ج5.وج6. كتاب أحكام القرآن ابن العربي
عَلَيْهِ السَّلَامُ : { إنَّكَ إنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ
أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ } .
مَعَ أَنَّهُ كَلَالَةٌ مِنْهُ بَعِيدٌ عَنْهُ .
وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ : " خَيْرٌ " هَاهُنَا
وُجُوهًا مُعْظَمُهَا أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ إلَى ذِكْرِهِ بِالْجَمِيلِ ،
وَإِحْيَاءُ ذِكْرِهِ هُوَ إحْدَى الْحَيَاتَيْنِ ، وَمَعْنًى مَقْصُودٌ عِنْدَ
الْعُقَلَاءِ ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِي
طَرِيقِهِ فَقَالَ : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ } وَأَخْبَرَ عَنْ
رَغْبَتِهِ فِيهِ فَقَالَ : { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ }
وَإِذَا كَانَ وَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءَ عَظُمَ قَدْرُهُمْ ، وَشَرُفَ ذِكْرُهُمْ فِي
الطَّاعَةِ وَذِكْرُهُ .
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوْجُهَ
الثَّلَاثَةَ وَتَرَكَ الْأَوَّلَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَتْرُوكٍ ، وَإِنَّمَا
يَكُونُ مَتْرُوكًا مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ وَمَصْلَحَتِهِ ؛ وَلَمَّا جَعَلَ
اللَّهُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ الْوَصِيَّةَ مَشْرُوعَةً مَسُوغَةً لَهُ ،
وَكَّلَهَا إلَى نَظَرِهِ لِنَفْسِهِ فِي أَعْيَانِ الْمُوصِي لَهُمْ ،
وَبِمِقْدَارِ مَا يَصْلُحُ لَهُمْ
.
وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ مَفْرُوضَةً
لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ غَيْرَ مُقَدَّرَةٍ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ ،
فَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { إنَّ اللَّهَ أَعْطَى لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ؛ لَا وَصِيَّةَ
لِوَارِثٍ } .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ { خَبَّابٍ قَالَ :
هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ ، ثُمَّ قَالَ : وَمِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ
أُحُدٍ ، فَلَمْ نَجِدْ لَهُ مَا نُكَفِّنُهُ فِيهِ إلَّا نَمِرَةً كُنَّا إذَا
غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ ، وَإِذَا غَطَّيْنَا بِهَا
رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَيْهِ مِنْ الْإِذْخِرِ } ؛ فَبَدَأَ
بِالْكَفَنِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
.
وَرَوَى الْأَئِمَّةُ ، { عَنْ جَابِرٍ أَنَّ أَبَاهُ
اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَتَرَكَ
سِتَّ بَنَاتٍ ، وَتَرَكَ دَيْنًا ، فَلَمَّا حَضَرَ
جِدَادُ النَّخْلِ أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ قَدْ عَلِمْت أَنَّ وَالِدِي اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ
أُحُدٍ ، وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ الْغُرَمَاءُ .
قَالَ :
اذْهَبْ فَبَيْدِرْ كُلَّ تَمْرَةٍ عَلَى حِدَةٍ
فَفَعَلْت : فَلَمَّا دَعَوْتُهُ وَحَضَرَ عِنْدِي وَنَظَرُوا إلَيْهِ كَأَنَّمَا
أُغْرُوا بِي تِلْكَ السَّاعَةَ ، فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ طَافَ حَوْلَ أَعْظَمِهَا
بَيْدَرًا فَجَلَسَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : اُدْعُ أَصْحَابَكَ ؛ فَمَا زَالَ
يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّى اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِي } .
فَقَدَّمَ الدَّيْنَ عَلَى الْمِيرَاثِ .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ
قَالَ : { كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إذْ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ فَقَالُوا : صَلِّ عَلَيْهَا ، فَقَالَ : هَلْ عَلَيْهِ
دَيْنٌ ؟ قَالُوا : لَا ، فَصَلَّى عَلَيْهِ ، ثُمَّ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ أُخْرَى فَقَالُوا
: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، صَلِّ عَلَيْهَا .
فَقَالَ : هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؟ قَالُوا : نَعَمْ .
قَالَ : فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا ؟ قَالُوا : ثَلَاثَةَ
دَنَانِيرَ ، فَصَلَّى عَلَيْهِ
.
ثُمَّ أُتِيَ بِالثَّالِثَةِ فَقَالُوا : صَلِّ
عَلَيْهَا .
فَقَالَ : هَلْ تَرَكَ شَيْئًا ؟ قَالُوا : لَا ، قَالَ
: أَعَلَيْهِ دَيْنٌ ؟ قَالُوا : ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ .
قَالَ : صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ .
قَالَ أَبُو قَتَادَةَ : صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ
اللَّهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ ، فَصَلَّى عَلَيْهِ } ، فَجَعَلَ الْوَفَاءَ
بِمُقَابَلَةِ الدَّيْنِ .
وَلِهَذِهِ الْآثَارِ وَالْمَعَانِي السَّالِفَةِ قَالَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ : إنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ ،
وَأَنْتُمْ تُقَدِّمُونَ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَقْدِيمِ ذِكْرِ
الْوَصِيَّةِ عَلَى ذِكْرِ الدَّيْنِ ، وَالدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا ؟ قُلْنَا
؛ فِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ " أَوْ " لَا تُوجِبُ
تَرْتِيبًا ،
إنَّمَا تُوجِبُ تَفْصِيلًا ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : مِنْ
بَعْدِ أَحَدِهِمَا أَوْ مِنْ بَعْدِهِمَا ، وَلَوْ ذَكَرَهُمَا بِحَرْفِ الْوَاوِ
لَأَوْهَمَ الْجَمْعَ وَالتَّشْرِيكَ ؛ فَكَانَ ذِكْرُهُمَا بِحَرْفِ " أَوْ " الْمُقْتَضِي
التَّفْصِيلَ أَوْلَى .
الثَّانِي : أَنَّهُ قَدَّمَ الْوَصِيَّةَ ؛ لِأَنَّ
تَسَبُّبَهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ ، وَالدَّيْنُ ثَابِتٌ مُؤَدًّى ذَكَرَهُ أَمْ
لَمْ يَذْكُرْهُ .
الثَّالِثُ : أَنَّ وُجُودَ الْوَصِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْ
وُجُودِ الدَّيْنِ ؛ فَقُدِّمَ فِي الذِّكْرِ مَا يَقَعُ غَالِبًا فِي الْوُجُودِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ ذَكَرَ الْوَصِيَّةَ ، لِأَنَّهُ
أَمْرٌ مُشْكِلٌ ، هَلْ يَقْصِدُ ذَلِكَ وَيَلْزَمُ امْتِثَالُهُ أَمْ لَا ؟
لِأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ ابْتِدَاءً تَامًّا مَشْهُورًا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ
، فَقَدَّمَ الْمُشْكِلَ ؛ لِأَنَّهُ أَهَمُّ فِي الْبَيَانِ .
الْخَامِسُ : أَنَّ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ مَشْرُوعَةً
ثُمَّ نُسِخَتْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ ، فَلَمَّا ضَعَّفَهَا النَّسْخُ قَوِيَتْ
بِتَقْدِيمِ الذِّكْرِ ؛ وَذِكْرُهُمَا مَعًا كَانَ يَقْتَضِي أَنْ تَتَعَلَّقَ
الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ .
لَكِنَّ الْوَصِيَّةَ خُصِّصَتْ بِبَعْضِ الْمَالِ ؛
لِأَنَّهَا لَوْ جَازَتْ فِي جَمِيعِ الْمَالِ لَاسْتَغْرَقَتْهُ وَلَمْ يُوجَدْ
مِيرَاثٌ ؛ فَخَصَّصَهَا الشَّرْعُ بِبَعْضِ الْمَالِ ؛ بِخِلَافِ الدَّيْنِ ،
فَإِنَّهُ أَمْرٌ يُنْشِئُهُ بِمَقَاصِدَ صَحِيحَةٍ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ ،
بَيِّنَةِ الْمَنَاحِي فِي كُلِّ حَالٍ ؛ يَعُمُّ تَعَلُّقُهَا بِالْمَالِ كُلِّهِ .
وَلَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ وَظَهَرَ الْمَعْنَى فِي
تَخْصِيصِ الْوَصِيَّةِ بِبَعْضِ الْمَالِ قَدَّرَتْ ذَلِكَ الشَّرِيعَةُ
بِالثُّلُثِ ، وَبَيَّنَتْ الْمَعْنَى الْمُشَارَ إلَيْهِ عَلَى لِسَانِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ ؛ { قَالَ
سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لِي
مَالٌ وَلَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ لِي ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي
الْحَدِيثُ ، إلَى أَنْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ، إنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ
خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ
النَّاسَ } .
فَظَهَرَتْ الْمَسْأَلَةُ قَوْلًا وَمَعْنًى
وَتَبَيَّنَتْ حِكْمَةً وَحُكْمًا
.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : لَمَّا ذَكَرَ
اللَّهُ تَقْدِيمَ الدَّيْنِ عَلَى الْوَصِيَّةِ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيُّ
فِي تَقْدِيمِ دَيْنِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ عَلَى الْمِيرَاثِ ، فَقَالَ : إنَّ
الرَّجُلَ إذَا فَرَّطَ فِي زَكَاتِهِ وَحَجِّهِ أُخِذَ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ
مَالِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : إنْ أَوْصَى بِهَا
أُدِّيَتْ مِنْ ثُلُثِهِ ، وَإِنْ سَكَتَ عَنْهَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُ شَيْءٌ .
وَتَعَلُّقُ الشَّافِعِيُّ ظَاهِرٌ بِبَادِئِ الرَّأْيِ
، لِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ ؛ فَلَزِمَ أَدَاؤُهُ عَنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ
كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، لَا سِيَّمَا وَالزَّكَاةُ مَصْرِفُهَا إلَى
الْآدَمِيِّ وَمُتَعَلَّقُ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ إسْقَاطَ الزَّكَاةِ أَوْ
تَرْكَ الْوَرَثَةِ فُقَرَاءَ ، لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ تَرْكَ الْكُلِّ ، حَتَّى
إذَا مَاتَ اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ جَمِيعَ مَالِهِ ؛ فَلَا يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ
حَقٌّ ؛ فَكَانَ هَذَا قَصْدًا بَاطِلًا فِي حَقِّ عِبَادَاتِهِ وَحَقِّ
وَرَثَتِهِ ؛ وَكُلُّ مَنْ قَصَدَ بَاطِلًا فِي الشَّرِيعَةِ نُقِضَ عَلَيْهِ
قَصْدُهُ ، تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهُ أَوْ اُتُّهِمَ بِهِ إذَا ظَهَرَتْ
عَلَامَتُهُ ، كَمَا قَضَيْنَا بِحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ لِلْقَاتِلِ ، وَقَدْ
مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا
} اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا
تَدْرُونَ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فِي الْآخِرَةِ ؛
لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْجِنْسَيْنِ يَشْفَعُ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
الثَّانِي : لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا
؛ أَيُّهُمْ أَرْفَعُ دَرَجَةً فِي الدُّنْيَا ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَوْ تُرِكَ الْأَمْرُ عَلَى
مَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ : الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ
لَمْ يُؤْمَنْ إذَا قَسَّمَ التَّرِكَةَ فِي الْوَصِيَّةِ ، حِيفَ أَحَدُكُمْ ،
لِتَفْضِيلِ ابْنٍ عَلَى بِنْتٍ ، أَوْ أَبٍ عَلَى أُمٍّ ، أَوْ وَلَدٍ عَلَى
وَلَدٍ ، أَوْ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ عَلَى أَحَدٍ ، فَتَوَلَّى
اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَسْمَهَا بِعِلْمِهِ ، وَأَنْفَذَ فِيهَا حِكْمَتَهُ
بِحُكْمِهِ ، وَكَشَفَ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، وَعَبَّرَ لَكُمْ رَبُّكُمْ
عَنْ وِلَايَةِ مَا جَهِلْتُمْ ، وَتَوَلَّى لَكُمْ بَيَانَ مَا فِيهِ نَفْعُكُمْ وَمَصْلَحَتُكُمْ
، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : {
وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ
فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ
فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ
غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ } فِيهَا
عَشْرُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي قِرَاءَتِهَا : قُرِئَ بِفَتْحِ
الرَّاءِ وَكَسْرِهَا ، وَقُرِئَ بِتَشْدِيدِهَا مَكْسُورَةً ، فَإِنْ كَانَ بِالْفَتْحِ
فَذَلِكَ عَائِدٌ لِلْمَيِّتِ ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ : { كَلَالَةً } حَالًا مِنْ الضَّمِيرِ
فِي يُورَثُ .
وَإِذَا قُرِئَتْ بِالْكَسْرِ فَمَعْنَاهُ عَائِدٌ إلَى
الْوَرَثَةِ ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ
" كَلَالَةً " مَفْعُولًا يَتَعَدَّى
الْفِعْلُ إلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ بِالتَّشْدِيدِ ؛ وَإِنَّمَا فَائِدَتُهُ
تَضْعِيفُ الْفِعْلِ إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي لُغَتِهَا : اخْتَلَفَ
أَهْلُ اللُّغَةِ وَغَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ : قَالَ
صَاحِبُ الْعَيْنِ : الْكَلَالَةُ : الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ .
الثَّانِي
: قَالَ أَبُو عَمْرٍو : مَا لَمْ يَكُنْ لَحًّا مِنْ
الْقَرَابَةِ فَهُوَ كَلَالَةٌ ، يُقَالُ : هُوَ ابْنُ عَمِّي لَحًّا ، وَهُوَ
ابْنُ عَمِّي كَلَالَةً .
الثَّالِثُ : وَهُوَ فِي مَعْنَى الثَّانِي : أَنَّ الْكَلَالَةَ
مَنْ بَعُدَ ، يُقَالُ : كَلَّتْ الرَّحِمُ إذَا بَعُدَ مَنْ خَرَجَ مِنْهَا .
الرَّابِعُ : أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ
وَلَا وَالِدَ وَلَا أَخٌ .
الْخَامِسُ : أَنَّ الْكَلَالَةَ هُوَ الْمَيِّتُ
بِعَيْنِهِ ، كَمَا يُقَالُ رَجُلٌ عَقِيمٌ وَرَجُلٌ أُمِّيٌّ .
السَّادِسُ : أَنَّ الْكَلَالَةَ هُمْ الْوَرَثَةُ ،
وَالْوُرَّاثُ الَّذِينَ يُحِيطُونَ بِالْمِيرَاثِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي التَّوْجِيهِ : أَمَّا
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ فَيُعَضِّدُهُ الِاشْتِقَاقُ
الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ تَوْجِيهُ
الرَّابِعِ ؛ لِأَنَّ الْأَخَ قَرِيبٌ جِدًّا حِينَ جَمَعَهُ مَعَ أَخِيهِ صَلْبٌ وَاحِدٌ
وَارْتَكَضَا فِي رَحِمٍ وَاحِدَةٍ ، وَالْتَقَمَا مِنْ ثَدْيٍ
وَاحِدَةٍ ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : فَإِنَّ أَبَا
الْمَرْءِ أَحْمَى لَهُ وَمَوْلَى الْكَلَالَةِ لَا يَغْضَبُ وَأَمَّا مَنْ قَالَ
: إنَّهُ الْمَيِّتُ نَفْسُهُ فَقَدْ نَزَعَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ : وَرِثْتُمْ قَنَاةَ
الْمَجْدِ لَا عَنْ كَلَالَةٍ عَنْ ابْنَيْ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمِ
وَمَنْ قَالَ : إنَّهُمْ الْمُحِيطُونَ بِالْمِيرَاثِ نَزَعَ بِأَنَّ الْعَرَبَ
تَقُولُ : كَلَّلَهُ النَّسَبُ : أَحَاطَ بِهِ ، وَمِنْهُ سُمِّيَ التَّاجُ
إكْلِيلًا ؛ لِأَنَّهُ يُحِيطُ بِجَوَانِبِ الرَّأْسِ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : هُوَ الَّذِي لَا وَالِدَ
لَهُ وَلَا وَلَدَ ، مَأْخُوذٌ مِنْ تَكَلَّلَهُ النَّسَبُ ، أَيْ أَحَاطَ بِهِ ؛ كَأَنَّهُ
سَمَّاهُ بِضِدِّهِ كَالْمَفَازَةِ وَالسَّلِيمِ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي الْمُخْتَارِ : دَعْنَا مِنْ
تَرْتَانَ ، وَمَا لَنَا وَلِاخْتِلَافِ اللُّغَةِ وَتَتَبُّعُ الِاشْتِقَاقِ ؟
وَلِسَانِ الْعَرَبِ وَاسِعٌ ، وَمَعْنَى الْقُرْآنِ ظَاهِرٌ ، وَظَاهِرُ
الْقُرْآنِ أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ فَقَدَ أَبَاهُ وَابْنَهُ وَالزَّوْجَاتِ
وَتَرَكَ الْإِخْوَةَ [ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَرَكَ
سِهَامَ الْفَرَائِضِ مَعَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالزَّوْجَاتِ وَتَرَكَ الْإِخْوَةَ
] ؛ فَجَعَلَ هَذِهِ آيَتَهُمْ وَجَعَلَهُمْ كَلَالَةً اسْمًا مَوْضُوعًا لُغَةً
بِأَحَدِ مَعَانِي الْكَلَالَةِ مُسْتَعْمَلًا شَرْعًا ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي
آخِرِ السُّورَةِ فِي آيَةِ الصَّيْفِ سَمَّاهُ كَلَالَةً ، وَذَكَرَ فَرِيضَةً
لَا أَبَ فِيهَا وَلَا ابْنَ ، فَتَحَقَّقْنَا بِذَلِكَ مُرَادَ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ فِي الْكَلَالَةِ .
تَبْقَى هَاهُنَا نُكْتَةٌ تَفَطَّنَ لَهَا أَبُو
عَمْرٍو ، وَهِيَ إلْحَاقُ فَقْدِ الْأَخِ لِلْعَيْنِ أَوْ لِعِلَّةٍ
بِالْكَلَالَةِ ؛ لِأَنَّهَا نَازِلَةٌ الْآيَةُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ الْأُولَى
، وَهِيَ هَذِهِ ؛ وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى آيَةِ الصَّيْفِ : الْكَلَالَةُ
فَقْدُ الْأَبِ وَالِابْنِ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاشْتِقَاقَ يَقْتَضِي ذَلِكَ
كُلَّهُ ؛ وَمُطْلَقُ اللُّغَةِ يَقْتَضِيهِ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ بِهَا
فَاسْتَعْمَلَهُ الشَّرْعُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ قَصْدًا لِبَيَانِ الْأَحْكَامِ
بِحَسَبِ الْأَدِلَّةِ وَالْمَصَالِحِ ، فَهَذَا
جَرَيَانُ الْأَمْرِ عَلَى الِاشْتِقَاقِ وَتَصْرِيفِ اللُّغَةِ ، فَأَمَّا
اعْتِبَارُ الْمَعْنَى عَلَى رَسْمِ الْفَتْوَى ، وَهِيَ
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي
الْمُرَادِ بِالْكَلَالَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ
قَوْمًا اخْتَارُوا أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ ؛
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ .
الثَّانِي : مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَإِنْ كَانَ لَهُ
أَبٌ أَوْ إخْوَةٌ .
الثَّالِثُ : قَوْلٌ طَرِيفٌ لَمْ يُذْكَرْ فِي
التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ ؛ وَهُوَ أَنَّ الْكَلَالَةَ الْمَالُ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْمَالُ ، فَلَا وَجْهَ
لَهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الَّذِي ذَهَبَ طَرَفَاهُ
الْأَسْفَلُ فَمُشْكِلٌ تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ
أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ حَتَّى أَلْحَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيَانِهَا ؛ فَقَالَ لَهُ : { أَلَّا
تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ } يَعْنِي الْآيَةَ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي آخِرِ النِّسَاءِ .
وَرَوَى مَعْدَانُ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ : خَطَبَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ : إنِّي لَا أَدَعُ بَعْدِي شَيْئًا
هُوَ أَهَمُّ عِنْدِي مِنْ الْكَلَالَةِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : أَهَمُّ عِنْدِي مِنْ الْجَدِّ
وَالْكَلَالَةِ وَمَا رَاجَعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي شَيْءٍ مَا رَاجَعْته فِي الْكَلَالَةِ ، وَمَا أَغْلَظَ لِي فِي شَيْءٍ مَا
أَغْلَظَ لِي فِيهَا حَتَّى طَعَنَ بِإِصْبَعِهِ فِي صَدْرِي ، وَقَالَ : { يَا عُمَرُ
؛ أَمَا تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ } يَعْنِي الْآيَةَ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ
النِّسَاءِ .
قَالَ وَإِنْ أَعِشْ أَقْضِ فِيهَا بِقَضِيَّةٍ يَقْضِي
بِهَا مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَمَنْ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ .
فَإِذَا كَانَ هَذَا أَمْرًا وَقَفَ فِي وَجْهِ عُمَرَ
فَمَتَى يُسْفَرُ لَنَا عَنْهُ وَجْهُ النَّظَرِ ؟ لَكِنَّ الْآنَ نَرِدُ فِي
اقْتِحَامِ هَذَا الْوَعْرِ بِنِيَّةٍ وَعِلْمٍ ، فَنَقُولُ فِيهِمَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
الْمُنْعِمُ : إنَّ الْكَلَالَةَ وَإِنْ كَانَتْ مَعْرُوفَةً لُغَةً مُتَوَارِدَةً
عَلَى مَعَانٍ مُتَمَاثِلَةٍ وَمُتَضَادَّةٍ فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَبَصَّرَ
مَوَارِدَهَا فِي الشَّرِيعَةِ فَنَقُولُ : وَرَدَتْ فِي
آيَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا هَذِهِ ، وَالْأُخْرَى الَّتِي
فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَأَمَّا هَذِهِ فَهِيَ الَّتِي
لَا وَلَدَ فِيهَا وَلَا وَالِدَ وَفِيهَا إخْوَةٌ لِأُمٍّ .
وَأَمَّا الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ فَهِيَ
الَّتِي لَا وَلَدَ ذَكَرًا فِيهَا ، وَهُمْ إخْوَةٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ إخْوَةٌ
لِأَبٍ أَوْ أَخَوَاتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَجَدٌّ ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
لِبَيَانِ حَالِ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ ، وَجَاءَتْ فِي آخِرِ سُورَةِ
النِّسَاءِ لِبَيَانِ إخْوَةِ الْأَعْيَانِ وَالْعَلَّاتِ حَتَّى يَقَعَ
الْبَيَانُ بِجَمِيعِ الْأَقْسَامِ ، وَلَوْ شَاءَ رَبُّك لَجَمَعَهُ وَشَرَحَهُ .
وَكَانَ عُمَرُ يَطْلُبُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّصَّ الْقَاطِعَ لِلْعُذْرِ ، وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَحْمِلُهُ
عَلَى الْبَيَانِ الْوَاقِعِ مَعَ الْإِطْلَاقِ الَّذِي وُكِّلَ فِيهِ إلَى الِاجْتِهَادِ
بِالْأَخْذِ مِنْ اللُّغَةِ وَمُقَاطَعِ الْقَوْلِ وَمَرَابِطِ الْبَيَانِ
وَمَفَاصِلِهِ .
وَهَذَا نَصٌّ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ وَنَصٌّ فِي
التَّكَلُّمِ بِالرَّأْيِ الْمُسْتَفَادِ عِنْدَ النَّظَرِ الصَّائِبِ .
وَإِذَا ثَبَتَ فِيهِ النَّظَرُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ فِي
ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَالَةِ مِنْ " كَلَّ " أَيْ بَعُدَ ، وَمِنْ
" تَكَلَّلَ " أَيْ أَحَاطَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ
يَكُونَ عَلَى مَعْنَى السَّلْبِ ، كَمَا يُقَالُ فَازَ فِي الْمَفَازَةِ أَيْ
انْتَفَى لَهُ الْفَوْزُ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِحَاطَةَ وُجِدَتْ مَعَ فَقْدِ
السَّبَبِ الَّذِي يَقْتَضِي الْإِحَاطَةَ وَهُوَ قُرْبُ النَّسَبِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : إنَّمَا قُلْنَا : إنَّ
الْكَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقْدُ الِابْنِ وَالْأَبِ ؛ لِأَنَّ
الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ يُحْجَبُونَ بِالْجَدِّ ، وَهُمْ الْمُرَادُونَ فِي
الْآيَةِ بِالْإِخْوَةِ إجْمَاعًا ، وَدَخَلَ فِيهَا الْجَدُّ الْخَارِجُ عَنْ
الْكَلَالَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ النَّسَبِ كَالْأَبِ الْمُتَوَلَّدِ عَنْهُ
الِابْنُ .
وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ
فَقَدْ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَائِنَا : إنَّ الْجَدَّ أَيْضًا خَارِجٌ عَنْهَا
؛ لِأَنَّ الْأُخْتَ مَعَ
الْجَدِّ لَا تَأْخُذُ نِصْفًا ؛ إنَّمَا هِيَ
مُقَاسِمَةٌ ، وَكَذَلِكَ الْأَخُ مُقَاسِمٌ لَهَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ أَخْرَجْتُمْ الْجَدَّ عَنْهَا ؟
قُلْنَا : لِأَنَّ الِاشْتِقَاقَ يَقْتَضِي خُرُوجَهُ عَنْهَا ؛ إذْ حَقِيقَةُ
الْكَلَالَةِ ذَهَابُ الطَّرَفَيْنِ ، وَعَلَيْهِ مَبْنَى اللُّغَةِ ، وَغَيْرُ
ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ بَعِيدٌ ضَعِيفٌ .
وَأَفْسَدُهَا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْمَالُ ،
فَإِنَّهُ غَيْرُ مَسْمُوعٍ لُغَةً وَلَا مَقِيسٍ مَعْنًى .
الثَّانِي :
أَنَّ الْجَدَّ يَرِثُ مَعَ ذُكُورِ وَلَدِ
الْمُتَوَفَّى فِي السُّدُسِ ، وَالْإِخْوَةُ لَا يَرِثُونَ مَعَهُمْ ، فَكَيْفَ
يُشَارِكُ مَنْ يُسْقِطُ الْإِخْوَةَ كُلَّهُمْ وَيَكُونُ كَأَحَدِهِمْ .
وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ قَالَ حَبْرُ الْأُمَّةِ مَالِكُ
بْنُ أَنَسٍ : إنَّ امْرَأَةً لَوْ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجَهَا وَأُمَّهَا
وَإِخْوَتَهَا لِأَبِيهَا وَإِخْوَتَهَا لِأُمِّهَا وَجَدَّهَا : إنَّ النِّصْفَ
لِلزَّوْجِ ، وَالسُّدُسَ لِلْأُمِّ فَرِيضَةً ، وَلِلْجَدِّ مَا بَقِيَ ؛ قَالَ : لِأَنَّ
الْجَدَّ يَقُولُ : لَوْ لَمْ أَكُنْ كَانَ لِلْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ مَا بَقِيَ ،
وَلَا يَأْخُذُ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ شَيْئًا ، فَلَمَّا حَجَبَتْ إخْوَةُ
الْأُمِّ عَنْهُ كُنْت أَنَا أَحَقَّ بِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ جَعَلَ لِلْجَدِّ
السُّدُسَ ، وَلِلْإِخْوَةِ لِلْأَبِ السُّدُسَ كَهَيْئَةِ الْمُقَاسَمَةِ ،
وَذَلِكَ مُحَقَّقٌ فِي الْفَرَائِضِ
.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { فَهُمْ شُرَكَاءُ
فِي الثُّلُثِ } اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ التَّشْرِيكَ يَقْتَضِي
التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ
يَدُلُّ عَلَيْهِ ، كَمَا أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي
آخِرِهَا مَا يَقْتَضِي التَّعْصِيبَ ؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ
الزَّوْجِ وَالْأُمِّ وَالْأَخِ مِنْ الْأُمِّ وَالْإِخْوَةِ مِنْ الْأَبِ
وَالْأُمِّ : إنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسَ ، وَلِلْأَخِ
لِلْأُمِّ السُّدُسَ ، وَلِلْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ السُّدُسَ بِحُكْمِ
التَّعْصِيبِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : الْأَخَوَاتُ عُصْبَةٌ
لِلْبَنَاتِ ، وَإِذَا تَرَكَ بِنْتًا وَأُخْتًا أَوْ ابْنَتَيْنِ وَأُخْتًا
فَالنِّصْفُ لِلِابْنَةِ ، وَلِلْأُخْتِ مَا بَقِيَ ، وَهُمَا ذَوَاتَا فَرْضٍ ،
لَكِنْ إذَا اجْتَمَعَا سَقَطَ فَرْضُ الْأَخَوَاتِ وَعَادَ سَهْمُهُنَّ إلَى التَّعْصِيبِ
بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ
ابْنُ مَسْعُودٍ كَمَا تَقَدَّمَ
.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ :
الِابْنَةُ تُسْقِطُ الْأُخْتَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { إنْ
امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ } فَتَأْخُذُ الْبِنْتُ
النِّصْفَ وَمَا بَقِيَ لِلْعُصْبَةِ ، وَقَدْ سَبَقَ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ .
وَفِي الْبُخَارِيِّ { أَنَّ مُعَاذًا قَضَى بِالْيَمَنِ
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ
لِلِابْنَةِ النِّصْفَ ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفَ } ؛ وَبِهَذَا الْحَدِيثِ رَجَعَ
ابْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ قَوْلِهِ ؛ فَصَارَ فَرْضُ الْأُخْتِ وَالْأَخَوَاتِ
بِالنَّصِّ إنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ ، وَصَارَ فَرْضُهُنَّ التَّعْصِيبَ إنْ كَانَ
بِنْتًا ، وَسَقَطْنَ بِالذَّكَرِ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ ، فَخَصَّتْ السُّنَّةُ بِرِوَايَةِ
ابْنِ مَسْعُودٍ عُمُومَ قَوْلِهِ : { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : لَوْ كَانَ الْوَرَثَةُ
أَخَوَيْنِ لِلْأُمِّ أَحَدُهُمَا ابْنُ عَمٍّ ، أَوْ ابْنَا عَمٍّ أَحَدُهُمَا
أَخٌ لِأُمٍّ ؛ فَأَمَّا الصُّورَةُ الْأُولَى فَاتَّفَقَ النَّاسُ فِيهَا أَنَّ
الثُّلُثَ لَهُمَا بِسَبَبِ الْأُمِّ ، وَيَأْخُذُ الثَّانِي مَا بَقِيَ مِنْ
الْمِيرَاثِ بِالتَّعْصِيبِ .
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ : فَاخْتَلَفُوا فِيهَا ؛ فَقَالَ
الْجُمْهُورُ : لِمَنْ اجْتَمَعَتْ فِيهِ الْقَرَابَتَانِ السُّدُسُ بِحُكْمِ
الْأُمُومَةِ ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ .
وَقَالَ عُمَرُ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ : الْمَالُ لِلْأَخِ
لِلْأُمِّ ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ
سَاوَاهُ فِي التَّعْصِيبِ ، وَفَضَلَهُ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ ؛ فَكَانَ
مُقَدَّمًا عَلَيْهِ فِي التَّعْصِيبِ كَالْأَخِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ مَعَ
الْأَخِ مِنْ الْأَبِ .
وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْإِخْوَةَ مِنْ الْأُمِّ سَبَبٌ
يُفْرَضُ بِهِ فِي السِّهَامِ ، فَلَا يُرَجَّحُ بِهِ فِي التَّعْصِيبِ ، كَمَا
لَوْ كَانَ زَوْجَهَا ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْأَخَ الشَّقِيقَ فَإِنَّهُ لَا
يُفْرَضُ لَهُ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ
.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ
الْمُشْتَرَكَةِ .
قُلْنَا :
إنَّمَا يُفْرَضُ فِيهَا لِوَلَدِ الْأُمِّ ، لَا
لِوَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ ، ثُمَّ يَدْخُلُ مَعَهُمْ فِيهِ وَلَدُ الْأَبِ
وَالْأُمِّ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
غَيْرَ مُضَارٍّ } وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ .
أَمَّا رُجُوعُهُ إلَى الْوَصِيَّةِ فَبِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : بِأَنْ يَزِيدَ عَلَى الثُّلُثِ .
الثَّانِي : بِأَنْ يُوصِيَ لِوَارِثٍ .
فَأَمَّا إنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَإِنَّهُ يُرَدُّ
إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ لِحُقُوقِهِمْ لَا لِحَقِّ
اللَّهِ .
وَأَمَّا إنْ أَوْصَى إلَى وَارِثٍ فَإِنَّ الْوَرَثَةَ
الْمُبْدَنَةِ بِهِ أَهْلَ الْوَصَايَا فِي وَصَايَاهُمْ ، وَيَرْجِعُ مِيرَاثًا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : تَبْطُلُ ،
وَلَا يَقَعُ بِهِ تَحَاصٌّ ، وَنَظَرُهُمَا بَيِّنٌ فِي إسْقَاطِ مَا زَادَ عَلَى
الثُّلُثِ لِبُطْلَانِهِ .
وَمَطْلَعُ نَظَرِ مَالِكٍ أَعْلَى ؛ لِأَنَّا نَتَبَيَّنُ
بِوَصِيَّتِهِ لِلْوَارِثِ مَعَ سَائِرِ الْوَصَايَا أَنَّهُ أَرَادَ تَنْقِيصَ
حَظِّ الْوَصَايَا وَتَخْصِيصَ وَارِثِهِ ، فَإِنْ بَطَلَ أَحَدُ الْقَصْدَيْنِ ،
لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُجَوِّزْهُ ، لَمْ يُبْطِلْ الْآخَرَ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ
لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ،
فَيُرَدُّ مَا أَبْطَلَ الشَّرْعُ وَيَمْضِي مَا لَمْ يَعْتَرِضْ فِيهِ .
وَأَمَّا رُجُوعُ الْمُضَارَّةِ إلَى الدَّيْنِ
فَبِالْإِقْرَارِ فِي حَالَةٍ لَا يَجُوزُ فِيهَا لِشَخْصٍ الْإِقْرَارُ لَهُ بِهِ
، كَمَا لَوْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ لِوَارِثِهِ بِدَيْنٍ أَوْ لِصِدِّيقٍ
مُلَاطِفٍ لَهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا إذَا تَحَقَّقْنَا
الْمُضَارَّةَ بِقُوَّةِ التُّهْمَةِ ، أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّنَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ
رَأْسًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَصِحُّ .
وَمَطْلَعُ النَّظَرِ أَنَّا لَمَحْنَا أَنَّ
الْمَوْرُوثَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ هِبَتَهُ لِوَارِثِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ
أَوْ وَصِيَّتَهُ لَهُ لَا تَجُوزُ ، وَقَدْ فَاتَهُ نَفْعُهُ فِي حَالِ
الصِّحَّةِ عَمَدَ إلَى الْهِبَةِ فَأَلْقَاهَا بِصُورَةِ الْإِقْرَارِ
لِتَجَوُّزِهَا ؛ وَيُعَضِّدُ هَذِهِ التُّهْمَةَ صُورَةُ الْقَرَابَةِ وَعَادَةُ
النَّاسِ بِقِلَّةِ الدِّيَانَةِ
.
وَمَطْلَعُ نَظَرِ أَبِي حَنِيفَةَ نَحْوٌ مِنْهُ ؛
لَكِنَّهُ رَبَطَ الْأَمْرَ
بِصِفَةِ الْقَرَابَةِ حِينَ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ
الْوُقُوفُ عَلَى التُّهْمَةِ ، كَمَا عُلِّقَتْ رُخَصُ السَّفَرِ بِصُورَةِ
السَّفَرِ حِينَ تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَى تَحْرِيرِ الْمَشَقَّةِ وَوُجُودِهَا .
وَرَاعَى الشَّافِعِيُّ فِي نَظَرِهِ أَنَّ هَذِهِ
حَالَةُ إخْبَارٍ عَنْ حَقٍّ وَاجِبٍ يُضَافُ إلَى سَبَبٍ جَائِزٍ فِي حَالَةٍ
يُؤْمِنُ فِيهَا الْكَافِرُ ، وَيَتَّقِي فِيهَا الْفَاجِرُ ، وَيَتُوبُ فِيهَا
الْعَاصِي ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ ، وَجَوَّزَهُ .
فَإِنْ قَالَ : الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ فَلَا
يُؤَثِّرُ فِيهَا الْمَرَضُ .
قُلْنَا :
وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ حُجَّةً شَرْعِيَّةً [
فَإِنَّ الْهِبَةَ صِلَةٌ شَرْعِيَّةٌ ] ، وَلَكِنْ حَجَرَهَا الْمَرَضُ .
كَذَلِكَ تَحْجُرُ التُّهْمَةُ الْإِقْرَارَ ، وَكَمَا
رَدَّتْ التُّهْمَةُ الشَّهَادَةَ أَيْضًا .
وَأَمَّا نَظَرُ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى صُورَةِ
الْقَرَابَةِ فَفِيهِ إلْغَاءُ الْعِلَّةِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهَا وَقَصْرٌ لَهَا
عَلَى مُورِدِهَا .
وَيَنْبَغِي أَنَّ تَطَّرِدَ الْعِلَّةُ حَيْثُ وُجِدَتْ
مَا لَمْ يَقِفْ دُونَهَا دَلِيلُ تَخْصِيصٍ ، فَعَلَى هَذَا إذَا وَجَدْنَا التُّهْمَةَ
فِي غَيْرِ الْقَرِيبِ مِنْ صَدِيقٍ مُلَاطِفٍ حَكَمْنَا بِبُطْلَانِ الْإِقْرَارِ
، وَكَمْ مِنْ صَدِيقٍ أَلْصَقُ مِنْ قَرِيبٍ وَأَحْكُمُ عُقْدَةً فِي الْمَوَدَّةِ .
تَكْمِلَةٌ : لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ
الْآيَةِ فَائِضَ السِّهَامِ ، وَبَقِيَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْوَالِ
بَقِيَّةٌ مَسْكُوتٌ عَنْهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَيَّنَهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ : { أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا أَبْقَتْهُ
الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ } ؛ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ قُدِّمَ
الْأَقْرَبُ فِي الْعَصَبَةِ عَلَى الْأَبْعَدِ ، كَالْأَخِ مِنْ الْأَبِ
وَالْأُمِّ يُقَدَّمُ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ ، وَابْنِ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ
وَالْأُمِّ عَلَى ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَيُقَدَّمُ الْأَخُ لِلْأَبِ عَلَى
ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ، هَكَذَا أَبَدًا .
تَخْصِيصٌ : قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { يُوصِيكُمْ
اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } الْفَرَائِضَ إلَى آخِرِهَا بِسِهَامِهَا
وَمُسْتَحَقِّيهَا ، ثُمَّ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { " لَا يَرِثُ
الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ } .
فَخَرَجَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ تَوَارُثُ الْكُفَّارِ
وَالْمُسْلِمِينَ ، فَلَا يَرِثُ كَافِرٌ مُسْلِمًا ، وَلَا يَحْجُبُهُ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : هُوَ وَإِنْ كَانَ لَا يَرِثُ
فَإِنَّهُ يَحْجُبُ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ : {
وَلِأَبَوَيْهِ } هُوَ الْمَذْكُورُ فِي : { إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ } فَكَمَا
أَنَّ قَوْلَهُ : { وَلِأَبَوَيْهِ } لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْكُفَّارُ ؛ كَذَلِكَ قَوْلُهُ
: { إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ } لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْكَافِرُ .
تَحْقِيقُهُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَعَلَتْهُ فِي بَابِ
الْإِرْثِ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا كَالْمَعْدُومِ ، كَذَلِكَ فِي بَابِ الْحَجْبِ
فَإِنَّهُ أَحَدُ حُكْمَيْ الْمِيرَاثِ ؛ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْكَافِرُ ، أَوْ
لَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَافِرِ أَصْلُهُ الْمِيرَاثُ ، وَالتَّعْلِيلُ بِالْحَجْبِ
مُعَضِّدٌ لِهَذِهِ الْأَقْسَامِ فِي الْأَبْوَابِ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْأَسْبَابُ الَّتِي يُسْتَحَقُّ
بِهَا الْمِيرَاثُ ثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ : نِكَاحٌ ، وَنَسَبٌ ، وَوَلَاءٌ .
فَأَمَّا النِّكَاحُ وَالنَّسَبُ فَهُوَ نَصُّ
الْقُرْآنِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُسْتَحَقُّ الْمِيرَاثُ
زَائِدًا عَلَى هَذَا بِالْحَلِفِ وَالْمُعَاقَدَةِ وَالِاتِّحَادِ فِي
الدِّيوَانِ .
وَحَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ
الْمِيرَاثَ عِنْدَنَا يُسْتَحَقُّ بِأَرْبَعَةِ مَعَانٍ : نِكَاحٍ ، وَنَسَبٍ ،
وَوَلَاءٍ ، وَإِسْلَامٍ ، وَمَعْنَى قَوْلِنَا : " وَإِسْلَامٍ " أَنَّ
بَيْتَ الْمَالِ عِنْدَنَا وَارِثٌ
.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ بِوَارِثٍ .
وَقَدْ حَقَقْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ،
وَعَوَّلَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } وَهِيَ آيَةٌ نُبَيِّنُهَا فِي
مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَصْلٌ لَمَّا قَدَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْفَرَائِضَ
مَقَادِيرَهَا ، وَقَرَّرَهَا مَقَارِيرَهَا ، وَاسْتَمَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ
زَمَانًا نَزَلَتْ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ عَارِضَةٌ ، وَهِيَ ازْدِحَامُ أَرْبَابِ
الْفَرَائِضِ عَلَى الْفَرَائِضِ ، وَزِيَادَةُ فُرُوضِهِمْ عَلَى مِقْدَارِ
الْمَالِ ، مِثَالُ ذَلِكَ امْرَأَةٌ تَرَكَتْ زَوْجَهَا وَأُخْتَهَا وَأُمَّهَا .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَلَمَّا أُلْقِيَتْ عِنْدَ
عُمَرَ ، وَكَانَ امْرَأً وَرِعًا ، وَدَفَعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَالَ :
وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي أَيُّكُمْ قَدَّمَ اللَّهُ وَلَا أَيُّكُمْ أَخَّرَ ،
فَلَا أَجِدُ مَا هُوَ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ أُقَسِّمَ عَلَيْكُمْ هَذَا الْمَالَ
بِالْحِصَصِ ، فَأَدْخَلَ عَلَى كُلِّ ذِي سَهْمٍ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ عَوْلٍ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَزِيزِ ، إنَّ
الَّذِي أَحْصَى رَمْلَ عَالِجٍ عَدَدًا مَا جَعَلَ فِي الْمَالِ نِصْفًا
وَنِصْفًا وَثُلُثًا ، فَهَذَانِ النِّصْفَانِ قَدْ ذَهَبَا بِالْمَالِ ، فَأَيْنَ
الثُّلُثُ ؟ فَلْيَجِيئُوا فَلْنَضَعْ أَيْدِيَنَا عَلَى الرُّكْنِ فَلْنَبْتَهِلْ .
قَالَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْبَصْرِيُّ : يَا ابْنَ
عَبَّاسٍ ؛ وَأَيُّهُمَا قَدَّمَ اللَّهُ ؟ وَأَيُّهُمَا أَخَّرَ ؟ قَالَ : كُلُّ
فَرِيضَةٍ لَمْ يُهْبِطْهَا اللَّهُ إلَّا إلَى فَرِيضَةٍ ، فَهِيَ الْمُقَدَّمُ ،
وَكُلُّ فَرْضٍ إذَا زَالَ رَجَعَ إلَى مَا بَقِيَ فَهُوَ الْمُؤَخَّرُ .
قَالَ الْقَاضِي : اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى مَا
قَالَ عُمَرُ ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ أَحَدٌ إلَى مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ؛
وَذَلِكَ أَنَّ الْوَرَثَةَ اسْتَوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَإِنْ
اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِهِ ، فَأُعْطُوا عِنْدَ التَّضَايُقِ حُكْمَ الْحِصَّةِ ، أَصْلُهُ
الْغُرَمَاءُ إذَا ضَاقَ مَالُ الْغَرِيمِ عَنْ حُقُوقِهِمْ ، فَإِنَّهُمْ
يَتَحَاصُّونَ بِمِقْدَارِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ فِي رَأْسِ مَالِ الْغَرِيمِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّاتِي
يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ
الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } قَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ
مُعْضِلَةٌ فِي الْآيَاتِ لَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُعِينَ
عَلَى عِلْمِهَا ، وَفِيهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ مَسْأَلَةٍ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اجْتَمَعَتْ
الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً ، لِأَنَّ النَّسْخَ
إنَّمَا يَكُونُ فِي الْقَوْلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ،
اللَّذَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِحَالٍ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ
الْحُكْمُ مَمْدُودًا إلَى غَايَةٍ ، ثُمَّ وَقَعَ بَيَانُ الْغَايَةِ بَعْدَ
ذَلِكَ فَلَيْسَ بِنَسْخٍ ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُنْتَظِمٌ مُتَّصِلٌ لَمْ يَرْفَعَ
مَا بَعْدَهُ مَا قَبْلَهُ ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
اللَّاتِي } هُوَ جَمْعُ الَّتِي ؛ كَلِمَةٌ يُخْبَرُ بِهَا عَنْ الْمُؤَنَّثِ
خَاصَّةً ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ : " الَّذِي " يُخْبَرُ بِهِ عَنْ
الْمُذَكَّرِ خَاصَّةً ، وَجَمْعُهُ الَّذِينَ ، وَقَدْ تُحْذَفُ التَّاءُ
فَتَبْقَى الْيَاءُ السَّاكِنَةُ فَتَجْرِي بِحَرَكَتِهَا ، قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَاَللَّائِي
يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ } ، فَجَاءَ بِاللُّغَتَيْنِ فِي
الْقُرْآنِ ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ الْمَخْزُومِيُّ : مِنْ اللَّاءِ لَمْ يَحْجُجْنَ
يَبْغِينَ حِسْبَةً وَلَكِنْ لِيَقْتُلْنَ الْبَرِيءَ الْمُغَفَّلَا
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { الْفَاحِشَةَ }
هِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ فِعْلٍ تَعْظُمُ كَرَاهِيَتُهُ فِي
النُّفُوسِ ، وَيَقْبُحُ ذِكْرُهُ فِي الْأَلْسِنَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْغَايَةَ
فِي جِنْسِهِ ، وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِشَهْوَةِ الْفَرْجِ إذَا اُقْتُضِيَتْ عَلَى
الْوَجْهِ الْمَمْنُوعِ شَرْعًا أَوْ الْمُجْتَنَبِ عَادَةً ، وَذَلِكَ يَكُونُ
فِي الزِّنَا إجْمَاعًا ، وَفِي اللِّوَاطِ بِاخْتِلَافٍ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ اللِّوَاطَ فَاحِشَةٌ ؛ لِأَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ سَمَّاهُ بِهِ عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ
الْأَعْرَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَأْتِينَ
الْفَاحِشَةَ } يُقَالُ : أَتَيْت مَقْصُورًا ؛ أَيْ جِئْت ، وَعَبَّرَ عَنْ
الْفِعْلِ وَالْعَمَلِ بِالْمَجِيءِ ؛ لِأَنَّ الْمَجِيءَ إلَيْهِ يَكُونُ ،
وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الِاسْتِعَارَةِ
.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ
نِسَائِكُمْ } اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ ؛ فَقَالَ الْأَكْثَرُ مِنْ الصَّحَابَةِ
: إنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْأَزْوَاجُ .
وَقَالَ آخَرُونَ : الْمُرَادُ الْجِنْسُ مِنْ
النِّسَاءِ ، وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ : إنَّهُنَّ الْأَزْوَاجُ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى : { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ } وَقَوْلِهِ : { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ }
وَأَرَادَ الْأَزْوَاجَ فِي الْآيَتَيْنِ ، فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
الثَّالِثَةِ ، وَإِذَا كَانَ إضَافَةُ زَوْجِيَّةٍ فَلَا فَائِدَةَ فِيهَا إلَّا
اعْتِبَارُ الثُّيُوبَةِ ؛ قَالُوا : وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ عُقُوبَتَيْنِ
: إحْدَاهُمَا أَكْبَرُ مِنْ الْأُخْرَى ، وَكَانَتْ الْأَكْبَرُ لِلثَّيِّبِ ،
وَالْأَصْغَرُ لِلْبِكْرِ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ أَرَادَ جَمِيعَ
النِّسَاءِ ؛ لِأَنَّهُ مُطْلَقُ اللَّفْظِ الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِكَ وَعُمُومَهُ
، فَأَمَّا الَّذِي تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ آيَةِ الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ
فَإِنَّمَا أَوْقَفْنَاهُ عَلَى الْأَزْوَاجِ ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ وَالْإِيلَاءَ
مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِيلَاءَ لَمَّا كَانَ مُجَرَّدًا
عَنْ النِّكَاحِ بِأَنْ يَحْلِفَ أَلَّا يَطَأَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً
فَوَطِئَهَا يَحْنَثُ إذَا وَطِئَهَا إذَا تَزَوَّجَهَا ، وَإِنَّمَا وَقَفَ عَلَى
الْأَجَلِ فِي الزَّوْجَةِ رَفْعًا لِلضَّرَرِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّهُ ذَكَرَ عُقُوبَتَيْنِ
فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْأَغْلَظُ لِلْأَعْظَمِ وَالْأَقَلُّ لِلْأَصْغَرِ ،
بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْآيَتَيْنِ فِي النِّسَاءِ جَمِيعًا : إحْدَاهُمَا
فِي الثَّيِّبِ ، وَالْأُخْرَى فِي الْبِكْرِ ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ ، وَسَيَأْتِي
بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
.
وَقَدْ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَائِنَا : إنَّ
الْحِكْمَةَ فِي قَوْله تَعَالَى :
{ مِنْ نِسَائِكُمْ } بَيَانُ حَالِ الْمُؤْمِنَاتِ ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } يَعْنِي
مِنْ الْمُؤْمِنِينَ .
وَقَالَ تَعَالَى : { ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ }
وَيُفِيدُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا
يَحُدُّ الْكَافِرَةَ إذَا زَنَتْ ، وَذَلِكَ يَأْتِي
بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } وَهَذَا حُكْمٌ ثَابِتٌ
بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ ، قَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ }
فَشَرَطَ غَايَةَ الشَّهَادَةِ فِي غَايَةِ الْمَعْصِيَةِ لِأَعْظَمِ الْحُقُوقِ
حُرْمَةً ، وَتَعْدِيدُ الشُّهُودِ بِأَرْبَعَةٍ حُكْمٌ ثَابِتٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ
وَالْقُرْآنِ ؛ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : {
جَاءَتْ الْيَهُودُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ قَدْ زَنَيَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: ائْتُونِي بِأَعْلَمِ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ فَأَتَوْهُ
بِابْنَيْ صُورِيَّا ، فَنَشَدَهُمَا اللَّهَ كَيْفَ تَجِدَانِ أَمْرَ هَذَيْنِ
فِي التَّوْرَاةِ ؟ قَالَا : نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ
أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ
رُجِمَا .
قَالَ : فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَرْجُمُوهُمَا ؟
قَالَا : ذَهَبَ سُلْطَانُنَا وَكَرِهْنَا الْقَتْلَ .
فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالشُّهُودِ فَجَاءُوا وَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي
فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَجَمَهُمَا } .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ
عُدُولًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ شَرَطَ الْعَدَالَةَ فِي الْبُيُوعِ
وَالرَّجْعَةِ ، فَهَذَا أَعْظَمُ ، وَهُوَ بِذَلِكَ أَوْلَى ، وَهُوَ مِنْ بَابِ
حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِالدَّلِيلِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ
الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : وَلَا يَكُونُوا ذِمَّةٍ ،
وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَلَى ذِمَّةٍ ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ
الْمَائِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ
الْقَتْلُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ الزِّنَا ؟ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ
بِشَاهِدَيْنِ ، فَمَا هَذَا ؟
.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ بَدِيعَةٌ ،
وَهُوَ أَنَّ الْحِكْمَةَ
الْإِلَهِيَّةَ وَالْإِيَالَةَ الرَّبَّانِيَّةَ
اقْتَضَتْ السَّتْرَ فِي الزِّنَا بِكَثْرَةِ الشُّهُودِ ؛ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي
السَّتْرِ ، وَجَعَلَ ثُبُوتَ الْقَتْلِ بِشَاهِدَيْنِ ، بَلْ بِلَوْثٍ
وَقَسَامَةٍ صِيَانَةً لِلدِّمَاءِ
.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْكُمْ }
الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الذُّكُورُ دُونَ الْإِنَاثِ ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ
ذَكَرَ أَوَّلًا { مِنْ نِسَائِكُمْ } ثُمَّ قَالَ : { مِنْكُمْ } فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ
يَكُونَ الشَّاهِدُ غَيْرَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ
بَيْنَ الْأُمَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { فَإِنْ شَهِدُوا } الْمَعْنَى : فَاطْلُبُوا عَلَيْهِنَّ الشُّهَدَاءَ ، فَإِنْ
شَهِدُوا .
وَلَيْسَ هَذَا بِأَمْرِ وُجُوبٍ لِطَلَبِ الشَّهَادَةِ
، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرُ تَعْلِيمِ كَيْفَ يَكُونُ الْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ ،
وَصِفَةُ الشَّهَادَةِ الَّتِي يَشْهَدُ بِهَا الشَّاهِدُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ
مِنْ شَأْنِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيِّ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ جَاءَ إلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ
أَنَّهُ أَصَابَ امْرَأَةً حَرَامًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ
عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ
فِي الْخَامِسَةِ ، فَقَالَ : أَنِكْتَهَا ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ : حَتَّى غَابَ ذَلِكَ
مِنْكَ فِيهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي
الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : هَلْ تَدْرِي
مَا الزِّنَا ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مِثْلَ مَا يَأْتِي
الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ حَلَالًا ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَمَا تُرِيدُ مِنِّي
بِهَذَا الْقَوْلِ ؟ قَالَ : أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ .
}
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ } أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِمْسَاكِهِنَّ
فِي الْبُيُوتِ وَحَبْسِهِنَّ فِيهَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ
تَكْثُرَ الْجُنَاةُ ، فَلَمَّا كَثُرَ الْجُنَاةُ وَخُشِيَ فَوْتُهُمْ اُتُّخِذَ
لَهُمْ سِجْنٌ .
وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا السِّجْنِ ، هَلْ هُوَ حَدٌّ أَوْ
تَوَعُّدٌ بِالْحَدِّ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تَوَعُّدٌ
بِالْحَدِّ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ حَدٌّ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ : زَادَ ابْنُ زَيْدٍ
أَنَّهُمْ مُنِعُوا مِنْ النِّكَاحِ حَتَّى يَمُوتُوا يَعْنِي عُقُوبَةً لَهُمْ
حَيْثُ طَلَبُوا النِّكَاحَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ .
ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْحَدِّ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
بَعْدَ ذَلِكَ : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } فَمَنْ كَانَ مُحْصَنًا رُجِمَ ،
وَمَنْ كَانَ بِكْرًا جُلِدَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حَدٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ عُقُوبَةً
مَمْدُودَةً إلَى غَايَةِ مُؤْذَنَةٍ بِأُخْرَى هِيَ النِّهَايَةُ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّهُ حَدٌّ ، لِأَنَّهُ إيذَاءٌ
، وَإِيلَامٌ ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ أَشَدُّ مِنْ الْجِلْدِ ،
وَكُلُّ إيذَاءٍ وَإِيلَامٍ حَدٌّ ، لِأَنَّهُ مَنْعٌ وَزَجْرٌ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّهُ مَمْدُودٌ إلَى غَايَةٍ
إبْطَالًا لِقَوْلِ مَنْ رَأَى مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ :
إنَّهُ نُسِخَ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } رَوَى مُسْلِمٌ ، وَغَيْرُهُ عَنْ
عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { خُذُوا عَنِّي ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ
جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ
وَالرَّجْمُ } .
وَرَوَى مُسْلِمٌ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كُرِبَ لِذَلِكَ
وَتَرَبَّدَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ ذَاتَ يَوْمٍ فَلُقِيَ لِذَلِكَ ، فَلَمَّا
سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ : قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ، الثَّيِّبُ
بِالثَّيِّبِ ، وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ ، الثَّيِّبُ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ
بِالْحِجَارَةِ ، وَالْبِكْرُ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ } .
.
وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ : { الْبِكْرُ
تُجْلَدُ وَتُنْفَى ، وَالثَّيِّبُ تُجْلَدُ وَتُرْجَمُ } .
.
فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ
أَحْوَالٍ : بِكْرٌ تَزْنِي بِبِكْرٍ ، وَثَيِّبٌ تَزْنِي بِثَيِّبٍ .
الثَّالِثُ بِكْرٌ تَزْنِي بِثَيِّبٍ ، أَوْ ثَيِّبٌ
تَزْنِي بِبِكْرٍ ، لِقَوْلِهِ
: { الْبِكْرُ تُجْلَدُ وَتُنْفَى ، وَالثَّيِّبُ
تُرْجَمُ } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : الْبِكْرُ
يُجْلَدُ وَيُغَرَّبُ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَحَمَّادٌ : لَا يُقْضَى
بِالنَّفْيِ حَدًّا إلَّا أَنْ يَرَاهُ الْحَاكِمُ [ تَعْزِيرًا ] ، وَاحْتَجَّا
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِائَةَ جَلْدَةٍ } وَلَمْ يَذْكُرْ تَغْرِيبًا ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ .
قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى
النَّصِّ نَسْخٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
جَوَابٌ ثَانٍ : قَدْ رَدَدْتُمْ الْبَيِّنَةَ بِخَبَرٍ
لَا يَصِحُّ عَلَى الْمَاءِ وَالتُّرَابِ .
جَوَابٌ ثَالِثٌ : وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
ذَكَرَ الْجَلْدَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الرَّجْمَ ، وَهُوَ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ .
جَوَابٌ رَابِعٌ : وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ
يَذْكُرْ الْإِحْصَانَ وَلَا الْحُرِّيَّةَ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ
الْآيَةِ بَيَانُ جِنْسِ الْحَدِّ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِ الْمُحْصَنِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : الْمَرْأَةُ لَا تُغَرَّبُ
خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ حِينَ تَعَلَّقُوا بِعُمُومِ الْحَدِيثِ ،
وَالْمَعْنَى يَخُصُّهُ ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَحْتَاجُ مِنْ الصِّيَانَةِ
وَالْحِفْظِ وَالْقَصْرِ عَنْ الْخُرُوجِ وَالتَّبَرُّزِ اللَّذَيْنِ يَذْهَبَانِ
بِالْعِفَّةِ إلَى مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الرَّجُلُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : الْعَبْدُ لَا يُغَرَّبُ
خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ حَيْثُ يَقُولُ بِعُمُومِ الْخَبَرِ ، وَيَخُصُّهُ قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ
فَلْيَجْلِدْهَا ، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا ، ثُمَّ قَالَ فِي
الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ فَلْيَبِعْهَا ، وَلَوْ بِضَفِيرٍ } .
فَكَرَّرَ ذِكْرَ الْجَلْدِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ التَّغْرِيبَ
، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَرَّرَهُ أَوْ ذَكَرَهُ .
وَأَيْضًا ، فَإِنَّ الْمَعْنَى يَخُصُّهُ ؛ لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ مِنْ تَغْرِيبِ الْحُرِّ إيذَاؤُهُ بِالْحَيْلُولَةِ لَهُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ أَهْلِهِ ، وَالْإِهَانَةِ لَهُ ؛ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي
الْعَبْدِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : فِي أَصْلِ التَّغْرِيبِ :
وَهُوَ أَنَّهُ أَجْمَعَ رَأْيُ خِيَارِ بَنِي إسْمَاعِيلَ عَلَى أَنَّ مَنْ
أَحْدَثَ فِي الْحَرَمِ حَدَثًا غُرِّبَ مِنْهُ ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا بَيَّنَهُ
لَهُمْ أَوَّلُهُمْ ، فَصَارَتْ سُنَّةً لَهُمْ فِيهِ يَدِينُونَ بِهَا ، فَلِأَجْلِ
ذَلِكَ اسْتَنَّ النَّاسُ إذَا أَحْدَثَ أَحَدٌ حَدَثًا غُرِّبَ عَنْ بَلَدِهِ ؛
وَتَمَادَى ذَلِكَ إلَى الْجَاهِلِيَّةِ إلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَأَقَرَّهُ
فِي الزِّنَا خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ الْمَظَالِمَ يُمْكِنُ كَفُّ الظَّالِمِ عَنْهَا
جَهْرًا ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا سِرًّا ، وَالزِّنَا لَيْسَ الْكَفُّ عَنْهُ
بِكَامِلٍ حَتَّى يُغَرَّبَ عَنْ مَوْضِعِهِ ، فَلَا تَكُونُ لَهُ حِيلَةٌ فِي
السِّرِّ يَتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْعَوْدَةِ إلَيْهِ أَوْ إلَى مِثْلِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : لَا يُجْمَعُ
بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ خِلَافًا لِأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ ، وَمُتَعَلَّقُهُمْ
بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلِ عَلِيٍّ
ذَلِكَ أَيَّامَ خِلَافَتِهِ .
وَقَوْلُنَا أَصَحُّ ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رَجَمَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْلِدْهُ ، فَتَرَكَهُ لَهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ فِعْلًا فِي كُلِّ مَنْ رَجَمَ ، وَقَوْلًا فِي قَوْلِهِ فِي
حَدِيثِ الْعَسِيفِ : { وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا ، فَإِنْ
اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } مُسْقِطٌ لَهُ .
قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا
مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إنَّ اللَّهَ
كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا } فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
: فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْإِذَايَةَ فِي الْأَبْكَارِ
قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ .
الثَّانِي : أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ .
الثَّالِثُ :
أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي أَبْكَارِ الرِّجَالِ
وَثَيِّبِهِمْ قَالَهُ مُجَاهِدٌ ؛ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ الْأُولَى
مُؤَنَّثٌ ؛ فَاقْتَضَى النِّسَاءَ ؛ وَهَذَا لَفْظٌ مُذَكَّرٌ ، فَاقْتَضَى
الرِّجَالَ .
وَرَدَّ عَلَيْهِ الطَّبَرِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ
النَّحْوِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَقَالُوا : إنَّ لَفْظَ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ
يَصْلُحُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى
.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَالصَّوَابُ مَعَ مُجَاهِدٍ
؛ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى نَصٌّ فِي النِّسَاءِ بِمُقْتَضَى
التَّأْنِيثِ وَالتَّصْرِيحِ بِاسْمِهِنَّ الْمَخْصُوصِ لَهُنَّ ، فَلَا سَبِيلَ
لِدُخُولِ الرِّجَالِ فِيهِ ، وَلَفْظُ الثَّانِيَةِ يَحْتَمِلُ الرِّجَالَ
وَالنِّسَاءَ ، وَكَانَ يَصِحُّ دُخُولُ النِّسَاءِ مَعَهُمْ فِيهَا لَوْلَا أَنَّ
حُكْمَ النِّسَاءِ تَقَدَّمَ ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ لَوْ اسْتَقَلَّتْ لَكَانَتْ
حُكْمًا آخَرَ مُعَارِضًا لَهُ ، فَيُنْظَرُ فِيهِ ، وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَتْ
مَنُوطَةً بِهَا ، مُرْتَبِطَةً مَعَهَا ، مُحَالَةً بِالضَّمِيرِ عَلَيْهَا
فَقَالَ : { يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ } عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ الرِّجَالَ
ضَرُورَةً .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا قُلْنَا وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : إنَّ قَوْلَهُ : { وَاَللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ
فَآذُوهُمَا } عَامٌّ فِي الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ ، فَاقْتَضَى مَسَاقُ
الْآيَتَيْنِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي زِنَا النِّسَاءِ عُقُوبَةَ
الْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ ، وَجَعَلَ فِي زِنَا الرِّجَالِ عَلَى الْإِطْلَاقِ
فِيهِمَا جَمِيعًا الْإِيذَاءَ ، فَاحْتَمَلَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
: أَنْ يَكُونَ الْإِيذَاءُ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ عُقُوبَةً لَهُمْ [ عُقُوبَةً
] دُونَ الْإِمْسَاكِ ، وَاحْتَمَلَ
الْإِيذَاءَ وَالْإِمْسَاكَ حَمْلًا عَلَى النِّسَاءِ ،
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهَاهُنَا نُكْتَةٌ حَسَنَةٌ
وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَنَّ الْجَلْدَ بِالْآيَةِ وَالرَّجْمَ
بِالْحَدِيثِ نَسَخَ هَذَا الْإِيذَاءَ فِي الرِّجَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَمْدُودًا
إلَى غَايَةٍ ، وَقَدْ حَصَلَ التَّعَارُضُ ؛ وَعُلِمَ التَّارِيخُ ، وَلَمْ
يُمْكِنْ الْجَمْعُ ، فَوَجَبَ الْقَضَاءُ بِالنَّسْخِ ؛ وَأَمَّا الْجَلْدُ
فَقُرْآنٌ نَسَخَ قُرْآنًا ، وَأَمَّا الرَّجْمُ فَخَبَرٌ مُتَوَاتِرٌ نَسَخَ
قُرْآنًا ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُحَقِّقِينَ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي
أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَأَوْعَبْنَا الْقَوْلَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي قَبْلَ
هَذَا فِيهِ .
قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ
لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } فِيهِ تِسْعُ
مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ
أَقْوَالٌ : الْأَوَّلُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانَ الرَّجُلُ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ إذَا مَاتَ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِزَوْجَتِهِ مِنْ
وَلِيِّهَا ، يَتَزَوَّجُهَا أَوْ يُنْكِحُهَا لِغَيْرِهِ ، وَرُبَّمَا أَلْقَى
أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِهِ عَلَيْهَا ثَوْبًا ، فَكَانَ أَوْلَى بِهَا ، حَتَّى
مَاتَ ابْنُ عَامِرٍ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْآيَةَ ،
وَنَحْوُهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا
تَعْضُلُوهُنَّ } الْقَوْلُ فِي الْعَضْلِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
؛ قِيلَ فِيهَا أُمِرُوا بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِنَّ إذَا لَمْ يَرِثُوهُنَّ .
وَقِيلَ : هَذَا خِطَابٌ لِلْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ
كَانُوا يَمْنَعُ الرَّجُلُ [ مِنْهُمْ ] امْرَأَةَ أَبِيهِ أَنْ تَتَزَوَّجَ
حَتَّى تَمُوتَ فَيَرِثُهَا ؛ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مَا آتَيْتُمُوهُنَّ
} قِيلَ : هُوَ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ إذَا لَمْ يَتَّفِقُوا مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ
، نُهُوا أَنْ يُمْسِكُوهُنَّ عَلَى غَيْرِ عِشْرَةٍ جَمِيلَةٍ حَتَّى يَأْخُذُوا
مَا أَعْطُوهُنَّ .
وَقِيلَ : هُوَ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَالْجَاهِلِيَّةُ نُهُوا أَنْ يَمْنَعُوا النِّسَاءَ
مِنْ النِّكَاحِ لِمَنْ أَرَدْنَ إذَا مَاتَ أَزْوَاجُهُنَّ ، وَلَا
يَحْبِسُوهُنَّ لِيَرِثُوا مِنْهُنَّ مَا وَرِثُوا مِنْ مُوَرِّثِهِمْ ، عُبِّرَ
عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى
: " آتَيْتُمُوهُنَّ " لِأَنَّهُ إعْطَاءٌ فِي
الْحَقِيقَةِ عَلَى وَجْهِ الْمِيرَاثِ ، وَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْخُذُوهُ
عَلَى وَجْهِ الْغَصْبِ مِيرَاثًا أَيْضًا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إلَّا أَنْ
يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : قِيلَ : الْفَاحِشَةُ الزِّنَا .
الثَّانِي : قِيلَ : النُّشُوزُ .
الثَّالِثُ :
قَالَ عَطَاءٌ : كَانَ الرَّجُلُ مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ
إذَا زَنَتْ امْرَأَتُهُ أَخَذَ جَمِيعَ مَالِهَا الَّذِي سَاقَهُ لَهَا ، ثُمَّ
نَسَخَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِالْحُدُودِ .
الرَّابِعُ : قِيلَ : إنَّهُ كَانَ فِي الزِّنَا ثَلَاثَةُ
وُجُوهٍ ، قِيلَ لَهُمْ : { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا } الْآيَةَ ، ثُمَّ قِيلَ
لَهُمْ : { وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ } فَجَازَ لَهُ
عَضْلُهَا عَنْ حَقِّهَا وَأَخْذُ مَالِهَا .
ثُمَّ نَزَلَتْ : { وَاَللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا
مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا } فَهَذَا الْبِكْرَانِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي تَحْقِيقِ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ الْأَقْوَالِ : أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهُ الزِّنَا وَالنُّشُوزُ
فَقَدْ بَيَّنَّا أَحْكَامَ جَوَازِ الْخُلْعِ وَأَخْذِ مَالِ الْمَرْأَةِ فِي
سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
وَأَمَّا قَوْلُ عَطَاءٍ فَمُحْتَمَلٌ صَحِيحٌ
تَتَنَاوَلُهُ الْآيَةُ ، لَكِنْ لَا يُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا إنَّهُ نَسْخٌ ،
وَإِنْ كَانَ فِي التَّحْقِيقِ نَسْخًا ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسَخَ الْبَاطِلَ ، وَلَكِنْ اللَّفْظَ مُجْمَلٌ يَنْطَلِقُ
عَلَيْهِ ، وَشَرْطٌ يَرْتَبِطُ بِهِ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مُبَيَّنٌ فِي
مَوْضِعِهِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : كَانَ فِي الزِّنَا ثَلَاثَةُ
أَنْحَاءٍ فَتَحَكُّمٌ مَحْضٌ ، وَنَقْلٌ لَمْ يَصِحَّ ، وَتَقْدِيرٌ يَفْتَقِرُ
إلَى نَقْلٍ ثَابِتٍ ، وَلَمْ يَكُنْ ، فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فِي تَقْدِيرِ الْآيَةِ
عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْأَقْوَالِ :
وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ
يَحْبِسَ امْرَأَةً كَرْهًا حَتَّى يَأْخُذَ مَالَهَا إذَا مَاتَتْ كَانَتْ غَيْرَ
زَوْجَةٍ أَوْ زَوْجَةً قَدْ سَقَطَ غَرَضُهُ فِيهَا ، وَسَقَطَتْ عِشْرَتُهُ الْجَمِيلَةُ
مَعَهَا ، وَلَا يَحِلُّ عَضْلُهَا عَنْ النِّكَاحِ لِغَيْرِهِمْ حَتَّى يَأْخُذَ
الزَّوْجُ مَا أَعْطَاهَا صَدَاقًا ، أَوْ لِيَأْخُذَ الْغَاصِبُ مَا
كَانَ أَخَذَ مِنْ مَالِ مُوَرِّثِهِ ؛ إلَّا أَنْ
يَكُونَ مِنْهُنَّ ذَنْبٌ بِزِنًا أَوْ نُشُوزٍ لَا تَحْسُنُ مَعَهُ عِشْرَةٌ ،
فَجَائِزٌ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِنِكَاحِهَا حَتَّى يَأْخُذَ مِنْهَا
مَالًا ، فَأَوَّلُ الْآيَةِ عَامٌّ فِي الْأَزْوَاجِ وَغَيْرِهِمْ ؛ وَآخِرُهَا
عِنْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مَخْصُوصٌ بِالْأَزْوَاجِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَعَاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ } وَحَقِيقَةُ " عَشَرَ " فِي الْعَرَبِيَّةِ الْكَمَالُ
وَالتَّمَامُ ، وَمِنْهُ الْعَشِيرَةُ ، فَإِنَّهُ بِذَلِكَ كَمُلَ أَمْرُهُمْ
وَصَحَّ اسْتِبْدَادُهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ .
وَعَشَرَةٌ تَمَامُ الْعَقْدِ فِي الْعَدَدِ ،
وَيُعَشَّرُ الْمَالُ لِكَمَالِهِ نِصَابًا .
فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَزْوَاجَ إذَا
عَقَدُوا عَلَى النِّسَاءِ أَنْ يَكُونَ أُدْمَةُ مَا بَيْنَهُمْ وَصُحْبَتُهُمْ
عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ ، فَإِنَّهُ أَهْدَأُ لِلنَّفْسِ ، وَأَقَرُّ لِلْعَيْنِ
، وَأَهْنَأُ لِلْعَيْشِ ، وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى الزَّوْجِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ
ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ إلَّا أَنْ يَجْرِيَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى سُوءِ
عَادَتِهِمْ فَيَشْتَرِطُونَهُ وَيَرْبِطُونَهُ بِيَمِينٍ ، وَمِنْ سُقُوطِ
الْعِشْرَةِ تَنْشَأُ الْمُخَالَعَةُ ، وَبِهَا يَقَعُ الشِّقَاقُ ، فَيَصِيرُ
الزَّوْجُ فِي شِقٍّ ، وَهُوَ سَبَبُ الْخُلْعِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ
فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } الْمَعْنَى : إنْ وَجَدَ الرَّجُلُ فِي زَوْجَتِهِ كَرَاهِيَةً
، وَعَنْهَا رَغْبَةً ، وَمِنْهَا نُفْرَةً مِنْ غَيْرِ فَاحِشَةٍ وَلَا نُشُوزٍ فَلْيَصْبِرْ
عَلَى أَذَاهَا وَقِلَّةِ إنْصَافِهَا ، فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُ .
أَخْبَرَنِي أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ بِالْمُهْدِيَةِ
، عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ السُّيُورِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
قَالَ : كَانَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ مِنْ الْعِلْمِ
وَالدِّينِ فِي الْمَنْزِلَةِ الْمَعْرُوفَةِ ، وَكَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ سَيِّئَةُ
الْعِشْرَةِ ، وَكَانَتْ تُقَصِّرُ فِي حُقُوقِهِ ، وَتُؤْذِيهِ بِلِسَانِهَا
فَيُقَالُ لَهُ فِي أَمْرِهَا فَيَسْدُلُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا ، وَكَانَ يَقُولُ
: أَنَا رَجُلٌ قَدْ أَكْمَلَ اللَّهُ عَلَيَّ النِّعْمَةَ فِي صِحَّةِ بَدَنِي
وَمَعْرِفَتِي ، وَمَا مَلَكَتْ يَمِينِي ، فَلَعَلَّهَا بُعِثَتْ عُقُوبَةً عَلَى
دِينِي ، فَأَخَاف إذَا فَارَقْتُهَا أَنْ تَنْزِلَ بِي عُقُوبَةٌ هِيَ أَشَدُّ مِنْهَا .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي
هَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهِيَةِ الطَّلَاقِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَبْلَ هَذَا
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : {
وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا
فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا }
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : لَمَّا أَبَاحَ اللَّهُ الْفِرَاقَ
لِلْأَزْوَاجِ وَالِانْتِقَالَ بِالنِّكَاحِ مِنْ امْرَأَةٍ إلَى امْرَأَةٍ
أَخْبَرَ عَنْ دِينِهِ الْقَوِيمِ وَصِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ فِي تَوْفِيَةِ
حُقُوقِهِنَّ إلَيْهِنَّ عِنْدَ فِرَاقِهِنَّ ؛ فَوَطْأَةٌ وَاحِدَةٌ حَلَالًا
تُقَاوِمُ مَالَ الدُّنْيَا كُلِّهِ ، نَهَى الْأَزْوَاجَ عَنْ أَنْ يَعْتَرِضُوهُنَّ
فِي صَدَقَاتِهِنَّ ، إذْ قَدْ وَجَبَ ذَلِكَ لَهُنَّ وَصَارَ مَالًا مِنْ
أَمْوَالِهِنَّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَآتَيْتُمْ
إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا } فِيهِ جَوَازُ كَثْرَةِ الصَّدَاقِ ، وَإِنْ كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ كَانُوا
يُقَلِّلُونَهُ .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ
: " أَلَا لَا تُغَالُوا فِي صَدَقَاتِ النِّسَاءِ ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ
مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا وَتَقْوَى عِنْدَ اللَّهِ لَكَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ مَا أَصْدَقَ قَطُّ
امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَلَا مِنْ بَنَاتِهِ فَوْقَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ
أُوقِيَّةً " فَقَامَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ : يَا عُمَرُ ،
يُعْطِينَا اللَّهُ وَتَحْرُمُنَا أَنْتَ ؟ أَلَيْسَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ : { وَآتَيْتُمْ
إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } فَقَالَ عُمَرُ : " امْرَأَةٌ
أَصَابَتْ وَأَمِيرٌ أَخْطَأَ
" .
وَفِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ مِثْلُهُ إلَى
قَوْلِهِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً ، زَادَ : فَإِنَّ الرَّجُلَ يُغَلِّي
بِالْمَرْأَةِ فِي صَدَاقِهَا .
فَتَكُونُ حَسْرَةٌ فِي صَدْرِهِ فَيَقُولُ : كُلِّفْت
إلَيْكَ عِرْقَ الْقِرْبَةِ .
قَالَ :
فَكُنْت غُلَامًا مَوْلُودًا لَمْ أَدْرِ مَا هَذَا ؛
قَالَ : وَأُخْرَى يَقُولُونَ لِمَنْ قُتِلَ فِي مَغَازِيكُمْ هَذِهِ : قُتِلَ
فُلَانٌ شَهِيدًا أَوْ مَاتَ فُلَانٌ شَهِيدًا ، وَلَعَلَّهُ أَنْ
يَكُونَ خَرَجَ وَأُفْرِدَ دُونَ رَاحِلَتِهِ أَوْ
أَعْجَزَهَا بِطَلَبِ النَّجَاةِ ، وَلَكِنْ قُولُوا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ
مَاتَ فَلَهُ الْجَنَّةُ } .
وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ عُمَرُ عَلَى طَرِيقِ التَّحْرِيمِ
، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ النَّدْبَ إلَى التَّعْلِيمِ ؛ وَقَدْ تَنَاهَى
النَّاسُ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى بَلَغَ صَدَاقُ امْرَأَةٍ أَلْفَ أَلْفٍ ،
وَهَذَا قَلَّ أَنْ يُوجَدَ مِنْ حَلَالٍ .
وَقَدْ سُئِلَ عَطَاءٌ عَنْ رَجُلٍ غَالَى فِي صَدَاقِ
امْرَأَةٍ أَيَرُدُّهُ السُّلْطَانُ ؟ قَالَ : لَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ خَطَبَ إلَى عَلِيٍّ
أُمَّ كُلْثُومٍ ابْنَتَهُ مِنْ فَاطِمَةَ ، فَقَالَ : إنَّهَا صَغِيرَةٌ ،
فَقَالَ عُمَرُ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ : { إنَّ كُلَّ نَسَبٍ وَصِهْرٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا نَسَبِي
وَصِهْرِي } ، فَلِذَلِكَ رَغِبْت فِي مِثْلِ هَذَا " .
فَقَالَ عَلِيٌّ : إنِّي أُرْسِلُهَا حَتَّى تَنْظُرَ
إلَى صِغَرِهَا ، فَأَرْسَلَهَا فَجَاءَتْ ، فَقَالَتْ : إنَّ أَبِي يَقُولُ :
هَلْ رَضِيت الْحُلَّةَ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : قَدْ رَضِيتهَا .
فَأَنْكَحَهَا عَلِيٌّ فَأَصْدَقَهَا أَرْبَعِينَ أَلْفَ
دِرْهَمٍ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ { صَدَاقُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ حَبِيبَةَ كَانَ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ } ،
وَرُوِيَ ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ
.
وَرُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { خَيْرُ النِّكَاحِ أَيْسَرُهُ } .
{ وَقَالَ لِرَجُلٍ : أَتَرْضَى أَنْ أُزَوِّجَكَ
فُلَانَةَ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ : أَتَرْضَيْنَ أَنْ أُزَوِّجَكِ
فُلَانًا ؟ قَالَتْ : نَعَمْ .
فَزَوَّجَهَا فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَكْتُبْ لَهَا
صَدَاقًا وَلَا أَعْطَاهَا شَيْئًا ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ
وَلَهُ سَهْمٌ بِخَيْبَرَ ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ : إنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَنِي فُلَانَةَ ، فَلَمْ أُعَيِّنْ
لَهَا صَدَاقًا ، وَلَمْ أُعْطِهَا شَيْئًا ، وَإِنِّي أُعْطِيهَا مِنْ صَدَاقِهَا
سَهْمِي بِخَيْبَرَ ، فَأَخَذَتْ سَهْمَهُ ذَلِكَ
فَبَاعَتْهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ }
.
وَزَوَّجَ عُرْوَةَ الْبَارِقِيَّ بِنْتَ هَانِئِ بْنِ
قَبِيصَةَ عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ .
وَعَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ أَنَّ مُطَرِّفًا
تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَشْرَةِ آلَافٍ أُوقِيَّةٍ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ
بْنَ عَوْفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِنَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ ، يُقَالُ هِيَ خَمْسَةُ
دَرَاهِمَ .
{ وَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
امْرَأَةً بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ
} .
وَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى نَعْلَيْنِ ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرَضِيَتْ عَنْ مَالِكِ بِهَاتَيْنِ
النَّعْلَيْنِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، فَأَجَازَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : لَوْ أَصْدَقَهَا
سَوْطًا جَازَ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ : يُسْتَحَبُّ فِي الصَّدَاقِ
الرِّطْلُ مِنْ الذَّهَبِ ، وَكَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَكُونَ سَهْمُ
الْحَرَائِرِ مِثْلَ أُجُورِ الْبَغَايَا : الدِّرْهَمُ وَالدِّرْهَمَيْنِ ،
وَيُحِبُّونَ أَنْ يَكُونَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَشَيْءٌ مِنْ هَذَا لَمْ
يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ ،
خِلَافُ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَخَاتَمِ الْحَدِيدِ ،
وَسَيَأْتِي تَقْدِيرُ الْمَهْرِ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : {
قِنْطَارًا } قَالَ عُلَمَاؤُنَا :
اُخْتُلِفَ فِي الْقِنْطَارِ عَلَى عَشَرَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ؛ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ أَلْفٌ وَمِائَتَا دِينَارٍ ؛
قَالَهُ الْحَسَنُ .
وَهُوَ الْأَوْلَى لِلصَّوَابِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ دِيَةُ أَحَدِكُمْ ؛ رُوِيَ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ أَلْفٌ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ ؛
رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ أُوقِيَّةٍ ؛
قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَيْضًا
.
السَّادِسُ : أَنَّهُ ثَمَانُونَ أَلْفَ
دِرْهَمٍ ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ
الْمُسَيِّبِ .
السَّابِعُ : أَنَّهُ مِائَةُ رِطْلٍ ؛ قَالَهُ
قَتَادَةُ .
الثَّامِنُ : أَنَّهُ سَبْعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ ؛
قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
التَّاسِعُ : قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : وَهُوَ
مِلْءُ مَسْكِ ثَوْرٍ مِنْ ذَهَبٍ
.
الْعَاشِرُ : أَنَّهُ الْمَالُ الْكَثِيرُ مِنْ غَيْرِ
تَحْدِيدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : هَذِهِ الْأَقْوَالُ
كُلُّهَا تَحَكُّمٌ فِي الْأَكْثَرِ ، وَقَدْ رُوِيَ بَعْضُهَا عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ .
وَاَلَّذِي يَصِحُّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ الْمَالُ
الْكَثِيرُ الْوَزْنِ ، هَذَا عُرْفٌ عَرَبِيٌّ ، أَمَّا أَنَّ النَّاسَ لَهُمْ
فِي الْقِنْطَارِ عُرْفٌ مُعْتَادٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْقِنْطَارَ أَرْبَعَةُ
أَرْبَاعٍ ، وَالرُّبْعُ ثَلَاثُونَ رِطْلًا ، وَالرِّطْلُ اثْنَتَا عَشْرَةَ
أُوقِيَّةً ، وَالْأُوقِيَّةُ سِتَّةَ عَشَرَ دِرْهَمًا ، وَالدِّرْهَمُ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ
حَبَّةً ، وَهِيَ سِتَّةُ دَوَانِيقَ ، فَمَا زَادَ أَوْ نَقَصَ فَبِحَسَبِ
اتِّفَاقِهِمْ أَوْ بِحُكْمِ الْوُلَاةِ ، وَقَدْ رَدُّوا الدِّرْهَمَ مِنْ
سَبْعَةٍ ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ مِنْ سِتَّةِ دَوَانِيقَ ، وَرَكَّبُوا
الدِّرْهَمَ الْأَكْبَرَ مِنْ ثَمَانِيَةِ دَوَانِيقَ عَلَى الدِّرْهَمِ
الْأَصْغَرِ ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ دَوَانِيقَ ، فَحَمَلَتْ بَنُو أُمَيَّةَ
زِيَادَةَ الْأَكْبَرِ عَلَى نُقْصَانِ الْأَصْغَرِ ، فَجَعَلُوهُمَا دِرْهَمَيْنِ
مُتَسَاوِيَيْنِ ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتَّةُ دَوَانِيقَ ، وَجَعَلُوا
الدِّينَارَ دِرْهَمَيْنِ ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ قِيرَاطًا ،
وَالْقِيرَاطُ ثَلَاثُ حَبَّاتٍ
.
وَقَدْ رَوَى شَرِيكٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ طَرِيفٍ عَنْ
الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ عَنْ { عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ؛ قَالَ :
زَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ عَلَى
أَرْبَعِمِائَةٍ وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا بِوَزْنِ سِتَّةٍ } ؛
وَهَذَا ضَعِيفٌ ، إنَّمَا زَوَّجَهُ إيَّاهَا فِي الصَّحِيحِ عَلَى دِرْعِهِ
الْحُطَمِيَّةِ .
الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : {
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ
مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله
تَعَالَى : { أَفْضَى } أَفْعَلُ مِنْ الْفَضَاءِ ، وَهُوَ كُلُّ مَوْضِعٍ خَالٍ ،
فَقَالَ : وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ ، وَقَدْ كَانَتْ الْخَلْوَةُ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُنَّ ؟ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْمَهْرِ بِالْخَلْوَةِ ، وَقَدْ
بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَلِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٌ :
إحْدَاهُنَّ : يَسْتَقِرُّ الْمَهْرُ بِالْخَلْوَةِ .
الثَّانِي : لَا يَسْتَقِرُّ إلَّا بِالْوَطْءِ .
الثَّالِثُ : يَسْتَقِرُّ بِالْخَلْوَةِ فِي بَيْتِ
الْإِهْدَاءِ .
وَالْأَصَحُّ اسْتِقْرَارُهُ بِالْخَلْوَةِ مُطْلَقًا ،
وَيَلِيهِ فِي بَيْتِ الْإِهْدَاءِ
.
وَأَمَّا وُقُوفُهُ عَلَى الْوَطْءِ فَضَعِيفٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } فِيهِ قَوْلَانِ : الْأَوَّلُ قَالَهُ
مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا قَوْلُهُ : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } .
الثَّانِي : كَلِمَةُ النِّكَاحِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ ،
وَهِيَ قَوْلُهُ : ( نَكَحَتْ )
.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ نَحْوُهُ .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اتَّقُوا اللَّهَ
فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ
فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ
} .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الْمُزَنِيّ : لَا يَأْخُذُ الزَّوْجُ مِنْ الْمُخْتَلِعَةِ شَيْئًا
لِقَوْلِهِ : { فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } إلَى قَوْلِهِ : { مِيثَاقًا
غَلِيظًا } .
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : رَخَّصَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ : {
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا
فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } ، فَنَسَخَ ذَلِكَ .
قَالَ الطَّبَرِيُّ : بَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ .
وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ بَكْرٍ إنْ أَرَادَتْ هِيَ
الْعَطَاءَ ، فَقَدْ { جَوَّزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِثَابِتٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ زَوْجَتِهِ مَا سَاقَ إلَيْهَا وَصَدَّقَ } إنَّمَا
يَكُونُ النَّسْخُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ ، وَبِهِ يَتِمُّ
الْبَيَانُ ، وَتَسْتَمِرُّ فِي سُبُلِهَا الْأَحْكَامُ .
الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : {
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ
إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا } فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ النِّكَاحَ
أَصْلُهُ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ ، فَتَجْتَمِعُ الْأَقْوَالُ فِي الِانْعِقَادِ وَالرَّبْطِ
كَمَا تَجْتَمِعُ الْأَفْعَالُ فِي الِاتِّصَالِ وَالضَّمِّ ، لَكِنَّ الْعَرَبَ
عَلَى عَادَتِهَا خَصَّصَتْ اسْمَ النِّكَاحِ بِبَعْضِ أَحْوَالِ الْجَمْعِ
وَبَعْضِ مَحَالِّهِ ، وَمَا تَعَلَّقَ بِالنِّسَاءِ ، وَاقْتَضَى تَعَاطِيَ
اللَّذَّةِ فِيهَا ، وَاسْتِيفَاءَ الْوَطَرِ مِنْهَا ، وَعَلَى ذَلِكَ مِنْ
الْمَعْنَيَيْنِ جَاءَتْ الْآثَارُ وَالْآيَاتُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مَا نَكَحَ
} اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَلِمَةِ " مَا " هَلْ يُخْبَرُ بِهَا عَمَّا
يَعْقِلُ أَمْ لَا ؟ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي رِسَالَةِ مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ
أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي اللُّغَةِ شَائِعٌ فِيهَا ، وَفِي الشَّرِيعَةِ .
وَجَهِلَ الْمُفَسِّرُونَ هَذَا الْمِقْدَارَ ، وَاخْتَلَفَتْ
عِبَارَاتُهُمْ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : الْمَعْنَى وَلَا تَنْكِحُوا نِكَاحَ
آبَائِكُمْ يَعْنِي النِّكَاحَ الْفَاسِدَ الْمُخَالِفَ لِدِينِ اللَّهِ ؛ إذْ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَحْكَمَ وَجْهَ النِّكَاحِ ، وَفَصَّلَ شُرُوطَهُ .
وَالْمَعْنَى الصَّحِيحُ : وَلَا تَنْكِحُوا نِسَاءَ
آبَائِكُمْ ، وَلَا تَكُونُ ( مَا
) هُنَا بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ ؛ لِاتِّصَالِهَا
بِالْفِعْلِ ، وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى الَّذِي ، وَبِمَعْنَى مَنْ ،
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا
تَلَقَّتْ الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى ، وَمِنْهُ اسْتَدَلَّتْ عَلَى مَنْعِ
نِكَاحِ الْأَبْنَاءِ حَلَائِلَ الْآبَاءِ .
الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : { إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا
وَسَاءَ سَبِيلًا } تَعَقَّبَ النَّهْيَ بِالذَّمِّ الْبَالِغِ الْمُتَتَابِعِ ؛
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ انْتِهَاءٌ مِنْ الْقُبْحِ إلَى الْغَايَةِ ،
وَذَلِكَ هُوَ خَلَفُ الْأَبْنَاءِ عَلَى حَلَائِلِ الْآبَاءِ ؛ إذْ كَانُوا فِي
الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَقْبِحُونَهُ وَيَسْتَهْجِنُونَ
فَاعِلَهُ وَيُسَمُّونَهُ الْمَقْتِيَّ ؛ نَسَبُوهُ إلَى الْمَقْتِ .
فَأَمَّا النِّكَاحُ الْفَاسِدُ فَلَمْ يَكُنْ
عِنْدَهُمْ وَلَا يَبْلُغُ إلَى هَذَا الْحَدِّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ
وَقَتَادَةَ أَنَّهُمَا قَالَا
: ثَلَاثُ آيَاتٍ مُبْهَمَاتٍ : { وَحَلَائِلُ
أَبْنَائِكُمْ } ، و { مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } ، { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ
مُبْهَمَةٌ ، وَإِنَّمَا النَّهْيُ يَتَنَاوَلُ الْعَقْدَ وَالْوَطْءَ ، فَلَا
يَجُوزُ لِلِابْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً عَقَدَ عَلَيْهَا أَبُوهُ أَوْ
وَطِئَهَا لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ عَلَيْهِمَا مَعًا .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِيمَا
تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إلَّا
مَا قَدْ سَلَفَ } .
يَعْنِي مِنْ فِعْلِ الْأَعْرَابِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؛
فَإِنَّ بَعْضَهُمْ كَانَتْ الْحَمِيَّةُ تَغْلِبُ عَلَيْهِ ، فَيَكْرَهُ أَنْ
يَعْمُرَ فِرَاشَ أَبِيهِ غَيْرُهُ ، فَيَعْلُو هُوَ عَلَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ
يَسْتَمِرُّ عَلَى الْعَادَةِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ ، فَعَطَفَ اللَّهُ تَعَالَى
بِالْعَفْوِ عَمَّا مَضَى .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هُوَ
اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ ، وَصَدَقُوا فَإِنَّهُ لَيْسَ بِإِبَاحَةِ الْمَحْظُورِ
، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ عَفْوٍ سَحَبَ ذَيْلَهُ عَمَّا مَضَى مِنْ
عَمَلِهِمْ الْقَبِيحِ ؛ فَصَارَ تَقْدِيرُهُ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ فَإِنَّكُمْ
غَيْرُ مُؤَاخَذِينَ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا :
مَعْنَى قَوْلِهِ : { كَانَ } أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمَقْتِ وَالْفُحْشِ ، دَلِيلُهُ الْقَاطِعُ
: { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } ، وَهُوَ يَكُونُ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ
عَنْ صِفَتِهِ الَّتِي هُوَ كَائِنٌ عَلَيْهَا ، كَذَلِكَ فَسَّرَ هَذَا كُلَّهُ
الْحَبْرُ وَالْبَحْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ وَهَمَ الْقَاضِي أَبُو
إِسْحَاقَ وَالْمُبَرِّدُ فَقَالَا : إنَّ ( كَانَ ) زَائِدَةٌ هُنَا ، وَإِنَّمَا
الْمَعْنَى فِي زِيَادَتِهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : فَكَيْفَ إذَا مَرَرْت
بِدَارِ قَوْمٍ وَجِيرَانٍ لَنَا كَانُوا كِرَامٌ وَهَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ
بِاللُّغَةِ وَالشَّعْرِ ؛ بَلْ لَا يَجُوزُ زِيَادَةُ كَانَ هَاهُنَا ،
وَإِنَّمَا الْمَعْنَى وَجِيرَانٌ كِرَامٌ كَانُوا لَنَا مُجَاوِرِينَ ،
فَأَبَادَهُمْ الزَّمَانُ
وَانْقَطَعَ عَنْهُمْ مَا كَانَ ، وَقَدْ بَسَطْنَا
الْقَوْلَ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ ، وَذَكَرْنَا مَنْ قَالَهَا
قَبْلَهُمَا وَبَعْدَهُمَا ، وَاسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : إذَا نَكَحَ الْأَبُ وَالِابْنُ
نِكَاحًا فَاسِدًا حَرُمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْ انْعَقَدَ
لِصَاحِبِهِ عَقْدٌ فَاسِدٍ عَلَيْهِ مِنْ النِّسَاءِ ، كَمَا يَحْرُمُ
بِالصَّحِيحِ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَا يَخْلُو
أَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ ؛ فَإِنْ كَانَ
مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ لَمْ يُوجِبْ حُكْمًا وَلَا تَحْرِيمًا ، وَكَانَ
وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ تَعَلَّقَ بِهِ إلَى الْحُرْمَةِ
مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّحِيحِ ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ نِكَاحًا ، فَيَدْخُلَ
تَحْتَ مُطْلَقِ اللَّفْظِ ؛ وَالْفُرُوجُ إذَا تَعَارَضَ فِيهَا التَّحْلِيلُ
وَالتَّحْرِيمُ غُلِّبَ التَّحْرِيمُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إذَا لَمَسَهَا الْأَبُ
أَوْ الِابْنُ فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا فِي التَّحْرِيمِ كَالْوَطْءِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ ؛ هَلْ
يَتَعَلَّقُ بِاللَّمْسِ مِنْ التَّحْرِيمِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ عَلَى
قَوْلَيْنِ ؛ فَعِنْدَنَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ مِثْلُهُ ؛ وَتَفْصِيلُ
بَيَانِهِ فِي الْمَسَائِلِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَتَعَلَّقُ بِاللَّمْسِ
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ اسْمٌ مُخْتَصٌّ بِالْجِمَاعِ
أَوْ الْعَقْدِ ؛ وَلَيْسَ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ لُغَةً وَلَا
حَقِيقَةً .
وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ
النِّكَاحَ هُوَ الِاجْتِمَاعُ ، وَإِذَا قَبَّلَ أَوْ عَانَقَ فَقَدْ وُجِدَ
الْمَعْنَى مِنْ اللَّفْظِ حَقِيقَةً ، فَوَجَبَ إطْلَاقُهُ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ النِّكَاحُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ
عَنْ الْعَقْدِ .
قُلْنَا :
لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ ، بَلْ هُمَا سَوَاءٌ ،
يَتَصَرَّفُ الْمَعْنَى فِيهِمَا تَحْتَ اللَّفْظِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِحَسَبِ
أَدِلَّتِهِ وَاحْتِمَالَاتِهِ ، وَانْتِظَامِ الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ مَعَهُ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : إذَا نَظَرَ إلَيْهَا
بِلَذَّةٍ هُوَ وَأَبُوهُ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا ؛ نَصَّ عَلَيْهِ
مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ ، فَجَرَى مَجْرَى
النِّكَاحِ فِي التَّحْرِيمِ ؛ إذْ الْأَحْكَامُ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ
بِالْمَعَانِي لَا بِالْأَلْفَاظِ
.
وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ مِنْ
الِاجْتِمَاعِ بِالِاسْتِمْتَاعِ ؛ فَإِنَّ النَّظَرَ اجْتِمَاعٌ وَلِقَاءٌ ،
وَفِيهِ بَيْنَ الْمُحِبِّينَ اسْتِمْتَاعٌ ؛ وَقَدْ بَالَغَ فِي ذَلِكَ
الشُّعَرَاءُ فَقَالُوا : أَلَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أُمَّ عَمْرٍو وَإِيَّانَا
فَذَاكَ بِنَا تَدَانِي نَعَمْ وَتَرَى الْهِلَالَ كَمَا أَرَاهُ وَيَعْلُوهَا
النَّهَارُ كَمَا عَلَانِي فَكَيْفَ بِالنَّظَرِ وَالْمُجَالَسَةِ وَاللَّذَّةِ ؟ وَهَذَا
بَيِّنٌ .
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ
وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي
أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ
وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ
بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ
وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ
الْأُخْتَيْنِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } .
فِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ } قَدْ بَيَّنَّا بَيَّنَ اللَّهُ
لَكُمْ وَبَلَّغَكُمْ فِي الْعِلْمِ أَمَلَكُمْ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ
بِصِفَاتٍ لِلْأَعْيَانِ ، وَأَنَّ الْأَعْيَانَ لَيْسَتْ مَوْرِدًا لِلتَّحْلِيلِ
وَالتَّحْرِيمِ وَلَا مَصْدَرًا ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ
بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ ،
لَكِنَّ الْأَعْيَانَ لَمَّا كَانَتْ مَوْرِدًا لِلْأَفْعَالِ أُضِيفَ الْأَمْرُ
وَالنَّهْيُ وَالْحُكْمُ إلَيْهَا وَعُلِّقَ بِهَا مَجَازًا بَدِيعًا عَلَى
مَعْنَى الْكِنَايَةِ بِالْمَحِلِّ عَنْ الْفِعْلِ الَّذِي يَحِلُّ بِهِ مِنْ
بَابِ قِسْمِ التَّسْبِيبِ فِي الْمَجَازِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ
الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ :
حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ النَّسَبِ سَبْعًا وَمِنْ
الصِّهْرِ سَبْعًا ، وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ وَهُوَ أَصْلُ الْمُحَرَّمَاتِ ،
وَوَرَدَتْ مِنْ جِهَةِ مُبَيِّنَةٍ لِجَمِيعِهَا بِأَخْصَرِ لَفْظٍ وَأَدَلِّ
مَعْنًى فَهِمَتْهُ الصَّحَابَةُ وَخَبَرَتْهُ الْعُلَمَاءُ .
وَنَحْنُ نُفَصِّلُ ذَلِكَ بِالْبَيَانِ فَنَقُولُ : الْأُمُّ :
عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ امْرَأَةٍ لَهَا عَلَيْكَ وِلَادَةٌ ، وَيَرْتَفِعُ نَسَبُكَ
إلَيْهَا بِالْبُنُوَّةِ ، كَانَتْ مِنْكَ عَلَى عَمُودِ الْأَبِ أَوْ عَلَى
عَمُودِ الْأُمِّ ، وَكَذَلِكَ مَنْ فَوْقَكَ .
وَالْبِنْتُ :
عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ امْرَأَةٍ لَك عَلَيْهَا وِلَادَةٌ
تَنْتَسِبُ إلَيْكَ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ إذَا كَانَ مَرْجِعُهَا إلَيْكَ .
وَالْأُخْتُ : عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ امْرَأَةٍ
شَارَكَتْكَ فِي أَصْلَيْك : أَبِيكَ وَأُمِّكَ ، وَلَا تَحْرُمُ أُخْتُ الْأُخْتِ
إذَا لَمْ تَكُنْ لَكَ أُخْتًا ؛ فَقَدْ يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ وَلِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَدٌ ثُمَّ يُقَدَّرُ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ .
سَحْنُونٌ : هُوَ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ
مِنْ غَيْرِهَا بِنْتَهَا مِنْ غَيْرِهِ .
وَتَفْسِيرُهَا أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ اسْمُهُ زَيْدٌ
زَوْجَتَانِ عَمْرَةُ وَخَالِدَةُ ، وَلَهُ مِنْ عَمْرَةَ وَلَدٌ اسْمُهُ عَمْرٌو
، وَمِنْ خَالِدَةَ بِنْتٌ اسْمُهَا سَعَادَةٌ ، وَلِخَالِدَةَ زَوْجٌ اسْمُهُ
عَمْرٌو ، وَلَهُ مِنْهَا بِنْتٌ اسْمُهَا حَسْنَاءُ ، فَزَوَّجَ زَيْدٌ وَلَدَهُ
عَمْرًا مِنْ حَسْنَاءَ ، وَهِيَ أُخْتُ أُخْتِ عَمْرٍو ، وَهَذِهِ صُورَتُهَا لِتَكُونَ
أَثْبُتَ فِي النُّفُوسِ .
الْعَمَّةُ : هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ امْرَأَةٍ
شَارَكَتْ أَبَاكَ مَا عَلَا فِي أَصْلَيْهِ .
الْخَالَةُ :
هِيَ كُلُّ امْرَأَةٍ شَارَكَتْ أُمَّكَ مَا عَلَتْ فِي
أَصْلَيْهَا ، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ تَعَلُّقِ الْأُمُومَةِ كَمَا
تَقَدَّمَ ، وَمِنْ تَفْصِيلِهِ تَحْرِيمُ عَمَّةِ الْأَبِ وَخَالَتِهِ ؛ لِأَنَّ
عَمَّةَ الْأَبِ أُخْتُ الْجَدِّ ، وَالْجَدُّ أَبٌ ، وَأُخْتُهُ عَمَّةٌ ،
وَخَالَةُ الْأَبِ أُخْتُ جَدَّتِهِ لِأُمِّهِ ، وَالْجَدَّةُ أُمٌّ ، فَأُخْتُهَا
خَالَةٌ ،
وَكَذَلِكَ عَمَّةُ الْأُمِّ أُخْتُ جَدِّهَا لِأَبِيهَا
، وَجَدُّهَا أَبٌ وَأُخْتُهُ عَمَّةٌ ، وَخَالَةُ أُمِّهَا جَدَّتُهُ .
وَالْجَدَّةُ أُمٌّ وَأُخْتُهَا خَالَةٌ ؛ وَتَتَرَكَّبُ
عَلَيْهِ عَمَّةُ الْعَمَّةِ ؛ لِأَنَّهَا عَمَّةُ الْأَبِ كَذَلِكَ ، وَخَالَةُ
الْعَمَّةِ خَالَةُ الْأُمِّ كَذَلِكَ ، وَخَالَةُ الْخَالَةِ خَالَةُ الْأُمِّ ،
وَكَذَلِكَ عَمَّةُ الْخَالَةِ عَمَّةُ الْأُمِّ ؛ فَتَضَمَّنَ هَذَا كُلَّهُ
قَوْله تَعَالَى : { وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ } بِالِاعْتِلَاءِ فِي الِاحْتِرَامِ
، وَلَمْ يَتَضَمَّنْهُ آيَةُ الْفَرَائِضِ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْمَوَارِيثِ ،
لِسَعَةِ الْحَجْرِ فِي التَّحْرِيمِ وَضِيقِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْأَمْوَالِ .
فَعِرْقُ التَّحْرِيمِ يَسْرِي حَيْثُ اطَّرَدَ ،
وَسَبَبُ الْمِيرَاثِ يَقِفُ أَيْنَ وَرَدَ ، وَلَا تَحْرُمُ أُمُّ الْعَمَّةِ
وَلَا أُخْتُ الْخَالَةِ ؛ وَصُورَةُ ذَلِكَ كَمَا قَرَرْنَا لَكَ فِي الْأُخْتِ .
بِنْتُ الْأَخِ ، وَبِنْتُ الْأُخْتِ : عِبَارَةٌ عَنْ
كُلِّ امْرَأَةٍ لِأَخِيكَ أَوْ لِأُخْتِكَ عَلَيْهَا وِلَادَةٌ ، وَتَرْجِعُ
إلَيْهَا بِنِسْبَةٍ ؛ فَهَذِهِ الْأَصْنَافُ النِّسْبِيَّةُ السَّبْعَةُ .
وَأَمَّا الْأَصْنَافُ الصِّهْرِيَّةُ السَّبْعَةُ : {
أُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ }
وَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ بِالْقُرْآنِ ، وَلَمْ يُذْكَرْ مِنْ الْمُحَرَّمِ
بِالرَّضَاعَةِ فِي الْقُرْآنِ سِوَاهُمَا .
وَالْأُمُّ أَصْلٌ وَالْأُخْتُ فَرْعٌ ؛ فَنَبَّهَ
بِذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ ، وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ
مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ
} .
وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ : { قُلْت : يَا
رَسُولَ اللَّهِ ؛ مَالَكَ تَنَوُّقُ فِي قُرَيْشٍ وَتَدَعُنَا ؟ قَالَ :
وَعِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟ قُلْت : نَعَمْ ، ابْنَةُ حَمْزَةَ ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنْ
الرَّضَاعَةِ }
.
وَمِثْلُهُ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَعْنَى حَدِيثُ { أُمِّ
حَبِيبَةَ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنِّي لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ ،
وَأَحَبُّ مَنْ شَرَكَنِي فِي
خَيْرٍ أُخْتِي .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
إنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِي قُلْت : فَإِنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّكَ تَنْكِحُ
ابْنَةَ أَبِي سَلَمَةَ .
قَالَ : ابْنَةُ أُمِّ سَلَمَةَ ؟ قُلْت : نَعَمْ .
قَالَ
: إنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا
حَلَّتْ لِي ، إنَّهَا ابْنَةُ أَخِي ، أَرْضَعَتْنِي أَنَا وَأَبَا سَلَمَةَ
ثُوَيْبَةُ ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتَكُمْ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ } .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَثُوَيْبَةُ هِيَ الَّتِي
أَرْضَعَتْ حَمْزَةَ أَيْضًا ، فَرُوِيَ أَنَّ هَذَا الرَّضَاعَ كَانَ فِي وَقْتٍ
وَاحِدٍ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتَيْنِ لِاتِّفَاقِ
أَهْلِ السِّيَرِ عَلَى أَنَّ حَمْزَةَ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَامَيْنِ ، وَقِيلَ بِأَرْبَعِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُحَرِّمُ
الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ وَلَا الْإِمْلَاجَةُ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ
وَهِيَ الْمَصَّةُ } .
وَرَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ فِيمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ فَنُسِخَتْ
بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ .
فَقَالَ بِهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ .
وَرَأَى مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ الْأَخْذَ بِمُطْلَقِ
الْقُرْآنِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ
وَتَعَلُّقٌ بِهِ ، وَقَدْ قَوِيَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّحْرِيمِ فِي
الْأَبْضَاعِ وَالْحَوْطَةِ عَلَى الْفُرُوجِ ؛ فَقَدْ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ
لِمَنْ يَرَى الْعُمُومَ وَمَنْ لَا يَرَاهُ .
وَقَدْ رَامَ بَعْضُ حُذَّاقِ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ
الْإِمَامُ الْجُوَيْنِيُّ أَنْ يُبْطِلَ التَّعَلُّقَ بِهَذَا الْعُمُومِ ؛ قَالَ
: لِأَنَّهُ سِيقَ لِيَتَبَيَّنَّ بِهِ وَجْهُ التَّحْرِيمِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ ،
وَلَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّعْمِيمُ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ
إذَا سِيقَ قَصْدًا لِلْعُمُومِ ؛ وَذَلِكَ يُعْلَمُ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ .
قَالَ الْقَاضِي : يَا لِلَّهِ وَلِلْمُحَقِّقِينَ مِنْ
رَأْسِ التَّحْقِيقِ الْجُوَيْنِيُّ ، يَأْتِي بِهَذَا الْكَلَامِ فِي غَيْرِ
مَوْضِعِهِ ، وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ نَاظِرٍ فِي الْفِقْهِ شَادٍّ أَوْ مُنْتَهٍ
أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ كُلَّهَا فِي الْآيَةِ جَاءَتْ مَجِيئًا وَاحِدًا فِي الْبَيَانِ
فِي مَقْصُودٍ وَاحِدٍ ، فَلَوْ جَازَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ لَا
يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ قَوْلُهُ : { وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي
أَرْضَعْنَكُمْ } لَمَا حُمِلَ أَيْضًا عَلَى الْعُمُومِ قَوْلُهُ : {
أُمَّهَاتُكُمْ } فَيُرْتَقَى بِهِنَّ إلَى الْجَدَّاتِ ، وَلَا بَنَاتُكُمْ
فَيَحُطُّ بِهِنَّ إلَى بَنَاتِ الْبَنَاتِ ، وَقَدْ رَأَى أَنَّهُنَّ لَمْ
يَعُمَّهُنَّ فِي الْمِيرَاثِ وَعَمَّهُنَّ هَاهُنَا فِي التَّحْرِيمِ ،
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَأُمَّهَاتُ
نِسَائِكُمْ }
كَانَ يَنْبَغِي أَلَّا يُحْمَلَ عَلَى الْعُمُومِ
أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ كَمَا قَالَ سِيَاقُ الْعُمُومِ ، وَكَانَ
ذَلِكَ لَوْ قُلْنَا بِهِ سَبَبًا لِخَرْمِ قَاعِدَةِ الْآيَةِ .
وَقَدْ بَيَّنْت ذَلِكَ فِي التَّلْخِيصِ وَالتَّمْحِيصِ .
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَلَا
مُتَعَلَّقَ فِيهَا .
أَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَهُوَ أَضْعَفُ الْأَدِلَّةِ
؛ لِأَنَّهَا قَالَتْ : كَانَ مِمَّا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَثْبُتْ أَصْلُهُ
فَكَيْفَ يَثْبُتُ فَرْعُهُ ؟ .
وَأَمَّا حَدِيثُ الْإِمْلَاجَةِ فَمَعْنَاهُ كَانَ مِنْ
الْمَصِّ وَالْجَذْبِ مِمَّا لَمْ يُدَرُّ مَعَهُ لَبَنٌ وَيَصِلُ إلَى الْجَوْفِ .
وَيَتَحَقَّقُ وُصُولُ اللَّبَنِ إلَى الْجَوْفِ ،
فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ ، بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَبِنَصِّ الْحَدِيثِ فِي
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ
ثُوَيْبَةُ } ، فَإِذَا مَصَّ لَبَنَهَا وَحَصَلَ فِي جَوْفِهِ فَهِيَ مُرْضِعَةٌ
، وَهِيَ أُمُّهُ ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ بِالْآيَةِ بِلَا مِرْيَةٍ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : كَانَ قَوْله تَعَالَى : {
وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ } يَقْتَضِي بِمُطْلَقِهِ تَحْرِيمَ
الرَّضَاعِ فِي أَيِّ وَقْتٍ وُجِدَ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ ، إلَّا أَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ وَقْتَهُ بِقَوْلِهِ : { وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلِينَ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ
} ، فَبَيَّنَ زَمَانَهُ الْكَامِلَ ؛ فَوَجَبَ أَلَّا يُعْتَبَرَ مَا زَادَ
عَلَيْهِ .
وَقَدْ رَأَتْ عَائِشَةُ أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ
مُحَرِّمٌ ؛ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهَا ، قَالَتْ : { جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ
إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ ؛ إنَّا كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا ، وَكَانَ يَأْوِي مَعِي وَمَعَ
أَبِي حُذَيْفَةَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ ، وَيَرَانِي فُضُلًا ، وَقَدْ أَنْزَلَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهِمْ مَا عَلِمْت ، فَكَيْفَ تَرَى يَا رَسُولَ
اللَّهِ فِيهِ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرْضِعِيهِ
خَمْسَ رَضَعَاتٍ يَحْرُمُ بِلَبَنِهَا } .
فَكَانَتْ تَرَاهُ ابْنًا مِنْ الرَّضَاعَةِ ،
فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَأْخُذُ ، وَأَبَاهُ سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُلْنَ : وَاَللَّهِ مَا نَرَى ذَلِكَ إلَّا
رُخْصَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَهْلَةَ ؛ لِأَنَّهُمْ
لَمْ يَرَوْهُ حُكْمًا عَامًّا وَلَا قَضِيَّةً مُطْلَقَةً لِكُلِّ أَحَدٍ ، لَا
سِيَّمَا وَقَدْ رَدَّهُ عُمَرُ ، وَأَمَرَ بِأَدَبِ مَنْ أَرْضَعَ مِنْ
النِّسَاءِ كَبِيرًا .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ ؛ قَالَتْ عَائِشَةُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ إلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ
مِنْ الثَّدْيِ ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ } .
نِظَامُ نَشْرٍ : اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ
كُلَّ شَخْصَيْنِ الْتَقَمَا ثَدْيًا وَاحِدًا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي
زَمَانَيْنِ فَهُمَا أَخَوَانِ ، وَالْأُصُولُ مِنْهُمَا وَالْفُرُوعُ
بِمَنْزِلَةِ أُصُولِ الْأَنْسَابِ وَفُرُوعِهَا فِي التَّحْرِيمِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي لَبَنِ الْفَحْلِ : ثَبَتَ { عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ وَفِي كُلِّ
فَرِيقٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ جَاءَ
يَسْتَأْذِنُ عَلَى عَائِشَةَ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْحِجَابُ ، فَقَالَتْ
عَائِشَةُ : وَاَللَّهِ لَا آذَنُ لِأَفْلَحَ حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ أَبَا الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ الَّذِي
أَرْضَعَنِي ، إنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ .
قَالَتْ عَائِشَةُ : فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ أَفْلَحَ
أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ فَأَبَيْت أَنْ آذَنَ لَهُ
حَتَّى أَسْتَأْذِنَكَ ، فَقَالَ
: إنَّهُ عَمُّكَ فَلْيَلِجْ عَلَيْكَ } .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ وَأَعْيَانِ
الْعُلَمَاءِ .
وَرَأَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَأَبُو سَلَمَةَ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : أَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ
لَا يُحَرِّمُ ؛ وَصُورَتُهُ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ لَهُ امْرَأَتَانِ أَرْضَعَتْ
إحْدَاهُمَا صَبِيًّا وَالْأُخْرَى صَبِيَّةً ، فَيَحْرُمُ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَخَوَانِ لِأَبٍ مِنْ لَبَنٍ ؛ فَيَحْرُمَانِ
كَمَا يَحْرُمَانِ لَوْ كَانَا أَخَوَيْنِ لِأَبٍ مِنْ نَسَبٍ ، لِقَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا
يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ } .
وَهَذَا ظَاهِرٌ ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ نَصٌّ ، فَقَدْ
تَعَاضَدَا فَوَجَبَ الْقَضَاءُ بِهِ
.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ } اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ ؛
فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَجَابِرٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمُجَاهِدٍ
أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْبِنْتِ لَا يُحَرِّمُ الْأُمَّ حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا .
كَمَا أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْأُمِّ لَا يُحَرِّمُ
الْبِنْتَ حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا
.
وَقَالَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ وَالصَّحَابَةُ : إنَّ
الْعَقْدَ عَلَى الْبِنْتِ يُحَرِّمُ الْأُمَّ وَلَا تَحْرُمُ الْبِنْتُ حَتَّى
يَدْخُلَ بِالْأُمِّ .
وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي الْوَصْفِ فِي قَوْلِهِ : {
اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ }
فَقِيلَ : يَرْجِعُ إلَى الرَّبَائِبِ وَالْأُمَّهَاتِ ،
وَهُوَ اخْتِيَارُ أَهْلِ الْكُوفَةِ
.
وَقِيلَ يَرْجِعُ إلَى الرَّبَائِبِ خَاصَّةً ، وَهُوَ
اخْتِيَارُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ، وَجَعَلُوا رُجُوعَ الْوَصْفِ إلَى
الْمَوْصُوفَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْ الْعَامِلِ مَمْنُوعًا كَالْعَطْفِ عَلَى
عَامِلَيْنِ .
وَجَوَّزَ ذَلِكَ كُلَّهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ ، وَرَأَوْا
أَنَّ عَامِلَ الْإِضَافَةِ غَيْرُ عَامِلِ الْخَفْضِ بِحَرْفِ الْجَرِّ .
وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ
" مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ
" وَقَدْ رَدَّ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ الرِّوَايَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ
ثَابِتٍ ، وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ أَنَّهُ مَذْهَبُ عَلِيٍّ خَاصَّةً ، كَمَا قَدْ اسْتَقَرَّ
الْيَوْمَ فِي الْأَمْصَارِ وَالْأَقْطَارِ أَنَّ الرَّبَائِبَ وَالْأُمَّهَاتِ
فِي هَذَا الْحُكْمِ مُخْتَلِفَاتٌ ، وَأَنَّ الشَّرْطَ إنَّمَا هُوَ فِي
الرَّبَائِبِ .
وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ غَوَامِضِ
الْعِلْمِ وَأَخْذُهَا مِنْ طَرِيقِ النَّحْوِ يَضْعُفُ ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ
الْعَرَبَ الْقُرَشِيِّينَ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بُلْغَتِهِمْ أَعْرَفُ
مِنْ غَيْرِهِمْ بِمَقْطَعِ الْمَقْصُودِ مِنْهُمْ ؛ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ
وَخُصُوصًا عَلِيًّا مَعَ مِقْدَارِهِ فِي الْعِلْمَيْنِ ، وَلَوْ لَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ
فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَكَانَ فَصَاحَتُهَا بِالْأَعْجَمِيَّةِ ،
فَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَاوَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ هَذَا الْقَصْدِ .
وَالْمَأْخَذُ فِيهِ يَرْجِعُ إلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ الْوَصْفُ إلَى
الرَّبَائِبِ خَاصَّةً .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهَا جَمِيعًا ؛
فَيُرَدُّ إلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ تَغْلِيبًا لِلتَّحْرِيمِ عَلَى التَّحْلِيلِ
فِي الْفُرُوجِ ، وَهَكَذَا هُوَ مَقْطُوعُ السَّلَفِ فِيهَا عِنْدَ تَعَارُضِ
الْأَدِلَّةِ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ عَلَيْهَا .
الثَّانِي : رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ جَدِّهِ : أَيُّمَا رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً فَدَخَلَ بِهَا أَوْ
لَمْ يَدْخُلْ فَلَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ أُمِّهَا ،
وَأَيُّمَا رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً فَدَخَلَ بِهَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ
ابْنَتِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلْيَنْكِحْهَا .
وَهَذَا إنْ صَحَّ حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ ، لَكِنَّ
رِوَايَةَ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ تَضْعُفُ .
الثَّالِثُ :
أَنَّ قَوْلَهُ : { مِنْ نِسَائِكُمْ } لَفْظَةٌ
عَرَبِيَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ ، وَالْوَاحِدُ
مِنْهُ امْرَأَةٌ .
وَقَوْلُكَ : امْرُؤٌ وَامْرَأَةٌ ، كَقَوْلِكَ :
آدَمِيٌّ وَآدَمِيَّةٌ ، فَقَوْلُهُ : وَامْرَأَتُكَ كَقَوْلِهِ : وَآدَمِيَّتُكَ
، فَأُضِيفَتْ إلَيْكَ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْبَحْثِ عَنْ وَجْهِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ
؛ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الَّتِي تُشْبِهُكَ أَوْ تُجَاوِرُكَ أَوْ
تَمْلِكُهَا أَوْ تَمْلِكُكَ ، أَوْ تَحِلُّ لَهَا أَوْ تَحِلُّ لَكَ .
وَالْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى الشَّبَهِ وَالْجُوَارِ
مُحَالٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَسَّمْت مَا قَسَّمْت لَمْ تَجِدْ وَجْهًا إلَّا بَابَ
التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ وَلَهُ مَسَاقُ الْآيَةِ ،
وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْبَيَانِ ؛ فَإِذَا حَلَّتْ لَهُ أَوْ مَلَكَهَا فَقَدْ
تَحَقَّقَتْ الْإِضَافَةُ الْمَقْصُودَةُ فَوَجَبَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عَلَى
الْإِطْلَاقِ .
وَكَذَلِكَ كُنَّا نَقُولُ فِي الرَّبَائِبِ ، لَوْلَا
التَّقْيِيدُ بِشَرْطِ الدُّخُولِ
.
فَإِنْ قِيلَ : فَاحْمِلُوا الْأُمَّهَاتِ عَلَى
الْبَنَاتِ .
قُلْنَا :
لَوْ كُنَّا نَطْلُبُ الرُّخَصَ لَفَعَلْنَا ، وَلَكِنْ
إذَا تَعَارَضَ الدَّلِيلُ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فِي الْفُرُوجِ غَلَّبْنَا
التَّحْرِيمَ ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ عَلِيٌّ فِي الْأُخْتَيْنِ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ
لَمَّا تَعَارَضَ فِيهِمَا التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ غُلِّبَ التَّحْرِيمُ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ قِيلَ : إنَّ الْمُرَادَ بِالدُّخُولِ
هَاهُنَا النِّكَاحُ ، فَعَلَى هَذَا الرَّبَائِبُ وَالْأُمَّهَاتُ سَوَاءٌ ؛
لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ غُلِّبَ عَلَى الرَّبَائِبِ بِاشْتِرَاطِ الْوَطْءِ فِي
أُمَّهَاتِهِنَّ لِتَحْرِيمِهِنَّ .
الْخَامِسُ : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْصُوفِينَ
قَدْ انْقَطَعَ عَنْ صَاحِبِهِ ، وَخَرَجَ مِنْهُ بِوَصْفِهِ ؛ فَإِنَّهُ
قَالَ :
{ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ } ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ : { وَرَبَائِبُكُمْ
اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ } ، فَوَصَفَ وَكَرَّرَ ، وَذَلِكَ
الْوَصْفُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْأُمَّهَاتِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : {
اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } ، فَالْوَصْفُ
الَّذِي يَتْلُوهُ يَتْبَعُهُ ، وَلَا يَرْجِعُ إلَى الْأَوَّلِ لِبُعْدِهِ مِنْهُ
وَانْقِطَاعِهِ عَنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَرَبَائِبُكُمْ } وَاحِدَتُهَا رَبِيبَةٌ ، فَعَيْلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ ،
مِنْ قَوْلِك : رَبَّهَا يَرُبُّهَا ، إذَا تَوَلَّى أَمْرَهَا ، وَهِيَ
مُحَرَّمَةٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ، كَانَتْ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ أَوْ فِي
حِجْرِ حَاضِنَتِهَا غَيْرِ أُمِّهَا ، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { اللَّاتِي فِي
حُجُورِكُمْ } تَأْكِيدٌ لِلْوَصْفِ ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْحُكْمِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ عَنْ
عَلِيٍّ أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ حَتَّى تَكُونَ فِي حِجْرِهِ .
قُلْنَا هَذَا بَاطِلٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ }
اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الدُّخُولَ هُوَ الْجِمَاعُ ؛ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ
وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : هُوَ التَّمَتُّعُ مِنْ
اللَّمْسِ أَوْ الْقُبَلِ ؛ قَالَهُ مَالِكٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ النَّظَرُ إلَيْهَا بِشَهْوَةٍ
؛ قَالَهُ عَطَاءٌ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ
قَدْ ذَكَرْنَاهَا .
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِيهَا أَنَّ الْجِمَاعَ هُوَ
الْأَصْلُ ، وَيَحْتَمِلُ عَلَيْهِ اللَّمْسُ لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ مِثْلُهُ ،
يَحِلُّ بِحِلِّهِ ، وَيَحْرُمُ بِحُرْمَتِهِ ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِهِ ،
كَمَا بَيَّنَّاهُ قَبْلَ هَذَا
.
وَأَمَّا النَّظَرُ فَعِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ
يُحَرِّمُ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : لَا يُحَرِّمُ ؛ لِأَنَّهُ فِي
الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ شُبْهَةٌ فِي الزِّنَا ذَرِيعَةُ الذَّرِيعَةِ ، لَكِنَّ
الْأَمْوَالَ تَارَةً يُغَلَّبُ فِيهَا التَّحْلِيلُ وَتَارَةً يُغَلَّبُ فِيهَا التَّحْرِيمُ
، فَأَمَّا الْفُرُوجُ فَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ فِيهَا عَلَى تَغْلِيبِ
التَّحْرِيمِ ، كَمَا أَنَّ النَّظَرَ لَا يَحِلُّ إلَّا بِعَقْدِ نِكَاحٍ أَوْ
شِرَاءٍ فَكَذَلِكَ يَحْرُمُ إذَا حَلَّ ، أَصْلُهُ اللَّمْسُ وَالْوَطْءُ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ } : وَاحِدَتُهَا حَلِيلَةٌ ، وَهِيَ
فَعَيْلَةٌ بِمَعْنَى مُفَعَّلَةٍ ، أَيْ مُحَلَّلَةٍ .
حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الْآبَاءِ نِكَاحَ أَزْوَاجِ أَبْنَائِهِمْ
، كَمَا حَرَّمَ عَلَى الْأَبْنَاءِ نِكَاحَ أَزْوَاجِ آبَائِهِمْ فِي قَوْله
تَعَالَى : { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا
قَدْ سَلَفَ } فَكُلُّ فَرْجٍ حَلَّ لِلِابْنِ حَرُمَ عَلَى الْأَبِ أَبَدًا .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : الْأَبْنَاءُ ثَلَاثَةٌ :
ابْنُ نَسَبٍ ، وَابْنُ رَضَاعٍ ، وَابْنُ تَبَنٍّ .
فَأَمَّا ابْنُ النَّسَبِ فَمَعْلُومٌ ، وَمَعْلُومٌ
حُكْمُهُ .
وَأَمَّا ابْنُ الرَّضَاعِ فَيَجْرِي مَجْرَى الِابْنِ
فِي جُمْلَةٍ مِنْ الْأَحْكَامِ مُعْظَمُهَا التَّحْرِيمُ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } .
وَأَمَّا ابْنُ التَّبَنِّي فَكَانَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ
؛ إذْ تَبَنَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ
حَارِثَةَ ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : {
اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } .
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ : مَا كُنَّا
نَدْعُو زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَزَلَتْ : {
اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } ؛ وَهَذِهِ هِيَ
الْفَائِدَةُ فِي قَوْله تَعَالَى : { مِنْ أَصْلَابِكُمْ } لِيَسْقُطَ وَلَدُ التَّبَنِّي ،
وَيَذْهَبَ اعْتِرَاضُ الْجَاهِلِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي نِكَاحِ زَيْنَبَ زَوْجِ زَيْدٍ ، وَقَدْ كَانَ يُدْعَى لَهُ ،
فَنَهَجَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِبَيَانِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } حَرَّمَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ، كَمَا حَرَّمَ نِكَاحَ
الْأُخْتِ ، وَالنَّهْيُ يَتَنَاوَلُ الْوَطْءَ ، فَهُوَ عَامٌّ فِي عَقْدِ
النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ ، وَقَدْ كَانَ تَوَقَّفَ فِيهَا مَنْ تَوَقَّفَ
فِي أَوَّلِ وُقُوعِهَا ، ثُمَّ اطَّرَدَ الْبَيَانُ عِنْدَهُمْ ، وَاسْتَقَرَّ
التَّحْرِيمُ ؛ وَهُوَ الْحَقُّ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } تَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِهِ فِي
تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ ، وَالْخَامِسَةِ فِي عِدَّةِ الرَّابِعَةِ
، وَقَالَ : إنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ
يَكُنْ جَمْعًا فِي حِلٍّ فَهُوَ جَمْعٌ فِي حَبْسٍ بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ
الْفَرْجِ ، وَهُوَ إذَا تَزَوَّجَ أُخْتَهَا فَقَدْ حَبَسَ الْمُتَزَوِّجَةَ
بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ ، وَهُوَ الْحِلُّ وَالْوَطْءُ ، وَقَدْ
حَبَسَ أُخْتَهَا بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ ، وَهُوَ اسْتِبْرَاءُ
الرَّحِمِ لِحِفْظِ النَّسَبِ ، فَحُرِّمَ ذَلِكَ بِالْعُمُومِ ؛ وَهِيَ مِنْ
مَسَائِلِ الْخِلَافِ الطَّوِيلَةِ ، وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِيهَا
هُنَالِكَ .
وَاَلَّذِي نَجْتَزِئُ بِهِ الْآنَ أَنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ نَهَاهُ عَنْ أَنْ يَجْمَعَ ؛ وَهَذَا لَيْسَ بِجَمْعٍ مِنْهُ ،
لِأَنَّ النِّكَاحَ اكْتَسَبَهُ ، وَالْعِدَّةُ أَلْزَمَتْهُ ، فَالْجَامِعُ
بَيْنَهُمَا هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِخَلْقِهِ ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِي هَذَا
الْجَمْعِ كَسْبٌ يَرْجِعُ النَّهْيُ بِالْخِطَابِ إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
{ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } لَيْسَ هَذَا مِنْ مِثْلِ [ قَوْلِهِ ] : { إلَّا مَا
قَدْ سَلَفَ } فِي نِكَاحِ مَنْكُوحَاتِ الْآبَاءِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ
قَطُّ بِشَرْعٍ ؛ وَإِنَّمَا كَانَتْ جَاهِلِيَّةٌ جُهَلَاءُ وَفَاحِشَةٌ
شَائِعَةٌ ؛ وَنِكَاحُ الْأُخْتَيْنِ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا فَنَسَخَهُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ فِينَا .
الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : {
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا
بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ
مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا
حَكِيمًا } فِيهَا إحْدَى وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى أَبُو الْخَلِيلِ صَالِحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ
الضُّبَعِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : { أَصَبْنَا سَبَايَا
يَوْمَ أَوْطَاسٍ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ فِي قَوْمِهِنَّ ، فَكَرِهَتْهُنَّ رِجَالٌ ، فَذَكَرُوا
ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ } } .
وَقَدْ خَرَّجَ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ مُسْلِمٌ
وَالْبُخَارِيُّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : {
وَالْمُحْصَنَاتُ } : بِنَاءُ " ح ص ن " عَلَى الْمَنْعِ ، وَمِنْهُ
الْحِصْنُ ؛ لَكِنْ يَتَصَرَّفُ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهِ وَأَسْبَابِهِ ؛
فَالْإِسْلَامُ حِصْنٌ ، وَالْحُرِّيَّةُ حِصْنٌ ، وَالنِّكَاحُ حِصْنٌ ،
وَالتَّعَفُّفُ حِصْنٌ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ
أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ } ؛ وَهُوَ الْإِسْلَامُ .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } ، فَهُنَّ
الْحَرَائِرُ .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } هُنَّ الْعَفَائِفُ .
{ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: أَحْصَنَتْ ؟ يَعْنِي تَزَوَّجَتْ ؟ قَالَ : نَعَمْ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ، مَنْ أُحْصِنَ مِنْهُمْ
وَمَنْ لَمْ يُحْصِنْ } .
خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ .
وَتَصْرِيفُهُ غَرِيبٌ ؛ يُقَالُ : أَحْصَنَ الرَّجُلُ
فَهُوَ مُحْصَنٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي
اسْمِ الْفَاعِلِ ، وَأَسْهَبَ فِي الْكَلَامِ فَهُوَ
مُسْهَبٌ إذَا أَطَالَ الْقَوْلَ فِيهِ ، وَأَلْفَجَ فَهُوَ مُلْفَجٌ إذْ كَانَ
عَدِيمًا ، وَلَا رَابِعَ لَهَا
.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي إشْكَالِهَا : قَالَ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَعْلَمُهَا .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا يُفَسِّرُ
هَذِهِ الْآيَةَ لَضَرَبْت إلَيْهِ أَكْبَادَ الْإِبِلِ ، وَذَلِكَ لَا يَدْرِيهِ
إلَّا مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ ، وَتَصَدَّى لِضَمِّ مُنْتَشِرِ
الْكَلَامِ ، وَتَرْتِيبِ وَضْعِهِ ، وَحِفْظِ مَعْنَاهُ مِنْ لَفْظِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي سَرْدِ الْأَقْوَالِ :
الَّذِي تَحَصَّلَ عِنْدِي فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ
الْمُحْصَنَاتِ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ
مَسْعُودٍ ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرُهُمْ .
وَقَالَهُ مَالِكٌ وَاخْتَارَهُ .
الثَّانِي : ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ؛
قَالَهُ عَلِيٌّ وَأَنَسٌ وَغَيْرُهُمَا .
الثَّالِثُ : مِنْ جَمِيعِ النِّسَاءِ الْأَرْبَعِ
اللَّوَاتِي حَلَلْنَ لَهُ ؛ قَالَهُ عُبَيْدَةُ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُنَّ جَمِيعُ النِّسَاءِ عَلَى
الْإِطْلَاقِ ؛ قَالَهُ طَاوُسٌ وَغَيْرُهُ .
الْخَامِسُ : الْمَعْنَى لَا تَنْكِحُ الْمَرْأَةُ
زَوْجَيْنِ .
السَّادِسُ :
أَنَّ الْمُحْصَنَاتِ الْحَرَائِرُ ؛ قَالَهُ عُرْوَةُ
وَابْنُ شِهَابٍ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي سَرْدِ الْأَقْوَالِ فِي
قَوْلِهِ : { إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ :
قَالُوا : بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقَهَا ؛ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأُبَيُّ ،
وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ .
وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : طَلَاقُ
الْأَمَةِ سِتَّةٌ : بَيْعُهَا وَعِتْقُهَا وَهِبَتُهَا وَمِيرَاثُهَا وَطَلَاقُ
زَوْجِهَا ، زَادَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ
: وَانْتِزَاعُ سَيِّدِهَا لَهَا مِنْ مِلْكِ زَوْجِهَا
عَبْدَهُ .
الثَّانِي : يَعْنِي بِهِ الْمَرْأَةَ الْحَرْبِيَّةَ
إذَا سُبِيَتْ ؛ فَإِنَّ السِّبَاءَ يَفْسَخُ النِّكَاحَ .
الثَّالِثُ : قَوْلُهُ : { إلَّا مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ } إلَّا
الْإِمَاءُ وَالْأَزْوَاجُ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ طَاوُسٍ
؛ وَقَالَ : زَوْجُكَ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فِي تَنْزِيلِ
الْأَقْوَالِ وَتَقْدِيرِهَا : أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُنَّ ذَوَاتُ
الْأَزْوَاجِ ؛ فَذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ عَلَى قِسْمَيْنِ : مُسْلِمَاتٌ
وَكَافِرَاتٌ ، وَالْمُسْلِمَاتُ عَلَى قِسْمَيْنِ : حَرَائِرُ وَإِمَاءٌ ، فَيَعُمُّهُنَّ
التَّحْرِيمُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ، وَيَرْجِعُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ
: { إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } إلَى بَعْضِهِنَّ وَهُنَّ الْإِمَاءُ ،
أَوْ إلَى بَعْضِ الْبَعْضِ وَهُنَّ الْمَسْبِيَّاتُ ؛ فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِمَاءِ
جُمْلَةً فَعَلَيْهِ يَتَرَكَّبُ أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ فِرَاقٌ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْمَسْبِيَّاتِ وَفِيهِ
وَرَدَتْ الْآيَةُ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ : حَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ كُلَّ ذَاتِ
زَوْجٍ ، إلَّا مَنْ سَبَيْتُمْ
.
وَعَلَى أَنَّهُنَّ جَمِيعَ الْإِمَاءِ يَكُونُ
التَّقْدِيرُ : حَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ كُلَّ ذَاتِ زَوْجٍ إلَّا مَا مَلَكْتُمْ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُنَّ جَمِيعُ النِّسَاءِ
فَيَكُونُ تَنْزِيلُ الْآيَةِ عِنْدَهُ : حَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ مَنْ تَقَدَّمَ
تَحْرِيمًا مُدَبَّرًا ، وَحَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ جَمِيعَ النِّسَاءِ إلَّا
بِمِلْكِ نِكَاحٍ أَوْ شِرَاءٍ ، وَكُلُّهُنَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُنَّ جَمِيعُ النِّسَاءِ
إلَّا أَرْبَعٌ فَدَعْوَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ الْآيَةِ
الْأُولَى فِي ابْتِدَاءِ السُّورَةِ فِي الْأَرْبَعِ ؛ فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ
تَعَذَّرَ ذَلِكَ لَهُ لَفْظًا وَبَطَل مَعْنًى ، عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ مُقَدَّرٌ بِنَوْعٍ وَنَحْوٍ مِمَّا
تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُنَّ الْحَرَائِرُ فَيَكُونُ
تَقْدِيرُ الْآيَةِ : وَحَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ الْحَرَائِرَ مِنْ النِّسَاءِ ،
وَأَحْلَلْنَا لَكُمْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى
الْأَقْوَالِ : أَمَّا مَنْ خَصَّصَهَا فِي بَعْضِ النِّسَاءِ فَيُعْتَرَضُ
عَلَيْهِ أَنَّ الْبَعْضَ يَبْقَى حِلًّا ، وَالْآيَةُ
إنَّمَا جَاءَتْ لِبَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُحَلَّلَاتِ
مِنْهُنَّ ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْ الْأَزْوَاجِ لَهُ مِنْ الْحَرَائِرِ أَوْ مِنْ
الْمُسْلِمَاتِ ، أَوْ كُلُّ تَأْوِيلٍ يَقْتَضِي بَقَاءَ بَعْضِهِنَّ فَذَلِكَ
بَعِيدٌ فِي التَّأْوِيلِ مُفَسِّرٌ لِلتَّنْزِيلِ .
وَأَمَّا مَنْ عَمَّمَ جَمِيعَ الْمَسَائِلِ إلَّا
الْأَرْبَعَ فَمَبْنِيٌّ عَلَى دَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا .
وَأَمَّا مَنْ عَمَّمَ فِي الْكُلِّ فَهُوَ الصَّحِيحُ ،
وَيَقَعُ الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ : { إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } فِي
الْإِمَاءِ أَوْ فِي الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ ؛ وَهَذَا مَوْضِعُ الْإِشْكَالِ
الْعَظِيمِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فِي الْمُخْتَارِ :
وَهَذَا الْمُشْكِلُ هُوَ الَّذِي مِلْنَا إلَيْهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ، وَذَلِكَ
أَنَّ مَنْ قَالَ : إنَّ قَوْلَهُ : { إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } رَاجِعٌ
إلَى الشِّرَاءِ وَالنِّكَاحِ فَيُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ
} ، فَقَدْ مَيَّزَ بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ يُطْلِقْ قَطُّ أَحَدٌ مِنْ أَرْبَابِ
الشَّرِيعَةِ عَلَى الْحُرَّةِ فِي مِلْكِ النِّكَاحِ بِأَنَّهَا مِلْكُ
الْيَمِينِ فَإِنَّهَا تَمْلِكُ مِنْهُ مَا يَمْلِكُ مِنْهَا ، أَمَّا إنَّهُ لَهُ
عَلَيْهَا دَرَجَةٌ ، وَلَكِنْ نَقُولُ
: إنَّ قَوْلَهُ : { إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }
يَرْجِعُ إلَى الْإِمَاءِ ، وَقَوْلَهُ : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } يَرْجِعُ إلَى
مَنْ عَدَا الْمَنْصُوصِ عَلَى تَحْرِيمِهِنَّ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا فِي الْإِمَاءِ
كُلِّهِنَّ ، فَإِنَّ مِلْكَ الْأَمَةَ الْمُتَجَدِّدِ عَلَى النِّكَاحِ
يُبْطِلُهُ ، فَمَوْضِعُ إشْكَالٍ عَظِيمٍ ، وَلِأَجْلِهِ تَرَدَّدَ فِيهِ
أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْدَ أَنَّ الظَّاهِرَ
أَنَّ مِلْكًا مُتَجَدِّدًا لَا يُبْطِلُ نِكَاحًا مُتَأَكَّدًا ، وَلَوْ أَنَّهُ
مَلَّكَ مَنْفَعَةَ رَقَبَتِهَا لِرَجُلٍ بِالْإِجَارَةِ ثُمَّ يَبِيعُهَا مَا أَبْطَلَ
الْمِلْكُ الْمُتَجَدِّدُ مِلْكَ مَنْفَعَةِ الرَّقَبَةِ ؛ فَمِلْكُ مَنْفَعَةِ
الْبُضْعِ أَوْلَى أَنْ يَبْقَى ، فَإِنَّ أَحَقَّ
الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا اُسْتُحِلَّتْ بِهِ
الْفُرُوجُ ، فَعَقْدُ الْفَرْجِ نَفْسِهِ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ بِهِ مِنْ عَقْدِ
مَنْفَعَةِ الرَّقَبَةِ .
وَاَلَّذِي يَقْطَعُ الْعُذْرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَ بَرِيرَةَ وَلَمْ يَجْعَلْ مَا طَرَأَ مِنْ الْعِتْقِ
عَلَيْهَا ، وَلَا مَا مَلَكَتْ مِنْ نَفْسِهَا ، مُبْطِلًا لِنِكَاحِ زَوْجِهَا ،
وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ كُلُّ مِلْكٍ مُتَجَدِّدٍ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَفِيمَا
أَشَرْنَا إلَيْهِ هَاهُنَا مِنْ الْأَثَرِ وَالْمَعْنَى كِفَايَةٌ لِمَنْ سَدَّدَ
النَّظَرَ ، فَوَضَحَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ الْجَمِيعُ ، وَأَنَّ الْمُرَادَ
بِمِلْكِ الْيَمِينِ السَّبْيُ الَّذِي نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي بَيَانِهِ .
وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْأَرْبَعِ فَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَأُحِلَّ
لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ }
: هَذَا عُمُومٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِمَّنْ نَفَاهُ
وَمِمَّنْ أَثْبَتَهُ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَدَّدَ الْمُحَرَّمَاتِ
، ثُمَّ قَالَ : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } ؛ فَاخْتَلَفَ
النَّاسُ فِي الْمُرَادِ بِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ :
الْمُرَادُ بِهِ مَنْ عَدَا الْقَرَابَةِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَاتِ .
الثَّانِي : مَا دُونَ الْأَرْبَعِ .
الثَّالِثُ : مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : عَجَبًا لِلْأَوَائِلِ
كُلِّفُوا فَهَرَفُوا ؛ نَظَرُوا إلَى السُّدِّيِّ يَقُولُ : { وَأُحِلَّ لَكُمْ
مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } يَعْنِي مَا دُونَ الْأَرْبَعِ ، وَكَمْ حَرَامٍ بَعْدَ هَذَا
، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ فِيمَا زَادَ عَلَى
الْأَرْبَعِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَطَاءٍ : إنَّهُ فِيمَا زَادَ عَلَى
الْقَرَابَةِ ، وَبَقِيَ الْأَجَانِبُ غَيْرَ مُبَيَّنَاتٍ ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ
قَتَادَةَ ؛ بَلْ أَضْعَفُ ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ التَّحْلِيلَ إلَى الْإِمَاءِ
خَاصَّةً .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : اعْلَمُوا
وَفَّقَكُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَأْتِ
دَفْعَةً ، وَلَا وَقَعَ الْبَيَانُ فِي تَفْصِيلِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ؛
وَإِنَّمَا جَاءَ نُجُومًا وَشُذِّرَ شُذُورًا لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ وَحِكْمَةٍ
بَالِغَةٍ ؛ فَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَذَكَرَ الْمُحَرَّمَاتِ مَعْدُودَاتٍ
مَشْرُوحَاتٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَكِنَّهُ فَرَّقَهَا عَلَى السُّوَرِ
وَالْآيَاتِ ، وَقَسَّمَهَا عَلَى الْحَالَاتِ وَالْأَوْقَاتِ ؛ فَاجْتَمَعَتْ الْعُلَمَاءُ
وَكَمُلَتْ فِي الدِّينِ ، كَمَا كَمُلَ جَمِيعُهُ وَاسْتَوْثَقَ وَانْتَظَمَ
وَاتَّسَقَ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا
يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ } .
وَقَدْ بَلَغَ الْعُلَمَاءُ الْأَسْبَابَ الْمُبِيحَةَ
لِلدَّمِ إلَى عَشَرَةٍ يَأْتِي ذِكْرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى .
وَعَدَدُ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الشَّرِيعَةِ عِنْدَنَا
حَسْبَمَا رَتَّبْنَا مِنْ الْأَدِلَّةِ فِي هَذَا
الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ مِنْ النِّسَاءِ أَرْبَعُونَ
امْرَأَةً ، مِنْهُنَّ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ حُرِّمْنَ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا ،
وَمِنْهُنَّ سِتَّ عَشْرَةَ تَحْرِيمُهُنَّ لِعَارِضٍ .
فَأَمَّا الْأَرْبَعُ وَالْعِشْرُونَ فَهُنَّ : الْأُمُّ
، الْبِنْتُ ، الْأُخْتُ ، الْعَمَّةُ ، الْخَالَةُ ، بِنْتُ الْأَخِ ، بِنْتُ
الْأُخْتِ ، فَهَؤُلَاءِ سَبْعٌ
.
وَمِنْ الرَّضَاعِ مِثْلُهُنَّ بِالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ
الْأُمَّةِ ، كَمُلْنَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ ، وَحَلِيلَةُ الْأَبِ ، وَحَلِيلَةُ
الِابْنِ ، وَأُمُّ الزَّوْجَةِ ، وَرَبِيبَةُ الزَّوْجَةِ ، الْمَدْخُولِ بِهَا .
وَمِنْ الْجَمْعِ ثَلَاثٌ ؛ وَهُنَّ الْأُخْتَانِ
بِنَصِّ الْقُرْآنِ ، وَالْمَرْأَةُ وَعَمَّتُهَا ، وَالْمَرْأَةُ وَخَالَتُهَا ،
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَانِهِ ، وَكَذَلِكَ الْمُلَاعَنَةُ
سَنَةً ، وَالْمَنْكُوحَةُ فِي الْعِدَّةِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فِي قَضَاءِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَزَوْجَاتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَدْ سَقَطَ هَذَا الْوَجْهُ بِمَوْتِهِنَّ .
وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ لِعَارِضٍ فَهُنَّ : الْخَامِسَةُ ،
وَالْمُزَوَّجَةُ ، وَالْمُعْتَدَّةُ ، وَالْمُسْتَبْرَأَة ، وَالْحَامِلُ ،
وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا ، وَالْمُشْرِكَةُ ، وَالْأَمَةُ الْكَافِرَةُ ،
وَالْأَمَةُ الْمُسْلِمَةُ لِوَاجِدِ الطُّولِ ؛ وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى ، وَأَمَةُ الِابْنِ ، وَالْمُحَرَّمَةُ ، وَالْمَرِيضَةُ ،
وَمَنْ كَانَ ذَا مَحْرَمٍ مِنْ زَوْجِهِ اللَّاتِي لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ
بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَهَا ، وَالْيَتِيمَةُ الصَّغِيرَةُ ، وَالْمَنْكُوحَةُ عِنْدَ
النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ؛ وَالْمَنْكُوحَةُ عِنْدَ الْخُطْبَةِ بَعْدَ
التَّرَاكُنِ .
فَأَمَّا السَّبْعَ عَشْرَةَ مِنْهُنَّ فَدَلِيلُهُنَّ
ظَاهِرٌ .
وَأَمَّا الْمُلَاعَنَةُ فَمُخْتَلَفٌ فِيهَا ؛ قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ تَحْرِيمُهَا مُؤَبَّدًا فَإِنَّهُ إذَا أَكْذَبَ
نَفْسَهُ حَلَّ لَهُ رَجْعَتُهَا ، وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ فُرْقَةَ اللِّعَانِ
طَلَاقٌ ؛ لِأَجْلِ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِلَفْظِ الزَّوْجِ كَالطَّلَاقِ ، مُفْتَقِرَةٌ
إلَى الْحَاكِمِ كَطَلَاقِ الْعِنِّينِ ، وَلِأَنَّهُ
سَبَبٌ أَوْجَبَهُ اللِّعَانُ ، فَزَالَ بِالتَّكْذِيبِ
؛ فَنُفِيَ بِلِعَانِهِ وَيَعُودُ بِتَكْذِيبِهِ .
وَالنُّكْتَةُ الْعُظْمَى لَهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا :
أَوْجَبَ حُرْمَةً لَأَوْجَدَ مَحْرَمِيَّةً كَالرِّضَاعِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَعَانِي لَهُمْ ، وَالنَّظَائِرُ
وَالْأُصُولُ مَعَهُمْ ، وَلَيْسَ لَنَا نَحْنُ إلَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ .
لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا .
قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَالِي ؟ قَالَ : لَا
مَالَ لَكَ .
إنْ كُنْت صَدَقْت عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْت
مِنْ فَرْجِهَا ، وَإِنْ كُنْت كَذَبْت عَلَيْهَا فَذَلِكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا } .
وَأَمَّا الْمَنْكُوحَةُ فِي الْعِدَّةِ فَهُوَ
النَّظَرُ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مُحَرَّمًا قَبْلَ حِلِّهِ
فَحَرَّمَهُ أَبَدًا ؛ كَالْقَاتِلِ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الْمِيرَاثِ ،
وَالْمُسْتَبْرَأَة مُعْتَدَّةٌ ، الْعِلَّةُ وَاحِدَةٌ ، وَالْمَحِلُّ وَاحِدٌ ،
وَالسَّبَبُ وَاحِدٌ ؛ فَلَمَّا اتَّحَدَا اتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالْحَامِلُ
أَوْقَعُ ، وَالدَّلِيلُ فِيهَا الْجَمْعُ ، وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا
قُرْآنِيَّةً ، وَكَذَلِكَ الْمُشْرِكَةُ ، وَالْأَمَتَانِ تَأْتِيَانِ
مُبَيِّنَتَيْنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
.
وَأَمَّا أَمَةُ الِابْنِ فَكُلُّ مُحَرَّمٍ فِي كِتَابِ
اللَّهِ مِمَّا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَإِنَّ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ عَامٌّ فِي
النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ ، فَدَخَلَ فِيهِ تَحْرِيمُ مِلْكِ الْيَمِينِ ،
وَأَمَةُ الِابْنِ مِنْ حَلَائِلِ الِابْنِ لَفْظًا ، أَوْ مَعْنًى وَلَفْظًا ،
أَوْ مَعْنًى مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ ، وَالْكُلُّ فِي اقْتِضَاءِ التَّحْرِيمِ
دَرَجَاتٌ ، وَلَهُ مُقْتَضَيَاتٌ ؛ وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ دَخَلَ فِيهِ
الْجَمْعُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِمَا بَيَّنَّاهُ .
وَأَمَّا الْمُحَرَّمَةُ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَالْبُخَارِيُّ وَجَمَاعَةٌ : نِكَاحُ الْمُحَرَّمِ جَائِزٌ بِالْعَقْدِ دُونَ
الْوَطْءِ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ ، وَلَا
عُمْدَةَ لَهُمَا فِيهِ إلَّا حَدِيثُ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ ، خَرَّجَهُ مَالِكٌ :
{ لَا
يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ ، وَلَا يُنْكَحُ } .
وَضَعَّفَ الْبُخَارِيُّ نُبَيْهَ بْنَ وَهْبٍ ،
وَتَعْدِيلُ مَالِكٍ وَعِلْمُهُ بِهِ أَقْوَى مِنْ عِلْمِ كُلٍّ بُخَارِيٍّ
وَحِجَازِيٍّ ، فَلَا يُلْتَفَتُ لِغَيْرِهِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ فِي { مَيْمُونَةَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا مُحْرِمًا } ،
فَعَجَبًا لِلْبُخَارِيِّ يُدْخِلُهُ مَعَ عَظِيمِ الْخِلَافِ فِيهِ وَيَتْرُكُ
أَمْثَالَهُ ، وَلَا يُعَارَضُ حَدِيثُ نُبَيْهِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ
مَيْمُونَةَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ
.
وَالْمَسْأَلَةُ عَظِيمَةٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي
مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَأَمَّا نِكَاحُ الْمَرِيضِ فَمِنْ مَسَائِلِ
الْخِلَافِ ؛ وَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ ؛
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ ؛ وَكَذَلِكَ الْيَتِيمَةُ الصَّغِيرَةُ لَا
تُزَوَّجَ بِحَالٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُزَوِّجُهَا
وَلِيُّهَا ، وَلَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ ؛ فَأَفْسَدَ مَا بَنَى وَجَعَلَ
حَلًّا مُتَرَقَّبًا ، وَهِيَ طُيُولِيَّةٌ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي التَّلْخِيصِ
وَغَيْرِهِ .
فَهَذِهِ جُمَلٌ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ ثَبَتَتْ فِي
الشَّرِيعَةِ بِأَدِلَّتِهَا وَخُصَّتْ مِنْ قَوْلِهِ : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا
وَرَاءَ ذَلِكُمْ } .
وَتَرَكَّبَ عَلَى هَذَا مَا إذَا زَنَى بِامْرَأَةٍ ،
هَلْ يُثْبِتُ زِنَاهُ حُرْمَةً فِي فُرُوعِهَا وَأُصُولِهَا ؟ عَنْ مَالِكٍ فِي
ذَلِكَ رِوَايَتَانِ وَدَعْ مَنْ رَوَى ، وَمَا رُوِيَ .
أَقَامَ مَالِكٌ عُمْرَهُ كُلَّهُ يَقْرَأُ عَلَيْهِ
الْمُوَطَّأَ وَيَقْرَأَهُ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِيهِ : إنَّ الْحَرَامَ لَا
يُحَرِّمُ الْحَلَالَ ، وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ ، وَقَدْ بَيِّنَاهَا فِي
مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { أَنْ
تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } : يَعْنِي بِالنِّكَاحِ أَوْ بِالشِّرَاءِ ،
فَأَبَاحَ اللَّهُ الْحَكِيمُ الْفُرُوجَ بِالْأَمْوَالِ وَالْإِحْصَانِ دُونَ
السِّفَاحِ وَهُوَ الزِّنَا ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الصَّدَاقِ فِي
النِّكَاحِ ، لَكِنْ رُخِّصَ فِي جَوَازِ السُّكُوتِ عَنْهُ عِنْدَ الْعَقْدِ
كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّفْوِيضِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ
هُنَالِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ عَشْرَةَ : قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
: { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } مُطْلَقًا ، فَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ
بِهَذَا الْإِطْلَاقِ فِي جَوَازِ الصَّدَاقِ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ ،
وَعَضَّدَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ الْمَوْهُوبَةِ فِي الصَّحِيحِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ } .
وَلَنَا فِيهِ طُرُقٌ ؛ أَقْوَاهَا أَنَّ اللَّهَ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ اسْتِبَاحَةَ هَذَا الْعُضْوِ وَهُوَ
الْبُضْعُ إلَّا بِبَدَلٍ وَجَبَ أَنْ يَتَقَرَّرَ ذَلِكَ الْبَدَلُ ؛ بَيَانًا
لِخَطَرِهِ وَتَحْقِيقًا لِشَرَفِهِ ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى
؛ وَحُقُوقُ اللَّهِ مُقَدَّرَةٌ كَالشَّهَادَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالزَّكَاةِ
وَ [ نُصُبِ
] السَّرِقَةِ وَالدِّيَاتِ .
وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ؛
فَوَجَبَ أَنْ يَتَخَصَّصَ هَذَا الْإِطْلَاقُ بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ ، لَا
سِيَّمَا وَمَسَاقُ هَذَا اللَّفْظِ إيجَابُ الْبَدَلِ ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ
الْإِشَارَةَ بِعُمُومِهِ .
فَأَمَّا حَدِيثُ خَاتَمِ الْحَدِيدِ فَخَاتَمٌ فِي
الْعُرْفِ يَتَزَيَّنُ بِهِ ، قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ رُبْعِ دِينَارٍ ، وَهَذَا
ظَاهِرٌ ؛ فَتَأَمَّلْ تَحْقِيقَهُ فِي مَوْضِعِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : لَمَّا أَمَرَ
اللَّهُ تَعَالَى بِالنِّكَاحِ بِالْأَمْوَالِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْذُلَ فِيهِ
مَا لَيْسَ بِمَالٍ ، وَتَحْقِيقُ الْمَالِ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَطْمَاعُ ،
وَيُعْتَدُّ لِلِانْتِفَاعِ ، هَذَا رَسْمُهُ فِي الْجُمْلَةِ ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ .
وَتَحْقِيقُ بَيَانِهِ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
أَنَّ مَنْفَعَةَ الرَّقَبَةِ فِي الْإِجَارَةِ مَالٌ ،
وَأَنَّ مَنْفَعَةَ التَّعْلِيمِ لِلْعِلْمِ كُلِّهِ مَالٌ ، وَفِي جَوَازِ
كَوْنِهِ صَادِقًا كَلَامٌ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَمَّا عِتْقُ الْأَمَةِ فَلَيْسَ بِمَالٍ .
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : هُوَ مَالٌ يَجُوزُ
النِّكَاحُ بِمِثْلِهِ ، لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جَعَلَهُ صَدَاقًا فِي نِكَاحِهِ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ فَإِنَّهُ
أَعْتَقَهَا بِتَزَوُّجِهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا } ، رَوَاهُ أَنَسٌ فِي
الصَّحِيحِ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصًا فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ بِخَصَائِصَ ، وَمِنْ
جُمْلَتِهَا أَنَّهُ كَانَ يَنْكِحُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا صَدَاقٍ ، فَإِنَّهُ
كَانَ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَقَدْ أَرَادَ زَيْنَبَ
فَحُرِّمَتْ عَلَى زَيْدٍ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِمِثْلِ هَذَا .
وَقَدْ حَقَّقْنَا خَصَائِصَهُ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ
، وَقَدْ عَضَّدَ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنْ قَالُوا : إنَّ قَوْلَهُ : { فَإِنْ
طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } ؛
وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعِتْقِ ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ
الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { مُحْصِنِينَ }
: قَالَ بَعْضُ الْغَافِلِينَ : إنَّ قَوْلَهُ : { مُحْصِنِينَ } يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
حَالًا مِنْ النِّسَاءِ ، كَأَنَّهُ يُرِيدُ ابْتَغُوهُنَّ غَيْرَ زَانِيَاتٍ ،
وَلَوْ أَرَادَ كَوْنَهَا حَالًا لِلنِّسَاءِ لَقَالَ : مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ
مُسَافِحَاتٍ كَمَا فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا ؛ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ :
{ مُحْصِنِينَ } حَثُّ الرِّجَالِ عَلَى حَظِّهِمْ الْمَحْمُودِ فِيمَا أُبِيحَ
لَهُمْ مِنْ الْإِحْصَانِ دُونَ السِّفَاحِ ؛ قِيلَ لَهُمْ : ابْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ
نِكَاحًا لَا سِفَاحًا ، وَالسِّفَاحُ اسْمُ الزِّنَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } : يَعْنِي غَيْرَ زَانِينَ ، وَالسِّفَاحُ اسْمٌ لِلزِّنَا ،
سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يَسْفَحُ الْمَاءَ أَيْ يَصُبَّهُ ، وَالسَّفْحُ الصَّبُّ
، وَالنِّكَاحُ سِفَاحٌ اشْتِقَاقًا ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْجَمْعُ
وَالضَّمُّ ، وَصَبُّ الْمَاءِ ؛ وَلَكِنَّ الشَّرِيعَةَ وَاللُّغَةَ خَصَّصَتْ
كُلَّ وَاحِدٍ بِاسْمٍ مِنْ مَعْنَى مُطْلَقِهِ ؛ لِلتَّعْرِيفِ بِهِ عَلَى
عَادَتِهَا فِيمَا تُطْلِقُهُ مِنْ بَعْضِ أَلْفَاظِهَا عَلَى الْمَعَانِي
الْمُشْتَرَكَةِ فِيهَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ } : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا :
أَنَّهُ أَرَادَ اسْتِمْتَاعَ النِّكَاحِ الْمُطْلَقِ ؛ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ
الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَإِحْدَى رِوَايَتَيْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي
: أَنَّهُ مُتْعَةُ النِّسَاءِ بِنِكَاحِهِنَّ إلَى
أَجَلٍ ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُتْعَةِ فَقَرَأَ :
فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَاَللَّهِ لَأَنْزَلَهَا
اللَّهُ كَذَلِكَ .
وَرُوِيَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ :
أَعْطَانِي ابْنُ عَبَّاسٍ مُصْحَفًا ، وَقَالَ : هَذَا قِرَاءَةُ أُبَيٍّ ،
وَفِيهِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ ، وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنْهُمَا ؛ فَلَا
تَلْتَفِتُوا إلَيْهِ ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ
مِنْهُنَّ يَعْنِي بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ .
أَمَّا إنَّهُ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ أَنَّ الصَّدَاقَ
إذَا لَمْ يُسَمَّ فِي الْعَقْدِ وَجَبَ بِالدُّخُولِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
بَيَانُهُ فِي التَّفْوِيضِ ، وَأَمَّا مُتْعَةُ النِّسَاءِ فَهِيَ مِنْ غَرَائِبِ
الشَّرِيعَةِ ؛ لِأَنَّهَا أُبِيحَتْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ حُرِّمَتْ
يَوْمَ خَيْبَرَ ، ثُمَّ أُبِيحَتْ فِي غَزْوَةِ أَوْطَاسٍ ، ثُمَّ حُرِّمَتْ
بَعْدَ ذَلِكَ ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى التَّحْرِيمِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا
ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ بَيَانًا يَشْفِي الصُّدُورَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ }
: سَمَّاهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَجْرًا ، وَسَمَّاهُ
فِي الْآيَةِ الْأُولَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ نِحْلَةً ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا
عَلَى تِلْكَ الْآيَةِ ، وَكَانَتْ الْفَائِدَةُ بِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْبَيَانُ
لِحَالِ الصَّدَاقِ ، وَأَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ نِحْلَةٌ وَمِنْ وَجْهٍ عِوَضٌ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عِوَضٌ ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ
: النِّكَاحُ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْبُيُوعِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ
الْبُيُوعِ ، وَهُوَ وُجُوبُ الْعِوَضِ وَتَعْرِيفِهِ وَإِبْقَاؤُهُ وَرَدُّهُ
بِالْعَيْبِ وَالْقِيَامُ فِيهِ بِالشُّفْعَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
أَحْكَامِهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { فَرِيضَةً } : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْإِتْيَانِ لِيَخْلُصَ
الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْأَجْرِ ،
فَيَقْتَضِي التَّقْدِيرَ ؛ مَعْنَاهُ أَعْطُوهَا صَدَاقَهَا كَامِلًا ، وَلَا
تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ، كَمَا قَالَ : { وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا
فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا
} .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ
} : إذَا وَجَبَ الْمَهْرُ وَعُلِمَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقَعَ فِيهِ التَّرَاضِي
بَعْدَ ذَلِكَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي تَرْكِهِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ
، أَوْ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ
وَالرَّجُلِ وَهُمَا مَالِكَانِ أَمَرَهُمَا فَذَلِكَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى ظَاهِرِ
الْآيَةِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمَا مَنْ لَا يَمْلِكُ أَمْرَ نَفْسِهِ فَذَلِكَ
إلَى الْوَلِيِّ الَّذِي أَوْجَبَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ : { إلَّا أَنْ
يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } ، وَكَمَا
تُوجِبُ امْرَأَةٌ لِنَفْسِهَا صَدَاقَهَا ثُمَّ تُسْقِطُهُ ، كَذَلِكَ يُوجِبُهُ وَلِيُّهَا
لَهَا ثُمَّ يُسْقِطُهُ إذَا رَأَى ذَلِكَ مَصْلَحَةً لَهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ
.
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِيهِ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : إنَّ الزِّيَادَةَ بِالثَّمَنِ فِي
الْبَيْعِ وَبِالصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ تَلْحَقُهُمَا وَيَجْرِي مَجْرَاهُمَا
فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي يَجْرِي مَجْرَى الْهِبَاتِ ،
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ؛ وَهِيَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ مَذْكُورَةٌ .
وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ فَسْخَ
الْعَقْدِ وَتَجْدِيدِهِ صَرِيحًا فَمَلَكَاهُ عَنْهُمَا ، وَلَهُمَا أَنْ
يَتَصَرَّفَا فِيهِ كَيْفَ شَاءَا
.
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ
فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي حِكْمَةِ الْآيَةِ : اُنْظُرُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ
إلَى مُرَاعَاةِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ لِمَصَالِحِنَا وَحُسْنِ تَقْدِيرِهِ فِي تَدْبِيرِهِ
لِأَحْكَامِنَا ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ضَرَبَ الرِّقَّ عَلَى الْخَلْقِ
عُقُوبَةً لِلْجَانِي وَخِدْمَةً لِلْمَعْصُومِ ، وَعَلِمَ أَنَّ الْعَلَّاقَةَ
قَدْ تَنْتَظِمُ بِالرِّقِّ فِي بَابِ الشَّهْوَةِ الَّتِي رَتَّبَهَا جِبِلَّةً ،
وَرَتَّبَ النِّكَاحَ عَلَيْهَا فِي اتِّحَادِ الْقُرُونِ وَتَرْتِيبِ النَّظَرِ ،
وَشَرَّفَهُ لِشَرَفِ فَائِدَتِهِ وَمَقْصُودِهِ مِنْ وُجُودِ الْآدَمِيِّ
عَلَيْهِ صَانَ عَنْهُ مَحِلَّ الْمَمْلُوكِيَّةِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ فِيهَا سَبَبَ الْحِلِّ وَطَرِيقَ التَّحْرِيمِ ،
وَالِاسْتِمْتَاعُ يَكْفِي .
الثَّانِي : وَهُوَ الْمَقْصُودُ صِيَانَةُ النُّطْفَةِ
عَنْ التَّصْوِيرِ بِصُورَةِ الْإِرْقَاقِ .
الثَّالِثُ :
صِيَانَةٌ لِعَقْدِ النِّكَاحِ حِينَ كَثَّرَ شُرُوطَهُ
، وَأَعْلَى دَرَجَتَهُ ، وَكَمَّلَ صِفَتَهُ ؛ وَقَدْ كَانَ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ
أَنَّ أَحْوَالَ الْخَلْقِ سَتَسْتَقِيمُ بِقِسْمَتِهِ إلَى ضِيقٍ وَسَعَةٍ وَضَرُورَةٍ
أَذِنَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ لِلْحُرِّ فِي تَعْرِيضِ نُطْفَتِهِ لِلْإِرْقَاقِ
، لِئَلَّا يَكُونَ مُرَاعَاةَ أَمْرٍ مَوْهُومٍ يُؤَدِّي إلَى فَسَادِ حَالٍ
مُتَوَقَّعَةٍ ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنَّ الْهَوَى يُجِيزُ
نِكَاحَ الْإِمَاءِ ، وَهَذَا مُنْتَهَى نَظَرُ الْمُحَقِّقِينَ فِي مُطَالَعَةِ
الْأَحْكَامِ مِنْ بَحْرِ الشَّرْعِ وَسَاحِلِ الْعَقْلِ ؛ فَاِتَّخَذُوهَا
مُقَدِّمَةً لِكُلِّ مَسْأَلَةٍ تَتَعَلَّقُ بِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي فَهْمِ سِيَاقِ الْآيَةِ :
اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي
سِيَاقِ هَذِهِ الْآيَةِ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهَا سِيقَتْ مَسَاقَ
الرُّخَصِ ،
كَقَوْلِهِ
: { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ
} وَقَوْلِهِ : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } وَنَحْوُهُ .
فَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تُلْحَقَ
بِالرُّخَصِ الَّتِي تَكُونُ مَقْرُونَةً بِأَحْوَالِ الْحَاجَةِ وَأَوْقَاتِهَا ،
وَلَا يَسْتَرْسِلُ فِي الْجَوَازِ اسْتِرْسَالَ الْعَزَائِمِ ؛ وَإِلَى هَذَا
مَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَاخْتَارَهُ مَالِكٌ ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ
جَعَلَهَا أَصْلًا ، وَجَوَّزَ نِكَاحَ الْأَمَةِ مُطْلَقًا ، وَمَالَ إلَيْهِ
أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَدْ جَهِلَ مَسَاقَ الْآيَةِ مَنْ ظَنَّ هَذَا فَقَدْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُبَحْ نِكَاحُ الْأَمَةِ
إلَّا بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا عَدَمُ الطَّوْلِ ، وَالثَّانِي خَوْفُ
الْعَنَتِ ؛ فَجَاءَ بِهِ شَرْطًا عَلَى شَرْطٍ ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَرَائِرَ مِنْ
الْمُؤْمِنَاتِ وَالْحَرَائِرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ذِكْرًا مُطْلَقًا ؛
فَلَمَّا ذَكَرَ الْإِمَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ ذَكَرَهَا ذِكْرًا مَشْرُوطًا
مُؤَكَّدًا مَرْبُوطًا .
فَإِنْ قِيلَ
: حَلَّقْتُمْ عَلَى دَلِيلِ الْخِطَابِ بِأَلْفَاظٍ
هَائِلَةٍ ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ
فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ وَصْفًا أَوْ وَصْفَيْنِ فَأَرَدْتُمْ أَنْ يَكُونَ
الْآخَرُ بِخِلَافِهِ ، وَهَذَا دَلِيلُ الْخِطَابِ الَّذِي نَازَعْنَاكُمْ فِيهِ مُذْ
كُنَّا وَكُنْتُمْ .
فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا :
أَنَّا نَقُولُ : دَلِيلُ الْخِطَابِ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِنَا ، وَقَدْ دَلَّلْنَا
عَلَيْهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَحَقَّقْنَاهُ تَحْقِيقًا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ
، وَمَنْ أَرَادَ دَرَاهُ .
الثَّانِي :
أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ مَسُوقَةً مَسَاقَ
دَلِيلِ الْخِطَابِ كَمَا بَيَّنَّا ؛ وَإِنَّمَا هِيَ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ
الْإِبْدَالِ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تَكُونُ مَسُوقَةً مَسَاقَ شِبْهِ دَلِيلِ
الْخِطَابِ لَوْ قُلْنَا : انْكِحُوا الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ بِطَوْلٍ
وَعِنْدَ خَوْفِ عَنَتٍ ، فَأَمَّا وَقَدْ قَالَ : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ
} ؛ فَقَرَنَهُ بِالْقُدْرَةِ الَّتِي رَتَّبَ عَلَيْهَا الْإِبْدَالَ فِي
الشَّرِيعَةِ وَأَدْخَلَهَا فِي بَابِهَا
بِعِبَارَتِهَا وَمَعْنَاهَا لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ
يُخْرِجَهَا عَنْهَا ، فَلَيْسَ لِرَجُلٍ حَكَمَهُ اللَّهُ وَاضِعٌ .
وَمِنْ غَرِيبِ دَلِيلِ الْخِطَابِ أَنَّ الْبَارِي
تَعَالَى قَدْ يَخُصُّ الْوَصْفَ بِالذَّكَرِ لِلتَّنْبِيهِ ، وَقَدْ يَخُصُّهُ
بِالْعُرْفِ ، وَقَدْ يَخُصُّهُ بِاتِّفَاقِ الْحَالِ ، فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى : { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا
أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ } فَإِنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى حَالَةِ
الْإِثْرَاءِ ، وَخَصَّ حَالَةَ الْإِمْلَاقِ بِالنَّهْيِ ؛ لِأَنَّهَا هِيَ
الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَرَّضَ الْأَبُ لَقَتْلِ الِابْنِ فِيهَا .
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا
أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } خَصَّ حَالَةَ الْإِكْثَارِ وَالْإِثْرَاءِ الَّتِي
تَتَعَلَّقُ بِهَا النُّفُوسُ بِالنَّهْيِ ؛ فَأَمَّا إذَا وَقَعَ شَرْطٌ
بِقُدْرَةٍ فَهُوَ نَصٌّ فِي الْبَدَلِيَّةِ وَالرُّخْصَةِ ، وَإِنْ وَقَعَ
بِتَنْبِيهٍ مَقْرُونًا بِحَالَةٍ أَوْ عَادَةً كَانَ ظَاهِرًا ، كَقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا
لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ } .
وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ،
وَبَيَّنَّا أَنَّ خَمْسَةً مِنْ الْأَدِلَّةِ تَقْتَضِي فِي الْمَعْنَى أَنَّ
نِكَاحَ الْأَمَةِ رُخْصَةٌ ، فَلَمَّا انْتَهَى النَّظَرُ إلَى هَذَا الْمَقَامِ
، وَرَأَى الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ نِكَاحَ
الْأَمَةِ رُخْصَةٌ ، وَأَنَّهُ مَشْرُوطٌ بَعْدَ الطَّوْلِ تَحَكَّمَ فِي
الطَّوْلِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فَقَالَ : إنَّ الطَّوْلَ هُوَ
وُجُودُ الْحُرَّةِ تَحْتَهُ ، فَإِذَا كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَهُوَ ذُو
طَوْلٍ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ ، هَذَا تَأْوِيلُ أَبِي يُوسُفَ .
وَتَحْقِيقُهُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الطَّوْلَ فِي لِسَانِ
الْعَرَبِ هُوَ الْقُدْرَةُ ، وَالنِّكَاحُ هُوَ الْوَطْءُ حَقِيقَةً ،
فَمَعْنَاهُ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَطَأَ حُرَّةً فَلْيَتَزَوَّجْ أَمَةً ،
وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةً فِي الَّذِي تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَلَا يُنْقَلُ إلَى
الْمَجَازِ إلَّا بِدَلِيلٍ .
أَجَابَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنْ قَالُوا : الطَّوْلُ هُوَ
الْغِنَى وَالسَّعَةُ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ
مِنْهُمْ } .
وَالنِّكَاحُ هُوَ الْعَقْدُ ، فَمَعْنَاهُ مَنْ لَمْ
يَكُنْ عِنْدَهُ صَدَاقُ حُرَّةٍ فَلْيَتَزَوَّجْ أَمَةً ، وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ
جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، وَيُعَضِّدُهُ قَوْله تَعَالَى : {
ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ } ، وَهَذَا أَقْوَى أَلْفَاظِ الْحَصْرِ
، كَقَوْلِهِ فِي شُرُوطِ الْمُتْعَةِ فِي الْحَجِّ : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ
أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } .
وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَشْتَرِطُ خَوْفَ الْعَنَتِ .
فَإِنْ قِيلَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ :
فَإِنْ قَدَرَ عَلَى طَوْلِ كِتَابِيَّةٍ هَلْ يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ ؟ قُلْنَا :
نَعَمْ ، يَتَزَوَّجُهَا .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْف هَذَا ، وَهِيَ مِثْلُ الْمُسْلِمَةِ
الْحُرَّةِ ؟ وَالْقُدْرَةُ عَلَى مِثْلِ الشَّيْءِ قُدْرَةٌ عَلَيْهِ فِي
الْحُكْمِ .
قُلْنَا : لَيْسَا مِثْلَيْنِ بِأَدِلَّةٍ لَا تُحْصَى
كَثْرَةً وَقُوَّةً ، مِنْهَا أَنَّ إمَاءَهُمْ لَمْ تَسْتَوِ فَكَيْفَ
حَرَائِرُهُمْ ؟ وَمَا لَمْ يَشْتَرِطْهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا نَشْتَرِطُهُ
نَحْنُ ، وَلَا نُلْحِقُ مُسْلِمَةً بِكَافِرَةٍ ، فَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ
مِنْ حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ بِلَا كَلَامٍ
.
فَإِنْ قِيلَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ :
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ إمَامُ الْحَنَفِيَّةِ فِي كِتَابِ "
أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " لَهُ : لَيْسَ نِكَاحُ الْأَمَةِ ضَرُورَةً ؛ لِأَنَّ
الضَّرُورَةَ مَا يُخَافُ مِنْهُ تَلَفُ النَّفْسِ أَوْ تَلَفُ عُضْوٍ ، وَلَيْسَ
فِي مَسْأَلَتِنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
.
قُلْنَا : هَذَا كَلَامُ جَاهِلٍ بِمِنْهَاجِ الشَّرْعِ
أَوْ مُتَهَكِّمٍ لَا يُبَالِي بِمَا يَرِدُ الْقَوْلُ .
نَحْنُ لَمْ نَقُلْ إنَّهُ حُكْمٌ نِيطَ بِالضَّرُورَةِ
، إنَّمَا قُلْنَا : إنَّهُ حُكْمٌ عُلِّقَ بِالرُّخْصَةِ الْمَقْرُونَةِ
بِالْحَاجَةِ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِهِ ، وَحَالَةٌ
يُعْتَبَرُ فِيهَا ، وَمَنْ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ
الَّتِي تَكُونُ مَعَهَا الرُّخْصَةُ فَلَا يُعْنَى بِالْكَلَامِ مَعَهُ ، فَإِنَّهُ
مُعَانِدٌ أَوْ جَاهِلٌ ، وَتَقْدِيرُ ذَلِكَ إتْعَابٌ لِلنَّفْسِ عِنْدَ مَنْ لَا
يَنْتَفِعُ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ :
فَإِذَا كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ ، هَلْ يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ أَمْ لَا ؟
قُلْنَا : اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا ؛ فَقَالَ مَالِكٌ : إذَا خَشِيَ
الْعَنَتَ مَعَ حُرَّةٍ وَاحْتَاجَ إلَى أُخْرَى ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى
صَدَاقِهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ ؛ وَهَكَذَا مَعَ
كُلِّ حُرَّةٍ وَكُلِّ أَمَةٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى الْأَرْبَعِ بِظَاهِرِ
الْقُرْآنِ .
وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى : إذَا تَزَوَّجَ الْأَمَةَ
عَلَى الْحُرَّةِ رُدَّ نِكَاحُهُ ؛ رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ .
وَرِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ الْأُولَى أَصَحُّ فِي
الدَّلِيلِ وَأَوْلَى ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ بِشَرْطٍ قَدْ وُجِدَ
وَكَمُلَ عَلَى الْأَمْرِ .
فَإِنْ قِيلَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ :
فَهَلْ تَكُونُ الْحُرَّةُ بِالْخِيَارِ فِي الْبَقَاءِ مَعَهَا أَوْ الْفِرَاقِ ؟
قُلْنَا : كَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَيَجِيءُ
عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ مَنْ رَضِيَ بِالسَّبَبِ الْمُحَقَّقِ رَضِيَ بِالْمُسَبَّبِ
الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ ، وَأَلَّا يَكُونَ لَهَا خِيَارٌ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ
عَلِمَتْ أَنَّ لَهُ نِكَاحَ الْأَرْبَعِ ، وَعَلِمَتْ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَقْدِرْ
عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ تَزَوَّجَ أَمَةً ، وَمَا شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهَا كَمَا شَرَطَتْ عَلَى نَفْسِهَا ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي شُرُوطِ اللَّهِ
عِلْمُهَا ، وَهَذَا غَايَةُ التَّحْقِيقِ فِي الْبَابِ وَالْإِنْصَافِ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ
فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ }
.
بِهَذَا اسْتَدَلَّ مَالِكٌ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ
الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ لَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ نِكَاحَ الْمُؤْمِنَةِ
، فَكَانَ شَرْطًا فِي نِكَاحِ الْإِمَاءِ الْإِيمَانُ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ
وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهِ .
قُلْنَا :
لَيْسَ هَذَا اسْتِدْلَالًا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ مِنْ
أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالتَّعْلِيلِ ؛ فَإِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْإِيمَانَ فِي نِكَاحِهِنَّ ، وَذِكْرُ الصِّفَةِ فِي
الْحُكْمِ تَعْلِيلٌ ، كَمَا لَوْ قَالَ : أَكْرِمُوا الْعَالِمَ وَاحْفَظُوا
الْغَرِيبَ لَكَانَ تَنْصِيصًا عَلَى الْحُكْمِ وَعَلَى عِلَّتِهِ ، وَهِيَ
الْعِلْمُ وَالْغُرْبَةُ فَيَتَعَدَّى الْإِكْرَامُ [ وَالْحِفْظُ ] لِكُلِّ
عَالَمٍ وَغَرِيبٍ ، وَلَا يَتَعَدَّى إلَى سِوَاهُمَا .
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } ؛ فَكَانَ هَذَا تَعْلِيلًا يَمْنَعُ مِنْ
النِّكَاحِ فِي الْمُشْرِكَاتِ
.
الثَّالِثُ :
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْإِيمَانُ شَرْطًا فِي الْإِحْلَالِ
وَلَا الْعِفَّةِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَانِ هَاهُنَا
الْحُرِّيَّةُ .
الرَّابِعُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ
الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } فَلْيَنْكِحْ الْفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ،
فَالْإِحْصَانُ هَاهُنَا فِي الْحُرِّيَّةِ قَطْعًا ، فَنَقَلْنَاهُ مِنْ حُرَّةٍ
مُؤْمِنَةٍ إلَى أَمَةٍ مُؤْمِنَةٍ ، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى : { وَطَعَامُ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } .
ثُمَّ قَالَ
: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ } يَعْنِي
حِلٌّ لَكُمْ ، { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ } حِلٌّ لَكُمْ أَيْضًا ، يُرِيدُ بِذَلِكَ الْحَرَائِرَ لَا مَعْنَى لَهُ سِوَاهُ
، فَأَفَادَتْ الْآيَةُ حِلَّ الْكِتَابِيَّةِ ، وَبَقِيَتْ الْأَمَةُ
الْكَافِرَةُ تَحْتَ التَّحْرِيمِ .
فَإِنْ قِيلَ
: فَقَدْ قَالَ : { وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ
مُشْرِكَةٍ } ، فَخَايَرَ بَيْنَهُمَا ،
وَالْمُخَايَرَةُ لَا تَكُونُ بَيْنَ ضِدَّيْنِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ
عَنْهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : لَمَّا أَكْمَلَ اللَّهُ
تَعَالَى بَيَانَ الْمُحَرَّمَاتِ الْحَاضِرَاتِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ
لِلتَّكْلِيفِ ، وَقَالَ بَعْدَهُ
: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } ، فَلَوْ
وَقَعَ هَذَا الْإِحْلَالُ بِنَصٍّ لَكَانَ مَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنْ
الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي عَدَدْنَاهَا نَسْخًا ، وَلَكِنَّهُ كَانَ عُمُومًا ،
فَجَرَى عَلَى عُمُومِهِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ فِي سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةٍ
، وَلَوْ كَانَتْ أَلْفًا مَا أَثَّرَ فِي الْعُمُومِ ، فَكَيْفَ وَهِيَ عَلَى
هَذَا الْمِقْدَارِ ؟ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ } وَهُوَ عُمُومٌ خَرَجَ مِنْهُ عَشَرَةُ أَصْنَافٍ وَبَقِيَ
تَحْتَهُ صِنْفٌ وَاحِدٌ ، وَهُمْ الْمُحَارِبُونَ ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ
فِيهِ لَا فَصَاحَةً وَلَا حِكْمَةً وَلَا دِينًا وَلَا شَرِيعَةً .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } : الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ
لَمَّا شَرَطَ الْإِيمَانَ ، وَعَلِمَ أَنَّهُ مَخْفِيٌّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ
سِوَاهُ أَحَالَ عَلَى الظَّاهِرِ فِيهِ ، وَقَالَ : { وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } فِيمَا أَضْمَرْتُمْ مِنْ الْإِيمَانِ ، كُلُّكُمْ
فِيهِ مَقْبُولٌ ، وَبِظَاهِرِهِ مَعْصُومٌ ، حَتَّى يَحْكُمَ فِيهِ الْحَكِيمُ ؛
وَلِذَلِكَ لَمَّا { جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ لَهُ : عَلَيَّ رَقَبَةٌ
وَأُرِيدُ أَنْ أُعْتِقَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ .
قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : أَيْنَ اللَّهُ ؟ قَالَتْ : فِي السَّمَاءِ .
قَالَ : مَنْ أَنَا ؟ قَالَتْ : رَسُولُ اللَّهِ .
قَالَ :
أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ } حَمْلًا عَلَى
الظَّاهِرِ مِنْ الْإِيمَانِ ، نَعَمْ وَعَلَى الظَّاهِرِ مِنْ الْأَلْفَاظِ ،
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } .
قِيلَ : مَعْنَاهُ أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ ، وَقِيلَ :
مَعْنَاهُ أَنْتُمْ الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ .
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ
الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِي الشَّرَفِ ، وَرَدَّ عَلَى الْعَرَبِ الَّتِي كَانَتْ
تُسَمِّي وَلَدَ الْأَمَةِ هَجِينًا تَعْبِيرًا لَهُ بِنُقْصَانِ مَرْتَبَةِ
أُمِّهِ ، وَهَذَا أَمْرٌ أَدْخَلَتْهُ الْيَمَنِيَّةُ عَلَى الْمُضَرِيَّةِ مِنْ حَيْثُ
لَمْ تَشْعُرْ بِجَهْلِ الْعَرَبِ وَغَفَلْتهَا ؛ فَإِنَّ إسْمَاعِيلَ ابْنُ
أَمَةٍ ، فَلَوْ كَانَتْ عَلَى بَصِيرَةٍ مَا قَبِلَتْ هَذَا التَّعْبِيرَ ،
وَإِلَيْهَا يُرْجَعُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا تَزَوَّجَ
أَمَةً ، ثُمَّ قَدَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى حُرَّةٍ فَتَزَوَّجَهَا ثَبَتَ نِكَاحُ
الْأَمَةِ وَلَمْ يَنْفَسِخْ .
وَقَالَ مَسْرُوقٌ : يَنْفَسِخُ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ أُبِيحَ
لِلضَّرُورَةِ ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ ارْتَفَعَتْ الْإِبَاحَةُ ،
وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فَلَا
يُشْتَرَطُ فِي اسْتِدَامَتِهِ ، كَالْعِدَّةِ وَالْإِحْرَامِ وَخَوْفِ الْعَنَتِ .
وَهَذَا لَا جَوَابَ عَنْهُ .
وَأَمَّا الْمَيْتَةُ فِي الضَّرُورَةِ فَتُفَارِقُ
هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا عَقْدٌ لَازِمٌ ، وَتِلْكَ إبَاحَةٌ
مُجَرَّدَةٌ .
الثَّانِي : أَنَّ هَذَا عَقْدٌ بِشُرُوطٍ ،
فَيُعْتَبَرُ بِشُرُوطِهِ ، بِخِلَافِ الْإِبَاحَةِ فِي الْمَيْتَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { فَانْكِحُوهُنَّ
بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ
مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } .
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ
إسْمَاعِيلُ الْقَاضِي : زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنَّ السَّيِّدَ إذَا
زَوَّجَ عَبْدَهُ مِنْ أَمَتِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ صَدَاقٌ ، وَكَيْفَ
يَجُوزُ هَذَا وَنِكَاحٌ بِغَيْرِ صَدَاقٍ سِفَاحٌ ؟ وَبَالَغَ فِي الرَّدِّ ،
وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ نِكَاحَ كُلِّ امْرَأَةٍ ، فَقَرَنَهُ بِذَكَرِ
الصَّدَاقِ فَقَالَ فِي الْإِمَاءِ
: { فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ }
.
وَقَالَ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إذَا
آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ }
.
وَقَالَ أَيْضًا : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } ؛ فَكَيْفَ يَخْلُو عَنْهُ
عَقْدُ حُكْمِ الشَّرْعِ فِيهِ بِأَنْ يَجِبَ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ ، حَتَّى
أَنَّهُ لَوْ سَكَتَ فِي الْعَقْدِ عَنْهُ لَوَجَبَ بِالْوَطْءِ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي
إسْمَاعِيلَ هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَدْ تَعَرَّضَ
الْحَنَفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّونَ لِلرَّدِّ عَلَى إسْمَاعِيلَ ، فَرَدَّ
عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي كِتَابِ " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ "
لَهُ ، وَرَدَّ عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّبَرِيُّ الْهَرَّاسُ فِي
كِتَابِ " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " ، فَتَعَرَّضُوا لِلِارْتِقَاءِ
فِي صُفُوفِهِ بِغَيْرِ تَمْيِيزٍ
.
قَالَ الرَّازِيّ : يَجِبُ الْمَهْرُ وَيَسْقُطُ ؛ لِئَلَّا
تَكُونَ اسْتِبَاحَةُ الْبُضْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ ، وَيَسْقُطُ فِي الثَّانِي حِينَ
يَسْتَحِقُّهُ الْمَوْلَى ، لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُهُ ، وَالْمَوْلَى هُوَ
الَّذِي يَمْلِكُ مَالَهَا وَلَا يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ .
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ : إنَّ الْمَهْرَ لَوْ وَجَبَ
لَوَجَبَ لِشَخْصٍ عَلَى شَخْصٍ ، فَمَنْ الَّذِي أَوْجَبَهُ ؟ وَعَلَى مَنْ
وَجَبَ ؟ فَإِنْ
قُلْت : وَجَبَ لِلسَّيِّدِ عَلَى الْعَبْدِ فَهَذَا
مُحَالٌ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى عَبْدِهِ ، وَوُجُوبِهِ لَا عَلَى أَحَدٍ
مُحَالٌ ، وَكَمَا أَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ كَذَلِكَ الْمِلْكُ
يَقْتَضِي الْإِسْقَاطَ ، وَلَيْسَ إيجَابُهُ ضَرُورَةَ الْإِسْقَاطِ ، كَمَا
يُقَالُ إنَّ إثْبَاتَ الْمِلْكِ لِلِابْنِ ضَرُورَةَ الْعِتْقِ ؛ فَإِنَّ الْعِتْقَ
لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْمِلْكِ ، فَأَمَّا إسْقَاطُ الْمَهْرِ فَلَا يَقْتَضِي
إثْبَاتَهُ ، فَوَجَبَ أَلَّا يَجِبَ بِحَالٍ .
وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا
يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ أَصْلًا ، وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ وَلَا بُدَّ مِنْ
مَالِكٍ ، وَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ مَالِكًا ؛ فَامْتَنَعَ لِذَلِكَ
، وَعَادَ الْكَلَامُ إلَى أَصْلٍ آخَرَ ؛ وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ هَلْ يَمْلِكُ
أَمْ لَا ؟ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : أَمَّا قَوْلُ الرَّازِيّ : إنَّهُ يَجِبُ
وَيَسْقُطُ فَكَلَامٌ لَهُ فِي الشَّرْعِ أَمْثِلَةٌ ، مِنْهَا مُتَّفَقٌ
عَلَيْهَا وَمِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا ؛ فَمِنْ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ هُوَ فِيمَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ :
أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفٍ
.
فَقَالَ سَيِّدُهُ : هُوَ حُرٌّ .
فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَهُوَ كَلِمَةُ " هُوَ
حُرٌّ " يَتَضَمَّنُ عَقْدَ الْبَيْعِ ، وَوُجُوبَ الثَّمَنِ عَلَى
الْمُبْتَاعِ ، ثُمَّ وُجُوبَ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ ، وَوُجُوبَ الْمِلْكِ
لِلْمُبْتَاعِ ، وَخُرُوجَهُ عَنْ يَدِ الْبَائِعِ وَمِلْكَهُ وَالْعِتْقَ ،
وَيَجِبُ الْمِلْكُ ثُمَّ يَسْقُطُ
.
كُلُّ ذَلِكَ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ وَالْعِتْقِ .
كَذَلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يَقُولَ : يَجِبُ الصَّدَاقُ
هَاهُنَا لِحِلِّ الْوَطْءِ ، ثُمَّ يَكُونُ مَا كَانَ .
وَمِمَّا اتَّفَقْنَا عَلَيْهِ نَحْنُ وَالشَّافِعِيَّةُ
إذَا اشْتَرَى الِابْنُ أَبَاهُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ عَقْدُ الشِّرَاءِ وَيَحْصُلُ
الْمِلْكُ لِلِابْنِ ، ثُمَّ يَسْقُطُ الْمِلْكُ وَيُعْتَقُ ، وَيَجِبُ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : إذَا قَتَلَ
الْأَبُ ابْنَهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ وَيَسْقُطُ ، فَوُجُوبُهُ لِوُجُودِ عِلَّةِ
الْقِصَاصِ مِنْ الْعُدْوَانِ وَشَرْطُهُ
مِنْ الْمُكَافَآتِ ، وَيَسْقُطُ لِعَدَمِ
الْمُسْتَحِقِّ ؛ إذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَجِبَ لِلْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ .
وَنَحْنُ نَقُولُ : يَنْتَقِلُ الْقِصَاصُ إلَى غَيْرِ
الْأَبِ مِنْ الْوَرَثَةِ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْأَبُ كَافِرًا لَانْتَقَلَ
الْمِيرَاثُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْوَرَثَةِ .
وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : لَوْ
قَتَلَ حُرٌّ عَبْدًا قُتِلَ بِهِ ، وَلَوْ قَتَلَ مُكَاتَبًا لَمْ يُتْرَكْ
وَفَاءً قُتِلَ بِهِ ، وَلَوْ قَتَلَ مُكَاتَبًا تُرِكَ وَفَاءً لَمْ يُقْتَلْ
بِهِ ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مَاتَ
عَبْدًا وَالْقِصَاصُ لِسَيِّدِهِ
.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مَاتَ حُرًّا وَيُدْفَعُ مِنْ
مَالِهِ كِتَابَتُهُ لِسَيِّدِهِ ، وَيَرِثُ مَالَهُ بَقِيَّةُ وَرَثَتِهِ ،
وَيَرِثُونَ قِصَاصَهُ ، فَانْتَصَبَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمُسْتَحَقِّ شُبْهَةً
فِي دَرْكِ الْقِصَاصِ .
وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيجَابَ
حُكْمٌ ، وَالِاسْتِيفَاءُ حُكْمٌ آخَرُ مُغَايِرٌ لَهُ ، وَأَسْبَابُهُمَا
تَخْتَلِفُ ؛ وَإِذَا اخْتَلَفَا سَبَبًا وَاخْتَلَفَا ذَاتًا كَيْفَ يَصِحُّ
لِمُحِقٍّ أَنْ يُنْكِرَ انْفِرَادَ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ ؟ بَلْ هُنَالِكَ
أَغْرُبُ مِنْ هَذَا ؛ وَهُوَ أَنَّ الْوُجُوبَ حُكْمٌ وَالِاسْتِقْرَارُ حُكْمٌ
آخَرُ ؛ فَإِنَّ الصَّدَاقَ يَجِبُ بِالْعَقْدِ ، وَلَا يَسْتَقِرُّ بِالْوَطْءِ ؛
إذْ يَتَطَرَّقُ السُّقُوطُ إلَى جَمِيعِهِ قَبْلَ الْوَطْءِ بِالرِّدَّةِ ،
وَإِلَى نِصْفِهِ بِالطَّلَاقِ
.
وَقَدْ انْبَنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَحْكَامٌ
كَثِيرَةٌ مِنْ الزَّكَاةِ ، إذَا كَانَ الصَّدَاقُ مَاشِيَةً وَغَيْرَهَا ؛
فَإِذَا كَانَ الِاسْتِقْرَارُ وَهُوَ وَصْفُ الْوُجُوبِ حُكْمًا انْفَرَدَ عَنْ
الْوُجُوبِ بِانْفِرَادِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ وَهُوَ غَيْرُهُ أَصْلًا وَصِفَةً
فَذَلِكَ أَوْلَى .
وَأَمَّا قَوْلُ الطَّبَرِيِّ : مَنْ الَّذِي أَوْجَبَ
عَلَيْهِ ؟ وَلِمَنْ وَجَبَ ؟ فَيُقَالُ لَهُ : نَقَصَكَ قِسْمٌ ثَالِثٌ عَدَلْتَ
عَنْهُ أَوْ تَعَمَّدْتَ تَرْكَهُ تَلْبِيسًا : وَهُوَ أَنْ يَجِبَ لِلْأَمَةِ
وَهِيَ الزَّوْجُ عَلَى الْعَبْدِ الَّذِي تَزَوَّجَهَا ، كَمَا تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ
لَهَا .
فَإِنْ قَالَ
:
لَيْسَتْ الْأَمَةُ أَهْلًا لِلْمِلْكِ وَلَا
لِلتَّمْلِيكِ .
قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ ؛ بَلْ الْعَبْدُ أَهْلٌ
لِلْمِلْكِ وَالتَّمْلِيكِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
تَخْلِيصًا وَتَلْخِيصًا وَإِنْصَافًا ، وَحَقَّقْنَا فِي الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ
أَنَّ عِلَّةَ الْمِلْكِ الْحَيَاةُ وَالْآدَمِيَّةُ ، وَإِنَّمَا انْغَمَرَ
وَصْفُ الْعَبْدِ بِالرِّقِّ لِلسَّيِّدِ ، وَلَكِنَّ الْعِلَّةَ بَاقِيَةٌ ، وَالْحُكْمُ
قَدْ يَتَرَكَّبُ عَلَيْهَا مَعَ وُجُودِ الْغَامِرِ لَهَا .
وَكَيْفَ لَا تَمْلِكُ الْأَمَةُ وَاَللَّهُ تَعَالَى
يَقُولُ فِي الْإِمَاءِ : { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } .
فَأَضَافَ الْأُجُورَ إلَيْهِنَّ إضَافَةَ تَمْلِيكٍ ؟
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الْعَقْدَ كَمَا يَقْتَضِي الْإِيجَابَ كَذَلِكَ [
الْمِلْكُ ] يَقْتَضِي الْإِسْقَاطَ
.
قُلْنَا لَهُ : فَذَكَرَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مُقْتَضَاهُ
أَوْجَبَ بِالْعَقْدِ وَأَسْقَطَ بِالْمِلْكِ وَوَفَّرَ عَلَى كُلِّ سَبَبٍ
حُكْمَهُ كَمَا فَعَلْنَا فِي شِرَاءِ الْقَرِيبِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ إيجَابَهُ لَيْسَ ضَرُورَةً
لِلْإِسْقَاطِ بِخِلَافِ عِتْقِ الْقَرِيبِ فَإِنَّ إيجَابَهُ هُنَاكَ ضَرُورَةَ
الْعِتْقِ .
قُلْنَا :
وَإِيجَابُهُ الصَّدَاقُ هَاهُنَا ضَرُورَةَ الْحِلِّ ؛
إذْ جَعَلَهُ اللَّهُ عِلْمًا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالسِّفَاحِ ،
وَنَصَّ عَلَى إيجَابِهِ فِي كُلِّ نِكَاحٍ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِ النَّاكِحِينَ
مِنْ مَلِكٍ أَوْ مَمْلُوكٍ ؛ فَيَجِبُ لِلْأَمَةِ ، ثُمَّ يَجِبُ لِلسَّيِّدِ
مِنْهَا ، وَلَيْسَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَجِبَ لِلسَّيِّدِ عَلَى الْعَبْدِ حَقٌّ ،
فَلَا تُغَرَّ غُرُورًا بِمَا لَا تَحْصِيلَ فِيهِ وَلَا مَنْفَعَةَ لَهُ .
وَهَلَّا قُلْتُمْ : يَجِبُ لِلْأَمَةِ عَلَى الْعَبْدِ
، ثُمَّ يَجِبُ لِلسَّيِّدِ مِنْ الْأَمَةِ ، ثُمَّ يَسْقُطُ ؛ وَسُقُوطُ الْحَقِّ
بِانْتِقَالِهِ مِنْ مَحِلٍّ إلَى مَحِلٍّ لَيْسَ غَرِيبًا فِي مَسَائِلِ
الْقِصَاصِ وَالشُّفْعَةِ وَالدُّيُونِ
.
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الْعِتْقَ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ
الْمِلْكِ ، فَكَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ الْحِلُّ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ صَدَاقٍ .
وَأَمَّا قَوْلُكَ : إنَّ الْقَوْلَ عَادَ إلَى أَنَّ الْعَبْدَ
لَا يَمْلِكُ فَيَا
حَبَّذَا عَوْدُهُ إلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي
ظَهَرْنَا فِيهِ عَلَيْكُمْ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَمْلُوكَةَ لَا تُنْكَحَ إلَّا
بِإِذْنِ أَهْلِهَا ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُنْكَحُ إلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهِ
وَسَيِّدِهِ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكٌ لَا أَمْرَ لَهُ ،
وَبَدَنُهُ كُلُّهُ مُسْتَغْرِقٌ بِحَقِّ السَّيِّدِ ؛ لَكِنَّ الْفَرْقَ
بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَمَةَ إذَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهَا فُسِخَ
النِّكَاحُ وَلَمْ يَجُزْ بِإِجَازَةِ السَّيِّدِ ، وَإِذَا جَوَّزَ السَّيِّدُ نِكَاحَ
الْعَبْدِ جَازَ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْأُنُوثَةِ فِي الْأَمَةِ يَمْنَعُ مِنْ
انْعِقَادِ النِّكَاحِ أَلْبَتَّةَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ يَجُوزُ نِكَاحُهَا بِإِذْنِ
أَهْلِهَا وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْ السَّيِّدُ الْعَقْدَ .
قُلْنَا : نَعَمْ ، يَجُوزُ ؛ وَلَكِنْ لَا تُبَاشِرُهُ
هِيَ ، بَلْ يَتَوَلَّاهُ مَنْ تَوَلَّاهُ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَيُّمَا عَبْدٍ
تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ فَهُوَ عَاهِرٌ } .
خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ : هُوَ حَسَنٌ .
وَحَدِيثٌ يَرْوِيهِ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ
عَنْ جَابِرٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } : هَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْمَهْرِ فِي
النِّكَاحِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : هَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ
يُسَمَّى أُجْرَةً ، وَدَلِيلُ هَذَا أَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ
الْبُضْعِيَّةِ ؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ الْمَنْفَعَةَ يُسَمَّى أُجْرَةً .
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ
النِّكَاحُ مَا هُوَ ؟ بَدَنُ الْمَرْأَةِ ، أَوْ مَنْفَعَةُ الْبُضْعِ ، أَوْ
الْحِلُّ ؟ وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ عِنْدَ ذِكْرِنَا مَا
تُرَدُّ بِهِ الزَّوْجَةُ مِنْ الْعُيُوبِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى
وُجُوبِ الْمَهْرِ لِلْأَمَةِ ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ :
إنَّهُ عِوَضُ مَنْفَعَةٍ لَا يَكُونُ لِلْأَمَةِ ، أَصْلُهُ إجَازَةُ
الْمَنْفَعَةِ فِي الرَّقَبَةِ
.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ السَّيِّدَ إذَا زَوَّجَ
أَمَتَهُ فَقَدْ مَلَكَ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ
لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ غَشَيَانِهَا بِالتَّزْوِيجِ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَمْلِكُهُ بِمِلْكِ
الْيَمِينِ ، فَهَذَا الْعَقْدُ لَهَا لَا لَهُ ، فَعِوَضَهُ لَهَا بِخِلَافِ
مَنَافِعِ الرَّقَبَةِ فَإِنَّهَا وَالْعَقْدُ عَلَيْهَا لِلسَّيِّدِ ، وَهَذَا
ظَاهِرٌ لَا يَفْتَقِرُ إلَى إطْنَابٍ
.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : مَا يَعْنِي
بِالْمَعْرُوفِ ؟ يَعْنِي الْوَاجِبَ ، وَهُوَ ضِدُّ الْمُنْكَرِ ، وَلَيْسَ
يُرِيدُ بِهِ الْمَعْرُوفَ الَّذِي هُوَ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ ؛ وَسَتَرَاهُ
مُبَيَّنًا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } : يَعْنِي عَفَائِفَ غَيْرَ زَانِيَاتٍ .
وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَا مَنْ حَرَّمَ نِكَاحَ
الزَّانِيَةِ ، وَهُوَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَقَالَ إنَّهُ شَرَطَ فِي
النِّكَاحِ الْإِحْصَانَ وَهُوَ الْعِفَّةُ ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
قَالَ فِي سُورَةِ النُّورِ : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ
مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : مَعْنَى قَوْلُهُ : مُحْصَنَاتٍ ،
أَيْ بِنِكَاحٍ لَا بِزِنًى ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
قَدْ قَالَ قَبْلَ هَذَا : { فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } ، فَكَيْفَ يَقُولُ
بَعْدَ ذَلِكَ مَنْكُوحَاتٌ ، فَيَكُونُ تَكْرَارًا فِي الْكَلَامِ قَبِيحًا فِي النِّظَامِ
، وَإِنَّمَا شَرَطَ اللَّهُ ذَلِكَ صِيَانَةً لِلْمَاءِ الْحَلَالِ عَنْ الْمَاءِ
الْحَرَامِ ؛ فَإِنَّ الزَّانِيَةَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا نِكَاحُهَا حَتَّى
تُسْتَبْرَأَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ
نِكَاحُهَا الْيَوْمَ لِمَنْ زَنَى بِهَا الْبَارِحَةَ ، وَلِمَنْ لَمْ يَزْنِ
بِهَا مَعَ شَغْلِ رَحِمِهَا بِالْمَاءِ ، فَهَذِهِ هِيَ الزَّانِيَةُ الَّتِي
حَرَّمَ اللَّهُ نِكَاحَهَا ؛ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ فَلَا يَسْقِ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ } .
وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُوطَأُ حَامِلٌ
حَتَّى تَضَعَ } ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ فِي وَطْءٍ وَنَسَبٍ لَهُمَا
حُرْمَةٌ .
وَذَلِكَ فِي وَطْءِ الْكُفَّارِ ؛ لَكِنْ إنْ لَمْ
يَكُنْ لِلْمَاءِ الْمُسْتَقِرِّ فِي الرَّحِمِ حُرْمَةٌ فَلِلْمَاءِ الْوَارِدِ
عَلَيْهِ حُرْمَةٌ ، فَكَيْفَ يَمْتَزِجُ مَاءٌ بِمَاءٍ غَيْرِ مُحْتَرَمٍ ، وَفِي
ذَلِكَ خَلْطُ الْأَنْسَابِ الصَّحِيحَةِ بِالْمِيَاهِ الْفَاسِدَةِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا
زَانِيَةً } ، فَهِيَ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ ، اخْتَلَفَ فِيهَا السَّلَفُ قَدِيمًا
وَحَدِيثًا ، وَالْمُتَحَصِّلُ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ
: أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ {
أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ كَانَتْ تُسَافِحُ وَتَشْتَرِطُ لَهُ
أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ كُنَّ نِسَاءٌ مَعْلُومَاتٌ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ
فَيَتَزَوَّجْنَ الرَّجُلَ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ لِتُنْفِقَ الْمَرْأَةُ
مِنْهُنَّ عَلَيْهِ ، فَنَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ } .
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَنَحْوُهُ عَنْ
قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ عَنْ بَغَايَا كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ كَرَايَةِ
الْبَيْطَارِ ، وَكَانَتْ بُيُوتُهُنَّ تُسَمَّى الْمَوَاخِيرَ ، لَا يَدْخُلُ
إلَيْهِنَّ إلَّا زَانٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَوْ مُشْرِكٍ ، فَحَرَّمَ اللَّهُ
ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ .
الثَّالِثُ :
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : لَا يَزْنِي الزَّانِي
إلَّا بِزَانِيَةٍ مِثْلِهِ أَوْ مُشْرِكَةٍ ، وَنَحْوُهُ عَنْ عِكْرِمَةَ .
الرَّابِعُ
: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : نَسَخَهَا قَوْلُهُ
: { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ
وَإِمَائِكُمْ } .
وَقَالَ أَنَسٌ : مِنْ أَيَامَى الْمُسْلِمِينَ .
وَقَدْ أَكَّدَ رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ مَا رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : {
كَانَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ ، وَكَانَ رَجُلٌ
يَحْمِلُ الْأَسْرَى مِنْ مَكَّةَ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِمْ الْمَدِينَةَ .
قَالَ : وَكَانَتْ امْرَأَةُ بَغْيٍ بِمَكَّةَ يُقَالُ
لَهَا عَنَاقُ ، وَكَانَ صَدِيقًا لَهَا ، وَإِنَّهُ وَاعَدَ رَجُلًا مِنْ أَسْرَى
مَكَّةَ يَحْمِلُهُ .
قَالَ :
فَجِئْت حَتَّى انْتَهَيْت إلَى ظِلِّ حَائِطٍ مِنْ
حَوَائِطِ مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ قَالَ : فَجَاءَتْ عَنَاقُ
فَأَبْصَرَتْ سَوَادَ ظِلِّي بِجَنْبِ الْحَائِطِ ، فَلَمَّا انْتَهَتْ إلَيَّ
عَرَفَتْنِي ، فَقَالَتْ : مَرْثَدٌ ، فَقُلْت : مَرْثَدٌ .
فَقَالَتْ : مَرْحَبًا وَأَهْلًا ، هَلُمَّ فَبِتْ
عِنْدَنَا اللَّيْلَةَ .
قَالَ :
قُلْت : يَا عَنَاقُ ، حَرَّمَ اللَّهُ الزِّنَا قَالَتْ
: يَا أَهْلَ الْخِيَامِ ، هَذَا الرَّجُلُ يَحْمِلُ أَسْرَاكُمْ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ
.
قَالَ :
حَتَّى قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَقُلْت : يَا رَسُولَ
اللَّهِ ، أَأَنْكِحُ عَنَاقَ ؟ فَأَمْسَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا ، فَنَزَلَتْ : { الزَّانِي
لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : يَا مَرْثَدُ ، الزَّانِي لَا يَنْكِحُ وَقَرَأَهَا إلَى آخِرِهَا ،
وَقَالَ لَهُ : فَلَا تَنْكِحْهَا
} .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَغَايَا
مَعْلُومَاتٍ فَكَلَامٌ صَحِيحٌ
.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَاهُ الزَّانِي لَا
يُزَانِي إلَّا زَانِيَةً فَمَا أَصَابَ فِيهِ غَيْرَهُ ، وَهِيَ مِنْ عُلُومِ
الْقُرْآنِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ مُعَلِّمِهِ الْمُعَظَّمِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : لَا يَنْكِحُ الْمَحْدُودُ إلَّا
مَحْدُودَةً ، وَهُوَ الْحَسَنُ ، يُرِيدُ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : الزَّانِيَةُ
الَّتِي تَبَيَّنَ زِنَاهَا ، وَيَصِحُّ أَنْ يُخْبِرَ عَنْهَا بِهِ ؛ وَذَلِكَ
لَا يَكُونُ إلَّا فِيمَنْ نَفَذَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ وَقَبْلَ نُفُوذِ الْحَدِّ
هِيَ مُحْصَنَةٌ يَحُدُّ قَاذِفُهَا ، وَهُوَ الَّذِي مَنَعَ مِنْ نِكَاحِهَا
وَمَعَهُ نَتَكَلَّمُ وَعَلَيْهِ نَحْتَجُّ .
وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : إنَّ مَعْنَاهُ إذَا زَنَى
بِامْرَأَةٍ فَلَا يَتَزَوَّجُهَا فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا ، لَكِنَّ
مَخْرَجَهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ تَحْرِيمَ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ
الِاسْتِبْرَاءِ ، وَتَكُونُ الْآيَةُ مَسُوقَةً لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا
يَسْتَرْسِلُ عَلَى الْمِيَاهِ الْفَاسِدَةِ بِالنِّكَاحِ إلَّا زَانٍ أَوْ
مُشْرِكٍ كَمَا سَبَقَ ، أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهُ مَا اخْتَارَهُ عَالِمُ
الْقُرْآنِ ؛ قَالَ : الْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ الْوَطْءِ ، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ
فِي الْبَغَايَا الْمُشْرِكَاتِ ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الزَّانِيَةَ مِنْ
الْمُسْلِمَاتِ حَرَامٌ عَلَى الْمُشْرِكِ ، وَأَنَّ الزَّانِيَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
حَرَامٌ عَلَيْهِ الْمُشْرِكَاتُ ، فَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الزَّانِي لَا
يَزْنِي إلَّا بِزَانِيَةٍ لَا تَسْتَحِلُّ الزِّنَا أَوْ بِمُشْرِكَةٍ
تَسْتَحِلُّهُ ، وَالزَّانِيَةُ لَا يَزْنِي بِهَا إلَّا زَانٍ لَا يَسْتَحِلُّ
الزِّنَا أَوْ مُشْرِكٌ يَسْتَحِلُّهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ فَمَا
فَهِمَ النَّسْخَ ؛ إذْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ الْمُتَعَارِضَتَيْنِ
مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ بَلْ الْآيَةُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا عَاضِدَةٌ لِهَذِهِ
الْآيَةِ وَمُوَافَقَةٌ لَهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ نِكَاحَ
الزُّنَاةِ وَالزَّوَانِي ، وَأَمَرَ بِنِكَاحِ الصَّالِحَاتِ وَالصَّالِحِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ
كَانَتْ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ فَكَذَلِكَ هُوَ مَعْنَاهَا ، وَهِيَ خَبَرٌ عَنْ
حُكْمِ الشَّرْعِ ، فَإِنْ وُجِدَ خِلَافُ الْمَخْبَرِ فَلَيْسَ مِنْ الشَّرْعِ
عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا
مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } : كَانَتْ الْبَغَايَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى قِسْمَيْنِ
: مَشْهُورَاتٌ وَمُتَّخِذَاتُ أَخْدَانٍ ، وَكَانُوا بِعُقُولِهِمْ يُحَرِّمُونَ
مَا ظَهَرَ مِنْ الزِّنَا وَيَحِلُّونَ مَا بَطَنَ ؛ فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ
عَنْ الْجَمِيعِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ
فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ }
.
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَتَى وَفَتَاةً وَصْفٌ لِلْعَبِيدِ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَقُولَنَّ
أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي } .
وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ يُوشَعَ بْنَ
نُونٍ كَانَ عَبْدًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِذْ
قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ } ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى :
{ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى
الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ
تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : مَعْنَى
الْإِحْصَانِ هَاهُنَا مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ ؛ فَقَالَ قَوْمٌ : هُوَ
الْإِسْلَامُ ؛ قَائِلُهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ
وَغَيْرُهُمْ .
وَقَالَ آخَرُونَ : أُحْصِنَّ : تَزَوَّجْنَ ؛ قَالَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : هُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْعَبْدُ
حُرَّةً وَالْأَمَةُ حُرًّا ، وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تُحَدُّ الْكَافِرَةُ عَلَى
الزِّنَا ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ وَلَا النِّكَاحُ .
وَقُرِئَ أَحْصَنَّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَأُحْصِنَّ
بِضَمِّهَا ، فَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ قَالَ مَعْنَاهُ : أَسْلَمْنَ ،
وَالْإِسْلَامُ أَحَدُ مَعَانِي الْإِحْصَانِ .
وَمَنْ قَرَأَ أُحْصِنَّ بِالضَّمِّ قَالَ مَعْنَاهُ :
زُوِّجْنَ .
وَقَدْ يُحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَحْصَنَّ بِفَتْحِ
الْهَمْزَةِ زُوِّجْنَ ، فَيُضَافُ الْفِعْلُ إلَيْهِنَّ لِمَا وُجِدَ بِهِنَّ .
وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أُحْصِنَّ بِضَمِّ
الْهَمْزَةِ : أَسْلَمْنَ : مَعْنَاهُ مُنِعْنَ بِالْإِسْلَامِ مِنْ أَحْكَامِ الْكُفْرِ .
وَالظَّاهِرُ فِي الْإِطْلَاقِ هُوَ الْأَوَّلُ .
وَمَنْ شَرَطَ نِكَاحَ الْحُرِّ وَالْحُرَّةِ لَا
مَعْنَى لَهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ
.
وَالْإِحْصَانُ هُوَ الْإِسْلَامُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ ؛
لِأَنَّهُ أَوَّلُ دَرَجَاتِ الْإِحْصَانِ ، فَلَا يَنْزِلُ عَنْهُ إلَّا
بِدَلِيلٍ ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَنْكِحَ
الْحَرَائِرَ الْمُؤْمِنَاتِ فَلْيَنْكِحْ الْمَمْلُوكَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ،
فَإِذَا أَسْلَمْنَ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْحَرَائِرِ مِنْ الْحَدِّ .
وَلَا يَتَنَصَّفُ الرَّجْمُ ، فَلْيَسْقُطْ
اعْتِبَارُهُ .
وَيَكُونُ الْمُرَادُ مَا يَتَشَطَّرُ وَهُوَ الْجَلْدُ
، وَعَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ يَكُونُ التَّقْدِيرُ : فَإِذَا تَزَوَّجْنَ
فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا
عَلَى الْأَبْكَارِ مِنْ الْعَذَابِ ، وَهُوَ الْجَلْدُ .
وَنَحْنُ أَسَدُّ تَأْوِيلًا لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا
: أَنَّ قَوْلَهُ : الْمُؤْمِنَاتُ ، يَقْتَضِي الْإِسْلَامَ .
فَقَوْلُهُ : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } يَجِبُ أَنْ
يُحْمَلَ عَلَى فَائِدَةٍ مُجَرَّدَةٍ
.
الثَّانِي :
أَنَّ الْمُسْلِمَةَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ : {
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } ، فَتَنَاوَلَهَا عُمُومُ هَذَا الْخِطَابِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَخُذُوا الْكَافِرَ بِهَذَا الْعُمُومِ .
قُلْنَا : الْكَافِرُ لَهُ عَهْدٌ أَلَّا نَعْتَرِضَ
عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَالرَّقِيقُ لَا عَهْدَ لَهُ .
قُلْنَا :
الرِّقُّ عَهْدٌ إذَا ضُرِبَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ
بَعْدَهُ سَبِيلٌ إلَيْهِ إلَّا بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ وَالْمَصْلَحَةِ
لِتَظَاهُرِهِ بِالْفَاحِشَةِ إنْ أَظْهَرَهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى الْأَئِمَّةُ بِأَجْمَعِهِمْ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ { أَنَّ النَّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْأَمَةِ إذَا زَنَتْ وَلَمْ
تُحْصِنْ .
قَالَ : إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ثَلَاثًا ثُمَّ
بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ } .
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : لَا أَدْرِي بَعْدَ الثَّالِثَةِ
أَوْ الرَّابِعَةِ .
وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مَنْ أَحْصَنَ مِنْهُمْ وَمَنْ
لَمْ يُحْصِنْ } .
وَهَذَا نَصُّ عُمُومٍ فِي جَلْدِ مَنْ تَزَوَّجَ وَمَنْ
لَمْ يَتَزَوَّجْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ مَالِكٌ
وَالشَّافِعِيُّ : يُقِيمُ السَّيِّدُ الْحَدَّ عَلَى مَمْلُوكِهِ دُونَ رَأْي
الْإِمَامِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُقِيمُهُ إلَّا نَائِبُ
اللَّهِ وَهُوَ الْإِمَامُ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى .
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ
مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ } وَلَمْ يُعَيِّنْ مَنْ يُقِيمُهُ ؛ فَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ ذَلِكَ إلَى السَّادَاتِ ، وَهُمْ نُوَّابُ
اللَّهِ فِي ذَلِكَ ، كَمَا يَنُوبُ آحَادُ النَّاسِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ .
فَإِنْ قِيلَ : وَكَيْفَ يَتَّفِقُ لِلسَّيِّدِ أَنْ
يُقِيمَ حَدَّ الزِّنَا ؛ أَيُقِيمُهُ بِعِلْمِهِ أَمْ بِالشُّهُودِ فَيَتَصَدَّى
مَنْصِبَ قَاضٍ وَتُؤَدَّى عِنْدَهُ الشَّهَادَةُ ؟ قُلْنَا : قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ
زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبُ عَلَيْهَا } .
وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ .
وَالزِّنَا يَتَبَيَّنُ بِالشَّهَادَةِ ، وَذَلِكَ
يَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ ؛ أَوْ بِالْحَمْلِ ، وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ السَّيِّدُ
إلَى الْإِمَامِ ، وَلَكِنَّهُ يُقِيمُهُ عَلَيْهَا بِمَا ظَهَرَ مِنْ حَمْلِهَا
إذَا وَضَعَتْهُ وَفَصَلَتْ مِنْ نِفَاسِهَا ؛ لِقَوْلِ عَلِيٍّ فِي الصَّحِيحِ : { إنَّ أَمَةً
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَنَتْ فَأَمَرَنِي أَنْ
أَجْلِدَهَا الْحَدَّ ، فَوَجَدْتهَا حَدِيثَةَ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ ، فَخِفْت إنْ
أَنَا جَلَدْتهَا أَنْ أَقْتُلَهَا فَتَرَكْتهَا فَأَخْبَرْته .
فَقَالَ : أَحْسَنْت } .
وَلِهَذَا خَاطَبَ السَّادَاتِ بِذِكْرِ الْإِمَاءِ
اللَّاتِي يَتَبَيَّنُ زِنَاهُنَّ بِالْحَمْلِ ، وَسَكَتَ عَنْ الْعَبِيدِ
الَّذِينَ لَا يَظْهَرُ زِنَاهُمْ إلَّا بِالشَّهَادَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : دَخَلَ الذُّكُورُ تَحْتَ الْإِنَاثِ
فِي قَوْلِهِ : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ
} بِعِلَّةِ الْمَمْلُوكِيَّةِ ، كَمَا دَخَلَ الْإِمَاءُ تَحْتَ قَوْلِهِ : {
مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ } ؛ بِعِلَّةِ سِرَايَةِ الْعِتْقِ وَتَغْلِيبِ
حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ عَلَى حَقِّ الْمِلْكِ .
وَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ : {
وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ } دُخُولَ الْمُحْصَنِينَ فِيهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ } : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْعَنَتِ
عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ الزِّنَا ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ الْإِثْمُ .
الثَّالِثُ : الْعُقُوبَةُ .
الرَّابِعُ : الْهَلَاكُ .
الْخَامِسُ :
قَالَ الطَّبَرِيُّ : كُلُّ مَا يُعْنِتُ الْمَرْءَ
عَنَتٌ ، وَهَذِهِ كُلُّهَا تُعْنِتُهُ ، وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ فَمَنْ خَافَ شَيْئًا
مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُهُ ، وَأَصْلُهُ الزِّنَا كَمَا قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ فَعَلَيْهِ عُوِّلَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } : يَدُلُّ عَلَى كَرَاهِيَةِ نِكَاحِ الْأَمَةِ
؛ لِمَا فِيهِ مِنْ خَوْفِ إرْقَاقِ الْوَلَدِ وَجَوَازِ خَوْفِ هَلَاكِ الْمَرْءِ
؛ فَاجْتَمَعَتْ فِيهِ مَضَرَّتَانِ دُفِعَتْ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى ، فَقُدِّمَ
الْمُتَحَقِّقُ عَلَى الْمُتَوَهَّمِ
.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْعَزْلَ حَقُّ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقًّا لِلرَّجُلِ لَكَانَ
لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَيَعْزِلَ ، فَيَنْقَطِعَ خَوْفُ إرْقَاقِ الْوَلَدِ فِي
الْغَالِبِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ
لِلْمَرْأَةِ حَقٌّ إلَّا فِي الْإِيلَاجِ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ
إنَّمَا عَقْدٌ لِلْوَطْءِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ لَهُ فِيهِ حَقٌّ
، وَكَمَا أَنَّ لِلرَّجُلِ فِيهِ حَقَّ الْغَايَةِ وَهُوَ الْإِيلَاجُ
وَالتَّكْرَارُ فَلِلْمَرْأَةِ فِيهِ غَايَةُ الْإِنْزَالِ وَتَمَامُ ذَوْقِ
الْعُسَيْلَةِ ، فَبِهِ تُتِمُّ اللَّذَّةُ لِلْفَرِيقَيْنِ ؛ فَإِنْ أَرَادَ
الرَّجُلُ إسْقَاطَ حَقِّهِ وَالْوُقُوفَ دُونَ هَذِهِ الْغَايَةِ فَلِلْمَرْأَةِ
حَقُّ بُلُوغِهَا .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيرًا } الْآيَةُ فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
: الْقَوْلُ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ : وَهُوَ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ ،
قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { إلَّا أَنْ
تَكُونَ تِجَارَةً } : التِّجَارَةُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُعَاوَضَةِ ،
وَمِنْهُ الْأَجْرُ الَّذِي يُعْطِيهِ الْبَارِي عِوَضًا عَنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ
الَّتِي هِيَ بَعْضٌ مِنْ فَضْلِهِ ، فَكُلُّ مُعَاوَضَةٍ تِجَارَةٌ عَلَى أَيِّ
وَجْهٍ كَانَ الْعِوَضُ ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ : { بِالْبَاطِلِ } أَخْرَجَ مِنْهَا
كُلَّ عِوَضٍ لَا يَجُوزُ شَرْعًا مِنْ رِبًا أَوْ جَهَالَةٍ أَوْ تَقْدِيرِ
عِوَضٍ فَاسِدٍ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَوُجُوهِ الرِّبَا ، حَسْبَمَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَكُلُّ مُعَاوِضٍ إنَّمَا
يَطْلُبُ الرِّبْحَ إمَّا فِي وَصْفِ الْعِوَضِ أَوْ فِي قَدْرِهِ ؛ وَهُوَ أَمْرٌ
يَقْتَضِيهِ الْقَصْدُ مِنْ التَّاجِرِ لَا لَفْظُ التِّجَارَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : مِنْ جُمْلَةِ أَكْلِ
الْمَالِ بِالْبَاطِلِ بَيْعُ الْعُرْبَانِ ، وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْكَ
السِّلْعَةَ وَيُعْطِيكَ دِرْهَمًا عَلَى أَنَّهُ إنْ اشْتَرَاهَا تَمَّمَ
الثَّمَنَ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِهَا فَالدِّرْهَمُ لَكَ ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ
فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعُرْبَانِ } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لَمَّا شُرِطَ الْعِوَضُ
فِي أَكْلِ الْمَالِ وَصَارَتْ تِجَارَةً خَرَجَ عَنْهَا كُلُّ عَقْدٍ لَا عِوَضَ
فِيهِ يَرِدُ عَلَى الْمَالِ ، كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ ، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ
مُطْلَقُ اللَّفْظِ ، وَجَازَتْ عُقُودُ الْبُيُوعَاتِ بِأَدِلَّةٍ أُخَرَ مِنْ الْقُرْآنِ
وَالسُّنَّةِ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : الرِّبْحُ هُوَ مَا يَكْتَسِبُهُ
الْمَرْءُ زَائِدًا عَلَى قِيمَةِ مُعَوِّضِهِ فَيَأْذَنُ لَهُ فِيهِ إذَا كَانَ
مَعَهُ أَصْلُ الْعِوَضِ فِي الْمُعَامَلَةِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الرِّبْحُ
بِحَسَبِ حَاجَةِ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعِ إلَى عَقْدِ الصَّفْقَةِ
فَالزِّيَادَةُ أَبَدًا تَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْمُحْتَاجِ ؛ إنْ احْتَاجَ
الْبَائِعُ أَعْطَى زَائِدًا عَلَى الثَّمَنِ مِنْ قِيمَةِ سِلْعَتِهِ ، وَإِنْ
احْتَاجَ الْمُشْتَرِي أَعْطَى زَائِدًا مِنْ الثَّمَنِ ، وَذَلِكَ يَكُونُ
يَسِيرًا فِي الْغَالِبِ ، فَإِنْ كَانَ الرِّبْحُ مُتَفَاوِتًا فَاخْتَلَفَ فِيهِ
الْعُلَمَاءُ ؛ فَأَجَازَهُ جَمِيعُهُمْ ، وَرَدَّهُ مَالِكٌ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ
إذَا كَانَ الْمَغْبُونُ لَا بَصَرَ لَهُ بِتِلْكَ السِّلْعَةِ ، وَلِذَا
جَوَّزَهُ فَرَاعَى أَنَّ الْمَغْبُونَ مُفْرِطٌ ؛ إذْ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ
يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ وَيُشَاوِرَ مَنْ يَعْلَمُ أَوْ يُوَكِّلَهُ ، وَإِذَا
رَدَدْنَاهُ فَلِأَنَّهُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ ؛ إذْ لَيْسَ
تَبَرُّعًا وَلَا مُعَاوَضَةً ؛ فَإِنَّ الْمُعَاوَضَةَ عِنْدَ النَّاسِ لَا
تَخْرُجُ إلَى هَذَا التَّفَاوُتِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْخِلَابَةِ ،
وَالْخِلَابَةُ مَمْنُوعَةٌ شَرْعًا مَعَ ضَعْفِهَا كَالْغِلَابَةِ
وَهُوَ الْغَصْبُ ، مَمْنُوعَةٌ شَرْعًا مَعَ قُوَّتِهَا
، وَتَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا ضَرَرَ
وَلَا ضِرَارَ } .
أَلَا تَرَى أَنَّ تَلَقِّيَ الرَّكْبَانِ يَتَعَلَّقُ
بِهِ الْخِيَارُ عِنْدَ تَبَيُّنِ الْحَالِ ، وَهُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ، وَقَدْ
قَرَّرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا فِي مَوْضِعَيْنِ ، فَلْنَجْمَعْ الْكَلَامَ عَلَى
الْآيَةِ فِيهَا كُلِّهَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ عِكْرِمَةُ
وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُمَا : خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ
التَّبَرُّعَاتُ كُلُّهَا ، وَإِنَّمَا جَوَّزَ الشَّرْعُ التِّجَارَةَ وَبَقِيَ
غَيْرُهَا عَلَى مُقْتَضَى النَّهْيِ حَتَّى نَسَخَهَا قَوْلُهُ : { لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا } ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا ؛ فَإِنَّ
الْآيَةَ لَمْ تَقْتَضِ تَحْرِيمَ التَّبَرُّعَاتِ ؛ وَإِنَّمَا اقْتَضَتْ
تَحْرِيمَ الْمُعَاوَضَةِ الْفَاسِدَةِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي
مِنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ
.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { عَنْ تَرَاضٍ
مِنْكُمْ } : وَهُوَ حَرْفٌ أُشْكِلَ عَلَى الْعُلَمَاءِ حَتَّى اضْطَرَبَتْ فِيهِ
آرَاؤُهُمْ : قَالَ بَعْضُهُمْ : التَّرَاضِي هُوَ التَّخَايُرُ بَعْدَ عَقْدِ
الْبَيْعِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ مِنْ الْمَجْلِسِ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ ، وَأَبُو
هُرَيْرَةَ ، وَشُرَيْحٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَالشَّافِعِيُّ ،
وَتَعَلَّقُوا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ : { الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا
لَمْ يَفْتَرِقَا إلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ } وَقَالَ آخَرُونَ : إذَا تَوَاجَبَا
بِالْقَوْلِ فَقَدْ تَرَاضَيَا ، يُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ ، وَبِهِ قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالصَّحَابَةُ .
وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُ
الْآيَةِ : إلَّا تِجَارَةً تَعَاقَدْتُمُوهَا وَافْتَرَقْتُمْ بِأَبْدَانِكُمْ
عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ فِيهَا ؛ وَهَذِهِ دَعْوَى إنَّمَا يَدُلُّ مُطْلَقُ
الْآيَةِ عَلَى التِّجَارَةِ عَلَى الرِّضَا ، وَذَلِكَ يَنْقَضِي بِالْعَقْدِ ،
وَيَنْقَطِعُ بِالتَّوَاجُبِ ، وَبَقَاءِ التَّخَايُرِ فِي الْمَجْلِسِ لَا
تَشْهَدُ لَهُ الْآيَةُ لَا نُطْقًا وَلَا تَنْبِيهًا ، وَكُلُّ
آيَةٍ وَرَدَتْ فِي ذِكْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ
وَالْمُدَايِنَةِ وَالْمُعَامَلَةِ إنَّمَا هِيَ مُطْلَقَةٌ لَا ذِكْرَ
لِلْمَجْلِسِ فِيهَا وَلَا لِافْتِرَاقِ الْأَبْدَانِ مِنْهَا ؛ كَقَوْلِهِ : {
أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } ؛ فَإِذَا عَقَدَ وَلَمْ يُبْرِمْ لَمْ يَكُنْ وَفَاءٌ ،
وَإِذَا عَقَدَ وَرَجَعَ عَنْ عَقْدِهِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْكَلَامِ
وَالسُّكُوتِ فَرْقٌ ، بَلْ السُّكُوتُ خَيْرٌ مِنْهُ ، لِأَنَّهُ تَعَبٌ وَلَا
الْتَزَمَ وَلَا أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ ، فَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ ، وَتَقَدَّمَ
الْعُذْرُ ، وَإِذَا عَقَدَ وَحَلَّ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ كَلَامُهُ تَعَبًا
وَلَغْوًا ، وَمَا الْإِنْسَانُ لَوْلَا اللِّسَانُ ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِلِسَانِهِ
عَنْ عَقْدِهِ وَرِضَاهُ ، فَأَيُّ شَيْءٍ بَقِيَ بَعْدَ هَذَا ؟ وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ فِي آيَةِ الدَّيْنِ : { وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ } ،
فَإِذَا أَمْلَى وَكَتَبَ وَأَعْطَى الْأُجْرَةَ ثُمَّ عَادَ وَمَحَا مَا كَتَبَ
كَانَ تَلَاعُبًا وَفَسْخًا لِعَقْدٍ آخَرَ قَدْ تَقَرَّرَ .
وَكَذَلِكَ قَالَ : { وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا } ،
وَإِذَا حَلَّهُ فَقَدْ بَخَسَهُ كُلَّهُ .
وَكَذَلِكَ قَالَ : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجَالِكُمْ } ، وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَشْهَدُونَ ؟ وَلَمْ يَلْزَمْ عَقْدٌ وَلَا
انْبَرَمَ أَمْرٌ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ
تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلَى أَجَلِهِ } يَلْزَمُ مِنْهُ مَا لَزِمَ
مِنْ قَوْلِهِ : { وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ } .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } فَيُضِيفُ
عَقْدًا إلَى غَيْرِ عَقْدٍ ، وَيَرْتَهِنُ إلَى غَيْرِ وَاجِبٍ وَاعْتِبَارُ
خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَحْدَهُ مُبْطِلٌ لِهَذَا كُلِّهِ ، فَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ
أَوْلَى أَنْ يُرَاعَى ؟ وَأَيُّ الْحَالَيْنِ أَقْوَى أَنْ يُعْتَبَرَ ؟ فَإِنْ
قِيلَ : أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ
فِي أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ لَا يَفْتَرِقَانِ حَتَّى يَنْقَضِيَ ذَلِكَ كُلُّهُ .
قُلْنَا : الْغَالِبُ ضِدُّهُ ، وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ
بَقَاءُ الشُّهُودِ حَتَّى يَقُومَ الْمُتَعَاقِدَانِ ؟ هَذَا لَمْ يُعْهَدْ
وَلَمْ يُتَّفَقْ .
فَإِنْ تَعَلَّقُوا
بِخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ فِي خِيَارِ
الْمَجْلِسِ فَهَذَا خُرُوجٌ عَنْ الْقُرْآنِ إلَى الْأَخْبَارِ وَقَدْ
تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِمَا يَجِبُ ، فَلَا
نُدْخِلُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : هَذَا نَصٌّ عَلَى
إبْطَالِ بَيْعِ الْمُكْرَهِ لِفَوَاتِ الرِّضَا فِيهِ ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى
إبْطَالِ أَفْعَالِهِ كُلِّهَا حَمْلًا عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَلَا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : لَا
تَقْتُلُوا أَهْلَ مِلَّتِكُمْ
.
الثَّانِي : لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا .
الثَّالِثُ : لَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بِفِعْلِ مَا
نُهِيتُمْ عَنْهُ ؛ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَالْأَكْثَرُ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
وَكُلُّهَا صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَقْعَدَ
مِنْ بَعْضٍ فِي الدِّينِ مِنْ اللَّفْظِ وَاسْتِيفَاءِ الْمَعْنَى .
وَاَلَّذِي يَصِحُّ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَاهُ : وَلَا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بِفِعْلِ مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ ، فَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ
تَحْتَهُ ، وَلَكِنَّ هَاهُنَا دَقِيقَةٌ مِنْ النَّظَرِ ؛ وَهِيَ أَنَّ هَذَا
الَّذِي اخْتَرْنَاهُ يَسْتَوْفِي الْمَعْنَى ، وَلَكِنَّهُ مَجَازٌ فِي لَفْظِ الْقَتْلِ
، وَعَلَى حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى صَرِيحِ الْقَتْلِ يَكُونُ قَوْلُهُ : {
أَنْفُسَكُمْ } مَجَازًا أَيْضًا ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْمَجَازِ
فَمَجَازٌ يَسْتَوْفِي الْمَعْنَى وَيَقُومُ بِالْكُلِّ أَوْلَى ؛ وَهَذَا
كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } ،
فَتَدَبَّرُوهُ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ
يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا } : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِعْلَ النَّاسِي
وَالْخَاطِئِ وَالْمُكْرَهِ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ
الْأَفْعَالَ لَا تَتَّصِفُ بِالْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ ، إلَّا فَرْعٌ وَاحِدٌ
مِنْهَا وَهُوَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ ، فَإِنَّ فِعْلَهُ يَتَّصِفُ
إجْمَاعًا بِالْعُدْوَانِ ؛ فَلَا جَرَمَ يُقْتَلُ عِنْدَنَا بِمَنْ قَتَلَهُ ،
وَلَا يَنْتَصِبُ الْإِكْرَاهُ عُذْرًا ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ
الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا } : اُخْتُلِفَ فِي مَرْجِعِهِ ؛
فَقِيلَ إلَى مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } إلَى هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ
مَا تَقَدَّمَ قَبْلَهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ وَعِيدُهُ فِيهِ .
وَقِيلَ :
إنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْكُلِّ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ
وَعِيدِهِ جَاءَ مَعَهُ مَخْصُوصًا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْعُمُومِ
أَيْضًا ؛ إذْ لَا تَنَاقُضَ فِيهِ ؛ بَلْ فِيهِ تَأْكِيدٌ [ لَهُ ] .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : هَاهُنَا دَقِيقَةٌ
أَغْفَلَهَا الْعُلَمَاءُ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهَا إذَا نَزَلَتْ لَا نَعْلَمُ هَلْ
كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ مَا سَبَقَهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إلَى
هُنَا مُنَزَّلًا مَكْتُوبًا ، أَمْ نَزَلَ جَمِيعُهُ بَعْدَ نُزُولِهَا ؟ وَإِذَا
عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ تَقَدَّمَ نُزُولًا وَكِتَابَةً لَا يَقْتَضِي
قَوْلُهُ ذَلِكَ إشَارَةً إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ
دُونَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ دُونَ جَمِيعِ مَا فِيهِ مِنْ
مَمْنُوعٍ مُحَرَّمٍ .
فَالْأَصَحُّ أَنَّ قَوْلَهُ : { ذَلِكَ } يَرْجِعُ إلَى
قَوْلِهِ : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } يَقِينًا ؛ وَغَيْرُهُ مُحْتَمَلٌ
مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى :
{ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ
وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : يُرْوَى { أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
، تَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا نَغْزُو ؟ وَيَذْكُرُ الرِّجَالُ وَلَا نَذْكُرُ ؟ وَلَنَا
نِصْفُ الْمِيرَاثِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْآيَةَ : { وَلَا
تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي حَقِيقَةِ التَّمَنِّي
: وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْإِرَادَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبِلِ ،
كَالتَّلَهُّفِ نَوْعٌ مِنْهَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَاضِي .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ
عَنْ التَّمَنِّي ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعَلُّقَ الْبَالِ بِالْمَاضِي وَنِسْيَانَ
الْآجِلِ ، وَلِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ ،
وَتَفَطَّنَ الْبُخَارِيُّ لَهُ فَعَقَدَ لَهُ فِي جَامِعِهِ كِتَابًا فَقَالَ :
كِتَابُ التَّمَنِّي ، وَأَدْخَلَ فِيهِ أَبْوَابًا وَمَسَائِلَ هُنَاكَ تُرَى
مُسْتَوْفَاةً بَالِغَةً إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : الْمُرَادُ هَاهُنَا
النَّهْيُ عَنْ التَّمَنِّي الَّذِي تَسْتَحْسِنُهُ عِنْدَ الْغَيْرِ حَتَّى يَنْتَقِلَ
إلَيْكَ ، وَهُوَ الْحَسَدُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مُطْلَقًا فِي غَيْرِ هَذَا
الْمَوْضِعِ .
أَمَّا أَنَّهُ يَجُوزُ تَمَنِّي مِثْلِهِ وَهِيَ
الْغِبْطَةُ ، فَيُسْتَحَبُّ الْغَبْطُ فِي الْخَيْرِ ؛ وَهُوَ الْمُرَادُ
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا حَسَدَ إلَّا فِي
اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ يَتْلُو الْقُرْآنَ ، وَآخَرُ يَعْمَلُ الْحِكْمَةَ
وَيُعَلِّمُهَا } .
هَذَا مَعْنَاهُ .
قَالَ : اعْمَلُوا وَلَا تَتَمَنَّوْا ، فَلَيْتَكُمْ
قُمْتُمْ بِمَا أُوتِيتُمْ ، وَاسْتَطَعْتُمْ مَا عِنْدَكُمْ .
وَأَحْسَنُ عِبَارَةٍ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الصُّوفِيَّةِ :
كُنْ طَالِبَ حُقُوقِ مَوْلَاكَ وَلَا تَتَّبِعْ مُتَعَلِّقَاتِ هَوَاكَ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ الْمَالَ
وَمَا يَدْرِيهِ لَعَلَّ هَلَاكَهُ فِيهِ .
وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ إذَا تَمَنَّاهُ لِلدُّنْيَا ،
وَأَمَّا إذَا تَمَنَّاهُ لِلْخَيْرِ فَقَدْ جَوَّزَهُ الشَّرْعُ كَمَا تَقَدَّمَ
؛ فَيَتَمَنَّاهُ الْعَبْدُ لِيَصِلَ بِهِ إلَى الرَّبِّ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا
يَشَاءُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ
} : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَمَّا نَصِيبُهُمْ فِي الْأَجْرِ فَسَوَاءٌ ؛ كُلُّ حَسَنَةٍ
بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ كَذَلِكَ ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ
مِنْ فَضْلِهِ .
وَأَمَّا نَصِيبُهُمْ فِي مَالِ الدُّنْيَا فَبِحَسَبِ
مَا عَلِمَهُ اللَّهُ مِنْ الْمَصَالِحِ ، وَرَكَّبَ الْخَلْقَ عَلَيْهِ مِنْ
التَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ رَتَّبَ أَنْصِبَاءَهُمْ ، فَلَا تَتَمَنَّوْا مَا
حَكَمَ اللَّهُ بِهِ وَأَحْكَمَ بِمَا عَلِمَ وَدَبَّرَ حُكْمَهُ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى :
{ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ
وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا }
.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْمَوْلَى فِي
لِسَانِ الْعَرَبِ يَنْطَلِقُ عَلَى ثَمَانِيَةِ مَعَانٍ ، قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي
كِتَابِ " الْأَمَدِ " وَغَيْرِهِ ، وَأَصْلُهُ مِنْ الْوَلِيِّ وَهُوَ
الْقُرْبُ ، وَتَخْتَلِفُ دَرَجَاتُ الْقُرْبِ وَأَسْبَابُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مَعْنَاهُ مَوْلَى الْعَصَبَةِ
؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَهَذَا صَحِيحٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ
: { مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } .
وَلَيْسَ بَعْدَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إلَّا
الْعَصَبَةُ ، وَيُفَسِّرُهُ وَيُعَضِّدُهُ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا ، فَمَا أَبْقَتْ
الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الْمَوْلَى الْمُنْعِمُ
بِالْعِتْقِ فِي حُكْمِ الْقَرِيبِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { لِلْوَلَاءِ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ } .
وَلَيْسَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ نَسِيبًا
وَلَا وَارِثًا ؛ وَإِنَّمَا ثَبَتَ حُكْمُ النَّسَبِ مِنْ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ ،
فَكَأَنَّ الْوَلَاءَ أُبُوَّةٌ لِأَنَّهُ أَوْجَدَهُ بِالْعِتْقِ حُكْمًا ، كَمَا
أَوْجَدَ الْأَبُ ابْنَهُ بِالِاكْتِسَابِ لِلْوَطْءِ حِسًّا .
قَالَ طَاوُسٌ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : هُوَ وَارِثٌ
؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّسَبِ إذَا ثَبَتَ مِنْ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ وَجَبَ أَنْ
يَثْبُتَ مِنْ الْأُخْرَى ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ } .
وَاسْتَهَانَ الْعُلَمَاءُ بِهَذَا الْكَلَامِ ، وَهِيَ فِي
غَايَةِ الْإِشْكَالِ ، وَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ الْمِيرَاثَ إنَّمَا هُوَ
فِي مُقَابَلَةِ الْإِنْعَامِ بِالْعِتْقِ ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَهُ
لُحْمَةً كَلُحْمَةِ النَّسَبِ
.
الثَّانِي
: أَنَّ الْإِنْعَامَ بِالْعِتْقِ لَا مُقَابِلَ لَهُ
إلَّا الْعِتْقُ مِنْ النَّارِ حَسْبَمَا قَابَلَهُ [ بِهِ ] النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ : { أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ
مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ
} .
وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي مُتَعَلَّقٌ إلَّا
الْإِجْمَاعُ السَّابِقُ لِطَاوُسٍ فِيهِ وَلِمَنْ قَالَهُ بَعْدَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ
} : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ ،
فَتَارَةً قَالَ : كَانَ الرَّجُلُ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ أَيُّهُمَا مَاتَ وِرْثَهُ
الْآخَرُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى
بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إلَّا أَنْ
تَفْعَلُوا إلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا } يَعْنِي تُؤْتُوهُمْ مِنْ
الْوَصِيَّةِ جَمِيلًا وَإِحْسَانًا فِي الثُّلُثِ الْمَأْذُونِ فِيهِ .
وَتَارَةً قَالَ : كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا
قَدِمُوا الْمَدِينَةَ حَالَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَيْنَهُمْ ، فَكَانَ الْأَنْصَارِيُّ يَرِثُ الْمُهَاجِرِيَّ ، وَالْمُهَاجِرِيُّ
يَرِثُ الْأَنْصَارِيَّ ؛ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، ثُمَّ انْقَطَعَ ذَلِكَ
فَلَا تَوَاخِيَ بَيْنَ أَحَدٍ الْيَوْمَ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ : نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ كَانُوا
يَتَبَنَّوْنَ الْأَبْنَاءَ ، فَرَدَّ اللَّهُ الْمِيرَاثَ إلَى ذَوِي
الْأَرْحَامِ وَالْعَصَبَةِ ، وَجَعَلَ لَهُمْ نَصِيبًا فِي الْوَصِيَّةِ .
وَقَدْ أَحْكَمَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحِ بَيَانًا
بِمَا رَوَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرْهَانًا
قَالَ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي
الصَّحِيحِ : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ } قَالَ : وَرَثَةٌ ، { وَاَلَّذِينَ
عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } فَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ
يَرِثُ الْمُهَاجِرِيُّ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ ذِي رَحِمِهِ لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي
آخَى بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ
: { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ } نُسِخَتْ .
ثُمَّ قَالَ
: وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ النَّصْرِ
وَالرِّفَادَةِ وَالنَّصِيحَةِ ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوَصَّى لَهُ ،
وَهَذَا غَايَةٌ لَيْسَ لَهَا مَطْلَبٌ
.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ :
حُكْمُ الْآيَةِ بَاقٍ مَنْ يَرِثُ بِهِ وَبِالِاشْتِرَاكِ فِي الدُّيُونِ
لِاشْتِرَاكِهِمَا عِنْدَهُ فِي الْعَقْدِ ، وَهَذَا بَابٌ قَدْ
اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَقَدْ
بَيَّنَّا هَاهُنَا مَعْنَى الْآيَةِ ، وَحَقَّقْنَا أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَهَا
مَعْنًى .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى :
{ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ
عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ
حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاَللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ
فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ
فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا } .
فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : ثَبَتَ
عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ : { جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إنَّ زَوْجِي لَطَمَ وَجْهِي .
قَالَ : بَيْنَكُمَا الْقِصَاصُ .
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَا تَعْجَلْ
بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إلَيْكَ وَحْيُهُ } .
قَالَ حَجَّاجُ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ : فَأَمْسَكَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى :
{ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } } .
قَالَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ : سَمِعْت الْحَسَنَ يَقْرَؤُهَا : مِنْ
قَبْلِ أَنْ نَقْضِيَ إلَيْكَ وَحْيَهُ ، بِالنُّونِ وَنَصْبِ الْيَاءِ مِنْ
" وَحْيَهُ " .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { قَوَّامُونَ
} : يُقَالُ قَوَّامٌ وَقَيِّمٌ ، وَهُوَ فَعَّالٌ وَفَيْعَلٌ مِنْ قَامَ ،
الْمَعْنَى هُوَ أَمِينٌ عَلَيْهَا يَتَوَلَّى أَمْرَهَا ، وَيُصْلِحُهَا فِي
حَالِهَا ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَلَيْهَا لَهُ الطَّاعَةُ وَهِيَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الزَّوْجَانِ
مُشْتَرَكَانِ فِي الْحُقُوقِ ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ : {
وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } بِفَضْلِ الْقَوَّامِيَّةِ ؛ فَعَلَيْهِ
أَنْ يَبْذُلَ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ ، وَيُحْسِنَ الْعِشْرَةَ وَيَحْجُبَهَا ، وَيَأْمُرَهَا
بِطَاعَةِ اللَّهِ ، وَيُنْهِيَ إلَيْهَا شَعَائِرَ الْإِسْلَامِ مِنْ صَلَاةٍ
وَصِيَامٍ إذَا وَجَبَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَعَلَيْهَا الْحِفْظُ لِمَالِهِ ،
وَالْإِحْسَانُ إلَى أَهْلِهِ ، وَالِالْتِزَامُ لِأَمْرِهِ فِي الْحَجَبَةِ
وَغَيْرِهَا إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَقَبُولِ
قَوْلِهِ فِي الطَّاعَاتِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { بِمَا
فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } : الْمَعْنَى إنِّي جَعَلْت
الْقَوَّامِيَّةَ عَلَى الْمَرْأَةِ لِلرَّجُلِ لِأَجْلِ تَفْضِيلِي لَهُ
عَلَيْهَا ، وَذَلِكَ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : الْأَوَّلُ : كَمَالُ الْعَقْلِ
وَالتَّمْيِيزِ .
الثَّانِي :
كَمَالُ الدِّينِ وَالطَّاعَةِ فِي الْجِهَادِ
وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ عَلَى الْعُمُومِ ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَهَذَا الَّذِي بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَا رَأَيْت مِنْ نَاقِصَاتٍ عَقْلٍ
وَدِينٍ أَسْلَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْكُنَّ .
قُلْنَ :
وَمَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَلَيْسَ
إحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ اللَّيَالِيَ لَا تُصَلِّي وَلَا تَصُومُ ؛ فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ
دِينِهَا .
وَشَهَادَةُ إحْدَاكُنَّ عَلَى النِّصْفِ مِنْ شَهَادَةِ
الرَّجُلِ ، فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا } .
وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى ذَلِكَ
بِالنَّقْصِ ، فَقَالَ : { أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا
الْأُخْرَى } .
الثَّالِثُ : بَذْلُهُ الْمَالَ مِنْ الصَّدَاقِ
وَالنَّفَقَةِ ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهَا هَاهُنَا .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : {
فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ
} : يَعْنِي مُطِيعَاتٌ ، وَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ الْقُنُوتِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ } : يَعْنِي غَيْبَةَ زَوْجِهَا ، لَا تَأْتِي فِي
مَغِيبِهِ بِمَا يَكْرَهُ أَنْ يَرَاهُ مِنْهَا فِي حُضُورِهِ ؛ وَقَدْ قَالَ
الشَّعْبِيُّ : إنَّ شُرَيْحًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُقَالُ
لَهَا زَيْنَبُ .
قَالَ : فَلَمَّا تَزَوَّجْتهَا نَدِمْت حَتَّى أَرَدْت
أَنْ أُرْسِلَ إلَيْهَا بِطَلَاقِهَا
.
فَقُلْت : لَا أَعْجَلُ حَتَّى يُجَاءَ بِهَا .
قَالَ :
فَلَمَّا جِيءَ بِهَا تَشَهَّدَتْ ثُمَّ قَالَتْ :
أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ نَزَلْنَا مَنْزِلًا لَا نَدْرِي مَتَى نَظْعَنُ مِنْهُ ،
فَانْظُرْ الَّذِي تَكْرَهُ ، هَلْ تَكْرَهُ زِيَارَةَ الْأَخْتَانِ ؟ فَقُلْت : أَمَّا بَعْدُ
فَإِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ ، لَا أَكْرَهُ الْمُرَافَقَةَ ، وَإِنِّي لَأَكْرَهُ
مُلَالِ الْأَخْتَانِ قَالَ : فَمَا شَرَطْتُ شَيْئًا إلَّا وَفَتْ بِهِ قَالَ :
فَأَقَامَتْ سَنَةً ثُمَّ جِئْت يَوْمًا وَمَعَهَا فِي الْحَجَلَةِ إنْسٌ ،
فَقُلْت : إنَّا لِلَّهِ .
فَقَالَتْ : أَبَا أُمَيَّةَ ، إنَّهَا أُمِّي ،
فَسَلَّمَ عَلَيْهَا .
فَقَالَتْ : اُنْظُرْ فَإِنْ رَابَكَ شَيْءٌ مِنْهَا
فَأَوْجِعْ رَأْسَهَا .
قَالَ : فَصَحِبَتْنِي ثُمَّ هَلَكَتْ قَبْلِي .
قَالَ : فَوَدِدْت أَنِّي قَاسَمْتهَا عُمْرِي أَوْ
مِتُّ أَنَا وَهِيَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ
.
وَقَالَ شُرَيْحٌ : رَأَيْت رِجَالًا يَضْرِبُونَ
نِسَاءَهُمْ فَشُلَّتْ يَمِينِي يَوْمَ أَضْرِبُ زَيْنَبَا الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى
: { بِمَا حَفِظَ اللَّهُ } : يَعْنِي بِحِفْظِ اللَّهِ
، وَهُوَ مَا يَخْلُقُهُ لِلْعَبْدِ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ ؛
فَإِنَّهُ إذَا شَاءَ أَنْ يَحْفَظَ عَبْدَهُ لَمْ يَخْلُقْ لَهُ إلَّا قُدْرَةَ الطَّاعَةِ
، فَإِنْ تَوَالَتْ كَانَتْ لَهُ عِصْمَةٌ وَلَا تَكُونُ إلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّاتِي
تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } : قِيلَ فِيهِ : تَظُنُّونَ ، وَقِيلَ تَتَيَقَّنُونَ ؛
وَلِكُلِّ وَجْهٍ مَعْنًى يَأْتِي بَيَانُهُ فِي تَرْكِيبِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْلُهُ : { نُشُوزَهُنَّ
} : يَعْنِي امْتِنَاعَهُنَّ مِنْكُمْ ؛ عَبَّرَ عَنْهُ بِالنُّشُوزِ ، وَهُوَ
مِنْ النَّشَزِ : الْمُرْتَفَعُ مِنْ الْأَرْضِ ، وَإِنَّ كُلَّ مَا امْتَنَعَ
عَلَيْكَ فَقَدْ نَشَزَ عَنْكَ حَتَّى مَاءُ الْبِئْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةِ : قَوْله تَعَالَى : {
فَعِظُوهُنَّ } : وَهُوَ التَّذْكِيرُ بِاَللَّهِ فِي التَّرْغِيبِ لِمَا عِنْدَهُ
مِنْ ثَوَابٍ ، وَالتَّخْوِيفِ لِمَا لَدَيْهِ مِنْ عِقَابٍ ، إلَى مَا يَتْبَعُ
ذَلِكَ مِمَّا يُعَرِّفُهَا بِهِ مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي إجْمَالِ الْعِشْرَةِ
، وَالْوَفَاءِ بِذِمَامِ الصُّحْبَةِ ، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِ الطَّاعَةِ لِلزَّوْجِ
، وَالِاعْتِرَافِ بِالدَّرَجَةِ الَّتِي لَهُ عَلَيْهَا ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَوْ أَمَرْت أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ
إلَى أَحَدٍ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا } .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ } : فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : يُوَلِّيهَا ظَهْرَهُ فِي فِرَاشِهِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : لَا يُكَلِّمُهَا ، وَإِنْ وَطِئَهَا ؛
قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَأَبُو الضُّحَى
.
الثَّالِثُ :
لَا يَجْمَعُهَا وَإِيَّاهُ فِرَاشٌ وَلَا وَطْءٌ حَتَّى
تَرْجِعَ إلَى الَّذِي يُرِيدُ ؛ قَالَهُ إبْرَاهِيمُ وَالشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ
وَغَيْرِهِمْ .
الرَّابِعُ : يُكَلِّمُهَا وَيُجَامِعُهَا ، وَلَكِنْ بِقَوْلٍ
فِيهِ غِلَظٌ وَشِدَّةٌ إذَا قَالَ لَهَا تَعَالِي ؛ قَالَهُ سُفْيَانُ .
قَالَ الطَّبَرِيُّ : مَا ذَكَرَهُ مَنْ تَقَدَّمَ مُعْتَرَضٌ
، وَذَكَرَ ذَلِكَ ، وَاخْتَارَ أَنَّ مَعْنَاهُ يُرْبَطْنَ بِالْهِجَارِ وَهُوَ
الْحَبْلُ فِي الْبُيُوتِ ، وَهِيَ الْمُرَادُ بِالْمَضَاجِعِ ، إذْ لَيْسَ
لِكَلِمَةِ { اُهْجُرُوهُنَّ } إلَّا أَحَدُ ثَلَاثَةِ مَعَانٍ .
فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْهَجْرِ الَّذِي هُوَ
الْهَذَيَانُ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُدَاوَى بِذَلِكَ ، وَلَا مِنْ الْهَجْرِ
الَّذِي هُوَ مُسْتَفْحَشٌ مِنْ الْقَوْلِ ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِهِ ؛
فَلَيْسَ لَهُ وَجْهٌ إلَّا أَنْ تَرْبِطُوهُنَّ بِالْهِجَارِ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : يَا لَهَا هَفْوَةٌ مِنْ
عَالِمٍ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ، وَإِنِّي لَأَعْجَبَكُمْ مِنْ ذَلِكَ ؛ إنَّ
الَّذِي أَجْرَأَهُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يُصَرِّحَ
بِأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْهُ ، هُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ
مَالِكٍ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ امْرَأَةَ الزُّبَيْرِ
بْنِ الْعَوَّامِ كَانَتْ تَخْرُجُ حَتَّى عُوتِبَ فِي ذَلِكَ .
قَالَ : وَعَتَبَ عَلَيْهَا وَعَلَى ضَرَّتِهَا ،
فَعَقَدَ شَعْرَ وَاحِدَةٍ بِالْأُخْرَى ، وَضَرَبَهُمَا ضَرْبًا شَدِيدًا ،
وَكَانَتْ الضَّرَّةُ أَحْسَنُ اتِّقَاءً ، وَكَانَتْ أَسْمَاءُ لَا تَتَّقِي ؛
فَكَانَ الضَّرْبُ بِهَا أَكْثَرَ وَآثَرَ ؛ فَشَكَتْهُ إلَى أَبِيهَا أَبِي
بَكْرٍ ؛ فَقَالَ لَهَا : أَيْ بُنَيَّةَ اصْبِرِي ؛ فَإِنَّ الزُّبَيْرَ رَجُلٌ
صَالِحٌ ،
وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ زَوْجَكِ فِي الْجَنَّةِ ،
وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ إذَا ابْتَكَرَ بِالْمَرْأَةِ تَزَوَّجَهَا
فِي الْجَنَّةِ .
فَرَأَى الرَّبْطَ وَالْعَقْدَ مَعَ احْتِمَالِ
اللَّفْظِ مَعَ فِعْلِ الزُّبَيْرَ ، فَأَقْدَمَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ
لِذَلِكَ .
وَعَجَبًا لَهُ مَعَ تَبَحُّرِهِ فِي الْعُلُومِ وَفِي
لُغَةِ الْعَرَبِ كَيْفَ بَعُدَ عَلَيْهِ صَوَابُ الْقَوْلِ ، وَحَادَ عَنْ
سَدَادِ النَّظَرِ ؛ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ مِنْ أَخْذِ
الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ الْمُفْضِيَةِ بِسَالِكِهَا إلَى
السَّدَادِ ؛ فَنَظَرْنَا فِي مَوَارِدِ " هـ ج ر " فِي لِسَانِ
الْعَرَبِ عَلَى هَذَا النِّظَامِ فَوَجَدْنَاهَا سَبْعَةً : ضِدَّ الْوَصْلِ .
مَا لَا يَنْبَغِي مِنْ الْقَوْلِ .
مُجَانَبَةُ الشَّيْءِ ، وَمِنْهُ الْهَجْرَةُ .
هَذَيَانُ الْمَرِيضِ .
انْتِصَافُ النَّهَارِ .
الشَّابُّ الْحَسَنِ .
الْحَبْلُ الَّذِي يُشَدُّ فِي حِقْوِ الْبَعِيرِ ثُمَّ
يُشَدُّ فِي أَحَدِ رُسْغَيْهِ
.
وَنَظَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَوَارِدِ فَأَلْفَيْنَاهَا
تَدُورُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْبَعْدُ عَنْ الشَّيْءِ فَالْهَجْرُ قَدْ
بَعُدَ عَنْ الْوَصْلِ الَّذِي يَنْبَغِي مِنْ الْأُلْفَةِ وَجَمِيلِ الصُّحْبَةِ
، وَمَا لَا يَنْبَغِي مِنْ الْقَوْلِ قَدْ بَعُدَ عَنْ الصَّوَابِ ،
وَمُجَانَبَةُ الشَّيْءِ بُعْدٌ مِنْهُ وَأَخْذٌ فِي جَانِبٍ آخَرَ عَنْهُ ،
وَهَذَيَانُ الْمَرِيضِ قَدْ بَعُدَ عَنْ نِظَامِ الْكَلَامِ ، وَانْتِصَافُ
النَّهَارِ قَدْ بَعُدَ عَنْ طَرَفَيْهِ الْمَحْمُودَيْنِ فِي اعْتِدَالِ
الْهَوَاءِ وَإِمْكَانِ التَّصَرُّفِ
.
وَالشَّابُّ الْحَسَنُ قَدْ بَعُدَ عَنْ الْعَابِ ،
وَالْحَبْلُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الْبَعِيرُ قَدْ أَبْعَدَهُ عَنْ اسْتِرْسَالِهِ
فِي تَصَرُّفِهِ وَاسْتِرْسَالِ مَا رُبِطَ عَنْ تَقَلْقُلِهِ وَتَحَرُّكِهِ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، وَكَانَ مَرْجِعُ الْجَمِيعِ
إلَى الْبُعْدِ فَمَعْنَى الْآيَةِ : أَبَعِدُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ .
وَلَا يُحْتَاجُ إلَى هَذَا التَّكَلُّفِ الَّذِي
ذَكَرَهُ الْعَالَمُ ، وَهُوَ لَا يَنْبَغِي لِمِثْلِ السُّدِّيِّ وَالْكَلْبِيِّ
فَكَيْفَ أَنْ يَخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ ، فَاَلَّذِي قَالَ : يُوَلِّيهَا
ظَهْرَهُ
جَعَلَ الْمَضْجَعَ ظَرْفًا لِلْهَجْرِ ، وَأَخَذَ
الْقَوْلَ عَلَى أَظْهَرْ الظَّاهِرِ ، وَهُوَ حَبْرُ الْأُمَّةِ ، وَهُوَ حَمَلَ
الْأَمْرَ عَلَى الْأَقَلِّ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ الْأُصُولِ .
وَاَلَّذِي قَالَ يَهْجُرُهَا فِي الْكَلَامِ حَمَلَ
الْأَمْرَ عَلَى الْأَكْثَرِ الْمُوفِي ، فَقَالَ : لَا يُكَلِّمُهَا وَلَا
يُضَاجِعُهَا ، وَيَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ كَمَا يَقُولُ : اُهْجُرْهُ فِي اللَّهِ
، وَهَذَا هُوَ أَصْلُ مَالِكٍ
.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ فِي
تَفْسِيرِ الْآيَةِ : بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ لَهُ
نِسَاءٌ فَكَانَ يُغَاضِبُ بَعْضَهُنَّ ، فَإِذَا كَانَتْ لَيْلَتُهَا يَفْرِشُ فِي
حُجْرَتِهَا وَتَبِيتُ هِيَ فِي بَيْتِهَا فَقُلْت لِمَالِكٍ : وَذَلِكَ لَهُ
وَاسِعٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى : {
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ
} وَاَلَّذِي قَالَ : لَا يُكَلِّمُهَا وَإِنْ وَطِئَهَا
فَصَرَفَهُ نَظَرُهُ إلَى أَنْ جَعَلَ الْأَقَلَّ فِي الْكَلَامِ ، وَإِذَا وَقَعَ
الْجِمَاعُ فَتْرُكِ الْكَلَامِ سَخَافَةٌ ، هَذَا وَهُوَ الرَّاوِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ .
وَاَلَّذِي قَالَ : يُكَلِّمُهَا بِكَلَامٍ فِيهِ غِلَظٌ
إذَا دَعَاهَا إلَى الْمَضْجَعِ جَعَلَهُ مِنْ بَابِ مَا لَا يَنْبَغِي مِنْ
الْقَوْلِ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ الْقَوْلِ فِي الرَّأْي ؛ فَإِنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَفَعَ التَّثْرِيبَ عَنْ الْأَمَةِ إذَا زَنَتْ وَهُوَ
الْعِقَابُ بِالْقَوْلِ ، فَكَيْفَ يَأْمُرُ مَعَ ذَلِكَ بِالْغِلْظَةِ عَلَى
الْحُرَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَاضْرِبُوهُنَّ } ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { أَيُّهَا النَّاسُ ، إنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا ، وَلِنِسَائِكُمْ
عَلَيْكُمْ حَقًّا ؛ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا
تَكْرَهُونَهُ ، وَعَلَيْهِنَّ أَلَّا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ، فَإِنْ
فَعَلْنَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَهْجُرُوهُنَّ فِي
الْمَضَاجِعِ وَتَضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ، فَإِنْ انْتَهَيْنَ
فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } .
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّاشِزَ لَا
نَفَقَةَ لَهَا وَلَا كِسْوَةَ ، وَأَنَّ الْفَاحِشَةَ هِيَ الْبَذَاءُ لَيْسَ
الزِّنَا كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ ، فَفَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضَّرْبَ ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُبَرِّحًا ، أَيْ
لَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ عَلَى الْبَدَنِ يَعْنِي مِنْ جُرْحٍ أَوْ كَسْرٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : مِنْ أَحْسَنِ
مَا سَمِعْت فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ؛ قَالَ
: يَعِظُهَا فَإِنْ هِيَ قَبِلَتْ وَإِلَّا هَجَرَهَا ، فَإِنْ قَبِلَتْ وَإِلَّا
ضَرَبَهَا ، فَإِنْ هِيَ قَبِلَتْ وَإِلَّا بَعَثَ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ
وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ، فَيَنْظُرَانِ مِمَّنْ الضَّرَرُ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ
الْخُلْعُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَالَ عَطَاءٌ :
لَا يَضْرِبُهَا وَإِنْ أَمَرَهَا وَنَهَاهَا فَلَمْ تُطِعْهُ ، وَلَكِنْ يَغْضَبُ
عَلَيْهَا .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا مِنْ فِقْهِ عَطَاءٍ ، فَإِنَّهُ
مِنْ فَهْمِهِ بِالشَّرِيعَةِ وَوُقُوفِهِ عَلَى مَظَانِّ الِاجْتِهَادِ عَلِمَ
أَنَّ الْأَمْرَ بِالضَّرْبِ هَاهُنَا أَمْرُ إبَاحَةٍ ، وَوَقَفَ عَلَى
الْكَرَاهِيَةِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ : { إنِّي
لَأَكْرَهُ لِلرَّجُلِ يَضْرِبُ أَمَتَهُ عِنْدَ غَضَبِهِ ، وَلَعَلَّهُ أَنْ
يُضَاجِعَهَا مِنْ يَوْمِهِ } .
وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ { أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُسْتُؤْذِنَ
فِي ضَرْبِ النِّسَاءِ ، فَقَالَ : اضْرِبُوا ، وَلَنْ يَضْرِبَ خِيَارُكُمْ } .
فَأَبَاحَ وَنَدَبَ إلَى التَّرْكِ .
وَإِنَّ فِي الْهَجْرِ لَغَايَةَ الْأَدَبِ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ لَا
يَسْتَوُونَ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ يُقْرَعُ بِالْعَصَا وَالْحُرَّ
تَكْفِيهِ الْإِشَارَةُ ؛ وَمِنْ النِّسَاءِ ، بَلْ مِنْ الرِّجَالِ مَنْ لَا
يُقِيمُهُ إلَّا الْأَدَبُ ، فَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَلَهُ أَنْ
يُؤَدِّبَ ، وَإِنْ تَرَكَ فَهُوَ أَفْضَلُ .
قَالَ بَعْضُهُمْ وَقَدْ قِيلَ لَهُ مَا أَسْوَأُ أَدَبِ
وَلَدِكِ فَقَالَ : مَا أُحِبُّ اسْتِقَامَةَ وَلَدِي فِي فَسَادِ دِينِي .
وَيُقَالُ : مِنْ حُسْنِ خُلُقِ السَّيِّدِ سُوءُ أَدَبِ
عَبْدِهِ .
وَإِذَا لَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلرَّجُلِ
زَوْجَةً صَالِحَةً وَعَبْدًا مُسْتَقِيمًا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَمْرُهُ
مَعَهُمَا إلَّا بِذَهَابِ جُزْءٍ مِنْ دِينِهِ ، وَذَلِكَ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ بِالتَّجْرِبَةِ .
فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ بَعْدَ الْهَجْرِ وَالْأَدَبِ فَلَا
تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا
.
الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى :
{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ
وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إنْ يُرِيدَا إصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } .
وَفِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : وَهِيَ مِنْ
الْآيَاتِ الْأُصُولِ فِي الشَّرِيعَةِ ، وَلَمْ نَجِدْ لَهَا فِي بِلَادِنَا
أَثَرًا ؛ بَلْ لَيْتَهُمْ يُرْسِلُونَ إلَى الْأَمِينَةِ ، فَلَا بِكِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى ائْتَمَرُوا ، وَلَا بِالْأَقْيِسَةِ اجْتَزَوْا ، وَقَدْ
نَدَبْت إلَى ذَلِكَ فَمَا أَجَابَنِي إلَى بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ عِنْدَ الشِّقَاقِ
إلَّا قَاضٍ وَاحِدٌ ، وَلَا إلَى الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ إلَّا
قَاضٍ آخَرُ ، فَلَمَّا وَلَّانِي اللَّهُ الْأَمْرَ أَجْرَيْت السُّنَّةَ كَمَا
يَنْبَغِي ، وَأَرْسَلْت الْحَكَمَيْنِ ، وَقُمْت فِي مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ
كَمَا عَلَّمَنِي اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ الْحِكْمَةِ وَالْأَدَبِ لِأَهْلِ
بَلَدِنَا لِمَا غَمَرَهُمْ مِنْ الْجَهَالَةِ ؛ وَلَكِنْ أَعْجَبُ لِأَبِي
حَنِيفَةَ لَيْسَ لِلْحَكَمَيْنِ عِنْدَهُ خَبَرٌ ، وَهُوَ كَثِيرًا مَا يَتْرُكُ
الظَّوَاهِرَ وَالنُّصُوصَ لِلْأَقْيِسَةِ ؛ بَلْ أَعْجَبُ أَيْضًا مِنْ
الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ مَا نَصُّهُ : الَّذِي يُشْبِهُ ظَاهِرَ الْآيَةِ
أَنَّهُ فِيمَا عَمَّ الزَّوْجَيْنِ مَعًا حَتَّى يَشْتَبِهَ فِيهِ حَالَاهُمَا ، وَذَلِكَ
أَنِّي وَجَدْت اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَذِنَ فِي نُشُوزِ الزَّوْجِ بِأَنْ
يُصَالَحَا ، وَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ
، وَبَيَّنَ فِي نُشُوزِ الْمَرْأَةِ بِالضَّرْبِ ، وَأَذِنَ فِي خَوْفِهِمَا
أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ بِالْخُلْعِ ، وَذَلِكَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ
بِرِضَاءِ الْمَرْأَةِ ، وَحُظِرَ أَنْ يَأْخُذُ الرَّجُل مِمَّا أَعْطَى شَيْئًا
إنْ أَرَادَ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ ، فَلَمَّا أَمَرَ فِيمَنْ
خِفْنَا الشِّقَاقَ بَيْنَهُمَا بِالْحَكَمَيْنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ
حُكْمَهُمَا غَيْرُ حُكْمِ الْأَزْوَاجِ ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ بَعَثَ حَكَمًا
مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ، وَلَا يَبْعَثُ الْحَكَمَيْنِ إلَّا مَأْمُونَيْنِ
بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ وَتَوْكِيلِهِمَا
لِلْحَكَمَيْنِ بِأَنْ يَجْمَعَا أَوْ يُفَرِّقَا إذَا
رَأَيَا ذَلِكَ .
وَوَجَدْنَا حَدِيثًا بِإِسْنَادٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْحَكَمَيْنِ وَكِيلَانِ لِلزَّوْجَيْنِ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : هَذَا مُنْتَهَى كَلَامِ
الشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابُهُ يَفْرَحُونَ بِهِ ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُلْتَفَتُ
إلَيْهِ وَلَا يُشْبِهُ نِصَابَهُ فِي الْعِلْمِ ، وَقَدْ تَوَلَّى الْقَاضِي
أَبُو إِسْحَاقَ الرَّدَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْصِفْهُ فِي الْأَكْثَرِ .
وَاَلَّذِي يَقْتَضِي الرَّدَّ عَلَيْهِ بِالْإِنْصَافِ
وَالتَّحْقِيقِ أَنْ نَقُولَ : أَمَّا قَوْلُهُ الَّذِي يُشْبِهُ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّهُ
فِيمَا عَمَّ الزَّوْجَيْنِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ بَلْ هُوَ نَصُّهُ ، وَهِيَ مِنْ
أَبْيَنِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَأَوْضَحِهَا جَلَاءً ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
قَالَ : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } .
وَمَنْ خَافَ مِنْ امْرَأَتِهِ نُشُوزًا وَعَظَهَا ؛
فَإِنْ أَنَابَتْ وَإِلَّا هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ ؛ فَإِنْ ارْعَوَتْ وَإِلَّا
ضَرَبَهَا ، فَإِنْ اسْتَمَرَّتْ فِي غُلَوَائِهَا مَشَى الْحَكَمَانِ إلَيْهِمَا
؛ وَهَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ نَصًّا ، وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ بَيَانٌ .
وَدَعْهُ لَا يَكُونُ نَصًّا يَكُونُ ظَاهِرًا ،
فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ الشَّافِعِيُّ يُشْبِهُ الظَّاهِرَ فَلَا نَدْرِي مَا
الَّذِي يُشْبِهُ الظَّاهِرَ ؟ وَكَيْفَ يَقُولُ اللَّهُ : { وَإِنْ خِفْتُمْ
شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } ؛ فَنَصَّ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا ، وَيَقُولُ هُوَ :
يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا عَمَّهُمَا وَأَذِنَ فِي خَوْفِهِمَا أَلَّا
يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ بِالْخُلْعِ ، وَذَلِكَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ بِرِضَا
الْمَرْأَةِ ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ ، وَهُوَ نَصُّهُ .
ثُمَّ قَالَ
: فَلَمَّا أَمَرَ بِالْحَكَمَيْنِ عَلِمْنَا أَنَّ
حُكْمَهُمَا غَيْرُ حُكْمِ الْأَزْوَاجِ ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ بِأَنْ
يَنْفُذَ عَلَيْهِمَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمَا ، فَتَتَحَقَّقُ الْغَيْرِيَّةُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : لَا يَبْعَثُ الْحَكَمَيْنِ إلَّا
مَأْمُونَيْنِ فَصَحِيحٌ ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ
بِتَوْكِيلِهِمَا فَخَطَأٌ صُرَاحٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ
خَاطَبَ غَيْرَ الزَّوْجَيْنِ إذَا خَافَا الشِّقَاقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ
بِإِرْسَالِ الْحَكَمَيْنِ ، وَإِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ غَيْرَهُمَا فَكَيْفَ
يَكُونُ ذَلِكَ بِتَوْكِيلِهِمَا ، وَلَا يَصِحُّ لَهُمَا حُكْمٌ إلَّا بِمَا
اجْتَمَعَا عَلَيْهِ ، وَالتَّوْكِيلُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ إلَّا
فِيمَا يُخَالِفُ الْآخَرَ ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ هَاهُنَا .
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { وَإِنْ خِفْتُمْ
} : قَالَ السُّدِّيُّ : يُخَاطِبُ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ إذَا ضَرَبَهَا فَشَاقَّتْهُ
، تَقُولُ الْمَرْأَةُ لِحَكَمِهَا : قَدْ وَلَّيْتُكَ أَمْرِي وَحَالِي كَذَا ؛ وَيَبْعَثُ
الرَّجُلُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَيَقُولُ لَهُ : حَالِي كَذَا ؛ قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ ، وَمَالَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : الْمُخَاطَبُ
السُّلْطَانُ ، وَلَمْ يَنْتَهِ رَفْعُ أَمْرِهِمَا إلَى السُّلْطَانِ ،
فَأَرْسَلَ الْحَكَمَيْنِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : قَدْ يَكُونُ السُّلْطَانَ ، وَقَدْ
يَكُونُ الْوَلِيَّيْنِ إذَا كَانَ الزَّوْجَانِ مَحْجُورَيْنِ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الْمُخَاطَبَ الزَّوْجَانِ
فَلَا يَفْهَمُ كِتَابَ اللَّهِ كَمَا قَدَّمْنَا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ السُّلْطَانُ فَهُوَ
الْحَقُّ .
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ : إنَّهُ قَدْ يَكُونُ
الْوَلِيَّيْنِ فَصَحِيحٌ ، وَيُفِيدُهُ لَفْظُ الْجَمْعِ ، فَيَفْعَلُهُ
السُّلْطَانُ تَارَةً ، وَيَفْعَلُهُ الْوَصِيُّ أُخْرَى .
وَإِذَا أَنْفَذَ الْوَصِيَّانِ حَكَمَيْنِ فَهُمَا
نَائِبَانِ عَنْهُمَا ، فَمَا أَنْفَذَاهُ نَفَذَ ، كَمَا لَوْ أَنْفَذَهُ
الْوَصِيَّانِ .
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ ، وَأَيُّوبُ عَنْ
عُبَيْدَةَ ، عَنْ عَلِيٍّ ؛ قَالَ : جَاءَ إلَيْهِ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ
وَمَعَهُمَا فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ ، فَأَمَرَهُمْ فَبَعَثُوا حَكَمًا مِنْ
أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ، ثُمَّ قَالَ لِلْحَكَمَيْنِ : أَتَدْرِيَانِ
مَا عَلَيْكُمَا ؟ إنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا جَمَعْتُمَا ، وَإِنْ
رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا فَرَّقْتُمَا .
فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ : رَضِيت بِمَا فِي كِتَابِ
اللَّهِ لِي وَعَلَيَّ .
وَقَالَ الزَّوْجُ ، أَمَّا الْفُرْقَةُ
فَلَا
.
فَقَالَ : لَا تَنْقَلِبْ حَتَّى تُقِرَّ بِمِثْلِ
الَّذِي أَقَرَّتْ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ : فَبُنِيَ عَلَى أَنَّ
الْأَمْرَ إلَى الْحَكَمَيْنِ اللَّذَيْنِ بُعِثَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ
لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ أَمْرٌ فِي ذَلِكَ وَلَا نَهْيٌ .
فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَا مَضَيَا مِنْ عِنْدِ
عَلِيٍّ : رَضِيت بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِي وَعَلَيَّ .
وَقَالَ الزَّوْجُ : لَا أَرْضَى .
فَرَدَّ عَلَيْهِ عَلِيٌّ تَرْكَهُ الرِّضَا بِمَا فِي
كِتَابِ اللَّهِ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَ كَمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ،
أَوْ يُنَفِّذَ مَا فِيهِ بِمَا يَجِبُ مِنْ الْأَدَبِ ، فَلَوْ كَانَا وَكِيلَيْنِ
لَمْ يَقُلْ لَهَا : أَتَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا ؟ إنَّمَا كَانَ يَقُولُ :
أَتَدْرِيَانِ بِمَا وُكِّلْتُمَا ، وَيَسْأَلُ الزَّوْجَيْنِ مَا قَالَا لَهُمَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { حَكَمًا مِنْ
أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا
} : هَذَا نَصٌّ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي
أَنَّهُمَا قَاضِيَانِ لَا وَكِيلَانِ ، وَلِلْوَكِيلِ اسْمٌ فِي الشَّرِيعَةِ
وَمَعْنًى ، وَلِلْحُكْمِ اسْمٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَمَعْنًى ، فَإِذَا بَيَّنَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يَنْبَغِي لِشَاذٍّ فَكَيْفَ لِعَالَمٍ
أَنْ يُرَكِّبَ مَعْنَى أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، فَذَلِكَ تَلْبِيسٌ
وَإِفْسَادٌ لِلْأَحْكَامِ ، وَإِنَّمَا يَسِيرَانِ بِإِذْنِ اللَّهِ ، وَيُخْلِصَانِ
النِّيَّةَ لِوَجْهِ اللَّهِ ، وَيَنْظُرَانِ فِيمَا عِنْدَ الزَّوْجَيْنِ
بِالتَّثَبُّتِ ، فَإِنْ رَأَيَا لِلْجَمْعِ وَجْهًا جَمَعَا ، وَإِنْ
وَجَدَاهُمَا قَدْ أَنَابَا تَرَكَاهُمَا ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ عَقِيلَ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ تَزَوَّجَ فَاطِمَةَ بِنْتَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، فَقَالَتْ : اصْبِرْ
لِي وَأُنْفِقُ عَلَيْكَ ، وَكَانَ إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا قَالَتْ : يَا بَنِي
هَاشِمٍ ، لَا يُحِبُّكُمْ قَلْبِي أَبَدًا ، أَيْنَ الَّذِينَ أَعْنَاقُهُمْ كَأَبَارِيقِ
الْفِضَّةِ ، تَرِدُ أُنُوفُهُمْ قَبْلَ شِفَاهِهِمْ ، أَيْنَ عُتْبَةُ بْنُ
رَبِيعَةَ ؟ أَيْنَ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ؟ فَيَسْكُتُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا
يَوْمًا وَهُوَ بَرِمٌ .
فَقَالَتْ لَهُ : أَيْنَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ؟
فَقَالَ : عَلَى يَسَارِكِ فِي النَّارِ إذَا دَخَلْتِ ، فَنَشَرَتْ عَلَيْهَا
ثِيَابَهَا .
فَجَاءَتْ عُثْمَانَ ، فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ ؛
فَأَرْسَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ .
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَأُفَرِّقَنَّ بَيْنَهُمَا .
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ : مَا كُنْت لِأُفَرِّقَ بَيْنَ
شَيْخَيْنِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ
.
فَأَتَيَاهُمَا فَوَجَدَاهُمَا قَدْ سَدًّا عَلَيْهِمَا
أَبْوَابَهُمَا ، وَأَصْلَحَا أَمْرَهُمَا .
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا لَمَّا أَتَيَا اشْتَمَّا
رَائِحَةً طَيِّبَةً وَهُدُوًّا مِنْ الصَّوْتِ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ :
ارْجِعْ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَا قَدْ اصْطَلَحَا .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَفَلَا نَمْضِي فَنَنْظُرَ
أَمْرَهُمَا ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ
: فَنَفْعَلُ مَاذَا ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ :
أُقْسِمُ بِاَللَّهِ لَئِنْ دَخَلْت
عَلَيْهِمَا فَرَأَيْت الَّذِي أَخَافُ عَلَيْهِمَا
مِنْهُ لَأَحْكُمَنَّ عَلَيْهِمَا ثُمَّ لَأُفَرِّقَنَّ بَيْنَهُمَا .
فَإِنْ وَجَدَاهُمَا قَدْ اخْتَلَفَا سَعْيًا فِي
الْأُلْفَةِ ، وَذَكَّرَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِالصُّحْبَةِ ؛ فَإِنْ أَنَابَا
وَخَافَا أَنْ يَتَمَادَى ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِمَا ظَهَرَ فِي الْمَاضِي
، فَإِنْ يَكُنْ مَا طَلَعَا عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي يُخَافُ مِنْهُ التَّمَادِي
فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَرَّقَا بَيْنَهُمَا .
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ
وَالشَّعْبِيُّ وَمَالِكٌ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : وَقَالَ
الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ : هُمَا شَاهِدَانِ يَرْفَعَانِ الْأَمْرَ إلَى السُّلْطَانِ ، وَيَشْهَدَانِ
بِمَا ظَهَرَ إلَيْهِمَا .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ
.
وَاَلَّذِي صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا قَدَّمْنَا
مِنْ أَنَّهُمَا حَكَمَانِ لَا شَاهِدَانِ .
فَإِذَا فَرَّقَا بَيْنَهُمَا وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : تَكُونُ الْفُرْقَةُ كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا لِوُقُوعِ الْخَلَلِ
فِي مَقْصُودِ النِّكَاحِ مِنْ الْأُلْفَةِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ .
فَإِنْ قِيلَ
: إذَا ظَهَرَ الظُّلْمُ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ
الزَّوْجَةِ فَظُهُورُ الظُّلْمِ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ ، بَلْ يُؤْخَذُ مِنْ
الظَّالِمِ حَقُّ الْمَظْلُومِ وَيَبْقَى الْعَقْدُ .
قُلْنَا : هَذَا نَظَرٌ قَاصِرٌ ، يُتَصَوَّرُ فِي
عُقُودِ الْأَمْوَالِ ؛ فَأَمَّا عُقُودُ الْأَبْدَانِ فَلَا تَتِمُّ إلَّا
بِالِاتِّفَاقِ وَالتَّآلُفِ وَحُسْنِ التَّعَاشُرِ ؛ فَإِذَا فُقِدَ ذَلِكَ لَمْ
يَكُنْ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ وَجْهٌ ، وَكَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي الْفُرْقَةِ .
وَبِأَيِّ وَجْهٍ رَأَيَاهَا مِنْ الْمُتَارَكَةِ أَوْ
أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ الزَّوْجَةِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : جَازَ وَنَفَذَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا .
قَالَ الطَّبَرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يُؤْخَذُ مِنْ
مَالِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ شَيْءٌ إلَّا بِرِضَاهُ ، وَبِهِ قَالَ كُلَّ مَنْ جَعَلَهُمَا
شَاهِدَيْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمَا حَكَمَانِ لَا شَاهِدَانِ ، وَأَنَّ
فِعْلَهُمَا يَنْفُذُ كَمَا يَنْفُذُ فِعْلُ الْحَاكِمِ فِي الْأَقْضِيَةِ ،
وَكَمَا يَنْفُذُ فِعْلُ الْحَكَمَيْنِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَهِيَ أُخْتُهَا .
وَالْحِكْمَةُ عِنْدِي فِي ذَلِكَ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ ، فَخَصَّ
الشَّرْعَ هَاتَيْنِ الْوَاقِعَتَيْنِ بِحَكَمَيْنِ ؛ لِيَنْفُذَ حُكْمُهُمَا
بِعِلْمِهِمَا ، وَتَرْتَفِعَ بِالتَّعْدِيدِ التُّهْمَةُ عَنْهُمَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا كَانَتْ
الْإِسَاءَةُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ
قِبَلِ الْمَرْأَةِ ائْتَمَنَاهُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْهُمَا فَرَّقَا
بَيْنَهُمَا عَلَى بَعْضِ مَا أَصْدَقَهَا ، وَلَا يَسْتَوْعِبَانِهِ لَهُ ،
وَعِنْدَهُ بَعْضُ الظُّلْمِ ، رَوَاهُ مُحَمَّدٌ عَنْ أَشْهَبَ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله
تَعَالَى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ
} .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إنْ
يُرِيدَا إصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَمُجَاهِدٌ : هُمَا الْحَكَمَانِ إذَا أَرَادَا الْإِصْلَاحَ وَفَّقَ اللَّهُ
بَيْنَهُمَا ، وَذَلِكَ إذَا أَمَرَهُمَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِتَوْفِيقِهِ
فَقَدْ صَلُحَ أَمْرُهُمَا وَأَمْرُ الزَّوْجَيْنِ ، فَكُلُّ مَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ
فَهُوَ خَيْرٌ ، وَالْأَصْلُ هِيَ النِّيَّةُ ، فَإِذَا صَلُحَتْ صَلُحَتْ
الْحَالُ كُلُّهَا ، وَاسْتَقَامَتْ الْأَفْعَالُ وَقُبِلَتْ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : الْأَصْلُ فِي
الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَكُونَا مِنْ الْأَهْلِ ؛ وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ
الْأَهْلَ أَعْرَفُ بِأَحْوَالِ الزَّوْجَيْنِ ، وَأَقْرَبُ إلَى أَنْ يَرْجِعَ
الزَّوْجَانِ إلَيْهِمَا ؛ فَأَحْكَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَمْرَ بِأَهْلِهِ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا أَهْلٌ
، أَوْ كَانَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ لِعَدَمِ الْعَدَالَةِ
أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَخْتَارُ حَكَمَيْنِ عَدْلَيْنِ
مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا كَيْفَمَا كَانَ عَدَمُ
الْحَكَمَيْنِ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَا
جَارَيْنِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْحَكَمَيْنِ مَعْلُومٌ ، وَاَلَّذِي
فَاتَ بِكَوْنِهِمَا مِنْ أَهْلِهِمَا يَسِيرٌ ، فَيَكُونُ الْأَجْنَبِيُّ
الْمُخْتَارُ قَائِمًا مَقَامَهُمَا ، وَرُبَّمَا كَانَ أَوْفَى مِنْهُمَا .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : إذَا حَكَمَا بِالْفِرَاقِ
فَإِنَّهُ بَائِنٌ لِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا كُلِّيٌّ ، وَالْآخَرُ مَعْنَوِيٌّ .
أَمَّا الْكُلِّيُّ فَكُلُّ طَلَاقٍ يُنَفِّذُهُ
الْحَاكِمُ فَإِنَّهُ بَائِنٌ .
الثَّانِي :
أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ وَقَعَ الطَّلَاقُ
هُوَ الشِّقَاقُ ، وَلَوْ شُرِعَتْ فِيهِ الرَّجْعَةُ لَعَادَ الشِّقَاقُ ، كَمَا
كَانَ أَوَّلَ دُفْعَةٍ ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ يُفِيدُ شَيْئًا ؛ فَامْتَنَعَتْ الرَّجْعَةُ
لِأَجَلِهِ .
فَإِنْ أَوْقَعَا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ ؛ قَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ وَأَصْبَغُ : يَنْفُذُ
.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ : لَا يَكُونُ
إلَّا وَاحِدَةً .
وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ يَنْفُذُ
أَنَّهُمَا حَكَمَا فَيُنَفَّذُ مَا حَكَمَا بِهِ .
وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ حُكْمَهُمَا لَا يَكُونُ
فَوْقَ حُكْمِ الْحَاكِمِ لَا يُطَلِّقُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ ، كَذَلِكَ
الْحَكَمَانِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَرَدُّهُ الْمَسْأَلَةَ إلَى
مَسْأَلَةِ خِيَارِ الْأُمَّةِ حَزْمٌ ، وَالْأَصْلُ وَاحِدٌ ، وَالْأَدِلَّةُ
مُتَدَاخِلَةٌ وَمُتَقَارِبَةٌ فَلْيَطْلُبْ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : فَإِنْ حَكَمَ
أَحَدُهُمَا بِوَاحِدَةٍ ، وَالْآخَرُ بِثَلَاثٍ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ :
يَنْفُذُ الْوَاجِبُ ، و هِيَ الْوَاحِدَةُ الَّتِي اتَّفَقَا عَلَيْهَا وَيَلْغُو
مَا زَادَ .
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : لَا يَنْفُذُ شَيْءٌ ،
لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَنْفُذُ شَيْءٌ مِثْلُ قَوْلِ
ابْنِ حَبِيبٍ .
وَلَوْ طَلَّقَ أَحَدُهُمَا طَلْقَةً وَالْآخَرُ
طَلْقَتَيْنِ فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ تَلْزَمُهُ طَلْقَتَانِ .
وَقَوْلُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَصَحُّ ، كَالشَّاهِدَيْنِ
إذَا اخْتَلَفَا فِي الْعَدَدِ قُضِيَ بِالْأَقَلِّ .
======
ج6. كتاب : أحكام القرآن ابن العربي
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا حَكَمَ أَحَدُهُمَا
بِمَالٍ وَالْآخَرُ بِغَيْرِ مَالِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ ، لِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ
مَحْضٌ .
كَالشَّاهِدَيْنِ إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِبَيْعٍ
وَالْآخَرُ بِهِبَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ اتِّفَاقًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : إذَا عَلِمَ
الْإِمَامُ مِنْ حَالِ الزَّوْجَيْنِ الشِّقَاقَ لَزِمَهُ أَنْ يَبْعَثَ
إلَيْهِمَا حَكَمَيْنِ وَلَا يَنْتَظِرُ ارْتِفَاعَهُمَا ؛ لِأَنَّ مَا يَضِيعُ
مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ أَثْنَاءَ مَا يَنْتَظِرُ رَفْعُهُمَا إلَيْهِ لَا جَبْرَ
لَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : يُجْزِئُ
إرْسَالُ الْوَاحِدِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَكَمَ فِي الزِّنَا
بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ ، ثُمَّ قَدْ
{ أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إلَى الْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ أُنَيْسًا ، وَقَالَ لَهُ : إنْ
اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } ، وَكَذَلِكَ قَالَ
عَبْدُ الْمَلِكِ فِي الْمُدَوَّنَةِ
.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : لَوْ أَرْسَلَ
الزَّوْجَانِ حَكَمَيْنِ ، وَحَكَمَا نَفَذَ حُكْمُهُمَا ؛ لِأَنَّ التَّحْكِيمَ
عِنْدَنَا جَائِزٌ ، وَيَنْفُذُ فِعْلُ الْحَكَمِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ .
هَذَا إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَدْلًا ،
وَلَوْ كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ : حُكْمُهُ مَنْقُوضٌ ؛
لِأَنَّهُمَا تَخَاطَرَا بِمَا لَا يَنْبَغِي مِنْ الْغَرَرِ .
وَالصَّحِيحُ نُفُوذُهُ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ تَوْكِيلًا
فَفِعْلُ الْوَكِيلِ نَافِذٌ ، وَإِنْ كَانَ تَحْكِيمًا فَقَدْ قَدَّمَاهُ عَلَى
أَنْفُسِهِمَا ، وَلَيْسَ الْغَرَرُ بِمُؤَثِّرٍ فِيهِ ، كَمَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي
التَّوْكِيلِ ، وَبَابُ الْقَضَاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَرَرِ كُلِّهِ ، وَلَيْسَ
يَلْزَمُ فِيهِ مَعْرِفَةُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِمَا يَئُولُ إلَيْهِ الْحُكْمُ .
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى :
{ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ
إحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي
الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ
وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } .
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : كَمَا قَالَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : لَوْ
نَوَى تَبَرُّدًا أَوْ تَنَظُّفًا مَعَ نِيَّةِ الْحَدَثِ أَوْ مَجَمًّا
لِمَعِدَتِهِ مَعَ التَّقَرُّبِ لِلَّهِ أَوْ قَضَاءِ الصَّوْمِ ، فَإِنَّهُ لَا
يُجْزِيهِ ، لِأَنَّهُ مَزَجَ فِي نِيَّتِهِ التَّقَرُّبِ بِنِيَّةٍ
دُنْيَاوِيَّةٍ وَلَيْسَ لِلَّهِ إلَّا الدِّينُ الْخَالِصُ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ التَّبَرُّدَ لِلَّهِ ، وَالتَّنْظِيفَ
وَإِجْمَامَ الْمَعِدَةِ لِلَّهِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ أَوْ
مُبَاحٌ فِي مَوْضِعٍ ، وَلَا تُنَاقِضُ الْإِبَاحَةُ الشَّرِيعَةَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : وَلَيْسَ مِنْ هَذَا
الْبَابِ مَا لَوْ أَحَسَّ الْإِمَامُ وَهُوَ رَاكِعٌ بِدَاخِلٍ عَلَيْهِ فِي
الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْتَظِرُهُ ، وَلَيْسَ لِأَمْرٍ يَعُودُ إلَى نِيَّةِ
الصَّلَاةِ ؛ وَلَكِنْ لِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِمَنْ عَقَدَ الصَّلَاةَ مَعَهُ ؛
وَمُرَاعَاتُهُ أَوْلَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى {
وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } : بِرُّ الْوَالِدَيْنِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ
الدِّينِ فِي الْمَفْرُوضَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَبِرُّهُمَا يَكُونُ فِي
الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ ؛ فَأَمَّا فِي الْأَقْوَالِ فَكَمَا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا } فَإِنَّ لَهَا
حَقَّ الرَّحِمِ الْمُطْلَقَةِ ، وَحَقَّ الْقَرَابَةِ الْخَاصَّةِ ؛ إذْ أَنْتَ
جُزْءٌ مِنْهُ ، وَهُوَ أَصْلُكَ الَّذِي أَوْجَدَكَ ، وَهُوَ الْقَائِمُ بِكَ حَالَ
ضَعْفِكَ وَعَجْزِكَ عَنْ نَفْسِكَ
.
وَقَدْ { عَرَضَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ ، إنْ كُنْت تُرِيدُ النِّسَاءَ الْبِيضَ وَالنُّوقَ الْأُدْمَ فَعَلَيْكَ
بِبَنِي مُدْلِجٍ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَنَعَ مِنِّي سَبْيَ بَنِي مُدْلِجٍ لِصِلَتِهِمْ
الرَّحِمَ } .
وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ : أَنَّ يُوسُفَ لَمَّا
دَخَلَ عَلَيْهِ أَبَوَاهُ فَلَمْ يَقُمْ لَهُمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :
وَعِزَّتِي لَا أَخْرَجْت مِنْ صُلْبِكَ نَبِيًّا ، فَلَا نَبِيَّ فِيهِمْ مِنْ
عَقِبِهِ .
وَفِي الْحَدِيثِ : { إنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ أَنْ
يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ } ؛ وَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَرْجِعَ فِي
هِبَتِهِ ، وَأَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ
، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ
} .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا أَخَذَ الْوَالِدُ الْهِبَةَ مِنْ
الْوَلَدِ أَغْضَبَهُ فَعَقَّهُ ، وَمَا أَدَّى إلَى الْمَعْصِيَةِ فَمَعْصِيَةٌ .
قُلْنَا
: أَمَّا إذَا عَصَى أُخِذَ بِالشَّرْعِ فَلَا لَعًا
لَهُ وَلَا عُذْرَ ، إنَّمَا يَكُونُ الْعُذْرُ لِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ أَوْ عَصَى
اللَّهَ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَلْ مِنْ بِرِّ الرَّجُلِ بِوَالِدِهِ الْمُشْرِكِ
أَلَّا يَقْتُلَهُ ؟ قُلْنَا : مِنْ بِرِّهِ بِنَفْسِهِ أَنْ يَتَوَلَّى قَتْلَهُ .
{ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ
مُسْتَأْذِنًا فِي قَتْلِ أَبِيهِ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: إنْ أَذِنْت لِي فِي قَتْلِهِ قَتَلْته } : وَهَكَذَا
فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَلِلرَّحِمِ حَقٌّ ، وَلَكِنْ لَمَا جَاءَ حَقُّ
اللَّهِ تَعَالَى بَطَلَ حَقُّ الرَّحِمِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ، وَالْخَامِسَةُ :
الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ : وَقَدْ تَقَدَّمَتَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ } : حُرْمَةُ الْجَارِ عَظِيمَةٌ
فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ مَعْقُولَةٌ مَشْرُوعَةٌ مُرُوءَةً
وَدِيَانَةً ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا زَالَ
جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ } .
وَقَالَ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ
} .
" وَالْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ : جَارٌ لَهُ حَقٌّ
وَاحِدٌ ، وَهُوَ الْمُشْرِكُ ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ : الْجَارُ الْمُسْلِمُ ،
وَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ : الْجَارُ الْمُسْلِمُ لَهُ الرَّحِمُ " .
وَهُمَا صِنْفَانِ قَرِيبٌ وَبَعِيدٌ ، وَأَبْعَدُهُ فِي
قَوْلِ الزُّهْرِيِّ مَنْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَرْبَعُونَ دَارًا .
وَقِيلَ :
الْبَعِيدُ مَنْ يَلِيكَ بِحَائِطٍ ، وَالْقَرِيبُ مَنْ
يَلِيكَ بِبَابِهِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ
قَالَ لَهُ : { إنَّ لِي جَارَيْنِ ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أَهْدِي ؟ قَالَ : إلَى
أَقْرَبِهِمَا مِنْكَ بَابًا }
.
وَحُقُوقُهُ عَشَرَةٌ يَجْمَعُهَا الْإِكْرَامُ ، وَكَفُّ
الْأَذَى .
وَمِنْ الْعَشَرَةِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ : { لَا
يَمْنَعَنَّ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ } .
وَقَدْ رَأَى جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ
نَدْبًا لَا فَرْضًا ، وَأَنْ يَكُونَ مَنْعُهُ مَكْرُوهًا لَا مُحَرَّمًا ؛
لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ أَحَقُّ بِمَالِهِ .
وَالْحَائِطُ يَحْتَاجُهُ صَاحِبُهُ ؛ فَإِنْ أَعْطَاهُ
نَقَصَ مَالُهُ ، وَإِنْ أَعَارَهُ تَكَلَّفَ حِفْظَهُ بِالْإِشْهَادِ ، وَأَضَرَّ
بِنَفْسِهِ ؛ فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَحْتَمِلَ لَهُ ذَلِكَ فَلَهُ الْأَجْرُ ، وَإِنْ
أَبَى فَلَيْسَ عَلَيْهِ وِزْرٌ
.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : الصَّاحِبُ بِالْجَنْبِ :
قِيلَ : إنَّهُ الْجَارُ الْمُلَاصِقُ ، وَاَلَّذِي قَالَ هَذَا جَعَلَ قَوْلَهُ :
{ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى } الْجَارُ الَّذِي لَهُ الرَّحِمُ .
وَقِيلَ : إنَّهُ الَّذِي يَجْمَعُكَ مَعَهُ رُفَاقَةُ
السَّفَرِ ، فَهُوَ ذِمَامٌ عَظِيمٌ ، فَإِنَّهُ يَلُفُّهُ مَعَهُ الْأُنْسُ
وَالْأَمْنُ وَالْمَأْكَلُ وَالْمَضْجَعُ ، وَبَعْضُهَا يَكْفِي لِلْحُرْمَةِ ،
فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَتْ ؟ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : لَيْسَ مِنْ حَقِّ الْجُوَارِ
الشُّفْعَةُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ
الْخِلَافِ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي
هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَفْرُوضَاتِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ
الْإِحْسَانَ ، وَالْمَفْرُوضُ لَهُمْ يُؤْخَذُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ .
وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ ؛ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ يَعُمُّ الْفَرْضَ
وَالنَّفَلَ ، وَلَمْ يَبْقَ شَرْعٌ وَلَا حَقٌّ إلَّا دَخَلَ فِيهِ ؛ فَعَمَّتْ
الْوَصِيَّةُ فِيهِ ، وَتَفَصَّلَتْ مَنَازِلُهُ بِالْأَدِلَّةِ ؛ وَإِنَّمَا
قَطَعْنَا شُفْعَةَ الْجِوَارِ بِعِلَّةٍ أَنَّ الشُّفْعَةَ مُتَعَلِّقَةٌ
بِالشَّرِكَةِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ
} .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ } .
قُلْنَا : أَرَادَ بِهِ الشَّرِيكَ ، وَهُوَ أَخَصُّ
جُوَارٍ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ
.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : ابْنُ السَّبِيلِ : قِيلَ
: هُوَ الضَّيْفُ يَنْزِلُ بِكَ
.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ
ضَيْفَهُ ، جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ ، وَلَا يَحِلُّ
أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ } .
وَقَدْ كَانَ قَوْمٌ مِنْهُمْ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ
يَرَى أَنَّ الضِّيَافَةَ حَقٌّ
.
وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ } ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا كَرَامَةٌ ،
وَلَيْسَتْ بِحَقٍّ ، وَبِذَلِكَ يُفَسَّرُ أَنَّ الْإِحْسَانَ هَاهُنَا
مُسْتَحَبٌّ وَإِنْ كَانَ ابْنُ السَّبِيلِ الْفَقِيرُ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : { وَمَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ } : أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالرِّفْقِ بِهِمْ وَالْإِحْسَانِ
إلَيْهِمْ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ ، مَلَّكَكُمْ
اللَّهُ رِقَابَهُمْ ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ ، وَاكْسُوهُمْ مِمَّا
تَلْبَسُونَ ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مِنْ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُونَ ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ
فَأَعِينُوهُمْ } .
وَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ : { كُنْت أَضْرِبُ غُلَامًا
لِي فَسَمِعْت صَوْتًا مِنْ خَلْفِي : اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ مَرَّتَيْنِ ،
فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَلْقَيْت السَّوْطَ ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ
عَلَى هَذَا } .
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى :
{ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا
آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْيَهُودِ كَانُوا يَأْتُونَ
أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُزَهِّدُونَهُمْ
فِي نَفَقَةِ أَمْوَالِهِمْ فِي الدِّينِ ، وَيُخَوِّفُونَهُمْ الْفَقْرَ ، وَيَقُولُونَ
لَهُمْ : لَا تَدْرُونَ مَا يَكُونُ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : {
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } الْآيَةَ كُلَّهَا .
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ بَيَانَ
الْبُخْلِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : الْمَعْنَى أَنَّهُمْ بَخِلُوا
بِأَمْوَالِهِمْ ، وَأَمَرُوا غَيْرَهُمْ بِالْبُخْلِ .
وَقِيلَ : بَخِلُوا بِعِلْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ ، وَتَوَاصَوْا مَعَ أَحْبَارِهِمْ بِكَتْمِهِ ،
فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ }
، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
.
وَقِيلَ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ :
يَكْتُمُونَ الْغِنَى وَيَتَفَاقَرُونَ لِلنَّاسِ ، لَيْسَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ
، لَيْسَ مَعَنَا وَمَعَهُمْ ، وَذَلِكَ حَرَامٌ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ فَحَدِّثْ } .
وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ
نِعْمَةً أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ .
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ قَوْله تَعَالَى : {
وَاَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ
بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا
فَسَاءَ قَرِينًا } .
قِيلَ هُمْ الْيَهُودُ ، وَقِيلَ هُمْ الْمُنَافِقُونَ ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَبَيَانُهَا مِنْ تَمَامِ
مَا قَبْلَهَا ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ شَرٌّ مِنْ
الَّذِي يَبْخَلُ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ ، وَنَفَقَةُ الرِّيَاءِ تَدْخُلُ فِي
الْأَحْكَامِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْزِي .
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى
تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى
تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إنَّ
اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا
} .
فِيهَا ثَمَانٍ وَثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : خِطَابُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالصَّلَاةِ وَإِقَامَتِهَا
عَامٌّ فِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ
؛ وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَاهُنَا الْمُؤْمِنِينَ بِالْخِطَابِ
لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَقَدْ أَخَذُوا مِنْ الْخَمْرِ ،
وَتَلِفَتْ عَلَيْهِمْ أَذْهَانُهُمْ ؛ فَخُصُّوا بِهَذَا الْخِطَابِ ؛ إذْ كَانَ
الْكُفَّارُ لَا يَفْعَلُونَهَا صُحَاةً وَلَا سُكَارَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ
أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ ، عَنْ عَمْرٍو أَنَّهُ صَلَّى بِعَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَرَجُلٍ آخَرَ فَقَرَأَ : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ }
فَخَلَطَ فِيهَا ، وَكَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ الْخَمْرِ ؛ فَنَزَلَتْ : { لَا
تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ : صَنَعَ لَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا ، فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنْ الْخَمْرِ ،
فَأَخَذَتْ الْخَمْرُ مِنَّا ، وَحَضَرْت الصَّلَاةَ ، فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْت :
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ، وَنَحْنُ
نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ .
قَالَ
: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } الْآيَةَ .
خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بِأَبْيَنَ مِنْ
هَذَا ، لَكِنَّا لَا نَفْتَقِرُ إلَيْهَا هَاهُنَا ، وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ
مِنْ رِوَايَةِ الْعَدْلِ عَنْ الْعَدْلِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لَا
تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ } : سَمِعْت الشَّيْخَ الْإِمَامَ فَخْرَ الْإِسْلَامِ
أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ الشَّاشِيَّ وَهُوَ يَنْتَصِرُ لِمَذْهَبِ
أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي مَجْلِسِ النَّظَرِ ؛ قَالَ : يُقَالُ فِي
اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ : لَا تَقْرَبْ كَذَا بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ لَا
تَلْبَسْ بِالْفِعْلِ ، وَإِذَا كَانَ بِضَمِّ الرَّاءِ كَانَ مَعْنَاهُ لَا
تَدْنُ مِنْ الْمَوْضِعِ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ مَسْمُوعٌ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { الصَّلَاةَ } : وَهِيَ
فِي نَفْسِهَا مَعْلُومَةُ اللَّفْظِ مَفْهُومَةُ الْمَعْنَى ، لَكِنْ اخْتَلَفُوا
فِيهَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي الْمُرَادِ بِهَا هَاهُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا النَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ
نَفْسِهَا ؛ قَالَهُ عَلِيٌّ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ،
وَالْحَسَنُ ، وَمَالِكٌ ، وَجَمَاعَةٌ
.
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَوْضِعُ
الصَّلَاةِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، فِي قَوْلِهِ الثَّانِي
، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ ، وَعَمْرُو
بْنُ دِينَارٍ ، وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمْ .
سَمِعْت فَخْرَ الْإِسْلَامِ يَقُولُ فِي الدَّرْسِ :
الْمُرَادُ بِذَلِكَ لَا تَقْرَبُوا مَوَاضِعَ الصَّلَاةِ ، وَحَذَفَ الْمُضَافَ
وَإِقَامَتُهُ مَقَامَ الْمُضَافِ إلَيْهِ أَكْثَرُ فِي اللُّغَةِ مِنْ رَمْلِ
يَبْرِينَ وَهِيَ فِلَسْطِينُ فِي الْأَرْضِ ، وَيَكُونُ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَنْعِ
مِنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا نُهِيَ عَنْ دُخُولِ
مَوْضِعِهَا كَرَامَةً فَهِيَ بِالْمَنْعِ أَوْلَى .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَأَنْتُمْ سُكَارَى } : السُّكْرُ
: عِبَارَةٌ عَنْ حَبْسِ الْعَقْلِ عَنْ التَّصَرُّفِ
عَلَى الْقَانُونِ الَّذِي خُلِقَ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ مِنْ النِّظَامِ
وَالِاسْتِقَامَةِ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا
} أَيْ حُبِسَتْ عَنْ تَصَرُّفِهَا الْمُعْتَادِ لَهَا ، وَمِنْهُ سُكْرُ الْأَنْهَارِ
؛ وَهُوَ مَحْبِسُ مَائِهَا ، فَكُلُّ مَا حَبَسَ الْعَقْلَ عَنْ التَّصَرُّفِ
فَهُوَ سُكْرٌ ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْخَمْرِ ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ النَّوْمِ ،
وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْفَرَحِ وَالْجَزَعِ .
وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ
عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا السُّكْرِ سُكْرُ الْخَمْرِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ
إبَّانَ كَانَتْ الْخَمْرُ حَلَالًا ، خَلَا الضَّحَّاكِ فَإِنَّهُ قَالَ :
مَعْنَاهُ سُكَارَى مِنْ النَّوْمِ ، فَإِنْ كَانَ أَرَادَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ سُكْرِ
الْخَمْرِ نَهْيٌ عَنْ سُكْرِ النَّوْمِ فَقَدْ أَصَابَ ، وَلَا مَعْنَى لَهُ
سِوَاهُ ؛ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ { لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ } :
دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ كُلِّ قَضَاءٍ فِي حَالِ شُغْلِ الْبَالِ
بِنَوْمٍ أَوْ جُوعٍ أَوْ حَقْنٍ أَوْ حَزْقٍ ، فَلَا يَفْهَمُ مَعَهُ كَلَامَ
الْخُصُومِ ، كَمَا لَا يَعْلَمُ مَا يَقْرَأُ ، وَلَا يَعْقِلُ فِي الصَّلَاةِ
إذَا دَافَعَهُ الْأَخْبَثَانِ ، أَوْ كَانَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ ، كَمَا رَوَاهُ
مُسْلِمٌ ، وَلِذَلِكَ قَالَ : { حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : الْعِلَّةُ فِي النَّهْيِ : فَبَيَّنَ الْعِلَّةَ
فِي النَّهْيِ ، فَحَيْثُمَا وُجِدَتْ ، بِأَيِّ سَبَبٍ وُجِدَتْ ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا
الْحُكْمُ ، وَقَدْ أَغْنَى هَذَا اللَّفْظُ عَنْ عِلْمِ سَبَبِ الْآيَةِ ،
لِأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ
.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : { لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ وَهُوَ نَائِمٌ ؛ لَعَلَّهُ
يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ ، فَيَسُبُّ نَفْسَهُ } ، فَهَذَا أَيْضًا مُسْتَقِلٌّ
بِنَفْسِهِ ، وَالْحَقُّ يَعْضُدُ بَعْضُهُ بَعْضًا .
فَإِنْ قِيلَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ :
وَكَيْفَ يَصِحُّ تَقْدِيرُ
هَذَا النَّفْيِ ؟ أَتَقُولُونَ : إنَّ الْمُرَادَ بِهِ
السُّكْرُ ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ :
{ لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ وَهُوَ نَائِمٌ ، لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ
نَفْسَهُ } ؛ فَهَذَا أَيْضًا الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعَهُ مَعْنًى ، وَكَيْفَ
يَتَوَجَّهُ عَلَى هَذَا خِطَابٌ ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ : نَهَى عَنْ التَّعَرُّضِ لِلسُّكْرِ
إذَا كَانَ عَلَيْهِمْ فَرْضُ الصَّلَاةِ قِيلَ لَكُمْ : إنَّ السُّكْرَ إذَا
نَافَى ابْتِدَاءَ الْخِطَابِ نَافَى اسْتِدَامَتَهُ .
وَإِنْ قُلْتُمْ : إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُنْتَشِي
الَّذِي لَيْسَ بِسَكْرَانَ نُهِيَ أَنْ يُصَيِّرَ نَفْسَهُ سَكْرَانَ وَاَللَّهُ
تَعَالَى يَقُولُ : { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } أَيْ : فِي
حَالِ سُكْرِكُمْ ؛ وَلَمَّا كَانَ الِاضْطِرَابُ فِي الْآيَةِ هَكَذَا قَالَ
الشَّافِعِيُّ : الْمُرَادُ بِهِ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ .
هَذَا نَصُّ كَلَامِ بَعْضِ مَنْ يُدَّعَى لَهُ
التَّحْقِيقُ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ ، وَهَذِهِ مِنْهُ غَفْلَةٌ ؛
فَإِنَّ كُلَّ مَا لَزِمَهُ فِي تَقْدِيرِ الصَّلَاةِ مِنْ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ
يَلْزَمُهُ فِي تَقْدِيرِ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ .
وَاَلَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ
خِطَابًا لِلصَّاحِي ، يُقَالُ لَهُ : لَا تَشْرَبْ الْخَمْرَ بِحَالٍ ؛ فَإِنَّ
ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى أَنْ تُصَلِّيَ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ فَتَخْلِطَ كَمَا
فَعَلَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى التَّحْرِيمِ ، فَلَمْ يَقْنَعْ
بِهَا عُمَرُ .
وَالنَّهْيُ عَنْ التَّعَرُّضِ لِلْمُحَرَّمَاتِ
مَعْقُولٌ ؛ وَهَذَا الْخِطَابُ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ وَهُوَ صَاحٍ ، فَإِذَا
شَرِبَ وَعَصَى وَسَكِرَ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ اللَّوْمُ وَالْعِقَابُ ، وَيَصِحُّ
أَنْ يُخَاطَبَ الْمُنْتَشِي وَهُوَ يَعْقِلُ النَّهْيَ ، لَكِنَّ اسْتِمْرَارَ
الْأَفْعَالِ وَالْكَلَامِ وَانْتِظَامِهِ رُبَّمَا يَفُوتُهُ ؛ فَقِيلَ لَهُ :
لَا تَفْعَلْ وَأَنْتَ مُنْتَشٍ أَمْرًا لَا تَقْدِرُ عَلَى نِظَامِهِ كُلِّهِ ،
وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ يَأْخُذُ بِهَذَا مِنْ كَلَامِ هَذَا
الرَّجُلِ ، وَإِنَّمَا يَنْسِجُ الشَّافِعِيُّ عَلَى مِنْوَالِ الصَّحَابَةِ ،
وَمَا فِي
الْآيَةِ احْتِمَالٌ يَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهُوَ الْإِسْكَارُ .
فَإِنْ قِيلَ ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ :
فَقَدْ نَرَى الْإِنْسَانَ يُصَلِّي وَلَا يُحْسِنُ صَلَاتَهُ لِشُغْلِ بَالِهِ ،
فَلَا يَشْعُرُ بِالْقِرَاءَةِ حَتَّى تَكْمُلَ ، وَلَا بِالرُّكُوعِ وَلَا
بِالسُّجُودِ حَتَّى لَا يَعْلَمَ مَا كَانَ عَدَدُهُ ، حَتَّى رُوِيَ عَنْ عُمَرَ
أَنَّهُ قَالَ : " إنِّي لَأُجَهِّزُ جَيْشِي وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ " .
قُلْنَا :
إنَّمَا أُخِذَ عَلَى الْعَبْدِ الِاسْتِشْعَارُ
وَإِحْضَارُ النِّيَّةِ فِي حَالِ التَّكْبِيرِ ، فَإِنْ ذَهِلَ بَعْدَ ذَلِكَ
فَقَدْ سُومِحَ فِيهِ مَا لَمْ يُكْثِرْ ؛ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ ،
وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَكْلِيفُ الْعِبَادِ بِهِ ؛ وَلَيْسَ حَالُ عُمَرَ مِنْ هَذَا
، فَإِنَّ ذَلِكَ نَظَرٌ فِي عِبَادَةٍ لِعِبَادَةٍ مِثْلِهَا أَوْ أَعْظَمَ فِي
بَعْضِ الْأَحْوَالِ مِنْهَا ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لَحْظَةً
مَعَ الْغَلَبَةِ ثُمَّ يَصْحُو إلَى نَفْسِهِ ، بِخِلَافِ السَّكْرَانِ وَالنَّائِمِ
وَالْغَاضِبِ وَمَدَافِعِ الْأَخْبَثَيْنِ ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إحْضَارُ
ذِهْنِهِ لِغَلَبَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ
.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا جُنُبًا
إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ } : الْجُنُبُ فِي اللُّغَةِ : الْبَعِيدُ ، بَعُدَ بِخُرُوجِ
الْمَاءِ الدَّافِقِ عَنْ حَالِ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ كَانَ عِنْدَهُمْ الْجُنُبُ
مَعْرُوفًا ، وَهُوَ الَّذِي غَشِيَ النِّسَاءَ ، وَالْحَدِيثُ عِنْدَهُمْ
مَعْرُوفًا .
وَهُوَ مَا خَرَجَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ
الْمُعْتَادِ ، ثُمَّ أَثْبَتَتْ الشَّرِيعَةُ بَعْدَ ذَلِكَ زِيَادَاتِهِ
وَتَفْضِيلَهُ ، وَهُوَ إيلَاجٌ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ بِشَرْطِ مَغِيبِ
الْحَشَفَةِ دُونَ إنْزَالٍ ، أَوْ إنْزَالُ الْمَاءِ دُونَ مَغِيبِ الْحَشَفَةِ ،
أَوْ مَجْمُوعُهُمَا عَلَى حَسَبِ مَا بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ
وَالْمَسَائِلِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ
.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إلَّا
عَابِرِي سَبِيلٍ } : أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ : { لَا
تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ } لَا تَقْرَبُوا مَوَاضِعَ الصَّلَاةِ ، فَتَقْدِيرُ
الْآيَةِ عِنْدَهُمْ : لَا تَقْرَبُوا الْمَسَاجِدَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى
تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ، وَلَا تَقْرَبُوهَا جُنُبًا حَتَّى تَغْتَسِلُوا ،
إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ أَيْ مُجْتَازِينَ غَيْرَ لَابِثِينَ ؛ فَجَوَّزُوا
الْعُبُورَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ لُبْثٍ فِيهِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ نَفْسُ
الصَّلَاةِ فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ : لَا تُصَلُّوا وَأَنْتُمْ سُكَارَى
حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ، وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى
تَغْتَسِلُوا لَهَا ، أَوْ تَكُونُوا مُسَافِرِينَ ، فَتَيَمَّمُوا وَتُصَلُّوا
وَأَنْتُمْ جُنُبٌ حَتَّى تَغْتَسِلُوا إذَا وَجَدْتُمْ الْمَاءَ .
وَرَجَّحَ أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَذْهَبَهُمْ
بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ
أَحَدُنَا يَمُرُّ بِالْمَسْجِدِ وَهُوَ جُنُبٌ مُجْتَازًا .
وَرَجَّحَ الْآخَرُونَ بِمَا رَوَى أَفْلَتُ بْنُ
خَلِيفَةَ عَنْ جَسْرَةَ بِنْتِ دَجَاجَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ { النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِرَدِّ الْأَبْوَابِ الشَّارِعَةِ إلَى
الْمَسْجِدِ ، وَقَالَ : لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ } .
خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ .
و الْمَسْأَلَةُ تَفْتَقِرُ إلَى تَفْصِيلٍ وَتَنْقِيحٍ
، وَقَدْ أَحْكَمْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِمَا نُشِيرُ إلَيْهِ هَاهُنَا
فَنَقُولُ : لَا إشْكَالَ فِي أَنَّ الْآيَةَ مُحْتَمَلَةٌ ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ
فِيهَا الصَّحَابَةُ ؛ فَإِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَعْلَمَ الْمُرَادَ مِنْهَا
رَجَّحْنَا احْتِمَالَاتِهَا حَتَّى نَرَى الْفَضْلَ لِمَنْ هُوَ فِيهَا ؛
فَأَمَّا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فَظَهَرَ لَهُمْ أَنَّ الْعُبُورَ لَا يُمْكِنُ
فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلٍ ؛ وَأَحْسَنُهُ حَذْفُ
الْمُضَافِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ ، وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامَهُ ،
وَهُوَ الصَّلَاةُ ؛ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ ، وَلَا يَحْتَاجُ بَعْدَ
ذَلِكَ إلَى حَذْفٍ كَثِيرٍ وَتَأْوِيلٍ طَوِيلٍ فِي
قَوْله تَعَالَى : { وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ } .
قَالُوا :
وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا تَأَوَّلْتُمْ فِي قَوْلِهِ : {
إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ } يُفْهَمُ مِنْ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ : { فَتَيَمَّمُوا
صَعِيدًا طَيِّبًا } .
وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا : إنَّ أَوَّلَ مَا يُحْفَظُ سَبَبُ
الْآيَةِ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ ، وَتُحْفَظُ فَاتِحَتُهَا
فَتُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهَا ، حَتَّى نَرَى مَا يَرُدُّنَا عَنْهَا وَيَحْفَظُ
لُغَتَهَا ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ : لَا تَقْرَبُوهَا بِفَتْحِ الرَّاءِ ،
وَذَلِكَ يَكُونُ فِي الْفِعْلِ لَا فِي الْمَكَانِ ، فَكَيْفَ يُضْمَرُ
الْمَكَانُ وَيُوصَلُ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ؟ هَذَا مُحَالٌ .
وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ : لَا
تُصَلُّوا سُكَارَى وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَكُونُ الْعُبُورُ فِي نَفْسِ
الصَّلَاةِ ؟ قُلْنَا : بِأَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا ، فَلَمْ يَجِدْ مَاءً فَيُصَلِّي حِينَئِذٍ
بِالتَّيَمُّمِ جُنُبًا ، لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ حَدَثَ الْجَنَابَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا يُسَمَّى الْمُسَافِرُ عَابِرِي
سَبِيلٍ .
قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ ، بَلْ يُقَالُ لَهُ عَابِرُ
سَبِيلٍ حَقِيقَةً وَاسْمًا ، وَالدُّنْيَا كُلُّهَا سَبِيلٌ تُعْبَرُ .
وَفِي الْآثَارِ : " الدُّنْيَا قَنْطَرَةٌ
فَاعْبُرُوهَا وَلَا تَعْمُرُوهَا
" .
وَقَدْ اتَّفَقُوا مَعَنَا عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا
يَرْفَعُ الْجَنَابَةَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ مَا قُلْتُمْ يَفْتَقِرُ
إلَى الْإِضْمَارِ الْكَثِيرِ .
قُلْنَا :
إنَّمَا يُفْتَقَرُ إلَيْهِ فِي تَفْهِيمِ مَنْ لَا
يَفْهَمُ مَثَلُكَ ، وَأَمَّا مَعَ مَنْ يَفْهَمُ فَالْحَالُ تُعْرِبُ عَنْ
نَفْسِهَا كَمَا أَعْرَبَتْ الصَّحَابَةُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ هَذَا يُفْهَمُ مِنْ
الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فِي قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ
عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ
النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } .
فَلَيْسَ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا إلَّا جَوَازُ
التَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ
؛ فَأَمَّا
أَنْ يَكُونَ التَّيَمُّمُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ مَعَ إبَاحَةِ الصَّلَاةِ
فَلَيْسَ يُفْهَمُ إلَّا مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ قَبْلَهُ ؛ وَهِيَ فَائِدَةٌ
حَسَنَةٌ جِدًّا .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : ثَبَتَ عَنْ
عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ : { كَانَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُصِيبُهُمْ الْجَنَابَةُ فَيَتَوَضَّئُونَ ،
وَيَأْتُونَ الْمَسْجِدَ فَيَتَحَدَّثُونَ فِيهِ } ، وَرُبَّمَا اغْتَرَّ بِهَذَا
جَاهِلٌ فَظَنَّ أَنَّ اللُّبْثَ لِلْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ جَائِزٌ .
وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ
وُضِعَ لِلْعِبَادَةِ وَأُكْرِمَ عَنْ النَّجَاسَةِ الظَّاهِرَةِ كَيْفَ
يَدْخُلُهُ مَنْ لَا يَرْضَى لِتِلْكَ الْعِبَادَةِ ، و لَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ
يَتَلَبَّسَ بِهَا ؟ فَإِنْ قِيلَ : يَبْطُلُ بِالْحَدَثِ ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ
فِعْلُ الصَّلَاةِ وَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ .
قُلْنَا : ذَلِكَ يَكْثُرُ وُقُوعُهُ ` فَيَشُقُّ
الْوُضُوءُ لَهُ ، وَالشَّرِيعَةُ لَا حَرَجَ فِيهَا ، بِخِلَافِ الْغُسْلِ ،
فَإِنَّهُ لَا مَشَقَّةَ فِي أَنْ يُمْنَعَ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَغْتَسِلَ ،
لِأَنَّهَا تَقَعُ نَادِرًا بِالْإِضَافَةِ إلَى حَدَثِ الْوُضُوءِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا قِيَاسٌ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ ؛ هُوَ
قِيَاسٌ ؛ وَنَحْنُ إنَّمَا نَتَكَلَّمُ مَعَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ الَّذِينَ
يَرَوْنَهُ دَلِيلًا ؛ فَإِنْ وَجَدْنَا مُبْتَدِعًا يُنْكِرُهُ أَخَذْنَا مَعَهُ
غَيْرَ هَذَا الْمَسْلَكِ كَمَا قَدْ رَأَيْتُمُونَا مِرَارًا نَفْعَلُهُ
فَنَخْصِمُهُمْ وَنَبْهَتُهُمْ ؛ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمُرَّ فِيهِ وَلَا
يَجْلِسَ فِيهِ إلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى :
{ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } : وَهُوَ لَفْظٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْعَرَبِ يُعَبِّرُونَ
بِهِ عَنْ إمْرَارِ الْمَاءِ عَلَى الْمَغْسُولِ بِالْيَدِ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ
مَا كَانَ مَنَعَ مِنْهُ ؛ عِبَادَةً أَوْ عَادَةً .
وَظَنَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْغُسْلَ
عِبَارَةٌ عَنْ صَبِّ الْمَاءِ خَاصَّةً لَا سِيَّمَا وَقَدْ فَرَّقَتْ الْعَرَبُ
بَيْنَ الْغُسْلِ بِالْمَاءِ وَالْغَمْسِ فِيهِ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِصَبِيٍّ لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ فَبَالَ عَلَى
ثَوْبِهِ فَأَتْبَعَهُ بِمَاءٍ وَلَمْ يَغْسِلْهُ } .
وَهَذَا نَصٌّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : لَمَّا قَالَ : {
حَتَّى تَغْتَسِلُوا } اقْتَضَى هَذَا عُمُومَ إمْرَارِ الْمَاءِ عَلَى الْبَدَنِ
كُلِّهِ بِاتِّفَاقٍ ؛ وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِالدَّلْكِ ، وَأَعْجَبُ
لِأَبِي الْفَرَجِ الَّذِي رَأَى وَحَكَى عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ أَنَّ
الْغُسْلَ دُونَ ذَلِكَ يُجْزِي ؛ وَمَا قَالَ مَالِكٌ قَطُّ نَصًّا وَلَا
تَخْرِيجًا ، و إنَّمَا هِيَ مِنْ أَوْهَامِهِ ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ إذَا كَانَ
غَرِيبًا لَمْ يَخْرُجْ عِنْدَ مَالِكٍ أَوْ كَانَ احْتِيَاطًا لَمْ يَعْدِلْ
عَنْهُ ، وَلَوْ صَبَبْت عَلَى نَفْسِكَ الْمَاءَ كَثِيرًا مَا عَمَّ حَتَّى تَمْشِيَ
يَدُكَ ؛ لِأَنَّ الْبَدَنَ بِمَا فِيهِ مِنْ دُهْنِيَّةٍ يَدْفَعُ الْمَاءَ عَنْ
نَفْسِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : إذَا عَمَّ
الْمَرْءُ نَفْسَهُ بِالْمَاءِ أَجْزَأَهُ إجْمَاعًا ، إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ
لَهُ أَنْ يَمْتَثِلَ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ فِي دَوَاوِينَ صِحَاحٍ
عَلَى السُّنَّةُ عُدُولٍ قَالُوا : رَوَتْ عَائِشَةُ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ بَدَأَ
فَغَسَلَ يَدَيْهِ ، ثُمَّ يُفْرِغُ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَيَغْسِلُ
فَرْجَهُ ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ
فَيُدْخِلُ فِيهِ أَصَابِعَهُ وَفِي أُصُولِ الشَّعْرِ ، حَتَّى إذَا رَأَى أَنْ
قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ حَفَنَ عَلَى
رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى
سَائِرِ جَسَدِهِ ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ } .
وَفِي رِوَايَةِ مَيْمُونَةَ { ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تَحْتَ
كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ ، فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ ، وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ } .
قَالَ أَبُو دَاوُد : لَمْ أُدْخِلْ فِي كِتَابِي إلَّا
الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ ، أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْ الصَّحِيحِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : لَمَّا قَالَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { حَتَّى تَغْتَسِلُوا } وَفَهِمَ الْكُلُّ مِنْهُ عُمُومَ
الْبَدَنِ بِالْمَاءِ وَالْغُسْلِ بَالَغَ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ
فَقَالَ : إنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ وَاجِبَانِ فِي غُسْلِ
الْجَنَابَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْوَجْهِ ، وَحُكْمُهُمَا حُكْمٌ
ظَاهِرُ الْوَجْهِ بِدَلِيلِ غَسْلِهِمَا مِنْ النَّجَاسَةِ ، كَمَا يُغْسَلُ الْخَدُّ
وَالْجَبِينُ ؛ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ كَبِيرَةٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَا
فِيهَا .
وَاللُّبَابُ مِنْهَا أَنَّ الْفَمَ وَالْأَنْفَ بَاطِنَانِ
حَقِيقَةً وَحُكْمًا ؛ أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَإِنَّكَ تُشَاهِدُ بُطُونَهُمَا فِي
أَصْلِ الْخِلْقَةِ ؛ وَأَمَّا الْحُكْمُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ
الصَّائِمَ إذَا بَلَعَ مَا اجْتَمَعَ مِنْ الرِّيقِ فِي فَمِهِ فَلَا يُفْطِرُ ،
وَلَوْ ابْتَلَعَهُ مِنْ يَدِهِ لَأَفْطَرَ .
الثَّانِي : أَنَّهُمَا لَا يَجِبَانِ فِي غُسْلِ
الْمَيِّتِ مَعَ أَنَّهُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْبَدَنِ ، وَالْمَسْأَلَةُ هُنَاكَ
مُسْتَوْفَاةٌ ، فَمَنْ أَرَادَهَا وَجَدَهَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : إنَّ اسْمَ
الْجَنَابَةِ بَاقٍ عَلَيْهِ حَتَّى يَغْتَسِلَ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمُ مُدَّةٍ إلَى
غَايَةٍ هِيَ الِاغْتِسَالُ ، وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ بِالْغَايَةِ يَمْتَدُّ
إلَى غَايَتِهِ ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { حَتَّى تَغْتَسِلُوا } : يَقْتَضِي النِّيَّةَ ، خِلَافًا لِمَا رَوَاهُ الْوَلِيدُ
بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ ، وَلِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو
حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ ؛ وَلَفْظُ " اغْتَسَلَ
" يَقْتَضِي اكْتِسَابَ الْفِعْلِ ، وَلَا يَكُونُ مُكْتَسَبًا لَهُ إلَّا
بِالْقَصْدِ إلَيْهِ حَقِيقَةً ، فَمَنْ أَخْرَجَهُ إلَى الْمَجَازِ فَعَلَيْهِ
الْبَيِّنَةُ .
وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهَا فِي كُتُبِ الْخِلَافِ
بِالْإِنْصَافِ وَالتَّلْخِيصِ ؛ أَعْظَمُهَا أَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ
اُشْتُرِطَتْ فِيهَا النِّيَّةُ كَالصَّلَاةِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ } .
وَلَا يَكُونُ شَطْرُ الشَّيْءِ إلَّا مِنْ جِنْسِهِ .
قَالَ :
وَالْوُضُوءُ نُورٌ عَلَى نُورٍ ، وَلَا تَسْتَنِيرُ
الْجَوَارِحُ بِالْمُبَاحَاتِ ، وَإِنَّمَا تَسْتَنِيرُ بِالطَّاعَاتِ
وَالْعِبَادَاتِ .
وَقَالَ :
{ إذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ خَرَجَتْ
خَطَايَاهُ } الْحَدِيثَ ، وَلَا يَنْفِي الْأَوْزَارَ إلَّا الْعِبَادَاتُ ، وَالْقُرْآنُ
يَقْتَضِي وُجُوبَ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ عَلَى مَا
سَتَرَوْنَهُ مَشْرُوحًا إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى }
: الْمَرَضُ عِبَارَةٌ عَنْ خُرُوجِ الْبَدَنِ عَنْ
الِاعْتِدَالِ وَالِاعْتِيَادِ إلَى الِاعْوِجَاجِ وَالشُّذُوذِ ؛ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ
: يَسِيرٌ وَكَثِيرٌ ، وَقَدْ يَخَافُ الْمَرِيضُ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ ، وَقَدْ
يَعْدَمُ مَنْ يُنَاوِلُهُ إيَّاهُ وَهُوَ يَعْجِزُ عَنْ تَنَاوُلِهِ ، وَمُطْلَقُ
اللَّفْظِ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ لِكُلِّ مَرِيضٍ إذَا خَافَ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ
وَتَأَذِّيهِ بِالْمَاءِ وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : يُبَاحُ
التَّيَمُّمُ لِلْمَرِيضِ إذَا خَافَ التَّلَفَ ؛ وَنَظَرَ إلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْمَرَضِ
غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ ، لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ وَقَدْ لَا تَكُونُ ، وَلَا
يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ الْمُتَيَقَّنِ لِلْخَوْفِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ .
قُلْنَا : ظَاهِرُ الْآيَةِ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ ؛
فَلَيْسَ لَكَ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَصْلٌ تَرُدُّ إلَيْهِ كَلَامَكَ ؛ بَلْ قَدْ
نَاقَضْت ؛ فَإِنَّكَ قُلْت : إذَا خَافَ التَّلَفَ مِنْ الْبَرْدِ يَتَيَمَّمُ ،
فَكَمَا يُبِيحُ التَّيَمُّمَ خَوْفُ التَّلَفِ كَذَلِكَ يُبِيحُهُ لَهُ خَوْفُ
الْمَرَضِ ؛ فَإِنَّ الْمَرَضَ مَحْذُورٌ ، كَمَا أَنَّ التَّلَفَ مَحْذُورٌ ،
وَكَذَلِكَ يَقُولُ : إذَا خَافَ الْمَرِيضُ مِنْ الْبَرْدِ يَتَيَمَّمُ فَكَيْفَ
بِزِيَادَةِ الْمَرَضِ .
، وَقَدْ
رَوَى { جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ
رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فِي رَأْسِهِ فَشَجَّهُ ثُمَّ احْتَلَمَ ، فَقَالَ
لِأَصْحَابِهِ : هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ ؟ فَقَالُوا : مَا
نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ ؛ فَاغْتَسَلَ ، فَمَاتَ ؛
فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ
، فَقَالَ : قَتَلُوهُ ، قَتَلَهُمْ اللَّهُ .
أَلَا سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا ، فَإِنَّمَا
شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ ؛ إنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ ، أَوْ
يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ
جَسَدِهِ } .
خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ .
وَعَجَبًا لِلشَّافِعِيِّ يَقُولُ : لَوْ زَادَ الْمَاءُ
عَلَى
قِيمَتِهِ حَبَّةً لَمْ يَلْزَمْ شِرَاؤُهُ صِيَانَةً
لِلْمَالِ ؛ وَيَلْزَمُهُ التَّيَمُّمُ ، وَهُوَ يَخَافُ عَلَى بَدَنِهِ الْمَرَضَ
، وَلَيْسَ لَهُمْ عَلَيْهِ كَلَامٌ يُسَاوِي سَمَاعَهُ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { أَوْ عَلَى سَفَرٍ } : رُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابَتْهُمْ جِرَاحَةٌ فَفَشَتْ فِيهِمْ ، ثُمَّ اُبْتُلُوا بِالْجَنَابَةِ
فَشَكَوْا ذَلِكَ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .
{ وَقَالَتْ عَائِشَةُ : كُنْت فِي مَسِيرٍ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إذَا كُنْت بِذَاتِ الْجَيْشِ
ضَلَّ عِقْدٌ لِي } الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ .
قَالَ : فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ ، وَهِيَ
مُعْضِلَةٌ مَا وَجَدْت لِدَائِهَا مِنْ دَوَاءٍ عِنْدَ أَحَدٍ ، هُمَا آيَتَانِ
فِيهِمَا ذِكْرُ التَّيَمُّمِ :
إحْدَاهُمَا فِي النِّسَاءِ ، وَالْأُخْرَى فِي
الْمَائِدَةِ ، فَلَا نَعْلَمُ أَيَّةَ آيَةٍ عَنَتْ عَائِشَةُ .
وَآيَةُ التَّيَمُّمِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ
عَائِشَةَ النَّازِلَةِ عِنْدَ فَقْدِ الْعَقْدِ كَانَتْ فِي غَزْوَةِ
الْمُرَيْسِيعِ قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ ، سَنَةَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : سَنَةَ خَمْسٍ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ .
وَحَدِيثُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ قَبْلَ
ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا وَلَا مَفْعُولًا لَهُمْ .
فَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَيْفَ كَانَتْ حَالُ مَنْ عَدِمَ
الْمَاءَ ، وَحَانَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ .
فَإِحْدَى الْآيَتَيْنِ مُبَيِّنَةٌ وَالْأُخْرَى
زَائِدَةٌ عَلَيْهَا ، وَإِحْدَاهُمَا سَفَرِيَّةٌ وَالْأُخْرَى حَضَرِيَّةٌ ،
وَلَمَّا كَانَ أَمْرًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ خَبَّأَهُ اللَّهُ وَلَمْ
يَتَيَسَّرْ بَيَانُهُ عَلَى يَدَيْ أَحَدٍ ، وَلَقَدْ عَجِبْت مِنْ الْبُخَارِيِّ
بَوَّبَ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ عَلَى الْآيَةِ الَّتِي
ذَكَرَ فِيهَا التَّيَمُّمَ ، وَأَدْخَلَ حَدِيثَ عَائِشَةَ فَقَالَ : وَإِنْ
كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ
.
وَبَوَّبَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فَقَالَ : بَابُ
" فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
" وَأَدْخَلَ حَدِيثَ عَائِشَةَ بِعَيْنِهِ ،
وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْآيَتَيْنِ تَحْتَمِلُ كُلُّ
وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قِصَّةَ عَائِشَةَ ، وَأَرَادَ فَائِدَةً أَشَارَ إلَيْهَا
هِيَ أَنَّ قَوْلَهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا
الصَّلَاةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ
وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } إلَى هَذَا الْحَدِّ
نَزَلَ فِي قِصَّةِ عَلِيٍّ ، وَأَنَّ مَا وَرَاءَهَا قِصَّةٌ أُخْرَى وَحُكْمٌ
آخَرُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا شَيْءٌ مِنْهُ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ فِي وَقْتٍ آخَرَ
قُرِنَتْ بِهَا .
وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ هَذَا الظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ
آيَةَ الْوُضُوءِ يُذْكَرُ التَّيَمُّمُ فِيهَا فِي الْمَائِدَةِ ، وَهِيَ
النَّازِلَةُ فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ ، وَكَانَ الْوُضُوءُ مَفْعُولًا غَيْرَ
مَتْلُوٍّ ، فَكَمُلَ ذِكْرُهُ وَعَقَّبَ بِذِكْرِ بَدَلِهِ وَاسْتُوْفِيَتْ
النَّوَاقِضُ فِيهِ ، ثُمَّ أُعِيدَتْ مِنْ قَوْلِهِ : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى
} إلَى آخِرِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ مُرَكَّبَةً عَلَى قَوْله تَعَالَى
: { وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } حَتَّى تَكْمُلَ
تِلْكَ الْآيَةُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ جَاءَ بِأَعْيَانِ مَسَائِلِهَا كَمَالُ
هَذِهِ ، وَيَتَكَرَّرُ الْبَيَانُ ، وَلَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ فِي الْقُرْآنِ .
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آيَةَ عَائِشَةَ هِيَ
آيَةُ الْمَائِدَةِ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ بِالْمَدِينَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ
الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ } يَعْنِي مِنْ
النَّوْمِ ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى :
{ أَوْ عَلَى سَفَرٍ } هَاهُنَا خِلَافُ قَوْلِهِ : { أَوْ عَلَى سَفَرٍ } فِي
الصِّيَامِ ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ هُنَاكَ شَرْطٌ فِي الْإِفْطَارِ ،
فَاعْتَبَرْنَاهُ وَتَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ ، وَحَدَّدْنَاهُ ، فَأَمَّا هَاهُنَا
فَإِنَّ التَّيَمُّمَ فِي حَالَةِ الْحَضَرِ جَائِزٌ ، وَإِنَّمَا نَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
عَلَى السَّفَرِ ، لِأَنَّهُ الْغَالِبُ مِنْ عَدَمِ الْمَاءِ ؛ فَأَمَّا عَدَمُ
الْمَاءِ فِي الْحَضَرِ فَنَادِرٌ ؛ فَإِنْ وَقَعَ فَالتَّيَمُّمُ جَائِزٌ عِنْدَ
عُلَمَائِنَا وَالشَّافِعِيَّةِ
.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ : يُعِيدُ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ ،
وَإِنَّمَا ذَلِكَ حَيْثُ وَقَعَ اتِّهَامٌ لَهُ بِالتَّقْصِيرِ كَمَا اسْتَقْصَرَ
فِيمَا إذَا نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَتَيَمَّمَ ، وَالنَّاسُ لَا خِطَابَ عَلَيْهِمْ
إجْمَاعًا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَتَيَمَّمُ فِي الْحَضَرِ
إلَّا مَرِيضٌ أَوْ مَحْبُوسٌ ، يُقَالُ لَهُ ، أَوْ طَلِيقٌ طَلَبَ الْمَاءَ
فَلَمْ يَجِدْهُ حَتَّى خَافَ خُرُوجَ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ ؛ لِأَنَّ
مَعْنَى الْمَرَضِ وَالْحَبْسِ عِنْدَهُ هُوَ عَدَمُ الْمَقْدِرَةِ ، عَلَى مَا
يَأْتِي بَيَانُهُ شَرِيفًا بَدِيعًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَّمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ
حَتَّى تَيَمَّمَ فِي الْحَائِطِ
} .
وَهَذَا نَصٌّ فِي التَّيَمُّمِ فِي الْحَضَرِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ } : وَهُوَ
الْمُطْمَئِنُّ مِنْ الْأَرْضِ ، كَانُوا إذَا أَرَادُوا قَضَاءَ الْحَاجَةِ
أَتَوْهُ رَغْبَةً فِي التَّسَتُّرِ ، فَكُنِيَ بِهِ عَمَّا يَخْرُجُ مِنْ
السَّبِيلَيْنِ ، وَشُرِطَ الْوُضُوءُ بِهِ شَرْعًا وَكَأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ :
أَوْ كُنْتُمْ مُحْدِثِينَ حَدَثًا مُعْتَادًا ، ضُرِبَ لَهُمْ بِهِ الْمِثْلُ ، وَصَارَ
تَقْدِيرُ الْآيَةِ : وَإِلَّا إذَا كُنْتُمْ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثِينَ حَتَّى
تَغْتَسِلُوا ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ بَيَانُ صِفَةِ غُسْلِهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ
عُلَمَاؤُنَا : إنَّ الْخَارِجَ إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ لَمْ
يَتَعَلَّقْ بِهِ نَقْضُ الْوُضُوءِ وَصَارَ دَاءً ، و الدَّلِيلُ عَلَيْهِ
سُقُوطُ اعْتِبَارِ دَمِ الْمُسْتَحَاضَةِ لِأَجْلِ أَنَّهُ دَمُ عِلَّةٍ ، وَقَدْ
مَهَّدْنَا ذَلِكَ بِتَفْصِيلِهِ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } : فِيهَا خِلَافٌ كَثِيرٌ ،
وَأَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ لِلْعُلَمَاءِ ، وَمُتَعَلِّقَاتٌ مُخْتَلِفَاتٌ ،
وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ الطَّوِيلَةِ ؛ وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا مَا فِيهِ
بِطُرُقِهِ الْبَدِيعَةِ ، وَخُذُوا الْآنَ مَعْنًى قُرْآنِيًّا بَدِيعًا ؛
وَذَلِكَ أَنَّا نَقُولُ : حَقِيقَةُ اللَّمْسِ إلْصَاقُ الْجَارِحَةِ بِالشَّيْءِ
، وَهُوَ عُرِفَ فِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّهَا آلَتُهُ الْغَالِبَةُ ؛ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ
كِنَايَةً عَنْ الْجِمَاعِ .
وَقَدْ قَالَتْ طَائِفَةٌ : اللَّمْسُ هُنَا الْجِمَاعُ .
وَقَالَتْ أُخْرَى : هُوَ اللَّمْسُ الْمُطْلَقُ لُغَةً
أَوْ شَرْعًا ؛ فَأَمَّا اللُّغَةُ فَقَدْ قَالَ الْمُبَرِّدُ : لَمَسْتُمْ :
وَطِئْتُمْ ، وَلَامَسْتُمْ : قَبَّلْتُمْ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ اثْنَيْنِ
، وَاَلَّذِي يَكُونُ بِقَصْدٍ وَفِعْلٍ مِنْ الْمَرْأَةِ هُوَ التَّقْبِيلُ ،
فَأَمَّا الْوَطْءُ فَلَا عَمَلَ لَهَا فِيهِ .
قَالَ أَبُو عَمْرٍو : الْمُلَامَسَةُ الْجِمَاعُ ،
وَاللَّمْسُ لِسَائِرِ الْجَسَدِ ، وَهَذَا كُلُّهُ اسْتِقْرَاءٌ لَا نَقْلَ فِيهِ
عَنْ الْعَرَبِ .
وَحَقِيقَةُ النَّقْلِ أَنَّهُ كُلَّهُ سَوَاءٌ ؛ (
وَإِنْ لَمَسْتُمْ ) مُحْتَمِلٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا ، كَقَوْلِهِ : لَامَسْتُمْ ،
وَلِذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ لِفِعْلِ الرَّجُلِ شَيْءٌ مِنْ الْمَرْأَةِ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى
حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَعِفُّ : كَنَّى بِاللَّمْسِ عَنْ الْجِمَاعِ .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : قُبْلَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ
وَجَسُّهَا بِيَدِهِ مِنْ الْمُلَامَسَةِ ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ،
وَهُوَ كُوفِيٌّ ، فَمَا بَالُ أَبِي حَنِيفَةَ خَالَفَهُ ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ
مُخْتَلِفَيْنِ لَجَعَلْنَا لِكُلِّ قِرَاءَةٍ حُكْمَهَا ، وَجَعَلْنَاهُمَا
بِمَنْزِلَةِ الْآيَتَيْنِ ، وَلَمْ يَتَنَاقَضْ ذَلِكَ وَلَا تَعَارَضَ ؛ وَهَذَا
تَمْهِيدُ الْمَسْأَلَةِ .
وَيُكْمِلُهُ وَيُؤَكِّدُهُ وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ
قَوْلَهُ : { وَلَا جُنُبًا } أَفَادَ الْجِمَاعَ ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى : {
أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ } أَفَادَ الْحَدَثَ
، وَأَنَّ
قَوْلَهُ : { أَوْ لَامَسْتُمْ } أَفَادَ اللَّمْسَ وَالْقُبَلَ ؛ فَصَارَتْ
ثَلَاثَ جُمَلٍ لِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ ، وَهَذَا غَايَةٌ فِي الْعِلْمِ
وَالْإِعْلَامِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِاللَّمْسِ الْجِمَاعَ لَكَانَ
تَكْرَارًا ، وَكَلَامُ الْحَكِيمِ يَتَنَزَّهُ عَنْهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَإِنْ قِيلَ : ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْجَنَابَةَ
وَلَمْ يَذْكُرْ سَبَبَهَا ، فَلَمَّا ذَكَرَ سَبَبَ الْحَدَثِ وَهُوَ الْمَجِيءُ
مِنْ الْغَائِطِ ذَكَرَ سَبَبَ الْجَنَابَةِ ، وَهُوَ الْمُلَامَسَةُ لِلْجِمَاعِ
؛ لِيُفِيدَ أَيْضًا بَيَانَ حُكْمِ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ عِنْدَ عَدَمِ
الْمَاءِ ، كَمَا أَفَادَ بَيَانَ حُكْمِهَا عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ .
قُلْنَا : لَا يَمْنَعُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى
الْجِمَاعِ وَاللَّمْسِ ، وَيُفِيدُ الْحُكْمَيْنِ ، وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي
أُصُولِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : رَاعَى مَالِكٌ
فِي اللَّمْسِ الْقَصْدَ ، وَجَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ نَاقِضًا لِلطَّهَارَةِ
بِصُورَتِهِ كَسَائِرِ النَّوَاقِضِ ، وَهُوَ الْأَصْلُ ؛ وَاَلَّذِي يَدَّعِي
انْضِمَامَ الْقَصْدِ إلَى اللَّمْسِ فِي اعْتِبَارِ الْحُكْمِ هُوَ الَّذِي
يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ اللَّمْسَ الْمُفْضِي
إلَى خُرُوجِ الْمَذْي مَنْزِلَةَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ الْمُفْضِي إلَى
خُرُوجِ الْمَنِيِّ .
فَأَمَّا اللَّمْسُ الْمُطْلَقُ فَلَا مَعْنَى لَهُ ،
وَذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { النِّسَاءَ } : وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ امْرَأَةٍ بِحَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ
كَالْجَنَابَةِ ، حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّهُ لَوْ لَمَسَ صَغِيرَةً
يُنْتَقَضُ طُهْرُهُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ لَمْسَ الصَّغِيرَةِ كَلَمْسِ
الْحَائِضِ .
وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ لِأَجْلِ
أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ اللَّذَّةَ ، وَإِنْ أَخْرَجَ ذَوَاتَ الْمَحَارِمِ
عَنْهَا فَقَدْ اُنْتُقِضَ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَذْهَبِهِ فِي ذَلِكَ .
وَنَحْنُ اعْتَبَرْنَا اللَّذَّةَ ، فَحَيْثُ وُجِدَتْ
وُجِدَ حُكْمُهَا ، وَهُوَ وُجُوبُ الْوُضُوءِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : يَدْخُلُ
فِي حُكْمِ اللَّمْسِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءِ كَمَا دَخَلُوا فِي قَوْلِهِ : {
وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا } سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ عِنْدَنَا بِالِاسْمِ ،
وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالْمَعْنَى ؛ وَذَلِكَ بَيِّنٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
} : لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ اغْتَسِلُوا
وَاطَّهَّرُوا اقْتَضَى ذَلِكَ الْمَاءَ اقْتِضَاءً قَطْعِيًّا ، إذْ هُوَ
الْغَاسُولُ وَالطَّهُورُ ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً ، فَصَرَّحَ
بِالْمُقْتَضِي ، وَكَانَ عِنْدَهُ سَوَاءٌ التَّصْرِيحُ وَالِاقْتِضَاءُ ؛ وَهَذَا
فِي اللُّغَةِ كَثِيرٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } : قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ : فَائِدَةُ الْوُجُودِ الِاسْتِعْمَالُ وَالِانْتِقَاعُ بِالْقُدْرَةِ
عَلَيْهِمَا ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } ، فَلَمْ
تَقْدِرُوا ؛ لِيَتَضَمَّنَ ذَلِكَ الْوُجُوهَ الْمُتَقَدِّمَةَ الْمَذْكُورَةَ
فِيهَا ، وَهِيَ الْمَرَضُ وَالسَّفَرُ ؛ فَإِنَّ الْمَرِيضَ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ
صُورَةً ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ لِضَرُورَةٍ صَارَ
مَعْدُومًا حُكْمًا ؛ فَالْمَعْنَى الَّذِي يَجْمَعُ نَشْرَ الْكَلَامِ ( فَلَمْ
تَقْدِرُوا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ) .
وَهَذَا يَعُمُّ الْمَرَضَ وَالصِّحَّةَ إذَا إذَا خَافَ
مِنْ أَخْذِ الْمَاءِ لِصًّا أَوْ سَبُعًا ، وَيَجْمَعُ الْحَضَرَ وَالسَّفَرَ ؛
وَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ الصَّرِيحُ ، وَالْفِقْهُ الصَّحِيحُ ، وَالْأَصْوَبُ بِالتَّصْحِيحِ
؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ بِزَائِدٍ عَلَى قِيمَتِهِ جَعَلَهُ
مَعْدُومًا حُكْمًا ، وَقِيلَ لَهُ تَيَمَّمْ .
وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ الْوُجُودُ الْحُكْمِيُّ
، لَيْسَ الْوُجُودَ الْحِسِّيَّ
.
وَعَلَى هَذَا قُلْنَا : إنَّ مَنْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي
أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ ، إنَّهُ يَتَمَادَى وَلَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ ، خِلَافًا
لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ يَقُولُ : يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ ؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ
لِعَيْنِهِ لَا يُبْطِلُ التَّيَمُّمَ ، كَمَا لَوْ رَأَى الْمَاءَ وَعَلَيْهِ
لِصٌّ أَوْ سَبُعٌ ، أَوْ رَآهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ لَمْ يَبْطُلْ تَيَمُّمُهُ
، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ التَّيَمُّمُ بِوُجُودِ مَقْرُونٍ بِالْقُدْرَةِ ؛ وَإِذَا
كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَلَا قُدْرَةَ لَهُ إلَّا بَعْدَ إبْطَالِهَا ، وَلَا
تَبْطُلُ إلَّا بَعْدَ اقْتِرَانِ الْقُدْرَةِ بِالْمَاءِ ، فَلَا بُطْلَانَ لَهَا
؛ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ دَوْرِيَّةٌ ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهَا فِي " كِتَابِ
التَّلْخِيصِ " فَلْتُنْظَرْ فِيهِ ؛ وَعَلَى هَذَا تَنْبَنِي مَسْأَلَةٌ ؛
هِيَ إذَا نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ ، وَقَدْ اجْتَهَدَ فِي طَلَبِهِ ،
فَإِنَّ النَّاسِيَ لَا يُعَدُّ وَاجِدًا وَلَا يُخَاطَبُ فِي حَالِ نِسْيَانِهِ ؛
فَلِذَلِكَ قُلْنَا فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ : إنَّهُ يُجْزِئُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { مَاءً } : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هَذَا نَفْيٌ فِي نَكِرَةٍ ،
وَهُوَ يَعُمُّ لُغَةً ؛ فَيَكُونُ مُفِيدًا جَوَازَ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ
الْمُتَغَيِّرِ وَغَيْرِ الْمُتَغَيِّرِ ؛ لِانْطِلَاقِ اسْمِ الْمَاءِ عَلَيْهِ .
قُلْنَا
: اسْتَنْوَقَ الْجَمَلُ ، الْآنَ يَسْتَدِلُّ أَصْحَابُ
أَبِي حَنِيفَةَ بِاللُّغَاتِ ، وَيَقُولُونَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ ، وَهُمْ
يَنْبِذُونَهَا فِي أَكْثَرِ الْمَسَائِلِ بِالْعَرَاءِ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ
النَّفْيَ فِي النَّكِرَةِ يَعُمُّ كَمَا قُلْتُمْ ، وَلَكِنْ فِي الْجِنْسِ ؛
فَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا كَانَ مِنْ سَمَاءٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ
نَهْرٍ أَوْ بَحْرٍ عَذْبٍ أَوْ مِلْحٍ ؛ فَأَمَّا غَيْرُ الْجِنْسِ فَهُوَ
الْمُتَغَيِّرُ ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ ، كَمَا لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مَاءُ الْبَاقِلَاءِ .
وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَنْعِ
الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ بِالزَّعْفَرَانِ فِي " كِتَابِ
التَّلْخِيصِ " .
وَمِنْ هَاهُنَا وَهَمَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ :
إنَّهُ إذَا وَجَدَ مِنْ الْمَاءِ مَا لَا يَكْفِيهِ لِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ
كُلِّهَا أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ فِيمَا كَفَاهُ وَيَتَيَمَّمُ لِبَاقِيهِ ؛
فَخَالَفَ مُقْتَضَى اللُّغَةِ وَأُصُولِ الشَّرِيعَةِ .
أَمَّا مُقْتَضَى اللُّغَةِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
قَالَ : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ
وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا
} وَأَرَادَ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ ، ثُمَّ قَالَ {
فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْمَاءَ الَّذِي
يَقُومُ لَهُ بِحَقِّ مَا تَقَدَّمَ الْأَمْرُ فِيهِ وَالتَّكْلِيفُ لَهُ ؛ فَإِنْ
آخِرَ الْكَلَامِ مُرْتَبِطٌ بِأَوَّلِهِ .
وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ لِلْأُصُولِ فَلَيْسَ فِي
الشَّرِيعَةِ مَوْضِعٌ يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ ، وَقَدْ
مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَبِهَذَا تَعَلَّقَ الْأَئِمَّةُ
فِي الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ ، و هِيَ : الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ
وَالْعِشْرُونَ : قَالَ ابْنُ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ
بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَاءُ النَّارِ أَوْ لِأَنَّهُ طِينُ جَهَنَّمَ ، وَكَأَنَّهُمْ
يُشِيرُونَ إلَى أَنَّهُ مَاءُ عَذَابٍ فَلَا يَكُونُ مَاءَ قُرْبَةٍ .
وَقَدْ { مَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلُوا بِهِ بِدِيَارِ ثَمُودَ أَلَّا يُشْرَبَ وَلَا يُتَوَضَّأَ
مِنْ آبَارِهِمْ إلَّا مِنْ بِئْرِ النَّاقَةِ ، وَأَوْقَفَهُمْ عَلَيْهِ } ؛
وَهِيَ إحْدَى مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قُلْنَا : قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي مَاءِ الْبَحْرِ : { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَاءَ الْبَحْرِ
هُوَ طَهُورُ الْمَلَائِكَةِ ، إذَا نَزَلُوا تَوَضَّئُوا ، وَإِذَا صَعِدُوا
تَوَضَّئُوا ، فَيُقَابَلُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَيَبْقَى لَنَا مُطْلَقُ الْآيَةِ ، وَحَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ : قَوْله
تَعَالَى : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا } : مَعْنَاهُ فَاقْصِدُوا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَرَأَهَا
فَائْتَمُّوا ، وَالْأُولَى أَفْصَحُ وَأَمْلَحُ ؛ فَإِنَّ " اقْصِدُوا
" أَمْلَحُ مِنْ اتَّخِذُوهُ إمَامًا ، وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ : تَلْزَمُ النِّيَّةُ فِي التَّيَمُّمِ ؛ لِأَنَّهُ الْقَصْدُ لَفْظًا
وَمَعْنًى .
قُلْنَا
: لَيْسَ الْقَصْدُ إلَيْهِ لِلِاسْتِعْمَالِ بَدَلَ
الْمَاءِ هُوَ النِّيَّةُ ، إنَّمَا مَعْنَاهُ اجْعَلُوهُ بَدَلًا ، فَأَمَّا
قَصْدُ التَّقَرُّبِ فَهُوَ غَيْرُهُ
.
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ : {
فَتَيَمَّمُوا } إنْ كَانَ يَقْتَضِي بِلَفْظِهِ النِّيَّةَ فَقَوْلُهُ :
تَطَهَّرُوا وَاغْتَسِلُوا يَقْتَضِي بِلَفْظِهِ النِّيَّةَ ، كَمَا تَقَدَّمَ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمَاءُ مُطَهِّرٌ بِنَفْسِهِ ، فَلَمْ
يُفْتَقَرْ إلَى قَصْدٍ إذَا وُجِدَتْ النَّظَافَةُ بِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ
كَانَتْ .
قُلْنَا : وَكَذَلِكَ التُّرَابُ مُلَوَّثٌ بِنَفْسِهِ ،
فَلَمْ يُفْتَقَرْ إلَى قَصْدٍ إذَا وُجِدَ التَّلَوُّثُ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { صَعِيدًا } : فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : وَجْهُ
الْأَرْضِ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ .
الثَّانِي : الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ ؛ قَالَهُ ابْنُ
زَيْدٍ .
الثَّالِثُ : الْأَرْضُ الْمَلْسَاءُ .
الرَّابِعُ : التُّرَابُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ .
وَاَلَّذِي يُعَضِّدُهُ الِاشْتِقَاقُ وَهُوَ صَرِيحُ
اللُّغَةِ أَنَّهُ وَجْهُ الْأَرْضِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْ رَمْلٍ أَوْ
حَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ أَوْ تُرَابٍ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْلُهُ : {
طَيِّبًا } : قِيلَ : إنَّهُ مُنْبِتٌ ، وَعُزِيَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ،
وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ ، وَعَضَّدَهُ بِالْمَعْنَى فَقَالَ : إنَّهُ
يَنْتَقِلُ مِنْ الْمَاءِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِحْيَاءِ إلَى التُّرَابِ
الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِنْبَاتِ
.
وَقِيلَ : إنَّهُ النَّظِيفُ .
وَقِيلَ : إنَّهُ الْحَلَالُ .
وَقِيلَ : هُوَ الطَّاهِرُ ؛ فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ
أَصَحُّهَا الطَّاهِرُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : إذَا تَيَمَّمَ
عَلَى بُقْعَةٍ نَجِسَةٍ جَاهِلًا أَعَادَ فِي الْوَقْتِ ، وَلَوْ تَوَضَّأَ
بِمَاءٍ نَجِسٍ أَعَادَ أَبَدًا
.
قُلْنَا : هُمَا عِنْدَنَا سَوَاءٌ فِي أَحَدِ
الْقَوْلَيْنِ الَّذِي نَنْصُرُهُ الْآنَ ، وَكَلَامُ الْقَوْلِ الثَّانِي فِي
كُتُبِ الْمَسَائِلِ .
فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : إنَّهُ نَقَلَ مِنْ أَصْلِ
الْإِحْيَاءِ إلَى أَصْلِ الْإِنْبَاتِ فَهُوَ دَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا ؛
عَلَى أَنَّا نَقُولُ : نَقَلَنَا مِنْ الْمَاءِ إلَى الْأَرْضِ ، وَمِنْهَا
خَلَقَنَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { فَامْسَحُوا } : وَالْمَسْحُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ جَرِّ
الْيَدِ عَلَى الْمَمْسُوحِ خَاصَّةً ، فَإِنْ كَانَ بِآلَةٍ فَهُوَ عِبَارَةٌ
عَنْ نَقْلِ الْآلَةِ إلَى الْيَدِ وَجَرِّهَا عَلَى الْمَمْسُوحِ بِخِلَافِ
الْغُسْلِ ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ :
وَالْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : شَرْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدِ : وَالسَّادِسَةُ
وَالثَّلَاثُونَ : دُخُولُ الْبَاءِ عَلَى الْوَجْهِ : وَالسَّابِعَةُ
وَالثَّلَاثُونَ : سُقُوطُ قَوْلِهِ
{ مِنْهُ } هَاهُنَا وَثُبُوتُهَا فِي سُورَةِ
الْمَائِدَةِ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ : دُخُولُ الْعَفْوِ
وَالْغُفْرَانِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَحْكَامِ وَانْتِظَامِهَا بِهِمَا .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ عَفْوَ اللَّهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى إسْقَاطُهُ لِحُقُوقِهِ أَوْ بَذْلُهُ لِفَضْلِهِ ، وَمَغْفِرَتُهُ
سَتْرُهُ عَلَى عِبَادِهِ ؛ فَوَجْهُ الْإِسْقَاطِ هَاهُنَا تَخْفِيفُ
التَّكْلِيفِ ، وَلَوْ رُدَّ بِأَكْثَرَ لَلَزِمَ ، وَوَجْهُ بَدَلِهِ إعْطَاؤُهُ
الْأَجْرَ الْكَثِيرَ عَلَى الْفِعْلِ الْيَسِيرِ ، وَرَفْعُهُ عَنْ هَذِهِ
الْأُمَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ الْإِصْرَ الَّذِي كَانَ وَضَعَهُ عَلَى سَائِرِ
الْأُمَمِ قَبْلَهَا ، وَمَغْفِرَتُهُ سَتْرُهُ عَلَى الْمُقَصِّرِينَ فِي
الطَّاعَاتِ ؛ وَذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي آيَاتِ الذِّكْرِ ، وَمِنْهُ نُبْذَةٌ فِي
" شَرْحِ الْمُشْكَلَيْنِ
" فَلْتُنْظَرْ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى
: { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا
وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا
يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأَمَانَاتِ ؛ فَقَالَ قَوْمٌ : هِيَ كُلُّ مَا
أَخَذْتَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ
.
وَقَالَ آخَرُونَ : هِيَ مَا أَخَذْتَهُ بِإِذْنِ
صَاحِبِهِ لِمَنْفَعَتِهِ .
الصَّحِيحُ أَنَّ كِلَيْهِمَا أَمَانَةٌ ؛ وَمَعْنَى
الْأَمَانَةِ فِي الِاشْتِقَاقِ أَنَّهَا أُمِنَتْ مِنْ الْإِفْسَادِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى :
بِأَدَائِهَا إلَى أَرْبَابِهَا ، وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا أَمْرُ السَّرَايَا ؛
قَالَهُ عَلِيٌّ وَمَكْحُولٌ .
وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي { عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ
أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ الْمِفْتَاحَ يَوْمَ
الْفَتْحِ وَدَخَلَ الْكَعْبَةَ ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ
، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُوهَا ، فَدَعَا
عُثْمَانُ ، فَدَفَعَ إلَيْهِ الْمِفْتَاحَ } ،
فَكَانَتْ وِلَايَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ إلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ ، وَنَاهِيكَ بِهَذَا فَخْرًا .
وَرُوِيَ أَنَّ الْعَبَّاسَ عَمَّ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ تُجْمَعَ
لَهُ السَّدَانَةُ وَالسِّقَايَةُ ، وَنَازَعَهُ فِي ذَلِكَ شَيْبَةُ ؛ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
هَذِهِ الْآيَةَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : لَوْ فَرَضْنَاهَا نَزَلَتْ
فِي سَبَبٍ فَهِيَ عَامَّةٌ بِقَوْلِهَا ، شَامِلَةٌ بِنُظُمِهَا لِكُلِّ
أَمَانَةٍ ؛ وَهِيَ أَعْدَادٌ كَثِيرَةٌ ، أُمَّهَاتُهَا فِي الْأَحْكَامِ :
الْوَدِيعَةُ ، وَاللُّقَطَةُ ، وَالرَّهْنُ ، وَالْإِجَارَةُ ، وَالْعَارِيَّةُ .
أَمَّا الْوَدِيعَةُ : فَلَا يَلْزَمُ أَدَاؤُهَا حَتَّى
تُطْلَبَ ، وَأَمَّا اللُّقَطَةُ فَحُكْمُهَا التَّعْرِيفُ سَنَةً فِي مَظَانِّ
الِاجْتِمَاعَاتِ ، وَحَيْثُ تُرْجَى الْإِجَابَةُ لَهَا ، وَبَعْدَ ذَلِكَ
يَأْكُلُهَا حَافِظُهَا ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا غَرِمَهَا ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ
يَتَصَدَّقَ بِهَا .
وَأَمَّا الرَّهْنُ : فَلَا يَلْزَمُ فِيهِ أَدَاءٌ
حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَيْهِ دَيْنَهُ
.
وَأَمَّا الْإِجَارَةُ وَالْعَارِيَّةُ : إذَا انْقَضَى
عَمَلُهُ فِيهَا يَلْزَمُهُ رَدُّهَا إلَى صَاحِبِهَا قَبْلَ أَنْ يَطْلُبَهَا ،
وَلَا يُحْوِجُهُ إلَى تَكْلِيفٍ لِلطَّلَبِ وَمُؤْنَةِ الرَّدِّ .
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي الْإِجَارَةِ :
يَرُدُّهَا أَيْنَ أَخَذَهَا إنْ كَانَ مَوْضِعُ ذَلِكَ فِيهَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } : قَالَ ابْنُ
زَيْدٍ : قَالَ أَبِي : هُمْ السَّلَاطِينُ ، بَدَأَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِمْ ؛
فَأَمَرَهُمْ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيمَا لَدَيْهِمْ مِنْ الْفَيْءِ ، وَكُلُّ
مَا يَدْخُلُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ حَتَّى يُوصِلُوهُ إلَى أَرْبَابِهِ ، وَأَمَرَهُمْ
بِالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدْلِ ، وَأَمَرَنَا بَعْدَ ذَلِكَ
بِطَاعَتِهِمْ ، فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } .
قَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَدَاءِ
الْأَمَانَةِ وَالْحُكْمِ عَامَّةً فِي الْوِلَايَةِ وَالْخَلْقِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ
مُسْلِمٍ عَالِمٌ ، بَلْ كُلُّ مُسْلِمٍ حَاكِمٌ وَوَالٍ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ الْمُقْسِطُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ
الرَّحْمَنِ ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ وَهُمْ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي
أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كُلُّكُمْ
رَاعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ عَلَى
النَّاسِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ
وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ
مَسْئُولٌ عَنْهُ : أَلَّا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ } .
فَجَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ
الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كُلَّ هَؤُلَاءِ رُعَاةً وَحُكَّامًا عَلَى
مَرَاتِبِهِمْ ، وَكَذَلِكَ الْعَالَمُ الْحَاكِمُ فَإِنَّهُ إذَا أَفْتَى يَكُونُ
قَضَى ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، وَالْفَرْضِ وَالنَّدْبِ ،
وَالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ ؛ فَجَمِيعُ ذَلِكَ فِيمَنْ ذَكَرْنَا أَمَانَةٌ
تُؤَدَّى وَحُكْمٌ يُقْضَى ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى
: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا
} .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي حَقِيقَةِ الطَّاعَةِ : وَهِيَ امْتِثَالُ الْأَمْرِ ، كَمَا أَنَّ الْمَعْصِيَةَ
ضِدُّهَا ، وَهِيَ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ .
وَالطَّاعَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ طَاعَ إذَا انْقَادَ ،
وَالْمَعْصِيَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ عَصَى وَهُوَ اشْتَدَّ ، فَمَعْنَى ذَلِكَ
امْتَثِلُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي ، وَمَنْ أَطَاعَنِي
فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي ،
وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى }
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } : فِيهَا قَوْلَانِ : الْأَوَّلُ : قَالَ مَيْمُونُ
بْنُ مِهْرَانَ : هُمْ أَصْحَابُ السَّرَايَا ، وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا ،
وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا
نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ ، إذْ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ .
الثَّانِي :
قَالَ جَابِرٌ : هُمْ الْعُلَمَاءُ ، وَبِهِ قَالَ
أَكْثَرُ التَّابِعِينَ ، و اخْتَارَهُ مَالِكٌ ؛ قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ مَسْلَمَةَ
: سَمِعْنَا مَالِكًا يَقُولُ : هُمْ الْعُلَمَاءُ .
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ نَزَارٍ ، وَقَفْت عَلَى مَالِكٍ
فَقُلْت : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ؛ مَا تَرَى فِي قَوْله تَعَالَى : { وَأُولِي
الْأَمْرِ مِنْكُمْ } ؟ قَالَ : وَكَانَ
مُحْتَبِيًا فَحَلَّ حَبْوَتَهُ ، وَكَانَ عِنْدَهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ فَفَتَحَ
عَيْنَيْهِ فِي وَجْهِي ، وَعَلِمْت مَا أَرَادَ ، وَإِنَّمَا عَنَى أَهْلَ
الْعِلْمِ ؛ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ وَاحْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي } الْحَدِيثَ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُمْ الْأُمَرَاءُ
وَالْعُلَمَاءُ جَمِيعًا ، أَمَّا الْأُمَرَاءُ فَلِأَنَّ أَصْلَ الْأَمْرِ
مِنْهُمْ وَالْحُكْمَ إلَيْهِمْ
.
وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ فَلِأَنَّ سُؤَالَهُمْ وَاجِبٌ
مُتَعَيِّنٌ عَلَى الْخَلْقِ ، وَجَوَابُهُمْ لَازِمٌ ، وَامْتِثَالُ فَتْوَاهُمْ
وَاجِبٌ ، يَدْخُلُ فِيهِ الزَّوْجُ لِلزَّوْجَةِ ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ
قَدَّمْنَا أَنَّ كُلَّ هَؤُلَاءِ حَاكِمٌ ، وَقَدْ سَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى
بِذَلِكَ فَقَالَ : { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا
لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ } .
فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاكِمٌ [ وَالرَّبَّانِيَّ حَاكِمٌ ] ، وَالْحَبْرَ حَاكِمٌ ،
وَالْأَمْرُ كُلُّهُ يَرْجِعُ إلَى الْعُلَمَاءِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ أَفْضَى
إلَى الْجُهَّالِ ، وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ سُؤَالُ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلِذَلِكَ نَظَرَ
مَالِكٌ إلَى خَالِدِ بْنِ نَزَارٍ نَظْرَةً مُنْكَرَةً ، كَأَنَّهُ
يُشِيرُ بِهَا إلَى أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ وَقَفَ فِي
ذَلِكَ عَلَى الْعُلَمَاءِ ، وَزَالَ عَنْ الْأُمَرَاءِ لِجَهْلِهِمْ
وَاعْتِدَائِهِمْ ، وَالْعَادِلُ مِنْهُمْ مُفْتَقِرٌ إلَى الْعَالَمِ
كَافْتِقَارِ الْجَاهِلِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } : قَالَ
عُلَمَاؤُنَا : رُدُّوهُ إلَى كِتَابِ اللَّهِ ، فَإِذَا لَمْ تَجِدُوهُ فَإِلَى
سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُ
فَكَمَا قَالَ عَلِيٌّ : مَا عِنْدَنَا إلَّا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ
مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ ، أَوْ فَهْمٌ أُوتِيهِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ ، وَكَمَا {
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ : بِمَ تَحْكُمُ ؟
قَالَ : بِكِتَابِ اللَّهِ .
قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ .
قَالَ : بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ؟ قَالَ : أَجْتَهِدُ
رَأْيِي ، وَلَا آلُو .
قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ
رَسُولِ اللَّهِ } .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا لَا يَصِحُّ .
قُلْنَا :
قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ " شَرْحِ الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ " وَكِتَابِ "
نَوَاهِي الدَّوَاهِي " صِحَّتَهُ ، وَأَخَذَ
الْخُلَفَاءُ كُلُّهُمْ بِذَلِكَ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ
لِلْأَنْصَارِ : إنَّ اللَّهَ جَعَلَكُمْ الْمُفْلِحِينَ ، وَسَمَّانَا الصَّادِقِينَ
؛ فَقَالَ : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
} إلَى قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } .
ثُمَّ قَالَ : { وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ
وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ } إلَى قَوْلِهِ : { فَأُولَئِكَ هُمْ
الْمُفْلِحُونَ } .
وَقَدْ أَمَرَكُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ
تَكُونُوا مَعَنَا حَيْثُ كُنَّا ، فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } .
{ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: أُوصِيكُمْ بِالْأَنْصَارِ خَيْرًا
} .
وَلَوْ كَانَ لَكُمْ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا أَوْصَى
بِكُمْ " .
وَقَالَ لَهُ عُمَرُ حِينَ ارْتَدَّ مَانِعُوا
الزَّكَاةِ : خُذْ مِنْهُمْ الصَّلَاةَ وَدَعْ الزَّكَاةَ .
فَقَالَ : لَا أَفْعَلُ ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ
الْمَالِ وَالصَّلَاةَ حَقُّ الْبَدَنِ
.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : نَرْضَى لِدُنْيَانَا
مَنْ رَضِيَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِدِينِنَا .
وَجَاءَتْ الْجَدَّةُ الْأُخْرَى إلَيْهِ فَقَالَ لَهَا
: لَا أَجِدُ لَكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْئًا وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ السُّدُسُ ؛ فَأَيَّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ
فَهُوَ لَهَا ، فَإِنْ اجْتَمَعْتُمَا فَهُوَ بَيْنَكُمَا .
وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { قَضَى بِالسُّدُسِ لِلْجَدَّةِ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ } ؛ فَوَجَبَ أَنْ
يَشْتَرِكَا فِيهِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ .
وَكَذَلِكَ لَمَّا جَمَعَ الصَّحَابَةَ فِي أَمْرِ
الْوَبَاءِ بِالشَّامِ فَتَكَلَّمُوا مَعَهُ بِأَجْمَعِهِمْ وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ
، مَا ذَكَرُوا فِي طَلَبِهِمْ الْحَقَّ فِي مَسْأَلَتِهِمْ لِلَّهِ كَلِمَةً
وَلَا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرْفًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَكُنْ عِنْدَهُمْ ، وَأَفْتَوْا وَحَكَمَ عُمَرُ ، وَنَازَعَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ
، فَقَالَ لَهُ : أَرَأَيْت لَوْ كَانَ لَكَ إبِلٌ فَهَبَطْت بِهَا وَادِيًا لَهُ
عُدْوَتَانِ : إحْدَاهَا خِصْبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ ؛ أَلَيْسَ إنْ رَعَيْت
الْخِصْبَةَ رَعَيْتهَا بِقَدَرِ اللَّهِ ، وَإِنْ رَعَيْت الْجَدْبَةَ رَعَيْتهَا
بِقَدَرِ اللَّهِ ، فَضَرَبَ الْمَثَلَ لِنَفْسِهِ بِالرَّعْيِ وَالنَّاسِ بِالْإِبِلِ
، وَالْأَرْضِ الْوَبِئَةِ بِالْعُدْوَةِ الْجَدْبَةِ ، وَالْأَرْضِ السَّلِيمَةِ
بِالْعُدْوَةِ الْخِصْبَةِ ، وَلِاخْتِيَارِ السَّلَامَةِ بِاخْتِيَارِ الْخِصْبِ
؛ فَأَيْنَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ ؟ أَيُقَالُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا لَمْ يَقُولَا
، فَذَلِكَ كُفْرٌ ، أَمْ يُقَالُ : دَعْ هَذَا فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ حُكْمٌ ،
فَذَلِكَ كُفْرٌ ، وَلَكِنْ تُضْرَبُ الْأَمْثَالِ وَيُطْلَبُ الْمِثَالُ حَتَّى يَخْرُجَ
الصَّوَابُ .
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى :
{ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ
الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ
} .
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَأَصْحَابُهُ حِينَ
جَمَعُوا
الْقُرْآنَ :
إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تُوُفِّيَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا مَوْضِعَ بَرَاءَةٍ ، وَإِنَّ قِصَّتَهَا لَتُشْبِهُ
قِصَّةَ الْأَنْفَالِ ، فَنَرَى أَنْ نَكْتُبَهَا مَعَهَا وَلَا نَكْتُبُ
بَيْنَهَا سَطْرَ { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } .
فَأَثْبَتُوا مَوْضِعَ الْقُرْآنِ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ .
وَقَالَ عَلِيٌّ : نَرَى أَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ
سِتَّةُ أَشْهُرٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ
ثَلَاثُونَ شَهْرًا } .
وَقَالَ : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ
حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } .
فَإِذَا فَصَلْتَهُمَا مِنْ ثَلَاثِينَ شَهْرًا بَقِيَتْ
سِتَّةُ أَشْهُرٍ .
وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : صَوْمُ الْجُنُبِ
صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ : { فَالْآنَ
بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ
الْفَجْرِ } فَيَقَعُ الِاغْتِسَالُ بَعْدَ الْفَجْرِ ، وَقَدْ انْعَقَدَ جُزْءٌ مِنْ الصَّوْمِ
وَهُوَ فَاتِحَتُهُ مَعَ الْجَنَابَةِ ، وَلَوْ سَرَدْنَا نَبْطَ الصَّحَابَةِ
لَتَبَيَّنَ خَطَأُ الْجَهَالَةِ ، وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ لِلْعُلَمَاءِ ؛ فَإِنْ
عَارَضَكُمْ السُّفَهَاءُ فَالْعَجَلَةُ الْعَجَلَةُ إلَى كِتَابِ نَوَاهِي
الدَّوَاهِي ، فَفِيهِ الشِّفَاءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى
: { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ
إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى
الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ
يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا
} .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : يُرْوَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي { رَجُلٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ
نَازَعَ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ : بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَبُو
الْقَاسِمِ ، وَقَالَ الْمُنَافِقُ : بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْكَاهِنُ .
وَقِيلَ :
قَالَ الْمُنَافِقُ : بَيْنِي وَبَيْنَكَ كَعْبُ بْنُ
الْأَشْرَفِ ، يَفِرُّ الْيَهُودِيُّ مِمَّنْ يَقْبَلُ الرِّشْوَةَ وَيُرِيدُ الْمُنَافِقُ
مَنْ يَقْبَلُهَا .
وَيُرْوَى أَنَّ الْيَهُودِيَّ قَالَ لَهُ : بَيْنِي
وَبَيْنَكَ أَبُو الْقَاسِمِ .
وَقَالَ الْمُنَافِقُ : بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْكَاهِنُ ،
حَتَّى تَرَافَعَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَكَمَ
لِلْيَهُودِيِّ عَلَى الْمُنَافِقِ ، فَقَالَ الْمُنَافِقُ : لَا أَرْضَى ،
بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَبُو بَكْرٍ ؛ فَأَتَيَا أَبَا بَكْرٍ فَحَكَمَ أَبُو بَكْرٍ لِلْيَهُودِيِّ .
فَقَالَ الْمُنَافِقُ : لَا أَرْضَى ، بَيْنِي
وَبَيْنَكَ عُمَرُ .
فَأَتَيَا عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ الْيَهُودِيُّ بِمَا
جَرَى ؛ فَقَالَ : أَمْهِلَا حَتَّى أَدْخُلَ بَيْتِي فِي حَاجَةٍ ، فَدَخَلَ
فَأَخْرَجَ سَيْفَهُ ثُمَّ خَرَجَ ، فَقَتَلَ الْمُنَافِقَ ؛ فَشَكَا أَهْلُهُ ذَلِكَ
إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ ؛ إنَّهُ رَدَّ حُكْمَكَ
.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : أَنْتَ الْفَارُوقُ } ، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ الْآيَةُ كُلُّهَا إلَى
قَوْلِهِ : { وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
} .
وَيُرْوَى فِي الصَّحِيحِ أَنَّ { رَجُلًا مِنْ
الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي شِرَاجِ الْحُرَّةِ ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اسْقِ يَا زُبَيْرُ ، وَأَرْسِلْ الْمَاءَ
إلَى جَارِكِ الْأَنْصَارِيِّ .
فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : آنَ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ ،
فَتَلَوَّنَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ لِلزُّبَيْرِ : أَمْسِكْ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ
الْجَدْرَ ، ثُمَّ أَرْسِلْهُ }
.
قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ : وَأَحْسَبُ أَنَّ
الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } إلَى آخِرِهِ .
قَالَ مَالِكٌ : الطَّاغُوتُ كُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ مِنْ صَنَمٍ أَوْ كَاهِنٍ أَوْ سَاحِرٍ أَوْ كَيْفَمَا تَصَرَّفَ
الشِّرْكُ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ : { آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ } :
يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ ، أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ .
وَبِقَوْلِهِ : { وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } :
يَعْنِي الْيَهُودَ ؛ آمَنُوا بِمُوسَى ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { رَأَيْتَ
الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } وَيَذْهَبُونَ إلَى الطَّاغُوتِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَارَ الطَّبَرِيُّ
أَنْ يَكُونَ نُزُولُ الْآيَةِ فِي الْمُنَافِقِ وَالْيَهُودِيِّ ثُمَّ
تَتَنَاوَلُ بِعُمُومِهَا قِصَّةَ الزُّبَيْرِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَكُلُّ مَنْ اتَّهَمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ كَافِرٌ ، لَكِنَّ الْأَنْصَارِيَّ زَلَّ
زَلَّةً فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَقَالَ عَثْرَتَهُ لِعِلْمِهِ بِصِحَّةِ يَقِينِهِ وَأَنَّهَا كَانَتْ فَلْتَةً
، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بَعْدَهُ فَهُوَ عَاصٍ آثِمٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِيهَا أَنْ يَتَحَاكَمَ الْيَهُودِيُّ
مَعَ الْمُسْلِمِ عِنْدَ حَاكِمِ الْإِسْلَامِ ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ
الْمَائِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوْ اُخْرُجُوا
مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا
مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رُوِيَ
أَنَّهُ { تَفَاخَرَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شِمَاسٍ وَيَهُودِيٌّ ، فَقَالَ
الْيَهُودِيُّ : وَاَللَّهِ ، لَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا أَنْ نَقْتُلَ
أَنْفُسَنَا .
فَقَالَ ثَابِتٌ : وَاَللَّهِ لَوْ كَتَبَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا لَفَعَلْنَا
.
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ : قَالَ رَجُلٌ
مِنْ الصَّحَابَةِ لَوْ أُمِرْنَا لَفَعَلْنَا ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
عَافَانَا .
فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ مِنْ أُمَّتِي لَرِجَالًا الْإِيمَانُ أَثْبَتُ فِي
قُلُوبِهِمْ مِنْ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي } .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : الْقَائِلُ ذَلِكَ
أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : حَرْفُ " لَوْ "
تَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ ذَلِكَ عَلَيْنَا لِعِلْمِهِ بِأَنَّ
الْأَكْثَرَ مَا كَانَ يَمْتَثِلُ ذَلِكَ فَتَرَكَهُ رِفْقًا بِنَا ؛ لِئَلَّا
تَظْهَرَ مَعْصِيَتُنَا ، فَكَمْ مِنْ أَمْرٍ قَصَّرْنَا عَنْهُ مَعَ خِفَّتِهِ ، فَكَيْفَ
بِهَذَا الْأَمْرِ مَعَ ثِقَلِهِ ؟ أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ تَرَكَ الْمُهَاجِرُونَ
مَسَاكِنَهُمْ خَاوِيَةً وَخَرَجُوا يَطْلُبُونَ بِهَا عِيشَةً رَاضِيَةً ،
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } .
الْآيَةُ فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ
نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ أَشْبَهُهَا مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ أَنَّ { رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَحْزُونٌ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : مَا لِي أَرَاك مَحْزُونًا ؟ فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، نَحْنُ
نَغْدُو عَلَيْكَ وَنَرُوحُ نَنْظُرُ فِي وَجْهِكَ وَنُجَالِسُكَ ، وَغَدًا
تُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ ، فَلَا نَصِلُ إلَيْكَ ؛ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ
بِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ فَبَعَثَ إلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُبَشِّرُهُ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ :
سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : قَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ ، وَهُوَ يَصِفُ الْمَدِينَةَ
وَفَضْلَهَا ، يُبْعَثُ مِنْهَا أَشْرَافُ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
، وَحَوْلَهَا الشُّهَدَاءُ أَهْلُ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ ، ثُمَّ تَلَا
مَالِكٌ هَذِهِ الْآيَةَ : { فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ
أُولَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ عَلِيمًا }
؛ يُرِيدُ مَالِكٌ فِي قَوْلِهِ
: { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ
مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } هُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ
بِالْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا ، فَبَيَّنَ بِذَلِكَ فَضْلَهُمْ ، وَفَضْلَ
الْمَدِينَةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْبِقَاعِ : مَكَّةَ و سِوَاهَا ، وَهَذَا
فَضْلٌ مُخْتَصٌّ بِهَا ، وَلَهَا فَضَائِلُ سِوَاهَا بَيَّنَّاهَا فِي قَبَسِ الْمُوَطَّأِ
، وَفِي الْإِنْصَافِ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ ؛ فَلْيُنْظَرْ فِي الْكِتَابَيْنِ .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى
: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ
انْفِرُوا جَمِيعًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
الثُّبَةُ : الْجَمَاعَةُ ، وَالْجَمْعُ فِيهَا ثِبُونَ أَوْ ثِبِينَ أَوْ ثُبَاتٌ
، كَمَا تَقُولُ : عِضَةٌ وَعِضُونَ وَعِضَاهٌ ، وَاللُّغَتَانِ فِي الْقُرْآنِ ،
وَتَصْغِيرُ الثُّبَةِ ثُبَيَّةٌ ، وَيُقَالُ فِي وَسَطِ الْحَوْضِ ثُبَةٌ ؛
لِأَنَّ الْمَاءَ يَثُوبُ إلَيْهِ ، أَيْ يَرْجِعُ ؛ وَتَصْغِيرُ هَذِهِ
ثُوَيْبَةُ ؛ لِأَنَّ هَذَا مَحْذُوفُ الْوَاوِ ، وَثُبَةُ الْجَمَاعَةِ إنَّمَا اُشْتُقَّتْ
مِنْ ثَبَّيْتُ عَلَى الرَّجُلِ إذَا أَثْنَيْتُ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ
وَجَمَعْتُ مَحَاسِنَ ذِكْرِهِ ، فَيَعُودُ إلَى الِاجْتِمَاعِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
خُذُوا حِذْرَكُمْ } : أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَلَّا
يَقْتَحِمُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ عَلَى جَهَالَةٍ حَتَّى يَتَحَسَّسُوا إلَى مَا
عِنْدَهُمْ ، وَيَعْلَمُوا كَيْفَ يَرُدُّونَ عَلَيْهِمْ ؛ فَذَلِكَ أَثْبَتُ
لِلنُّفُوسِ ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالتَّجْرِبَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَمَرَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ النَّاسَ بِالْجِهَادِ سَرَايَا مُتَفَرِّقَةً أَوْ مُجْتَمَعِينَ
عَلَى الْأَمِيرِ ، فَإِنْ خَرَجَتْ السَّرَايَا فَلَا تَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِ
الْإِمَامِ ؛ لِيَكُونَ مُتَحَسِّسًا إلَيْهِمْ وَعَضُدًا مِنْ وَرَائِهِمْ ،
وَرُبَّمَا احْتَاجُوا إلَى دَرْئِهِ
.
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى
: { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ
فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا
} .
سَوَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ
بَيْنَ مَنْ قُتِلَ شَهِيدًا أَوْ انْقَلَبَ غَانِمًا ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تَكَفَّلَ
اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إلَّا
الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ ، أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ
، أَوْ يَرُدَّهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ
أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ } .
فَغَايَرَ بَيْنَهُمَا ، وَجَعَلَ الْأَجْرَ فِي مَحَلٍّ
وَالْغَنِيمَةَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ
.
وَثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : { أَيُّمَا
سَرِيَّةٍ أَخْفَقَتْ كَمُلَ لَهَا الْأَجْرُ ، وَأَيُّمَا سَرِيَّةٍ غَنِمَتْ
ذَهَبَ ثُلُثَا أَجْرِهَا } .
فَأَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ فَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ
فِي شُرُوحَاتِ الْحَدِيثِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ ، وَلَيْسَ يُعَارِضُ الْآيَةَ
كُلَّ الْمُعَارَضَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ ثُلُثَ الْأَجْرِ ، وَهَذَا عَظِيمٌ ؛
وَإِذَا لَمْ يُعَارِضْهَا فَلْيُؤْخَذْ تَمَامُهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ : إنَّ "
أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَجْمَعُ لَهُ
الْأَجْرَ وَالْغَنِيمَةَ ، فَمَا أَعْطَى اللَّهُ الْغَنَائِمَ لِهَذِهِ
الْأُمَّةِ مُحَاسِبًا لَهَا بِهَا مِنْ ثَوَابِهَا ، وَإِنَّمَا خَصَّهَا بِهَا
تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا لَهَا ؛ لِحُرْمَةِ نَبِيِّهَا .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي
} .
فَاخْتَارَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ وَلِأُمَّتِهِ فِيمَا
يَرْتَزِقُونَ أَفْضَلَ وُجُوهِ الْكَسْبِ وَأَكْرَمَهَا ، وَهُوَ أَخْذُ
الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ .
وَقِيلَ :
إنَّ مَعْنَاهُ الَّذِي يَغْنَمُ قَدْ أَصَابَ [
الْحَظَّيْنِ ، وَاَلَّذِي يَخْفِقُ لَهُ ] الْحَظُّ الْوَاحِدُ وَهُوَ الْأَجْرُ
، فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ : مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ
وَحْدَهُ أَوْ غَنِيمَةٍ مَعَ الْأَجْرِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا
وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا } .
الْآيَةُ فِيهَا [ ثَلَاثُ ] مَسَائِلَ الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ الْقِتَالَ ؛ لِاسْتِنْقَاذِ الْأَسْرَى مِنْ يَدِ الْعَدُوِّ مَعَ مَا
فِي الْقِتَالِ مِنْ تَلَفِ النَّفْسِ ، فَكَانَ بَذْلُ الْمَالِ فِي فِدَائِهِمْ
أَوْجَبَ ، لِكَوْنِهِ دُونَ النَّفْسِ وَأَهْوَنَ مِنْهَا .
وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ
وَفُكُّوا الْعَانِيَ } .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَفْدُوا الْأَسَارَى
بِجَمِيعِ أَمْوَالِهِمْ ؛ وَلِذَلِكَ قَالُوا : عَلَيْهِمْ أَنْ يُوَاسُوهُمْ ،
فَإِنَّ الْمُوَاسَاةَ دُونَ الْمُفَادَاةِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَسِيرُ غَنِيًّا
فَهَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ الْفَادِي أَمْ لَا ؟ فِي ذَلِكَ لِعُلَمَائِنَا
قَوْلَانِ ؛ أَصَحُّهُمَا الرُّجُوعُ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَإِنْ امْتَنَعَ مَنْ
عِنْدَهُ مَالٌ مِنْ ذَلِكَ ؟ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُقَاتِلُهُ إنْ كَانَ قَادِرًا
عَلَى قِتَالِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ .
فَإِنْ قَتَلَ الْمَانِعُ الْمَمْنُوعَ كَانَ عَلَيْهِ
الْقِصَاصُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى قِتَالٍ فَتَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ
جُوعًا ؛ فَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ جَاهِلًا بِوُجُوبِ الْمُوَاسَاةِ كَانَ فِي الْمَيِّتِ
الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَانِعِ ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِوُجُوبِ الْمُوَاسَاةِ
فَفِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : عَلَيْهِ الْقِصَاصُ .
الثَّانِي : عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ .
الثَّالِثُ : الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إذَا أَرَمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ
قَلَّ طَعَامُهُمْ
جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ، وَاقْتَسَمُوهُ
بَيْنَهُمْ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي تَنْقِيحِ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ : قَالَ بَعْضُ عُلَمَاؤُنَا : رَوَى طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَلَّمَ السَّائِلَ
مَعَالِمَ الدِّينِ وَأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ قَالَ لَهُ : وَالزَّكَاةُ ؟ قَالَ :
هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا ؟ قَالَ : لَا ، إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ .
دَخَلَ الْجَنَّةَ إنْ صَدَقَ } .
وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ
حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَمْنَعُ مِنْ
وُجُوبِ حَقٍّ فِي الْمَالِ غَيْرَ الزَّكَاةِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا :
أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ لَا فَرْضَ ابْتِدَاءً فِي الْمَالِ
وَالْبَدَنِ إلَّا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ ، فَأَمَّا الْعَوَارِضُ
فَقَدْ يَتَوَجَّهُ فِيهَا فَرْضٌ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْفُرُوضِ بِالنَّذْرِ وَغَيْرِهِ .
الثَّانِي : أَنَّ أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ مِنْ
الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ عِبَادَاتٌ لَا تَتَعَدَّى الْمُتَعَبِّدَ بِهَا .
وَأَمَّا الْمَالُ فَالْأَغْرَاضُ بِهِ مُتَعَلِّقَةٌ ،
وَالْعَوَارِضُ عَلَيْهِ مُخْتَلِفَةٌ
.
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا فَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
الزَّكَاةَ لِيَقُومَ بِحَقِّ الْفُقَرَاءِ أَوْ يَسُدَّ خَلَّتَهُمْ ، وَإِلَّا
فَتَكُونُ الْحِكْمَةُ قَاصِرَةً
.
فَالْجَوَابُ أَنْ نَقُولَ : هَذَا لَا يَلْزَمُ لِثَلَاثَةِ
أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَفْرِضَ الْبَارِّي
سُبْحَانَهُ الزَّكَاةَ قَائِمَةً لِسَدِّ خَلَّةِ الْفُقَرَاءِ ، وَيُحْتَمَلُ
أَنْ يَكُونَ فَرْضُهَا قَائِمَةً بِالْأَكْثَرِ ، وَتَرَكَ الْأَقَلَّ
لِيَسُدَّهَا بِنَذْرِ الْعَبْدِ الَّذِي يَسُوقُهُ الْقَدَرُ إلَيْهِ .
الثَّانِي : أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدْ أَخَذَ الزَّكَاةَ فِي زَمَنِهِ } فَلَمْ تَقُمْ الْخَلَّةُ
الْمَذْكُورَةُ بِالْفُقَرَاءِ حَتَّى كَانَ يَنْدُبَ إلَى الصَّدَقَةِ ،
وَيَحُثُّ عَلَيْهَا
.
الثَّالِثُ
: لِلْفَضْلَيْنِ : إنَّ الزَّكَاةَ إذَا أَخَذَهَا
الْوُلَاةُ ، وَمَنَعُوهَا مِنْ مُسْتَحِقِّيهَا ، فَبَقِيَ الْمَحَاوِيجُ فَوْضَى
؛ هَلْ يَتَعَلَّقُ إثْمُهُمْ بِالنَّاسِ أَمْ يَكُونُ عَلَى الْوَالِي خَاصَّةً ؟
فِيهِ نَظَرٌ ؛ فَإِنْ عَلِمَ أَحَدٌ بِخَلَّةِ مِسْكِينٍ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ
سَدُّهَا دُونَ غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ بِهَا سِوَاهُ ، فَيَتَعَلَّقُ
الْفَرْضُ بِجَمِيعِ مَنْ عَلِمَهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ .
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ أَرْبَعِينَ قَوْله تَعَالَى : {
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ
مُشَيَّدَةٍ } .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : {
بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } هِيَ قُصُورُ السَّمَاءِ ، أَلَّا تَسْمَعُ قَوْلَ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ : { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ } .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَالْبُرُوجُ الَّتِي فِي
السَّمَاءِ اثْنَا عَشَرَ بُرْجًا عِنْدَ الْعَرَبِ ، وَعِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ
: الْحَمَلُ ، الثَّوْرُ ، الْجَوْزَاءُ ، السَّرَطَانُ ، الْأَسَدُ ،
السُّنْبُلَةُ ، الْمِيزَانُ ، الْعَقْرَبُ ، الْقَوْسُ ، الْجَدْيُ ، الدَّلْوُ ،
الْحُوتُ .
وَقَدْ يُسَمُّونَ الْحَمَلَ الْكَبْشَ ، وَالْجَوْزَاءَ
التَّوْأَمَيْنِ ، وَالسُّنْبُلَةَ الْعَذْرَاءَ ، وَالْعَقْرَبَ الصُّورَةَ ،
وَالْقَوْسَ الرَّامِيَ ، وَالْحُوتَ السَّمَكَةَ .
وَتُسَمَّى أَيْضًا الدَّلْوَ الرَّشَا .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : خَلَقَ اللَّهُ هَذِهِ
الْبُرُوجَ مَنَازِلَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ، وَقَدَّرَ فِيهَا ، وَرَتَّبَ
الْأَزْمِنَةَ عَلَيْهَا ، وَجَعَلَهَا جَنُوبِيَّةً وَشَمَالِيَّةً ، دَلِيلًا
عَلَى الْمَصَالِحِ ، وَعَلَمًا عَلَى الْقِبْلَةِ ، وَطَرِيقًا إلَى تَحْصِيلِ آنَاءِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، لِمَعْرِفَةِ أَوْقَاتِ التَّهَجُّدِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ
مِنْ أَحْوَالِ الْمَعَاشِ وَالتَّعَبُّدِ ، وَسَنَسْتَوْفِي ذَلِكَ بَيَانًا فِي
مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
.
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا فِي السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ فَانٍ ذَاهِبٌ كُلُّهُ ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله
تَعَالَى : : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إلَّا نَفْسَك
وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَاَللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : ظَنَّ
قَوْمٌ أَنَّ الْقِتَالَ فَرْضٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَوَّلًا وَحْدَهُ ، وَنَدَبَ الْمُؤْمِنِينَ إلَيْهِ ؛ وَلَيْسَ
الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا سِرَاعًا إلَى الْقِتَالِ
قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْقِتَالُ ، فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
بِالْقِتَالِ كَاعَ عَنْهُ قَوْمٌ ، فَفِيهِمْ نَزَلَتْ : { أَلَمْ تَرَ إلَى
الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ } قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْقِتَالُ ؛ { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ
إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ
خَشْيَةً } ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ : قَدْ بَلَّغْت : قَاتِلْ
وَحْدَكَ ، { لَا تُكَلَّفُ إلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ }
فَسَيَكُونُ مِنْهُمْ مَا كَتَبَ اللَّهُ مِنْ فِعْلِهِمْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ كَانَ وَعَدَهُ بِالنَّصْرِ ، فَلَوْ لَمْ يُقَاتِلْ مَعَهُ أَحَدٌ
مِنْ الْخَلْقِ لَنَصَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دُونَهُمْ ، وَهَلْ نَصْرُهُ مَعَ
قِتَالِهِمْ إلَّا بِجُنْدِهِ الَّذِي لَا يُهْزَمُ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ
قُرَيْشًا .
قُلْت : أَيْ رَبِّ ؛ إذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي
فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً .
قَالَ :
اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ ، وَاغْزُهُمْ
نُعِنْكَ ، وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقْ عَلَيْكَ ، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ
خَمْسَةً مِثْلَهُ ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ } .
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي الرِّدَّةِ :
أُقَاتِلُهُمْ وَحْدِي حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي .
وَفِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ : وَاَللَّهِ لَوْ
خَالَفَتْنِي شِمَالِي لَقَاتَلْتهَا بِيَمِينِي .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ } أَيْ عَلَى الْقِتَالِ : التَّحْرِيضُ
وَالتَّحْضِيضُ هُوَ نَدْبُ الْمَرْءِ إلَى الْفِعْلِ ، وَقَدْ يُنْدَبُ الْمَرْءُ
إلَى الْفِعْلِ ابْتِدَاءً ، وَقَدْ يُنْدَبُ إلَى امْتِثَالِ مَا أَمَرَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ تَذْكِرَةً بِهِ لَهُ
.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى
: { : مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ
يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا } .
الْآيَةُ فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : اُخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ : { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً } عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ
: الْأَوَّلُ : مَنْ يَزِيدُ عَمَلًا إلَى عَمَلٍ .
الثَّانِي : مَنْ يُعِينُ أَخَاهُ بِكَلِمَةٍ عِنْدَ
غَيْرِهِ فِي قَضَاءِ حَاجَةٍ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا ، وَلْيَقْضِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ
مَا شَاءَ } .
الثَّالِثُ :
قَالَ الطَّبَرِيُّ فِي مَعْنَاهُ : مَنْ يَكُنْ يَا
مُحَمَّدُ شَفِيعًا لِوِتْرِ أَصْحَابِكَ فِي الْجِهَادِ لِلْعَدُوِّ يَكُنْ لَهُ
نَصِيبٌ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْأَجْرِ
.
وَمَنْ يَشْفَعْ وِتْرًا مِنْ الْكُفَّارِ فِي جِهَادِكَ
يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْإِثْمِ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ
ذَلِكَ ، وَقَدْ تَكُونُ الشَّفَاعَةُ غَيْرَ جَائِزَةٍ ، وَذَلِكَ فِيمَا كَانَ
سَعْيًا فِي إثْمٍ أَوْ فِي إسْقَاطِ حَدٍّ بَعْدَ وُجُوبِهِ ، فَيَكُونُ
حِينَئِذٍ شَفَاعَةً سَيِّئَةً
.
وَرَوَتْ عَائِشَةُ { أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ
شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا : مَنْ يُكَلِّمُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا ؟ فَقَالُوا : وَمَنْ
يَجْتَرِئُ إلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟
وَاَيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ
يَدَهَا } مُخْتَصَرًا .
وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تَعَافَوْا الْحُدُودَ فِيمَا
بَيْنَكُمْ ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ } .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ
رُدُّوهَا إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
التَّحِيَّةُ تَفْعِلَةٌ مِنْ حَيَّ ، وَكَانَ الْأَصْلُ فِيهَا مَا رُوِيَ فِي
الصَّحِيحِ : { أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ طُولُهُ
سِتُّونَ ذِرَاعًا ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ
النَّفَرِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَك بِهِ ، فَإِنَّهَا
تَحِيَّتُك وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِك ؛ فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ .
فَقَالَتْ لَهُ : وَعَلَيْك السَّلَامُ وَرَحْمَةُ
اللَّهِ } إلَّا أَنَّ النَّاسَ قَالُوا : إنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ يَلْقَى أَحَدًا
فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُ لَهُ
: اسْلَمْ ، عِشْ أَلْفَ عَامٍ ، أَبَيْتَ اللَّعْنَ .
فَهَذَا دُعَاءٌ فِي طُولِ الْحَيَاةِ أَوْ طِيبِهَا
بِالسَّلَامَةِ مِنْ الذَّامِّ أَوْ الذَّمِّ ، فَجُعِلَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ
وَالْعَطِيَّةُ الشَّرِيفَةُ بَدَلًا مِنْ تِلْكَ ، وَأَعْلَمَنَا أَنَّ أَصْلَهَا
آدَم .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَإِذَا حُيِّيتُمْ } : فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : رَوَى ابْنُ
وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا
حُيِّيتُمْ } أَنَّهُ فِي الْعُطَاسِ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُشَمِّتِ .
الثَّانِي : إذَا دُعِيَ لِأَحَدِكُمْ بِطُولِ
الْبَقَاءِ فَرُدُّوا عَلَيْهِ أَوْ بِأَحْسَنَ مِنْهُ .
الثَّالِثُ : إذَا قِيلَ : سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ، وَهُوَ
الْأَكْثَرُ .
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ
أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ كَتَبَ
إلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ جَوَابَ كِتَابٍ ، فَقَالَ فِيهِ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ وَالسَّلَامُ لِهَذِهِ الْآيَةِ : { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ
فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } .
فَاسْتَشْهَدَ مَالِكٌ فِي هَذَا بِقَوْلِ ابْنِ
عَبَّاسٍ فِي رَدِّ الْجَوَابِ إذَا رَجَعَ الْجَوَابُ عَلَى حَقٍّ .
كَمَا رُوِيَ رَجَعَ الْمُسْلِمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ :
قَوْله تَعَالَى : { فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ
رُدُّوهَا } : فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَحْسَنَ مِنْهَا أَيْ الصِّفَةِ
، إذَا دَعَا لَك بِالْبَقَاءِ فَقُلْ : سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ، فَإِنَّهَا أَحْسَنُ
مِنْهَا فَإِنَّهَا سُنَّةُ الْآدَمِيَّةِ ، وَشَرِيعَةُ الْحَنِيفِيَّةِ .
الثَّانِي : إذَا قَالَ لَك سَلَامٌ عَلَيْك فَقُلْ :
وَعَلَيْك السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ
رُدُّوهَا } : اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : حَيُّوا
بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا فِي السَّلَامِ .
الثَّانِي : أَنَّ أَحْسَنَ مِنْهَا هُوَ فِي
الْمُسْلِمِ ، وَأَنَّ رُدَّهَا بِعَيْنِهَا هُوَ فِي الْكَافِرِ ؛ وَاخْتَارَهُ
الطَّبَرِيُّ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إذَا سَلَّمُوا عَلَيْك
قَالُوا : السَّامُّ عَلَيْكُمْ فَقُولُوا عَلَيْكُمْ } .
كَذَلِكَ كَانَ سُفْيَانُ يَقُولُهَا .
وَالْمُحْدَثُونَ يَقُولُونَ بِالْوَاوِ ، وَالصَّوَابُ
سُقُوطُ الْوَاوِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَنَا لَهُمْ : عَلَيْكُمْ رَدٌّ ، وَقَوْلَنَا
وَعَلَيْكُمْ مُشَارَكَةٌ ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ .
{ وَكَانَتْ عَائِشَةُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ الْيَهُودُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : عَلَيْك السَّامُّ
.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَيْكُمْ
فَفَهِمَتْ عَائِشَةُ قَوْلَهُمْ ؛ فَقَالَتْ عَائِشَةُ : عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ ،
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْلًا يَا عَائِشَةُ
فَقَالَتْ : أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَوَ
لَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْت عَلَيْكُمْ ؟ إنَّهُ يُسْتَجَابُ لَنَا فِيهِمْ وَلَا
يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِي } .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ أَصْحَابُ أَبِي
حَنِيفَةَ : التَّحِيَّةُ هَاهُنَا الْهَدِيَّةُ ، أَرَادَ الْكَرَامَةَ بِالْمَالِ وَالْهِبَةِ
قَالَ الشَّاعِرُ : إذْ تُحْيِي بِضَيْمُرَانَ وَآسِ وَقَالَ آخَرُ : وَالْمُرَادُ
بِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْكَرَامَةُ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : أَوْ
رُدُّوهَا بِأَحْسَنَ مِنْهَا ، وَلَا يُمْكِنُ رَدُّ السَّلَامِ بِعَيْنِهِ .
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي رَدَّ التَّحِيَّةِ
بِعَيْنِهَا ، وَهِيَ الْهَدِيَّةُ ، فَإِمَّا بِالتَّعْوِيضِ أَوْ الرَّدِّ
بِعَيْنِهِ ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ فِي السَّلَامِ ، وَلَا يَصِحُّ فِي
الْعَارِيَّةِ ؟ لِأَنَّ رَدَّ الْعَيْنَ هَاهُنَا وَاجِبٌ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ .
قُلْنَا : التَّحِيَّةُ تَفْعِلَةٌ مِنْ
الْحَيَاةِ ، وَهِيَ تَنْطَلِقُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ
عَلَى وُجُوهٍ ؛ مِنْهَا الْبَقَاءُ قَالَ زُهَيْرُ بْنُ جَنَابٍ : مِنْ كُلِّ مَا
نَالَ الْفَتَى قَدْ نِلْته إلَّا التَّحِيَّةَ وَمِنْهَا الْمُلْكُ ، وَقِيلَ :
إنَّهُ الْمُرَادُ هَاهُنَا فِي بَيْتِ زُهَيْرٍ .
وَمِنْهَا السَّلَامُ ، وَهُوَ أَشْهَرُهَا قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا جَاءُوك حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ
اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا
نَقُولُ } .
وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ وَالْمُفَسِّرُونَ أَنَّ
الْمُرَادَ هَاهُنَا بِالتَّحِيَّةِ السَّلَامُ حَتَّى ادَّعَى هَذَا الْقَائِلُ
تَأْوِيلَهُ هَذَا ، وَنَزَعَ بِمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ .
وَإِنَّ الْعَرَبَ عَبَّرَتْ بِالتَّحِيَّةِ عَنْ الْهَدِيَّةِ
فَإِنَّ ذَلِكَ لِمَجَازٍ ؛ لِأَنَّهَا تَجْلِبُ التَّحِيَّةَ كَمَا يَجْلِبُهَا
السَّلَامُ ، وَالسَّلَامُ أَوَّلُ أَسْبَابِ التَّحِيَّةِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ
تَحَابَبْتُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ } وَقَالَ : { أَفْشُوا
السَّلَامَ ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ
} .
فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ أَنْ تُسَمَّى الْهَدِيَّةُ بِهَا
مَجَازًا كَأَنَّهَا حَيَاةٌ لِلْمَحَبَّةِ ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ اللَّفْظِ
عَلَى الْمَجَازِ ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِيقَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ .
فَإِنْ قِيلَ : نَحْمِلهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا .
قُلْنَا لَهُمْ : أَنْتُمْ لَا تَرَوْنَ ذَلِكَ ؛ فَلَا
يَصِحُّ لَكُمْ بِالْقَوْلِ بِهِ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا بَقِيَتْ الْآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا
، وَإِنْ حَمَلُوهُ عَلَى الْهَدِيَّةِ عَلَى مَذْهَبِنَا فِي هِبَةِ الثَّوَابِ
فَنَسْتَثْنِي مِنْهَا الْوَلَدَ مَعَ وَالِدِهِ بِمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ
الْأَدِلَّةِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، فَلْيُطْلَبْ هُنَالِكَ ، فَصَحَّتْ
لَنَا الْآيَةُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
وَبَقِيَّةُ الْكَلَامِ يُنْظَرُ فِي مَسَائِلِ
الْخِلَافِ فَلْيُطْلَبْ هُنَا لَك
.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى السَّلَامِ عَلَيْكُمْ ،
فَقِيلَ : هُوَ مَصْدَرُ سَلَّمَ يُسَلِّمُ سَلَامَةً وَسَلَامًا ، كَلَذَاذَةٍ
وَلَذَاذًا ، وَقِيلَ لِلْجَنَّةِ دَارُ
السَّلَامِ ؛ لِأَنَّهَا دَارُ السَّلَامَةِ مِنْ
الْفَنَاءِ وَالتَّغَيُّرِ وَالْآفَاتِ
.
وَقِيلَ :
السَّلَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ؛
لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ نَقْصٌ ، وَلَا يُدْرِكُهُ آفَاتُ الْخَلْقِ .
فَإِذَا قُلْت : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَيَحْتَمِلُ
اللَّهُ رَقِيبٌ عَلَيْكُمْ .
وَإِنْ أَرَدْت بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ عَقْدُ
السَّلَامَةِ وَذِمَامُ النَّجَاةِ
.
حَدَّثَنَا الْحَضْرَمِيُّ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ مُنِيرٍ
، أَخْبَرَنَا النَّيْسَابُورِيُّ [ أَنْبَأَنَا قَلِيلَهْ ] ، أَنْبَأْنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ ، سَمِعْت أَبِي يَقُولُ : قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ : أَتَدْرِي مَا
السَّلَامُ ؟ تَقُولُ : أَنْتَ مِنِّي آمِنٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا :
أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ السَّلَامَ سُنَّةٌ وَرَدُّهُ فَرْضٌ
لِهَذِهِ الْآيَةِ .
وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنْهُمْ : السَّلَامُ
وَرَدُّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إنْ كَانَتْ جَمَاعَةً ، وَإِنْ كَانَ
وَاحِدًا كَفَى وَاحِدٌ .
فَالسَّلَامُ فَرْضٌ مَعَ الْمَعْرِفَةِ ، سُنَّةٌ مَعَ
الْجَهَالَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ إنْ لَمْ تُسَلِّمْ عَلَيْهِ تَغَيَّرَتْ نَفْسُهُ
، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ السَّلَامُ عَلَى حَسَبِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ
الْحَدِيثِ : مِنْ قَائِمٍ عَلَى قَاعِدٍ ، وَمَارٍّ عَلَى جَالِسٍ ، وَقَلِيلٍ
عَلَى كَثِيرٍ ، وَصَغِيرٍ عَلَى كَبِيرٍ ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : إذَا كَانَ الرَّدّ
فَرَضَا بِلَا خِلَافٍ فَقَدْ اسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ
الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الثَّوَابِ فِي الْهِبَةِ لِلْعَيْنِ ، وَكَمَا
يَلْزَمُهُ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ التَّحِيَّةِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ
الْهِبَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي هِبَةِ الْأَجْنَبِيِّ
ثَوَابٌ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ مَا أَعْطَى إلَّا لِيُعْطَى ؛
وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهَا ، وَإِنَّا لَا نَعْمَلُ عَمَلًا لِمَوْلَانَا
إلَّا لِيُعْطِيَنَا ، فَكَيْفَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ
فِي مَوْضِعِهِ فِي سُورَةِ الرُّومِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَوْله تَعَالَى : { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ
فِئَتَيْنِ وَاَللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا
مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يَضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا
مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا
وَلَا نَصِيرًا إلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ
يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ
فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا
إلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ
نُزُولِهَا : وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : رَوَى عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ صَاحِبٍ عَنْ صَاحِبٍ { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ إلَى أُحُدٍ رَجَعَتْ
طَائِفَةٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ ، فَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ ، فِرْقَةٌ تَقُولُ : نَقْتُلُهُمْ ،
وَفِرْقَةٌ تَقُولُ : لَا نَقْتُلُهُمْ
} ، فَنَزَلَتْ
، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ .
الثَّانِي :
قَالَ مُجَاهِدٌ : نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ خَرَجُوا مِنْ [
أَهْلِ ] مَكَّةَ حَتَّى أَتَوْا الْمَدِينَةَ ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ
مُهَاجِرُونَ فَارْتَدُّوا وَاسْتَأْذَنُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي الرُّجُوعِ إلَى مَكَّةَ لِيَأْتُوا بِبَضَائِعَ ، فَاخْتَلَفَ فِيهِمْ
الْمُؤْمِنُونَ ، فَفِرْقَةٌ تَقُولُ إنَّهُمْ مُنَافِقُونَ ، وَفِرْقَةٌ تَقُولُ
هُمْ مُؤْمِنُونَ ؛ فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نِفَاقَهُمْ .
الثَّالِثُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : نَزَلَتْ فِي
قَوْمٍ كَانُوا بِمَكَّةَ فَتَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ ، وَكَانُوا يُظَاهِرُونَ
الْمُشْرِكِينَ ، فَخَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ يَطْلُبُونَ
حَاجَةً ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا أُخْبِرُوا
بِهِمْ قَالَتْ فِئَةٌ : اُخْرُجُوا إلَى هَؤُلَاءِ الْجُبَنَاءِ فَاقْتُلُوهُمْ .
وَقَالَتْ أُخْرَى : قَدْ تَكَلَّمُوا بِمِثْلِ مَا
تَكَلَّمْتُمْ بِهِ .
الرَّابِعُ :
قَالَ السُّدِّيُّ : كَانَ نَاسٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ
إذَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ الْمَدِينَةِ قَالُوا : أَصَابَتْنَا
أَوْجَاعٌ بِالْمَدِينَةِ ، فَلَعَلَّنَا نَخْرُجُ إلَى الطُّهْرِ حَتَّى
نَتَمَاثَلَ وَنَرْجِعُ ؛ فَانْطَلَقُوا فَاخْتَلَفَ فِيهِمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ طَائِقَةٌ : أَعْدَاءُ اللَّهِ
مُنَافِقُونَ .
وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ إخْوَانُنَا غَمَّتْهُمْ
الْمَدِينَةُ فَاجْتَوَوْهَا ، فَإِذَا بَرِئُوا رَجَعُوا ؛ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ
الْآيَةُ .
الْخَامِسُ : قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : نَزَلَتْ فِي ابْنِ
أُبَيٍّ حِينَ تَكَلَّمَ فِي عَائِشَةَ
.
وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ
قَوْلَ مَنْ قَالَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ مَكَّةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
وَالصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ زَيْدٌ .
وَقَوْلُهُ :
{ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } يَعْنِي
حَتَّى يَهْجُرُوا الْأَهْلَ وَالْوَلَدَ وَالْمَالَ ، وَيُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَخْبَرَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ اللَّهَ رَدَّ الْمُنَافِقِينَ إلَى الْكُفْرِ ،
وَهُوَ الْإِرْكَاسُ ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الرُّجُوعِ إلَى الْحَالَةِ
الْمَكْرُوهَةِ ، كَمَا قَالَ فِي الرَّوْثَةِ إنَّهَا رِجْسٌ ، أَيْ رَجَعَتْ
إلَى حَالَةٍ مَكْرُوهَةٍ ؛ فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَصْحَابَ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَعَلَّقُوا فِيهِمْ
بِظَاهِرِ الْإِيمَانِ ، إذَا كَانَ أَمْرُهُمْ فِي الْبَاطِنِ عَلَى الْكُفْرِ ، وَأَمَرَهُمْ
بِقَتْلِهِمْ حَيْثُ وَجَدُوهُمْ ، وَأَيْنَمَا ثَقِفُوهُمْ ؛ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّ الزِّنْدِيقَ يُقْتَلُ ، وَلَا يُسْتَتَابُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا } .
فَإِنْ قِيلَ : مَعْنَاهُ مَا دَامُوا عَلَى حَالِهِمْ .
قُلْنَا
:
كَذَلِكَ نَقُولُ وَهَذِهِ حَالَةٌ دَائِمَةٌ ، لَا
تَذْهَبُ عَنْهُمْ أَبَدًا ؛ لِأَنَّ مَنْ أَسَرَّ الْكُفْرَ ، وَأَظْهَرَ
الْإِيمَانَ ، فَعُثِرَ عَلَيْهِ ، كَيْفَ تَصِحُّ تَوْبَتُهُ ؟ الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } : الْمَعْنَى إلَّا مَنْ انْضَافَ مِنْهُمْ إلَى
طَائِفَةٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ ، فَلَا تَعْرِضُوا لَهُمْ فَإِنَّهُمْ
عَلَى عَهْدِهِمْ ، ثُمَّ نُسِخَتْ الْعُهُودُ فَانْتَسَخَ هَذَا ، وَقَدْ
بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي بِإِيضَاحِهِ وَبَسْطِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ جَاءُوكُمْ
حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ } :
هَؤُلَاءِ قَوْمٌ جَاءُوا وَقَالُوا : لَا نُرِيدُ أَنْ نُقَاتِلَ مَعَكُمْ وَلَا
نُقَاتِلُ عَلَيْكُمْ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا مُعَاهَدِينَ عَلَى ذَلِكَ
، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْعَهْدِ ، وَقَالُوا : لَا نُسْلِمُ وَلَا نُقَاتِلُ ،
فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقْبَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ تَأَلُّفًا
حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى وَيَشْرَحَهَا لِلْإِسْلَامِ .
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ .
وَمِثْلُهُ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا ، وَقَدْ
بَسَطْنَاهَا بَسْطًا عَظِيمًا فِي
" كِتَابِ أَنْوَارِ الْفَجْرِ "
بِأَخْبَارِهَا ومُتَعلَّقاتِها فِي نَحْوٍ مِنْ مِائَةِ وَرَقَةٍ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ
مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى
أَهْلِهِ إلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ
وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } فِيهَا تِسْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ
يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً
} : مَعْنَاهُ : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ
مُؤْمِنًا قَتْلًا جَائِزًا .
أَمَّا أَنَّهُ يُوجَدُ ذَلِكَ مِنْهُ غَيْرُ جَائِزٍ فَنَفَى
اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَوَازَهُ لَا وُجُودَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَمْ يُبْعَثُوا لِبَيَانِ الْحِسِّيَّاتِ وُجُودًا وَعَدَمًا
، إنَّمَا بُعِثُوا لِبَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إثْبَاتًا وَنَفْيًا .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ هُوَ جَائِزٌ لِلْكَافِرِ ؟
فَإِنْ قُلْتُمْ : نَعَمْ ، فَقَدْ أَحْلَلْتُمْ .
وَإِنْ قُلْتُمْ : لَا ، فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ فَائِدَةَ
التَّخْصِيصِ بِالْمُؤْمِنِ بِذَلِكَ ، وَالْكَافِرُ فِيهِ مِثْلُهُ .
قُلْنَا :
مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ
بِحَنَانِهِمْ وَأُخُوَّتِهِمْ وَشَفَقَتِهِمْ وَعَقِيدَتِهِمْ ؛ فَلِذَلِكَ خُصَّ
الْمُؤْمِنُ بِالتَّأْكِيدِ ، وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ
أَيْضًا حَسْبَمَا نُبَيِّنُ ذَلِكَ بَعْدُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إلَّا
خَطَأً } : قَالَ عُلَمَاؤُنَا
: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ ، وَلَهُ
يَقُولُ النُّحَاةُ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ
الْأَوَّلِ ؛ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا
حَقِيقَتَهُ فِي رِسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ .
وَمَعْنَاهُ أَنْ يَأْتِيَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى
مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ اللَّفْظِ ، لَا عَلَى نَفْسِ اللَّفْظِ ، كَمَا قَالَ
الشَّاعِرُ : وَقَفْت بِهَا أُصَيْلَانًا أُسَائِلُهَا عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا
بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ إلَّا الْأَوَارِيَ لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا وَالنُّؤْيُ
كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ فَلَمْ تَدْخُلْ الْأَوَارِي فِي لَفْظِ
أَحَدٍ ، وَلَكِنْ دَخَلَتْ فِي مَعْنَاهُ .
أَرَادَ : وَمَا بِالرَّبْعِ أَحَدٌ أَيْ [ غَيْرُ ] مَا
كَانَ فِيهِ ، أَوْ أَثَرٌ كُلُّهُ ذَاهِبٌ ، إلَّا الْأَوَارِيَ ، وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا } ؛ الْمَعْنَى مَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُفَوِّتَ نَفْسَ مُؤْمِنٍ بِكَسْبِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ
بِغَيْرِ قَصْدِهِ إلَى وَصْفِهِ ؛ فَافْهَمْهُ وَرَكِّبْهُ تَجِدْهُ بَدِيعًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَرَادَ بَعْضَ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ أَنْ يُخْرِجَ هَذَا مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ ؛
وَيَجْعَلَهُ مُتَّصِلًا لِجَهْلِهِ بِاللُّغَةِ وَكَوْنِهِ أَعْجَمِيًّا فِي
السَّلَفِ ؛ فَقَالَ : هُوَ اسْتِثْنَاءٌ صَحِيحٌ .
وَفَائِدَتُهُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ خَطَأً فِي
بَعْضِ الْأَحْوَالِ ، فَيَا لِلَّهِ ، وَيَا لِلْعَالِمِينَ مِنْ هَذَا
الْكَلَامِ ، كَيْفَ يَصِحُّ فِي عَقْلِ عَاقِلٍ أَنْ يَقُولَ : أُبِيحَ لَهُ
أَنْ يَقْتُلَهُ خَطَأً ، وَمِنْ شَرْطِ الْإِذْنِ وَالْإِبَاحَةِ الْمُكَلَّفُ
وَقَصْدُهُ ، وَذَلِكَ ضِدُّ الْخَطَأِ ، فَالْكَلَامُ لَا يَتَحَصَّلُ مَعْقُولًا .
ثُمَّ قَالَ : وَهُوَ أَنْ يُرَى عَلَيْهِ لِبْسَةُ
الْمُشْرِكِينَ وَالِانْحِيَازُ إلَيْهِمْ كَقِصَّةِ حُذَيْفَةَ مَعَ أَبِيهِ
يَوْمَ أُحُدٍ .
قُلْنَا لَهُ
: هَذَا هُوَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ ؛ لِأَنَّ
الْقَتْلَ وَقَعَ خِلَافَ الْقَصْدِ ، وَهُوَ قَصْدٌ إلَى مُشْرِكٍ ، فَتَبَيَّنَ
أَنَّهُ
مُسْلِمٌ ؛ فَهَذَا لَا يُدْخِلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ
أَمْرًا وَلَا نَهْيًا .
ثُمَّ قَالَ : وَقَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً } يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ
: إنَّمَا يُبَاحُ لَهُ إذَا وُجِدَ شَرْطُ الْإِبَاحَةِ ، وَشَرْطُ الْإِبَاحَةِ أَنْ
يَكُونَ خَطَأً ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ التَّهَافُتِ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ مَا
يُغْنِي عَنْ رَدِّهِ .
وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَالَ : شَرْطُ إبَاحَةِ الْقَتْلِ
أَنْ لَا يَقْصِدَ ، لَاهُمَّ إلَّا أَنَّ كَوْنَ الْمُقَلِّدِ أَلَمَّ بِقَوْلِ
الْمُبْتَدِعَةِ : إنَّ الْمَأْمُورَ لَا يُعْلَمُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا إلَّا
بَعْدَ تَقَضِّي الِامْتِثَالِ وَمُضَائِهِ ؛ فَالِاخْتِلَالُ فِي الْمَقَالِ
وَاحِدٌ وَالرَّدُّ وَاحِدٌ ، فَلْتَلْحَظْهُ فِي أُصُولِهِ الَّتِي صَنَّفَ ؛ فَإِنَّهُ
مِنْ جِنْسِهِ ؛ ثُمَّ أَبْطَلَ هُوَ هَذَا وَكَانَ فِي غِنًى عَنْ ذِكْرِهِ
وَإِبْطَالِهِ .
ثُمَّ قَالَ : إنَّ أَقْرَبَ قَوْلٍ فِيهِ أَنْ يُقَالَ
: إنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ : { إلَّا خَطَأً } اقْتَضَى تَأْثِيمَ قَاتِلِهِ
لِاقْتِضَاءِ النَّهْيِ ذَلِكَ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إلَّا خَطَأً } رَفْعٌ
لِلتَّأْثِيمِ عَنْ قَاتِلِهِ ؛ وَإِنَّمَا دَخَلَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى مَا
تَضْمَنَّهُ اللَّفْظُ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْمَآثِمِ ، فَأَخْرَجَ مِنْهُ قَاتِلَ
الْخَطَأِ ، وَجَاءَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى حَقِيقَتِهِ ؛ وَهَذَا كَلَامُ مَنْ
لَا يَعْلَمُ اللُّغَةَ وَلَا يَفْهَمُ مَقَاطِعَ الشَّرِيعَةِ ، بَلْ قَوْلُهُ : { وَمَا كَانَ
لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا } مَعْنَاهُ كَمَا قُلْنَا جَائِزٌ ضَرُورَةً
لَا وُجُودًا ؛ فَنَفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَوَازَ ذَلِكَ لَا وُجُودَهُ ،
فَقَوْلُ هَذَا الرَّجُلِ : إنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَأْثِيمَ قَاتِلِهِ لَا
يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ ضِدَّ الْجَوَازِ التَّحْرِيمُ وَحْدَهُ ؛ بَلْ ضِدَّ
النَّدْبِ وَالْكَرَاهِيَةِ عَلَى قَوْلٍ ، وَالْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ عَلَى
آخَرَ ، فَلِمَ عَيَّنَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ نَفْيِ الْجَوَازِ التَّحْرِيمَ
الْمُؤْثِمَ .
أَمَّا إنَّ ذَلِكَ عُلِمَ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ لَا مِنْ
نَفْسِ هَذَا اللَّفْظِ .
ثُمَّ نَقُولُ : هَبْكَ أَنَّا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ
بِهَذَا اللَّفْظِ ، وَقُلْنَا لَهُ : إنَّ مَعْنَاهُ
الصَّرِيحَ أَنْتَ آثِمٌ إنْ قَتَلَتْهُ ، إلَّا أَنْ تَقْتُلَهُ خَطَأً ،
فَإِنَّهُ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ ؛ لِأَنَّ الْإِثْمَ
أَيْضًا إنَّمَا يَرْتَبِطُ بِالْعَمْدِ ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَهُ : إلَّا خَطَأً
، فَهُوَ ضِدُّهُ ، فَصَارَ مُنْقَطِعًا عَنْهُ حَقِيقَةً وَصِفَةً وَرَفْعًا لِلْمَأْثَمِ .
وَقَوْلُهُ : فَإِنَّمَا دَخَلَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى مَا
يَتَضَمَّنُهُ اللَّفْظُ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْمَأْثَمِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ
اللَّفْظَ لَيْسَ فِيهِ لِذَلِكَ ذِكْرُ حَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازًا ؛ وَإِنَّمَا
يُؤْخَذُ الْإِثْمُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ ، وَقَدْ أَشَرْنَا نَحْنُ إلَى
حَقِيقَتِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ
.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّحَارِيرِ : إنَّ الْآيَةَ
نَزَلَتْ فِي سَبَبٍ ؛ { وَذَلِكَ أَنَّ أُسَامَةَ لَقِيَ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ
فِي غَزَاةٍ فَعَلَاهُ بِالسَّيْفِ ، فَقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؛
فَقَتَلَهُ ؛ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : أَقَتَلَتْهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ فَقَالَ
: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّمَا قَالَهَا مُتَعَوِّذًا .
فَجَعَلَ يُكَرِّرُ عَلَيْهِ : بَعْدَ أَنْ قَالَ : لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ } .
قَالَ : فَلَقَدْ تَمَنَّيْت أَنِّي لَمْ أَكُنْ
أَسْلَمْت قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ
.
فَهَذَا قَتَلَ مُتَعَمِّدًا مُخْطِئًا فِي اجْتِهَادِهِ .
وَهَذَا نَفِيسٌ .
وَمِثْلُهُ قَتْلُ أَبِي حُذَيْفَةَ يَوْمَ أُحُدٍ ،
فَمُتَعَلِّق الْخَطَأِ غَيْرُ مُتَعَلِّق الْعَمْدِ ، وَمَحَلُّهُ غَيْرُ مَحَلِّهِ
وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا مِنْهُ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَتْ جَمَاعَةٌ :
إنَّ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ مِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ ، فَإِنَّهُ أَسْلَمَ
هُوَ وَأَخُوهُ هِشَامٌ فَأَصَابَ هِشَامًا رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ رَهْطِ
عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ مِنْ الْعَدُوِّ ، فَقَتَلَهُ
خَطَأً فِي هَزِيمَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ ، وَكَانَ أَخُوهُ
مِقْيَسٌ بِمَكَّةَ ، فَقَدِمَ مُسْلِمًا فِيمَا يَظْهَرُ .
وَقِيلَ : لَمْ يَبْرَحْ مِنْ الْمَدِينَةِ فَطَلَب دِيَةَ
أَخِيهِ ، فَبَعَثَ
مَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَجُلًا مِنْ فِهْرٍ إلَى بَنِي النَّجَّارِ فِي دِيَتِهِ ، فَدَفَعُوا إلَيْهِ
الدِّيَةَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ مِقْيَسٌ وَالْفِهْرَيْ
رَاجِعِينَ إلَى الْمَدِينَةِ قَتَلَ مِقْيَسٌ الْفِهْرَيَّ ، وَارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَام
، وَرَكِبَ جَمَلًا مِنْهَا ، وَسَاقَ مَعَهُ الْبَقِيَّةَ ، وَلَحِقَ كَافِرًا
بِمَكَّةَ ، وَقَالَ : شَفَى النَّفْسَ أَنْ قَدْ مَاتَ بِالْقَاعِ مُسْنَدًا
يَضْرُجُ فِي ثَوْبَيْهِ دِمَاءَ الْأَخَادِعِ وَكَانَتْ هُمُومُ النَّفْسِ مِنْ
قَبْلِ قَتْلِهِ تَلُمُّ فَتَحْمِينِي وِطَاءَ الْمَضَاجِعِ ثَأَرْت بِهِ فِهْرًا
وَحَمَّلْت عَقْلَهُ سُرَاةَ بَنِي النَّجَّارِ أَرْبَابَ فَارِعِ حَلَلْت بِهِ
وَتْرِي وَأَدْرَكْت ثُؤْرَتِي وَكُنْت إلَى الْأَوْثَانِ أَوَّلَ رَاجِعِ
فَدَخَلَ قَتْلُ الْأَنْصَارِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ
أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً } وَدَخَلَ قَتْلُ مِقْيَسٍ فِي قَوْله تَعَالَى
: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ } ، وَكُلُّ
وَاحِدٍ بِصِفَتِهِ فِي الْآيَتَيْنِ بِصِفَتِهِمَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } : أَوْجَبَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ تَحْرِيرَ الرَّقَبَةِ ، وَسَكَتَ فِي
قَتْلِ الْعَمْدِ عَنْهَا .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا
كَثِيرًا قَدِيمًا وَحَدِيثًا ، مَآلُهُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمَالِكًا قَالَا
: لَا كَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ
.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِيهِ الْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّهَا
إذَا وَجَبَتْ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ وَلَا إثْمَ فِيهِ فَفِي الْعَمْدِ أَوْلَى .
قُلْنَا : هَذَا يُبْعِدُهَا عَنْ الْعَمْدِ ؛ لِأَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُوجِبْهَا فِي مُقَابَلَةِ الْإِثْمِ ، وَإِنَّمَا
أَوْجَبَهَا عِبَادَةً ، أَوْ فِي مُقَابَلَةِ التَّقْصِيرِ ، وَتَرْك الْحَذَرِ
وَالتَّوَقِّي ، وَالْعَمْدُ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : ( مُؤْمِنَةٍ )
وَهَذَا يَقْتَضِي كَمَا لَهَا فِي صِفَاتِ الدِّينِ ، فَتُكْمَلُ فِي صِفَاتِ
الْمَالِيَّةِ حَتَّى لَا تَكُونَ مَعِيبَةً ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَتْلَفَ
شَخْصًا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّصَ آخَرَ
لِعِبَادَةِ رَبِّهِ عَنْ شُغُلِ غَيْرِهِ ، وَأَيْضًا فَإِنَّمَا يُعْتَقُ
بِكُلِّ عُضْوِ مِنْهُ عُضْوٌ مِنْهَا مِنْ النَّارِ حَتَّى الْفَرْجُ بِالْفَرْجِ
، فَمَتَى نَقَصَ عُضْوٌ مِنْهَا لَمْ تَكْمُلُ شُرُوطُهَا .
وَهَذَا بَدِيعٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : سَوَاءٌ كَانَتْ
الرَّقَبَةُ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً إذَا كَانَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ
لِمُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ خِلَافًا لِابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ
التَّابِعِينَ ؛ إذْ قَالُوا : لَا يُجْزِئُ إلَّا مَنْ صَامَ وَصَلَّى وَعَقَلَ الْإِسْلَامَ .
قَالَ الطَّبَرِيُّ : مَنْ وُلِدَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعِتْقِ ، كَمَا أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ
فِي الْجِنَايَةِ وَالْإِرْثِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَجَمِيعِ أَحْكَامِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ إلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا } : أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الدِّيَةَ
فِي قَتْلِ الْخَطَأِ جَبْرًا .
كَمَا أَوْجَبَ الْقِصَاصَ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ زَجْرًا
، وَجَعَلَ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ رِفْقًا ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
قَاتِلَ الْخَطَأِ لَمْ يَكْتَسِبْ إثْمًا وَلَا مَحْرَمًا ، وَالْكَفَّارَةُ وَجَبَتْ
زَجْرًا عَنْ التَّقْصِيرِ وَالْحَذَرِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : الدِّيَةُ مِائَةٌ مِنْ
الْإِبِلِ فِي تَقْدِيرِ الشَّرِيعَةِ ، وَبِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ؛ فَإِنْ
عُدِمَتْ الْإِبِلُ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ : فَقَالَ مَالِكٌ : مِنْ الدَّرَاهِمِ
عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَمِنْ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ
، وَلَيْسَتْ فِي غَيْرِهِمَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَشْرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْوَاجِبُ مِنْهُ الْإِبِلُ
كَيْفَ تَصَرَّفَتْ ، فَإِنَّمَا الْأَصْلُ ؛ فَإِذَا عُدِمَتْ وَقْتَ الْوُجُوبِ
فَحِينَئِذٍ يُنْظَرُ فِي بَدَلِهَا وَهُوَ الْقِيمَةُ بِحِسَابِ الْوَقْتِ ،
كَمَا فِي كُلِّ وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ يَتَعَذَّرُ أَدَاؤُهُ .
وَدَلِيلُنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَوَّمَهَا
بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ذَهَبًا وَوَرِقًا ، وَكَتَبَ بِهِ إلَى الْآفَاقِ ؛
وَلَا مُخَالِفَ ؛ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ؛ فَإِنَّ بَلَدًا لَمْ يَكُنْ
قَطُّ بِهِ إبِلٌ لَا سَبِيلَ إلَى تَقْوِيمِهَا فِيهِ ، فَعَلِمَتْ الصَّحَابَةُ ذَلِكَ
فَقَدَّرَتْ نَصِيبَهَا ، وَاعْتَبَرَتْهَا فِي كُلِّ بَلَدٍ بِالذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ ؛ إذْ لَا يَخْلُو بَلَدٌ مِنْهُمَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، فِي تَقْدِيرِهَا : عَشَرَةُ
آلَافِ دِرْهَمٍ ، فَبَنَاهَا عَلَى نِصَابِ الزَّكَاةِ ، وَعُمَرُ مَعَ
الصَّحَابَةِ قَدْ عَلِمُوا نِصَابَ الزَّكَاةِ حِينَ قَدَّرُوهَا بِاثْنَيْ
عَشْرَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ
فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَهُوَ بَدِيعٌ ، فَلْيُنْظَرْ فِيهِ مَنْ أَرَادَ تَمَامَ
الْعِلْمِ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : هِيَ فِي الْإِبِلِ
أَخْمَاسٌ : بَنَاتُ مَخَاضٍ ، وَبَنَاتُ لَبُونٍ ، وَبَنُو لَبُونٍ ، وَحِقَاقٌ ،
وَجِذَاعٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هِيَ أَخْمَاسٌ ، إلَّا أَنَّ
مِنْهَا بَنِي مَخَاضٍ دُونَ بَنِي لَبُونٍ .
وَدَلِيلُنَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ دِيَةَ الْخَطَأِ أَخْمَاسًا ، فَقَالَ : عِشْرُونَ
بَنِي لَبُونٍ } ، وَلَمْ يَذْكُرْ بَنِي مَخَاضٍ ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد
كُوفِيًّا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ ؛ فَلَا كَلَامَ لَهُمْ عَلَيْهِ ، وَلَا
مَعْنَى مَعَهُمْ ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ شَيْءٌ لَا يَجِبُ فِي الزَّكَاةِ
فَلَمْ يَجِبْ فِي الدِّيَةِ كَالثَّنَايَا .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : وَهِيَ مُؤَجَّلَةٌ فِي
ثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ ، كَذَلِكَ قَضَى عُمَرُ وَعَلِيٌّ ، وَهِيَ ضَرُورَةٌ ؛
لِأَنَّ الْإِبِلَ قَدْ تَكُونُ فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ حَوَامِلَ فَيَضُرُّ بِهِ ،
وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إلَى غَيْرِ مَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَفِيهِ تَكُونُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لَوَابِنَ ،
وَوَجَبَتْ مُوَاسَاةً وَرِفْقًا ، فَتُؤْخَذُ مِنْهَا بِذَلِكَ ، .
{ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُعْطِيهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً لِأَغْرَاضٍ } : مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يُعْطِيهَا صُلْحًا
وَتَسْدِيدًا .
وَمِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يُعَجِّلُهَا تَأْلِيفًا ،
فَلَمَّا وُجِدَ الْإِسْلَامُ قَرَّرَتْهَا الصَّحَابَةُ عَلَى هَذَا النِّظَامِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : وَلَا مَدْخَلَ
فِيهَا لِغَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنْ ثِيَابٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ بَقَرٍ
خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمَا ؛ لِأَنَّهَا قَدْ
تَمَهَّدَتْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ عَلَى هَذَا ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ
فَقَدْ سَقَطَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى هَذَا ؛ فَأَمَّا بَقِيَّةُ أَحْكَامِ
الدِّيَةِ فَهِيَ كَثِيرَةٌ لَا يَفِي بِهَا إلَّا كُتُبُ الْمَسَائِلِ ، فَلَا
نُطَوِّلُ بِذِكْرِهَا ، فَنَخْرُجَ عَنْ الْمَقْصُودِ بِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : {
إلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا } : أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الدِّيَةَ لِأَوْلِيَاءِ
الْقَتِيلِ إلَّا أَنْ يَصَدَّقُوا بِهَا عَلَى الْقَاتِلِ ؛ وَالِاسْتِثْنَاءُ
إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا عَادَ إلَى جَمِيعِهَا إذَا صَلَحَ ذَلِكَ فِيهَا ،
وَإِلَّا عَادَ إلَى مَا يُصْلَحُ لَهُ ذَلِكَ مِنْهَا .
وَاَلَّذِي تَقَدَّمَ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ ، وَالْكَفَّارَةُ
حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَلَا تُقْبَلُ الصَّدَقَةُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ ؛
لِأَنَّ الصَّدَقَةَ مِنْ الْمُتَصَدِّقِ عَلَيْهِ لَا تَنْفُذُ إلَّا فِيمَا
يَمْلِكُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } : أَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْكَفَّارَةَ فِي قَتْلِ
الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا كَانَ خَطَأً ، وَلَمْ يَذْكُرْ
الدِّيَةَ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ؛ فَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ : لَا دِيَةَ فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ ، وَفِيهِ الْكَفَّارَةُ
: أَمَّا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ نَفْسًا مُؤْمِنَةً .
وَأَمَّا امْتِنَاعُ الدِّيَةِ عِنْدَهُمْ فَاخْتَلَفُوا
فِي ذَلِكَ ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّمَا لَمْ تُجِبْ الدِّيَةُ لَهُمْ لِئَلَّا
يَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ .
وَقَالَ آخَرُونَ : إنَّمَا لَمْ تَجِبْ لَهُمْ دِيَةٌ ؛
لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدٌ وَلَا
مِيثَاقٌ .
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَعَوَّلَ عَلَى أَنَّ
الْعَاصِمَ لِلْعَبْدِ فِي ذِمَّتِهِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " ،
وَأَنَّ الْعَاصِمَ لَهُ فِي مَالِهِ الدَّارُ ؛ فَإِذَا أَسْلَمَ وَبَقِيَ فِي
دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ اعْتَصَمَ عِصْمَةً قَوِيمَةً يَجِبُ بِهَا عَلَى
قَاتِلِهِ الْكَفَّارَةُ ، وَلَيْسَ لَهُ عِصْمَةٌ مُقَوَّمَةٌ ؛ فَدَمُهُ
وَمَالُهُ هَدَرٌ ، وَلَوْ أَنَّهُ هَاجَرَ إلَى أَرْضِ الْإِسْلَامِ وَتَرَكَ
أَهْلَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا حُرْمَةَ لَهُمْ .
وَهَذَا هُوَ قِطْعَةٌ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ ؛ فَإِنَّ
الدَّارَ عِنْدَ مَالِكٍ
الْعَاصِمَةُ لِلْأَهْلِ وَالْمَالِ .
وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْإِسْلَامُ يَعْصِمُ مَالَ
الْمُسْلِمِ وَأَهْلَهُ وَدَمَهُ حَيْثُ كَانُوا .
وَالْمَسْأَلَةُ فِي نِهَايَةِ الْإِشْكَالِ ،
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيهَا أَسْلَمُ ، وَعَلَى هَذَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ لَمْ
يُذْكَرْ أَنَّهُ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ ، وَعَلَى الْمَذْهَبِ
الْمَالِكِيّ لَمْ يَذْكُرْهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ يَكُنْ
لَهَا مُسْتَحَقٌّ ؛ فَلَوْ كَانَ لَهَا مُسْتَحَقٌّ لَوَجَبَتْ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ
مَوْجُودٌ وَهُوَ الْإِسْلَامُ ، وَجَلَّ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ لَمْ يَذْكُرْ
الدِّيَةَ ؛ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ عَلَى مَنْ آمَنَ فَرْضًا ، وَمَنْ
أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ فَلَا إسْلَامَ لَهُ وَلَا وِلَايَةَ ، فَأَمَّا مُذْ
سَقَطَ فَرْضُ الْهِجْرَةِ بِعِصْمَةِ الْإِسْلَامِ فَوَجَبَ لَهُ الدِّيَةُ
وَالْكَفَّارَةُ أَيْنَمَا كَانَ
.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ
مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } : وَالْمِيثَاقُ
هُوَ الْعَهْدُ الْمُؤَكَّدُ الَّذِي قَدْ ارْتَبَطَ وَانْتَظَمَ ، وَمِنْهُ
الْوَثِيقَةُ فَفِيهِ الدِّيَةُ
.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هَذَا هُوَ الْكَافِرُ الَّذِي
لَهُ وَلِقَوْمِهِ الْعَهْدُ ، فَعَلَى قَاتِلِهِ الدِّيَةُ لِأَهْلِهِ
وَالْكَفَّارَةُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ
وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ :
الْمُرَادُ بِهِ ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ
.
وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَقْتُولَ
الْكَافِرَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَهْمَلَهُ وَلَمْ
يَقُلْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، كَمَا قَالَ فِي الْقَتِيلِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْ أَهْلِ
الْحَرْبِ ، وَإِطْلَاقُهُ مَا قَيَّدَ قَبْلَ ذَلِكَ دَلِيلٌ أَنَّهُ خِلَافُهُ .
وَهَذَا عِنْدَ عُلَمَائِنَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ
مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ نُسِّقَتْ عَلَى مَا
قَبْلَهَا وَرُبِطَتْ بِهَا ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا حُكْمَهُ .
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ : { فَدِيَةٌ
مُسَلَّمَةٌ } وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي دِيَةِ الْكَافِرِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ
جَعَلَهَا كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ ، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ ؛
وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا عَلَى النِّصْفِ ، وَهُوَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ ،
وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا ثُلُثَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ
وَجَمَاعَةٌ .
وَالدِّيَةُ الْمُسَلَّمَةُ هِيَ الْمُوَفَّرَةُ .
قَالَ الْقَاضِي : وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ
الْجُمْلَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا قَبَلهَا حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى
الْمُقَيَّدِ ، وَهُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ ،
وَقَدْ أَتَيْنَا فِيهِ بِالْعَجَبِ فِي الْمَحْصُولِ ، وَهُوَ عِنْدِي لَا
يَلْحَقُ إلَّا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ
.
وَالدَّلِيلُ عَلَى حَمْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى
الَّتِي قَبْلَهَا أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا هِيَ
لِأَنَّهُ أَتْلَفَ
شَخْصًا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ ؛ فَيَلْزَمُهُ أَنْ
يُخَلِّصَ آخَرَ لَهَا .
وَالثَّانِي :
أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا هِيَ زَجْرٌ عَنْ
الِاسْتِرْسَالِ وَتُقَاةٍ لِلْحَذَرِ ، وَحَمْلٌ عَلَى التَّثَبُّتِ عِنْدَ
الرَّمْيِ ؛ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ .
وَأَمَّا فِي حَقِّ الْكَافِرِ فَلَا يَلْزَمُ فِيهِ
مِثْلُ هَذَا .
وَنُحَرِّرُ هَذَا قِيَاسًا فَنَقُولُ : كُلُّ كَافِرٍ
لَا كَفَّارَةَ فِي قَتْلِهِ [ كَالْمُسْتَأْمَنِ وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا
كَفَّارَةَ فِي قَتْلِهِ ] ، وَلَا عُذْرَ لَهُمْ عَنْهُ بِهِ احْتِفَالٌ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : إذَا ثَبَتَ
أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ هُوَ الْمُؤْمِنُ ، فَمَنْ قَتَلَ
كَافِرًا خَطَأً ، وَلَهُ عَهْدٌ فَفِيهِ الدِّيَةُ إجْمَاعًا .
وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهُوَ
أَصْلٌ بَدِيعٌ فِي رَفْعِ الدِّمَاءِ
.
وَنَحْنُ نُمَهِّدُ فِيهِ قَاعِدَةً قَوِيَّةً فَنَقُولُ
: مَبْنَى الدِّيَاتِ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى التَّفَاضُلِ فِي الْحُرْمَةِ
وَالتَّفَاوُتِ فِي الْمَرْتَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ يَتَفَاوَتُ
بِالصِّفَاتِ ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا شُرِعَ زَجْرًا لَمْ
يُعْتَبَرْ فِيهِ ذَلِكَ التَّفَاوُتُ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا نَظَرْنَا إلَى الدِّيَةِ
فَوَجَدْنَا الْأُنْثَى تَنْقُصُ فِيهِ عَنْ الذَّكَرِ ؛ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ
لِلْمُسْلِمِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْكَافِرِ ؛ فَوَجَبَ أَلَّا يُسَاوِيهِ فِي
دِيَتِهِ .
وَزَادَ الشَّافِعِيُّ نَظَرًا ، فَقَالَ : إنَّ
الْأُنْثَى الْمُسْلِمَةَ فَوْقَ الْكَافِرِ الذَّكَرِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَنْقُصَ
دِيَتُهُ عَنْ دِيَتِهَا ، فَتَكُونَ دِيَتُهُ ثُلُثَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ .
وَقَالَ مَالِكٌ بِقَضَاءِ عُمَرَ وَهُوَ النِّصْفُ ؛
إذْ لَمْ يُرَاعِ الصَّحَابَةُ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا إلَّا فِي دَرَجَةٍ
وَاحِدَةٍ ، وَلَمْ يَتْبَعْ ذَلِكَ إلَى أَقْصَاهُ ، وَلَيْسَ بَعْدَ قَضَاءِ
عُمَرَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ نَظَرٌ .
وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { أَنَّهُ أَعْطَى فِي ذِي الْعَهْدِ مِثْلَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ }
فَإِنَّمَا كَانَ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِئْلَافِ لِقَوْمِهِمْ ؛ إذْ كَانَ يُؤَدِّيهِ
مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَلَا يُرَتِّبُهَا عَلَى
الْعَاقِلَة ، وَإِلَّا فَقَدْ اسْتَقَرَّ مَا اسْتَقَرَّ عَلَى يَدِ عُمَرَ ،
حَتَّى جَعَلَ فِي الْمَجُوسِيِّ ثَمَانَمِائَةِ دِرْهَمٍ لِنَقْصِهِ عَنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُرَاعَاةِ التَّفَاوُتِ وَاعْتِبَارِ نَقْصِ الْمَرْتَبَةِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } : ظَنَّ قَوْمٌ
أَوَّلُهُمْ مَسْرُوقٌ أَنَّ الصِّيَامَ بَدَلٌ عَنْ الدِّيَةِ وَالرَّقَبَةِ ،
وَسَاعَدَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ
.
وَهُوَ وَهْمٌ ؛ لِأَنَّ الصِّيَامَ يَلْزَمُ الْقَاتِلَ
فَهُوَ بَدَلٌ عَمَّا كَانَ يَلْزَمُهُ مِنْ الرَّقَبَةِ ، وَالدِّيَةُ لَمْ
تَكُنْ تَلْزَمُهُ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ بَدَلٌ عَنْهَا .
وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ إطْنَابٍ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : لَمَّا قَالَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً } { وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا } انْحَصَرَ الْقَتْلُ فِي خَطَأٍ وَعَمْدِ عِنْدَ أَكْثَرِ
الْعُلَمَاءِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ ثَالِثًا ؛ وَهُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ ،
وَجَعَلُوهُ عَمْدًا خَطَأً ، كَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهُ عَمْدٌ مِنْ
وَجْهٍ خَطَأٍ مِنْ وَجْهٍ .
وَاَلَّذِي أَشَارُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ قَدْ جَاءَ فِي
الْحَدِيثِ ؛ فَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ : أَلَا إنَّ فِي قَتِيلِ عَمْدِ
الْخَطَأِ قَتِيلِ السَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ مِنْهَا
أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيُّ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : هَذَا حَدِيثٌ لَمْ يَصِحَّ ، وَقَدْ
[ رُوِيَ ] شِبْهُ الْعَمْدِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءُ كَأَبِي حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيِّ ، وَحَكَى الْعُلَمَاءُ عَنْ مَالِكٍ الْقَوْلَ بِشِبْهِ
الْعَمْدِ ، وَأَنَّ الْقَتْلَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ ، وَلَكِنْ جُعِلَ شِبْهُ
الْعَمْدِ فِي مِثْلِ قِصَّةِ الْمُدْلِجِيِّ فِي نَظَرِ مَنْ أَثْبَتَهُ أَنَّ
الضَّرْبَ مَقْصُودٌ وَالْقَتْلَ غَيْرُ مَقْصُودٍ ؛ وَإِنَّمَا وَقَعَ بِغَيْرِ الْقَصْدِ
فَيَسْقُطُ الْقَوْدُ ، وَتَغْلُظُ الدِّيَةُ .
وَبَالَغَ أَبُو حَنِيفَةَ مُبَالَغَةً أَفْسَدَتْ
الْقَاعِدَةَ ، فَقَالَ : إنَّ الْقَاتِلَ بِالْعَصَا وَالْحَجَرِ شِبْهَ
الْعَمْدِ فِيهِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ وَلَا قَوْدَ فِيهِ ، وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا
، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْت
مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ
كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
فَتَبَيَّنُوا إنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ
نُزُولِهَا : وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ :
سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : { إنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي مَغَازِي
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ
؛ فَلَمَّا عَلَاهُ بِالسَّيْفِ قَالَ الْمُشْرِكُ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ .
فَقَالَ الرَّجُلُ : إنَّمَا يَتَعَوَّذُ بِهَا مِنْ
الْقَتْلِ ؛ فَأَتَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَخْبَرَهُ .
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : كَيْفَ لَك بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
، إنَّمَا يَتَعَوَّذُ .
فَمَا زَالَ يُعِيدُهَا عَلَيْهِ : كَيْفَ لَك بِلَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ } فَقَالَ الرَّجُلُ : وَدِدْت أَنِّي أَسْلَمْت ذَلِكَ
الْيَوْمَ ، وَأَنَّهُ يَبْطُلُ مَا كَانَ لِي مِنْ عَمَلٍ قَبْلَ ذَلِكَ ،
وَأَنِّي اسْتَأْنَفْت الْعَمَلَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ مُطْلَقًا
هُوَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ ، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ ، رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ مِنْ
كُلِّ طَرِيقٍ ، أَصْلُهُ أَبُو ظَبْيَانَ عَنْ أُسَامَةَ ، رَوَاهُ عَنْهُ
الْأَعْمَشُ ، وَحُصَيْنُ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ
وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ اسْمَ الَّذِي قَتَلَهُ أُسَامَةُ مِرْدَاسُ بْنُ
نَهِيكٍ .
الثَّانِي : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : {
بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَلِّمَ بْنَ جَثَّامَةَ ،
فَلَقِيَهُمْ عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ ، فَحَيَّاهُمْ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ ،
وَكَانَ بَيْنَهُمَا إحْنَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَرَمَاهُ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ
بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ ، وَجَاءَ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ
فَجَلَسَ بَيْنَ يَدِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِيَسْتَغْفِرَ اللَّهَ ، فَقَالَ : لَا غَفَرَ اللَّهُ لَك ، فَقَامَ وَهُوَ
يَتَلَقَّى دُمُوعَهُ بِبُرْدَتِهِ ، فَمَا مَضَتْ سَابِعَةٌ حَتَّى دَفَنُوهُ
وَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : إنَّ الْأَرْضَ
لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُعَظِّمَ
مِنْ حُرْمَتِكُمْ فَرَمَوْهُ بَيْنَ جَبَلَيْنِ وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ مِنْ
الْحِجَارَةِ ، وَأَنْزَلَ اللَّه سُبْحَانَهُ الْآيَةَ } .
الثَّالِثُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَقِيَ نَاسٌ
رَجُلًا فِي غَنِيمَةٍ لَهُ فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ، فَقَتَلُوهُ ،
وَأَخَذُوا تِلْكَ الْغَنِيمَةَ ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ .
الرَّابِعُ :
قَالَ قَتَادَةُ : أَغَارَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ، فَقَالَ الْمُشْرِكُ : إنِّي مُسْلِمٌ ، لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، فَقَتَلَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ
هُوَ الْمِقْدَادُ ، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْخَامِسُ .
قَالَ الْقَاضِي : قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَّهُ حَمَلَ دِيَتَهُ ، وَرَدَّ عَلَى أَهْلِهِ
غَنِيمَتَهُ } ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا صَحِيحًا عَلَى طَرِيقِ الِائْتِلَافِ
وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ؛ فَإِنَّ هَذَا الْمَقْتُولَ الَّذِي نَزَلَتْ
فِيهِ الْآيَةُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الَّذِي قَالَ : سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ،
أَوْ يَكُونَ الَّذِي قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، أَوْ يَكُونَ عَامِرُ
بْنُ الْأَضْبَطِ الَّذِي قَالَ عُلِمَ إسْلَامُهُ : فَأَمَّا كَوْنُهُ عَامِرَ
بْنِ الْأَضْبَطِ فَبَعِيدٍ ؛ لِأَنَّ قِصَّةَ عَامِرٍ قَدْ اخْتَلَفَتْ
اخْتِلَافًا كَثِيرًا لَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهِ ، تَبَيَّنَ أَنَّ قَتْلَ
مُحَلِّمٍ إنَّمَا كَانَ لِإِحْنَةٍ وَحِقْدٍ بَعْدَ الْعِلْمِ بِحَالٍ ،
وَكَيْفَمَا تَصَوَّرَ الْأَمْرَ فَفِي وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ نَزَلَتْ ،
وَغَيْرُهَا يَدْخُلُ فِيهَا بِمَعْنَاهَا .
وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا لَقِيَ
الْكَافِرَ لَا عَهْدَ لَهُ جَازَ
لَهُ قَتْلُهُ ؛ فَإِنْ قَالَ لَهُ الْكَافِرُ : "
لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ "
لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ ؛ فَقَدْ اعْتَصَمَ بِعِصَامِ
الْإِسْلَامِ الْمَانِعِ مِنْ دَمِهِ وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ .
فَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ بِهِ .
وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقَتْلُ عَنْ هَؤُلَاءِ لِأَجْلِ
أَنَّهُمْ كَانُوا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ، وَتَأَوَّلُوا أَنَّهُ قَالَهَا
مُتَعَوِّذًا ، وَأَنَّ الْعَاصِمَ قَوْلُهَا مُطْمَئِنًّا ، فَأَخْبَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ
عَاصِمٌ كَيْفَمَا قَالَهَا .
وَأَمَّا إنْ قَالَ لَهُ : سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فَلَا يَنْبَغِي
أَنْ يُقْتَلَ حَتَّى يُعْلَمَ مَا وَرَاءَ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ إشْكَالٍ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْكَافِرِ يُوجَدُ عِنْدَ
الدَّرْبِ فَيَقُولُ : جِئْتُ مُسْتَأْمِنًا أَطْلُبُ الْأَمَانَ : هَذِهِ أُمُورٌ
مُشْكِلَةٌ ، وَأَرَى أَنْ يُرَدَّ إلَى مَأْمَنِهِ ، وَلَا يُحْكَمُ لَهُ
بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ قَدْ ثَبَتَ لَهُ ، فَلَا بُدَّ أَنْ
يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِقَادَ الْفَاسِدَ الَّذِي كَانَ
يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْفَاسِدُ قَدْ تَبَدَّلَ بِاعْتِقَادٍ صَحِيحٍ
يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الصَّحِيحُ ، وَلَا يَكْفِي فِيهِ أَنْ يَقُولَ : أَنَا
مُسْلِمٌ ، وَلَا أَنَا مُؤْمِنٌ ، وَلَا أَنْ يُصَلِّيَ حَتَّى يَتَكَلَّمَ
بِالْكَلِمَةِ الْعَاصِمَةِ الَّتِي عَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْحُكْمَ بِهَا عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ
حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي
دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } .
فَإِنْ صَلَّى أَوْ فَعَلَ فِعْلًا مِنْ خَصَائِصِ
الْإِسْلَامِ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ
عُلَمَاؤُنَا ، وَتَبَايَنَتْ الْفِرَقُ فِي إسْلَامِهِ ، وَقَدْ حَرَّرْنَاهَا
فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَنَرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِذَلِكَ ،
أَمَّا أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ : مَا وَرَاءُ هَذِهِ الصَّلَاةِ ؟ فَإِنْ قَالَ :
صَلَاةُ مُسْلِمٍ قِيلَ لَهُ قُلْ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولٌ اللَّهِ .
فَإِنْ قَالَهَا تَبَيَّنَ صِدْقُهُ ، وَإِنْ أَبَى
عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ تَلَاعُبٌ ، وَكَانَتْ عِنْدَ مَنْ يَرَى إسْلَامَهُ
رِدَّةً وَيُقْتَلُ عَلَى كُفْرِهِ الْأَصْلِيِّ ، وَذَلِكَ مُحَرَّرٌ فِي مَسَائِلِ
الْخِلَافِ ، مُقَرَّرٌ أَنَّهُ كُفْرٌ أَصْلِي لَيْسَ بِرِدَّةٍ .
وَكَذَلِكَ هَذَا الَّذِي قَالَ : سَلَامٌ عَلَيْكُمْ
يُكَلَّفُ الْكَلِمَةَ ، فَإِنْ قَالَهَا تَحَقَّقَ رَشَادُهُ ، وَإِنْ أَبِي تَبَيَّنَ
عِنَادُهُ وَقُتِلَ .
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ : { فَتَبَيَّنُوا } أَيْ الْأَمْرَ
الْمُشْكِلَ ، أَوْ تَثَبَّتُوا وَلَا تَعْجَلُوا ، الْمَعْنَيَانِ سَوَاءٌ ؟
فَإِنْ قَتَلَهُ أَحَدٌ فَقَدْ أَتَى مَنْهِيًّا عَنْهُ ، لَا يَبْلُغ فِدْيَةً
وَلَا كَفَّارَةً وَلَا قِصَاصًا
.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ ، وَهَذَا
فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ كُفْرِهِ قَدْ تَيَقَّنَاهُ ، فَلَا يُزَالُ الْيَقِينُ
بِالشَّكِّ .
فَإِنْ قِيلَ : فَتَغْلِيظُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُحَلِّمٍ كَيْفَ مَخْرَجُهُ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّهُ
عَلِمَ مِنْ نِيَّتِهِ أَنَّهُ لَمْ يُبَالِ بِإِسْلَامِهِ ، وَلَمْ يُحَقِّقْهُ ؛
فَغَضِبَ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا
إنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا } .
فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ } : اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ بِنَاءَ
" ضَرَبَ " يَتَصَرَّفُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ ؛ مِنْهَا
السَّفَرُ ، وَمَا أَظُنُّهُ سُمِّيَ بِهِ إلَّا لِأَنَّ الرَّجُلَ إذَا سَافَرَ
ضَرَبَ بِعَصَاهُ دَابَّتَهُ ، لِيَصْرِفَهَا فِي السَّيْرِ عَلَى حُكْمِهِ ،
ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ كُلُّ مُسَافِرٍ ، وَلَمْ يَجْتَمِعْ لِي فِي هَذَا الْبَابِ ،
وَلَا أَمْكَنَنِي فِي هَذَا الْوَقْتِ ضَبْطٌ فَرَأَيْتُهُ تَكَلُّفًا ،
فَتَرَكْتُهُ إلَى أَوْبَةٍ تَأْتِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : ( مُرَاغَمًا
كَثِيرًا ) هَذِهِ لَفْظَةٌ وَرَدَتْ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا ، وَهِيَ
مُرْتَبِطَةٌ بِهَا سَنَذْكُرُهَا مَعَهَا ، فَأَرَدْنَا أَنْ نُقَدِّمَ شَرْحَ
اللَّفْظَةِ ، لِتَكُونَ إلَى جَانِبِ أُخْتِهَا .
وَفِيهِ اخْتِلَافٌ وَإِشْكَالٌ ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ
ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : الْمُرَاغَمُ : الْمَذْهَبُ قَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : الْمُرَاغَمُ الذَّهَابُ فِي الْأَرْضِ .
الثَّانِي : الْمُرَاغَمُ : الْمُتَحَوِّلُ ، يُعْزَى
إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ .
الثَّالِثُ : الْمُرَاغَمُ : الْمَنْدُوحَةُ .
قَالَ مُجَاهِدٌ : وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تَتَقَارَبُ .
وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهَا ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ :
هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ الرَّغَامِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ ،
وَهُوَ التُّرَابُ .
وَقَالَتْ أُخْرَى : هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْهُ بِضَمِّ
الرَّاءِ ، وَهُوَ مَا يَسِيلُ مِنْ أَنْفِ الشَّاةِ .
وَالرُّغَامُ بِضَمِّ الرَّاءِ يُرْجَعُ إلَى الرَّغَامِ
بِفَتْحِهَا ؛ لِأَنَّ مَنْ كَرِهَ رَجُلًا قَصَدَ ذُلَّهُ ، وَأَنْ يَكُبَّهُ
اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ ، حَتَّى يَقَعَ أَنْفُهُ عَلَى الرَّغَامِ ، وَهُوَ
التُّرَابُ ، فَضُرِبَ الْمِثْلُ بِهِ ، حَتَّى يُقَالَ : أَرْغَمَ اللَّهُ
أَنْفَهُ ، وَأَفْعَلَ كَذَا وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُهُ ، ثُمَّ سُمِّيَ بَعْدَ
ذَلِكَ الْأَنْفُ وَمَا يَسِيلُ مِنْهُ بِهِ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ اللَّفْظَةَ تَرْجِعُ إلَى
الرَّغَامِ بِفَتْحِ الرَّاءِ .
الْمَعْنَى :
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي
الْأَرْضِ مَكَانًا لِلذَّهَابِ ، وَضَرَبَ التُّرَابَ لَهُ مَثَلًا ؛ لِأَنَّهُ
أَسْهَلُ أَنْوَاعِ الْأَرْضِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ } : وَقَدْ
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي السَّفَرِ فِي
الْأَرْضِ : تَتَعَدَّدُ أَقْسَامُهُ مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَاتٍ ، فَتَنْقَسِمُ
مِنْ جِهَةِ الْمَقْصُودِ بِهِ إلَى هَرَبٍ أَوْ طَلَبٍ .
وَتَنْقَسِمُ مِنْ جِهَةِ الْأَحْكَامِ إلَى خَمْسَةِ
أَقْسَامٍ ، وَهِيَ مِنْ أَحْكَامِ أَفْعَال الْمُكَلَّفِينَ الشَّرْعِيَّةِ :
وَاجِبٌ ، وَمَنْدُوبٌ ، وَمُبَاحٌ ، وَمَكْرُوهٌ ، وَحَرَامٌ .
وَيَنْقَسِمُ مِنْ جِهَةِ التَّنْوِيعِ فِي الْمَقَاصِدِ
إلَى أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ : الْهِجْرَةُ ، وَهِيَ تَنْقَسِمُ إلَى سِتَّةِ
أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ : الْخُرُوجُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ
الْإِسْلَامِ ؛ وَكَانَتْ فَرْضًا فِي أَيَّامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ غَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِهَا بَيَّنَّاهَا فِي شَرْحِ
الْحَدِيثِ ، وَهَذِهِ الْهِجْرَةُ بَاقِيَةٌ مَفْرُوضَةٌ إلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ ، وَاَلَّتِي انْقَطَعَتْ بِالْفَتْحِ هِيَ الْقَصْدُ إلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَانَ ، فَمَنْ أَسْلَمَ فِي
دَارِ الْحَرْبِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ
بَقِيَ فَقَدْ عَصَى ، وَيُخْتَلَفُ فِي حَالِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الثَّانِي : الْخُرُوجُ مِنْ أَرْضِ الْبِدْعَةِ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ :
لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُقِيمَ بِبَلَدٍ سُبَّ فِيهَا السَّلَفُ .
وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ فَإِنَّ الْمُنْكَرَ إذَا لَمْ
يُقْدَرْ عَلَى تَغْيِيرِهِ نُزِلَ عَنْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا
رَأَيْت الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوصُوا
فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ
الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } .
وَقَدْ كُنْت قُلْت لِشَيْخِنَا الْإِمَامِ الزَّاهِدِ
أَبِي بَكْرٍ الْفِهْرِيِّ : ارْحَلْ عَنْ أَرْضِ مِصْرَ إلَى بِلَادِك .
فَيَقُولُ : لَا أُحِبُّ أَنْ أَدْخُلَ بِلَادًا غَلَبَ
عَلَيْهَا كَثْرَةُ الْجَهْلِ ، وَقِلَّةُ الْعَقْلِ ، فَأَقُولُ لَهُ :
فَارْتَحِلْ إلَى مَكَّةَ أَقِمْ فِي جُوَارِ اللَّهِ
وَجُوَارِ رَسُولِهِ ؛ فَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْ هَذِهِ الْأَرْضِ
فَرْضٌ لِمَا فِيهَا مِنْ الْبِدْعَةِ وَالْحَرَامِ ، فَيَقُولُ : وَعَلَى يَدِي
فِيهَا هُدًى كَثِيرٌ ، وَإِرْشَادٌ لِلْخَلْقِ ، وَتَوْحِيدٌ ، وَصَدٌّ عَنْ الْعَقَائِدِ
السَّيِّئَةِ ، وَدُعَاءٌ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَعَالَى الْكَلَامُ
بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِيهَا إلَى حَدٍّ شَرَحْنَاهُ فِي تَرْتِيبِ [ لُبَابِ ]
الرِّحْلَةِ وَاسْتَوْفَيْنَاهُ
.
الثَّالِثُ : الْخُرُوجُ عَنْ أَرْضٍ غَلَبَ عَلَيْهَا
الْحَرَامُ ؛ فَإِنَّ طَلَبَ الْحَلَالِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ .
الرَّابِعُ :
الْفِرَارُ مِنْ الْإِذَايَةِ فِي الْبَدَنِ ؛ وَذَلِكَ
فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَرْخَصَ فِيهِ ، فَإِذَا خَشِيَ الْمَرْءُ
عَلَى نَفْسِهِ فِي مَوْضِعٍ فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ فِي الْخُرُوجِ
عَنْهُ ، وَالْفِرَارِ بِنَفْسِهِ ؛ لِيُخَلِّصَهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَحْذُورِ .
وَأَوَّلُ مَنْ حَفِظْنَاهُ فِيهِ الْخَلِيلُ إبْرَاهِيمُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا خَافَ مِنْ قَوْمِهِ قَالَ : { إنِّي مُهَاجِرٌ إلَى رَبِّي } .
وَقَالَ : { إنِّي ذَاهِبٌ إلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ }
وَمُوسَى قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهِ : { فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا
يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } .
وَذَلِكَ يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ .
وَيَلْحَقُ بِهِ ، وَهُوَ : الْخَامِسُ : خَوْفُ
الْمَرَضِ فِي الْبِلَادِ الْوَخِمَةِ ، وَالْخُرُوجُ مِنْهَا إلَى الْأَرْضِ
النَّزِهَةِ .
وَقَدْ أَذِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِلرِّعَاءِ حِينَ اسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ أَنْ يَتَنَزَّهُوا إلَى
الْمَسْرَحِ ، فَيَكُونُوا فِيهِ حَتَّى يَصِحُّوا ، وَقَدْ اسْتَثْنَى مِنْ
ذَلِكَ الْخُرُوجَ مِنْ الطَّاعُونِ ؛ فَمَنَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْهُ بِالْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْدَ أَنِّي
رَأَيْت عُلَمَاءَنَا قَالُوا هُوَ مَكْرُوهٌ .
وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
السَّادِسُ : الْفِرَارُ خَوْفَ الْإِذَايَةِ فِي الْمَالِ
؛ فَإِنَّ حُرْمَةَ مَالِ
الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ ، وَالْأَهْلُ مِثْلُهُ
أَوْ آكَدُ ، فَهَذِهِ أُمَّهَاتُ قِسْمِ الْهَرَبِ .
وَأَمَّا قِسْمُ الطَّلَبِ فَيَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ
: طَلَبُ دِينٍ وَطَلَبُ دُنْيَا ؛ فَأَمَّا طَلَبُ الدِّينِ فَيَتَعَدَّدُ
بِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِهِ ، وَلَكِنَّ أُمَّهَاتِهِ الْحَاضِرَةَ عِنْدِي الْآنَ
تِسْعَةٌ : الْأَوَّلُ : سَفَرُ الْعِبْرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } .
وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
وَيُقَالُ : إنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ إنَّمَا طَافَ
الْأَرْضَ لِيَرَى عَجَائِبَهَا
.
وَقِيلَ : لَيُنْفِذَ الْحَقَّ فِيهَا .
الثَّانِي : سَفَرُ الْحَجِّ .
وَالْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ نَدْبًا فَهَذَا فَرْضٌ ، وَقَدْ
بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
الثَّالِثُ : سَفَرُ الْجِهَادِ ، وَلَهُ أَحْكَامُهُ .
الرَّابِعُ :
سَفَرُ الْمَعَاشِ ؛ فَقَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَى الرَّجُلِ
مَعَاشُهُ مَعَ الْإِقَامَةِ ، فَيَخْرُجُ فِي طَلَبِهِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ
وَلَا يَنْقُصُ مِنْ صَيْدٍ أَوْ احْتِطَابٍ أَوْ احْتِشَاشٍ أَوْ اسْتِئْجَارٍ ، وَهُوَ
فَرْضٌ عَلَيْهِ .
الْخَامِسُ : سَفَرُ التِّجَارَةِ وَالْكَسْبِ
الْكَثِيرِ الزَّائِدِ عَلَى الْقُوتِ ؛ وَذَلِكَ جَائِزٌ بِفَضْلِ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ .
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } يَعْنِي : التِّجَارَةَ .
وَهَذِهِ نِعْمَةٌ مَنَّ بِهَا فِي سَفَرِ الْحَجِّ ،
فَكَيْفَ إذَا انْفَرَدَتْ .
السَّادِسُ : فِي طَلَبِ الْعِلْمِ ، وَهُوَ مَشْهُورٌ .
السَّابِعُ :
قَصْدُ الْبِقَاعِ الْكَرِيمَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ
إلَّا فِي نَوْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا الْمَسَاجِدُ الْإِلَهِيَّةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى
ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : مَسْجِدِي هَذَا ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَالْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى } .
الثَّانِي : الثُّغُورُ لِلرِّبَاطِ بِهَا ، وَتَكْثِيرُ
سَوَادِهَا لِلذَّبِّ عَنْهَا ؛ فَفِي ذَلِكَ فَضْلٌ كَثِيرٌ .
الثَّامِنُ : زِيَارَةُ الْإِخْوَانِ فِي اللَّهِ ،
وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ .
التَّاسِعُ : السَّفَرُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ، .
وَسَيَأْتِي بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ؛
وَبَعْدَ هَذَا فَالنِّيَّةُ تَقْلِبُ الْوَاجِبَ مِنْ هَذَا حَرَامًا
وَالْحَرَامَ حَلَالًا بِحَسَبِ حُسْنِ الْقَصْدِ وَإِخْلَاصِ السِّرِّ عَنْ
الشَّوَائِبِ .
وَقَدْ تَتَنَوَّعُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ إلَى تَفْصِيلٍ
؛ هَذَا أَصْلُهَا الَّتِي تَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
السَّفَرِ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ الْمَذْكُورَةُ هَاهُنَا عَلَى
سِتَّةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا لَا تُقْصَرُ إلَّا فِي سَفَرٍ وَاجِبٍ
؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فَرْضٌ ، وَلَا يُسْقِطُ الْفَرْضَ إلَّا فَرْضٌ .
الثَّانِي : أَنَّهَا لَا تُقْصَرُ إلَّا فِي سَفَرِ
قُرْبَةٍ ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ ، مِنْهُمْ ابْنُ حَنْبَلٍ .
وَتَعَلَّقُوا بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : { إنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَقْصُرُ إلَّا فِي
حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ جِهَادٍ
} .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ الْقَصْرُ فِي كُلِّ سَفَرٍ
مُبَاحٍ ، كَمَا قَدْ بَيَّنَّا أَنْوَاعَهُ ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : {
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا
مِنْ الصَّلَاةِ } وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ سَفَرٍ وَسَفَرٍ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ يَقْصُرُ فِي كُلِّ سَفَرٍ ،
حَتَّى فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٍ ، بَنَوْهُ
عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ فَرْضُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ بِعَيْنِهِ .
وَتَعَلَّقُوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ : { فُرِضَتْ الصَّلَاةُ
رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَزِيدَتْ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ
السَّفَرِ عَلَى أَصْلِهَا } .
السَّادِسُ : أَنَّ الْقَصْرَ لَا يَجُوزُ إلَّا مَعَ
الْخَوْفِ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَائِشَةُ قَالَتْ : أَتِمُّوا ،
فَقَالُوا لَهَا : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَقْصُرُ .
قَالَتْ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ فِي حَرْبٍ ، وَكَانَ يَخَافُ ؛ فَهَلْ تَخَافُونَ أَنْتُمْ ؟
أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ
فَفَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ عُمُومَ الْقُرْآنِ لَمْ يَخُصَّ مِنْهَا
وَاجِبًا مِنْ نَدْبٍ ، { وَقَدْ قَصَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ الْوَاجِبِ ، كَالْعُمْرَةِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ وَغَيْرِهَا } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : لَا تَقْصُرْ إلَّا فِي سَفَرِ
قُرْبَةٍ فَعُمُومُ الْقُرْآنِ أَيْضًا يَقْضِي عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ عَمَّ وَلَمْ
يَخُصَّ قُرْبَةً مِنْ مُبَاحٍ ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ : الصَّحِيحُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَقْصُرُ فِي سَفَرِ
الْمَعْصِيَةِ فَلِأَنَّهَا فَرْضٌ مُعَيَّنٌ لِلسَّفَرِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ عُلَمَاءِ
الْمَذْهَبِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تَعَلَّقَتْ لَهُمْ مِنْ أَقْوَالِ
الْعِرَاقِيِّينَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ " التَّلْخِيصِ
" وَغَيْرِهِ فَسَادهَا .
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي شَرْحِ
مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَالْحَدِيثِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ ،
يُعَارِضُهُ نَصُّ الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ جَعَلَ فِي كِتَابِهِ الْقَصْرَ تَخْفِيفًا ، وَالتَّمَامَ أَصْلًا ، وَيُعَارِضُ
أَيْضًا الْأُصُولَ الْمَعْقُولَةَ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْإِقَامَةَ فِي الْقُرْآنِ أَصْلًا
، وَهُوَ الْوَاجِبُ وَقَلَبَهَا فِي الْحَدِيثِ الرَّاوِي ؛ وَأَقْوَاهُ { أَنَّ
عَائِشَةَ قَالَتْ : سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَصَرَ وَأَتْمَمْت ، وَأَفْطَرَ وَصُمْت ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ
، وَكَانَتْ تُتِمُّ فِي السَّفَرِ
} .
وَأَمَّا سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ فَأَشْكَلُ دَلِيلٍ فِيهِ
لَهُمْ أَنْ قَالُوا : إنَّا بَنَيْنَا الْأَمْرَ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ عَزِيمَةٌ
وَلَيْسَ بِرُخْصَةٍ ، وَالْعَزَائِمُ لَا تَتَغَيَّرُ بِسَفَرِ الطَّاعَةِ
وَالْمَعْصِيَةِ كَالتَّيَمُّمِ
.
قُلْنَا : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ رُخْصَةٌ ، وَعَلَيْهِ
تَنْبَنِي الْمَسْأَلَةُ ، وَالرُّخْصُ لَا تَجُوزُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ
كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ
.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : تَلَاعَبَ قَوْمٌ
بِالدِّينِ ؛ فَقَالُوا : إنْ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْبَلَدِ إلَى ظَاهِرِهِ قَصَرَ
الصَّلَاةَ وَأَكَلَ .
وَقَائِلُ هَذَا أَعْجَمِيٌّ لَا يَعْرِفُ السَّفَرَ
عِنْدَ الْعَرَبِ ، أَوْ مُسْتَخِفٌّ بِالدِّينِ ؛
وَلَوْ لَا أَنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوهُ مَا رَضِيت أَنْ أَلْمَحَهُ بِمُؤَخِّرِ
عَيْنِي ، وَلَا أَنْ أُفَكِّرَ فِيهِ بِفُضُولِ قَلْبِي ؛ وَقَدْ كَانَ مَنْ
تَقَدَّمَ مِنْ الصَّحَابَةِ يَخْتَلِفُونَ فِي تَقْدِيرِهِ ؛ فَرُوِيَ عَنْ
عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَدَّرُونَهُ بِيَوْمٍ .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ
بِأَنَّ السَّفَرَ كُلُّ خُرُوجٍ تُكَلِّفَ لَهُ وَأُدْرِكَتْ فِيهِ الْمَشَقَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : { أَنْ
تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ } :
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهَا ؛ فَمِنْهُمْ
مَنْ قَالَ : إنَّ الْقَصْرَ قَصْرُ عَدَدٍ ، وَهُمْ الْجَمُّ الْغَفِيرُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهَا قَصْرُ الْحُدُودِ
وَتَغْيِيرُ الْهَيْئَاتِ .
وَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّ الْقَصْرَ فِي الْعَدَدِ
قَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ : أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَرْبَعٍ إلَى اثْنَيْنِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : يَقْصُرُ مِنْ اثْنَيْنِ إلَى
وَاحِدَةٍ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْآيَةُ تَحْتَمِلُ
الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا ؛ فَأَمَّا الْقَصْرُ مِنْ هَيْئَتِهَا فَقَدْ ثَبَتَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلًا حَالَةَ الْخَوْفِ ،
وَأَمَّا الْقَصْرُ مِنْ عَدَدِهَا إلَى ثِنْتَيْنِ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلًا فِي حَالَةِ الْأَمْنِ .
وَأَمَّا الْقَصْرُ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ إلَى
وَاحِدَةٍ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ : أَحَدُهُمَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ
فِي الصَّحِيحِ : فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ فِي
الْحَضَرِ أَرْبَعًا ، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً .
وَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ بَيَانُهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { إنْ خِفْتُمْ
} : فَشَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَوْفَ فِي الْقَصْرِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الشَّرْطِ
الْمُتَّصِلِ بِالْفِعْلِ ؛ هَلْ يَقْتَضِي ارْتِبَاطُ الْفِعْلِ بِهِ حَتَّى
يَثْبُتَ بِثُبُوتِهِ وَيَسْقُطَ بِسُقُوطِهِ ؟ فَذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ
إلَى أَنَّهُ لَا يَرْتَبِطُ بِهِ ، وَهُمْ نُفَاةُ دَلِيلِ الْخِطَابِ ، وَلَا
عِلْمَ عِنْدَهُمْ بِاللُّغَةِ وَلَا بِالْكِتَابِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْمَحْصُولِ بَيَانًا
شَافِيًا .
وَعَجَبًا لَهُمْ .
{ قَالَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ لِعُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ
أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ حِفْتُمْ } فَهَا نَحْنُ قَدْ أَمِنَّا .
قَالَ : عَجِبْت مِمَّا عَجِبْت مِنْهُ .
فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقَالَ : صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ
فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ .
} وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَيْدٍ
لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : إنَّا نَجِدُ صَلَاةَ الْحَضَرِ وَصَلَاةَ
الْخَوْفِ فِي الْقُرْآنِ ، وَلَا نَجِدُ صَلَاةَ السَّفَرِ يَعْنِي نَجِدُ ذَلِكَ
فِي هَذِهِ الْآيَةِ .
فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْنَا وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ شَيْئًا ، فَإِنَّا
نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَاهُ يَفْعَلُ ؛ فَهَذِهِ الصَّحَابَةُ الْفُصَّحُ ،
وَالْعَرَبُ تَعْرِفُ ارْتِبَاطَ الشَّرْطِ بِالْمَشْرُوطِ ، وَتُسْلِمُ فِيهِ
وَتَعْجَب مِنْهُ ، وَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ الْعَرَبِ
لِأَغْرَاضٍ صَحِيحَةٍ لَا يُحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِيهَا ، فَلْيُنْظَرْ
تَحْقِيقُهُ فِي كَلَامِنَا عَلَيْهِ
.
وَلَقَدْ انْتَهَى الْجَهْلُ بِقَوْمٍ آخَرِينَ إلَى
أَنْ قَالُوا : إنَّ الْكَلَامَ قَدْ تَمَّ فِي قَوْلِهِ : { مِنْ الصَّلَاةِ }
وَابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ : { إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا } وَإِنَّ
الْوَاوَ زَائِدَةٌ فِي قَوْلِهِ : { وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ } وَهَذَا كُلُّهُ لَمْ يَفْتَقِرْ
إلَيْهِ عُمَرُ وَلَا ابْنُهُ وَلَا يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ مَعَهُمَا .
وَفِي الصَّحِيحِ
عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ : { صَلَّى بِنَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى ، آمَنَ مَا كَانَ النَّاسُ
وَأَكْثَرُهُ رَكْعَتَيْنِ } ؛ فَهَؤُلَاءِ لَمَّا جَهِلُوا الْقُرْآنَ
وَالسُّنَّةَ تَكَلَّمُوا بِرَأْيِهِمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ .
وَهَذَا نَوْعٌ عَظِيمٌ مِنْ تَكَلُّفِ الْقَوْلِ فِي
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَقَوْلٍ مَذْمُومٍ ، وَلَيْسَ بَعْدَ
قَوْلِ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ مَطْلَبٌ لِأَحَدٍ إلَّا لِجَاهِلٍ مُتَعَسِّفٍ أَوْ
فَارِغٍ مُتَكَلِّفٍ ، أَوْ مُبْتَدِعٍ مُتَخَلِّفٍ .
وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْقَصْرَ فَضْلٌ
مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرُخْصَةٌ لَا عَزِيمَةَ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ،
فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقَصْرَ لَيْسَ
بِفَرْضٍ عَلَى قَوْلَيْنِ : الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُسَافِرَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَصْرِ
وَالْإِتْمَامِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا
.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ الْقَصْرَ سُنَّةٌ ،
وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ ، { وَإِنَّ عُثْمَانَ لَمَّا
أَتَمَّ بِمِنًى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ ، وَمَعَ أَبِي
بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ ، وَمَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ ، فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعٍ
رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ }
.
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { : وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ فَأَقَمْت لَهُمْ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ
طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَك وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا
فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا
فَلْيُصَلُّوا مَعَك وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ
مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ
أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إنَّ
اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ
مُنْفَصِلَةً عَنْ الَّتِي قَبْلَهَا عَدَدًا فَقَدْ زَعَمَ قَوْلُهُمْ كَمَا
قَدَّمْنَا أَنَّهَا بِهَا مُرْتَبِطَةٌ .
وَقَدْ فَصَّلْنَاهَا خِطَابًا وَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا
حُكْمًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْحَالُ دُونَ اخْتِلَالٍ .
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { أَنْ
تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ } .
فَإِنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ شَرْطًا فِي الْقَصْرِ "
وَكَانَ الْمَعْنَى أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ حُدُودِهَا ، فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيَانُ
صِفَةِ ذَلِكَ الْقَصْرِ مِنْ الْحُدُودِ ، وَإِنْ كَانَ كَلَامًا مُبْتَدَأً لَمْ
يَرْتَبِطْ بِالْأَوَّلِ ، فَهَذَا بَيَانُهُ ، فَيَقُولُ : ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ مِرَارًا
عِدَّةً بِهَيْئَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ } ، فَقِيلَ فِي مَجْمُوعِهَا : إنَّهَا
أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ صِفَةً ، ثَبَتَ فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ صِفَةً قَدْ
شَرَحْنَاهَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ
.
وَاَلَّذِي نَذْكُرُهُ لَكُمْ الْآنَ مَا نُورِدُهُ
أَبَدًا فِي الْمُخْتَصَرَاتِ ، وَذَلِكَ عَلَى ثَمَانِي صِفَاتٍ : الصِّفَةُ
الْأُولَى : رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً
وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مُوَاجِهَةُ الْعَدُوِّ ، ثُمَّ انْصَرَفُوا
فَقَامُوا مَقَامَ أَصْحَابِهِمْ مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوِّ ، وَجَاءَ
أُولَئِكَ ثُمَّ صَلَّى
بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَكْعَةً ، ثُمَّ سَلَّمَ ، ثُمَّ قَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَةً .
} الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ : { قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ : شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صَلَاةَ الْخَوْفِ ، فَصَفّنَا صَفَّيْنِ ؛ صَفًّا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ ، فَكَبَّرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَبَّرْنَا جَمِيعًا ، ثُمَّ
رَكَعَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا
جَمِيعًا ، ثُمَّ انْحَدَرْنَا بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ ، وَقَامَ
الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّجُودَ وَقَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ
انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ وَقَامُوا ، ثُمَّ تَقَدَّمَ
الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ ، ثُمَّ رَكَعَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا ، ثُمَّ
رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا ، ثُمَّ انْحَدَرْنَا بِالسُّجُودِ
وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ كَانَ مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى ، وَقَامَ
الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّجُودَ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيه انْحَدَرَ
الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ ، فَسَجَدُوا ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا } .
الصِّفَة الثَّالِثَةُ : عَنْ ابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ {
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي
الْخَوْفِ ، فَصَفَّهُمْ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ ، فَصَلَّى بِاَلَّذِينَ يَلُونَهُ
رَكْعَةً ، ثُمَّ قَامَ فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى صَلَّى بِاَلَّذِينَ
خَلْفَهُ رَكْعَةً ، ثُمَّ تَقَدَّمُوا وَتَأَخَّرَ الَّذِينَ قُدَّامُهُمْ ،
فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً ، ثُمَّ قَعَدَ حَتَّى صَلَّى الَّذِينَ تَخَلَّفُوا
رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ } .
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ : يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ {
إنَّ طَائِفَةً صَلَّتْ
مَعَهُ وِجَاهَ الْعَدُوِّ فَصَلَّى بِاَلَّذِينَ مَعَهُ
رَكْعَةً ، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا فَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ ، ثُمَّ انْصَرَفُوا
فَصَفُّوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ ، وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى وَصَلَّى
بِهِمْ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا ، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ
ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ .
} الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ جَابِرٌ : { أَقْبَلْنَا مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إذَا كُنَّا بِذَاتِ
الرِّقَاعِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، ثُمَّ قَالَ : فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ
رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ تَأَخَّرُوا وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى
رَكْعَتَيْنِ ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَيْنِ } .
الصِّفَةُ السَّادِسَةُ : عَنْ ابْنِ عُمَرَ :
يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ وَطَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ فَيُصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً ،
وَتَكُونُ طَائِفَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ لَمْ يُصَلُّوا فَإِذَا
صَلَّى بِاَلَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً اسْتَأْخَرُوا مَكَانَ الَّذِينَ لَمْ
يُصَلُّوا فَيُصَلُّونَ رَكْعَةً ثُمَّ يَنْصَرِفُ الْإِمَامُ وَقَدْ صَلَّى
رَكْعَتَيْنِ ، فَيَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ فَيُصَلُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ
رَكْعَةً بَعْدَ أَنْ يَنْصَرِفَ الْإِمَامُ وَيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ
الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ .
قَالَ ابْنُ عُمَرَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا قِيَامًا
وَرُكْبَانًا } .
قَالَ نَافِعٌ : قَالَ ابْنُ عُمَرَ : مُسْتَقْبِلِي
الْقِبْلَةِ وَغَيْرُ مُسْتَقْبِلِيهَا ، لَا أَرَى ذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ
إلَّا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَهَذِهِ الصِّفَاتُ
السِّتُّ فِي الصَّحِيحِ الثَّابِتِ
.
الصِّفَةُ السَّابِعَةُ : عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ؛ قَالَ
: { صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ
، فَقَامَ صَفٌّ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَصَفٌّ مُسْتَقْبِلَ الْعَدُوِّ ، فَصَلَّى بِهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَكْعَةً ، وَجَاءَ الْآخَرُونَ ؛
فَقَامُوا مَقَامَهُمْ ، وَاسْتَقْبَلَ هَؤُلَاءِ
لِلصَّلَاةِ فَصَلَّى بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَامَ هَؤُلَاءِ وَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ، ثُمَّ سَلَّمُوا ، ثُمَّ
ذَهَبُوا فَقَامُوا مَقَامَ أُولَئِكَ مُسْتَقْبِلِي الْعَدُوِّ ، وَرَجَعَ أُولَئِكَ
مَقَامَهُمْ ، فَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمُوا } .
الصِّفَةُ الثَّامِنَةُ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ بِهَؤُلَاءِ
رَكْعَةً وَبِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَلَمْ يَقْضُوا } ، وَمِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ
الثَّامِنَةِ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ
نَبِيِّهِ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا ، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ ، وَفِي
الْخَوْفِ رَكْعَةً ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
.
وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ مَرْوِيَّتَانِ فِي
الْمُصَنَّفَاتِ خَرَّجَهُمَا أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ وَمَا
بَقِيَ غَيْرُهَا مِنْ السِّتَّ عَشْرَةَ صِفَةً عَلَى سِتَّةِ أَقْوَال :
الْأَوَّلُ : قَالَ أَبُو يُوسُفَ : هِيَ سَاقِطَةٌ كُلُّهَا ، لِقَوْلِهِ عَزَّ
وَجَلَّ : { وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ فَأَقَمْت لَهُمْ الصَّلَاةَ } فَإِنَّمَا
أَقَامَ الصَّلَاةَ خَوْفِيَّةً بِشَرْطِ إقَامَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَهَا بِهِمْ .
قُلْنَا لَهُمْ : فَالْآنَ مَا يَصْنَعُونَ ؟ فَإِنْ
قَالَ : نَتْرُكُ الصَّلَاةَ مَعَ الذِّكْرِ لَهَا وَالْعِلْمِ بِهَا
وَبِوَقْتِهَا كَانَ ذَلِكَ احْتِجَاجًا بِهَا وَاقْتِدَاءً بِمَنْ فَاتَ ، وَإِنْ
قَالَ يَفْعَلُهَا عَلَى الْحَالَةِ الْمُعْتَادَةِ فِيهَا فَلَا يُمْكِنُ ،
فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الِاقْتِدَاءُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِذَا كُنْت
فِيهِمْ } وَالِائْتِمَامُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ قَالَ فِي الصَّحِيحِ : { صَلُّوا كَمَا
رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } ، وَاَللَّهُ قَالَ لَهُ : { وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ
فَأَقَمْت لَهُمْ الصَّلَاةَ } وَهُوَ قَالَ لَنَا : { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } .
وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الثَّانِي : قَالَتْ طَائِفَةٌ : أَيُّ صَلَاةٍ صَلَّى
مِنْ
هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الصِّحَاحِ الْمَرْوِيَّةِ جَازَ ،
وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
.
الثَّالِثُ :
أَنَّ الَّذِي يُعْلَمُ تَقَدُّمُهُ وَيَتَحَقَّق
تَأَخُّرُ غَيْرِهِ عَنْهُ ؛ فَإِنَّ الْمُتَأَخِّرَ يَنْسَخُ الْمُتَقَدِّمَ ،
وَإِنَّمَا يَبْقَى التَّرْجِيحُ فِيمَا جُهِلَ تَارِيخُهُ .
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي نَسْخِ الْفِعْلِ لِلْفِعْلِ
فِي الْأُصُولِ فِي الْمَحْصُولِ ، وَهَذَا كَانَ فِيهِ مُتَعَلَّقٌ لَوْ لَا
أَنَّا نَبْقَى فِي الْإِشْكَالِ بَعْدَ تَحْدِيدِ الْمُتَقَدِّمِ .
الرَّابِعُ : قَالَ قَوْمٌ : مَا وَافَقَ صِفَةَ
الْقُرْآنِ مِنْهَا فَهُوَ الَّذِي نَقُولُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ ،
وَمَا خَالَفَهَا مَظْنُونٌ ، وَلَا يُتْرَكُ الْمَقْطُوعُ بِهِ لَهُ ،
وَعَلَّقُوهُ بِنَسْخِ الْقُرْآنِ لِلسُّنَّةِ ؛ وَهَذَا مُتَعَلَّقٌ قَوِيٌّ ،
لَكِنْ يَمْنَعُ مِنْهُ الْقَطْعُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ إنَّمَا كَانَتْ
لِيُجْمَعَ بَيْنَ التَّحَرُّزِ مِنْ الْعَدُوِّ وَإِقَامَةِ الْعِبَادَةِ ،
فَكَيْفَمَا أَمْكَنَتْ فُعِلَتْ ، وَصِفَةُ الْقُرْآنِ لَمْ تَأْتِ لِتَعْيِينِ
الْفِعْلِ .
وَإِنَّمَا جَاءَتْ لِحِكَايَةِ الْحَالِ الْمُمْكِنَةِ
، وَهَذَا بَالِغٌ .
الْخَامِسُ :
تَرْجِيحُ الْأَخْبَارِ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ لَهَا
أَوْ مَزِيدِ عَدَالَتِهِمْ فِيهَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، فَرَجَّحْنَا
خَبَرَ سَهْلٍ وَصَالِحٍ ، ثُمَّ رَجَّحْنَا بَيْنَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ
مِنْ التَّرْجِيحَاتِ ؛ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ أَخَفَّ فِعْلًا ، وَمِنْهَا مَا
يَكُونُ أَحْفَظَ لِأُهْبَةِ الصَّلَاةِ ، وَهُوَ : السَّادِسُ : مِثَالُ ذَلِكَ
إذَا صَلَّى صَلَاةَ الْمَغْرِبِ فِي الْخَوْف .
قُلْنَا : نَحْنُ وَأَبُو حَنِيفَةَ نُصَلِّي
بِالْأُولَى رَكْعَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَفُّ فِي الِانْتِظَارِ .
وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ : يُصَلِّي
بِالْأُولَى رَكْعَةً لِأَنَّ عَلِيًّا فَعَلَهَا لَيْلَةَ الْهَرِيرِ .
وَمِنْهَا التَّرْجِيحُ بِالسَّلَامِ بَعْدَ الْإِمَامِ
عَلَى مَا قَبْلَهُ ، وَذَلِكَ طُولٌ لَا يَكُونُ إلَّا فِي مَوْضِعِهِ ، وَهَذِهِ
نُبْذَةٌ كَافِيَةٌ لِلْبَابِ الَّذِي تَصَدَّيْنَا إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إذَا صَلَّوْا أَخَذُوا
سِلَاحَهُمْ عِنْدَ الْخَوْفِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَهُوَ نَصُّ
الْقُرْآنِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَحْمِلُهَا .
قَالُوا : لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ حَمْلُهَا
لَبَطَلَتْ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهَا
.
قُلْنَا :
لَمْ يَجِب عَلَيْهِمْ حَمْلُهَا لِأَجْلِ الصَّلَاةِ ،
وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ قُوَّةً لَهُمْ وَنَظَرًا ، أَوْ لِأَمْرٍ خَارِجٍ
عَنْ الصَّلَاةِ ، فَلَا تَعَلُّقَ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ بِهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا
فَاعْلَمْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَدَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ } :
رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِعُسْفَانَ
صَلَاةَ الظُّهْرِ ، فَرَأَوْهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ ؛ فَقَالَ
بَعْضُهُمْ : كَانَ فُرْصَةً لَكُمْ
} .
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ : فَإِنَّ لَهُمْ صَلَاةً
أُخْرَى هِيَ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلَيْهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ،
فَاسْتَعِدُّوا حَتَّى تُغِيرُوا عَلَيْهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : {
وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ فَأَقَمْت لَهُمْ الصَّلَاةَ } : وَهَذَا سُقْنَاهُ لِتَتَبَيَّنُوا
أَنَّهَا آيَةٌ أُخْرَى فِي قِصَّةٍ غَيْر قِصَّةِ الْقَصْرِ ، وَتَتَحَقَّقُوا
غَبَاوَةَ مَنْ حَذَفَ الْوَاوَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ :
لَا يُصَلِّي حَالَ الْمُسَايَفَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى لَا تَصِحُّ مَعَهُ الصَّلَاةُ
فِي غَيْرِ الْخَوْفِ ، فَلَا يَصِحُّ مَعَهُ فِي الْخَوْفِ كَالرُّعَافِ .
وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمُ الصَّحِيحُ
: { فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي
الْقِبْلَةِ ، وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا } ؛ وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي
حَالَةِ الْمُسَايَفَةِ وَشِدَّةِ الْخَوْفِ وَصِفَةِ مَوْقِفِ الْعَدُوِّ .
وَأَمَّا الزِّحَافُ فَإِنْ اُحْتِيجَ إلَيْهَا فُعِلَتْ
كَمَا أَنَّهُ إنْ اُحْتِيجَ إلَى الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ فُعِلَ ، وَكُلُّ مَا
كَانَ مِنْ ضَرُورَةٍ فَإِنَّهُ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ .
وَمَا قُلْنَاهُ أَرْجَحُ ؛ لِأَنَّا نَحْنُ أَسْقَطْنَا
صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الصَّلَاةِ لِلضَّرُورَةِ ، وَهُوَ أَسْقَطَ أَصْلَ
الصَّلَاةِ ، فَهَذَا أَرْجَحُ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا رَأَوْا سَوَادًا فَظَنُّوهُ
عَدُوًّا فَصَلَّوْا صَلَاةَ الْخَوْفِ ، ثُمَّ بَانَ لَهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ
شَيْءٍ ، فَلِعُلَمَائِنَا فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : يُعِيدُونَ ؛ وَبِهِ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَالثَّانِيَةُ : لَا إعَادَةَ عَلَيْهِمْ ، وَهُوَ
أَظْهَرُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ
.
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُمْ عَمِلُوا عَلَى
اجْتِهَادِهِمْ ، فَجَازَ لَهُمْ كَمَا لَوْ أَخْطَئُوا الْقِبْلَةَ .
وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُمْ تَبَيَّنَ لَهُمْ
الْخَطَأُ ، فَعَادُوا إلَى الصَّوَابِ كَحُكْمِ الْحَاكِمِ ، وَالْمُضَاءُ عَلَى
الصَّلَاةِ ، وَتَرْكُ الْإِعَادَةِ أُولَى ؛ لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا أُمِرُوا
بِهِ ، وَاجْتَهَدُوا وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِمْ
لَا فِي الْقِبْلَةِ وَلَا فِي الْخَوْفِ وَلَا فِي أَمْثَالِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ :
إذَا تَابَعَ الطَّعْنَ وَالضَّرْبَ فَسَدَتْ الصَّلَاةُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ
حِينَئِذٍ صَلَاةً ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مُحَارَبَةً .
قُلْنَا : يَا حَبَّذَا الْفَرْضَانِ إذَا اجْتَمَعَا ، وَإِذَا
كَانَتْ الْحَرَكَةُ لَعِبًا لَمْ تَنْتَظِمْ مَعَ الصَّلَاةِ ، أَمَّا إذَا
كَانَتْ عِبَادَةً وَاجِبَةً وَتُعُيِّنَتَا جَمِيعًا جَمَعَ بَيْنَهُمَا
فَيُصَلِّي وَيُقَاتِلُ ؛ وَعُمُومُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ رُكْبَانًا ، وَعَلَى أَقْدَامِهِمْ ، وَمُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ
مُسْتَقْبِلِيهَا } يُعْطِي جَوَازَ قَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ الْمُزَنِيّ : لَا
يَفْتَقِرُ الْقَصْرُ وَالْخَوْفُ إلَى تَجْدِيدِ نِيَّةٍ ، وَهَذِهِ إحْدَى
خَطِيئَاتِهِ ؛ فَلَهُ انْفِرَادَاتٌ يَخْرُجُ فِيهَا عَنْ مَقَامِ
الْمُتَثَبِّتِينَ .
وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ طَارِئَةٌ ، فَلَا
بُدَّ لَهَا مِنْ تَجْدِيدٍ مِنْ نِيَّةٍ كَالْجُمُعَةِ .
فَإِنْ قِيلَ الْجُمُعَةُ بَدَلٌ عَنْ الظُّهْرِ ،
فَلِذَلِكَ افْتَقَرَتْ إلَى نِيَّةٍ مَحْدُودَةٍ .
قُلْنَا :
رُبَّمَا قَلَبْنَا الْأَمْرَ ، فَقُلْنَا الْجُمُعَةُ
أَصْلٌ وَالظُّهْرُ بَدَلٌ ، فَكَيْفَ يَكُونُ كَلَامُهُمْ ؟ الثَّانِي : إنَّا نَقُولُ
: وَهَبْكُمْ سَلَّمْنَا لَكُمْ أَنَّ الْجُمُعَةَ بَدَلٌ ، أَلَيْسَتْ صَلَاةُ
الْقَصْرِ بَدَلًا ، وَصَلَاةُ الْخَوْفِ بَدَلًا آخَرَ ؟ فَإِنَّ الْجُمُعَةَ
إنَّمَا قُلْنَا إنَّهَا غَيْرُ صَلَاةِ الظُّهْرِ سَوَاءٌ جَعَلْنَاهَا بَدَلًا
أَوْ أَصْلًا لِأَجْلِ مُخَالَفَتِهَا فِي الصِّفَاتِ وَالشُّرُوطِ وَالْهَيْئَاتِ
، وَهَذَا كُلُّهُ مَوْجُودٌ هَاهُنَا ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ وَأَنْ
تُسْتَأْنَفَ لَهُ نِيَّةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى
أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ } : نَزَلَ عَلَيْهِمْ
الْمَطَرُ ، وَمَرِضَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ مِنْ جُرْحٍ ، فَرَخَّصَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ فِي تَرْكِ السِّلَاحِ وَالتَّأَهُّبِ لِلْعَدُوِّ
بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَالْمَطَرِ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ التَّأَهُّبِ
وَالْحَذَرِ مِنْ الْعَدُوِّ وَتَرْكِ الِاسْتِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ الْجَيْشَ مَا
جَاءَهُ قَطُّ مُصَابٌ إلَّا مِنْ تَفْرِيطٍ فِي حَذَرٍ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى
جَنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إنَّ الصَّلَاةَ
كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } .
قَالَ قَوْمٌ : هَذِهِ الْآيَةُ وَاَلَّتِي فِي آلِ عِمْرَانَ
سَوَاءٌ ، وَهَذَا عِنْدِي بَعِيدٍ ؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
دَخَلَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاةِ الْخَوْفِ ، فَاحْتَمَلَ أَنْ
يَكُونَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلَاةَ
} أَيْ فَرَغْتُمْ مِنْهَا فَافْزَعُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ ، وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
هَذِهِ الْحَالِ ، كَمَا قَالَ : { فَإِذَا فَرَغْت فَانْصَبْ } .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ فَإِذَا قَضَيْتُمْ
الصَّلَاةَ إذَا كُنْتُمْ فِيهَا قَاضِينَ لَهَا ، فَأْتُوهَا قِيَامًا وَقُعُودًا
وَعَلَى جَنُوبِكُمْ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَمُصَافَّتِكُمْ لِلْعَدُوِّ وَكَرِّكُمْ
وَفَرِّكُمْ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ ،
وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ } : يَعْنِي بِحُدُودِهَا وَأُهْبَتِهَا وَكَمَالِ هَيْئَتِهَا فِي
السَّفَرِ وَكَمَالِ عَدَدِهَا فِي الْحَضَرِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ
، مِنْهُمْ إبْرَاهِيمُ وَمُجَاهِدٌ : يُصَلِّي رَاحِلًا وَرَاكِبًا ، كَمَا جَاءَ
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَمَا قَدَرَ يُومِئُ إيمَاءً كَمَا جَاءَ فِي هَذِهِ
السُّورَةِ وَيَكُونُ فِي كُلِّ حَالَةٍ حُكْمٌ لَهُ آيَةٌ أُخْرَى تَدُلُّ
عَلَيْهِ وَحُكْمٌ يَنْفَرِدُ بِهِ
.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } : قَالَ
الْعُلَمَاءُ : مَعْنَاهُ مَفْرُوضًا ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مِنْ
الْوَقْتِ ، وَمَا أَظُنُّهُ ؛ لِأَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ الزَّمَانِ ؛
فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ
ذَا الْحُلَيْفَةِ } ؛ فَدَلَّ أَنَّ مَعْنَاهُ مَفْرُوضًا حَقِيقَةً .
وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا مَنُوطَةٌ بِوَقْتٍ فَقَدْ
أَخْطَأَ ، وَقَدْ عَوَّلَتْ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ فِي أَنَّ الصَّلَاةَ
مُرْتَبِطَةٌ بِوَقْتٍ إذَا زَالَ لَمْ تُفْعَلْ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ
الْوَقْتَ مَحَلٌّ لِلْفِعْلِ لَا شَرْطَ فِيهِ ، وَإِنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ
عَلَى الْمُكَلَّفِ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا بِفِعْلِهَا مَضَى الْوَقْتُ أَوْ
بَقِيَ .
وَلَا نَقُولُ إنَّ الْقُضَاةَ بِأَمْرِ ثَانٍ بِحَالٍ .
وَقَدْ رَبَطْنَا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِهِ فِي أُصُولِ
الْفِقْهِ .
وَقَدْ قَالَ غَيْرُهُمْ : إنَّ مَوْقُوتًا مَحْدُودًا
بِأَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ وَسُنَنٍ وَفَرَائِضَ ؛ وَكُلُّ
ذَلِكَ سَائِغٌ لُغَةً مُحْتَمَلٌ مَعْنًى .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إنَّ
لِلصَّلَاةِ وَقْتًا كَوَقْتِ الْحَجِّ
.
قُلْنَا :
قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { إنَّ وَقْتَ الصَّلَاةِ وَقْتٌ لِلذِّكْرِ } ، وَكَمَا دَامَ
ذِكْرُهَا وَجَبَ فِعْلُهَا وَأَدَاؤُهَا .
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى
: { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ
بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لَلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } فِيهَا ثَلَاثُ
مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ بَنِي
أُبَيْرِقٍ ؛ سَرَقُوا طَعَامَ رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَاعْتَذَرَ عَنْهُمْ
قَوْمُهُمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ خَيْرٍ ، { فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ ذَلِكَ ، فَطَالَبَهُمْ عَنْ
عَمِّهِ رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ ، فَقَالَ رِفَاعَةُ : اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَنَصَرَ رِفَاعَةَ وَأَخْزَى اللَّهُ بَنِي أُبَيْرِقٍ بِقَوْلِهِ : {
بِمَا أَرَاك اللَّهُ } } أَيْ بِمَا أَعْلَمَك ، وَذَلِكَ بِوَحْيٍ أَوْ بِنَظَرٍ
، وَنَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ عَضُدِ أَهْلِ التُّهَمِ وَالدِّفَاعِ عَنْهُمْ بِمَا يَقُولُهُ خَصْمُهُمْ
مِنْ الْحُجَّةِ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّ النِّيَابَةَ عَنْ الْمُبْطَلِ وَالْمُتَّهَمِ فِي الْخُصُومَةِ لَا تَجُوزُ
، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ .
الْآيَةُ الْمُوَفِّيَةُ خَمْسِينَ : قَوْله تَعَالَى :
{ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ
مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ
مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } هَذِهِ الْآيَةُ آيَةٌ بِكْرٌ
لَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ فِيهَا ذِكْرٌ ، وَاَلَّذِي عِنْدِي فِيهَا أَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ بِأَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْإِخْلَاصُ ، وَهُوَ
أَنْ يَسْتَوِيَ ظَاهِرُ الْمَرْءِ وَبَاطِنُهُ .
وَالثَّانِي : النَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ .
فَالنَّجْوَى خِلَافُ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ ، وَبَعْدَ
هَذَا فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ لِلْخَلْقِ مِنْ أَمْرٍ يَخْتَصُّونَ بِهِ فِي
أَنْفُسِهِمْ ، وَيَخُصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، فَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ
بِصِفَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ؛ وَالْحَثِّ عَلَى الصَّدَقَةِ ، وَالسَّعْيِ
فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَفِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ
: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ
نَجْوَاهُمْ } : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّجْوَى مَصْدَرًا ، كَالْبَلْوَى وَالْعَدْوَى
، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْمُنْتَجِينَ كَمَا قَالَ : { وَإِذْ هُمْ
نَجْوَى } .
فَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْمُنْتَجِينَ فَقَوْلُهُ : {
إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ }
اسْتِثْنَاءُ شَخْصٍ مِنْ شَخْصٍ ، وَإِنْ كَانَ
مَصْدَرًا جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى حَذْفِ تَقْدِيرِهِ : إلَّا نَجْوَى مَنْ
أَمَرَ بِصَدَقَةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي صِفَةِ النَّجْوَى : ثَبَتَ عَنْ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا
كَانَ ثَلَاثَةٌ فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ } .
وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ :
مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ ، وَهُوَ ضَرَرٌ
؛ وَالضَّرَرُ لَا يَحِلُّ بِإِجْمَاعٍ ، وَبِالنَّصِّ : { لَا ضَرَرَ وَلَا
ضِرَارَ } .
الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ
حِينَ كَانَ النَّاسُ بَيْنَ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَمُنَافِقٍ وَمُخْلِصٍ ، حَتَّى
فَشَا الْإِسْلَامُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ .
الثَّالِثُ : أَنَّ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ حَيْثُ
يَتَوَقَّعُ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ حِيلَةٍ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ مِنْ حُسْنِ الْأَخْلَاقِ وَجَمِيلِ
الْأَدَبِ ؛ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْأَوَّلِ .
وَالصَّحِيحُ بَقَاءُ النَّهْيِ وَتَمَادِي الْأَمْرِ
وَعُمُومُهُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ
.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ .
{ مَخَافَةَ أَنْ يُحْزِنَهُ } .
وَأَيْضًا فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَمْشِي مَعَ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ ، فَأَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يُكَلِّمَهُ فَدَعَا
رَابِعًا ، وَأَوْقَفَهُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ رَيْثَمَا تَكَلَّمَ
الرَّجُلُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ
عَنْ مَالِكٍ : لَا يَتَنَاجَى ثَلَاثَةٌ دُونَ يَعْنِي أَرْبَعٌ ، وَهَذَا
صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ إذَا عُلِمَتْ بِالنَّظَرِ اطَّرَدَتْ حَيْثُمَا
وُجِدَتْ ، وَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهَا أَيْنَمَا كَانَتْ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ تَحْزِينُ
الْوَاحِدِ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ، وَكُلَّمَا كَثُرَ الْعَدَدُ
كَانَ التَّحْزِينُ أَكْثَرَ ، فَيَكُونُ الْمَنْعُ آكَدَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا ثَبَتَ أَنَّ نَهْيَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَلَّلٌ بِتَحْزِينِ الْوَاحِدِ
فَإِذَا اسْتَأْذَنَهُ فَأَذِنَ لَهُ جَازَ وَلَمْ يَحْرُمْ .
وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى
{ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلِأُمَنِّيَنهمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ
الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ
وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا } .
فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رَوَى أَبُو
الْأَحْوَصِ قَالَ : { أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَشِفَ الْهَيْئَةِ ، فَصَعَّدَ فِي النَّظَرِ وَصَوَّبَهُ فَقَالَ : هَلْ لَك
مِنْ مَالٍ ؟ قُلْت : نَعَمْ .
قَالَ
: مِنْ أَيِّ الْمَالِ ؟ قُلْت : مِنْ كُلِّ الْمَالِ
آتَانِي اللَّهُ فَأَكْثَرَ وَأَطْيَبَ ؛ الْخَيْلُ وَالْإِبِلُ وَالرَّقِيقُ
وَالْغَنَمُ .
قَالَ : فَإِذَا آتَاك اللَّهُ مَالًا فَلْيُرَ عَلَيْك .
ثُمَّ قَالَ : هَلْ تُنْتِجُ إبِلُ قَوْمِك صِحَاحًا
آذَانُهَا فَتَعْمِدُ إلَى الْمَوْسِيِّ فَتَشُقُّ آذَانَهَا ، فَتَقُولَ : هَذِهِ
بَحْرٌ ؛ وَتَشُقَّ جُلُودَهَا ، وَتَقُولَ : هَذِهِ صُرُمٌ لِتُحَرِّمَهَا
عَلَيْك وَعَلَى أَهْلِك ؟ قَالَ : قُلْت : أَجَلْ .
قَالَ : فَكُلُّ مَا أَتَاك اللَّهُ حِلٌّ وَمُوسَى
اللَّهِ أَحَدُّ ، وَسَاعِدُهُ أَشَدُّ الْحَدِيثَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : لَمَّا كَانَ مِنْ
إبْلِيسَ مَا كَانَ مِنْ الِامْتِنَاع مِنْ السُّجُودِ وَالِاعْتِرَاضِ عَلَى
الْآمِرِ بِهِ بِالتَّسْفِيهِ أَنْفَذَ اللَّهُ فِيهِ حُكْمَهُ وَأَحَقَّ عَلَيْهِ
لَعَنَتْهُ ، فَسَأَلَهُ النَّظْرَةَ ، فَأَعْطَاهُ إيَّاهَا زِيَادَةً فِي
لَعْنَتِهِ ، فَقَالَ لِرَبِّهِ : { لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا
مَفْرُوضًا وَلِأُضِلَّنَّهُمْ وَلِأُمَنِّيَنهمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ
اللَّهِ } وَكَانَ مَا أَرَادَ ، وَفَعَلَتْ الْعَرَبُ مَا وَعَدَ بِهِ الشَّيْطَانُ
، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ ، وَذَلِكَ تَعْذِيبٌ لِلْحَيَوَانِ وَتَحْرِيمٌ
، وَتَحْلِيلٌ بِالطُّغْيَانِ ، وَقَوْلٌ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ ،
وَالْآذَانُ فِي الْأَنْعَامِ جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ ، فَلِذَلِكَ رَأَى
الشَّيْطَانُ أَنْ يُغَيِّرَ بِهَا خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَيَرْكَبُ عَلَى
ذَلِكَ التَّغْيِيرِ
الْكُفْرُ بِهِ ، لَا جَرَمَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ فِي الْأُضْحِيَّةِ أَنْ تُسْتَشْرَفَ
الْعَيْنُ وَالْآذَانُ فِي الْأَنْعَامِ } ، مَعْنَاهُ أَنْ تُلْحَظَ الْأُذُنُ ؛
لِئَلَّا تَكُونَ مَقْطُوعَةً أَوْ مَشْقُوقَةً ؛ فَتُجْتَنَبُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ
فِيهَا أَثَرَ الشَّيْطَانِ .
وَفِي الْحَدِيثِ : { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَرِيطَةِ الشَّيْطَانِ } ، وَهِيَ هَذِهِ ، وَشَبَّهَهَا
مِمَّا وَفَّى فِيهَا لِلشَّيْطَانِ بِشَرْطِهِ حِينَ قَالَ : { فَلَيُبَتِّكُنَّ
آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلْيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : ثَبَتَ { أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَمِّ الْغَنَمَ فِي آذَانِهَا } ، وَكَأَنَّ هَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ تَغْيِيرِ
خَلْقِ اللَّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَلِّدُ الْهَدْيَ وَيُشْعِرُهُ أَيْ يَشُقُّ
جِلْدَهُ ، وَيُقَلِّدُهُ نَعْلَيْنِ ، وَيُسَاقُ إلَى مَكَّةَ نُسُكًا } ؛
وَهَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ بِدْعَةٌ ؛ كَأَنَّهُ
لَمْ يَسْمَعْ بِهَذِهِ الشَّعِيرَةِ فِي الشَّرِيعَةِ ، لَهِيَ [ فِيهَا ]
أَشْهَرُ مِنْهُ فِي الْعُلَمَاءِ
.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : وَسْمُ الْإِبِلِ
وَالدَّوَابِّ بِالنَّارِ فِي أَعْنَاقِهَا وَأَفْخَاذِهَا مُسْتَثْنًى مِنْ
التَّغْيِيرِ لِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى كَاسْتِثْنَاءِ مَا سَلَف .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ ،
وَالنَّامِصَةَ وَالْمُتَنَمِّصَةَ ، وَالْوَاشِرَةَ وَالْمُوتَشِرَةَ ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ
لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ } .
فَالْوَاشِمَةُ هِيَ الَّتِي تَجْرَحُ الْبَدَنَ نُقَطًا
أَوْ خُطُوطًا ، فَإِذَا جَرَى الدَّمُ حَشَتْهُ كُحْلًا ، فَيَأْتِي خِيلَانًا
وَصُوَرًا فَيَتَزَيَّنُ بِهَا النِّسَاءُ لِلرِّجَالِ ؟ وَرِجَالُ صِقِلِّيَّةَ
وَإِفْرِيقِيَّةَ يَفْعَلُونَهُ لِيَدُلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى
رُجْلَتِهِ فِي حَدَاثَتِهِ .
وَالنَّامِصَةُ : هِيَ نَاتِفَةُ الشَّعْرِ ،
تَتَحَسَّنُ بِهِ .
وَأَهْلُ مِصْرَ يَنْتِفُونَ شَعْرَ الْعَانَةِ ، وَهُوَ
مِنْهُ ؛ فَإِنَّ السُّنَّةَ حَلْقُ الْعَانَةِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ ، فَأَمَّا
نَتْفُ الْفَرْجِ فَإِنَّهُ يُرْخِيهِ وَيُؤْذِيهِ وَيُبْطِلُ كَثِيرًا مِنْ الْمَنْفَعَةِ
فِيهِ .
وَالْوَاشِرَةُ : هِيَ الَّتِي تُحَدِّدُ أَسْنَانَهَا .
وَالْمُتَفَلِّجَةُ : هِيَ الَّتِي تَجْعَلُ بَيْنَ
الْأَسْنَانِ فَرْجًا وَهَذَا كُلُّهُ تَبْدِيلٌ لِلْخِلْقَةِ ، وَتَغْيِيرٌ
لِلْهَيْئَةِ ، وَهُوَ حَرَامٌ
.
وَبِنَحْوِ هَذَا قَالَ الْحَسَنُ فِي الْآيَةِ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا :
التَّغْيِيرُ لِخَلْقِ اللَّهِ يُرِيدُ بِهِ دِينَ اللَّهِ ؛ وَذَلِكَ وَإِنْ
كَانَ مُحْتَمِلًا فَلَا نَقُولُ : إنَّهُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ ، وَلَكِنَّهُ
مِمَّا غَيَّرَ الشَّيْطَانُ وَحَمَلَ الْآبَاءَ عَلَى تَغْيِيرِهِ ، وَكُلُّ
مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، ثُمَّ يَقَعُ التَّغْيِيرُ عَلَى يَدِي الْأَبِ
وَالْكَافِلِ وَالصَّاحِبِ ، وَذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ
مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمِنْ التَّابِعِينَ جُمْلَةً : تَوْخِيَةُ الْخِصَاءِ تَغْيِيرُ
خَلْقِ اللَّهِ .
فَأَمَّا فِي الْآدَمِيِّ فَمُصِيبَةٌ ، وَأَمَّا فِي [
الْحَيَوَانِ ] وَالْبَهَائِمِ فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ
قَالَ : هُوَ مَكْرُوهٌ ، لِأَجْلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } .
وَرَوَى مَالِكٌ كَرَاهِيَتَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
وَقَالَ : فِيهِ نَمَاءُ الْخَلْقِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ
قَالَ : إنَّهُ جَائِزٌ ؛ وَهُمْ الْأَكْثَرُ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ بِهِ
تَعْلِيقَ الْحَالِ بِالدِّينِ لِصَنَمٍ يُعْبَدُ ، وَلَا لِرَبٍّ يُوَحَّدُ
وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ تَطْيِيبُ اللَّحْمِ فِيمَا يُؤْكَلُ ، وَتَقْوِيَةُ
الذَّكَرِ إذَا انْقَطَعَ أَمَلُهُ عَنْ الْأُنْثَى ، وَالْآدَمِيُّ عَكْسُهُ إذَا
خُصِيَ بَطَلَ قَلْبُهُ وَقُوَّتُهُ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : رَوَى عُلَمَاؤُنَا أَنَّ
طَاوُسًا كَانَ لَا يَحْضُرُ نِكَاحَ سَوْدَاءَ بِأَبْيَضَ ، وَلَا بَيْضَاءَ
بِأَسْوَدَ ، وَيَقُولُ : هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ : { فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ
اللَّهِ } .
وَهُوَ أَنْ كَانَ يَحْتَمِلُهُ عُمُومُ اللَّفْظِ
وَمُطْلَقُهُ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِمَا أَنَفَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نِكَاحِ مَوْلَاهُ زَيْدٍ ، وَكَانَ أَبْيَضَ ،
بِظِئْرِهِ بَرَكَةَ الْحَبَشِيَّةَ أُمِّ أُسَامَةَ ، فَكَانَ أُسَامَةُ أَسْوَدَ
مِنْ أَبْيَضَ ، وَهَذَا مِمَّا خَفِيَ عَلَى طَاوُسٍ مِنْ عِلْمِهِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَيَسْتَفْتُونَك فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا
يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا
تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى
بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ عِنْدَ قَوْلِنَا فِي آيَةِ : {
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى } .
وَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ : { كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ فَلَا يُجِيبُ ، حَتَّى
يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ } ، وَذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { يَسْتَفْتُونَك قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ } .
{ وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْيَتَامَى } .
{ يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } .
{ وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْجِبَالِ } .
هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
كَثِيرٌ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : طَلَبْنَا مَا قَالَ مَالِكٌ
فَوَجَدْنَاهُ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا : قَوْلُهُ : { يَسْأَلُونَك عَنْ
الشَّهْرِ الْحَرَامِ } .
{ يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } .
{ وَيَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفِقُونَ } .
{ وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْيَتَامَى } .
{ وَيَسْتَفْتُونَك فِي النِّسَاءِ } .
{ يَسْأَلُك أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ
عَلَيْهِمْ كِتَابًا } .
{ يَسْتَفْتُونَك قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي
الْكَلَالَةِ } .
{ يَسْأَلُونَك مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ } .
{ يَسْأَلُونَك عَنْ السَّاعَةِ } .
{ يَسْأَلُك النَّاسُ عَنْ السَّاعَةِ } .
{ يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَالِ } .
{ وَيَسْأَلُونَك عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ } .
{ وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْجِبَالِ } .
{ وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْمَحِيضِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى {
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْوِلْدَانِ } : الَّذِينَ لَا أَبَ لَهُمْ ،
أَكَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَمْرَهُمْ وَأَكَّدَ أَمْرَ الْيَتَامَى ، وَهُمْ
الَّذِينَ لَا أَبًا لَهُمْ ؛ فَيُحْتَمَلُ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ :
أَنْ يَكُونُوا هُمْ ، أَكَّدَ أَمْرَهُمْ بِلَفْظٍ آخَرَ أَخَصَّ بِهِ مِنْ
الضَّعْفِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْمُسْتَضْعَفِينَ مَنْ كَانَ هُوَ
وَأَبُوهُ ضَعِيفًا ، وَالْيَتِيمُ الْمُنْفَرِدُ بِالضَّعْفِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ
يُرِيدَ بِالْمُسْتَضْعَفِينَ مَنْ رَمَاهُ أَهْلُهُ وَدَفَعَهُ أَبُوهُ عَنْ
نَفْسِهِ لِعَجْزِهِ عَنْ أَمْرِهِ
.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ
وَأُحْضِرَتْ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } قَالَتْ عَائِشَةُ : هِيَ الْمَرْأَةُ تَكُونُ
عِنْدَ الرَّجُلِ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا أَنْ يُفَارِقَهَا ، فَيَقُولُ :
أَجْعَلُك مِنْ شَأْنِي فِي حِلٍّ ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ .
قَالَ الْقَاضِي رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى
الصِّدِّيقَة الطَّاهِرَةِ : لَقَدْ وَفَتَّ مَا حَمَلَهَا رَبُّهَا مِنْ الْعَهْدِ فِي
قَوْلِهِ : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } .
وَلَقَدْ خَرَجَتْ فِي ذَلِكَ عَنْ الْعَهْدِ .
{ وَهَذَا كَانَ شَأْنُهَا مَعَ سَوْدَةَ بِنْتِ
زَمْعَةَ لَمَّا أَسَنَّتْ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْ يُطَلِّقَهَا فَآثَرَتْ الْكَوْنَ مَعَ زَوْجَاتِهِ .
فَقَالَتْ لَهُ : امْسِكْنِي وَاجْعَلْ يَوْمِي
لِعَائِشَةَ ، فَفَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَاتَتْ وَهِيَ مِنْ
أَزْوَاجِهِ } .
وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ بِذَلِكَ فَقَالَ
: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَائِشَةَ .
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى الرُّعْنِ الَّذِينَ
يَرَوْنَ الرَّجُلَ إذَا أَخَذَ شَبَابَ الْمَرْأَةِ وَأَسَنَّتْ لَا يَنْبَغِي
لَهُ أَنْ يَتَبَدَّلَ بِهَا ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَفَعَ حَرَجًا
وَجَعَلَ مِنْ هَذِهِ الضِّيقَةِ مَخْرَجًا .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ
فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذْرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا
وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ
الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ
مَا لَا يُطَاقُ ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَلَّفَ الرِّجَالَ الْعَدْلَ
بَيْنَ النِّسَاءِ ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَهُ ، وَهَذَا وَهْمٌ
عَظِيمٌ ، فَإِنَّ الَّذِي كَلَّفَهُمْ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْعَدْلُ فِي الظَّاهِرِ
الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ : { ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } .
وَهَذَا أَمْرٌ مُسْتَطَاعٌ ، وَاَلَّذِي أَخْبَرَ
عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَهُ لَمْ يُكَلِّفْهُمْ قَطُّ إيَّاهُ ؛
وَهُوَ النِّسْبَةُ فِي مَيْلِ النَّفْسِ ؛ وَلِهَذَا { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْدِلُ بَيْنَ نِسَائِهِ فِي الْقَسَمِ ، وَيَجِدُ نَفْسَهُ
أَمْيَلَ إلَى عَائِشَةَ فِي الْحُبِّ ، فَيَقُولُ : اللَّهُمَّ هَذِهِ قُدْرَتِي
فِيمَا أَمْلِكُ ، فَلَا تَسْأَلْنِي فِي الَّذِي تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ }
يَعْنِي قَلْبَهُ ، وَالْقَاطِعُ لِذَلِكَ ، الْحَاسِمُ لِهَذَا الْإِشْكَالِ
أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ رَفَعَ الْحَرَجَ عَنَّا فِي
تَكْلِيفِ مَا لَا نَسْتَطِيعُ فَضْلًا ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَنَا
إيَّاهُ حَقًّا وَخُلُقًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
سِيرِينَ : سَأَلْت عَبِيدَةُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ : هُوَ الْحُبُّ
وَالْجِمَاعُ .
وَصَدَقَ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ ؛ إذْ
قَلْبُهُ بَيْنَ إصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ ، يُصَرِّفُهُ كَيْفَ
يَشَاءُ .
وَكَذَلِكَ الْجِمَاعُ قَدْ يَنْشَطُ لِلْوَاحِدَةِ مَا
لَا يَنْشَطُ لِلْأُخْرَى ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِقَصْدٍ مِنْهُ فَلَا
حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهِ ، فَإِنَّهُ مِمَّا لَا يَسْتَطِيعُهُ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ
بِهِ تَكْلِيفٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَلَا
تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ }
: قَالَ الْعُلَمَاءُ : أَرَادَ تَعَمُّدَ الْإِتْيَانِ
، وَذَلِكَ فِيمَا يَمْلِكُهُ وَجَعَلَ إلَيْهِ ، مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ
وَالْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى
: { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ
لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إنْ
يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاَللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا
الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } .
فِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَصَمَ إلَيْهِ رَجُلَانِ : غَنِيٌّ وَفَقِيرٌ ، فَكَانَ ضِلْعُهُ
مَعَ الْفَقِيرِ ، يَرَى أَنَّ الْفَقِيرَ لَا يَظْلِمُ الْغَنِيَّ ، فَأَبَى
اللَّهُ إلَّا أَنْ يَقُومَ بِالْقِسْطِ فِي الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْقِسْطُ : الْعَدْلُ .
بِكَسْرِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ ، وَالْقَسْطُ
بِفَتْحِهَا : الْجَوْرُ وَيُقَالُ : أَقْسَطَ إذَا عَدَلَ ، وَقَسَطَ إذَا جَارَ
، وَلَعَلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ : قَسَطَ الْبَعِيرُ قَسْطًا إذَا يَبِسَتْ يَدُهُ ،
فَلَعَلَّ أَقْسَطَ سَلْبُ قَسَطَ ، فَقَدْ يَأْتِي بِنَاءُ أَفْعَلَ لِلسَّلْبِ .
كَقَوْلِهِ : أَعْجَمَ الْكِتَابُ إذَا سَلَبَ
عُجْمَتَهُ بِالضَّبْطِ .
وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ ،
وَهِيَ عَامَّةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ } : يَعْنِي فَعَّالِينَ ، مِنْ قَامَ ، وَاسْتَعَارَ
الْقِيَامَ لِامْتِثَالِ الْحَقِّ ؛ لِأَنَّهُ يُفْعَلُ فِي مُهِمَّاتِ الْأُمُورِ
وَهِيَ غَايَةُ الْفِعْلِ لَنَا ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ الْحَيُّ
الْقَيُّومُ ، وَالْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبْتِ فَضَرَبَهُ
هَاهُنَا مَثَلًا لِغَايَةِ الْقِيَامِ بِالْعَدْلِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : { شُهَدَاءَ لِلَّهِ } :
كُونُوا مِمَّنْ يُؤَدِّي الشَّهَادَةَ لِلَّهِ وَلِوَجْهِهِ ، فَيُبَادِرُ بِهَا
قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا ، وَيَقُولُ الْحَقَّ فِيهَا ، وَإِنَّ اللَّهَ يَشْهَدُ بِالْحَقِّ
، وَالْمَلَائِكَةُ وَأَوَّلُو الْعِلْمِ وَعُدُولُ الْأُمَّةِ ، وَكُلُّ مَنْ
قَامَ بِالْقِسْطِ فَقَدْ شَهِدَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْحَقِّ ، وَكُلُّ مَنْ
قَامَ لِلَّهِ فَقَدْ شَهِدَ بِالْقِسْطِ ، وَلِهَذَا نَزَلَتْ الْآيَةُ
الْأُخْرَى فِي الْمَائِدَةِ بِمَقْلُوبِ هَذَا النَّظْمِ ، وَهُوَ مِثْلُهُ فِي
الْمَعْنَى كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا
.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى
: { وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } : أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَبْدَ بِأَنْ
يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحَقِّ ، وَيُسَمِّي الْإِقْرَارَ عَلَى نَفْسِهِ
شَهَادَةً ، كَمَا تُسَمَّى الشَّهَادَةُ عَلَى الْغَيْرِ الْإِقْرَارَ .
وَفِي حَدِيثِ { مَاعِزٍ : فَلَمْ يَرْجُمْهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ
مَرَّاتٍ } ، وَلَا يُبَالِي الْمَرْءُ أَنْ يَقُولَ الْحَقَّ عَلَى نَفْسِهِ
لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا فَاَللَّهُ يَفْتَحُ لَهُ .
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ
لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } إلَّا أَنَّهُ فِي
بَابِ الْحُدُودِ نَدَبَ إلَى أَنْ يَسْتُرَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَتُوبَ حَتَّى
يَحْكُمَ اللَّهُ لَهُ ؛ بَلْ إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ
بِالْحَدِّ إذَا رَأَى غَيْرَهُ قَدْ اُبْتُلِيَ بِهِ وَهُوَ صَاحِبُهُ ،
فَيَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ لِيُخَلِّصَهُ وَيُبَرِّئَهُ .
رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ { عَنْ الْحَلَّاجِ
أَنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ فِي السُّوقِ فَرَمَتْ امْرَأَةٌ صَبِيًّا .
قَالَ :
فَثَارَ النَّاسُ وَثُرْت فِيمَنْ ثَارَ ، فَانْتَهَيْت
إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ : مَنْ أَبُو
هَذَا مَعَك ؟ فَقَالَ فَتًى حِذَاءَهَا : أَنَا أَبُوهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا فَقَالَ : مَنْ أَبُو هَذَا مَعَك
؟ فَسَكَتَتْ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
إنَّهَا حَدِيثَةُ السِّنِّ حَدِيثَةُ عَهْدٍ بِحُزْنٍ وَلَيْسَتْ تُكَلِّمُك ،
أَنَا أَبُوهُ ؛ فَنَظَرَ إلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَأَنَّهُ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ
، فَقَالُوا : مَا عَلِمْنَا إلَّا خَيْرًا .
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : أَحْصَنْت .
قَالَ : نَعَمْ ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ .
قَالَ : فَخَرَجْنَا فَحَفَرْنَا لَهُ حَتَّى
أَمْكَنَّاهُ ثُمَّ رَمَيْنَاهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى هَدَأَ مُحْتَضَرًا } .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ
الْوَالِدَيْنِ } : أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ عَلَى
الْوَالِدَيْنِ : الْأَبِ وَالْأُمِّ ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ
الِابْنِ عَلَى الْأَبَوَيْنِ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ بِرَّهُمَا ، بَلْ مِنْ بِرِّهِمَا
أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِمَا بِالْحَقِّ ، وَيُخْلِصَهُمَا مِنْ الْبَاطِلِ ، وَهُوَ
مِنْ قَوْله تَعَالَى : { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } فِي بَعْضِ
مَعَانِيه .
وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ
الِابْنِ عَلَى الْأَبَوَيْنِ ، فَإِنْ شَهِدَ لَهُمَا أَوْ شَهِدَا لَهُ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا ؛
فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ : كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ يُجِيزُونَ شَهَادَةَ
الْوَالِدِ وَالْأَخِ لِأَخِيهِ ، وَيَتَأَوَّلُونَ فِي ذَلِكَ قَوْلَ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ } ؛ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَتَّهِمُ فِي ذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ
الصَّالِحِ ، ثُمَّ ظَهَرَتْ مِنْ النَّاسِ أُمُورٌ حَمَلَتْ الْوُلَاةَ عَلَى
اتِّهَامِهِمْ ، فَتُرِكَتْ شَهَادَةُ مِنْ يُتَّهَمُ ، وَصَارَ ذَلِكَ لَا
يَجُوزُ فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ وَالْأَخِ وَالزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ ، وَهُوَ
مَذْهَبُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَشُرَيْحٍ وَمَالِكٍ
وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ
شَهَادَةِ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ ، وَقَدْ أَجَازَ قَوْمٌ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ
إذَا كَانُوا عُدُولًا .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَجَازَهُ ، وَكَذَلِكَ
رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَأَبُو
ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ .
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ جَوَازُ شَهَادَةِ الْأَخِ لِأَخِيهِ
إذَا كَانَ عَدْلًا إلَّا فِي النَّسَبِ .
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ
إذَا كَانَ فِي عِيَالِهِ أَوْ فِي نَصِيبٍ مِنْ مَالٍ يَرِثُهُ ، وَلَا تَجُوزُ
عِنْدَ مَالِكٍ شَهَادَةُ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ
؛
وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ .
وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الصَّدِيقِ الْمُلَاطِفِ
عِنْدَهُ ، وَلَا إذَا كَانَ فِي عِيَالِهِ .
وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ أَصْلَ الشَّرِيعَةِ لَا تَجُوزُ
شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ وَلَا الْوَلَدِ لِلْوَالِدِ لِمَا بَيْنَهَا
مِنْ الْبَعْضِيَّةِ ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا
فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا } .
وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ لَا تَجُوزُ ،
إلَّا أَنَّ مَنْ تَقَدَّمَ قَالَ : إنَّهُ كَانَ يُسَامِحُ فِيهِ .
وَمَا رَوَى قَطُّ أَحَدٌ أَنَّهُ نَفَذَ قَضَاءٌ
بِشَهَادَةِ وَلَدٍ لِوَالِدِهِ وَلَا وَالِدٍ لِوَلَدِهِ ، وَإِنَّمَا مَعْنَى
الْمُسَامَحَةِ فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُصَرِّحُونَ بِرَدِّهَا ، وَلَا يُحَذِّرُونَ
مِنْهَا لِصَلَاحِ النَّاسِ ، فَلَمَّا فَسَدُوا وَقَعَ التَّحْذِيرُ ، وَنَبَّهَ
الْعُلَمَاءُ عَلَى الْأَصْلِ ، فَظَنَّ مَنْ تَغَافَلَ أَوْ غَفَلَ أَنَّ
الْمَاضِينَ جَوَّزُوهَا ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ قَطُّ ؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { إنَّ مِنْ أَطْيَبِ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ
كَسْبِهِ ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ } .
وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ جُزْءًا مِنْهُ فِي الْإِسْلَامِ
؛ وَتَبَعًا لَهُ فِي الْإِيمَانِ ، فَهُوَ مُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ أَبِيهِ
بِإِجْمَاعٍ ، وَمُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ أُمِّهِ بِاخْتِلَافٍ ، وَمَالُهُ لِأَبِيهِ
حَيًّا وَمَيِّتًا ، وَهَكَذَا فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ ، وَلَا بَيَانَ فَوْقَ
هَذَا .
وَالْأَخُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهَا بَعْضِيَّةٌ
فَإِنَّهَا بَعِيدَةٌ حَقِيقَةً وَعَادَةً ، فَجَوَّزَهَا الْعُلَمَاءُ فِي
جَانِبِ الْأَخِ بِشَرْطِ الْعَدَالَةِ الْمُبَرِّرَةِ ، مَا لَمْ تَجُرَّ نَفْعًا .
وَخَالَفَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ : يَجُوزُ شَهَادَةُ
الزَّوْجَيْنِ بَعْضِهِمَا لِبَعْضٍ ؛ لِأَنَّهُمَا أَجْنَبِيَّانِ ؛ وَإِنَّمَا
بَيْنَهُمَا عَقْدُ الزَّوْجِيَّةِ ، وَهُوَ سَبَبٌ مُعَرَّضٌ لِلزَّوَالِ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ : فَإِنَّ الزَّوْجِيَّةَ تُوجِبُ
الْحَنَانَ وَالتَّعَطُّفَ وَالْمُوَاصَلَةَ وَالْأُلْفَةَ وَالْمَحَبَّةَ ،
وَلَهُ حَقٌّ فِي مَالِهَا عِنْدَنَا ، وَلِذَلِكَ لَا تَتَصَرَّفُ فِي
الْهِبَةِ إلَّا فِي ثُلُثِهَا .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ،
وَلَهَا فِي مَالِهِ حَقُّ الْكِسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ ، وَهَذِهِ شُبْهَةٌ تُوجِبُ
رَدَّ الشَّهَادَةِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : أَلْحَقَ مَالِكٌ
الصَّدِيقَ الْمُلَاطِفَ بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ ؛ فَهِيَ فِي الْعَادَةِ
أَقْوَى مِنْهَا ، وَهِيَ فِي الْمَوَدَّةِ ؛ فَكَانَتْ مِثْلَهَا فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إنْ يَكُنْ
غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاَللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا } : الْمَعْنَى لَا تَمِيلُوا
بِالْهَوَى مَعَ الْفَقِيرِ لِضَعْفِهِ ، وَلَا عَلَى الْغَنِيِّ لِاسْتِغْنَائِهِ
، وَكُونُوا مَعَ الْحَقِّ ؛ فَاَللَّهُ الَّذِي أَغْنَى هَذَا وَأَفْقَرَ هَذَا
أَوْلَى بِالْفَقِيرِ أَنْ يُغْنِيَهُ بِفَضْلِهِ بِالْحَقِّ لَا بِالْهَوَى
وَالْبَاطِلِ ، وَاَللَّهُ أَوْلَى بِالْغَنِيِّ أَنْ يَأْخُذَ مَا فِي يَدِهِ
بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ ، لَا بِالتَّحَامُلِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّمَا جَعَلَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ عِيَارًا لِمَا يَظْهَرُ مِنْ الْخُبْثِ
وَمِيزَانًا لِمَا يَتَبَيَّنُ مِنْ الْمَيْلِ ، عَلَيْهِ تَجْرِي الْأَحْكَامُ
الدُّنْيَاوِيَّةُ ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُجْرِي الْمَقَادِيرَ بِحِكْمَتِهِ ،
وَيَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحُكْمِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَالَ جَمَاعَةٌ : قَوْله تَعَالَى
: { وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } فَسَوَّى
بَيْنَ الْأَقْرَبِينَ وَالْأَبَوَيْنِ فِي الْأَمْرِ بِالْحَقِّ وَالْوَصِيَّةِ
بِالْعَدْلِ ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِي الدَّرَجَةِ ؛ كَمَا سَوَّى بَيْنَ
الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا أَيْضًا فِي الدَّرَجَةِ ،
وَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ
: لَا تَلْتَفِتُوا فِي الرَّحِمِ قَرُبَتْ أَوْ
بَعُدَتْ فِي الْحَقِّ كُونُوا مَعَهُ عَلَيْهَا ، وَلَوْلَا خَوْفُ الْعَدْلِ
عَنْهُ لَهَا لَمَا خُصُّوا بِالْوَصِيَّةِ بِهَا ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ
وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : { فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ
تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا } : مَعْنَاهُ لَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَكُمْ
فِي طَلَبِ الْعَدْلِ بِرَحْمَةِ الْفَقِيرِ وَالتَّحَامُلِ عَلَى الْغَنِيِّ ،
بَلْ ابْتَغَوْا الْحَقَّ فِيهِمَا ، وَهَذَا بَيَانٌ شَافٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ
تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا } : الْمَعْنَى إنْ مَطَلْتُمْ حَقًّا فَلَمْ
تُنَفِّذُوهُ إلَّا بَعْدَ بُطْءٍ ، أَوْ عَرَضْتُمْ عَنْهُ جُمْلَةً فَاَللَّهُ
خَبِيرٌ بِعَمَلِكُمْ .
يُقَالُ لَوَيْت الْأَمْرَ أَلْوِيه لَيًّا وَلِيَّانًا
، إذَا مَطَلْته قَالَ غَيْلَانُ : تُطِيلِينَ لَيَّانِي وَأَنْتِ مَلِيَّةٌ
وَأُحْسِنُ يَا ذَاتَ الْوِشَاحِ التَّقَاضِيَا وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْأَعْمَشُ :
وَإِنْ تَلُوا ، وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ ، وَأَكْثَرُ ، وَقَدْ رُدَّ إلَى
الْأَوَّلِ بِوَجْهٍ عَرَبِيٍّ ؛ وَذَلِكَ أَنْ تُبْدِلَ مِنْ الْوَاوِ الْآخِرَةِ
هَمْزَةً فَتَكُونَ تَلْوُوا ، ثُمَّ حُذِفَتْ الْهَمْزَةِ وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا
عَلَى الْوَاوِ ، وَالْعَرَبُ تَفْعَل ذَلِكَ .
وَقِيلَ
: إنَّ مَعْنَاهُ تَلُوا مِنْ الْوِلَايَةِ ، أَيْ
اسْتَقْلَلْتُمْ بِالْأَمْرِ أَوْ ضَعُفْتُمْ عَنْهُ فَاَللَّهُ خَبِيرٌ بِذَلِكَ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى :
{ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } .
هَذَا خَبَرٌ ، وَالْخَبَرُ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بِخِلَافِ مُخْبَرِهِ ، وَنَحْنُ نَرَى الْكَافِرِينَ
يَتَسَلَّطُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي بِلَادِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ ، فَقَالَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلًا فِي الْحُجَّةِ ، فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ .
الثَّانِي : وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا فِي الْحُجَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
قَالَ الْقَاضِي : أَمَّا حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ وُجُودِ
الْحُجَّةِ مِنْ الْكَافِرِ عَلَى الْمُؤْمِنِ فَذَلِكَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ وُجُودَ
الْحُجَّةِ لِلْكَافِرِ مُحَالٌ ، فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْجَعْلُ بِنَفْيٍ
وَلَا إثْبَاتٍ .
وَأَمَّا نَفْيُ وُجُودِ الْحُجَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فَضَعِيفٌ ؛ لِعَدَمِ فَائِدَةِ الْخَبَرِ فِيهِ ؛ وَإِنْ أَوْهَمَ صَدْرُ
الْكَلَامِ مَعْنَاهُ ؛ لِقَوْلِهِ : { فَاَللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ } فَأَخَّرَ الْحُكْمَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَجَعَلَ
الْأَمْرَ فِي الدُّنْيَا دُولَةً تَغْلِبُ الْكُفَّارُ تَارَةً وَتُغْلَبُ
أُخْرَى بِمَا رَأَى مِنْ الْحِكْمَةِ وَسَبَقَ مِنْ الْكَلِمَةِ ، ثُمَّ قَالَ :
{ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } .
فَتَوَهَّمَ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ آخِرَ الْكَلَامِ
يَرْجِعُ إلَى أَوَّلِهِ ، وَذَلِكَ يُسْقِطُ فَائِدَتَهُ .
وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ :
وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا يَمْحُو
بِهِ دَوْلَةَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَيُذْهِبُ آثَارَهُمْ ، وَيَسْتَبِيحُ
بَيْضَتَهُمْ ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : وَدَعَوْت رَبِّي أَلَّا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ
عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ فَأَعْطَانِيهَا .
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَجْعَلُ لِلْكَافِرِينَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا مِنْهُ إلَّا أَنْ تَتَوَاصَوْا بِالْبَاطِلِ ،
وَلَا تَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَتَتَقَاعَدُوا
عَنْ التَّوْبَةِ ؛ فَيَكُونُ تَسْلِيطُ الْعَدُوِّ مِنْ قَبْلِكُمْ ؛ وَهَذَا
نَفِيسٌ جِدًّا .
الثَّالِثُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَجْعَلُ
لَلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا بِالشَّرْعِ ؛ فَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ
فَبِخِلَافِ الشَّرْعِ ، وَنَزَعَ بِهَذَا عُلَمَاؤُنَا فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى
أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَمْلِكُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ ؛ وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ
وَالشَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَفَى السَّبِيلَ لِلْكَافِرِ
عَلَيْهِ ، وَالْمِلْكُ بِالشِّرَاءِ سَبِيلٌ فَلَا يُشْرَعُ وَلَا يَنْعَقِدُ بِذَلِكَ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ : إنَّ مَعْنَى { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } فِي دَوَامِ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّا نَجِدُ ابْتِدَاءَهُ
يَكُونُ لَهُ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ بِالْإِرْثِ ، وَصُورَتُهُ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدٌ
كَافِرٌ فِي يَدَيْ كَافِرٍ فَيَلْزَمُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ بِبَيْعِهِ ، فَقَبْلَ
الْحُكْمِ بِبَيْعِهِ مَاتَ ، فَيَرِثُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ وَارِثُ الْكَافِرِ
، فَهَذِهِ سَبِيلٌ قَدْ ثَبَتَتْ ابْتِدَاءً ، وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِبَيْعِهِ .
وَرَأَى مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ وَالشَّافِعِيِّ
أَنَّ الْحُكْمَ بِمِلْكِ الْمِيرَاثِ ثَابِتٌ قَهْرًا لَا قَصْد فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : مِلْكُ الشِّرَاءِ ثَبَتَ بِقَصْدِ
الْيَدِ ، فَقَدْ أَرَادَ الْكَافِرُ تَمَلُّكَهُ بِاخْتِيَارِهِ .
قُلْنَا :
فَإِنَّ الْحُكْمَ بِعَقْدِ بَيْعِهِ وَثُبُوتِ مِلْكِهِ
؛ فَقَدْ تَحَقَّقَ فِيهِ قَصْدُهُ وَجَعَلَ لَهُ سَبِيلُ الْيَدِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ
طَوِيلَة عَظِيمَةٌ ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ،
وَحَكَمْنَا بِالْحَقِّ فِيهَا فِي كِتَابِ " الْإِنْصَافِ لِتَكْمِلَةِ
الْإِشْرَافِ " ، فَلْيُنْظَرْ هُنَا لَك .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى :
{ إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا
إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ
إلَّا قَلِيلًا } .
فِيهَا مِنْ الْأَحْكَامِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى
} : يَعْنِي مُتَكَاسِلِينَ مُتَثَاقِلِينَ ، لَا يَنْشَطُونَ لِفِعْلِهَا ، وَلَا
يَفْرَحُونَ لَهَا ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْآثَارِ : { أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ } .
فَكَانَ يَرَى رَاحَتَهُ فِيهَا .
وَفِي آثَارٍ آخَرَ : { وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي
الصَّلَاةِ } .
وَفِي الْحَدِيثِ : { أَثْقَلُ صَلَاةٍ عَلَى
الْمُنَافِقِينَ الْعَتَمَةُ وَالصُّبْحُ } ؛ فَإِنَّ الْعَتَمَةَ تَأْتِي وَقَدْ
أَنْصَبَهُمْ عَمَلُ النَّهَارِ ، فَيَثْقُلُ عَلَيْهِمْ الْقِيَامُ إلَيْهَا ،
وَتَأْتِي صَلَاةُ الصُّبْحِ ، وَالنَّوْمُ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ
، وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ قَدْرَ الصَّلَاةِ دُنْيَا وَلَا فَائِدَتَهَا أُخْرَى ؛
فَيَقُومُونَ إلَيْهَا بِغَيْرِ نِيَّةٍ إلَّا خَوْفًا مِنْ السَّيْفِ وَمَنْ
قَامَ إلَيْهَا مَعَ هَذِهِ الْحَالَةِ بِنِيَّةِ إتْعَابِ النَّفْسِ
وَإِيثَارِهَا عَلَيْهَا ، طَالِبًا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَلَهُ
أَجْرَانِ ، وَاَلَّذِي يَرَى رَاحَتَهُ فِيهَا مَعَ الْمَلَائِكَةِ
الْمُقَرَّبِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يُرَاءُونَ
النَّاسَ } : يَعْنِي أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهَا لِيَرَاهَا النَّاسُ وَهُمْ
يَشْهَدُونَهَا لَغْوًا ، فَهَذَا هُوَ الرِّيَاءُ الشِّرْكُ ، فَأَمَّا إنْ
صَلَّاهَا لِيَرَاهَا النَّاسُ يَعْنِي وَيَرَوْنَهُ فِيهَا ، فَيَشْهَدُونَ لَهُ
بِالْإِيمَانِ فَلَيْسَ ذَلِكَ الرِّيَاءَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ
أَرَادَ بِهَا طَلَبَ الْمَنْزِلَةِ وَالظُّهُورِ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ وَجَوَازِ
الْإِمَامَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَرَجٌ ، وَإِنَّمَا الرِّيَاءُ الْمَعْصِيَةُ
أَنْ يُظْهِرَهَا صَيْدًا لِلدُّنْيَا وَطَرِيقًا إلَى الْأَكْلِ بِهَا ، فَهَذِهِ
نِيَّةٌ لَا تُجْزِئُ ، وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا
يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } : وَرَوَى الْأَئِمَّةُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ
عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تِلْكَ
صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ .
تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ تِلْكَ صَلَاةُ
الْمُنَافِقِينَ .
يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ حَتَّى إذَا اصْفَرَّتْ الشَّمْسُ ،
وَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ ، أَوْ عَلَى قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ ،
قَامَ يَنْقُرُ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } .
فَذَمَّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِلَّةِ
ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ يَرَاهَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ مِنْ
الْجَبَلِ ، فَيَطْلُبُ الْخَلَاصَ مِنْهَا بِظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ
، وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ فِيهَا مِنْ الذِّكْرِ فَرْضًا الْفَاتِحَةُ .
وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ .
وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ مِنْ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ
إقَامَةُ الصُّلْبِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، وَالطُّمَأْنِينَةُ فِيهِمَا ،
وَالِاسْتِوَاءُ عِنْدَ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا .
فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا تُجْزِئُ صَلَاةُ
مَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ } ،
{ وَعَلَّمَ
الْأَعْرَابِيَّ عَلَى مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ فَقَالَ لَهُ : فَارْكَعْ حَتَّى
تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَافِعًا ، ثُمَّ
اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ
جَالِسًا ، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِك كُلِّهَا } .
وَذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ
الطُّمَأْنِينَةَ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عِرَاقِيَّةٌ لَا
يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمَالِكِيِّينَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِهَا ، فَلَيْسَ
لِلْعَبْدِ شَيْءٌ يُعَوِّلُ عَلَيْهِ سِوَاهَا ؛ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ
يَنْقُرَهَا نَقْرَ الْغُرَابِ ، وَلَا يَذْكُرُ اللَّهَ بِهَا ذِكْرَ
الْمُنَافِقِينَ ، وَقَدْ بَيَّنَ صَلَاةَ الْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ،
وَبَيَّنَ صَلَاةَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } وَمَنْ خَشَعَ خَضَعَ
وَاسْتَمَرَّ ، وَلَمْ يَنْقُرْ وَلَا اسْتَعْجَلَ ،
إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ فَيَقْتَصِرَ عَلَى الْفَرْضِ الَّذِي قَدْ
بَيَّنَّاهُ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
أَنَّهُ ذَكَرَ صَلَاةَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ : هَذَا
أَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مُوجَزَةٌ فِي تَمَامٍ
.
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى
: { لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إلَّا مَنْ ظُلِمَ
وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا
} .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِهَا ؛ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّمَا نَزَلَتْ
فِي الرَّجُلِ يَظْلِمُ الرَّجُلَ ، فَيَجُوزُ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَذْكُرَهُ
بِمَا ظَلَمَهُ فِيهِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَآخَرُونَ : إنَّمَا نَزَلَتْ فِي
الضِّيَافَةِ ؛ إذَا نَزَلَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ ضَيْفًا فَلَمْ يَقُمْ بِهِ جَازَ
لَهُ إذَا خَرَجَ عَنْهُ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ .
وَقَالَ رَجُلٌ لِطَاوُسٍ : إنِّي رَأَيْت مِنْ قَوْمٍ
شَيْئًا فِي سَفَرٍ ، أَفَأَذْكُرُهُ ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ الْقَاضِي : قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ
الصَّحِيحُ ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ صَحِيحَةٌ ؛ قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ } .
وَقَالَ : { لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ
وَعُقُوبَتَهُ } .
وَقَالَ الْعَبَّاسُ لِعُمَرَ بِحَضْرَةِ أَهْلِ
الشُّورَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا
الظَّالِمِ ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ
حُكُومَةً ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُهَا لِنَفْسِهِ حَتَّى أَنْفَذَ
فِيهَا عَلَيْهِمْ عُمَرُ لِلْوَاجِبِ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَهَذَا إنَّمَا
يَكُونُ إذَا اسْتَوَتْ الْمَنَازِلُ أَوْ تَقَارَبَتْ ؛ فَأَمَّا إذَا
تَفَاوَتَتْ فَلَا تُمَكَّنُ الْغَوْغَاءُ مِنْ أَنْ تَسْتَطِيلَ عَلَى
الْفُضَلَاءِ ، وَإِنَّمَا تَطْلُبُ حَقَّهَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ
تَصْرِيحٍ بِظُلْمٍ وَلَا غَضَبٍ ؛ وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ
الْآثَارُ .
وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ } ، بِأَنْ يَقُولَ
مَطَلَنِي ، وَعُقُوبَتُهُ بِأَنْ يُحْبَسَ لَهُ حَتَّى يُنْصِفَهُ .
التالي بمشيئة الله هو ج7.وج8.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق