ لَا خِلَافَ فِيهِ ، وَفِيهِ رَأَيْت الْجِذْعَ
كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَكِنَّهَا لَمَّا خَرَجَتْ بِابْنِهَا اخْتَلَفَتْ
الرُّوَاةُ ، هَلْ أَخَذَتْ بِهِ غَرْبًا إلَى مِصْرَ ؟ أَمْ أَخَذَتْ بِهِ
شَرْقًا إلَى دِمَشْقَ ؟ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : { ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ
} فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَرْضٌ مُنْبَسِطَةٌ وَبَاحَةٌ وَاسِعَةٌ .
الثَّانِي : ذَاتُ شَيْءٍ يَسْتَقِرُّ فِيهِ مِنْ قُوتٍ
وَمَاءٍ ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ مُحْتَمَلٌ
.
وَقَوْلُهُ :
{ وَمَعِينٍ } وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ :
قَوْلُهُ : { وَمَعِينٍ } يُرِيدُ بِهِ الْمَاءَ ، وَهُوَ مَفْعَلُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ
، وَيُقَالُ : مَعَنَ الْمَاءُ وَأَمْعَنَ إذَا سَالَ ، فَيَكُونُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى
فَاعِلٍ .
قَالَ عُبَيْدٌ : وَاهِيَةٌ أَوْ مَعِينٌ مُمْعِنٌ أَوْ
هَضْبَةٌ دُونَهَا لُهُوبُ وَفِيهَا أَقْوَالُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ .
الْآيَةُ
الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ
الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } .
قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الطَّيِّبِ ، وَتَفْسِيرُهُ
بِالْحَلَالِ ؛ وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعَمْرِيِّ عَنْهُ ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ عُثْمَانَ
أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ : وَعَلَيْكُمْ مِنْ الْمَطَاعِمِ بِمَا طَابَ
مِنْهَا .
وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا
يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ
بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ :
{ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا } .
ثُمَّ قَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا
مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ
} .
ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ
أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ : يَا رَبِّ يَا رَبِّ ، مَطْعَمُهُ حَرَامٌ ، وَمَشْرَبُهُ
حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ
لَهُ ، } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ مِنْ أَطْيَبِ
مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ } .
وَقَالَ تَعَالَى فِي دَاوُد : { وَعَلَّمْنَاهُ
صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ } .
وَرَوَى عُلَمَاؤُنَا أَنَّ عِيسَى كَانَ يَأْكُلُ مِنْ
غَزْلِ أُمِّهِ .
{ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي ، وَجُعِلَتْ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ
عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي } .
فَجَعَلَ اللَّهُ رِزْقَ مُحَمَّدٍ فِي كَسْبِهِ لِفَضْلِهِ
، وَخَصَّ لَهُ أَفْضَلَ أَنْوَاعِ الْكَسْبِ ، وَهُوَ أَخْذُ الْغَلَبَةِ
وَالْقَهْرِ ، لِشَرَفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ
قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يُؤْتَوْنَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ
أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ
وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : الَّذِينَ يُطِيعُونَ وَهُمْ خَائِفُونَ أَلَّا
يُقْبَلَ مِنْهُمْ .
الثَّانِي : الَّذِينَ يَعْصِمُونَ ، وَهُمْ يَخَافُونَ
أَنْ يُعَذَّبُوا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى التِّرْمِذِيُّ
وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ
: { سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ : { وَاَلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا
وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } قَالَتْ عَائِشَةُ : أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ ،
وَيَسْرِقُونَ ؟ قَالَ : لَا ، يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ أَوْ يَا بِنْتَ أَبِي
بَكْرٍ ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ ،
وَهُمْ يَخَافُونَ أَلَّا يُقْبَلَ مِنْهُمْ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ
فِي الْخَيْرَاتِ .
} وَقَدْ رَوَى عَطَاءٌ قَالَ : دَخَلْت مَعَ عُبَيْدِ
بْنِ عُمَيْرٍ عَلَى عَائِشَةَ ، فَقَالَ لَهَا : كَيْفَ كَانُوا يَقْرَءُونَ ، {
يُؤْتُونَ مَا آتَوْا } ؟ قَالَتْ : يَأْتُونَ مَا أَتَوْا ، فَلَمَّا خَرَجْنَا
مِنْ عِنْدِهَا قَالَ لِي عُبَيْدُ بْنَ عُمَيْرٍ : لَأَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَتْ
أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ حُمُرِ النَّعَمِ يَعْنِي بِقَوْلِهَا : يَأْتُونَ مَا
أَتَوْا مِنْ الْمَجِيءِ أَيْ يَأْتُونَ الذُّنُوبَ وَهُمْ خَائِفُونَ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : عَوَّلُوا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ ، وَلَا تَتَعَلَّقُوا
بِأَعْضَاءِ الْكَسِيرِ ، إنَّمَا كَانَ الْقَوْمُ إذَا غَلَبَ عَلَى
أَعْمَالِهِمْ الْإِخْلَاصُ وَالْقُرْبُ خَافُوا يَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ ،
وَهِيَ مَسْأَلَةٌ كَبِيرَةٌ ، وَهِيَ أَنَّ الْأَفْضَلَ لِلْمُتَّقِينَ أَنْ
يَغْلِبَ عَلَيْهِمْ مَقَامُ الرَّجَاءِ ، أَوْ يَغْلِبَ عَلَيْهِمْ مَقَامُ
الْخَوْفِ ؛ فَهَذِهِ الْآيَةُ تَشْهَدُ بِفَضْلِ غَلَبَةِ مَقَامِ الْخَوْفِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ
وَاَلَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَاَلَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ
لَا يُشْرِكُونَ وَاَلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ
إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا
سَابِقُونَ } .
وَكَانَ { النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَ بَدْرٍ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ مَقَامُ الْخَوْفِ ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ إلَى
السَّمَاءِ ، وَقَالَ : اللَّهُمَّ إنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدُ
فِي الْأَرْضِ مَادًّا يَدَيْهِ ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ ،
فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ : كَفَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ ،
فَإِنَّهُ مُنْجِزٌ لَك مَا وَعَدَك ، حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَدْ
أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ ، مُغَلِّبًا جَانِبَ الرَّجَاءِ فِي نُفُوذِ الْوَعْدِ .
} قَالَ الْقَاضِي : لَيْسَ يُحْتَاجُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
إلَى اخْتِلَافِ الْقِرَاءَةِ بَيْنَ يَأْتُونَ وَيُؤْتُونَ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ :
{ يُؤْتُونَ } يُعْطِي الْأَمْرَيْنِ ، تَقُولُ الْعَرَبُ : آتَيْت مِنْ نَفْسِي
الْقَبُولَ ، وَآتَيْت مِنْهَا الْإِنَابَةَ ، تُرِيدُ أَعْطَيْت الْقِيَادَ مِنْ
نَفْسِي يَعْنِي إذَا أَطَاعَ وَأَعْطَيْت الْعِنَادَ مِنْ نَفْسِي يَعْنِي إذَا
عَصَى ، فَمَعْنَاهُ يُؤْتُونَ مَا أَتَوْا مِنْ طَاعَةٍ أَوْ مِنْ مَعْصِيَةٍ ، وَلَكِنْ
ظَاهِرُ الْآيَةِ وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُؤْتِي الطَّاعَةَ ؛
لِأَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِالْخَشْيَةِ لِرَبِّهِمْ ، وَالْإِيمَانِ بِآيَاتِهِ ،
وَتَنْزِيهِهِ عَنْ الشِّرْكِ ، وَخَوْفِهِمْ عَدَمَ الْقَبُولِ
مِنْهُمْ
عِنْدَ لِقَائِهِ لَهُمْ ، فَلَا جَرَمَ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يُسَارِعُ
فِي الْخَيْرَاتِ ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى الْعِصْيَانِ مُتَمَادِيًا فِي
الْخِلَافِ مُسْتَمِرًّا ، فَكَيْفَ يُوصَفُ بِأَنَّهُ يُسَارِعُ فِي الْخَيْرَاتِ
أَوْ بِالْخَشْيَةِ لِرَبِّهِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ
فِيهِ .
أَمَّا إنَّ الَّذِي يَأْتِي الْمَعْصِيَةَ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : الَّذِي يَأْتِيهَا وَيَخَافُ الْعَذَابَ فَهَذَا
هُوَ الْمُذْنِبُ .
وَاَلَّذِي يَأْتِيهَا آمِنًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ
جِهَةِ غَلَبَةِ الرَّجَاءِ عَلَيْهِ فَهُوَ الْمَغْرُورُ ، وَالْمَغْرُورُ فِي
حِزْبِ الشَّيْطَانِ .
وَإِنْ أَتَاهَا شَاكًّا فِي الْعَذَابِ فَهُوَ مُلْحِدٌ
لَا مَغْفِرَةَ لَهُ .
وَلِأَجْلِ إشْكَالِ قَوْلِهِ : { يُؤْتُونَ مَا آتَوْا
} قَالَ بَعْضُهُمْ : يَعْنِي بِهِ إنْفَاقَ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ
إلَيْهِ صَلَاحِيَةُ لَفْظِ الْعَطَاءِ إلَّا فِي الْمَالِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لَفْظَ الْعَطَاءِ يَنْطَلِقُ
فِي كُلِّ مَعْنًى : مَالٍ وَغَيْرِهِ ، وَفِي كُلِّ طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ ،
وَاتَّضَحَتْ الْآيَةُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
الْمُبَادَرَةَ إلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ؛ مِنْ صَلَاةٍ فِي أَوَّلِ
الْوَقْتِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ ، هُوَ الْأَفْضَلُ ، وَمَدْحُ
الْبَارِي أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى صِفَةِ الْفَضْلِ فِي الْمَمْدُوحِ عَلَى
غَيْرِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ مُتَقَدِّمَةٍ .
الْآيَةُ
الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الذَّمِّ أَهْلُ الْحَرَمِ قَالَ
اللَّهُ لَهُمْ : { قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ
تَنْكِصُونَ } مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ، أَيْ بِالْحَرَمِ ، يُرِيدُ يَتَعَاطَوْنَ
بِهِ الْكِبْرَ وَيَدَّعُونَ ، حَتَّى كَانُوا يَرَوْنَ النَّاسَ يَتَخَطَّفُونَ
مِنْ حَوْلِهِمْ ، وَهُمْ آمِنُونَ
.
وَمِنْ الْكِبْرِ كُفْرٌ ، وَهُوَ التَّكَبُّرُ عَلَى
اللَّهِ ، وَعَلَى رَسُولِهِ ، وَالتَّكَبُّرُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِسْقٌ ،
وَالتَّكَبُّرُ عَلَى الْكُفَّارِ إيمَانٌ ؛ فَلَيْسَ الْكِبْرُ حَرَامًا
لِعَيْنِهِ ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ حُكْمُهُ بِحُكْمِ مُتَعَلَّقِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { سَامِرًا } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : حَلْقًا حَلْقًا
، وَأَصْلُهُ التَّحَلُّقُ بِاللَّيْلِ لِلسَّمَرِ ، وَكَنَّى بِقَوْلِهِ :
سَامِرًا عَنْ الْجَمَاعَةِ ، كَمَا يُقَالُ : بَاقِرٌ وَجَامِلٌ لِجَمَاعَةِ
الْبَقَرِ وَالْجِمَالِ ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْمَثَلِ : لَا أُكَلِّمُهُ السَّمَرَ
وَالْقَمَرَ يَعْنِي فِي قَوْلِهِمْ : اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : السَّمَرُ ظِلُّ الْقَمَرِ .
وَحَقِيقَتُهُ عِنْدِي أَنَّهُ لَفْظٌ يُسْتَعْمَلُ فِي
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهُمَا : ابْنَا سَمِيرٍ ؛ لِأَنَّ
ذَلِكَ فِي النَّهَارِ جِبِلَّةٌ ، وَفِي اللَّيْلِ عَادَةٌ ، فَانْتَظَمَا ، وَعُبِّرَ
عَنْهُمَا بِهِ ، وَقَدْ قَرَأَهُ أَبُو رَجَاءٍ سُمَّارًا جَمْعُ سَامِرٍ .
وَقَدْ قَالَ الطَّبَرِيُّ : إنَّمَا وَحَدّ سَامِرًا ، وَهُوَ
فِي مَوْضِعِ الْجَمْعِ ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ مَوْضِعَ الْوَقْتِ يَعْنِي
وَالْوَقْتُ وَاحِدٌ ، وَإِذَا خَرَجَ الْكَلَامُ عَنْ الْفَاعِلِ أَوْ الْفِعْلِ
إلَى الْوَقْتِ وُحِّدَ لِيَدُلَّ عَلَى خُرُوجِهِ عَنْ بَابِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { تَهْجُرُونَ } : قُرِئَ
بِرَفْعِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ ، وَبِنَصَبِ التَّاءِ وَضَمِّ الْجِيمِ ؛
فَالْأَوَّلُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْجَرَ إذَا نَطَقَ بِالْفُحْشِ .
وَالثَّانِي مِنْ هَجَرَ إذَا هَذَى ، وَمَعْنَاهُ تَتَكَلَّمُونَ
بِهَوَسٍ ، وَلَا يَضُرُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا
يَتَعَلَّقُ بِهِ ؛ إنَّمَا ضَرَرُهُ نَازِلٌ بِكُمْ ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ
" هَجَرَ " فِي سُورَةِ النِّسَاءِ .
وَلِذَلِكَ فَسَّرَهَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، فَقَالَ
: مُسْتَكْبِرِينَ بِحَرَمِي ، تَهْجُرُونَ نَبِيِّ وَزَادَ قَتَادَةُ أَنَّ
سَامِرَ الْحَرَمِ آمِنٌ ، لَا يَخَافُ بَيَاتًا ، فَعَظَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
السَّمَرَ فِي الْأَمْنِ وَإِفْنَاءَهُ فِي سَبِّ الرَّسُولِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : رَوَى سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، إنَّمَا كُرِهَ السَّمَرُ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ } يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ
ذَمَّ قَوْمًا بِأَنَّهُمْ يَسْمُرُونَ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ ،
إمَّا فِي
هَذَيَانٍ ، وَإِمَّا فِي إذَايَةٍ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ وَغَيْرِهِ : {
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا
وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا } يَعْنِي صَلَاةَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ ؛ أَمَّا الْكَرَاهِيَةُ
لِلنَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ فَلِئَلَّا يُعَرِّضَهَا لِلْفَوَاتِ .
وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ فِيهَا : " فَمَنْ نَامَ
فَلَا نَامَتْ عَيْنُهُ ، فَمَنْ نَامَ فَلَا نَامَتْ عَيْنُهُ ، فَمَنْ نَامَ فَلَا
نَامَتْ عَيْنُهُ " .
وَأَمَّا كَرَاهِيَةُ السَّمَرِ بَعْدَهَا ؛ فَلِأَنَّ
الصَّلَاةَ قَدْ كَفَّرَتْ خَطَايَاهُ ، لِيَنَامَ عَلَى سَلَامَةٍ ، وَقَدْ
خَتَمَ الْمَلَكُ الْكَرِيمُ الْكَاتِبُ صَحِيفَتَهُ بِالْعِبَادَةِ ، فَيَمْلَؤُهَا
بِالْهَوَسِ ، وَيَجْعَلُ خَاتَمَهَا الْبَاطِلَ أَوْ اللَّغْوَ ؛ وَلَيْسَ هَذَا
مِنْ فِعْلِ الْمُؤْمِنِينَ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّمَا يُكْرَهُ السَّمَرُ بَعْدَهَا
لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إيَّاكُمْ وَالسَّمَرَ بَعْدَ هَدْأَةِ الرِّجْلِ ؛ فَإِنَّ
أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَبُثُّ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ ، أَغْلِقُوا
الْأَبْوَابَ ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ ، وَخَمِّرُوا الْآنِيَةَ ، وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ } .
وَكَانَ عُمَرُ يَجْدِبُ السَّمَرَ بَعْدَ الْعِشَاءِ ،
أَيْ يَعِيبُهُ ، وَيَطُوفُ بِالْمَسْجِدِ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ ،
وَيَقُولُ : " الْحَقُوا بِرِحَالِكُمْ ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَكُمْ
صَلَاةً فِي بُيُوتِكُمْ " وَقَدْ كَانَ يَضْرِب عَلَى السَّمَرِ حِينَئِذٍ
وَيَقُولُ : " أَسَمَرًا أَوَّلَ اللَّيْلِ ، وَنَوْمًا آخِرَهُ ، أَرِيحُوا
كِتَابَكُمْ " ، حَتَّى إنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ قَرَضَ بَيْتَ شِعْرٍ بَعْدَ الْعِشَاءِ لَمْ
تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ حَتَّى يُصْبِحَ
" وَأَسْنَدَهُ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ إلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ : بَابُ
السَّمَرِ فِي الْفِقْهِ وَالْخَيْرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ ، وَذَكَرَ قُرَّةُ بْنُ
خَالِدٍ قَالَ : انْتَظَرْنَا الْحَسَنَ ، وَرَاثَ عَلَيْنَا ، حَتَّى جَاءَ قَرِيبًا
مِنْ وَقْتِ
قِيَامِهِ
، فَقَالَ : دَعَانَا جِيرَانُنَا هَؤُلَاءِ .
ثُمَّ قَالَ : قَالَ أَنَسٌ : انْتَظَرْنَا النَّبِيَّ
ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى إذَا كَانَ شَطْرُ اللَّيْلِ ، فَجَاءَ فَصَلَّى ، ثُمَّ
خَطَبَنَا ، فَقَالَ : { أَلَا إنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا وَرَقَدُوا ،
وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمْ الصَّلَاةَ } .
قَالَ الْحَسَنُ : " وَإِنَّ الْقَوْمَ لَا
يَزَالُونَ فِي خَيْرِ مَا انْتَظَرُوا الْخَيْرَ " .
ثُمَّ قَالَ : " بَابُ السَّمَرِ مَعَ الضَّيْفِ
وَالْأَهْلِ " : وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ إنَّ
أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ ، وَإِنَّ النَّبِيَّ قَالَ : {
مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ ، وَإِنْ كَانَ
عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ بِسَادِسٍ } ، وَإِنَّ أَبَا
بَكْرٍ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ ، وَانْطَلَقَ النَّبِيُّ بِعَشْرَةٍ .
قَالَ
: فَهُوَ وَأَنَا وَأَبِي وَأُمِّي ، وَلَا أَدْرِي هَلْ
قَالَ : وَامْرَأَتِي وَخَادِمٌ بَيْنَ بَيْتِنَا وَبَيْتِ أَبِي بَكْرٍ ، وَإِنَّ
أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ
لَبِثَ حَتَّى صُلِّيَتْ الْعِشَاءُ ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى نَعَسَ
النَّبِيُّ ، فَجَاءَ بَعْدَمَا مَضَى مِنْ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ .
قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ : مَا حَبَسَكَ عَنْ
أَضْيَافِك ؟ قَالَ : أَوَمَا عَشَّيْتِهِمْ ، قَالَتْ : أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ .
قَالَ : فَذَهَبْت أَنَا فَاخْتَبَأْتُ .
وَقَالَ : يَا غُنْثَرُ ، فَجَدَّعَ وَسَبَّ ، وَقَالَ :
" كُلُوا ، لَا هَنِيئًا ، وَاَللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ أَبَدًا .
وَاَيْمُ اللَّهِ مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ
إلَّا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا " .
قَالَ :
وَشَبِعُوا ، وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ
ذَلِكَ ، فَنَظَرَ إلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ ، فَإِذَا هِيَ كَمَا هِيَ أَوْ أَكْثَرُ .
فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ : يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ ، مَا
هَذَا قَالَتْ : لَا ، وَقُرَّةِ عَيْنِي ، لَهِيَ الْآنَ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ
ذَلِكَ بِثَلَاثٍ مِرَارٍ ، فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ ، وَقَالَ : إنَّمَا كَانَ
ذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ يَعْنِي يَمِينَهُ ، ثُمَّ
أَكَلَ مِنْهَا
لُقْمَةً ، ثُمَّ حَمَلَهَا إلَى النَّبِيِّ ، فَأَصْبَحْت عِنْدَهُ ، وَكَانَ
بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَقْدٌ ، فَمَضَى الْأَجَلُ ، فَفَرَّقْنَا اثْنَيْ
عَشَرَ رَجُلًا ، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ ، اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ
مَعَ كُلِّ رَجُلٍ ، فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ ، أَوْ كَمَا قَالَ .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : هَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ السَّمَرِ إنَّمَا هُوَ
لِأَجْلِ هَجْرِ الْقَوْلِ أَوْ لَغْوِهِ ، أَوْ لِأَجْلِ خَوْفِ فَوْتِ قِيَامِ
اللَّيْلِ .
فَإِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ هَذَا أَوْ تَعَلَّقَتْ
بِهِ حَاجَةٌ أَوْ غَرَضٌ شَرْعِيٌّ فَلَا حَرَجَ فِيهِ ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ
مَنْزَعِ الْآيَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخَذٌ آخَرُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الْحَادِيَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : ادْفَعْ بِالْإِغْضَاءِ
وَالصَّفْحِ إسَاءَةَ الْمُسِيءِ
.
الثَّانِي : ادْفَعْ الْمُنْكَرَ بِالْمَوْعِظَةِ
الْحَسَنَةِ .
الثَّالِثُ : ادْفَعْ سَيِّئَتَك بِالْحَسَنَةِ
بَعْدَهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ
قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى : { ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَك وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } ، إلَّا أَنَّ هَذِهِ
خَاصَّةٌ فِي الْعَفْوِ ، وَاَلَّتِي شَرَحْنَا الْكَلَامَ فِيهَا هَاهُنَا
عَامَّةٌ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ حَسْبَمَا سَطَّرْنَاهُ آنِفًا ، وَهِيَ
مَخْصُوصَةٌ فِي الْكُفَّارِ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ ، بَاقِيَةٌ فِي
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى عُمُومِهَا ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ : ادْفَعْ سَيِّئَتَك بِالْحَسَنَةِ
بَعْدَهَا فَيُشِيرُ إلَى الْغَفْلَةِ وَحَسَنَتُهَا الذِّكْرُ ، كَمَا قَالَ فِي
حَدِيثِ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيّ : أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ
سَبْعِينَ مَرَّةً .
وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي لَأَتُوبُ إلَى اللَّهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ }
وَقَالَتْ الصُّوفِيَّةُ : إنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ ادْفَعْ حَظَّ الدُّنْيَا إذَا زَحَمَ
حَظَّ الْآخِرَةِ بِحَظِّ الْآخِرَةِ وَحْدَهَا .
قَالَ لِي شِيحُنَا أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ : مَتَى
اجْتَمَعَ لَك أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا لِلدُّنْيَا وَالْآخَرُ لِلَّهِ فَقَدِّمْ
مَا لِلَّهِ فَإِنَّهُمَا يَحْصُلَانِ لَك جَمِيعًا .
وَإِنْ قَدَّمْت الدُّنْيَا رُبَّمَا فَاتَا مَعًا ،
وَرُبَّمَا حَصَلَ حَظُّ الدُّنْيَا وَلَمْ يُبَارَكْ لَك فِيهِ .
وَلَقَدْ جَرَّبْتُهُ فَوَجَدْتُهُ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ
دَفْعُ الْجَفَاءِ ، لَا جَرَمَ ، كَذَلِكَ قَالَ : رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي
فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ .
وَفِقْهُ الْآيَةِ : اُسْلُكْ مَسْلَكَ الْكِرَامِ ،
وَلَا تَلْحَظْ جَانِبَ الْمُكَافَأَةِ ، ادْفَعْ
بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَلَا تَسْلُكْ مَسْلَكَ الْمُبَايَعَةِ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ : سَلِّمْ عَلَى مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْكَ ، وَتَكْثُرُ الْأَمْثِلَةُ ، وَالْقَصْدُ مَفْهُومٌ ، فَاسْلُكُوهُ .
الْآيَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ
هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ
بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا سُلْطَانَ لِلشَّيْطَانِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ اللَّهَ عَصَمَهُ مِنْهُ ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَسْتَعِيذُ
مِنْهُ ، كَمَا كَانَ يَسْتَغْفِرُ بَعْدَ إعْلَامِهِ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُ ،
تَحْقِيقًا لِلْمَوْعِدِ ، أَوْ تَأْكِيدًا لِلشَّرْطِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَمْرُهُ [ لَنَا ] بِالِاسْتِعَاذَةِ
عَامٌّ ، فَلَا جَرَمَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَسْتَعِيذُ ، حَتَّى عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ ، فَيَقُولُ : { أَعُوذُ
بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْثِهِ وَنَفْخِهِ ،
حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ؛ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ } .
سُورَةُ
النُّورِ فِيهَا تِسْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : {
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : {
سُورَةٌ } : يَعْنِي مُنَزَّلَةً وَمُرَتَّبَةٌ ؛ أَلَمْ تَرَوْا قَوْلَ
الشَّاعِرِ : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً تَرَى كُلَّ مُلْكٍ
دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ وَعَامَّةُ الْقُرَّاءِ عَلَى رَفْعِهَا ، وَقَرَأَهَا
عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِالنَّصْبِ ؛ وَهُوَ بَيِّنٌ ، فَأَمَّا الرَّفْعُ فَقَالَ
أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ : إنَّهَا عَلَى خَبَرِ الِابْتِدَاءِ ، التَّقْدِيرُ
هَذِهِ سُورَةٌ ؛ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالنَّكِرَةِ قَبِيحٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا
فِي الرِّسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ أَنَّهُ فَصِيحٌ مَلِيحٌ ، وَجِئْنَا فِيهِ
بِالْمِثَالِ الصَّحِيحِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { فَرَضْنَاهَا } : يُقْرَأُ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ
وَتَشْدِيدِهَا ، فَمَنْ خَفَّفَ فَمَعْنَاهُ أَوْجَبْنَاهَا مُعَيَّنَةً
مُقَدَّرَةً ، كَمَا قَالَ : { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى
كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ، ذَكَرٍ وَأُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ } .
وَمَنْ شَدَّدَ فَمَعْنَاهُ عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا عَلَى
مَعْنَى وَضَعْنَاهَا فَرَائِضَ فَرَائِضَ ، أَوْ فَرْضًا فَرْضًا ، كَمَا تَقُولُ
: نَزَّلْت فُلَانًا ، أَيْ قَدَّرْت لَهُ الْمَنَازِلَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِم : " فَنَزَّلَنِي زَيْدٌ
" أَيْ رَتَّبَ لِي مَنَازِلَ كَثِيرَةً .
الثَّانِي : عَلَى مَعْنَى التَّكْثِيرِ ، وَهُوَ
صَحِيحٌ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } فِيهَا حِجَجٌ وَتَوْحِيدٌ ، وَفِيهَا دَلَائِلُ الْأَحْكَامِ ، وَالْكُلُّ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ : حِجَجُ الْعُقُولِ تُرْشِدُ إلَى مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ ، وَدَلَائِلُ الْأَحْكَامِ تُرْشِدُ إلَى وَجْهِ الْحَقِّ ، وَتَرْفَعُ غُمَّةَ الْجَهْلِ ؛ وَهَذَا هُوَ شَرَفِ السُّورَةِ ، وَهُوَ أَقَلُّ مَا وَقَعَ التَّحَدِّي بِهِ فِي سَبِيلِ الْمُعْجِزَةِ ، فَيَكُونُ شَرَفًا لِلنَّبِيِّ فِي الْوِلَايَةِ ، شَرَفًا لَنَا فِي الْهِدَايَةِ .
الْآيَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ
فِي دِينِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } .
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْلُهُ : { الزَّانِيَةُ } قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حَدِّ الزِّنَا ،
وَحَقِيقَتُهُ ، وَأَنَّهُ الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ شَرْعًا فِي غَيْرِ مِلْكٍ
وَلَا شُبْهَةِ مِلْكٍ ، كَانَ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ ، فِي ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى .
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِاسْمِ اللُّغَةِ فَبِهَا
وَنِعْمَتْ ، وَإِنْ كَانَ بِأَنَّ اللِّوَاطَ فِي مَعْنَى الزِّنَا فَحَسَنٌ
أَيْضًا ، وَلَا مُبَالَاةَ كَيْفَ يُرَدُّ الْأَمْرُ عَلَيْكُمْ ، فَقَدْ
أَحْكَمْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ ، وَحَقَقْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
بِأَدِلَّتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قُرِئَ بِالرَّفْعِ
وَالنَّصْبِ فِيهِمَا ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ السَّرِقَةِ إعْرَابًا
وَقِرَاءَةً وَمَعْنًى ، كِفَّةً كِفَّةً ؛ فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله
تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } فَذَكَرَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى فِيهِ ،
وَالزَّانِي كَانَ يَكْفِي عَنْهُ
.
قُلْنَا : هَذَا تَأْكِيدٌ لِلْبَيَانِ ، كَمَا قَالَ :
{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
} .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ فِي الزِّنَا لِئَلَّا
يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الرَّجُلَ لَمَّا كَانَ هُوَ الْوَاطِئُ وَالْمَرْأَةُ
مَحَلُّ ذِكْرِهِمَا دَفْعًا لِهَذَا الْإِشْكَالِ الَّذِي أَوْقَع جَمَاعَةً مِنْ
الْعُلَمَاءِ ، حَتَّى قَالُوا : لَا كَفَّارَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْوَطْءِ
فِي رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : جَامَعْت أَهْلِي فِي رَمَضَانَ .
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : كَفِّرْ " .
وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ بِمُجَامِعَةٍ وَلَا وَاطِئَةٍ ،
وَهَذَا تَقْصِيرٌ عَظِيمٌ مِنْ الشَّافِعِيِّ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ،
وَأَنَّهَا تَتَّصِفُ بِالْوَطْءِ ، فَكَيْفَ بِالْجِمَاعِ الَّذِي هُوَ
مُفَاعَلَةٌ ، هَذَا مَا لَا يَخْفَى عَلَى لَبِيبٍ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي } فَبَدَأَ بِالْمَرْأَةِ قَبْلَ الرَّجُلِ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : ذَلِكَ لِفَائِدَتَيْنِ :
إحْدَاهُمَا : أَنَّ الزِّنَا فِي الْمَرْأَةِ أَعَرُّ لِأَجْلِ الْحَمْلِ ،
فَصَدَّرَ بِهَا لِعِظَمِ حَالِهَا فِي الْفَاحِشَةِ .
الثَّانِيَةُ : أَنَّ الشَّهْوَةَ فِي الْمَرْأَةِ
أَكْثَرُ ، فَصَدَّرَ بِهَا تَغْلِيظًا لِرَدْعِ شَهْوَتِهَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ
رَكَّبَ فِيهَا حَيَاءً ، وَلَكِنَّهَا إذَا زَنَتْ ذَهَبَ الْحَيَاءُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا } جَعَلَ اللَّهُ كَمَا تَقَدَّمَ حَدَّ الزِّنَا قِسْمَيْنِ : رَجْمًا
عَلَى الثَّيِّبِ ، وَجَلْدًا عَلَى الْبِكْرِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ : {
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا } عَامٌّ فِي كُلِّ
زَانٍ ، ثُمَّ شَرَحَتْ السُّنَّةُ حَالَ الثَّيِّبِ ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي
سُورَةِ النِّسَاءِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ ،
وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ } .
فَقَالَ سُنَّةً ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ الْجَلْدَ قُرْآنًا
، وَبَقِيَ الرَّجْمُ عَلَى حَالِهِ فِي الثَّيِّبِ ، وَالتَّغْرِيبُ فِي
الْبِكْرِ ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هُنَالِكَ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذَا الْأَمْرِ بِالْجَلْدِ
الْإِمَامُ ، وَمَنْ نَابَ عَنْهُ ، وَزَادَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : السَّادَةُ
فِي الْعَبِيدِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي كُلِّ جَلْدٍ وَقَطْعٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ : فِي الْجَلْدِ خَاصَّةً دُونَ
الْقَطْعِ ، كَمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ : { إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ
فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ } .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { لَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ
} اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهَا ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : { لَا تَأْخُذْكُمْ
بِهِمَا رَأْفَةٌ } فَتُسْقِطُوا الْحَدَّ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : { لَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا
رَأْفَةٌ } فَتُخَفِّفُوا الْحَدَّ ؛ وَهُوَ عِنْدِي مَحْمُولٌ عَلَيْهِمَا
جَمِيعًا ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَحْمِلَ أَحَدًا رَأْفَةٌ عَلَى زَانٍ بِأَنْ
يُسْقِطَ الْحَدَّ أَوْ يُخَفِّفَهُ عَنْهُ .
وَصِفَةُ الضَّرْبِ أَنْ يَكُونَ سَوْطًا بَيْنَ
السَّوْطَيْنِ ، وَضَرْبًا بَيْنَ الضَّرْبَيْنِ ، وَتَسْتَوِي فِي ذَلِكَ
الْحُدُودُ كُلُّهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا سَوَاءٌ بَيْنَ
الْحُدُودِ ، ضَرْبُ الزَّانِي أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الْقَذْفِ ، وَضَرْبُ
الْقَذْفِ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الشُّرْبِ ، وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا صُورَةَ
الذَّنْبِ ، فَرَكَّبُوا عَلَيْهِ صِفَةَ الْعُقُوبَةِ ، وَالشُّرْبُ أَخَفُّ مِنْ
الْقَذْفِ ، وَالْقَذْفُ أَخَفُّ مِنْ الزِّنَا ؛ فَحَمَلُوهُ عَلَيْهِ
وَقَرَنُوهُ بِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ أَصَابَ حَدًّا ، وَأُتِيَ بِسَوْطٍ
شَدِيدٍ ، فَقَالَ : دُونَ هَذَا
.
وَأُتِيَ بِسَوْطٍ دُونَهُ ، فَقَالَ : فَوْقَ هَذَا } .
وَأَمَرَ عُمَرُ بِرَجُلٍ يَضْرِبُ الْحَدَّ ، فَقَالَ
لَهُ : " لَا تَرْفَعْ إبِطَكَ
" .
وَعَنْهُ : أَنَّهُ اخْتَارَ سَوْطًا بَيْنَ
السَّوْطَيْنِ .
وَيُفَرَّقُ عَلَيْهِ الضَّرْبُ فِي ظَهْرِهِ ،
وَتُجْتَنَبُ مَقَاتِلُهُ ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ .
وَهَذَا مَا لَمْ يَتَتَابَعْ النَّاسُ فِي الشَّرِّ ،
وَلَا احْلَوْلَتْ لَهُمْ الْمَعَاصِي ، حَتَّى يَتَّخِذُوهَا ضَرَاوَةً ،
وَيَعْطِفُ النَّاسُ عَلَيْهِمْ بِالْهَوَادَةِ ، فَلَا يَتَنَاهَوْا عَنْ
مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ؛ فَحِينَئِذٍ تَتَعَيَّنُ الشِّدَّةُ ، وَيَزِيدُ الْحَدُّ ،
لِأَجْلِ زِيَادَةِ الذَّنْبِ .
وَقَدْ أُتِيَ عُمَرُ بِسَكْرَانٍ فِي رَمَضَانَ ، فَضَرَبَهُ
مِائَةً : ثَمَانِينَ حَدُّ الْخَمْرِ ، وَعِشْرِينَ لِهَتْكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ
؛ فَهَكَذَا يَجِبُ أَنْ تَتَرَكَّبَ الْعُقُوبَاتُ عَلَى تَغْلِيظِ الْجِنَايَاتِ
، وَهَتْكِ الْحُرُمَاتِ .
وَقَدْ لَعِبَ رَجُلٌ بِصَبِيٍّ ،
فَضَرَبَهُ الْوَالِي ثَلَاثَمِائَةِ سَوْطٍ ، فَلَمْ يُغَيِّرْ ذَلِكَ مَالِكًا حِينَ بَلَغَهُ ، فَكَيْفَ لَوْ رَأَى زَمَانَنَا هَذَا بِهَتْكِ الْحُرُمَاتِ وَالِاسْتِهْتَارِ بِالْمَعَاصِي ، وَالتَّظَاهُرِ بِالْمَنَاكِرِ ، وَبَيْعِ الْحُدُودِ ، وَاسْتِيفَاءِ الْعَبِيدِ لَهَا فِي مَنْصِبِ الْقُضَاةِ ؟ ؛ لَمَاتَ كَمِدًا ، وَلَمْ يُجَالِسْ أَحَدًا ؛ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ } .
وَفِقْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَدَّ الْمَحْدُودَ ، وَمَنْ
شَهِدَهُ وَحَضَرَهُ يَتَّعِظُ بِهِ وَيَزْدَجِرُ لِأَجْلِهِ ، وَيَشِيعُ
حَدِيثُهُ ؛ فَيَعْتَبِرُ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : وَاخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ
الطَّائِفَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ :
وَاحِدٌ ، فَمَا زَادَ عَلَيْهِ ؛ قَالَ إبْرَاهِيمُ .
الثَّانِي : رَجُلَانِ فَصَاعِدًا ؛ قَالَهُ عَطَاءٌ .
الثَّالِثُ : ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا ؛ قَالَهُ قَوْمٌ .
الرَّابِعُ : أَرْبَعَةٌ فَصَاعِدًا ؛ قَالَ عِكْرِمَةُ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ عَشْرَةٌ .
وَحَقِيقَةُ الطَّائِفَةِ فِي الِاشْتِقَاقِ فَاعِلَةٌ
مِنْ طَافَ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَوْلَا نَفَرَ
مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } .
وَذَلِكَ يَصِحُّ فِي الْوَاحِدِ .
وَمِنْ هَاهُنَا اسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَبُولِ
خَبَرِ الْوَاحِدِ ، إلَّا أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ هَاهُنَا يَقْتَضِي أَنْ
يَكُونُوا جَمَاعَةً لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ التَّشْدِيدِ وَالْعِظَةِ
وَالِاعْتِبَارِ .
وَاَلَّذِي أَشَارَ إلَى أَنْ تَكُونَ أَرْبَعَةً نَزَعَ
بِأَنَّهُ أَقَلُّ عَدَدِ شُهُودِهِ
.
وَالصَّحِيحُ سُقُوطُ الْعَدَدِ ، وَاعْتِبَارُ
الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ بِهِمْ التَّشْدِيدُ مِنْ غَيْرِ حَدٍّ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ
قَوْله تَعَالَى : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً
وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي وَجْهِ نُزُولِهَا : فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : { أَنَّهَا
نَزَلَتْ مَخْصُوصَةً فِي رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ
مَهْزُولٍ ، كَانَتْ مِنْ بَغَايَا الزَّانِيَاتِ ، وَشَرَطَتْ لَهُ أَنْ تُنْفِقَ
عَلَيْهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ } ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ .
الثَّانِي : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ رَجُلٍ
يُقَالُ لَهُ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ ، وَكَانَ رَجُلًا يَحْمِلُ الْأَسْرَى
مِنْ مَكَّةَ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِمْ الْمَدِينَةَ قَالَ : وَكَانَتْ امْرَأَةٌ
بَغِيٌّ بِمَكَّةَ يُقَالُ لَهَا عَنَاقُ ، وَكَانَتْ صَدِيقَةً لَهُ ، وَأَنَّهُ
كَانَ وَعَدَ رَجُلًا مِنْ أَسَارَى مَكَّةَ يَحْمِلُهُ قَالَ : فَجِئْت حَتَّى
انْتَهَيْت إلَى ظِلِّ حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِ مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ .
قَالَ : فَجَاءَتْ عَنَاقُ فَأَبْصَرْت سَوَادَ ظِلِّي
بِجَنْبِ الْحَائِطِ ، فَلَمَّا انْتَهَتْ إلَيَّ عَرَفَتْنِي ، فَقَالَتْ :
مَرْثَدٌ ، فَقُلْت : مَرْثَدٌ ، فَقَالَتْ : مَرْحَبًا وَأَهْلًا .
هَلُمَّ ، فَبِتْ عِنْدَنَا اللَّيْلَةَ ، فَقُلْت : يَا
عَنَاقُ ؛ إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الزِّنَا قَالَتْ : يَا أَهْلَ الْخِيَامِ ؛ هَذَا
الرَّجُلُ يَحْمِلُ أَسْرَاكُمْ ، فَتَبِعَنِي ثَمَانِيَةٌ ، وَسَلَكْت
الْخَنْدَمَةَ ، فَانْتَهَيْت إلَى غَارٍ ، فَدَخَلْت فَجَاءُوا حَتَّى قَامُوا
عَلَى رَأْسِي ، فَبَالُوا فَتَطَايَرَ بَوْلُهُمْ عَلَى رَأْسِي ، وَعَمَّاهُمْ
اللَّهُ عَنِّي .
قَالَ :
ثُمَّ رَجَعُوا ، وَرَجَعْت إلَى صَاحِبِي فَحَمَلْتُهُ
، وَكَانَ رَجُلًا ثَقِيلًا ، حَتَّى انْتَهَيْت إلَى الْإِذْخِرِ ، فَفَكَكْت
عَنْهُ كَبْلَهُ ، فَجَعَلْت أَحْمِلَهُ ، وَيُعِينُنِي ، حَتَّى قَدِمْت الْمَدِينَةَ
، فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت : يَا
رَسُولَ اللَّهِ ، أَنْكِحُ عَنَاقًا ، فَأَمْسَكَ
رَسُولُ اللَّهِ
فَلَمْ يَرُدَّ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا
زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ
مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَا مَرْثَدُ ، الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا
زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ، وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ
مُشْرِكٌ إلَى آخِرِ الْآيَةِ ، فَلَا تَنْكِحْهَا } .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ ،
وَكَانُوا قَوْمًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِالْمَدِينَةِ
مَسَاكِنُ وَلَا عَشَائِرُ ، فَنَزَلُوا صُفَّةَ الْمَسْجِدِ ، وَكَانُوا
أَرْبَعَمِائَةِ رَجُلٍ يَلْتَمِسُونَ الرِّزْقَ بِالنَّهَارِ ، وَيَأْوُونَ إلَى
الصُّفَّةِ بِاللَّيْلِ ، وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ بَغَايَا مُتَعَالِنَاتٌ
بِالْفُجُورِ ، مَخَاصِيبُ بِالْكِسْوَةِ وَالطَّعَامِ ، فَهَمَّ أَهْلُ
الصُّفَّةِ أَنْ يَتَزَوَّجُوهُنَّ ، فَيَأْوُوا إلَى مَسَاكِنِهِنَّ ،
وَيَأْكُلُوا مِنْ طَعَامِهِنَّ وَكِسْوَتِهِنَّ ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ
الْآيَةُ ؛ قَالَهُ ابْنُ أَبِي صَالِحٍ .
وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَزَادَ : أَنَّهُنَّ كُنَّ
يُدْعَيْنَ الْجَهَنَّمِيَّاتُ ، نِسْبَةً إلَى جَهَنَّمَ .
الرَّابِعُ :
مَعْنَاهُ الزَّانِي لَا يَزْنِي إلَّا بِزَانِيَةٍ ،
وَالزَّانِيَةُ لَا تَزْنِي إلَّا بِزَانٍ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
الْخَامِسُ
: أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ فِي الزَّانِي لَا يَنْكِحُ
إلَّا زَانِيَةً مَحْدُودَةً ، وَلَا يَنْكِحُ الزَّانِيَةَ الْمَحْدُودَةَ إلَّا
زَانٍ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَغَيْرهمَا .
السَّادِسُ : أَنَّهُ عَامٌّ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ
الزَّانِيَةِ عَلَى الْعَفِيفِ ، وَالْعَفِيفِ عَلَى الزَّانِيَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ
مُشْكِلَاتِ الْقُرْآنِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذِهِ صِيغَةُ
الْخَبَرِ ، وَهُوَ عَلَى مَعْنَاهُ ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ
وَشَرَحْنَاهُ ، رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْخَبَرَ يَرِدُ بِمَعْنَى
الْأَمْرِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَنْكِحُ إلَّا
زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً .
وَنَحْنُ
نَرَى الزَّانِيَ يَنْكِحُ الْعَفِيفَةَ .
وَقَالَ أَيْضًا : وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا
زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ، وَنَحْنُ نَرَى الزَّانِيَةَ يَنْكِحُهَا الْعَفِيفُ ،
فَكَيْفَ يُوجَدُ خِلَافُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْهُ ؟ وَخَبَرُهُ صِدْقٌ ،
وَقَوْلُهُ حَقٌّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ مُخْبِرُهُ بِخِلَافِ خَبَرِهِ ؛ وَلِهَذَا
أَخَذَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا مَآخِذَ مُتَبَايِنَةً ، وَلَمْ أَسْمَعْ لِمَالِكٍ
فِيهَا كَلَامًا .
وَقَدْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَرَى أَنَّ الرَّجُلَ
إذَا زَنَى بِالْمَرْأَةِ ثُمَّ نَكَحَهَا أَنَّهُمَا زَانِيَانِ ، مَا عَاشَا .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " أَوَّلُهُ سِفَاحٌ
وَآخِرُهُ نِكَاحٌ " .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مِثْلَهُ .
وَقَالَ :
" هَذَا مِثْلُ رَجُلٍ سَرَقَ ثَمَرَةً ثُمَّ
اشْتَرَاهَا " ، وَأَخَذَ مَالِكٌ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، فَرَأَى
أَنَّهُ لَا يَنْكِحُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا مِنْ مَائِهِ الْفَاسِدِ .
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ ذَلِكَ
الْمَاءَ لَا حُرْمَةَ لَهُ ، وَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ مَاءَ الزِّنَا وَإِنْ كَانَ
لَا حُرْمَةَ لَهُ ، فَمَاءُ النِّكَاحِ لَهُ حُرْمَةٌ ، وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَلَّا
يُصَبَّ عَلَى مَاءِ السِّفَاحِ ، فَيُخْلَطُ الْحَرَامُ بِالْحَلَالِ ،
وَيُمْزَجُ مَاءُ الْمَهَانَةِ بِمَاءِ الْعِزَّةِ ؛ فَكَانَ نَظَرُ مَالِكٍ
أَشَدَّ مِنْ نَظَرِ سَائِرِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي التَّنْقِيحِ :
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْبَغَايَا فَظَاهِرٌ فِي
الرِّوَايَةِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الزَّانِيَ الْمَحْدُودَ وَهُوَ
الَّذِي ثَبَتَ زِنَاهُ لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً مَحْدُودَةً ، فَكَذَلِكَ
رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ ، وَأَسْنَدَهُ قَوْمٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، وَهَذَا مَعْنًى لَا يَصِحُّ نَظَرًا كَمَا لَمْ يَثْبُتْ نَقْلًا .
وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُوقَفَ نِكَاحُ مَنْ حُدَّ مِنْ
الرِّجَالِ عَلَى نِكَاحِ مَنْ حُدَّ مِنْ النِّسَاءِ ؛ فَبِأَيِّ أَثَرٍ يَكُونُ
ذَلِكَ أَوْ عَلَى أَيِّ أَصْلٍ يُقَاسُ مِنْ الشَّرِيعَةِ ؟ وَاَلَّذِي عِنْدِي
أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْوَطْءُ ، كَمَا قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ
، أَوْ الْعَقْدُ ؟ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْوَطْءُ فَإِنَّ مَعْنَاهُ لَا يَكُونُ
زِنًا إلَّا بِزَانِيَةٍ ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ أَنَّ الْوَطْأَيْنِ مِنْ
الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ زِنًا مِنْ الْجِهَتَيْنِ ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ
وَطْءَ الزِّنَا لَا يَقَعُ إلَّا مِنْ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٍ ، وَهَذَا يُؤْثَرُ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ وَهُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ .
فَإِنْ قِيلَ : وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِيهِ ؟ وَكَذَلِكَ
هُوَ .
قُلْنَا : عَلِمْنَاهُ كَذَلِكَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ ،
فَهُوَ أَحَدُ أَدِلَّتِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا بَالِغٌ زَنَى بِصَبِيَّةٍ أَوْ
عَاقِلٌ بِمَجْنُونَةٍ ، أَوْ مُسْتَيْقِظٌ بِنَائِمَةٍ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ
جِهَةِ الرَّجُلِ زِنًا ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ زِنًا ،
فَهَذَا زَانٍ يَنْكِحُ غَيْرَ زَانِيَةٍ ، فَيَخْرُجُ الْمُرَادُ عَنْ بَابِهِ الَّذِي
تَقَدَّمَ .
قُلْنَا : هُوَ زِنًا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ ، إلَّا أَنَّ
أَحَدَهُمَا سَقَطَ فِيهِ الْحَدُّ ، وَالْآخَرُ ثَبَتَ فِيهِ الْحَدُّ ، وَإِنْ
أَرَدْنَا بِهِ الْعَقْدَ كَانَ مَعْنَاهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الزَّانِيَةَ زَانٍ ،
أَوْ يَتَزَوَّجَ زَانٍ الزَّانِيَةَ ، وَتَزْوِيجُ الزَّانِيَةِ يَكُونُ عَلَى
وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَرَحِمُهَا مَشْغُولٌ بِالْمَاءِ الْفَاسِدِ .
الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ قَدْ اُسْتُبْرِئَتْ .
فَإِنْ كَانَ رَحِمُهَا مَشْغُولًا بِالْمَاءِ فَلَا
يَجُوزُ نِكَاحُهَا ، فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ زِنًا ، لَكِنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ،
لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ
.
وَأَمَّا إنْ اُسْتُبْرِئَتْ فَذَلِكَ جَائِزٌ إجْمَاعًا .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : بَيْنَمَا أَبُو
بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي الْمَسْجِدِ إذْ جَاءَ رَجُلٌ فَلَاثَ عَلَيْهِ لَوْثًا
مِنْ كَلَامٍ وَهُوَ دَهِشٌ ، فَقَالَ لِعُمَرَ : " قُمْ فَانْظُرْ فِي
شَأْنِهِ ، فَإِنَّ لَهُ شَأْنًا
" .
فَقَامَ إلَيْهِ عُمَرُ ، فَقَالَ : " إنَّ ضَيْفًا
ضَافَهُ فَزَنَى بِابْنَتِهِ " فَضَرَبَ عُمَرُ فِي صَدْرِهِ .
وَقَالَ :
" قَبَّحَكَ اللَّهُ ، أَلَا سَتَرْتَ عَلَى
ابْنَتِكَ " ، فَأَمَرَ بِهِمَا أَبُو بَكْرٍ فَضُرِبَا الْحَدَّ ، ثُمَّ
زَوَّجَ أَحَدَهُمَا الْآخَرَ ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمَا أَنْ يُغَرَّبَا حَوْلًا .
وَقَدْ رَوَى
نَافِعٌ أَنَّ
رَجُلًا اسْتَكْرَهَ جَارِيَةً فَافْتَضَّهَا ، فَجَلَدَهُ أَبُو بَكْرٍ ، وَلَمْ
يَجْلِدْهَا ، وَنَفَاهُ سَنَةً ، ثُمَّ جَاءَ فَزَوَّجَهُ إيَّاهَا بَعْد ذَلِكَ
، وَجَلَدَهُ عُمَرُ وَنَفَى أَحَدَهُمَا إلَى خَيْبَرَ ، وَالْآخَرُ إلَى فَدَكَ .
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ رَجُلًا فَجَرَ بِامْرَأَةٍ
وَهُمَا بِكْرَانِ ، فَجَلَدَهُمَا أَبُو بَكْرٍ ، وَنَفَاهُمَا ، ثُمَّ زَوَّجَهُ
إيَّاهَا مِنْ بَعْدِ الْحَوْلِ
.
وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ وَأَشْبَهُ
بِالنَّظَرِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الزَّوَاجُ بَعْدَ تَمَامِ التَّغْرِيبِ وَقَدْ
رَوَى مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ
: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ، وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا
إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ .
قَالَ : نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْآيَةَ الَّتِي
بَعْدَهَا : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ
عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ
النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ ،
وَإِنَّمَا هُوَ تَخْصِيصٌ عَامٌّ وَبَيَانٌ لِمُحْتَمَلٍ ، كَمَا تَقْتَضِيهِ
الْأَلْفَاظُ وَتَوْجِيهٌ لِأُصُولٍ ، مَنْ فَسَّرَ النِّكَاحَ بِالْوَطْءِ أَوْ بِالْعَقْدِ
وَتَرْكِيبُ الْمَعْنَى عَلَيْهِ
.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ
: قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا
لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } .
فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : قَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ } .
يُرِيدُ يَشْتُمُونَ .
وَاسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُ الرَّمْيِ ، لِأَنَّهُ إذَايَةٌ
بِالْقَوْلِ ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُ الْقَذْفُ .
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : إنَّ
هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ السَّحْمَاءِ ،
وَقَالَ أَبُو كَبْشَةَ : وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ وَقَالَ : رَمَانِي
بِأَمْرٍ كُنْت مِنْهُ وَوَالِدِي بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوَى رَمَانِي الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ } مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِهِ مَوْضِعَ
رَفْعٍ أَوْ نَصْبٍ ، كَاخْتِلَافِهِمْ فِي السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ
وَالزَّانِيَةِ وَالزَّانِي سَوَاءٌ
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { الْمُحْصَنَاتِ } قَدْ بَيَّنَّا الْإِحْصَانَ
وَأَقْسَامَهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ، وَقُلْنَا : إنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى
الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْعِفَّةِ ؛ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ
بِهَا الْعِفَّةُ هَاهُنَا .
وَشُرُوطُ الْقَذْفِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ تِسْعَةٌ :
شَرْطَانِ فِي الْقَاذِفِ ، وَشَرْطَانِ فِي الْمَقْذُوفِ بِهِ ، وَخَمْسَةٌ فِي
الْمَقْذُوفِ .
فَأَمَّا الشَّرْطَانِ اللَّذَانِ فِي الْقَاذِفِ :
فَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ .
وَأَمَّا الشَّرْطَانِ فِي الشَّيْءِ الْمَقْذُوفِ
مِنْهُ : فَهُوَ أَنْ يَقْذِفَهُ بِوَطْءٍ يَلْزَمُهُ فِيهِ الْحَدُّ ، وَهُوَ
الزِّنَا أَوْ اللِّوَاطُ ، أَوْ يَنْفِيهِ مِنْ أَبِيهِ ، دُونَ سَائِرِ
الْمَعَاصِي .
وَأَمَّا الْخَمْسُ الَّتِي فِي الْمَقْذُوفِ فَهِيَ :
الْعَقْلُ ، وَالْبُلُوغُ ، وَالْإِسْلَامُ ، وَالْحُرِّيَّةُ ، وَالْعِفَّةُ عَنْ
الْفَاحِشَةِ الَّتِي رُمِيَ بِهَا كَانَ عَفِيفًا عَنْ غَيْرِهَا أَوْ لَا .
فَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ فِي
الْقَاذِفِ ؛ فَلِأَنَّهُمَا أَصْلَا التَّكْلِيفِ ؛ إذْ التَّكْلِيفُ سَاقِطٌ دُونَهُمَا
، وَإِنَّمَا شَرَطْنَاهُمَا فِي الْمَقْذُوفِ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا فِي مَعَانِي الْإِحْصَانِ
لِأَجْلِ أَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا وُضِعَ لِلزَّجْرِ عَنْ الْإِذَايَةِ
بِالْمَعَرَّةِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْمَقْذُوفِ ، وَلَا مَعَرَّةَ عَلَى مَنْ
عَدِمَ الْعَقْلَ وَالْبُلُوغَ ؛ إذْ لَا يُوصَفُ الْوَطْءُ فِيهِمَا وَلَا
مِنْهُمَا بِأَنَّهُ زِنًا .
وَأَمَّا شُرُوطُ الْإِسْلَامِ فِيهِ ؛ فَلِأَنَّهُ مِنْ
مَعَانِي الْإِحْصَانِ وَأَشْرَفِهَا ، كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ ، وَلِأَنَّ
عِرْضَ الْكَافِرَ لَا حُرْمَةَ لَهُ يَهْتِكُهَا الْقَذْفُ ، كَالْفَاسِقِ الْمُعْلِنِ
لَا حُرْمَةَ لِعِرْضِهِ ؛ بَلْ هُوَ أَوْلَى لِزِيَادَةِ الْكُفْرِ عَلَى
الْمُعْلِنِ بِالْفِسْقِ .
وَأَمَّا شَرَفُ الْعِفَّةِ ؛ فَلِأَنَّ الْمَعَرَّةَ
لَاحِقَةٌ بِهِ ، وَالْحُرْمَةُ ذَاهِبَةٌ ، وَهِيَ مُرَادَةٌ هَاهُنَا إجْمَاعًا .
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَإِنَّمَا شَرَطْنَاهَا
لِأَجْلِ نُقْصَانِ عِرْضِ الْعَبْدِ عَنْ عِرْضِ الْحُرِّ ، بِدَلِيلِ نُقْصَانِ
حُرْمَةِ دَمِهِ عَنْ دَمِهِ ؛ وَلِذَلِكَ
لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ ، وَلَا يُحَدُّ بِقَذْفِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : الْمُرَادُ بِالرَّمْيِ هَاهُنَا التَّعْبِيرُ بِالزِّنَا خَاصَّةً
؛ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ زَوْجَهُ
بِشَرِيكِ بْنِ السَّحْمَاءِ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { الْبَيِّنَةَ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِك } وَالنُّكْتَةُ الْبَدِيعَةُ فِيهِ
أَنَّهُ قَالَ : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } ، وَاَلَّذِي
يَفْتَقِرُ إلَى أَرْبَعَةِ شُهَدَاءِ هُوَ الزِّنَا ؛ وَهَذَا قَاطِعٌ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { يَرْمُونَ }
اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا صَرَّحَ بِالزِّنَا كَانَ قَذْفًا
وَذَنْبًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ ؛ فَإِنَّ عَرَّضَ وَلَمْ يُصَرِّحْ ، فَقَالَ
مَالِكٌ : هُوَ قَذْفٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ
بِقَذْفٍ .
وَمَالِكٌ أَسَدُّ طَرِيقَةٍ فِيهِ ؛ لِأَنَّ
التَّعْرِيضَ قَوْلٌ يَفْهَمُ مِنْهُ سَامِعُهُ الْحَدَّ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ
قَذْفًا ، كَالتَّصْرِيحِ .
وَالْمُعَوَّلُ عَلَى الْفَهْمِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ مُخْبِرًا عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ :
{ إنَّك لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } وَقَالَ فِي أَبِي جَهْلٍ : { ذُقْ
إنَّك أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } وَهَذَا ظَاهِرٌ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : فَإِنْ قَالَ لَهُ : يَا مَنْ وَطِئَ بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : فِيهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ
تَعْرِيضٌ .
وَقَالَ أَشْهَبُ : لَا حَدَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ
نَسَبَهُ إلَى فِعْلٍ لَا يُعَدُّ زِنًا إجْمَاعًا .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : أَصْوَبُ مِنْ جِهَةِ
التَّعْرِيضِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : إذَا رَمَى صَبِيَّةً يُمْكِنُ وَطْؤُهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ
بِالزِّنَا كَانَ قَذْفًا عِنْدَ مَالِكٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : لَيْسَ
بِقَذْفٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا ؛ إذْ لَا حَدَّ عَلَيْهَا .
وَعَوَّلَ مَالِكٌ عَلَى أَنَّهُ تَعْيِيرٌ تَامٌّ
بِوَطْءٍ كَامِلٍ ، فَكَانَ قَذْفًا
.
وَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمِلَةٌ مُشْكِلَةٌ ، لَكِنْ
مَالِكٌ غَلَّبَ حِمَايَةَ عِرْضِ الْمَقْذُوفِ ، وَغَيْرُهُ رَاعَى حِمَايَةَ
طُهْرِ الْقَاذِفِ .
وَحِمَايَةُ عِرْضِ الْمَقْذُوفِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ
الْقَاذِفَ كَشَفَ سِتْرَهُ بِطَرْفِ لِسَانِهِ فَلَزِمَهُ الْحَدُّ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } كَثَّرَ اللَّهُ عَدَدَ الشُّهُودِ
فِي الزِّنَا عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ رَغْبَةً فِي السَّتْرِ عَلَى الْخَلْقِ ،
وَحَقَّقَ كَيْفِيَّةَ الشَّهَادَةِ حَتَّى رَبَطَ أَنْ يَقُولَ : رَأَيْت ذَلِكَ
مِنْهُ فِي ذَلِكَ مِنْهَا ؛ أَيْ الْمِرْوَدَ فِي الْمُكْحُلَةِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ
فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ قَبْلُ
.
فَلَوْ قَالُوا : رَأَيْنَاهُ يَزْنِي بِهَا الزِّنَا
الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ ؟ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : يَكُونُونَ قَذَفَةً .
وَقَالَ غَيْرُهُ : إذَا كَانُوا فُقَهَاءَ وَالْقَاضِي
فَقِيهًا كَانَتْ شَهَادَةً .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ عَدَدَ الشُّهُودِ
تَعَبُّدٌ ، وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ تَعَبُّدٌ ، وَصِفَتُهَا تَعَبُّدٌ ، فَلَا
يُبَدَّلَ شَيْءٌ مِنْهَا بِغَيْرِهِ ، حَتَّى قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : إنَّ مِنْ شَرْطِ أَدَاءِ الشُّهُودِ لِلشَّهَادَةِ أَنْ يَكُونَ
ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، فَإِنْ افْتَرَقُوا لَمْ تَكُنْ شَهَادَةً .
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ : تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مُجْتَمَعِينَ
وَمُفْتَرِقِينَ ، فَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ تَعَبُّدٌ ، وَرَأَى
عَبْدُ الْمَلِكِ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ وَاجْتِمَاعِهَا ؛
وَهُوَ أَقْوَى .
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : قَوْلُهُ : { الْمُحْصَنَاتِ } قِيلَ : هُوَ وَصْفٌ لِلنِّسَاءِ ،
وَلَحِقَ بِهِنَّ الرِّجَالُ ، وَاخْتُلِفَ فِي وَجْهِ إلْحَاقِ الرِّجَالِ
بِهِنَّ ؛ فَقِيلَ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِنَّ ؛ كَمَا أُلْحِقَ ذُكُورُ الْعَبِيدِ
بِإِمَائِهِمْ فِي تَشْطِيرِ الْحَدِّ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ شَيْخِ السُّنَّةِ ،
وَمَذْهَبُ لِسَانِ الْأُمَّةِ .
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ : لَيْسَ مِنْ بَابِ
الْقِيَاسِ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ كَوْنِ الشَّيْءِ فِي مَعْنَى الشَّيْءِ
قَبْلَ النَّظَرِ إلَى عِلَّتِهِ ، وَجُعِلَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إلْحَاقُ
الْأَمَةِ بِالْعَبْدِ فِي قَوْلِهِ : " مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي
عَبْدٍ [ فَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ قَدْرُ مَا يَبْلُغُ قِيمَتَهُ ] قُوِّمَ عَلَيْهِ
قِيمَةَ عَدْلٍ " .
فَهَذَا إذَا سَمِعَهُ كُلُّ أَحَدٍ عَلِمَ أَنَّ
الْأَمَةَ كَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْظُرَ فِي وَجْهِ الْجَامِعِ بَيْنَهُمَا فِي
الِاشْتِرَاكِ فِي حُكْمِ السِّرَايَةِ
.
وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { الْمُحْصَنَاتِ }
الْأَنْفُسُ الْمُحْصَنَاتُ .
وَهَذَا كَلَامُ مَنْ جَهِلَ الْقِيَاسَ وَفَائِدَتَهُ ،
وَخَفِيَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَعْلَمْ كَوْنَهُ أَصْلَ الدِّينِ وَقَاعِدَتَهُ .
وَالصَّحِيحُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ
وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْهُمَا ، مِنْ أَنَّهُ قِيَاسٌ
صَرِيحٌ صَحِيحٌ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قِيلَ : نَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ فِي الَّذِينَ رَمَوْا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَلَا
جَرَمَ جَلَدَ النَّبِيُّ مِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ .
وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي سَائِرِ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ
، وَهُوَ الصَّحِيحُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { فَاجْلِدُوهُمْ } فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ
: أَحَدُهَا : أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَدٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ كَالزِّنَا ؛
قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمَقْذُوفِ ؛
قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ
.
الثَّالِثُ :
قَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ : فِي
حَدِّ الْقَذْفِ شَائِبَتَانِ ؛ شَائِبَةُ حَقِّ اللَّهِ وَهِيَ الْمُغَلَّبَةُ .
وَقَالَ الْآخَرُونَ : شَائِبَةُ حَقِّ الْعَبْدِ هِيَ
الْمُغَلَّبَةُ .
وَلِهَذَا الشَّوْبِ اضْطَرَبَ فِيهِ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حَقُّ الْآدَمِيِّينَ ؛
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَقِفُ عَلَى مُطَالَبَتِهِ ، وَأَنَّهُ يَصِحُّ
لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ ، أَصْلُهُ الْقِصَاصُ فِي الْوَجْهَيْنِ ، وَعُمْدَتُهُمْ
أَنَّهُ يَتَشَطَّرُ بِالرِّقِّ فَكَانَ كَالزِّنَا .
قُلْنَا : يَبْطُلُ بِالنِّكَاحِ فَإِنَّهُ يَتَشَطَّرُ
بِالرِّقِّ ، فَلَا يَنْكِحُ الْعَبْدُ إلَّا اثْنَتَيْنِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْنَا
، وَعِنْدَهُمْ هُوَ حَثُّ الْآدَمِيِّ ، فَيَبْطُلُ مَا قَالُوهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : أَنَّهُ لَا يُقِيمُهُ الْإِمَامُ إلَّا بِمُطَالَبَةِ
الْمَقْذُوفِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : لَا يَفْتَقِرُ إلَى
مُطَالَبَةِ الْآدَمِيِّ .
وَلَعَلَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ ذَلِكَ إذَا سَمِعَهُ
الْإِمَامُ بِمَحْضَرِ عُدُولِ الشُّهُودِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَظْهَرَ .
وَلَكِنْ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ مِنْ حُجَّةِ الْإِمَامِ أَنْ يَقُولَ لَا أَحَدُّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَدَّعِ عِنْدِي إثْبَاتَ مَا نُسِبَ إلَيْهِ ، فَإِنْ ادَّعَى سَجَنَهُ ، وَلَمْ
يُحَدَّ بِحَالٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
، وَالْأَوْزَاعِيُّ : يُحَدُّ الْعَبْدُ ثَمَانِينَ بِعُمُومِ الْآيَةِ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّهُ حَدٌّ فَلْيَتَشَطَّرْ
بِالرِّقِّ ، كَحَدِّ الزِّنَا ، وَخَصُّوا الْأَمَةَ بِالْقِيَاسِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا
} عَلَّقَ اللَّهُ عَلَى الْقَذْفِ ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ : الْحَدَّ ، وَرَدَّ
الشَّهَادَةِ ، وَالتَّفْسِيقَ ؛ تَغْلِيظًا لِشَأْنِهِ ، وَتَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ
، وَقُوَّةً فِي الرَّدْعِ عَنْهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : رَدُّ الشَّهَادَةِ مِنْ
جُمْلَةِ الْحَدِّ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : بَلْ رَدُّهَا مِنْ عِلَّةِ
الْفِسْقِ ، فَإِذَا زَالَ بِالتَّوْبَةِ زَالَ رَدُّ الشَّهَادَةِ ، بِدَلِيلِ
قَوْلِهِ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ :
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ الْفِسْقَ ، وَاخْتَلَفُوا فِي رَدِّ
الشَّهَادَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا تُقْبَلُ قَبْلَ
الْحَدِّ وَبَعْدَ التَّوْبَةِ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَغَيْرُهَا
مِنْ جُمْهُورِ النَّاسِ .
الثَّانِي
: أَنَّهُ إذَا قَذَفَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا
، لَا قَبْلَ الْحَدِّ وَلَا بَعْدَهُ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ شُرَيْحٍ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا تُقْبَلُ قَبْلَ الْحَدِّ ، وَلَا
تُقْبَلُ بَعْدَهُ ؛ وَإِنْ تَابَ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ
الْحَدِّ ، وَلَا تُقْبَلُ قَبْلَهُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ .
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ طَوِيلَةٌ .
وَقَدْ حَقَقْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ،
وَأَوْضَحْنَا سَبِيلَ النَّحْوِ فِيهَا فِي كِتَابِ الْمُلْجِئَةِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَجْعَلُ رَدَّ
الشَّهَادَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِّ ، وَيَرَى أَنَّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ
وِلَايَةٌ قَدْ زَالَتْ بِالْقَذْفِ ، وَجُعِلَتْ الْعُقُوبَةُ فِيهَا فِي مَحَلِّ
الْجِنَايَةِ ، وَهِيَ اللِّسَانُ تَغْلِيظًا لِأَمْرِهَا .
وَقُلْنَا نَحْنُ : إنَّهَا حُكْمٌ عِلَّتُهُ الْفِسْقُ
، فَإِذَا زَالَتْ الْعِلَّةُ وَهِيَ الْفِسْقُ بِالتَّوْبَةِ قُبِلَتْ
الشَّهَادَةُ ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمَعَاصِي .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ كَاخْتِلَافِ
الْفُقَهَاءِ ؛ فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِأَبِي بَكْرَةَ : تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ
، فَيَقُولُ :
أَشْهَدُ
أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ،
وَأَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ زَنَى بِفُلَانَةَ .
وَنَصُّ الْحَادِثَةِ مَا رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ
: كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يُبَاغِي أَبَا بَكْرَةَ وَيُنَافِرُهُ ،
وَكَانَا بِالْبَصْرَةِ مُتَجَاوِرَيْنِ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ ، وَكَانَا فِي
مَشْرُبَتَيْنِ مُتَقَابِلَتَيْنِ فِي دَارَيْهِمَا ، فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ
مِنْهُمَا كُوَّةٌ تُقَابِلُ الْأُخْرَى ، فَاجْتَمَعَ إلَى أَبِي بَكْرَةَ نَفَرٌ
يَتَحَدَّثُونَ فِي مَشْرُبَتِهِ ، فَهَبَّتْ رِيحٌ ، فَفَتَحَتْ بَابَ الْكُوَّةِ
فَقَامَ أَبُو بَكْرَةَ لِيَصْفِقَهُ ، فَبَصَرَ بِالْمُغِيرَةِ وَقَدْ فَتَحَتْ
الرِّيحُ بَابَ الْكُوَّةِ فِي مَشْرُبَتِهِ وَهُوَ بَيْنَ رِجْلَيْ امْرَأَةٍ
قَدْ تَوَسَّطَهَا ، فَقَالَ لِلنَّفَرِ : قُومُوا فَانْظُرُوا ، ثُمَّ اشْهَدُوا
؛ فَقَامُوا فَنَظَرُوا ، فَقَالُوا : وَمَنْ هَذِهِ ؟ فَقَالَ هَذِهِ أُمُّ
جَمِيلٍ بِنْتُ الْأَرْقَمِ .
وَكَانَتْ أُمُّ جَمِيلٍ غَاشِيَةً لِلْمُغِيرَةِ
وَالْأُمَرَاءِ وَالْأَشْرَافِ ، وَكَانَ بَعْضُ النِّسَاءِ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي
زَمَانِهَا ، فَلَمَّا خَرَجَ الْمُغِيرَةُ إلَى الصَّلَاةِ حَالَ أَبُو بَكْرَةَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ ، فَقَالَ : لَا تُصَلِّ بِنَا ، فَكَتَبُوا إلَى
عُمَرَ بِذَلِكَ ، فَبَعَثَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى وَاسْتَعْمَلَهُ ، وَقَالَ
لَهُ : إنِّي أَبْعَثُكَ إلَى أَرْضٍ قَدْ بَاضَ فِيهَا الشَّيْطَانُ وَفَرَّخَ ؛ فَالْزَمْ
مَا تَعْرِفُ ، وَلَا تُبَدَّلْ فَيُبَدِّلُ اللَّهُ بِك .
فَقَالَ :
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ أَعِنِّي بِعِدَّةٍ مِنْ
أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
؛ فَإِنِّي وَجَدْتُهُمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ
كَالْمِلْحِ لَا يَصْلُحُ الطَّعَامُ إلَّا بِهِ .
قَالَ : فَاسْتَعِنْ بِمَنْ أَحْبَبْت .
فَاسْتَعَانَ بِتِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا ، مِنْهُمْ
أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ ، وَهِشَامُ بْنُ عَامِرٍ .
ثُمَّ خَرَجَ أَبُو مُوسَى ، حَتَّى أَنَاخَ
بِالْبَصْرَةِ ، وَبَلَغَ الْمُغِيرَةَ إقْبَالُهُ ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا
جَاءَ أَبُو مُوسَى
زَائِرًا
وَلَا تَاجِرًا ، وَلَكِنَّهُ جَاءَ أَمِيرًا .
ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مُوسَى فَدَفَعَ إلَى
الْمُغِيرَةِ كِتَابَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ : أَمَّا بَعْدُ :
فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَمْرٌ عَظِيمٌ ، فَبَعَثْت أَبَا مُوسَى أَمِيرًا ؛ فَسَلِّمْ
إلَيْهِ مَا فِي يَدَيْك ، وَالْعَجَلَ
.
فَأَهْدَى الْمُغِيرَةُ لِأَبِي مُوسَى وَلِيدَةً مِنْ
وَلِيدَاتِ الطَّائِفِ تُدْعَى عَقِيلَةُ ، وَقَالَ لَهُ : إنِّي قَدْ رَضِيتهَا لَك .
وَكَانَتْ فَارِهَةً .
وَارْتَحَلَ الْمُغِيرَةُ وَأَبُو بَكْرَةَ وَنَافِعُ
بْنُ كَلَدَةَ ، وَزِيَادٌ ، وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ ، حَتَّى قَدِمُوا عَلَى
عُمَرَ ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُغِيرَةِ ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ
لِعُمَرَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ سَلْ هَؤُلَاءِ الْأَعْبُدِ كَيْف
رَأَوْنِي مُسْتَقْبِلَهُمْ أَوْ مُسْتَدْبِرَهُمْ ، وَكَيْف رَأَوْا الْمَرْأَةَ
، وَهَلْ عَرَفُوهَا ، فَإِنْ كَانُوا مُسْتَقْبِلِيَّ فَكَيْفَ لَمْ أَسْتَتِرْ ،
أَوْ مُسْتَدْبِرِيَّ فَبِأَيِّ شَيْءٍ اسْتَحَلُّوا النَّظَرَ إلَيَّ عَلَى
امْرَأَتِي ، وَاَللَّهِ مَا أَتَيْت إلَّا زَوْجَتِي ، وَكَانَتْ تُشْبِهُهَا .
فَبَدَأَ بِأَبِي بَكْرَةَ ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ
رَآهُ بَيْنَ رِجْلَيْ أُمِّ جَمِيلٍ ، وَهُوَ يُدْخِلُهُ وَيُخْرِجُهُ كَالْمِيلِ
فِي الْمُكْحُلَةِ .
قَالَ : وَكَيْفَ رَأَيْتَهُمَا ؟ قَالَ :
مُسْتَدْبِرُهُمَا .
قَالَ : وَكَيْفَ اسْتَثْبَتَّ رَأْسَهَا ؟ قَالَ :
تَحَامَلْتُ حَتَّى رَأَيْتُهَا
.
ثُمَّ دَعَا بِشِبْلِ بْنِ مَعْبَدٍ ، فَشَهِدَ بِمِثْلِ
ذَلِكَ ، وَشَهِدَ نَافِعٌ بِمِثْلِ شَهَادَةِ أَبِي بَكْرَةَ ؛ وَلَمْ يَشْهَدْ
زِيَادٌ بِمِثْلِ شَهَادَتِهِمْ ، وَلَكِنَّهُ قَالَ : رَأَيْته جَالِسًا بَيْنَ رِجْلَيْ
امْرَأَةٍ .
فَرَأَيْت قَدَمَيْنِ مَخْضُوبَتَيْنِ تَخْفِقَانِ ،
وَاسْتَيْنِ مَكْشُوفَيْنِ ، وَسَمِعْت حَفَزَانًا شَدِيدًا .
قَالَ : هَلْ رَأَيْت كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ ؟
قَالَ : لَا .
قَالَ : فَهَلْ تَعْرِفُ الْمَرْأَةَ ؟ قَالَ : لَا ،
وَلَكِنْ أُشَبِّهُهَا .
قَالَ لَهُ : تَنَحَّ .
وَأَمَرَ بِالثَّلَاثَةِ فَجُلِدُوا الْحَدَّ ، وَقَرَأَ
: { فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ
الْكَاذِبُونَ }
.
قَالَ الْمُغِيرَةُ : اشْفِنِي مِنْ الْأَعْبُدِ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ .
فَقَالَ لَهُ : اُسْكُتْ ، أَسْكَتَ اللَّهُ نَأْمَتَك ،
أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ تَمَّتْ الشَّهَادَةُ لَرَجَمْتُكَ بِأَحْجَارِكَ .
وَرَدَّ عُمَرُ شَهَادَةَ أَبِي بَكْرَةَ ، وَكَانَ
يَقُولُ لَهُ : تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ ، فَيَأْبَى حَتَّى كَتَبَ عَهْدَهُ
عِنْدَ مَوْتِهِ : هَذَا مَا عَهِدَ بِهِ أَبُو بَكْرَةَ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ
، وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ
، وَأَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ زَنَى بِجَارِيَةِ بَنِي فُلَانٍ .
وَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ حِينَ لَمْ يَفْضَحْ
الْمُغِيرَةَ .
وَرُوِيَ أَنَّ الثَّلَاثَةَ لَمَّا أَدَّوْا
الشَّهَادَةَ عَلَى الْمُغِيرَةِ ، وَتَقَدَّمَ زِيَادٌ آخِرُهُمْ قَالَ لَهُ
عُمَرُ قَبْلَ أَنْ يَشْهَدَ : إنِّي لَأَرَاك حَسَنَ الْوَجْهِ .
وَإِنِّي لَأَرْجُو أَلَّا يَفْضَحَ اللَّهُ عَلَى
يَدَيْك رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقَالَ مَا قَالَ .
وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلُ ظُهُورِ زِيَادٍ ، فَلَيْتَهُ
وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ ، وَمَا زَادَ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَمَرَّ حَتَّى خَتَمَ
الْحَالَ بِغَايَةِ الْفَسَادِ
.
وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ قَضَاءً ظَاهِرًا فِي رَدِّ شَهَادَةِ
الْقَذَفَةِ ، إذَا لَمْ تَتِمَّ شَهَادَتُهُمْ ؛ وَفِي قَبُولِهَا بَعْدَ
التَّوْبَةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
وَالْأُصُولِ .
وَتَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِهِ : { إلَّا
الَّذِينَ تَابُوا } ، وَقَالُوا
: إنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِ مَا
تَقَدَّمَ ، مَا عَدَا إقَامَةِ الْحَدِّ ، فَإِنَّهُ سَقَطَ بِالْإِجْمَاعِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّهُ يَرْجِعُ
الِاسْتِثْنَاءُ إلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ .
وَالصَّحِيحُ رُجُوعُهُ إلَى الْجَمِيعِ لُغَةً
وَشَرِيعَةً ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ
يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ
يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ
خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ
عَظِيمٌ
إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَهَذِهِ الْآيَةُ أُخْتُهَا
وَنَظِيرَتُهَا فِي الْمَقْصُودِ
.
وَأَمَّا قَبُولُ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْحَدِّ ؛
فَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَحَالُهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ
الْكَذِبِ السَّالِبِ لِلْعَدَالَةِ ، وَبَيْنَ الصِّدْقِ الْمُصَحِّحِ لَهَا ،
فَلَا يَسْقُطُ يَقِينٌ لَهُ بِمُحْتَمَلِ مَقَالِهِ ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ
ضَعْفُ مَقَالَةِ شُرَيْحٍ .
وَأَمَّا قَوْلُ إبْرَاهِيمَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلُ
قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِلَّا فَلَا مَعْنَى لَهُ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ
: قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ
شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ
بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا
أَنْزَلَ قَوْلَهُ : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } الْآيَةَ كَانَ
ذَلِكَ عَامًّا فِي الزَّوْجَاتِ وَغَيْرِهِنَّ ، فَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ مِنْ
ضَرُورَةِ الْخَلْقِ فِي التَّكَلُّمِ بِحَالِ الزَّوْجَاتِ جَعَلَ لَهُمْ
مَخْلَصًا مِنْ ذَلِكَ بِاللِّعَانِ ، عَلَى مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
قَالَ : { لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً
وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } .
قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ : أَهَكَذَا نَزَلَتْ يَا
رَسُولَ اللَّهِ ؟ لَوْ أَتَيْت لَكَاعِ وَقَدْ تَفَخَّذَهَا رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ
لِي أَنْ أُهَيِّجَهُ وَأُخْرِجَهُ حَتَّى آتِي بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ، فَوَاَللَّهِ
مَا كُنْت لِآتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ حَاجَتِهِ ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا مَعْشَرَ
الْأَنْصَارِ ؛ أَمَا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ ؟ قَالُوا : لَا
تَلُمْهُ ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ غَيُورٌ ، مَا تَزَوَّجَ فِينَا قَطُّ إلَّا
عَذْرَاءَ ، وَلَا طَلَّقَ امْرَأَةً قَطُّ فَاجْتَرَأَ رَجُلٌ مِنَّا أَنْ
يَتَزَوَّجَهَا .
قَالَ سَعْدٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ بِأَبِي وَأُمِّي
، وَاَللَّهِ لَأَعْرِفُ أَنَّهَا مِنْ اللَّهِ ، وَأَنَّهَا الْحَقُّ .
فَوَاَللَّهِ مَا لَبِثُوا إلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ
هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ حَدِيقَةٍ لَهُ ، فَرَأَى بِعَيْنِهِ وَسَمِعَ
بِأُذُنَيْهِ ، فَأَمْسَكَ حَتَّى أَصْبَحَ ، ثُمَّ غَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنِّي جِئْت
أَهْلِي عِشَاءً ، فَرَأَيْت رَجُلًا مَعَ أَهْلِي ، رَأَيْت بِعَيْنِي وَسَمِعْت بِأُذُنِي .
فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
مَا أَتَاهُ ، وَثَقُلَ عَلَيْهِ جِدًّا ، حَتَّى عُرِفَتْ الْكَرَاهِيَةُ فِي
وَجْهِهِ ، فَقَالَ هِلَالٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنِّي أَرَى الْكَرَاهِيَةَ
فِي وَجْهِك مِمَّا أَتَيْتُك بِهِ ، وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إنِّي لَصَادِقٌ ؛
وَإِنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ فَرَجًا .
فَقَالُوا :
اُبْتُلِينَا بِمَا قَالَ سَعْدٌ ، أَيُجْلَدُ هِلَالٌ ،
وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ ؟ فَهَمَّ رَسُولُ اللَّهِ بِضَرْبِهِ
، وَإِنَّهُ لَكَذَلِكَ يُرِيدُ أَنْ يَأْمُرَ بِضَرْبِهِ إذْ نَزَلَ عَلَيْهِ
الْوَحْيُ : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } الْآيَاتِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : أَبْشِرْ يَا هِلَالُ ، إنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَك فَرَجًا .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : أَرْسِلُوا إلَيْهِمَا فَلَمَّا اجْتَمَعَا قِيلَ لَهَا فَكَذَّبَتْ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا لَكَاذِبٌ ، فَهَلْ فِيكُمَا
تَائِبٌ فَقَالَ هِلَالٌ : لَقَدْ صَدَقْت ، وَمَا قُلْت إلَّا حَقًّا .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَاعِنُوا بَيْنَهُمَا
.
قِيلَ لِهِلَالٍ : اشْهَدْ ، فَشَهِدَ أَرْبَعَ
شَهَادَاتٍ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ
عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ
.
فَقِيلَ لَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ : يَا هِلَالُ ؛ اتَّقِ
اللَّهَ ، فَإِنَّ عَذَابَ اللَّهِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ النَّاسِ وَإِنَّهَا
الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكَ الْعُقُوبَةَ .
فَقَالَ هِلَالٌ : وَاَللَّهِ مَا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ
عَلَيْهَا كَمَا لَمْ يَجْلِدْنِي عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَشَهِدَ الْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ
كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ .
ثُمَّ قِيلَ لَهَا : تَشْهَدِي ، فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ
شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ .
ثُمَّ قِيلَ لَهَا عِنْدَ الْخَامِسَةِ : اتَّقِي
اللَّهَ فَإِنَّ عَذَابَ اللَّهِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ النَّاسِ ، وَإِنَّ هَذِهِ
الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْك الْعَذَابَ ، فَتَلَكَّأَتْ سَاعَةً ، ثُمَّ
قَالَتْ
: وَاَللَّهِ
لَا أَفْضَحُ قَوْمِي ، فَشَهِدَتْ الْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا
إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ .
فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا ، وَقَضَى أَنَّ الْوَلَدَ لَهَا ، وَلَا يُدْعَى لِأَبِيهِ
، وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا .
} وَفِي رِوَايَةٍ : { قِيلَ لِهِلَالٍ : إنْ قَذَفْت
امْرَأَتَك جُلِدْت ثَمَانِينَ
.
قَالَ :
اللَّهُ أَعْدَلُ مِنْ ذَلِكَ } وَقَدْ عَلِمَ أَنِّي
قَدْ رَأَيْت حَتَّى اسْتَيْقَنْتُ ، وَسَمِعْتُ حَتَّى اسْتَثْبَتُّ ، فَنَزَلَتْ
آيَةُ الْمُلَاعَنَةِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : { إنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ
لِزَوْجِهَا ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِلَّذِي قِيلَ ؛
فَجَاءَتْ بِهِ كَأَنَّهُ جَمَلٌ أَوْرَقُ ، فَكَانَ بَعْدُ أَمِيرًا بِمِصْرَ ،
لَا يُعْرَفُ نَسَبُهُ ، وَقِيلَ : لَا يُدْرَى مَنْ أَبُوهُ .
} وَفِي رِوَايَةٍ : { إنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ
أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمَ الْأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَلَا أَحْسَبُ
عُوَيْمِرًا إلَّا صَدَقَ ، وَإِنَّ جَاءَتْ بِهِ أَحْمَرَ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ لَا
أَحْسَبُ عُوَيْمِرًا إلَّا قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا ، فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى
النَّعْتِ الَّذِي يُصَدِّقُ عُوَيْمِرًا .
} وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ سَهْلٍ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ
الْأَنْصَارِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :
أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا ، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ
، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَمَرَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: قَدْ قَضَى اللَّهُ فِيكَ وَفِي امْرَأَتِك ، فَتَلَاعَنَا ثُمَّ فَارَقَهَا
عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ، فَكَانَتْ
السُّنَّةُ بَعْدَهَا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ ، وَكَانَتْ
حَامِلًا فَأَنْكَرَهُ ، فَكَانَ ابْنَهَا يُدْعَى إلَى أُمِّهِ .
ثُمَّ جَرَتْ السُّنَّةُ أَنَّ ابْنَهَا يَرِثُهَا
وَتَرِثُ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهَا
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } عَامٌّ فِي كُلِّ رَمْيٍ سَوَاءٌ
قَالَ : زَنَتْ ، أَوْ رَأَيْتهَا تَزْنِي ، أَوْ هَذَا الْوَلَدُ لَيْسَ مِنِّي ؛
فَإِنَّ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُبَيِّنُ الْحُكْمِ فِيهَا .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ فِي اقْتِصَارِ
اللِّعَانِ عَلَى دَعْوَى الرُّؤْيَةِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ، كَمَا اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ، وَإِذَا شَرَطْنَا الرُّؤْيَةَ أَيْضًا فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ
؛ هَلْ يَصِفُ الرُّؤْيَةَ صِفَةَ الشُّهُودِ أَمْ يَكْفِي ذِكْرُهَا مُطْلَقًا
عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ .
وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِاشْتِرَاطِ الرُّؤْيَةِ الزَّجْرُ
عَنْ دَعْوَاهَا حَتَّى إذَا رَهِبَ ذِكْرَهَا وَخَافَ مِنْ تَحْقِيقِ مَا لَمْ
يَتَيَقَّنْ عِيَانَهُ كَفَّ عَنْ اللِّعَانِ ؛ فَوَقَعَتْ السُّتْرَةُ ،
وَتَخَلَّصَ مِنْهَا بِالطَّلَاقِ إنْ شَاءَ ؛ وَلِذَلِكَ شَرَطْنَا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ
كَيْفِيَّةَ الرُّؤْيَةِ ، كَمَا يَذْكُرُهَا الشُّهُودُ تَغْلِيظًا .
وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَكْفِي لِإِيجَابِ اللِّعَانِ بِمُجَرَّدِ
الْقَذْفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ ، فَلْتُعَوِّلُوا عَلَيْهِ ، لَا سِيَّمَا وَفِي
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ
رَجُلًا ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اذْهَبْ فَأْتِ
بِهَا ، فَلَاعِنِ بَيْنَهُمَا } وَلَمْ يُكَلِّفْهُ ذِكْرَ رُؤْيَتِهِ .
أَمَا إنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي : {
رَأَيْت بِعَيْنَيَّ وَسَمِعْتُ بِأُذُنَيَّ } ، كَمَا قَالَ سَعْدُ بْنُ
عُبَادَةَ : إذَا أَتَيْت لَكَاعِ وَقَدْ تَفَخَّذَهَا رَجُلٌ ، وَكَذَلِكَ إذَا
نَفَى الْحَمْلَ فَإِنَّهُ يَلْتَعِنُ ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْ الرُّؤْيَةِ ، إذْ
قَدْ ظَهَرَتْ ثَمَرَةُ الْفِعْلِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ عَدَمِ الْوَطْءِ وَالِاسْتِبْرَاءِ
بِعِدَّةٍ .
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الِاسْتِبْرَاءِ ، هَلْ
يَكُونُ بِحَيْضَةٍ أَوْ بِثَلَاثٍ ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْوَاحِدَةَ تَكْفِي ؛
لِأَنَّ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ لَهُ مِنْ الشُّغْلِ تَقَعُ بِهَا ، كَمَا فِي
اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ ، وَإِنَّمَا رَاعَيْنَا الثَّلَاثَ حِيَضٍ فِي
الْعِدَّةِ لِحُكْمٍ آخَرَ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَزْوَاجَهُمْ } عَامٌّ فِي كُلِّ زَوْجَيْنِ
حُرَّيْنِ كَانَا أَوْ عَبْدَيْنِ ، مُؤْمِنَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ ، فَاسِقَيْنِ
أَوْ عَدْلَيْنِ ؛ لِعُمُومِ الظَّاهِرِ ، وَوُجُودِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ فِي
كُلِّ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ ، وَتَحْصِيلِ الْفَائِدَةِ فِيهِ بَيْنَهُمَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَصِحُّ اللِّعَانُ إلَّا مِنْ
زَوْجَيْنِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ لَا
بُدَّ أَنْ يَكُونَا مُكَلَّفَيْنِ ؛ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ عِنْدَهُ
شَهَادَةٌ ، وَعِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَمِينٌ .
وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
بِمَا نُكْتَتُهُ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَوْلَا
الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ } ، فَسَمَّاهَا أَيْمَانًا .
وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ الْفَاسِقَيْنِ
اللَّذَيْنِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا يَلْتَعِنَانِ ؛ وَهَذَا يَدُلُّك عَلَى
أَنَّهُ يَمِينٌ .
فَإِنْ قِيلَ : الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ شَهَادَةٌ
قَوْلُهُ : { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } فَجَاءَ بِالِاسْمِ الْخَاصِّ بِهَا ، وَمِنْ
طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهُ رَدَّدَهَا خَمْسًا ، وَلَوْ كَانَتْ يَمِينًا مَا رُدِّدَتْ
، وَالْحِكْمَةُ فِي تَرْدِيدِهَا قِيَامُهَا فِي الْأَعْدَادِ مَقَامَ عَدَدِ
الشُّهُودِ فِي الزِّنَا .
قُلْنَا : أَمَّا ذِكْرُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
لِلَفْظِ الشَّهَادَةِ فَلَا يَقْتَضِي لَهَا حُكْمَهَا لِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَادَةَ فِي الْعَرَبِ جَارِيَةٌ بِأَنْ يَقُولَ :
أَشْهَدُ بِاَللَّهِ ، وَأَحْلِفُ بِاَللَّهِ ، فِي مَعْرِضِ الْأَيْمَانِ دُونَ
الشَّهَادَةِ .
وَأَمَّا تَكْرَارُهَا فَيَبْطُلُ بِيَمِينِ
الْقَسَامَةِ فَإِنَّهَا تَكَرَّرَتْ ، وَلَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ إجْمَاعًا .
وَالْحِكْمَةُ فِي تَكْرَارِهَا التَّغْلِيظُ فِي
الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ عَلَى فَاعِلِهَا ، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُفَّ عَنْهَا
فَيَقَعُ السَّتْرُ فِي الْفُرُوجِ وَالْحَقْنُ فِي الدَّمِ ، وَالْفَيْصَلُ فِي
أَنَّهُ يَمِينٌ ، لَا شَهَادَةٌ أَنَّ الزَّوْجَ يَحْلِفُ لِنَفْسِهِ فِي
إثْبَاتِ دَعْوَاهَا ، وَتَخْلِيصُهُ عَنْ الْعَذَابِ ؛ وَكَيْف
يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ شَاهِدًا يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِمَا يُوجِبُ حُكْمًا عَلَى غَيْرِهِ ؟ هَذَا بَعِيدٌ فِي الْأَصْلِ مَعْدُومٌ فِي النَّظَرِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : رَاعَى أَبُو حَنِيفَةَ عُمُومَ الْآيَةِ ، فَقَالَ : إنَّ الرَّجُلَ إذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَإِنَّهُ يُلَاعِنُ وَنَسِيَ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } ، وَهَذَا رَمَاهَا وَهِيَ مُحْصَنَةٌ غَيْرُ زَوْجَةٍ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ اللِّعَانُ فِي قَذْفٍ يَلْحَقُ فِيهِ النَّسَبُ ، وَهَذَا قَذْفٌ لَا يَلْحَقُ فِيهِ نَسَبٌ ، فَلَا يُوجِبُ لِعَانًا ، كَمَا لَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : إذَا قَذَفَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ نُظِرَتْ ؛ فَإِنْ كَانَ
هُنَالِكَ نَسَبٌ يُرِيدُ أَنْ يَنْفِيَهُ ، أَوْ حَمْلٌ مُتَبَرَّأٌ مِنْهُ
لَاعَنَ ، وَإِلَّا لَمْ يُلَاعِنْ .
وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ : لَا يُلَاعِنُ بِحَالٍ
؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ
.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُلَاعِنُ فِي
الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ .
وَهَذَا يُنْتَقَضُ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ قَبْلَ
الزَّوْجِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ ، بَلْ هَذَا أَوْلَى ، لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ
تَقَدَّمَ ، وَهُوَ يُرِيدُ الِانْتِفَاءَ مِنْ النَّسَبِ ، وَتَبْرِئَتَهُ مِنْ
وَلَدٍ يَلْحَقُ بِهِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ اللِّعَانِ .
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ حَمْلٌ يُرْجَى ، وَلَا
نَسَبٌ يَخَافُ تَعَلُّقَهُ لَمْ يَكُنْ لِلِّعَانِ فَائِدَةٌ ؛ فَلَمْ يُحْكَمْ
بِهِ ، وَكَانَ قَذْفًا مُطْلَقًا دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ : { وَاَلَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً
} ، فَوَجَبَ
عَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَبَطَلَ مَا قَالَ الْبَتِّيُّ لِظُهُورِ فَسَادِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : إذَا انْتَفَى مِنْ الْحَمْلِ كَمَا قَدَّمْنَا ، وَوَقَعَ ذَلِكَ
بِشُرُوطِهِ لَاعَنَ قَبْلَ الْوَضْعِ ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُلَاعِنُ إلَّا بَعْدَ أَنْ
تَضَعَ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رِيحًا أَوْ دَاءً مِنْ الْأَدْوَاءِ .
وَدَلِيلُنَا النَّصُّ الصَّرِيحُ الصَّحِيحُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاعَنَ قَبْلَ الْوَضْعِ .
وَقَالَ :
{ إنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا فَهُوَ لِأَبِيهِ ، وَإِنْ
جَاءَتْ بِهِ كَذَا فَهُوَ لِفُلَانٍ } فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ
الْمَكْرُوهِ ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ
كُنْت رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتهَا } .
فَإِنْ قِيلَ
: عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَمْلَهَا ؛ فَذَلِكَ حُكْمٌ بِاللِّعَانِ ، وَالْحَاكِمُ مِنَّا لَا يَعْلَمُ
أَحَمْلٌ هُوَ أَمْ رِيحٌ ؟ قُلْنَا : إذَا جَرَتْ أَحْكَامُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقَضَايَا لَمْ تُحْمَلْ عَلَى الْإِطْلَاعِ عَلَى
الْغَيْبِ ؛ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ لَمْ تُبْنَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ بِهِ
عَلِيمًا ؛ وَإِنَّمَا الْبِنَاءُ فِيهَا عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي يَشْتَرِكُ
مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ الْقُضَاةُ كُلُّهُمْ .
وَقَدْ أَعْرَبَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { إنَّمَا أَنَا
بَشَرٌ ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ
أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ } .
فَأَحَالَ عَلَى الظَّوَاهِرِ ؛ وَهَذَا لَا إشْكَالَ
فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : إذَا قَذَفَ بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ لِزَوْجِهِ لَاعَنَ : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا
يُلَاعِنُ ، وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ اللِّوَاطَ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ .
وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ الرَّمْيَ بِهِ فِيهِ
مَعَرَّةٌ ، وَقَدْ دَخَلَ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ
أَزْوَاجَهُمْ } ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمُتَقَدِّمِ مِنْ قَوْلِنَا وَفِي
مَسَائِلِ الْخِلَافِ وُجُوبَ الْحَدِّ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : مِنْ غَرِيبِ أَمْرِ هَذَا
الرَّجُلِ أَنَّهُ قَالَ : إذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ وَأُمَّهَا بِالزِّنَا إنَّهُ
إنْ حُدَّ لِلْأُمِّ سَقَطَ حَدُّ الْبِنْتِ ، وَإِنْ لَاعَنَ لِلْبِنْتِ لَمْ
يَسْقُطْ حَدُّ الْأُمِّ .
وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ ، وَمَا رَأَيْت لَهُمْ فِيهِ
شَيْئًا يُحْكَى ؛ وَهَذَا بَاطِلٌ جِدًّا ، فَإِنَّهُ خَصَّ عُمُومَ الْآيَةِ فِي
الْبَيْتِ وَهِيَ زَوْجَةٌ بِحَدِّ الْأُمِّ مِنْ غَيْرِ أَثَرٍ وَلَا أَصْلٍ
قَاسَهُ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : يُلَاعِنُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ ، كَمَا يُلَاعِنُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ يَتَعَلَّقُ بِالْفَاسِدِ مِنْهُ ، كَالنَّسَبِ وَالْعِدَّةِ وَالْمَهْرِ ، وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ ، وَذَلِكَ أَنَّ اللِّعَانَ مَوْضُوعٌ لِنَفْيِ النَّسَبِ وَتَطْهِيرِ الْفِرَاشِ ، وَالزَّوْجَةُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ قَدْ صَارَتْ فِرَاشًا ، وَيُلْحَقُ النَّسَبُ فِيهِ ، فَجَرَى اللِّعَانُ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : فَائِدَةُ
لِعَانِ الزَّوْجِ دَرْءُ الْحَدِّ عَنْهُ ، وَنَفْيُ النَّسَبِ مِنْهُ ؛ لِقَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي
ظَهْرِكَ } .
فَلَوْ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ لَدَرَأْت الْحَدَّ عَنْهُ
، فَقَدْ قَامَ اللِّعَانُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَوْ لَمْ يَلْتَعِنْ
الزَّوْجُ لَمْ يُحَدَّ ، وَلَكِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُلَاعِنَ ، وَتَارَةً
يُجْعَلُ اللِّعَانُ شَهَادَةً ، وَتَارَةً يُجْعَلُ حَدًّا .
وَلَوْ كَانَ حَدًّا مَا حُبِسَ عَلَى فِعْلِهِ ؛
لِأَنَّ الْحَدَّ يُؤْخَذُ قَسْرًا مِنْ صَاحِبِهِ ؛ فَإِذَا لَاعَنَ فَقَدْ
بَرِئَ مِنْ الْحَدِّ ، وَتَعَلَّقَ ذَلِكَ بِالْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا
خَصْمَانِ يَتَنَازَعَانِ ، فَلَوْ كَانَ اللِّعَانُ شَهَادَةً لَكَانَ تَحْقِيقًا
لِلزِّنَا عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا قَدَّمْنَا لِتَبْرِئَةِ نَفْسِهِ ،
كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْبَيِّنَةُ
وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِك } .
ثُمَّ يُقَالُ لَهَا : اعْتَرِفِي فَتُحَدِّي أَوْ
بَرِّئِي نَفْسَك ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ
أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ } ،
وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْعَذَابُ الْمُرَادُ
بِالْآيَةِ الْحَبْسُ .
فَيُقَالُ لَهُ : وَلِمَ تُحْبَسُ ، وَلِمَ يَجِبُ
عَلَيْهَا بِقَوْلِ الزَّوْجِ شَيْءٌ عِنْدَك ؟ ثُمَّ قُلْت : اللِّعَانُ حَدٌّ
فَكَيْفَ وَجَبَ عَلَيْهَا بِقَوْلِ الزَّوْجِ حَدٌّ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى
يَقُولُ : { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ } ، وَهُوَ الْحَدُّ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى
: { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } يَعْنِي
الْحَدَّ ؛ فَسَمَّاهُ عَذَابًا هَاهُنَا ؛ وَهُوَ ذَاكَ بِعَيْنِهِ ؛ لِاتِّحَادِ
الْمَقْصَدِ فِيهَا .
فَإِنْ قِيلَ : اللِّعَانُ يَمِينٌ أَوْ شَهَادَةٌ مِنْ
الزَّوْجِ ؟ وَأَيُّمَا كَانَ فَلَا يُوجِبُ حَدًّا عَلَى الْمَرْأَةِ .
قُلْنَا : أُقِيمَ مَقَامَ الشَّهَادَةِ بِدَلِيلِ
أَنَّهُ يَخْلُصُ بِهِ الزَّوْجُ مِنْ الْحَدِّ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : الْبُدَاءَةُ فِي اللِّعَانِ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ :
وَهُوَ الزَّوْجُ ، وَلَوْ بَدَأَ بِالْمَرْأَةِ قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِهِ ،
لِأَنَّهُ عَكَسَ مَا رَتَّبَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُجْزِيهِ ، وَهَذَا بَاطِلٌ
، لِأَنَّهُ خِلَافُ الْقُرْآنِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يَرُدُّهُ إلَيْهِ ، وَلَا
مَعْنًى يَقْوَى بِهِ ؛ بَلْ الْمَعْنَى لَنَا ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا
بَدَأَتْ بِالْيَمِينِ فَتَنْفِي مَا لَمْ يَثْبُتْ ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : إذَا صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي قَذْفِهِ ، وَهُنَاكَ وَلَدٌ لَمْ يُلَاعِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّهُ لَا لِعَانَ عِنْدَهُ عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : إذَا قَذَفَهَا بِرَجُلٍ سَمَّاهُ كَشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ
أَسْقَطَ اللِّعَانُ عَنْهُ حَدَّ الْقَذْفِ لِزَوْجَتِهِ وَحُدَّ لِشَرِيكٍ ؛
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُحَدُّ لَهُ إذَا لَاعَنَ
زَوْجَتَهُ .
وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ لَنَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ وَضَعَ
الْحَدَّ فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ وَالزَّوْجَةِ مُطْلَقَيْنِ ، ثُمَّ خَصَّ
الزَّوْجَةَ بِالْخَلَاصِ بِاللِّعَانِ ، وَبَقِيَ الْأَجْنَبِيُّ عَلَى مُطْلَقِ الْآيَةِ .
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحُدَّ هِلَالًا لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ .
قُلْنَا : لِأَنَّهُ لَمْ يَطْلُبْهُ ، وَحَدُّ
الْقَذْفِ لَا يُقِيمُهُ الْإِمَامُ إلَّا بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ إجْمَاعًا .
وَمِنْ الْعَجَبِ أَنْ قَالَتْ أَحْبَارُ
الشَّافِعِيَّةِ : إنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الزَّانِي بِزَوْجِهِ لِيَعُرَّهُ
كَمَا عَرَّهُ ، وَأَيُّ مَعَرَّةٍ فِيهِ ، وَخَبَرُهُ عَنْهُ لَا يُقْبَلُ ،
وَحُكْمُهُ فِيهِ لَا يَنْفُذُ ، إنَّمَا الْمَعَرَّةُ كُلُّهَا بِالزَّوْجِ ؛
فَلَا وَجْهَ لِذِكْرِهِ ، فَإِنَّ قَذْفَهُ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُهُ لِعُمُومِ الْقُرْآنِ .
الْآيَةُ
السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ
مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الْإِثْمِ وَاَلَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ
لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَسَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا
قَالُوا ، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ، وَكُلٌّ حَدَّثَنِي بِطَائِفَةٍ
مِنْ الْحَدِيثِ ، وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا ، وَإِنْ كَانَ
بَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ
.
فَاَلَّذِي حَدَّثَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ عَائِشَةَ
زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَقْرَعَ
بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ .
قَالَتْ عَائِشَةُ : فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ
غَزَاهَا فَخَرَجَ سَهْمِي ، وَخَرَجْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا نَزَلَ الْحِجَابُ ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي
، وَأُنْزَلُ فِيهِ ، فَسِرْنَا حَتَّى إذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ ، وَقَفَلَ ، وَدَنَوْنَا مِنْ
الْمَدِينَةِ قَافِلِينَ ، آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ ، فَقُمْت حِينَ آذَنُوا
بِالرَّحِيلِ ، فَمَشَيْت حَتَّى جَاوَزْت الْجَيْشَ .
فَلَمَّا قَضَيْت شَأْنِي أَقْبَلْت إلَى رَحْلِي ،
فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ قَدْ انْقَطَعَ ، فَالْتَمَسْت عِقْدِي ،
وَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ
بِي ، فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي ، فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْت
رَكِبْت ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ .
وَكَانَ النِّسَاءُ إذْ ذَاكَ خِفَافًا ، لَمْ
يُثْقِلُهُنَّ
اللَّحْمُ
، إنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنْ الطَّعَامِ ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرْ الْقَوْمُ
خِفَّةَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ ، وَكُنْت جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ ،
فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا فَوَجَدْت عِقْدِي بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ
، فَجِئْت مَنَازِلَهُمْ ، وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ .
فَأَمَمْت مَنْزِلِي الَّذِي كُنْت بِهِ ، وَظَنَنْت
أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونَنِي ، فَيَرْجِعُونَ إلَيَّ .
فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي
عَيْنِي فَنِمْت .
وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطِّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ
الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ ، فَادَّلَجَ ، فَأَصْبَحَ عِنْدَ
مَنْزِلِي ؛ فَرَأَى سَوَادَ إنْسَانٍ نَائِمٍ ، فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي ،
وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الْحِجَابِ ، فَاسْتَيْقَظْت بِاسْتِرْجَاعِهِ ، حِينَ
عَرَفَنِي ، فَخَمَّرْت وَجْهِي بِجِلْبَابِي ، وَوَاللَّهِ مَا كَلَّمَنِي
كَلِمَةً ، وَمَا سَمِعْت مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ ، حَتَّى أَنَاخَ
رَاحِلَتَهُ ، فَوَطِئَ عَلَى يَدَيْهَا ، فَرَكِبْتهَا ، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي
الرَّاحِلَةَ ، حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَمَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي
نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ .
وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الْإِفْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ .
فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ، فَاشْتَكَيْت حِينَ قَدِمْت
شَهْرًا ، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الْإِفْكِ وَلَا أَشْعُرُ
بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَيَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَرَى مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْت أَرَى مِنْهُ حِينَ
أَشْتَكِي .
إنَّمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ : كَيْفَ تِيكُمْ ؟ ثُمَّ يَنْصَرِفُ ،
فَذَلِكَ الَّذِي يَرِيبُنِي مِنْهُ ، وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ ، حَتَّى خَرَجْت
بَعْدَمَا نَقِهْتُ ، فَخَرَجْت مَعَ أُمِّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ ، وَهُوَ
مُتَبَرَّزُنَا ، وَكُنَّا لَا نَخْرُجُ إلَّا لَيْلًا إلَى لَيْلٍ ، وَذَلِكَ
قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا ، وَأَمْرُنَا أَمْرُ
الْعَرَبِ الْأُوَلِ فِي التَّبَرُّزِ قِبَلَ
الْغَائِطِ
، فَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا .
فَانْطَلَقْت أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ ، وَهِيَ ابْنَةُ
أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَأُمُّهَا بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ ،
خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ ،
فَأَقْبَلْت أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي ، وَقَدْ فَرَغْنَا مِنْ
شَأْنِنَا ، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا ، فَقَالَتْ : تَعِسَ
مِسْطَحٌ ، فَقُلْت لَهَا : بِئْسَ مَا قُلْت ، أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ
بَدْرًا ، قَالَتْ : أَيْ هَنْتَاهُ ، أَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ ، قَالَتْ :
قُلْت لَهَا : وَمَا قَالَ ؟ قَالَتْ : فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ .
قَالَتْ : فَازْدَدْت مَرَضًا عَلَى مَرَضِي .
قَالَتْ
: فَلَمَّا رَجَعْت إلَى بَيْتِي ، وَدَخَلَ عَلَيَّ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ ، ثُمَّ قَالَ :
كَيْفَ تِيكُمْ ، فَقُلْت : أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ ؟ قَالَتْ :
وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا .
قَالَتْ :
فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَجِئْت أَبَوَيَّ ، فَقُلْت لِأُمِّي : يَا أُمَّتَاهُ ، مَا
يَتَحَدَّثُ النَّاسُ ؟ قَالَتْ : يَا بُنَيَّةُ ؛ هَوِّنِي عَلَيْك ،
فَوَاَللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ
يُحِبُّهَا ، وَلَهَا ضَرَائِرُ ، إلَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا .
قَالَتْ : فَقُلْت : سُبْحَانَ اللَّهِ ، وَلَقَدْ
تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا ، فَبَكَيْت تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْت لَا
يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ ، حَتَّى أَصْبَحْت أَبْكِي ؛
فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ ، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ ، حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ ، يَسْتَأْمِرُهُمَا
فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ .
فَأَمَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاَلَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ
أَهْلِهِ .
وَبِاَلَّذِي يَعْلَمُ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ مِنْ
الْوُدِّ ؛ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَهْلُك ، وَلَا نَعْلَمُ إلَّا
خَيْرًا .
وَأَمَّا
عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ لَمْ يُضَيِّقْ اللَّهُ عَلَيْك
وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا ، كَثِيرٌ وَاسْأَلْ الْجَارِيَةَ تَصْدُقُك .
قَالَتْ : فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ ، فَقَالَ : يَا بَرِيرَةُ ، هَلْ رَأَيْت مِنْ
شَيْءٍ يَرِيبُك ؟ قَالَتْ بَرِيرَةُ : لَا وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ، إنْ رَأَيْت
عَلَيْهَا أَمْرًا قَطُّ أَغْمِصُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ
السِّنِّ ، تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا ، فَتَأْتِي الدَّاجِنَ فَتَأْكُلُهُ .
فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَاسْتَعْذَرَ يَوْمَئِذٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ
سَلُولَ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ : يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ؛ مَنْ
يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي ؟
فَوَاَللَّهِ مَا عَلِمْت مِنْ أَهْلِي إلَّا خَيْرًا ، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا
مَا عَلِمْت عَلَيْهِ إلَّا خَيْرًا وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إلَّا
مَعِي .
فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ ، فَقَالَ
: يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَنَا أَعْذِرُكُمْ مِنْهُ ، إنْ كَانَ مِنْ الْأَوْسِ
ضَرَبْت عُنُقَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا
فَفَعَلْنَا فِيهِ أَمْرَك .
فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ
الْخَزْرَجِ وَكَانَ فِينَا قَبْلَ ذَلِكَ صَالِحًا ، وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ
الْحَمِيَّةُ ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ : كَذَبْت لَعَمْرُ اللَّهِ ،
وَاَللَّهِ لَا تَقْتُلُهُ ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ .
فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ ، وَهُوَ ابْنُ عَمٍّ
لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ : كَذَبْت وَاَللَّهِ
لَنَقْتُلَنَّهُ ؛ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ ، تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ .
فَثَارَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى
هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى
سَكَتُوا ، وَسَكَتَ .
قَالَتْ : فَمَكَثْت يَوْمِي ذَلِكَ ، لَا يَرْقَأُ لِي
دَمْعٌ ،
وَلَا
أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ .
فَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي ، وَقَدْ مَكَثْت
لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَلَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ ،
يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي .
قَالَتْ : فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي ،
وَأَنَا أَبْكِي ، فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ،
فَأَذِنْتُ لَهَا ، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي .
قَالَتْ
: فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ .
ثُمَّ جَلَسَ
.
قَالَتْ : وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ لِي مَا
قِيلَ قَبْلَهَا .
وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إلَيْهِ فِي شَأْنِي .
قَالَتْ : فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ
.
ثُمَّ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ
قَدْ بَلَغَنِي عَنْك كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كُنْت بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُك
اللَّهُ ، وَإِنْ كُنْت أَلْمَمْت بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي
إلَيْهِ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ
عَلَيْهِ .
قَالَتْ : فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ مَقَالَتَهُ
قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أَحُسُّ مِنْهُ قَطْرَةً .
فَقُلْت لِأَبِي : أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ فِيمَا قَالَ .
قَالَ : فَوَاَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَتْ : فَقُلْت لِأُمِّي : أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَتْ : وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قُلْت ، وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا
أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنْ الْقُرْآنِ : إنِّي وَاَللَّهِ لَقَدْ عَلِمْت أَنَّكُمْ
سَمِعْتُمْ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ
بِهِ .
فَلَئِنْ قُلْت لَكُمْ : إنِّي بَرِيئَةٌ ، وَاَللَّهُ
يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَا تُصَدِّقُونِي ؛ وَلَئِنْ اعْتَرَفْت لَكُمْ
بِأَمْرٍ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ ، لَتُصَدِّقُونَنِي .
وَاَللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إلَّا
قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا
تَصِفُونَ } .
قَالَتْ : ثُمَّ تَحَوَّلْتُ
فَاضْطَجَعْت
عَلَى فِرَاشِي .
قَالَتْ : وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ
، وَأَنَّ اللَّهَ سَيُبَرِّئُنِي بِبَرَاءَتِي .
وَلَكِنْ ، وَاَللَّهِ مَا كُنْت أَظُنُّ أَنَّهُ
يَنْزِلُ فِي قُرْآنٌ يُتْلَى ، وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ
يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِي بِآيَةٍ تُتْلَى ، وَلَكِنِّي كُنْت أَرْجُو أَنْ يَرَى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُؤْيَا فِي النَّوْمِ
يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا .
قَالَتْ : فَوَاَللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ مَكَانَهُ
، وَمَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ
، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحَاءِ ، حَتَّى إنَّهُ
لِيَتَحَدَّرَ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنْ الْعَرَقِ ، وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ
مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ عَلَيْهِ
.
فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرِّيَ عَنْهُ وَهُوَ يَضْحَكُ ، فَكَانَ أَوَّلُ كَلِمَةٍ
تَكَلَّمَ بِهَا : أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ .
قَالَتْ أُمِّي : قُومِي إلَيْهِ .
فَقُلْت :
وَاَللَّهِ لَا أَقُومُ إلَيْهِ ، وَلَا أَحْمَدُ إلَّا
اللَّهَ ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ : { إنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ
} الْعَشْرَ الْآيَاتِ كُلِّهَا
.
فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي قَالَ
أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ
مِنْهُ وَفَقْرِهِ : وَاَللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا
بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ
.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَا يَأْتَلِ
أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى
وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا
وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاَللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ } .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : بَلَى وَاَللَّهِ ؛ إنِّي أُحِبُّ
أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي ؛ فَرَجَعَ إلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ
يُنْفِقُهَا عَلَيْهِ ، وَقَالَ
: وَاَللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا .
قَالَتْ عَائِشَةُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَسْأَلُ
زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ
أَمْرِي ؛
قَالَ : يَا زَيْنَبُ ، مَاذَا عَلِمْت ؟ وَمَاذَا رَأَيْت ؟ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَحْمِي
سَمْعِي وَبَصَرِي ، وَمَا عَلِمْت إلَّا خَيْرًا } .
قَالَتْ : وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ ،
وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ تُحَارِبُ لَهَا ، فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ مِنْ
أَصْحَابِ الْإِفْكِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ } قَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ حَقِيقَةَ الْخَيْرِ ، وَأَنَّهُ
مَا زَادَ نَفْعُهُ عَلَى ضُرِّهِ .
وَحَقِيقَةُ الشَّرِّ مَا زَادَ ضُرُّهُ عَلَى نَفْعِهِ
، وَأَنَّ خَيْرًا لَا شَرَّ فِيهِ هُوَ الْجَنَّةُ ، وَشَرًّا لَا خَيْرَ فِيهِ
هُوَ جَهَنَّمُ ؛ وَلِهَذَا صَارَ الْبَلَاءُ النَّازِلُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ
خَيْرًا ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ مِنْ الْأَلَمِ قَلِيلٌ فِي الدُّنْيَا ، وَخَيْرُهُ
وَهُوَ الثَّوَابُ كَثِيرٌ فِي الْآخِرَةِ ؛ فَنَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَائِشَةَ
وَمَنْ مَاثَلَهَا مِمَّنْ نَالَهُ هَمٌّ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَا أَصَابَهُمْ
مِنْهُ شَرٌّ ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ عَلَى مَا وَضَعَ اللَّهُ الشَّرَّ وَالْخَيْرَ
عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ ،
وَرُجْحَانِ النَّفْعِ فِي جَانِبِ الْخَيْرِ ، وَرُجْحَانِ الضُّرِّ فِي جَانِبِ
الشَّرِّ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ
الْإِثْمِ } : هَذَا حُكْمُ اللَّهِ فِي كُلِّ ذَنْبٍ أَنَّهُ لَا تَحْمِلُ كُلُّ
نَفْسٍ إلَّا مَا اكْتَسَبَتْ مِنْ الْإِثْمِ ، وَلَا يَكُونُ لَهَا إلَّا مَا
اكْتَسَبَتْ ، إلَّا أَنَّ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ وَكَانَ يَرْمِيهِ
وَيُشِيعُهُ وَيَسْتَوْشِيهِ وَيَجْمَعُهُ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ .
فِي صَحِيحِ حَدِيثِ الْإِفْكِ : إنَّ الَّذِي كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيهِ
مِسْطَحٌ [ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَالْمُنَافِقُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ
ابْنُ سَلُولَ ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَسْتَوْشِيهِ وَيَجْمَعُهُ ، وَهُوَ
الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ هُوَ وَحَمْنَةُ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { عَذَابٌ عَظِيمٌ } فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ
: الْأَوَّلُ : أَنَّهُ الْعَمَى .
الثَّانِي : أَنَّهُ عَذَابُ جَهَنَّمَ .
الثَّالِثُ : الْحَدُّ .
فَأَمَّا الْعَمَى فَهُوَ الَّذِي أَصَابَ حَسَّانَ ،
وَأَمَّا عَذَابُ جَهَنَّمَ فَلِمَنْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَهُ ، وَأَمَّا عَذَابُ
الْحَدِّ فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّ فِي الْإِفْكِ رَجُلَيْنِ وَامْرَأَةً : مِسْطَحًا ،
وَحَسَّانَ ، وَحَمْنَةَ .
الْآيَةُ
السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَوْلَا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إفْكٌ مُبِينٌ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
الْمَعْنَى ظَنَّ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ خَيْرًا ، وَجَعَلَ الْغَيْرَ
مَقَامَ النَّفْسِ ، لِذِمَامِ الْإِيمَانِ كَمَا بَيَّنَّا فِي قَوْله تَعَالَى :
{ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } أَيْ لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذَا أَصْلٌ فِي أَنَّ
دَرَجَةَ الْإِيمَانِ الَّتِي حَازَهَا الْإِنْسَانُ ، وَمَنْزِلَةَ الصَّلَاحِ
الَّتِي حَلَّهَا الْمَرْءُ ، وَلُبْسَةَ الْعَفَافِ الَّتِي تَسَتَّرَ بِهَا
الْمُسْلِمُ لَا يُزِيلُهَا عَنْهُ خَبَرٌ مُحْتَمَلٌ ، وَإِنْ شَاعَ ، إذَا كَانَ
أَصْلُهُ فَاسِدًا أَوْ مَجْهُولًا
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : { وَقَالُوا هَذَا إفْكٌ مُبِينٌ }
أَيْ كَذِبٌ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ أَمْرٍ بَاطِنٍ مِمَّنْ لَمْ
يُشَاهِدْهُ ، وَذَلِكَ أَكْذَبُ الْأَخْبَارِ وَشَرُّ الْأَقْوَالِ حَيْثُ
اُسْتُطِيلَ بِهِ الْعِرْضُ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْمُحَرَّمَاتِ ، وَمَقْرُونٌ
فِي تَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ بِالْمُهُجَاتِ .
الْآيَةُ
الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ
الْكَاذِبُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذَا
رَدٌّ إلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ ، وَإِحَالَةٌ عَلَى الْآيَةِ السَّابِقَةِ ؛ فَإِنَّ
اللَّهَ حَكَمَ فِي رَمْيِ الْمُحْصَنَاتِ بِالْكَذِبِ ، إلَّا أَنْ يُقِيمَ
قَائِلُ ذَلِكَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهَدَاءِ عَلَى مَا زَعَمَ مِنْ الِافْتِرَاءِ
، حَتَّى يُخْرِجَهُ إلَى الظَّاهِرِ مِنْ حَدِّ الْبَاطِنِ ، وَإِلَّا لَزِمَهُ
حُكْمُ الْمُفْتَرِي فِي الْإِثْمِ وَحَالُهُ فِي الْحَدِّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِذْ لَمْ
يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ }
وَهَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْقَذْفِ الظَّاهِرِ مَا
هُوَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْبَاطِنِ صِدْقٌ ، وَلَكِنَّهُ يُؤْخَذُ فِي الظَّاهِرِ
بِحُكْمِ الْكَاذِبِ ، وَيُجْلَدُ الْحَدَّ .
وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى
قَوْله : { عِنْدَ اللَّهِ } يُرِيدُ فِي حُكْمِهِ ، لَا فِي عِلْمِهِ ، وَهُوَ إنَّمَا
رَتَّبَ الْحُدُودَ عَلَى حُكْمِهِ الَّذِي شَرَعَهُ فِي الدُّنْيَا ، لَا
مُقْتَضَى عِلْمِهِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِالْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ ،
وَإِنَّمَا يُبْنَى عَلَى ذَلِكَ حُكْمُ الْآخِرَةِ .
الْآيَةُ
التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ
أَبَدًا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَةٌ : قَوْله تَعَالَى : ( لِمِثْلِهِ )
يَعْنِي فِي عَائِشَةَ ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ إلَى نَظِيرِ الْقَوْلِ فِي
الْمَقُولِ عَنْهُ بِعَيْنِهِ ، أَوْ فِيمَنْ كَانَ فِي مَرْتَبَتِهِ مِنْ
أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إذَايَةِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِرْضِهِ وَأَهْلِهِ ،
وَذَلِكَ كُفْرٌ مِنْ فَاعِلِهِ
.
قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ
: مَنْ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أُدِّبَ ، وَمَنْ سَبَّ عَائِشَةَ قُتِلَ ؛
لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فَمَنْ سَبَّ عَائِشَةَ فَقَدْ خَالَفَ الْقُرْآنَ ،
وَمَنْ خَالَفَ الْقُرْآنَ قُتِلَ
.
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ : قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : مَنْ سَبَّ عَائِشَةَ أُدِّبَ ، كَمَا
فِي سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَيْسَ قَوْله تَعَالَى : { إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فِي
عَائِشَةَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ : { لَا
يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } .
وَلَوْ كَانَ سَلْبُ الْإِيمَانِ فِي سَبِّ عَائِشَةَ حَقِيقَةً
لَكَانَ سَلْبُهُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزْنِي
الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } حَقِيقَةً .
قُلْنَا : لَيْسَ كَمَا زَعَمْتُمْ ؛ إنَّ أَهْلَ
الْإِفْكِ رَمَوْا عَائِشَةَ الْمُطَهَّرَةَ بِالْفَاحِشَةِ ، فَبَرَّأَهَا
اللَّهُ ، فَكُلُّ مَنْ سَبَّهَا بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ فَهُوَ
مُكَذِّبٌ لِلَّهِ ، وَمَنْ كَذَّبَ اللَّهَ فَهُوَ كَافِرٌ .
فَهَذَا طَرِيقُ قَوْلِ مَالِكٍ .
وَهِيَ سَبِيلٌ لَائِحَةٌ لِأَهْلِ الْبَصَائِرِ ،
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا سَبَّ عَائِشَةَ بِغَيْرِ مَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ
لَكَانَ جَزَاؤُهُ الْأَدَبَ .
الْآيَةُ
الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ
الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى : { يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ } يَعْنِي يُرِيدُ ذَلِكَ وَيَفْعَلُهُ
لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ فِعْلُ الْقَلْبِ ، وَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا
أَظْهَرَهُ ، فَإِنْ لَمْ يُظْهِرْ كَانَتْ نِيَّتُهُ فَاسِدَةً يُعَاقَبُ عَلَيْهَا
فِي الْآخِرَةِ ، كَمَا بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ ، وَلَيْسَ لَهُ
عُقُوبَةٌ فِي الْحُدُودِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إذَا أَشَاعَهَا فَقَدْ
بَيَّنَّا مَا لَهُ مِنْ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا .
وَقَدْ رَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ : جَاءَ
حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا فَدَخَلَ فَشَبَّبَ ، وَقَالَ :
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ
الْغَوَافِلِ قَالَتْ لَهُ : لَكِنَّكَ لَسْت كَذَلِكَ قُلْت : تَدَعِينَ مِثْلَ
هَذَا يَدْخُلُ عَلَيْك ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ : { وَاَلَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ
مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } قَالَتْ ، وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنْ الْعَمَى .
وَقَدْ كَانَ يَرُدُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيَّنْت لَهُ أَنَّ الْعَمَى مِنْ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ
الَّذِي قُورِضَ بِهِ ، وَذَكَرَ ذِمَامَهُ فِي مُنَافَحَتِهِ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهَا رَعَتْ لَهُ ذَلِكَ ،
وَإِنْ كَانَ قَالَ فِيهَا .
الْآيَةُ الْحَادِيَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ
وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ
اللَّهُ لَكُمْ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ فِي أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ عَائِشَةُ فِي
حَدِيثِهَا : فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَلَّا يَنْفَعَ مِسْطَحًا بِنَافِعَةٍ
أَبَدًا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ : { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ }
يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ .
{ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ
وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
} يَعْنِي مِسْطَحًا إلَى قَوْلِهِ : { غَفُورٌ رَحِيمٌ
} قَالَ أَبُو بَكْرٍ : بَلَى وَاَللَّهِ يَا رَبَّنَا ، إنَّا لَنُحِبُّ أَنْ
يُغْفَرَ لَنَا ، وَعَادَ لِمَا كَانَ يَصْنَعُ لَهُ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّ الْقَذْفَ وَإِنْ كَانَ كَبِيرَةً لَا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ
وَصَفَ مِسْطَحًا بَعْدَ قَوْلِهِ بِالْهِجْرَةِ وَالْإِيمَانِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : عَجِبْت لِقَوْمٍ يَتَكَلَّفُونَ
فَيَتَكَلَّمُونَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ ، هَذَا أَبُو بَكْرٍ حَلَفَ أَلَّا
يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ نَفَقَتَهُ ؛ فَمَنْ
لِلْمُتَكَلِّفِ لَنَا تَكَلَّفَ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى
يَتَكَلَّمَ بِهَذَا الْهُزْءِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ
الْيَمِينَ لَا تَحْرُمُ ، أَوْ لَا تَحْرُمُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ ،
وَتَحْقِيقُهُ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَهِيَ حَسَنَةٌ أَنَّ فِي
ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحِنْثَ إذَا رَآهُ خَيْرًا أَوْلَى مِنْ الْبِرِّ
، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَرَأَى غَيْرَهَا
خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } .
وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا
بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } .
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اعْلَمُوا
وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَصَّصَ النَّاسَ
بِالْمَنَازِلِ ، وَسَتَرَهُمْ فِيهَا عَنْ الْأَبْصَارِ ، وَمَلَّكَهُمْ
الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا عَلَى الِانْفِرَادِ ، وَحَجَزَ عَلَى الْخَلْقِ أَنْ
يَطَّلِعُوا عَلَى مَا فِيهَا مِنْ خَارِجٍ أَوْ يَلِجُوهَا بِغَيْرِ إذْنِ
أَرْبَابِهَا ؛ لِئَلَّا يَهْتِكُوا أَسْتَارَهُمْ ، وَيَبْلُوَا فِي
أَخْبَارِهِمْ .
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ
سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : { اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ حُجْرَةٍ فِي حُجَرِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ النَّبِيِّ مِدْرًى يَحُكُّ
بِهَا رَأْسَهُ ، فَقَالَ : لَوْ أَعْلَمُ أَنَّك تَنْظُرُ لَطَعَنْت بِهِ فِي عَيْنِك ،
إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ } .
وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِيهَا : { فَقَامَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ بِمِشْقَصٍ ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ
إلَيْهِ يَخْتِلُ الرَّجُلَ لِيَطْعَنَهُ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
عَامَّةً فِي كُلِّ بَيْتٍ ، وَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ } صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً فِي
أَبْيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ إنْ
شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } مَدَّ اللَّهُ
التَّحْرِيمَ فِي دُخُولِ بَيْتٍ لَيْسَ هُوَ بَيْتُك إلَى غَايَةٍ هِيَ
الِاسْتِئْنَاسُ .
وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ :
أَنَّ مَعْنَاهُ حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَأهَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَيَقُولُ : أَخْطَأَ الْكَاتِبُ .
الثَّانِي : حَتَّى تُؤْنِسُوا أَهْلَ الْبَيْتِ بِالتَّنَحْنُحِ
، فَيَعْلَمُوا بِالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ
وَغَيْرُهُ .
الثَّالِثُ : حَتَّى تَعْلَمُوا أَفِيهَا مِنْ
تَسْتَأْذِنُونَ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؛ قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ : أَمَّا قَوْلُهُ أَنْ تَسْتَأْنِسُوا بِمَعْنَى تَسْتَأْذِنُوا فَلَا
مَانِعَ فِي أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ الِاسْتِئْذَانِ بِالِاسْتِئْنَاسِ ، وَلَيْسَ
فِيهِ خَطَأٌ مِنْ كَاتِبٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ الْخَطَأُ إلَى كِتَابٍ تَوَلَّى
اللَّهُ حِفْظَهُ ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى صِحَّتِهِ ؛ فَلَا يُلْتَفَتُ
إلَى رَاوِي ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَوَجْهُ التَّعْبِيرِ عَنْ الِاسْتِئْذَانِ
بِالِاسْتِئْنَاسِ أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِعْلَامِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ التَّنَحْنُحُ فَهِيَ
زِيَادَةٌ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا
.
وَأَشْبَهُ مَا فِيهِ قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ فَإِنَّهُ
عَبَّرَ عَنْ اللَّفْظَيْنِ بِمَعْنَيَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ مُقَيَّدَيْنِ .
وَهَذَا هُوَ حُكْمُ اللُّغَةِ فِي جَعْلِ مَعْنًى
لِكُلِّ لَفْظٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِئْذَانِ : وَهُوَ بِالسَّلَامِ ، وَصِفَتُهُ
مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : كُنْت فِي مَجْلِسٍ مِنْ
مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ إذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ قَالَ :
اسْتَأْذَنْت عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا ، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي ، فَرَجَعْت .
قَالَ : مَا مَنَعَك ؟ قُلْت : اسْتَأْذَنْت ثَلَاثًا فَلَمْ
يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْت وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ
فَلْيَرْجِعْ } .
فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بَيِّنَةً .
أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ : وَاَللَّهِ لَا يَقُومُ
مَعَك إلَّا أَصْغَرُنَا .
فَكُنْت أَصْغَرَهُمْ .
فَقُمْت مَعَهُ ، فَأَخْبَرْت عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ .
وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ .
وَحِكْمَةُ التَّعْدَادِ فِي الِاسْتِئْذَانِ أَنَّ
الْأُولَى اسْتِعْلَامٌ ، وَالثَّانِيَةُ تَأْكِيدٌ ، وَالثَّالِثَةُ إعْذَارٌ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ
مَالِكٍ أَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ هُوَ الِاسْتِئْذَانُ عَلَى التَّأْوِيلِ
الْأَوَّلِ ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ : { وَتُسَلِّمُوا } تَفْسِيرًا لِلِاسْتِئْذَانِ .
وَقَدْ اخْتَرْنَا قَوْلَ ابْنِ قُتَيْبَةَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَالَ جَمَاعَةٌ : الِاسْتِئْذَانُ فَرْضٌ ، وَالسَّلَامُ
مُسْتَحَبٌّ .
وَبَيَانُهُ أَنَّ التَّسْلِيمَ كَيْفِيَّةٌ فِي
الْإِذْنِ .
رَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ
أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ ابْنِ عُمَرَ ، فَقَالَ : أَأَلِجُ فَأَذِنَ لَهُ
ابْنُ عُمَرَ .
قَالَ زَيْدٌ : فَلَمَّا قَضَيْت حَاجَتِي أَقْبَلَ
عَلَيَّ ابْنُ عُمَرَ ، فَقَالَ : مَالَكَ وَاسْتِئْذَانِ الْعَرَبِ ، إذَا
اسْتَأْذَنْت فَقُلْ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ، فَإِذَا رُدَّ عَلَيْك السَّلَامُ
فَقُلْ : أَأَدْخُلُ ؛ فَإِنْ أَذِنَ لَك فَادْخُلْ .
فَعَلَّمَهُ سُنَّةَ السَّلَامِ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ سِيرِينَ { أَنَّ رَجُلًا
اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :
أَدْخُلُ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ
عِنْدَهُ : قُمْ فَعَلِّمْ هَذَا كَيْفَ يَسْتَأْذِنُ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحْسِنْ .
فَسَمِعَهَا الرَّجُلُ فَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ } .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { سَأَلْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، فَقُلْت : يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَيْهِ ، اللَّتَانِ قَالَ
اللَّهُ فِيهِمَا : { إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا }
فَقَالَ : حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ .
قَالَ :
ثُمَّ أَخَذَ يَسُوقُ الْحَدِيثَ ، وَذَكَرَ اعْتِزَالَ
النَّبِيِّ فِي الْمَشْرُبَةِ قَالَ : فَأَتَيْت غُلَامًا أَسْوَدَ فَقُلْت :
اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ .
فَدَخَلَ الْغُلَامُ ثُمَّ خَرَجَ إلَيَّ .
فَقَالَ : قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ ، فَصَمَتَ .
فَرَجَعْت فَجَلَسْت إلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ غَلَبَنِي
مَا أَجِدُ ، فَرَجَعْت إلَى الْغُلَامِ ، فَقُلْت : اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ ،
فَدَخَلَ ، ثُمَّ خَرَجَ ، فَقَالَ : قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ .
قَالَ : فَوَلَّيْت مُدْبِرًا فَإِذَا الْغُلَامُ
يَدْعُونِي ، فَقَالَ : اُدْخُلْ ، فَقَدْ أَذِنَ لَك .
فَدَخَلْت فَسَلَّمْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِذَا هُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ ،
قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَطْلَقْت نِسَاءَك
؛ فَرَفَعَ إلَيَّ رَأْسَهُ ، وَقَالَ : لَا .
فَقُلْت : اللَّهُ أَكْبَرُ ، لَوْ رَأَيْتنَا يَا
رَسُولَ اللَّهِ وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ ، فَلَمَّا
قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ ؛ فَطَفِقَ
نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ فَغَضِبَتْ يَوْمًا عَلَيَّ امْرَأَتِي
فَطَفِقَتْ تُرَاجِعُنِي ، فَأَنْكَرْت أَنْ تُرَاجِعَنِي فَقَالَتْ : مَا
تُنْكِرُ ، فَوَاَللَّهِ إنَّ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِيُرَاجِعْنَهُ ، وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ يَوْمَهَا حَتَّى اللَّيْلِ .
فَقُلْت : قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ ، وَخَسِرَ
، أَتَأْمَنُ إحْدَاهُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ ،
فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ .
فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَدَخَلَتْ عَلَيَّ حَفْصَةُ ،
فَقُلْت : لَا يَغْرُرْك أَنْ كَانَتْ جَارِيَتُك
هِيَ أَوْسَمُ وَأَحَبُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْك .
فَتَبَسَّمَ أُخْرَى .
فَقُلْت : أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ :
نَعَمْ فَجَلَسْت فَرَفَعْت رَأْسِي فِي الْبَيْتِ ،
فَوَاَللَّهِ مَا رَأَيْت شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ إلَّا أَهَبَةً ثَلَاثَةً ،
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
} قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ عُمَرَ رَجَعَ مِنْ مَرَّتَيْنِ ، وَلَمْ
يَنْتَظِرْ الثَّالِثَةَ .
فَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ كَمَالَ التَّعْدَادِ
حَقُّ الَّذِي يَسْتَأْذِنُ إنْ أَرَادَ اسْتِقْصَاءَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ ،
وَفِيهِ قَوْلُهُ بَعْدَ الدُّخُولِ : أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَهَذَا
مِنْ الْأُنْسِ وَالتَّبَسُّطِ ، لَا مِنْ الْإِعْلَامِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي
الْآيَةِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنْ وَقَعَتْ الْعَيْنُ عَلَى الْعَيْنِ فَالسَّلَامُ قَدْ تَعَيَّنَ ، وَلَا تُعَدُّ رُؤْيَتُك لَهُ إذْنًا لَك فِي دُخُولِك عَلَيْهِ ؛ فَإِذَا قَضَيْت حَقَّ السَّلَامِ لِأَنَّك الْوَارِدُ حِينَئِذٍ تَقُولُ : أَدْخُلُ ؟ فَإِنْ أَذِنَ لَك فَادْخُلْ وَإِلَّا رَجَعْت .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : هَذَا كُلُّهُ فِي بَيْتٍ لَيْسَ لَك ؛ فَإِمَّا بَيْتُك الَّذِي
تَسْكُنُهُ فَإِنْ كَانَ فِيهِ أَهْلُك فَلَا إذْنَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ
فِيهِ مَعَك أُمُّك أَوْ أُخْتُك فَقَالُوا تَنَحْنَحْ وَاضْرِبْ بِرِجْلَيْك حَتَّى
تَنْتَبِهَ لِدُخُولِك ، لِأَنَّ الْأَهْلَ لَا حِشْمَةَ بَيْنَك وَبَيْنَهَا .
وَأَمَّا الْأُمُّ وَالْأُخْتُ فَقَدْ تَكُونُ عَلَى
حَالَةٍ لَا [ تُحِبُّ أَنْ ] تَرَاهَا فِيهَا .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : قَالَ مَالِكٌ :
وَيَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلَى أُمِّهِ وَأُخْتِهِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ
عَلَيْهِمَا .
وَقَدْ رَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ { أَنَّ رَجُلًا
قَالَ لِلنَّبِيِّ : أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : إنِّي أَخْدُمُهَا .
قَالَ : اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا .
قَالَ : فَعَاوَدَهُ ثَلَاثًا قَالَ : أَتُحِبُّ أَنْ
تَرَاهَا عُرْيَانَةً ؟ قَالَ : لَا
.
قَالَ : فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا } .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَاللَّفْظُ
لَهُ { أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : أَسْتَأْذِنُ عَلَى أَخَوَاتِي وَهُنَّ فِي حُجْرَتِي
مَعِي فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَرَدَدْت عَلَيْهِ لِيُرَخِّصَ لِي فَأَبَى .
قَالَ : أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً ؟ قُلْت :
لَا قَالَ : فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا ؛ فَرَاجَعَتْهُ ، فَقَالَ : أَتُحِبُّ أَنْ
تُطِيعَ اللَّهَ ؟ قُلْت : نَعَمْ
.
قَالَ : فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا .
} وَقَالَ طَاوُسٌ : مَا مِنْ امْرَأَةٍ أَكْرَهُ إلَيَّ
أَنْ أَرَى عَوْرَتَهَا مِنْ ذَاتِ مَحْرَمٍ ، ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ الطَّبَرِيُّ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : هَذَا الْإِذْنُ فِي دُخُولِهِ بَيْتًا غَيْرَ بَيْتِهِ ، فَإِنْ
دَخَلَ بَيْتَ نَفْسِهِ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : لِيَقُلْ : السَّلَامُ عَلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا
التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الْمُبَارَكَاتُ لِلَّهِ ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ .
رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ .
وَالصَّحِيحُ تَرْكُ السَّلَامِ وَالِاسْتِئْذَانِ ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا
تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا
هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
هَذَا تِبْيَانٌ مِنْ اللَّهِ لِإِشْكَالٍ يَلُوحُ فِي الْخَاطِرِ ، وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ
الرَّجُلُ إلَى مَنْزِلٍ لَا يَجِدُ فِيهِ أَحَدًا ، فَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ :
إذَا كَانَتْ الْمَنَازِلُ خَالِيَةً فَلَا إذْنَ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ
مُحْتَجَبٌ ، فَيُقَالُ لَهُ : إنَّ الْإِذْنَ يُفِيدُ مَعْنَيَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : الدُّخُولُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ .
وَالثَّانِي :
كَشْفُ الْبَيْتِ وَإِطْلَاعُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
هُنَالِكَ أَحَدٌ مُحْتَجِبٌ فَالْبَيْتُ مَحْجُوبٌ لِمَا فِيهِ ، وَبِمَا فِيهِ ،
إلَّا بِإِذْنٍ مِنْ رَبِّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { حَتَّى
يُؤْذَنَ لَكُمْ } .
يَعْنِي حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ فَيَأْذَنَ
، أَوْ يَتَقَدَّمَ لَهُ بِالْإِذْنِ
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا } .
هَذَا مُرْتَبِطٌ بِالْآيَةِ قَبْلَهَا ؛ التَّقْدِيرُ :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ
حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ، فَإِنْ أُذِنَ لَكُمْ فَادْخُلُوا
، وَإِلَّا فَارْجِعُوا ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو مُوسَى مَعَ عُمَرَ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ تَسْطِيرُهُ
وَإِيرَادُهُ .
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا يَأْذَنُ لَكُمْ
فَلَا تَدْخُلُوا حَتَّى تَجِدُوا إذْنًا .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا أَوْ مَفْتُوحًا ؛ لِأَنَّ
الشَّرْعَ قَدْ أَغْلَقَهُ بِالتَّحْرِيمِ لِلدُّخُولِ حَتَّى يَفْتَحَهُ
الْإِذْنُ مِنْ رَبِّهِ ؛ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ الْبَابَ ،
وَيُحَاوَلَ الْإِذْنَ عَلَى صِفَةٍ لَا يَطَّلِعُ مِنْهُ عَلَى الْبَيْتِ لَا فِي
إقْبَالِهِ وَلَا فِي انْقِلَابِهِ .
فَقَدْ رَوَى عُلَمَاؤُنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ مَلَأَ عَيْنَيْهِ مِنْ قَاعَةِ بَيْتٍ فَقَدْ فَسَقَ " .
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ } .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدٌ فَيَنْبَغِي لِلْمُسْتَأْذَنِ عَلَيْهِ
أَنْ يَقُولَ : اُدْخُلْ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ ، لَا يَزِيدُ
عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَسْتَحْقِرُ فِيهِ .
رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ جَاءَ دَارًا
لَهَا بَابَانِ قَالَ : أَدْخُلْ ؟ قَالَ لَهُ إنْسَانٌ : اُدْخُلْ بِسَلَامٍ .
قَالَ لَهُ
: وَمَا يُدْرِيك أَنِّي أَدْخُلُ بِسَلَامٍ ؛ ثُمَّ
انْصَرَفَ كَرَاهِيَةَ مَا زَادَ ؛ لِأَنَّ الَّذِي قَالَ : اُدْخُلُوهَا
بِسَلَامٍ عَالِمٌ بِذَلِكَ قَادِرٌ عَلَيْهِ ، وَاَلَّذِي زَادَ فِي الْإِذْنِ
بِسَلَامٍ زَادَ مَا لَمْ يَسْمَعْ ، وَقَالَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ، وَضَمِنَ مَا
لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِذْنَ شَرْطٌ فِي دُخُولِ الْمَنْزِلِ
فَإِنَّهُ يَجُوزُ مِنْ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرُ .
وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الصَّغِيرِ لَغْوًا فِي الْأَحْكَامِ
بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ؛ وَلَكِنَّ الْإِذْنَ فِي الْمَنَازِلِ
مُرَخَّصٌ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ ، وَقَدْ كَانَ أَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ دُونَ الْبُلُوغِ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَعْمَلُ عَلَى قَوْلِهِ ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ مَعَ
أَبْنَائِهِمْ ، وَغِلْمَانِهِمْ
.
الْآيَةُ الرَّابِعَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا
غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا
تَكْتُمُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْبُيُوتِ : أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ :
أَنَّهَا الْخَانَاتُ وَالْخَانَكَاتُ
.
الثَّانِي : أَنَّهَا دَكَاكِينُ التُّجَّارِ ؛ قَالَهُ
الشَّعْبِيُّ .
الثَّالِثُ : قَالَ مُجَاهِدٌ : هِيَ مَنَازِلُ
الْأَسْفَارِ وَمُنَاجَاةُ الرِّجَالِ
.
الرَّابِعُ : أَنَّهَا الْخَرَابَاتُ الْعَاطِلَةُ ؛
قَالَ قَتَادَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ } فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا
أَمْوَالُ التُّجَّارِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا الْمَنَافِعُ كُلُّهَا .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا الْخَلَاءُ لِحَاجَةِ
الْإِنْسَانِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ الْفَقِيهُ
الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهَا
الْخَانَاتُ وَهِيَ الْفَنَادِقُ ، وَالْخَانَكَاتُ وَهِيَ الْمَدَارِسُ
لِلطَّلَبَةِ ، فَإِنَّمَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ السُّكَّانِ فِيهَا
وَالْعَامِلِينَ بِهَا فَلَا يَصِحُّ الْمَنْعُ ؛ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِذْنُ .
وَكَذَلِكَ دَكَاكِينُ التُّجَّارِ ، قَالَ الشَّعْبِيُّ
: لَا إذْنَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَهَا جَاءُوا بِبُيُوعِهِمْ ، وَجَعَلُوهَا
فِيهَا ، وَقَالُوا لِلنَّاسِ هَلُمَّ
.
فَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَلَّا يَدْخُلَ فِي
كُلِّ مَوْضِعٍ بِغَيْرِ إذْنٍ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ وَمَنْ خَرَجَ
عَنْهُمْ فَلَا دُخُولَ فِيهِ لَهُمْ
.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ
الْمَتَاعَ بِأَنَّهُ جَمِيعُ الِانْتِفَاعِ فَقَدْ طَبَّقَ الْمُفَصَّلَ ،
وَجَاءَ بِالْفَيْصَلِ ، وَبَيَّنَ أَنَّ دُخُولَ الدَّاخِلِ فِيهَا إنَّمَا هُوَ
لِمَا لَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ ، فَالطَّالِبُ يَدْخُلُ فِي الْخَانَكَاتِ
لِلْعِلْمِ ، وَالسَّاكِنُ يَدْخُلُ فِي الْخَانِ لِلْمَنْزِلِ فِيهِ ، أَوْ
لِطَلَبِ مَنْ نَزَلَ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ ، وَالزَّبُونُ يَدْخُلُ لِدُكَّانِ الِابْتِيَاعِ
، وَالْحَاقِنُ يَدْخُلُ الْخَلَاءَ لِلْحَاجَةِ ،
وَكُلٌّ يُؤْتَى عَلَى وَجْهِهِ مِنْ بَابِهِ ، فَإِنْ دَخَلَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ هَذِهِ بِاسْمِهَا الظَّاهِرِ وَلِمَنْفَعَتِهَا الْبَادِيَةِ وَنِيَّتُهُ غَيْرُ ذَلِكَ فَاَللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا أَبْدَى ، وَبِمَا كَتَمَ ، يُجَازِيهِ عَلَيْهِ وَبِمَا يُظْهِرُهُ مِنْهُ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ
وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
يَصْنَعُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :
{ يَغُضُّوا } يَعْنِي يَكُفُّوا عَنْ الِاسْتِرْسَالِ قَالَ الشَّاعِرُ : فَغُضَّ
الطَّرْفَ إنَّك مِنْ نُمَيْرٍ فَلَا كَعْبًا بَلَغْتَ وَلَا كِلَابًا
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ }
فَأَدْخَلَ حَرْفَ { مِنْ } الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّبْعِيضِ ، وَذَكَرَ {
وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } مُطْلَقًا
.
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ غَضَّ الْأَبْصَارِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْرِيمِ ؛ لِأَنَّ
غَضَّهَا عَنْ الْحَلَالِ لَا يَلْزَمُ ؛ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ غَضُّهَا عَنْ
الْحَرَامِ ؛ فَلِذَلِكَ أَدْخَلَ حَرْفَ التَّبْعِيضِ فِي غَضِّ الْأَبْصَارِ ،
فَقَالَ : مِنْ أَبْصَارِهِمْ .
الثَّانِي : أَنَّ مِنْ نَظَرِ الْعَيْنِ مَا لَا يَحْرُمُ
، وَهُوَ النَّظْرَةُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ ، فَمَا زَادَ عَلَيْهَا مُحَرَّمٌ
، وَلَيْسَ مِنْ أَمْرِ الْفَرْجِ شَيْءٌ مَا يُحَلَّلُ .
الثَّالِثُ : أَنَّ مِنْ النَّظَرِ مَا يَحْرُمُ ،
وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَجَانِبِ ؛ وَمِنْهُ مَا يُحَلَّلُ ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ
بِالزَّوْجَاتِ وَذَوِي الْمَحَارِمِ ، بِخِلَافِ الْفَرْجِ ، فَإِنَّ سَتْرَهُ
وَاجِبٌ فِي الْمَلَأِ وَالْخَلْوَةِ ؛ لِحَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ ؛ قَالَ : { قُلْت
يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ ؟ قَالَ :
احْفَظْ عَوْرَتَك إلَّا مِنْ زَوْجِك ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك .
فَقَالَ : الرَّجُلُ يَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ ؟ قَالَ :
إنْ اسْتَطَعْت أَلَّا يَرَاهَا أَحَدٌ فَافْعَلْ .
قُلْت : فَالرَّجُلُ يَكُونُ خَالِيًا ؟ قَالَ : اللَّهُ
أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ
} .
{ وَقَدْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَالَهَا مَعَهُ فَقَالَتْ : مَا رَأَيْت ذَلِكَ
مِنْهُ ، وَلَا رَأَى ذَلِكَ مِنِّي
} .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ
: { وَيَحْفَظُوا
فُرُوجَهُمْ } يَعْنِي بِهِ الْعِفَّةَ ، وَهُوَ اجْتِنَابُ مَا نَهَى اللَّهُ
عَنْهُ فِيهَا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا
حِفْظُهَا عَنْ الْأَبْصَارِ ، حَتَّى لَا يَرَاهَا أَحَدٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
وُجُوبُ سَتْرِهَا وَشَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِهَا فِي الْبَقَرَةِ وَالْأَعْرَافِ ، وَإِيضَاحُهُ
فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَالْمَسَائِلِ
.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { ذَلِكَ
أَزْكَى لَهُمْ } : يُرِيدُ أَطْهَرُ عَلَى مَعَانِي الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ إذَا
غَضَّ بَصَرَهُ كَانَ أَطْهَرَ لَهُ مِنْ الذُّنُوبِ ، وَأَنْمَى لِأَعْمَالِهِ
فِي الطَّاعَةِ ؛ وَلِذَلِكَ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ : يَا عَلِيُّ ، إنَّ لَك كَنْزًا فِي الْجَنَّةِ ، وَإِنَّك
ذُو قَرْنَيْهَا ، فَلَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ ؛ فَإِنَّ الْأُولَى
لَك وَالثَّانِيَةَ لَيْسَتْ لَك } وَهُوَ أَيْضًا أَفْرَغُ لِبَالِهِ وَأَصْلَحُ
لِأَحْوَالِهِ .
وَقَدْ أَنْشَدَ أَرْبَابُ الزُّهْدِ : وَأَنْتَ إذَا
أَرْسَلْت طَرْفَكَ رَائِدًا لِقَلْبِك يَوْمًا أَتْعَبَتْك الْمَنَاظِرُ رَأَيْت
الَّذِي لَا كُلُّهُ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ
وَقَالُوا : مَنْ أَرْسَلَ طَرْفَهُ أَدْنَى حَتْفَهُ ، وَمَنْ غَضَّ الْبَصَرَ
كَفَّهُ عَنْ التَّطَلُّعِ إلَى الْمُبَاحَاتِ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا
وَجَمَالِهَا ، كَمَا قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك
إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ
فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّك خَيْرٌ وَأَبْقَى } يُرِيدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَفِي الإسرائليات أَنَّ رَجُلًا كَانَ قَائِمًا
يُصَلِّي فَنَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ بِإِحْدَى عَيْنَيْهِ ، فَتَطَأْطَأَ إلَى
الْأَرْضِ ، فَأَخَذَ عُودًا فَفَقَأَ بِهِ عَيْنَهُ الَّتِي نَظَرَ بِهَا إلَى
الْمَرْأَةِ ، وَهِيَ مِنْ خَيْرِ عَيْنٍ تُحْشَرُ .
وَتَحْكِي الصُّوفِيَّةُ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ
تَمْشِي عَلَى طَرِيقٍ ، فَاتَّبَعَهَا رَجُلٌ حَتَّى انْتَهَتْ إلَى بَابِ دَارِهَا
، فَالْتَفَتَتْ إلَيْهِ فَقَالَتْ لَهُ : يَا هَذَا ؛ مَا لَك تَتْبَعُنِي ؟
فَقَالَ لَهَا :
أَعْجَبَتْنِي
عَيْنَاكِ .
فَقَالَتْ :
الْبَثْ قَلِيلًا ، فَدَخَلَتْ دَارَهَا ، ثُمَّ
فَقَأَتْ عَيْنَيْهَا فِي سُكُرُّجَةٍ ، وَأَخْرَجَتْهُمَا إلَيْهِ ، وَقَالَتْ
لَهُ : خُذْ مَا أَعْجَبَك ، فَمَا كُنْت لِأَحْبِسَ عِنْدِي مَا يَفْتِنُ
النَّاسَ مِنِّي .
الْآيَةُ السَّادِسَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ
أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ
أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي
إخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ
أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ
الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ
بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إلَى
اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله
تَعَالَى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا
فُرُوجَهُمْ } قَوْلٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ ، حَسَبَ كُلِّ خِطَابٍ عَامٍّ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ
فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَخُصُّ الْإِنَاثَ بِالْخِطَابِ
عَلَى طَرِيقِ التَّأْكِيدِ ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ { أُمِّ عُمَارَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ
أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي أَرَى كُلَّ شَيْءٍ لِلرِّجَالِ
وَمَا أَرَى النِّسَاءَ يُذْكَرْنَ بِشَيْءٍ ، فَنَزَلَتْ : { إنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِمَاتِ } } خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ .
فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ غَضِّ الْبَصَرِ وَحِفْظِ
الْفَرْجِ أَكَّدَهُ بِالتَّكْرَارِ ؛ وَخَصَّ النِّسَاءَ فِيهِ بِالذِّكْرِ عَلَى
الرِّجَالِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } وَذَلِكَ حَرَامٌ ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ
إلَى مَا لَا يَحِلُّ شَرْعًا يُسَمَّى زِنًا .
فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ اللَّهَ إذَا كَتَبَ عَلَى ابْنِ
آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ ، فَالْعَيْنَانِ
تَزْنِيَانِ ، وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا
الْبَطْشُ ؛ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ ، وَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ ؛ وَالنَّفْسُ
تَمَنَّى وَتَشْتَهِي ؛ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ } .
وَكَمَا لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى
الْمَرْأَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلَى الرَّجُلِ ،
فَإِنَّ عَلَاقَتَهُ بِهَا كَعَلَاقَتِهَا بِهِ ، وَقَصْدُهُ مِنْهَا كَقَصْدِهَا
مِنْهُ .
وَقَدْ رَوَتْ { أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ : كُنْت أَنَا
وَعَائِشَةُ وَفِي رِوَايَةٍ وَمَيْمُونَةُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ، فَقَالَ لَنَا
: احْتَجِبْنَ مِنْهُ ؟ فَقُلْنَا : أَوَلَيْسَ أَعْمَى ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا } .
فَإِنْ قِيلَ
: يُعَارِضُهُ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ فِي شَأْنِ الْعِدَّةِ
فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ ، فَقَالَ لَهَا : تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي
، اعْتَدِّي فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ
ثِيَابَك عِنْدَهُ } .
قُلْنَا : قَدْ أَوْعَبْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ فِي الشَّرْحِ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ ، وَسَتَرَوْنَهُ فِي مَوْضِعِهِ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَاَلَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ هَاهُنَا أَنَّ
انْتِقَالَهَا مِنْ بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ إلَى بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ
أَوْلَى بِهَا مِنْ بَقَائِهَا فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ ، إذْ كَانَتْ فِي بَيْتِ
أُمِّ شَرِيكٍ يَكْثُرُ الدَّاخِلُ فِيهِ وَالرَّائِي لَهَا ، وَفِي بَيْتِ ابْنِ
أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ ، وَكَانَ
إمْسَاكُ بَصَرِهَا عَنْهُ أَقْرَبَ مِنْ ذَلِكَ وَأَوْلَى ؛ فَرَخَّصَ لَهَا فِي ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ
مِنْهَا } : الزِّينَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ : خِلْقِيَّةٌ ، وَمُكْتَسَبَةٌ .
فَالْخِلْقِيَّةُ وَجْهُهَا فَإِنَّهُ أَصْلُ الزِّينَةِ
وَجَمَالُ الْخِلْقَةِ ، وَمَعْنَى الْحَيَوَانِيَّةِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ
الْمَنَافِعِ وَطُرُقِ الْعُلُومِ وَحُسْنِ تَرْتِيبِ مَحَالِّهَا فِي الرَّأْسِ ،
وَوَضْعِهَا وَاحِدًا مَعَ آخَرَ عَلَى التَّدْبِيرِ الْبَدِيعِ .
وَأَمَّا الزِّينَةُ الْمُكْتَسَبَةُ فَهِيَ مَا
تُحَاوِلُهُ الْمَرْأَةُ فِي تَحْسِينِ خَلْقِهَا بِالتَّصَنُّعِ : كَالثِّيَابِ
وَالْحُلِيِّ وَالْكُحْلِ وَالْخِضَابِ
.
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ
كُلِّ مَسْجِدٍ } يَعْنِي الثِّيَابَ
.
وَقَالَ الشَّاعِرُ : يَأْخُذْنَ زِينَتَهُنَّ أَحْسَنَ
مَا تَرَى وَإِذَا عَطِلْنَ فَهُنَّ خَيْرُ عَوَاطِلِ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ
: قَوْلُهُ : { إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } اعْلَمُوا عَرَّفَكُمْ اللَّهُ
الْحَقَائِقَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُتَقَابِلَةِ الَّتِي
يَقْتَضِي أَحَدُهَا الْآخَرَ ، وَهُوَ الْبَاطِنُ هَاهُنَا ، كَالْأَوَّلِ مَعَ الْآخَرِ
، وَالْقَدِيمِ مَعَ الْحَدِيثِ ، فَلَمَّا وَصَفَ الزِّينَةَ بِأَنَّ مِنْهَا
ظَاهِرًا دَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَالِكَ بَاطِنًا .
وَاخْتُلِفَ فِي الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ
: أَنَّهَا الثِّيَابُ يَعْنِي أَنَّهَا يَظْهَرُ
مِنْهَا ثِيَابُهَا خَاصَّةً ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ .
الثَّانِي : الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ ؛ قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ .
وَهُوَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي بِمَعْنًى ، لِأَنَّ
الْكُحْلَ وَالْخَاتَمَ فِي الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ ، إلَّا أَنَّهُ يَخْرُجُ
عَنْهُ بِمَعْنًى آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يَرَى الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ
هِيَ الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ يَقُولُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا كُحْلٌ أَوْ
خَاتَمٌ ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ وَجَبَ سَتْرُهَا ، وَكَانَتْ
مِنْ الْبَاطِنَةِ .
فَأَمَّا الزِّينَةُ الْبَاطِنَةُ فَالْقُرْطُ
وَالْقِلَادَةُ وَالدُّمْلُجِ وَالْخَلْخَالِ وَغَيْرِهِ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ
عَنْ
مَالِكٍ : الْخِضَابُ لَيْسَ مِنْ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي السِّوَارِ ؛ فَقَالَتْ
عَائِشَةُ : هِيَ مِنْ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ ؛ لِأَنَّهَا فِي الْيَدَيْنِ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : هِيَ مِنْ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ
؛ لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ الْكَفَّيْنِ ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ فِي الذِّرَاعِ .
وَأَمَّا الْخِضَابُ فَهُوَ مِنْ الزِّينَةِ
الْبَاطِنَةِ إذَا كَانَ فِي الْقَدَمَيْنِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ هِيَ الَّتِي
فِي الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ ، فَإِنَّهَا الَّتِي تَظْهَرُ فِي الصَّلَاةِ .
وَفِي الْإِحْرَامِ عِبَادَةً ، وَهِيَ الَّتِي تَظْهَرُ
عَادَةً .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } :
الْجَيْبُ : هُوَ الطَّوْقُ وَالْخِمَارُ : هِيَ الْمِقْنَعَةُ .
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : رَحِمَ اللَّهُ
نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ لَمَّا نَزَلَ : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى
جُيُوبِهِنَّ } شَقَقْنَ مُرُوطَهُنَّ وَفِي رِوَايَةٍ فِيهِ أَيْضًا : شَقَقْنَ
أُزُرَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا ، كَأَنَّهُ مَنْ كَانَ لَهَا مِرْطٌ شَقَّتْ
مِرْطَهَا ، وَمَنْ كَانَتْ لَهَا إزَارٌ شَقَّتْ إزَارَهَا .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَتْرَ الْعُنُقِ
وَالصَّدْرِ بِمَا فِيهِ ، وَيُوَضِّحُهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الصُّبْحَ فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ
مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ ، مَا يُعْرَفْنَ مِنْ الْغَلَسِ } أَيْ لَا
تُعْرَفُ فُلَانَةُ مِنْ فُلَانَةَ
.
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ
} حَرَّمَ اللَّهُ إظْهَارَ الزِّينَةِ ، كَمَا تَقَدَّمَ عَلَى الْإِطْلَاقِ .
وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ اثْنَيْ عَشَرَ مَحِلًّا :
الْمُسْتَثْنَى الْأَوَّلُ : الْبُعُولَةُ : وَالْبَعْلُ : هُوَ الزَّوْجُ
وَالسَّيِّدُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ ، وَمِنْهُ { قَوْلُ النَّبِيِّ حِينَ ذَكَرَ
أَشْرَاطَ السَّاعَةِ : حَتَّى تَلِدَ الْأَمَةُ بَعْلَهَا } يَعْنِي سَيِّدَهَا ؛
إشَارَةً إلَى كَثْرَةِ السَّرَارِي بِكَثْرَةِ الْفُتُوحَاتِ ، فَيَأْتِي
الْأَوْلَادُ مِنْ الْإِمَاءِ ، فَتَعْتِقُ كُلُّ أُمٍّ بِوَلَدِهَا ، فَكَأَنَّهُ
سَيِّدُهَا الَّذِي مَنَّ عَلَيْهَا بِالْعِتْقِ ؛ إذْ كَانَ الْعِتْقُ حَاصِلًا
لَهَا مِنْ سَبَبِهِ ، فَالزَّوْجُ وَالسَّيِّدُ مِمَّنْ يَرَى الزِّينَةَ مِنْ الْمَرْأَةِ
وَأَكْثَرَ مِنْ الزِّينَةِ ؛ إذْ كُلُّ مَحِلٍّ مِنْ بَدَنِهَا حَلَالٌ لَهُ
لَذَّةً وَنَظَرًا ؛ وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى
أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ }
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جَوَازِ نَظَرِ الرَّجُلِ إلَى فَرْجِ زَوْجَتِهِ
عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ لَهُ
التَّلَذُّذُ فَالنَّظَرُ أَوْلَى
.
وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ { لِقَوْلِ عَائِشَةَ فِي ذِكْرِ
حَالِهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا رَأَيْت
ذَلِكَ مِنْهُ وَلَا رَأَى ذَلِكَ مِنِّي } .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْأَدَبِ ؛ فَقَدْ قَالَ
أَصْبَغُ مِنْ عُلَمَائِنَا : يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَلْحَسَهُ بِلِسَانِهِ .
الْمُسْتَثْنَى
الثَّانِي : أَوْ آبَائِهِنَّ : وَلَا خِلَافَ أَنَّ غَيْرَ الزَّوْجِ لَا
يَلْحَقُ بِالزَّوْجِ فِي اللَّذَّةِ .
وَكَذَلِكَ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ
يَلْحَقُ غَيْرُ الزَّوْجِ بِالزَّوْجِ فِي النَّظَرِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ شُورِكَ
بَيْنَهُمْ فِي لَفْظِ الْعَطْفِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّشْرِيكَ فِي ذَلِكَ
كُلِّهِ ، وَلَكِنْ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمْ السُّنَّةُ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يَبْدُو لِلْأَبِ مِنْ
الزِّينَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ
: الْأَوَّلُ : أَنَّهُ الرَّأْسُ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّانِي
: أَنَّ الَّذِي تُبْدِي الْقُرْطَ وَالْقِلَادَةَ
وَالسِّوَارَ ، فَأَمَّا خَلْخَالُهَا وَشَعْرُهَا فَلَا ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
: وَنَحْوُهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ
.
الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ عَلَى رَأْسِهَا خِمَارٌ
وَمِقْنَعَةٌ ، فَتَكْشِفُ الْمِقْنَعَةَ لَهُ .
وَهِيَ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى ؛ إذْ الزِّينَةُ
الْبَاطِنَةُ يَجُوزُ لِلْأَبِ النَّظَرُ إلَيْهَا لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ
إلَى ذَلِكَ فِي الْخُلْطَةِ ، وَلِأَجْلِ الْمَحْرَمِيَّةِ الَّتِي مَهَّدَتْ
الشَّرِيعَةُ ؛ إذْ لَا يَقْتَرِنُ بِهَا النَّظَرُ شَهْوَةً ، لِتَعَذُّرِهَا فِي
هَذَا الْمَوْضِعِ بِالتَّحْرِيمِ الْمُتَعَبَّدِ بِهِ وَالْبَعْضِيَّةِ الْقَائِمَةِ
مَعَهُ .
الْمُسْتَثْنَى
الثَّالِثُ : أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ : قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ :
قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : الرَّجُلُ يَنْظُرُ إلَى شَعْرِ خَتَنَتِهِ ،
فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا
لِبُعُولَتِهِنَّ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ .
وَقَالَ : لَا أَرَاهَا مِنْهَا .
وَفِي الْحَدِيثِ : { إنَّ الْحَمْوَ هُوَ الْمَوْتُ }
يَعْنِي لَا بُدَّ مِنْهُ ، كَمَا لَا بُدَّ مِنْ الْمَوْتِ فِي أَحَدِ
التَّأْوِيلَاتِ ، وَلِأَنَّهَا بِنْتُهُ ، فَنَزَلَتْ مِنْهُ بِتِلْكَ
الْمَنْزِلَةِ .
وَالْأَخْتَانُ وَالْأَصْهَارُ وَالْأَحْمَاءُ مِمَّا
كَثُرَ فِيهِمْ الْقَوْلُ ؛ وَجُلُّهُ أَنَّ الْخَتَنَ الصِّهْرُ .
وَقِيلَ : مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ مِنْ رَجُلٍ
أَوْ امْرَأَةٍ .
الْمُسْتَثْنَى
الرَّابِعُ : الْأَبْنَاءُ : قَالَ إبْرَاهِيمُ : لَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ
الرَّجُلُ إلَى شَعْرِ أُمِّهِ وَأُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ وَكُرِهَ لِلْبَاقِينَ ،
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ الِابْنَ وَالْأَبَ أَحَقُّ الْأَجَانِبِ مِنْ جِهَةِ
الْمَحْرَمِيَّةِ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ .
الْمُسْتَثْنَى الْخَامِسُ : أَبْنَاءُ الْبُعُولَةِ :
وَهُمْ يَنْزِلُونَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ فِي جَوَازِ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ ،
لِنُزُولِهِمْ مَنْزِلَةَ الْأَبْنَاءِ فِي الْمَحْرَمِيَّةِ .
الْمُسْتَثْنَى السَّادِسُ : الْإِخْوَةُ : وَقَدْ رُوِيَ
أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ كَانَا يَدْخُلَانِ عَلَى أُخْتِهِمَا أُمِّ
كُلْثُومٍ وَهِيَ تَمْتَشِطُ ؛ وَذَلِكَ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي .
الْمُسْتَثْنَى السَّابِعُ : أَبْنَاءُ الْإِخْوَةِ ،
وَهُمْ مِنْ آبَائِهِمْ : رَوَى عُلَمَاؤُنَا أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَا تُغَطِّي
رَأْسَهَا مِنْهُ وَلَا مِنْ عَشَرَةٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ : مِنْ
حَمْزَةَ أَخِيهَا ، وَلَا مِنْ جَعْفَرٍ ، وَلَا عَلِيِّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
أَخِيهَا ، وَلَا مِنْ الزُّبَيْرِ ابْنِهَا ، وَلَا مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
ابْنِ بِنْتِ أُخْتهَا أُمُّهُ أَرْوَى بِنْتُ كُرَيْزٍ ، وَأُمُّهَا الْبَيْضَاءُ
أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَلَا مِنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الْأَسَدِ ، وَلَا مِنْ أَبِي سَبْرَةَ بْنِ أَبِي رُهْمٍ ابْنَيْ أُخْتِهَا
بَرَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَلَا مِنْ طُلَيْبِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ
وَهْبِ بْنِ عَبْدِ بْنِ قُصَيٍّ ، وَأُمُّهُ أَرْوَى بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
، وَلَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ ، وَأَبِي أَحْمَدَ الشَّاعِرِ وَاسْمُهُ عُبَيْدُ
ابْنَيْ جَحْشٍ ، أُمُّهُمَا أُمَيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ .
الْمُسْتَثْنَى الثَّامِنُ : بَنُو الْأَخَوَاتِ :
وَلَمَّا لَحِقُوا فِي الْمَحْرَمِيَّةِ بِمَنْ تَقَدَّمَ لَحِقُوا بِهِمْ فِي
جَوَازِ النَّظَرِ .
الْمُسْتَثْنَى
التَّاسِعُ : قَوْلُهُ : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } : وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا
: أَنَّهُ جَمِيعُ النِّسَاءِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ .
فَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ
تَكُونَ الْمُسْلِمَةُ مُبْدِيَةً لَهُنَّ زِينَتَهَا وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ : أَمَّا بَعْدُ ، فَقَدْ
بَلَغَنِي أَنَّ نِسَاءَ الْمُسْلِمِينَ يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَاتِ مَعَهُنَّ
نِسَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَامْنَعْ ذَلِكَ ، وَحُلْ دُونَهُ .
ثُمَّ إنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَامَ فِي ذَلِكَ
الْمَقَامَ مُمْتَثِلًا ، فَقَالَ
: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ دَخَلَتْ الْحَمَّامَ مِنْ
غَيْرِ عِلَّةٍ وَلَا سَقَمٍ تُرِيدُ الْبَيَاضَ لِزَوْجِهَا فَسَوَّدَ اللَّهُ
وَجْهَهَا يَوْمَ تَبْيَضُّ الْوُجُوهُ
" .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِجَمِيعِ
النِّسَاءِ ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِالضَّمِيرِ لِلِاتِّبَاعِ ، فَإِنَّهَا آيَةُ
الضَّمَائِرِ ؛ إذْ فِيهَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ضَمِيرًا لَمْ يَرَوْا فِي
الْقُرْآنِ لَهَا نَظِيرًا ، فَجَاءَ هَذَا لِلِاتِّبَاعِ .
الْمُسْتَثْنَى
الْعَاشِرُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ }
: حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الْمَرْأَةِ عَبْدَهَا ؛ وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِي
ذَلِكَ فِيمَا سَمِعْت مِنْ شَيْخِنَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ
تَنَاقُضَ الْأَحْكَامِ فَإِنَّهَا تَمْلِكُهُ بِالْعُبُودِيَّةِ ، فَلَوْ
مَلَكَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ لَقَالَ لَهَا : اُخْرُجِي وَأَطِيعِي زَوْجَك ،
وَقَالَتْ هِيَ لَهُ : اُسْكُتْ وَأَطِعْ سَيِّدَتَكَ .
وَقَالَ أَحَدُهُمَا : أَقِمْ ، وَقَالَ الْآخَرُ :
ارْحَلْ .
وَقَالَ أَحَدُهُمَا : أَنْفِقْ بِالرِّقِّ ، وَقَالَ
الْآخَرُ : أَنْفِقْ بِالزَّوْجِيَّةِ
.
فَيَعُودُ الطَّالِبُ مَطْلُوبًا وَالْآخَرُ مَأْمُورًا
، فَحَسَمَ اللَّهُ الْعِلَّةَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ .
وَفِيمَا يُرْوَى فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا :
أَنَّ الْعَبْدَ كَالْأَجْنَبِيِّ
.
وَالثَّانِي : أَنَّهُ كَذَوِي الْمَحَارِمِ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ
مَالِكٍ دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ قَالَ مَالِكٌ : أَكْرَهُ أَنْ
يُسَافِرَ الرَّجُلُ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ ، وَلِلَّهِ دَرُّهُ ،
إنَّهَا لَيْسَتْ كَأُمِّهِ وَابْنَتِهِ .
قَالَا : قَالَ مَالِكٌ : وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْجَارِيَةِ
حُرًّا فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ يَمْلِكُ بَقِيَّتَهَا أَنْ يَنْظُرَ إلَى شَيْءٍ
مِنْهَا غَيْرَ شَعْرِهَا ، كَمَا يَنْظُرُ غَيْرُهُ ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَ
عَلَى زَوْجَتِهِ وَمَعَهَا الْمَرْأَةُ إذَا كَانَتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا .
وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْغُلَامِ حُرًّا فَلَا يَرَى
شَعْرَ مَنْ يَمْلِكُ بَقِيَّتَهُ ، وَإِنْ كَانَ خَصِيًّا لَا تَمْلِكُهُ لَمْ
يَنْظُرْ شَعْرَهَا وَصَدْرَهَا
.
وَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ خُصْيَانُ الْعَبِيدِ إلَى
شُعُورِ النِّسَاءِ ، فَأَمَّا الْأَحْرَارَ فَلَا ، وَذَلِكَ فِي الْوَغْدِ
مِنْهُمْ ، فَأَمَّا مَنْ لَهُ الْمَنْظَرَةُ فَلَا .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ لِلْوَغْدِ أَنْ يَأْكُلَ
مَعَ سَيِّدَتِهِ ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِذِي الْمَنْظَرَةِ .
وَقَالَ فِي الْخَصِيِّ خَادِمُ الرَّجُلِ فِي
مَنْزِلِهِ ، يَرَى فَخِذَهُ مُنْكَشِفَةً : إنَّهُ خَفِيفٌ .
وَقَالَ فِي جَارِيَةِ الْمَرْأَةِ : لَا يَنْبَغِي أَنْ
تَرَى فَخِذَ زَوْجِهَا
يَنْكَشِفُ
عَنْهَا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُنَّ } ، فَامْرَأَتُهُ فِي هَذَا كَغَيْرِهَا .
وَنَهَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النِّسَاءَ أَنْ
يَلْبَسْنَ الْقَبَاطِيَّ ، وَقَالَ : " إنْ كَانَتْ لَا تَشِفُّ فَإِنَّهَا
تَصِفُ " .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ : يُرِيدُ الْخُصُورَ وَالْأَرْدَافَ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : سَمِعْت مَالِكًا يُحَدِّثُ
أَنَّ عَائِشَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا رَجُلٌ أَعْمَى ، وَأَنَّهَا احْتَجَبَتْ مِنْهُ
؛ فَقِيلَ لَهَا يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ؛ إنَّهُ أَعْمَى لَا يَنْظُرُ إلَيْك .
قَالَتْ : " وَلَكِنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِ " .
قَالَ أَشْهَبُ : سُئِلَ مَالِكٌ أَتُلْقِي الْمَرْأَةُ
خِمَارَهَا بَيْنَ يَدَيْ الْخَصِيِّ ؟ وَهَلْ هُوَ مِنْ غَيْرِ أُولِي
الْإِرْبَةِ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، إذَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهَا أَوْ لِغَيْرِهَا ؛
فَأَمَّا الْحُرُّ فَلَا ، وَإِنْ كَانَ فَحْلًا كَبِيرًا وَغْدًا ، تَمْلِكُهُ
لَا هَيْئَةَ لَهُ وَلَا مَنْظَرَةَ فَلْيَنْظُرْ إلَى شَعْرِهَا .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " لَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ
الْمَمْلُوكُ إلَى مَوْلَاتِهِ
" .
قَالَ أَشْهَبُ : قَالَ مَالِكٌ : لَيْسَ بِوَاسِعٍ أَنْ
تَدْخُلَ جَارِيَةُ الزَّوْجَةِ أَوْ الْوَلَدِ عَلَى الرَّجُلِ الْمِرْحَاضَ ؛
قَالَ اللَّهُ : { إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } .
وَقَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ : يَنْظُرُ الْغُلَامُ
الْوَغْدُ إلَى شَعْرِ سَيِّدَتِهِ وَلَا أُحِبُّهُ لِغُلَامِ الزَّوْجِ .
وَأَطْلَقَ عُلَمَاؤُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ الْقَوْلَ
بِأَنَّ غُلَامَ الْمَرْأَةِ فِي ذَوِي مَحَارِمِهَا يَحِلُّ مِنْهَا مَا يَحِلُّ
لِذِي الْمَحْرَمِ .
وَهُوَ صَحِيحٌ فِي الْقِيَاسِ .
وَقَوْلُ مَالِكٍ فِي الِاحْتِيَاطِ أَعْجَبُ إلَيَّ .
فَرْعٌ :
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : لَا
تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ مَعَ عَبْدِهَا وَإِنْ كَانَ ذَا مَحْرَمٍ مِنْهَا ؛ إذْ يَجُوزُ
أَنْ يُعْتَقَ فِي السَّفَرِ فَيَحِلُّ لَهَا تَزَوُّجُهُ .
وَهَذَا عِنْدِي ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ عِتْقَهُ بِيَدِهَا ؛
فَلَا يُتَّفَقُ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ بِمَوْضِعٍ يَتَأَتَّى
فِيهِ مَا ذَكَرْنَا .
الْمُسْتَثْنَى
الْحَادِيَ عَشَرَ : قَوْلُهُ : { أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ }
: فِيهَا ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ الصَّغِيرُ ؛ قَالَ
مُجَاهِدٌ .
الثَّانِي : أَنَّهُ الْعِنِّينُ ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ ،
وَالشَّعْبِيُّ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْأَبْلَهُ الْمَعْتُوهُ لَا يَدْرِي
النِّسَاءَ ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَعَطَاءٌ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ الْمَجْبُوبُ لِفَقْدِ إرْبِهِ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ الْهَرَمُ ، لِعَجْزِ إرْبِهِ .
السَّادِسُ : أَنَّهُ الْأَحْمَقُ الَّذِي لَا يَشْتَهِي
الْمَرْأَةَ ، وَلَا يَغَارُ عَلَيْهِ الرَّجُلُ .
قَالَهُ قَتَادَةُ .
السَّابِعُ : أَنَّ الَّذِي لَا يَهُمُّهُ إلَّا
بَطْنُهُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّامِنُ : أَنَّهُ خَادِمُ الْقَوْمِ لِلْمَعَاشِ ؛
قَالَهُ الْحَسَنُ .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ الصَّغِيرُ فَلَا مَعْنَى لَهُ ،
لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ أَفْرَدَهُ اللَّهُ بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { أَوْ
الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } .
وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ ؛
مِنْهُمْ مَنْ لَهُ آلَةٌ ، وَمِنْهُمْ الْمَجْبُوبُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ آلَةٌ ،
وَاَلَّذِي لَهُ آلَةٌ عَلَى قِسْمَيْنِ : مِنْهُمْ الْعِنِّينُ الَّذِي لَا
يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ ، وَمِنْهُمْ الَّذِي لَا قَلْبَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَلَا
عَلَاقَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ
.
فَأَمَّا الْمَجْبُوبُ وَالْعِنِّينُ فَلَا كَلَامَ
فِيهِمَا .
وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُمَا مِمَّنْ لَا قَلْبَ لَهُ فِي
ذَلِكَ فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَلَّا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ
اجْتِمَاعٌ لِضَرُورَةِ حَالِهِ ؛ لَكِنَّ الشَّرِيعَةَ رَخَّصَتْ فِي ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ
الْمَاسَّةِ إلَيْهِ ، وَلِقَصْدِ نَفْيِ الْحَرَجِ بِهِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { :
إنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ ، فَدَخَلَ
عَلَيْهَا هِيتٌ الْمُخَنَّثُ ، فَقَالَ لِأَخِيهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
أُمَيَّةَ وَهُوَ عِنْدَهَا : يَا عَبْدَ اللَّهِ ؛ إنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
الطَّائِفَ غَدًا فَإِنِّي
أَدُلُّكَ عَلَى بَادِنَةَ بِنْتِ غَيْلَانَ يَعْنِي زَوْجَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، فَإِنَّهَا تُنِيفُ بِالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَتُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ مَعَ ثَغْرٍ كَأَنَّهُ الْأُقْحُوَانُ ، وَبَيْنَ رِجْلَيْهَا كَالْإِنَاءِ الْمَكْفُوءِ ، إنْ جَلَسَتْ تَبَنَّتْ ، وَإِنْ قَامَتْ تَثَنَّتْ ، وَإِنْ تَكَلَّمَتْ تَغَنَّتْ : بَيْنَ شُكُولِ النِّسَاءِ خِلْقَتُهَا قَصْدٌ فَلَا جَبْلَةٌ وَلَا قَضَفُ تَغْتَرِقُ الطَّرْفَ وَهْيَ لَاهِيَةٌ كَأَنَّمَا شَفَّ وَجْهَهَا نُزْفُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَأَرَى هَذَا يَعْرِفُ مَا هَاهُنَا ، لَا يَدْخُلْ عَلَيْكُنَّ } فَحَجَبَهُ .
الْمُسْتَثْنَى
الثَّانِيَ عَشَرَ : قَوْلُهُ : { أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى
عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } : وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُجُوبِ سَتْرِ مَا سِوَى
الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ مِنْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُ ؛
لِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَالْآخَرُ : يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَشْتَهِي ،
وَقَدْ تَشْتَهِي هِيَ أَيْضًا ؛ فَإِنْ رَاهَقَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَالِغِ فِي
وُجُوبِ السَّتْرِ وَلُزُومِ الْحَجَبَةِ .
وَبَقِيَ هَاهُنَا الْمُسْتَثْنَى الثَّالِثَ عَشَرَ ،
وَهُوَ الشَّيْخُ الَّذِي سَقَطَتْ شَهْوَتُهُ .
وَفِيهِ قَوْلَانِ ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الصَّبِيِّ .
وَالصَّحِيحُ بَقَاءُ الْحُرْمَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ مَعَ
عَبْدِهَا مِنْ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ ، وَكَأَنَّهُمْ ظَنُّوهَا رَجُلًا
أَوْ ظَنُّوهُ امْرَأَةً ، وَاَللَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ الْمَرْأَةَ عَلَى
الْإِطْلَاقِ نَظَرًا وَلَذَّةً ، ثُمَّ اسْتَثْنَى اللَّذَّةَ لِلزَّوْجِ
وَمِلْكِ الْيَمِينِ ، ثُمَّ اسْتَثْنَى الزِّينَةَ : ظَاهِرُ الثَّلَاثَةَ عَشَرَ شَخْصًا
الْعَبْدُ مِنْهُمْ ، فَمَا لَنَا وَلِغَيْرِ ذَلِكَ ؟ هَذَا نَظَرٌ فَاسِدٌ ،
وَاجْتِهَادٌ عَنْ السَّدَادِ مُتَبَاعِدٌ .
وَقَدْ أَوَّلَ بَعْضُ النَّاسِ قَوْلَهُ : { أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُنَّ } عَلَى الْإِمَاءِ دُونَ الْعَبِيدِ ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيِّبِ ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَى الْعَبِيدِ ، ثُمَّ يُلْحَقُونَ
بِالنِّسَاءِ ؟ هَذَا بَعِيدٌ جِدًّا
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ : { وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا
يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } .
قَالَ :
كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَضْرِبُ بِرِجْلَيْهَا لِيُسْمَعَ
قَعْقَعَةَ خَلْخَالَيْهَا ؛ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَرَحًا بِحُلِيِّهِنَّ فَهُوَ مَكْرُوهٌ .
وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَبَرُّجًا وَتَعَرُّضًا
لِلرِّجَالِ فَهُوَ حَرَامٌ .
وَكَذَلِكَ مَنْ صَرَّ بِنَعْلِهِ مِنْ الرِّجَالِ ، إنْ
فَعَلَ ذَلِكَ عُجْبًا حَرُمَ ، فَإِنَّ الْعُجْبَ كَبِيرَةٌ ، وَإِنْ فَعَلَ
ذَلِكَ تَبَرُّجًا لَمْ يَجُزْ
.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ
مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ وَاَللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْلُهُ : { الْأَيَامَى مِنْكُمْ } وَالْأَيِّمُ فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا
: أَنَّهَا الَّتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا .
الثَّانِي : أَنَّهَا الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا .
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ { : نَهَى عَنْ الْأَيْمَةِ } .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكِحْ وَإِنْ
تَتَأَيَّمِي وَإِنْ كُنْت أَفْتَى مِنْكُمْ أَتَأَيَّمُ وَفِي الْحَدِيثَ : {
الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا } ؛ وَهِيَ الَّتِي لَا زَوْجَ
لَهَا بَعْدَ زَوْجِهَا .
وَفِي لَفْظٍ : { الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا } .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِي الْمُرَادِ بِالْخِطَابِ بِقَوْلِهِ : { وَأَنْكِحُوا }
فَقِيلَ : هُمْ الْأَزْوَاجُ .
وَقِيلَ : هُمْ الْأَوْلِيَاءُ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ
سَيِّدٍ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ الْأَوْلِيَاءُ ؛ لِأَنَّهُ
قَالَ : أَنْكِحُوا .
بِالْهَمْزَةِ ، وَلَوْ أَرَادَ الْأَزْوَاجَ لَقَالَ
ذَلِكَ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ ، وَكَانَتْ الْأَلِفُ لِلْوَصْلِ ، وَإِنْ كَانَ
بِالْهَمْزَةِ فِي الْأَزْوَاجِ لَهُ وَجْهٌ فَالظَّاهِرُ أَوْلَى ، فَلَا
يُعْدَلُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَأَنْكِحُوا
} : لَفْظُهُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ ، وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ أَوْ نَدْبِهِ أَوْ
إبَاحَتِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ
: وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي
ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَرْءِ مِنْ خَوْفِهِ الْعَنَتَ ، وَعَدَمِ صَبْرِهِ
، وَمِنْ قُوَّتِهِ عَلَى الصَّبْرِ ، وَزَوَالِ خَشْيَةِ الْعَنَتِ عَنْهُ .
وَإِذَا خَافَ الْهَلَاكَ فِي الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا
أَوْ فِيهِمَا فَالنِّكَاحُ حَتْمٌ
.
وَإِنْ لَمْ يَخْشَ شَيْئًا وَكَانَتْ الْحَالُ مُطْلَقَةً
، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : النِّكَاحُ مُبَاحٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : هُوَ
مُسْتَحَبٌّ .
وَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ قَضَاءُ لَذَّةٍ ،
فَكَانَ مُبَاحًا كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ .
وَتَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ
، وَلَا فَائِدَةَ فِي التَّعَلُّقِ بِغَيْرِ الصَّحِيحِ .
وَفِي ذَلِكَ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ : الْأَوَّلُ :
قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : { جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوهَا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا ، فَقَالُوا :
وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ غُفِرَ
لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ .
قَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي اللَّيْلَ
أَبَدًا .
وَقَالَ الْآخَرُ : أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ ، وَلَا
أُفْطِرُ .
وَقَالَ الْآخَرُ : أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ وَلَا
أَتَزَوَّجُ أَبَدًا .
فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إلَيْهِمْ ، فَقَالَ : أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا ؟ أَمَا
وَاَللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، وَلَكِنِّي
أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ؛ مَنْ
يَرْغَبُ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } .
الثَّانِي : قَالَ عُرْوَةُ : سَأَلْت عَائِشَةَ عَنْ
قَوْلِهِ : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ
لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } إلَى قَوْلِهِ : { أَلَّا تَعْدِلُوا } .
قَالَتْ :
يَا بْنَ أُخْتِي ، هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي
حِجْرِ وَلِيِّهَا ، فَيَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا ، وَيُرِيدُ أَنْ
يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ صَدَاقِهَا ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ
إلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فَيُكْمِلُوا الصَّدَاقَ ، وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ
سِوَاهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ
: { وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } وَفِيهَا قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ
عِبَادِكُمْ وَأَنْكِحُوا إمَاءَكُمْ
.
وَتَقْرِيرُهَا : وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ .
الثَّانِي :
وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَمَرَ بِإِنْكَاحِ
الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ ، كَمَا أَمَرَ بِإِنْكَاحِ الْأَيَامَى ، وَذَلِكَ
بِيَدِ السَّادَةِ فِي الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ ، كَمَا هُوَ فِي الْأَحْرَارِ
بِيَدِ الْأَوْلِيَاءِ ، إلَّا مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ ، وَائْتَمَرَ أَمْرَهُ ، وَأَبْصَرَ
رُشْدَهُ .
أَمَّا أَنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ تَعَلَّقُوا
بِأَنَّ الْعَبْدَ مُكَلَّفٌ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ كَامِلٌ مِنْ جِهَةِ الْآدَمِيَّةِ ، وَإِنَّمَا
يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَمْلُوكِيَّةُ فِيمَا كَانَ حَظًّا لِلسَّيِّدِ مِنْ مِلْكِ
الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ ، فَلَهُ حَقُّ الْمَمْلُوكِيَّةِ فِي بُضْعِ
الْأَمَةِ لِيَسْتَوْفِيَهُ وَيَمْلِكَهُ .
فَأَمَّا بُضْعُ الْعَبْدِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ ، وَلِأَجْلِ
ذَلِكَ لَا تُبَاحُ السَّيِّدَةُ لِعَبْدِهَا ؛ هَذِهِ عُمْدَةُ أَهْلِ خُرَاسَانَ
وَالْعِرَاقِ .
وَلِعُلَمَائِنَا النُّكْتَةُ الْعُظْمَى فِي أَنَّ
مَالِكِيَّةَ الْعَبْدِ اسْتَغْرَقَتْهَا مَالِكِيَّةُ السَّيِّدِ ؛ وَلِذَلِكَ
لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا بِإِذْنِهِ إجْمَاعًا .
وَالنِّكَاحُ وَبَابُهُ إنَّمَا هُوَ مِنْ الْمَصَالِحِ
، وَمَصْلَحَةُ الْعَبْدِ مَوْكُولَةٌ إلَى السَّيِّدِ ، هُوَ يَرَاهَا وَيُقِيمُهَا
لِلْعَبْدِ ، وَلِذَلِكَ زَوَّجَ الْأَمَةَ بِمِلْكِهِ لِرَقَبَتِهَا ، لَا
بِاسْتِيفَائِهِ لِبُضْعِهَا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا نَقُولُهُ مِنْ ذَلِكَ
أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بُضْعَ امْرَأَتِهِ وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُهَا ، وَيَمْلِكُ
بُضْعَ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ أَمَةً ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَوْفِيهِ .
وَالْمَالِكِيَّةُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ
كَالْمَالِكِيَّةِ فِي رَقَبَةِ الْأَمَةِ .
وَالْمَصْلَحَةُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِيَدِ
السَّيِّدِ اسْتِيفَاؤُهَا وَإِقَامَتُهَا وَالنَّظَرُ
إلَيْهَا
، وَمِنْهَا وَمِنْ عَدِّهِمْ الطَّلَاقَ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ بِمِلْكِ
عَقْدِهِ .
وَهَذَا لَا يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّ لِلسَّيِّدِ نَظَرًا فِي
الْمَصْلَحَةِ ، فَإِنْ أَسْقَطَهَا الْعَبْدُ فَقَدْ أَسْقَطَ خَالِصَ حَقِّهِ
الَّذِي لَهُ ، وَقَدْ نَرَى الثَّيِّبَ لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ ، وَلَا يُمْلَكُ
عَلَيْهَا النِّكَاحُ ، وَيُمْلَكُ النِّكَاحُ عَلَى السَّفِيهِ الْمُوَلَّى
عَلَيْهِ ، وَلَا يُمْلَكُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ ، وَيُمْلَكُ عَلَيْهِ الْبَيْعُ
وَالشِّرَاءُ ، وَلَا يَمْلِكُ هُوَ الْإِقَالَةَ وَلَا الْفَسْخَ ، وَلَا
الْعِتْقَ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَيْنَيْنِ
غَيْرُ مَطْلَعِ الْآخَرِ ، فَافْتَرَقَا .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ أَرَادَ الْمَمْلُوكَيْنِ لَقَالَ
مِنْ عَبِيدِكُمْ .
قُلْنَا عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ
قَالَ بَعْدَهُ : ( وَإِمَائِكُمْ ) ، وَلَوْ أَرَادَ النَّاسَ لَمَا جَاءَ
بِالْهَمْزَةِ .
كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلِذَلِكَ قَرَأَهَا الْحَسَنُ مِنْ
عَبِيدِكُمْ ، وَلِيُبَيَّنَ الْإِشْكَالُ وَيُرْفَعَ اللَّبْسُ .
الثَّانِي :
أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَوْ قَدَّرْنَاهُ كَمَا زَعَمُوا
لَكَانَ عَامًّا ، وَكُنَّا نَحْكُمُ بِعُمُومِهِ فِيمَنْ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا
، كَمَا حَكَمْنَا بِعُمُومِهِ فِيمَنْ كَانَتْ أَمَةً لِلَّهِ أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ
خَلْقِهِ بِتَمْلِيكِهِ إيَّاهَا لَهُ
.
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ } .
وَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُغْنِيهِمْ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بِالنِّكَاحِ ، كَقَوْلِهِ : { وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ
اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ } يَعْنِي النِّكَاحَ مِنْ غَيْرِهِ .
الثَّانِي
: يُغْنِيهِمْ بِالْمَالِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ جَمَاعَةٍ
مِنْ السَّلَفِ ؛ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : عَجِبْت لِمَنْ لَا
يَرْغَبُ فِي الْبَاءَةِ ، وَاَللَّهُ يَقُولُ : { إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } .
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ حَقٌّ عَلَى
اللَّهِ عَوْنُهُ : الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالنَّاكِحُ يُرِيدُ
الْعَفَافَ ، وَالْمُكَاتَبُ يُرِيدُ الْأَدَاءَ } .
فَإِنْ قُلْنَا : قَدْ نَجِدُ النَّاكِحَ لَا
يَسْتَغْنِي .
قُلْنَا : عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : الْأَوَّلُ :
أَنَّهُ يُغْنِيهِ بِإِيتَاءِ الْمَالِ ، وَقَدْ يُوجَدُ ذَلِكَ .
الثَّانِي : يُغْنِيهِ عَنْ الْبَاءَةِ بِالْعِفَّةِ .
الثَّالِثُ :
يُغْنِيهِ بِغِنَى النَّفْسِ ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ
يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ عَلَى الدَّوَامِ ؛ بَلْ لَوْ كَانَ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ
لَصَدَقَ الْوَعْدُ .
وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ عُلَمَائِنَا يَقُولُ : إنَّ
هَذَا عَلَى الْخُصُوصِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْجَوَابِ الْأَوَّلِ .
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ : " النَّاكِحُ مُعَانٌ ،
وَالْمُكَاتَبُ مُعَانٌ ، وَبَاغِي الرَّجْعَةِ مُعَانٌ " .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ
الْآيَةُ وَإِنْ وَرَدَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهَا قَدْ تَنَاوَلَتْ
مُخْتَلِفَاتِ الْأَحْكَامِ ؛ مِنْهَا وَاجِبٌ ، وَمِنْهَا غَيْرُ وَاجِبٍ ،
وَمِنْهَا فِي الْبَالِغِ ، وَمِنْهَا فِي الصَّغِيرِ ، وَمِنْهَا فِي الثَّيِّبِ
، وَمِنْهَا فِي الْبِكْرِ .
قُلْنَا : هَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْخِطَابِ ؛ فَإِنَّ
ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ ؛ وَأَقْرَبُ مِنْهُ الْآيَةُ الَّتِي تَلَوْنَاهَا
آنِفًا فِي قَوْلِهِ : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ }
إلَى آخِرِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَجْهًا ، وَكُلُّ وَاحِدٍ
يَخْتَلِفُ
فِي بَابِهِ ، وَالْخِطَابُ مُشْتَرَكٌ فِيهِمْ ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ
يَخْتَلِفُ فِي التَّعَلُّقِ بِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ
دَلِيلٌ عَلَى تَزْوِيجِ الْفَقِيرِ ، وَلَا يَقُولَنَّ كَيْفَ أَتَزَوَّجُ
وَلَيْسَ لِي مَالٌ ؟ فَإِنَّ رِزْقَهُ وَرِزْقَ عِيَالِهِ عَلَى اللَّهِ ، { وَقَدْ
زَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَوْهُوبَةَ مِنْ بَعْضِ
أَصْحَابِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ إلَّا إزَارٌ وَاحِدٌ } ، وَلَيْسَ لَهَا بَعْدَ
هَذَا فَسْخُ النِّكَاحِ بِالْإِعْسَارِ ؛ لِأَنَّهَا عَلَيْهِ دَخَلَتْ ؛ وَإِنَّمَا
يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى الْحُكْمِ إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْيَسَارِ ، فَخَرَجَ
مُعْسِرًا ، أَوْ طَرَأَ الْإِعْسَارُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لَا
يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاَلَّذِينَ
يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا
تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ
إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : هَذَا خِطَابٌ لِبَعْضِ مَنْ تَنَاوَلَتْهُ الْآيَةُ الْأُولَى
مِمَّنْ يَمْلِكُ أَمْرَ نَفْسِهِ ، فَيَتَعَفَّفُ ، وَيَتَوَقَّفُ ، أَوْ
يَقْدُمُ عَلَى النِّكَاحِ ، وَلَا يَتَخَلَّفُ .
وَأَمَّا مَنْ زِمَامُهُ بِيَدِ سِوَاهُ يَقُودُهُ إلَى مَا
يَرَاهُ ، فَلَيْسَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَدْخَلٌ كَالْمَحْجُورِ قَوْلًا
وَاحِدًا ، وَالْأَمَةِ وَالْعَبْدِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إنْ كَانَ النِّكَاحُ فِي الْآيَةِ
الْأُولَى مُخْتَلَفًا فِيهِ مَا بَيْنَ وُجُوبٍ وَنَدْبٍ وَإِبَاحَةٍ
فَالِاسْتِعْفَافُ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِهِ لِأَجْلِ أَنَّهُ إمْسَاكٌ عَمَّا
حَرَّمَ اللَّهُ ؛ وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ وَاجِبٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : لَمَّا لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ
بَيْنَ الْعِفَّةِ وَالنِّكَاحِ دَرَجَةً دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُمَا
مُحَرَّمٌ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مِلْكُ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّهُ بِنَصٍّ آخَرَ
مُبَاحٌ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ،
فَجَاءَتْ فِيهِ زِيَادَةُ هَذِهِ الْإِبَاحَةِ بِآيَةٍ فِي آيَةٍ ، وَيَبْقَى
عَلَى التَّحْرِيمِ الِاسْتِمْنَاءُ رَدًّا عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، كَمَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ عَنْهُ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ لِنَسْخِهِ
، كَمَا تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لَا
يَجِدُونَ نِكَاحًا } يَعْنِي يَقْدِرُونَ ، وَعَبَّرَ عَنْ الْقُدْرَةِ بِالْوُجُودِ
، وَعَنْ عَدَمِهَا بِعَدَمِهِ ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَلَمْ
تَجِدُوا مَاءً }
حَرْفًا
بِحَرْفٍ فَخُذْهُ مِنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا :
بِالْقُدْرَةِ عَلَى النِّكَاحِ
.
الثَّانِي : بِالرَّغْبَةِ عَنْهُ .
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : إنَّهُ يَسْتَعِفُّ
بِالصَّوْمِ ، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { كُنَّا مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَابًا لَا نَجِدُ شَيْئًا .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ ؛ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ
فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ ، وَمَنْ
لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ } .
وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ لِانْتِظَامِ الْقُرْآنِ
فِيهِ وَالْحَدِيثِ ، وَاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ } يَعْنِي يَطْلُبُونَ الْكِتَابَ ،
يُرِيدُ الْمُكَاتَبَةَ عَلَى مَالٍ يَدْفَعُونَهُ إلَى سَادَاتِهِمْ ،
فَافْعَلُوا ذَلِكَ لَهُمْ ، فَذَكَرَ اللَّهُ طَلَبَ الْعَبْدِ لِلْمُكَاتَبَةِ ،
وَأَمَرَ السَّيِّدَ بِهَا حِينَئِذٍ ؛ وَهِيَ حَالَتَانِ : الْأُولَى : أَنْ
يَطْلُبَهَا الْعَبْدُ ، وَيُجِيبَهُ السَّيِّدُ ؛ فَهَذَا مُطْلَقُ الْآيَةِ
وَظَاهِرُهَا .
الثَّانِيَةُ
: أَنْ يَطْلُبَهَا الْعَبْدُ ؛ وَيَأْبَاهَا السَّيِّدُ
؛ وَفِيهِ قَوْلَانِ : الْأَوَّلُ : لِعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ
عَلَى السَّيِّدِ .
وَقَالَ سَائِرُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ : لَا يَجِبُ
ذَلِكَ عَلَيْهِ .
وَتَعَلَّقَ مَنْ أَوْجَبَهَا بِمُطْلَقِ قَوْله
تَعَالَى { فَكَاتِبُوهُمْ } .
وَافْعَلْ بِمُطْلَقِهِ عَلَى الْوُجُوبِ حَتَّى
يَأْتِيَ الدَّلِيلُ بِغَيْرِهِ ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ قَدْ
بَيَّنَّاهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَلَا نُسَلِّمُهَا لَهُمْ ، بَلْ نَقُولُ
إنَّ لَفْظَ " افْعَلْ
" لِاقْتِضَاءِ الْفِعْلِ ، وَالْوُجُوبُ يَكُونُ
بِتَعَلُّقِ الذَّمِّ بِتَرْكِهِ ، وَالِاقْتِضَاءُ يَسْتَقِلُّ بِهِ
الِاسْتِحْبَابُ ، فَأَيْنَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ ؟ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي
لَا مُزَعْزِعَ لَهُ .
أَمَّا إنَّ مِنْ عُلَمَائِنَا الْمُتَمَرِّسِينَ
بِالْفِقْهِ سَلَّمُوا أَنَّ مُطْلَقَ " افْعَلْ " عَلَى الْوُجُوبِ ،
وَادَّعَوْا أَنَّ الدَّلِيلَ هَاهُنَا قَدْ قَامَ عَلَى سُقُوطِ الْوُجُوبِ مِنْ ثَلَاثَةِ
أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْكِتَابَةَ إذَا طَلَبَهَا الْعَبْدُ فَفِيهَا
إخْرَاجُ مِلْكِ السَّيِّدِ مِنْ يَدِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، وَلَا أَصْلَ
لِذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ ، بَلْ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ كُلُّهَا تَقْتَضِي أَلَّا
يَخْرُجَ أَحَدٌ عَنْ يَدِهِ إلَّا بِاخْتِيَارِهِ .
وَمَا جَاءَ بِخِلَافِ الْأُصُولِ لَا يُلْتَفَتُ
إلَيْهِ .
وَهَذَا لَا يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ عِنْدَنَا أَوْ
الْحَدِيثَ إذَا جَاءَ بِخِلَافِ الْأُصُولِ فَهُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ ،
وَيُرْجَعُ إلَيْهِ فِي بَابِهِ ، وَيَجْرِي عَلَى حُكْمِهِ ، كَمَا بَيَّنَّاهُ
فِي مَسَائِلِ
الْمَضَرَّاتِ
مِنْ كُتُبِ الْخِلَافِ ، وَفِي تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ مِنْ كُتُبِ أُصُولِ
الْفِقْهِ .
الثَّانِي :
قَالُوا : إنَّمَا يَكُونُ مُطْلَقُ الْأَمْرِ يَقْتَضِي
الْوُجُوبَ إذَا تَعَرَّى عَنْ قَرِينَةٍ ، وَهَاهُنَا قَرِينَةٌ تَقْتَضِي
صَرْفَهُ عَنْ الْوُجُوبِ ، وَهُوَ تَعْلِيقُهُ بِشَرْطِ عِلْمِ الْخَيْرِ فِيهِ ،
فَتَعَلَّقَ الْوُجُوبُ عَلَى أَمْرٍ بَاطِنٍ ، وَهُوَ عِلْمُ السَّيِّدِ بِالْخَيْرِ
فِيهِ .
وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ ، كَاتِبْنِي ، فَقَالَ السَّيِّدُ
: لَمْ أَعْلَمْ فِيك خَيْرًا ، وَهُوَ أَمْرٌ بَاطِنٌ ؛ فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَيْهِ
، وَيُعَوَّلُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَوِيٌّ فِي بَابِهِ .
الثَّالِثُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : مَالُ الْعَبْدِ وَأَكْسَابُهُ
مِلْكُ السَّيِّدِ ، وَرَقَبَتُهُ مِلْكٌ لَهُ ؛ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : خُذْ
كَسْبِي وَخَلِّصْ رَقَبَتِي فَهُوَ يُطَالِبُهُ بِتَفْوِيتِ مِلْكِهِ عَنْهُ ،
فَكَأَنَّهُ يَقُولُ : أَعْتِقْنِي
.
وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ ، وَهُوَ كَلَامٌ قَوِيٌّ فِي
الْبَابِ عَلَى مُثْبِتِي الِاجْتِهَادِ ؛ وَمَنْ رَدَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ الْقُدْرَةُ عَلَى السَّعْيِ وَالِاكْتِسَابِ ؛ وَبِهِ قَالَ
مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ .
الثَّانِي : أَنَّ الْخَيْرَ الْمَالُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ
عَطَاءٍ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْوَفَاءُ وَالصِّدْقُ
وَالْأَمَانَةُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الثَّانِي .
فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ الْمَالُ فَلَا
إشْكَالَ فِيهِ .
وَأَمَّا الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَدَاءِ بِحُسْنِ
السَّعْيِ وَالِاكْتِسَابِ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ لِأَنَّهُ مَالٌ
مُنَجَّمٌ يَجْتَمِعُ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الصِّدْقُ وَالْأَمَانَةُ
فَكَأَنَّهُ نَظَرَ إلَى مَعْنًى هُوَ مَشْرُوطٌ فِي كُلِّ طَاعَةٍ وَفِعْلٍ ،
فَلَا تَخْتَصُّ هَذِهِ الْكِتَابَةَ بِاشْتِرَاطِهِ وَحْدَهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى مَالِ قَاطَعَهُ عَلَيْهِ نُجُومًا ،
فَإِنْ جَعَلَهُ حَالًّا فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ وَالْعُلَمَاءُ عَلَى
قَوْلَيْنِ ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا بِاخْتِلَافِهِمْ .
وَالصَّحِيحُ فِي النَّظَرِ أَنَّ الْكِتَابَةَ
مُؤَجَّلَةٌ ، كَمَا وَرَدَ بِهَا الْأَثَرُ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ حِينَ
كَاتَبَتْ أَهْلَهَا عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ .
وَكَمَا فَعَلَتْ الصَّحَابَةُ ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ
كِتَابَةً ؛ لِأَنَّهَا تُكْتَبُ وَيُشْهَدُ عَلَيْهَا ، فَقَدْ اسْتَوْثَقَ
الِاسْمُ وَالْأَثَرُ وَعَضَّدَهُ الْمَعْنَى ؛ فَإِنَّ الْمَالَ إنْ جَعَلَهُ
حَالًّا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْعَبْدِ ، أَوْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ
شَيْءٌ ؛ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مَا قَطَعَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ مَالُ مُقَاطَعَةٍ
وَعَقْدُ مُقَاطَعَةٍ ، لَا عَقْدُ كِتَابَةٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ
الْعَبْدِ مَالٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْعَلَ مَا يُكَاتِبُهُ عَلَيْهِ حَالًّا ؛
لِأَنَّهُ أَجَلٌ مَجْهُولٌ فَيَدْخُلُهُ الْغَرَرُ ، وَتَقَعُ الْمُنَازَعَةُ
عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ ؛ وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا مِنْ جِهَةِ الْغَرَرِ
، وَمِنْ جِهَةِ الدِّينِ ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا جُعِلَ الْأَجَلُ رِفْقًا
بِالْعَبْدِ ؛ فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَرْتَفِقَ وَإِلَّا تَرَكَ حَقَّهُ .
قُلْنَا :
كُلُّ حَقٍّ هُوَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ وَتَرْكٌ صِرْفٌ
فَهُوَ جَائِزٌ ، وَكُلُّ حَقٍّ يُتْرَكُ فِي عَقْدٍ يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْغَرَرِ
لَا يَجُوزُ إجْمَاعًا .
وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْقَوْلَ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَنْظُرْهُ هُنَالِكَ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي
آتَاكُمْ } فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَالُ الزَّكَاةِ ؛ قَالَ
إبْرَاهِيمُ ، وَالْحَسَنُ ، وَمَالِكٌ .
الثَّانِي : أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ ؛
قَالَهُ عَلِيٌّ وَغَيْرُهُ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَدَّرَهُ عَلِيٌّ بِرُبُعِ الْكِتَابَةِ ،
وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُ بِنَجْمٍ مِنْ نُجُومِهَا .
وَرَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ مَجْهُولٌ ، وَأَنَّ
ذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ فَإِنَّهُ
يُنَفِّذُهُ فِي تَرِكَتِهِ ، وَيَقْضِي بِهِ عَلَيْهِ .
وَاحْتَجَّ بِمُطْلَقِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ : {
وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } ، وَبِقَوْلِ عَلِيٍّ ،
وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ ، وَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ
عُمْدَةٌ ، وَإِنَّمَا هِيَ لِعُلَمَائِنَا .
وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَلَوْ
أَنَّ الشَّافِعِيَّ حِينَ قَالَ : إنَّ الْإِيتَاءَ وَاجِبٌ يَقُولُ : إنَّ
الْكِتَابَةَ وَاجِبَةٌ لَكَانَ تَرْكِيبًا حَسَنًا ، وَلَكِنَّهُ قَالَ : إنَّ
الْكِتَابَةَ لَا تَلْزَمُ وَالْإِيتَاءُ يَجِبُ ؛ فَجَعَلَ الْأَصْلَ غَيْرَ
وَاجِبٍ ، وَالْفَرْعَ وَاجِبًا ؛ وَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ ؛ فَصَارَتْ دَعْوَى
مَحْضَةً .
فَإِنْ قِيلَ : يَكُونُ ذَلِكَ كَالنِّكَاحِ لَا يَجِبُ
، فَإِذَا انْعَقَدَ وَجَبَتْ أَحْكَامُهُ ، مِنْهَا الْمُتْعَةُ .
قُلْنَا : عِنْدَنَا لَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ ؛ فَلَا
مَعْنَى لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي التَّعَلُّقِ بِهَا .
وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى أَنَّ الْإِيتَاءَ غَيْرُ
وَاجِبٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا غَيْرَ مُقَدَّرٍ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ
لَكَانَ الْمَالُ فِي أَصْلِ الْكِتَابَةِ مَجْهُولًا ، وَالْعَقْدُ بِالْعِوَضِ
الْمَجْهُولِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ اللَّهَ شَرَعَهُ ، وَقَدْ عَضَّدَهُ عُلَمَاؤُنَا
بِقَوْلِ اللَّهِ : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } .
وَمَالُ اللَّهِ هُوَ الزَّكَاةُ ، وَالْفَيْءُ ،
وَلَيْسَ بِمَالٍ أَوْجَبَ حَقًّا فِي عَقْدٍ ، وَإِنْ كَانَ الْعِبَادُ وَأَمْوَالُهُمْ
لِلَّهِ ، وَلَكِنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ إنَّمَا يَنْطَلِقُ
عَلَى
الزَّكَاةِ وَالْفَيْءِ .
فَإِنْ قِيلَ
: يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا : إنَّهُ مَالُ
اللَّهِ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِحَقِّ اللَّهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ ، وَقَصَدَ بِهِ
الْقُرْبَةَ إلَيْهِ .
قُلْنَا : هَذَا مَجَازٌ ، لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا
لِضَرُورَةٍ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ
يُرِيدُونَ أَنْ يَجْعَلُوا الْمَجَازَ حَقِيقَةً ، وَيَعْدِلُونَ بِاللَّفْظِ
عَنْ طَرِيقِهِ .
فَإِنْ قِيلَ
: فَكَيْفَ يَفْعَلُونَ بِقَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ ؟
قُلْنَا : سُبْحَانَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْحُجَّةَ إلَّا فِي قَوْلِ صَاحِبِ
الْمُعْجِزَةِ ، عَلَى أَنَّ الَّذِي رُوِيَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ أَنَّ عُمَرَ
كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ هُوَ جَدُّ مَيْمُونِ بْنِ جَابَانَ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : كَمْ تَعْرِضُ ؟
فَقَالَ عَبْدُهُ : أَعْرِضُ مِائَتَيْ أُوقِيَّةٍ .
قَالَ :
فَمَا اسْتَزَادَنِي ، وَكَاتَبَنِي عَلَيْهَا ،
فَأَرَادَ أَنْ يُعَجِّلَ لِي مِنْ مَالِهِ طَائِفَةً ، فَأَرْسَلَ إلَى حَفْصَةَ
أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ : إنِّي كَاتَبْت غُلَامِي ، فَأَرَدْت أَنْ أُعَجِّلَ لَهُ طَائِفَةً
مِنْ مَالِي ، فَأَرْسِلِي إلَيَّ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَى أَنْ يَأْتِيَنَا
بِشَيْءٍ ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا إلَيْهِ ، فَأَخَذَهَا عُمَرُ بِيَمِينِهِ ،
وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ : { وَاَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا
مَلَكَتْ أَيْمَانَكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ
مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } فَخُذْهَا ، فَبَارَكَ اللَّهُ لَك فِيهَا .
قَالَ : فَبَارَكَ اللَّهُ لِي فِيهَا ؛ عَتَقْت مِنْهَا
، وَأَصَبْت خَيْرًا كَثِيرًا .
وَقَالَ عَلِيٌّ فِي قَوْلِ اللَّهِ : { وَآتُوهُمْ مِنْ
مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } قَالَ : رُبُعُ الْكِتَابَةِ .
وَكَاتَبَ عَبْدًا لَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافِ
دِرْهَمٍ ، فَوَضَعَ عَنْهُ رُبُعَهَا ، وَهَذَا مِنْ فِعْلِ عُمَرَ وَقَوْلُ
عَلِيٍّ وَفِعْلُهُ لَا يَقْتَضِي إلَّا النَّدْبَ ، وَلَيْسَ فِيهِ عَلَى
الْوُجُوبِ دَلِيلٌ لَا سِيَّمَا وَقَدْ خَالَفَهُمَا عُثْمَانُ ، فَرُوِيَ
أَنَّهُ كَاتَبَ غَيْرَهُ ، وَحَلَفَ أَلَّا يَحُطَّهُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : فِي أَيِّ وَقْتٍ يُؤْتَى ؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ :
سَمِعَ مَالِكًا يَقُولُ وَسَأَلْته عَمَّا يُتْرَكُ لِلْمُكَاتَبِ مِنْ
كِتَابَتِهِ الَّتِي يُكَاتِبُ عَلَيْهَا : مَتَى يُتْرَكُ ؛ وَكَيْفَ يُكْتَبُ ؟
فَقَالَ مَالِكٌ : يُكْتَبُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ كَاتَبَ عَلَى كَذَا ، وَقَدْ
وَضَعَ عَنْهُ مِنْ أَجْرِ كِتَابَتِهِ كَذَا .
الثَّانِي : أَنَّهُ يَتْرُكُ لَهُ مِنْ كُلِّ نَجْمٍ ؛
قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّالِثُ : يُوضَعُ عَنْهُ مِنْ آخِرِ الْكِتَابَةِ ؛
قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
.
الرَّابِعُ : يُوضَعُ عَنْهُ مِنْ أَوَّلِهَا ؛ قَالَهُ
عُمَرُ وَفَعَلَهُ .
وَالْأَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُ يَكُونُ فِي آخِرِهَا ،
لِيَسْتَفِيدَ بِذَلِكَ بَرَاءَتَهُ مِمَّا عَلَيْهِ ، وَحُصُولَ الْعِتْقِ لَهُ ،
وَالْإِسْقَاطُ أَبَدًا إنَّمَا يَكُونُ فِي أُخْرَيَاتِ الدُّيُونِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ ، وَرُوِيَ
أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : كَاتَبْتُك عَلَى أَلْفَيْنِ فِي عَامَيْنِ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ يَقُولُ : فَإِذَا أَدَّيْت فَأَنْتَ حُرٌّ
؛ وَهَذَا لَا يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ لَا يَقْتَضِيهِ وَالْحَالُ
يَشْهَدُ لَهُ ، فَإِنْ ذَكَرَهُ فَحَسَنٌ ، وَإِنْ تَرَكَهُ فَهُوَ مَعْلُومٌ لَا
يُحْتَاجُ إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى
الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ :
كَانَتْ جَارِيَةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يُقَالُ لَهَا مُسَيْكَةُ
فَأَكْرَههَا عَلَى الْبِغَاءِ ، فَقَالَتْ لَهُ : لَئِنْ كَانَ هَذَا خَيْرًا
لَقَدْ اسْتَكْثَرْت مِنْهُ وَرُوِيَ لَقَدْ اسْتَنْكَرْت مِنْهُ وَإِنْ كَانَ
شَرًّا لَقَدْ بَانَ لِي أَنْ أَدَعَهُ .
فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ .
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ كَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أُبَيٍّ جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا مُعَاذَةُ ، وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ
أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَكَانَ عِنْدَهُ ، وَكَانَ الْقُرَشِيُّ يُرِيدُ
الْجَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهَا ، وَكَانَتْ الْجَارِيَةُ تَمْتَنِعُ مِنْهُ لِإِسْلَامِهَا
، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ يَضْرِبُهَا عَلَى امْتِنَاعِهَا مِنْ
الْقُرَشِيِّ ، رَجَاءَ أَنْ تَحْمِلَ مِنْهُ ، فَيَطْلُبَ فِدَاءَ وَلَدِهِ ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ .
وَكَذَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : وَقَعَ فِي مُطْلَقِ هَذِهِ الْآيَةِ النَّهْيُ عَنْ
الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا إنْ أَرَادَتْ الْمُكْرَهَةُ الْإِحْصَانَ ، وَلَا
يَجُوزُ الْإِكْرَاهُ بِحَالٍ ، فَتَعَلَّقَ بَعْضُ الْغَافِلِينَ بِشَيْءٍ مِنْ
دَلِيلِ الْخِطَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَذَكَرُوهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ
لِغَفْلَتِهِمْ عَنْ الْحَقَائِقِ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي ، وَهَذَا مِمَّا لَا
يُحْتَاجُ إلَيْهِ ؛ وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ إرَادَةَ التَّحَصُّنِ مِنْ
الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُ الْإِكْرَاهَ ، فَأَمَّا
إذَا كَانَتْ رَاغِبَةً فِي الزِّنَا لَمْ يُتَصَوَّرْ إكْرَاهٌ ، فَحَصِّلُوهُ
إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَدْ
تَكَلَّمْنَا عَلَى الْإِكْرَاهِ فِيمَا سَبَقَ ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى
تَصَوُّرِ الْإِكْرَاهِ فِي الزِّنَا ، خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ
عُلَمَائِنَا ، وَهُوَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَغَيْرُهُ ، وَلَا يَنْهَى اللَّهُ
إلَّا عَنْ مُتَصَوَّرٍ ، وَلَا يَقَعُ التَّكْلِيفُ إلَّا بِمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ
؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ
يُسْقِطُ حُكْمَ التَّكْلِيفِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّ الزَّانِيَ يَنْتَشِرُ وَيَشْتَهِي
إذَا اتَّصَلَ بِالْمَرْأَةِ طَبْعًا
.
قُلْنَا : الْإِلْجَاءُ إلَى ذَلِكَ هُوَ الَّذِي
أَسْقَطَ حُكْمَهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ } ،
فَإِنَّ مِنْ الْبَغَايَا مَنْ كَانَ يَأْخُذُ عِوَضًا عَنْ الْبَغْيِ ،
وَكَذَلِكَ كَانَ جَرَى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ رَوَى مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ : {
وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } قَالَ : كَانُوا يَأْمُرُونَ
وَلَائِدَهُمْ فَيُبَاغِينَ فَكُنَّ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ فَيُصِبْنَ ،
فَيَأْتِينَهُمْ بِكَسْبِهِنَّ .
وَكَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ
جَارِيَةً ، وَكَانَتْ تُبَاغِي ، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ ، وَحَلَفَتْ أَلَّا
تَفْعَلَهُ ، فَانْطَلَقَتْ فَبَاغَتَ بِبُرْدٍ أَخْضَرَ ، فَأَتَتْهُمْ بِهِ ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ الْآيَةَ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ " مَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ قَوْله تَعَالَى : { فَإِنَّ اللَّهَ
مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } هَذِهِ الْمَغْفِرَةُ إنَّمَا هِيَ
لِلْمُكْرَهِ لَا لِلَّذِي أَكْرَهَ عَلَيْهِ وَأَلْجَأَ الْمُكْرَهَ الْمُضْطَرَّ
إلَيْهِ ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، فَإِنَّ
اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهٍ لَهُنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
وَالْمَغْفِرَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْمُكْرَهِ الْمُضْطَرِّ
إلَيْهِ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ ، كَمَا قَالَ فِي الْمَيْتَةِ : { فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ
وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
الْآيَةُ
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي
زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ
مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا
يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ
لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاَللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
هَذِهِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ
الْمُشْكَلَيْنِ ، وَفِي قَانُونِ التَّأْوِيلِ ، وَأَوْضَحْنَا الْمُرَادَ
مِنْهَا عَلَى أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَهَذَا الْحَرْفُ مِنْهَا ذَكَرَهُ
بَعْضُ الْأَحْكَامِيِّينَ ، فَرَأَيْنَا أَلَّا نُخْلِيَ هَذَا الْمُخْتَصَرَ
مِنْهُ .
وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ عَلَى سِتَّةِ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ شَجَرِ الشَّرْقِ دُونَ
الْغَرْبِ ، وَلَا مِنْ شَجَرِ الْغَرْبِ دُونَ الشَّرْقِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي
يَخْتَصُّ بِإِحْدَى الْجِهَتَيْنِ كَانَ أَدْنَى زَيْتًا ، وَأَضْعَفَ ضَوْءًا .
وَلَكِنَّهَا مَا بَيْنَ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ ،
كَالشَّامِ ؛ لِاجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ ؛ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ .
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ قَالَ : هُوَ
الشَّامُ ، الشَّرْقُ مِنْ هَاهُنَا وَالْغَرْبُ مِنْ هَاهُنَا ، وَرَأَيْتُهُ
لِابْنِ شَجَرَةَ أَحَدِ حُذَّاقِ الْمُفَسِّرِينَ .
الثَّانِي : أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْقِيَّةٍ تُسْتَرُ
عَنْ الشَّمْسِ عِنْدَ الْغُرُوبِ ، وَلَا بِغَرْبِيَّةٍ تُسْتَرُ عَنْ الشَّمْسِ
وَقْتَ الطُّلُوعِ ؛ بَلْ هِيَ بَارِزَةٌ ؛ وَذَلِكَ أَحْسَنُ لِزَيْتِهَا أَيْضًا
؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّالِثُ :
أَنَّهَا وَسَطُ الشَّجَرِ ، لَا تَنَالُهَا الشَّمْسُ
إذَا طَلَعَتْ وَلَا إذَا غَرَبَتْ ، وَذَلِكَ أَجْوَدُ لِزَيْتِهَا : قَالَهُ
عَطِيَّةُ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا لَيْسَ فِي شَجَرِ الشَّرْقِ
وَلَا فِي شَجَرِ الْغَرْبِ مِثْلُهَا قَالَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ .
الْخَامِسُ : أَنَّهَا مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ لَا مِنْ
الدُّنْيَا قَالَهُ الْحَسَنُ .
السَّادِسُ : أَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ ، لَيْسَتْ
بِنَصْرَانِيَّةٍ تُصَلِّي إلَى
الشَّرْقِ
، وَلَا يَهُودِيَّةٍ تُصَلِّي إلَى الْغَرْبِ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُحَقِّقِينَ الَّذِينَ يُنْزِلُونَ التَّفْسِيرَ
مَنَازِلَهُ ، وَيَضَعُونَ التَّأْوِيلَ مَوَاضِعَهُ مِنْ غَيْرِ إفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ
، أَنَّ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِنُورِهِ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَضْرِبَ
لِنُورِهِ الْمُعَظَّمَ مَثَلًا تَنْبِيهًا لِخَلْقِهِ إلَّا بِبَعْضِ خَلْقِهِ ؛
لِأَنَّ الْخَلْقَ بِقُصُورِهِمْ لَا يَفْهَمُونَ إلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمِنْ
أَنْفُسِهِمْ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا عَرَفَ اللَّهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ ،
وَأَنْوَرُ الْمَصَابِيحِ فِي الدُّنْيَا مِصْبَاحٌ يُوقَدُ مِنْ دُهْنِ
الزَّيْتُونِ ، وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ مُفْرَدَةً قَدْ تَبَاعَدَ عَنْهَا
الشَّجَرُ فَخَلَصَتْ مِنْ الْكُلِّ ، وَأَخَذَتْهَا الشَّمْسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ
، فَذَلِكَ أَصْفَى لِنُورِهَا ، وَأَطْيَبُ لِزَيْتِهَا ، وَأَنْضَرُ لِأَغْصَانِهَا
، وَذَلِكَ مَعْنَى بَرَكَةِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الَّتِي فَهِمَهَا النَّاسُ
حَتَّى اسْتَعْمَلُوهَا فِي أَشْعَارِهِمْ ، فَقَالُوا : بُورِكَ الْمَيْتُ الْغَرِيبُ كَمَا
بُورِكَ نَضْرُ الرُّمَّانِ وَالزَّيْتُونِ وَقَدْ رَأَيْت فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى
زَيْتُونَةً كَانَتْ بَيْنَ مِحْرَابِ زَكَرِيَّا وَبَيْنَ بَابِ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ
الَّذِي يَقُولُونَ : إنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ
الرَّحْمَةُ يَعْنِي الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى ، وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ
الْعَذَابُ بِشَرْقِيِّهِ دُونَ السُّوَرِ ، وَادِي جَهَنَّمَ ، وَفَوْقَهُ أَرْضُ
الْمَحْشَرِ الَّتِي تُسَمَّى بِالسَّاهِرَةِ ، فَكَانُوا يَقُولُونَ : إنَّهَا
الشَّجَرَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ .
وَرَبُّك أَعْلَمُ .
وَمِنْ غَرِيبِ الْأَثَرِ أَنَّ بَعْضَ عُلَمَائِنَا
الْفُقَهَاءِ قَالَ : إنَّ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ ،
وَمُحَمَّدٍ ، وَلِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَابْنِهِ عَبْدُ اللَّهِ ،
فَالْمِشْكَاةُ هِيَ الْكُوَّةُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ ، فَشَبَّهَ عَبْدُ
الْمُطَّلِبِ بِالْكُوَّةِ فِيهَا الْقِنْدِيلُ ، وَهُوَ الزُّجَاجَةُ ، وَشَبَّهَ
عَبْدُ اللَّهِ
بِالْقِنْدِيلِ
وَهُوَ الزُّجَاجَةُ ، وَمُحَمَّدٌ كَالْمِصْبَاحِ يَعْنِي مِنْ أَصْلَابِهِمَا ،
وَكَأَنَّهُ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ وَهُوَ الْمُشْتَرَى ، يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ
مُبَارَكَةٍ يَعْنِي إرْثَ النُّبُوَّةِ ، مِنْ إبْرَاهِيمَ ، وَهُوَ الشَّجَرُ
الْمُبَارَكَةُ ، يَعْنِي حَنِيفَةً لَا شَرْقِيَّةً وَلَا غَرْبِيَّةً ، لَا
يَهُودِيَّةً وَلَا نَصْرَانِيَّةً ، يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ ، وَلَوْ لَمْ
تَمْسَسْهُ نَارٌ .
يَقُولُ
: يَكَادُ إبْرَاهِيمُ يَتَكَلَّمُ بِالْوَحْيِ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ ، نُورٌ عَلَى نُورٍ إبْرَاهِيمُ ثُمَّ مُحَمَّدٌ .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ : وَهَذَا كُلُّهُ عُدُولٌ عَنْ الظَّاهِرِ ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ فِي
التَّمْثِيلِ أَنْ يَتَوَسَّعَ الْمَرْءُ فِيهِ ، وَلَكِنْ عَلَى الطَّرِيقَةِ
الَّتِي شَرَّعْنَاهَا فِي قَانُونِ التَّأْوِيلِ لَا عَلَى الِاسْتِرْسَالِ الْمُطْلَقِ
الَّذِي يُخْرِجُ الْأَمْرَ عَنْ بَابِهِ ، وَيَحْمِلُ عَلَى اللَّفْظِ مَا لَا
يُطِيقُهُ ، فَمَنْ أَرَادَ الْخِبْرَةَ بِهِ وَالشِّفَاءَ مِنْ دَائِهِ
فَلْيَنْظُرْ هُنَالِكَ .
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ
عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ
وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
اُخْتُلِفَ فِي الْبُيُوتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ ؛
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَجَمَاعَةٍ .
الثَّانِي : أَنَّهَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ ؛ قَالَهُ
الْحَسَنُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا سَائِرُ الْبُيُوتِ ؛ قَالَهُ
عِكْرِمَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : ( تُرْفَعُ ) :
فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : تُبْنَى ، كَمَا قَالَ : { وَإِذْ يَرْفَعُ
إبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } .
قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّانِي : تُطَهَّرُ مِنْ الْأَنْجَاسِ وَالْأَقْذَارِ
، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَطَهِّرْ بَيْتِي } .
الثَّالِثُ : أَنْ تُعَظَّمَ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَاهَا تُبْنَى فَهُوَ
مُتَمَعِّنٌ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ مِثْلُ مَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ
بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } .
وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا تُطَهَّرُ مِنْ الْأَقْذَارِ وَالْأَنْجَاسِ
فَذَلِكَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الْمَسْجِدَ لِيَنْزَوِيَ مِنْ
النَّجَاسَةِ كَمَا تَنْزَوِي الْجِلْدَةُ مِنْ النَّارِ } .
وَهَذَا فِي النَّجَاسَةِ الظَّاهِرَةِ ، فَمَا ظَنُّك
بِغَيْرِهَا ؟ وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا تُرْفَعُ فَالرَّفْعُ حِسًّا
كَالْبِنَاءِ ، وَحُكْمًا كَالتَّطْهِيرِ وَالتَّنْظِيفِ ، وَكَمَا تَطْهُرُ عَنْ
ذَلِكَ فَإِنَّهَا مُطَهَّرَةٌ عَنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ ، لِقَوْلِهِ ، وَهِيَ
: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } وَهَذَا يَدُلُّ
عَلَى أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ كُلُّهَا ، ضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَلَ لِنُورِهِ بِالزَّيْتِ
الَّذِي يَتَوَقَّدُ مِنْهُ الْمِصْبَاحُ فِي الْبُقْعَةِ الْمُكَرَّمَةِ ، وَهِيَ
الْمَسَاجِدُ ، تَتْمِيمًا لِتَشْرِيفِ الْمَثَلِ بِالْمَثَلِ وَجَلَالِهِ مِنْ
كُلِّ جِهَةٍ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ مِنْ ذِكْرِ
الْمَسَاجِدِ جُمَلًا
عَظِيمَةً تَرْبُو عَلَى الْمَأْمُولِ فِيهِ .
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ
وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ
نُزُولِهَا : رَوَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ كَانَ
يُقَالُ لَهُ بِشْرٌ ، كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ
خُصُومَةٌ ، وَكَانَ الْيَهُودِيُّ يَدْعُوهُ إلَى [ التَّحَاكُمِ عِنْدَ ] النَّبِيِّ ،
وَكَانَ الْمُنَافِقُ يَدْعُوهُ إلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ ، وَقَالَ : إنَّ
مُحَمَّدًا يَحِيفُ عَلَيْنَا ، وَكَانَ الْمُنَافِقُ إذَا تَوَجَّهَ عَلَيْهِ
الْحَقُّ دَعَا إلَى غَيْرِ النَّبِيِّ ، وَإِذَا كَانَ لَهُ الْحَقُّ دَعَاهُ
إلَيْهِ لِيَسْتَوْفِيَهُ لَهُ ؛ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إذَا كَانَ الْحُكْمُ بَيْنَ الْمُعَاهِدِ وَالْمُسْلِمِ أَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ لَا حَقَّ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ ذِمِّيَّيْنِ فَذَلِكَ إلَيْهِمَا ، فَإِذَا جَاءَ قَاضِي الْإِسْلَامِ فَإِنْ شَاءَ حَكَمَ وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مُسْتَوْفًى ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ إجَابَةِ الدَّعْوَى إلَى
الْحَاكِمِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ مَنْ دُعِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ فَلَمْ يُجِبْ بِأَقْبَحَ الْمَذَمَّةِ ،
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ حَدَّ الْوَاجِبِ مَا ذُمَّ
تَارِكُهُ شَرْعًا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو الْأَشْعَثِ ، عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ دُعِيَ إلَى
حَاكِمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْ فَهُوَ ظَالِمٌ ، وَلَا حَقَّ لَهُ } .
وَهُوَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ : فَهُوَ
ظَالِمٌ فَكَلَامٌ صَحِيحٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : لَا حَقَّ لَهُ فَلَا يَصِحُّ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ
الْحَقِّ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ
وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ
لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إنَّ
اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْلُهُ : { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } يَعْنِي غَايَةَ أَيْمَانِهِمْ ؛ وَقَدْ
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ
كَانُوا يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجِهَادِ ثُمَّ يَعْتَذِرُونَ ، فَإِذَا عُوتِبُوا قَالُوا
: لَوْ أَمَرْتَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَخَرَجْنَا ، وَيَحْلِفُونَ عَلَى ذَلِكَ
، فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ : لَا تُقْسِمُوا ، ثُمَّ قَالَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : { طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
} وَفِيهَا ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : الْأَوَّلُ :
طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أَمْثَلُ .
الثَّانِي : طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ بَيْنَكُمْ فِيهَا الْكَذِبُ
، أَيْ هِيَ طَاعَةُ اللَّهِ مَعْرُوفَةٌ قَوْلًا ، بَاطِلَةٌ قَطْعًا ؛ لَا
يَفْعَلُونَهَا إلَّا إذَا أَمَرْتَهُمْ وَلَوْ لَمْ يُؤْمَرُوا مَا فَعَلُوا .
الثَّالِثُ : قَالَ مُجَاهِدٌ : مَعْنَى قَوْلِهِ :
طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أَنَّكُمْ تَكْذِبُونَ يَعْنِي لَيْسَتْ لَكُمْ طَاعَةٌ .
وَقَدْ قُرِئَتْ " طَاعَةً " بِالنَّصْبِ
عَلَى الْمَصْدَرِ ، وَيَكُونُ قَوْلُ طَاعَةٍ مَنْصُوبَةً ابْتِدَاءَ كَلَامٍ ،
وَيَرْجِعُ الْمَعْنَى فِيهِ إلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ ، إلَّا أَنَّ الْإِعْرَابَ
يَخْتَلِفُ ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ
.
الْآيَةُ
الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لِيَسْتَخْلِفُنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ
كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ
الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي
لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ
الْفَاسِقُونَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ
نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ شَكَا إلَيْهِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الْعَدُوِّ ، وَتَضْيِيقِهِ
عَلَيْهِمْ ، وَشِدَّةِ الْخَوْفِ ، وَمَا يَلْقَوْنَ مِنْ الْأَذَى ، فَنَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ بِالْوَعْدِ الْجَمِيلِ لَهُمْ ، فَأَنْجَزَهُ اللَّهُ ،
وَمَلَّكَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ ، وَأَظْهَرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ .
وَرَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ قَالَ : { مَكَثَ النَّبِيُّ
عَشْرَ سِنِينَ خَائِفًا يَدْعُو اللَّهَ سِرًّا وَجَهْرًا ، ثُمَّ أُمِرَ
بِالْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَمَكَثَ بِهَا وَأَصْحَابُهُ خَائِفِينَ
يُصْبِحُونَ فِي السِّلَاحِ وَيُمْسُونَ ، فَقَالَ رَجُلٌ : مَا يَأْتِي عَلَيْنَا
يَوْمٌ نَأْمَنُ فِيهِ ، وَنَضَعُ عَنَّا السِّلَاحَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا لَا تَعْبُرُونَ إلَّا يَسِيرًا حَتَّى
يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ مِنْ الْمَلَأِ الْعَظِيمِ مُحْتَبِيًا لَيْسَ
بِيَدِهِ حَدِيدَةٌ } ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ مَالِكٌ : نَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } إلَى آخِرِهَا .
وَقَالَ
عُلَمَاؤُنَا : هَذِهِ الْآيَةُ وَعْدُ حَقٍّ وَقَوْلُ صِدْقٍ ، يَدُلُّ ذَلِكَ
عَلَى صِحَّةِ إمَامَةِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَتَقَدَّمْهُمْ أَحَدٌ فِي الْفَضِيلَةِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا ، فَأُولَئِكَ
مَقْطُوعٌ بِإِمَامَتِهِمْ ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمْ .
وَصَدَقَ وَعْدُ اللَّهِ فِيهِمْ ، وَكَانُوا عَلَى
الدِّينِ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ؛ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لَهُمْ ، وَقَامُوا
بِسِيَاسَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَذَبُّوا عَنْ حَوْزَةِ الدِّينِ ، فَنَفَذَ
الْوَعْدُ فِيهِمْ ، وَصَدَقَ الْكَلَامُ فِيهِمْ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا
الْوَعْدُ بِهِمْ يُنْجَزُ ، وَفِيهِمْ نَفَذَ ، وَعَلَيْهِمْ وَرَدَ فَفِيمَنْ
يَكُونُ إذَنْ ؟ وَلَيْسَ بَعْدَهُمْ مِثْلُهُمْ إلَى يَوْمِنَا هَذَا ، وَلَا يَكُونُ
فِيمَا بَعْدَهُ .
قَامَ أَبُو بَكْرٍ بِدَعْوَةِ الْحَقِّ ، وَاتِّفَاقِ
الْخَلْقِ ، وَوَاضِحِ الْحُجَّةِ ، وَبُرْهَانِ الدِّينِ ، وَأَدِلَّةِ
الْيَقِينِ ، فَبَايَعَهُ الصَّحَابَةُ ، ثُمَّ اُسْتُخْلِفَ عُمَرُ فَلَزِمَتْ
الْخِلَافَةُ ، وَوَجَبَتْ النِّيَابَةُ ، وَتَعَيَّنَ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ ،
ثُمَّ جَعَلَهَا عُمَرُ شُورَى ، فَصَارَتْ لِعُثْمَانَ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ ،
وَالتَّبْجِيلِ الصَّرِيحِ ، وَالْمَسَاقِ الْفَسِيحِ ؛ جَعَلَ الثَّلَاثَةَ
أَمْرَهُمْ إلَى ثَلَاثَةٍ ، ثُمَّ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ نَفْسَهُ بِشَرْطِ
أَنْ يَكُونَ إلَى مَنْ اخْتَارَهُ مِنْ الرَّجُلَيْنِ ، فَاخْتَارَ عُثْمَانَ ،
وَمَا عَدَلَ عَنْ الْخِيَارِ ، وَقَدَّمَهُ وَحَقُّهُ التَّقْدِيمُ عَلَى عَلِيٍّ .
ثُمَّ قُتِلَ عُثْمَانُ مَظْلُومًا فِي نَفْسِهِ ،
مَظْلُومًا جَمِيعُ الْخَلْقِ فِيهِ ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا عَلِيٌّ أَخْذًا
بِالْأَفْضَلِ فَالْأَفْضَلِ ، وَانْتِقَالًا مِنْ الْأَوَّلِ إلَى الْأَوَّلِ ،
فَلَا إشْكَالَ لِمَنْ جَنَفَ عَنْ الْمُحَالِ أَنَّ التَّنْزِيلَ عَلَى هَؤُلَاءِ
الْأَرْبَعَةِ وَعْدُ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ .
ثُمَّ كَمُلَتْ لِحَالِ أَبِي بَكْرٍ فَاتِحَةً
وَخَاتِمَةً .
ثُمَّ كَمُلَتْ لِعُمَرَ ، وَكُسِرَ الْبَابُ ،
فَاخْتَلَطَ الْخُشَارُ بِاللُّبَابِ ، وَانْجَرَّتْ الْحَالُ مَعَ عُثْمَانَ
وَاضِحَةً لِلْعُقَلَاءِ ، مُعْتَرَضًا عَلَيْهَا مِنْ الْحَمْقَى ، ثُمَّ نَفَذَ
الْقَدَرُ
بِقَتْلِهِ إيثَارًا لِلْخَلْقِ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ ، ثُمَّ قَامَ
عَلِيٌّ أَحْسَنَ قِيَامٍ لَوْ سَاعَدَهُ النَّقْضُ وَالْإِبْرَامُ ، وَلَكِنَّهُ
وَجَدَ الْأُمُورَ نَشْرًا ، وَمَا رَامَ رَتْقَ خَصْمٍ إلَّا انْفَتَقَ عَلَيْهِ
خَصْمٌ ، وَلَا حَاوَلَ طَيَّ مُنْتَشِرٍ إلَّا عَارَضَهُ عَلَيْهِ أَشِرُ ،
وَنُسِبَتْ إلَيْهِ أُمُورٌ هُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ بَرَاءَةَ الشَّمْسِ مِنْ
الدَّنَسِ ، وَالْمَاءِ مِنْ الْقَبَسِ ، وَطَالَبَهُ الْأَجَلُ حَتَّى غَلَبَهُ ،
فَانْقَطَعَتْ الْخِلَافَةُ ، وَصَارَتْ الدُّنْيَا مِلْكًا تَارَةً لِمَنْ غَلَبَ
، وَأُخْرَى لِمَنْ خَلَبَ ، حَتَّى انْتَهَى الْوَعْدُ الصَّادِقُ ابْتِدَاؤُهُ وَانْتِهَاؤُهُ .
أَمَّا الِابْتِدَاءُ فَهَذِهِ الْآيَةُ ، وَأَمَّا الِانْتِهَاءُ
فَبِحَدِيثِ سَفِينَةَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ حَمْدَانَ عَنْ سَفِينَةَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ
سَنَةً ، ثُمَّ يُؤْتِي اللَّهَ الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ } .
قَالَ سَعِيدٌ : قَالَ لِي سَفِينَةُ : أَمْسِكْ
عَلَيْك ، أَبُو بَكْرٍ سَنَتَيْنِ ، وَعُمَرُ عَشْرًا ، وَعُثْمَانُ اثْنَتَيْ
عَشْرَةَ ، وَعَلِيٌّ كَذَا .
قَالَ سَعِيدٌ : قُلْت لِسَفِينَةَ : إنَّ هَؤُلَاءِ
يَزْعُمُونَ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَكُنْ خَلِيفَةً .
قَالَ :
كَذَبْت اسْتَاءَهُ بَنُو الزَّرْقَاءِ يَعْنِي بَنِي
مَرْوَانَ زَادَ فِي رِوَايَةٍ : اُعْدُدْ ؛ أَبُو بَكْرٍ كَذَا ، وَعُمَرُ كَذَا
، وَعُثْمَانُ كَذَا ، وَعَلِيٌّ كَذَا ، وَالْحَسَنُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، فَهَؤُلَاءِ
ثَلَاثُونَ سَنَةً .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ { أَنَّ رَجُلًا
قَامَ إلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَعْدَمَا بَايَعَ مُعَاوِيَةَ ، فَقَالَ لَهُ
: يَا مُسَوِّدَ وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ .
فَقَالَ : لَا بَأْسَ ، رَحِمَك اللَّهُ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ
أُرِيَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى مِنْبَرِهِ فَسَاءَهُ ذَلِكَ ، فَنَزَلَتْ : { إنَّا
أَعْطَيْنَاك الْكَوْثَرَ } .
وَنَزَلَتْ
: { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا
أَدْرَاك مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } .
} يَمْلِكُهَا بَعْدَك بَنُو أُمَيَّةَ يَا مُحَمَّدُ .
قَالَ الْقَاسِمُ رَاوِي
الْحَدِيثِ
: فَعَدَدْنَاهَا فَإِذَا هِيَ أَلْفُ شَهْرٍ ، لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ
أَجْلَسَ الْحَسَنَ فِي حِجْرِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ ، وَقَالَ : إنَّ ابْنِي هَذَا
سَيِّدٌ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الْوَعْدُ
يَصِحُّ لَكُمْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَحْدَهُ ، فَأَمَّا عُمَرُ فَأَيُّ أَمْنٍ
مَعَهُ ، وَقَدْ قُتِلَ غِيلَةً
.
وَعُثْمَانُ قَدْ قُتِلَ غَلَبَةً ، وَعَلِيٌّ قَدْ
نُوزِعَ بِالْجَنْبَةِ وَالْجَلَبَةِ
.
قُلْنَا :
هَذَا كَلَامٌ جَاهِلٍ غَبِيٍّ أَوْ مُتَهَاوِنٍ ،
يَكِنُّ عَلَى نِفَاقٍ خَفِيٍّ ، أَمَّا عُمَرُ وَعُثْمَانُ فَجَاءَهُمَا
أَجَلُهُمَا ، وَمَاتَا مَيْتَتِهُمَا الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَهُمَا ، وَلَيْسَ
فِي ضِمْنِ الْأَمْنِ السَّلَامَةُ مِنْ الْمَوْتِ بِأَيِّ وَجْهٍ وَقَعَ .
وَأَمَّا عَلِيٌّ فَلَمْ يَكُنْ نِزَالُهُ فِي الْحَرْبِ
مُذْهِبًا لِلْأَمْنِ ، فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْأَمْنِ رَفْعُ الْحَرْبِ ،
إنَّمَا مِنْ شَرْطِهِ مِلْكُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ ،
وَسَلَامَتُهُ عَنْ الْغَلَبَةِ الْمَشْحُونَةِ بِالذِّلَّةِ ، كَمَا كَانَ
أَصْحَابُ النَّبِيِّ بِمَكَّةَ ، فَأَمَّا بَعْدَمَا صَارُوا إلَى الْمَدِينَةِ فَقَدْ
آلُوا إلَى الْأَمْنِ وَالْعِزَّةِ
.
فِي الصَّحِيحِ عَنْ { خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ
شَكَوْنَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ
بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ ، فَقُلْنَا لَهُ : أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا
، أَلَا تَدْعُو اللَّه لَنَا ؟ قَالَ : كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ
يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ ، فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ ، فَيُوضَعُ
عَلَى رَأْسِهِ ، فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ،
وَيَمْشُطُهُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمٍ مِنْ عَظْمٍ وَعَصَبٍ ،
وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَاَللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ
حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إلَى حَضْرَمَوْتَ ، لَا يَخَافُ إلَّا
اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ
.
وَلَكِنَّكُمْ
تَسْتَعْجِلُونَ } .
وَحَقِيقَةُ الْحَالِ أَنَّهُمْ كَانُوا مَقْهُورِينَ
فَصَارُوا قَاهِرِينَ ، وَكَانُوا مَطْلُوبِينَ فَعَادُوا طَالِبِينَ ، وَهَذَا
نِهَايَةُ الْأَمْنِ وَالْعِزِّ
.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ قَوْمٌ : إنَّ هَذَا
وَعْدٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ فِي مِلْكِ الْأَرْضِ كُلِّهَا تَحْتَ كَلِمَةِ
الْإِسْلَامِ ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { زُوِيَتْ لِي
الْأَرْضُ ، فَأُرِيت مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا ، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي
مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا } .
قُلْنَا لَهُمْ : هَذَا وَعْدٌ عَامٌّ فِي النُّبُوَّةِ
وَالْخِلَافَةِ ، وَإِقَامَةِ الدَّعْوَةِ ، وَعُمُومِ الشَّرِيعَةِ ، بِنَفَاذِ
الْوَعْدِ فِي كُلِّ أَحَدٍ بِقَدْرِهِ وَعَلَى حَالٍ ، حَتَّى فِي الْمُفْتِينَ وَالْقُضَاةِ
وَالْأَئِمَّةِ ؛ وَلَيْسَ لِلْخِلَافِ مَحَلٌّ تَنْفُذُ فِيهِ هَذِهِ
الْمَوْعِدَةُ الْكَرِيمَةُ إلَّا مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { لِيَسْتَخْلِفُنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ } فِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا أَرْضُ مَكَّةَ ، وُعِدَتْ الصَّحَابَةُ أَنْ
يَسْتَخْلِفُوا فِيهَا الْكُفَّارَ
.
الثَّانِي : أَنَّهَا بِلَادُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ .
وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ أَرْضَ مَكَّةَ مُحَرَّمَةٌ
عَلَى الْمُهَاجِرِينَ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { :
لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ } يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ .
وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا : { يَمْكُثُ
الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا } .
مِنْ رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ
وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاَلَّذِينَ لَمْ
يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ
وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ
الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ
بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ
اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
: هَذِهِ آيَةٌ خَاصَّةٌ ، وَاَلَّتِي قَبْلَهَا عَامَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ
فَعَمَّ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ
بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } ، ثُمَّ خَصَّ
هَاهُنَا فَقَالَ : { لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }
فَخَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ الْمُسْتَأْذِنِينَ ، وَهُمْ الَّذِينَ
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ مَسْأَلَةِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْآيَة قَبْلَهَا
، وَكَذَلِكَ أَيْضًا تَنَاوَلَ الْقَوْلُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى جَمِيعَ
الْأَوْقَاتِ عُمُومًا ، وَخَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ ،
وَهِيَ الْمُفَسَّرَةُ عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي قَوْلِهِ : { مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ } ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُمْ الذُّكْرَانُ
وَالْإِنَاثُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ الْعَبْدُ دُونَ الْأَمَةِ ؛
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ عُمَرَ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُنَّ الْإِنَاثُ ؛ قَالَهُ أَبُو
عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : هَلْ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ
: هِيَ مُحْكَمَةٌ يَعْنِي فِي الرِّجَالِ خَاصَّةً .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَدْ ذَهَبَ حُكْمُهَا ؛ رَوَى
عِكْرِمَةُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ سَأَلُوا ابْنَ عَبَّاسٍ ،
فَقَالُوا : يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ، كَيْفَ تَرَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي
أُمِرْنَا فِيهَا بِمَا أُمِرْنَا ، فَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ ؛ قَوْلِ اللَّهِ
: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
} وَقَرَءُوهَا إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { عَلَى بَعْضٍ } ؟ فَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ : إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ بِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ السَّتْرَ .
وَكَانَ النَّاسُ لَيْسَ لِبُيُوتِهِمْ سُتُورٌ وَلَا
حِجَالٌ ، فَرُبَّمَا دَخَلَ الْخَادِمُ أَوْ وَلَدُهُ أَوْ يَتِيمَةُ الرَّجُلِ ،
وَالرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي تِلْكَ
الْعَوْرَاتِ ، فَجَاءَهُمْ اللَّهُ بِالسُّتُورِ ، وَالْخَيْرِ ، فَلَمْ أَرَ
أَحَدًا يَعْمَلُ بِذَلِكَ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا بِمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ
مَوْضِعٍ مِنْ أَنَّ شُرُوطَ النَّسْخِ لَمْ تَجْتَمِعْ فِيهِ مِنْ الْمُعَارَضَةِ
، وَمِنْ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ ، فَكَيْفَ يَصِحُّ لِنَاظِرٍ أَنْ يَحْكُمَ
بِهِ ؟
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : فِي التَّنْقِيحِ : اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ
الْحُجْبَةَ وَاقِعَةٌ مِنْ الْخَلْقِ شَرْعًا ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ
الِاسْتِئْذَانُ حَتَّى يَخْلُصَ بِهِ الْمَحْجُورُ مِنْ الْمُطْلَقِ ،
وَالْمَحْظُورُ مِنْ الْمُبَاحِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا
تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا
عَلَى أَهْلِهَا } .
ثُمَّ قَالَ : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }
عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ ، فَاسْتَثْنَى مَا مَلَكَتْ الْيَمِينُ مِنْ الْمَحْجُورِ
، ثُمَّ اسْتَثْنَى فِي مِلْكِ الْيَمِينِ هَذِهِ الْأَوْقَاتَ الثَّلَاثَةَ ؛
فَالْعَبْدُ إذَا كَانَ وَغْدًا ، أَوْ ذَا مَنْظَرَةٍ ، وَكَانَ حُكْمُهُ فِي
الْحُجْبَةِ عَلَى صِفَةٍ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَوْقَاتَ الثَّلَاثَةَ لَا يَدْخُلُ
فِيهَا عَبْدٌ كَيْفَمَا كَانَ وَلَا أَمَةٌ إلَّا بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } : فَذَكَرَ قَبْلَ صَلَاةِ
الْفَجْرِ ، وَعِنْدَ الظَّهِيرَةِ ، وَهِيَ الْقَائِلَةُ ، وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ
الْعِشَاءِ ، وَهِيَ أَوْقَاتُ الْخَلْوَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهِ التَّصَرُّفُ
بِخِلَافِ اللَّيْلِ كُلِّهِ ، فَإِنَّهُ وَقْتُ خَلْوَةٍ ، وَلَكِنْ لَا
تَصَرُّفَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مُسْتَغْرِقٌ بِنَوْمِهِ ، وَهَذِهِ
الْأَوْقَاتُ الثَّلَاثَةُ أَوْقَاتُ خَلْوَةٍ وَتَصَرُّفٍ ، فَنُهُوا عَنْ
الدُّخُولِ بِغَيْرِ إذْنِ لِئَلَّا يُصَادِفُوا مَنْظَرَةً مَكْرُوهَةً .
وَفِي الصَّحِيحِ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي كَذَا وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ
وَكَانَتْ سَاعَةً لَا يُدْخَلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِيهَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ
.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ : لَا أَدْخُلُ } .
وَعَنْ عَائِشَةَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ ، وَيَقُومُ آخِرَهُ ، ثُمَّ
يَرْجِعُ إلَى فِرَاشِهِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ ، فَإِنْ كَانَتْ بِهِ
حَاجَةٌ اغْتَسَلَ ، وَإِلَّا تَوَضَّأَ وَخَرَجَ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
وَغَيْرُهُ .
وَفِي الْآثَارِ التَّفْسِيرِيَّةِ { أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ إلَى عُمَرَ غُلَامًا مِنْ
الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ مُدْلِجٌ فِي الظَّهِيرَةِ ، فَدَخَلَ عَلَى عُمَرَ
بِغَيْرِ إذْنٍ ، فَأَيْقَظَهُ بِسُرْعَةٍ ، فَانْكَشَفَ شَيْءٌ مِنْ جَسَدِهِ ؛
فَنَظَرَ إلَيْهِ الْغُلَامُ ؛ فَحَزِنَ لَهَا عُمَرُ فَقَالَ : وَدِدْت أَنَّ اللَّهَ
بِفَضْلِهِ نَهَى عَنْ الدُّخُولِ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ إلَّا
بِإِذْنِنَا .
ثُمَّ انْطَلَقَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ ، فَحَمِدَ
اللَّهَ } .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : يُرِيدُ بِقَوْلِهِ : { صَلَاةِ الْعِشَاءِ } الَّتِي يَدْعُوهَا
النَّاسُ الْعَتَمَةَ : وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْمُغَفَّلِ الْمُزَنِيّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { لَا يَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ الْمَغْرِبِ } .
قَالَ : وَالْأَعْرَابُ تَقُولُ الْعِشَاءَ ، وَتُسَمَّى
أَيْضًا الْعِشَاءَ الْعَتَمَةِ ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَوْ
يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالْفَجْرِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا } .
وَفِي الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَرْزَةَ : {
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ } .
وَقَالَ أَنَسٌ : { أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ } .
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ : { أَعْتَمَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَتَمَةِ } .
وَقَوْلُ أَنَسٍ فِي الْبُخَارِيِّ : " الْعِشَاءُ
الْآخِرَةُ يَدُلُّ عَلَى الْعِشَاءِ الْأُولَى " .
وَفِي الْحَدِيثِ : { لَا يَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ
عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ الْعِشَاءِ يَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ } ؛ لِأَنَّهُمْ يُعْتِمُونَ
بِحِلَابِ الْإِبِلِ .
وَهَذِهِ أَخْبَارٌ مُتَعَارِضَةٌ لَا يُعْلَمُ مِنْهَا
الْأَوَّلُ مِنْ الْآخِرِ بِالتَّارِيخِ ، لَكِنَّ كُلَّ حَدِيثٍ بِذَاتِهِ
يُبَيِّنُ وَقْتَهُ ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَسْمِيَةِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ عِشَاءً ، وَعَنْ
تَسْمِيَةِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ عَتَمَةً ثَابِتٌ ؛ فَلَا مَرَدَّ لَهُ مِنْ
أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَضْلًا عَمَّنْ عَدَاهُمْ .
وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ : مَنْ قَالَ صَلَاةُ
الْعَتَمَةِ فَقَدْ أَثِمَ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : قَالَ مَالِكٌ : { وَمِنْ
بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ } فَاَللَّهُ سَمَّاهَا
صَلَاةَ الْعِشَاءِ ، فَأَحَبَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْ تُسَمَّى بِمَا سَمَّاهَا بِهِ اللَّهُ ، وَيُعَلِّمُهَا الْإِنْسَانُ
أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ ، وَلَا يَقُلْ عَتَمَةً إلَّا عِنْدَ خِطَابِ مَنْ لَا يَفْهَمُ
، وَقَدْ قَالَ حَسَّانُ : وَكَانَ لَا
التالي بمشيئة الله هو ج17.وج18.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق