حمل مصاحف


فهرس القرآن الكريم الكريمmp3 القرآن الكريم مكتوب

9مصاحف
/ / / /  / / /

شكرا للفريق المجتهد

شكرا لبلوجر وفريقه المحترمين- Thanks to blogger and his respected team

الأربعاء، 23 نوفمبر 2022

ج9. وج10.كتاب أحكام القرآن أحمد بن علي الرازي الجصاص

 

ج9. وج10.كتاب أحكام القرآن أحمد بن علي الرازي الجصاص 

ج9. كتاب أحكام القرآن أحمد بن علي الرازي الجصاص 
على أحد الوجهين كان سائغا جائزا على ما روى عنه في الخبر الآخر ومما يدل على أن التحريم أولى لو تساوت الآيتان في إيجاب حكميهما أن فعل المحظور يستحق به العقاب وترك المباح لا يستحق به العقاب والاحتياط الامتناع مما لا يأمن استحقاق العقاب به فهذه قضية واجبة في حكم العقل وأيضا فإن الآيتين غير متساويتين في إيجاب التحريم والتحليل وغير جائز الاعتراض بإحداهما على الأخرى إذ كل واحدة منهما ورودها في سبب غير سبب الأخرى وذلك لأن قوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين وارد حكم التحريم كقوله تعالى وحلائل أبنائكم وأمهات نسائكم وسائر من ذكر في الآية تحريميها وقوله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم وارد في إباحة المسبية التي لها زوج في دار الحرب وأفاد وقوع الفرقة وقطع العصمة فيما بينهما فهو مستعمل فيما ورد فيه من إيقاع الفرقة بين المسبية وبين زوجها وإباحتها لمالكها فلا يجوز الاعتراض به على تحريم الجمع بين الأختين إذ كل واحدة من الآيتين واردة في سبب غير سبب الأخرى فيستعمل حكم كل واحدة منهما في السبب الذي وردت فيه
ويدل على ذلك أنه لا خلاف بين المسلمين في أنها لم تعترض على حلائل الأبناء وأمهات النساء وسائر من ذكر تحريمهن في الآية وأنه لا يجوز وطء حليلة الابن ولاأم المرأة بملك اليمين ولم يكن قوله تعالى إلا ما ملكت أيمانكم موجبا لتخصيصهن لوروده في سبب غير سبب الآية الأخرى كذلك ينبغي أن يكون حكمه في اعتراضه على تحريم الجمع وامتناع علي رضي الله عنه ومن تابعه في ذلك من الصحابة من الاعتراض بقوله تعالى إلا ما ملكت أيمانكم على تحريم الجمع بين الأختين يدل على أن حكم الآيتين إذا وردتا في سببين إحداهما في التحليل والأخرى في التحريم أن كل واحدة منهما تجري على حكمها في ذلك السبب ولا يعترض بها على الأخرى وكذلك ينبغي أن يكون حكم الخبرين إذا وردا عن الرسول ص - في مثل ذلك وقد بينا ذلك في أصول الفقه وأيضا لا نعلم خلافا بين المسلمين في حظر الجمع بين الأختين إحداهما بالنكاح والأخرى بملك اليمين نحو أن تكون عنده امرأة بنكاح فيشتري أختها أنه لا يجوز له وطؤهما جميعا وهذا يدل على أن تحريم الجمع قد انتظم ملك اليمين كما انتظم النكاح وعموم قوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين يقتضي تحريم جمعهما على سائر الوجوه وهو موجب لتحريم

تزويج المرأة وأختها تعتد منه لما فيه من الجمع بينهما في استحقاق نسب ولديهما وفي إيجاب النفقة المستحقة بالنكاح والسكنى لهما وذلك كله من ضروب الجمع فوجب أن يكون محظورا منتفيا بتحريمه الجمع بينهما فإن قيل قوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين مقصور على النكاح دون غيره قيل له هذا غلط لاتفاق فقهاء الأمصار على تحريم الجمع بينهما بملك اليمين على ما بيناه وليس ملك اليمين بنكاح فعلمنا أن تحريم الجمع غير مقصور على النكاح وأيضا فإن اقتصارك بالتحريم على النكاح دون غيره من سائر ضروب الجمع تخصيص بغير دلالة وذلك غير سائغ لأحد وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار في ذلك فروي عن علي وابن عباس وزيد بن ثابت وعبيدة السلماني وعطاء ومحمد بن سيرين ومجاهد في آخرين من التابعين أنه لا يتزوج المرأة في عدة أختها وكذلك لا يتزوج الخامسة وأحدى الأربع تعتد منه فبعضهم أطلق العدة وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر والثوري والحسن بن صالح وروي عن عروة بن الزبير والقاسم بن محمد وخلاس له أن يتزوج أختها إذا كانت عدتها من طلاق بائن وهو قول مالك والأوزاعي والليث والشافعي واختلف عن سعيد بن المسيب والحسن وعطاء فروي عن كل واحد منهم روايتان إحداهما أنه يتزوجها والأخرى أنه لا يتزوجها وقال قتادة رجع الحسن عن قوله أنه يتزوجها في عدة أختها وما قدمنا من دلالة الآية وعمومها في تحريم الجمع كاف في إيجاب التحريم وما دامت الأخت معتدة منه ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على تحريم الجمع بين وطء الأختين بملك اليمين والمعنى فيه أن إباحة الوطء حكم من أحكام النكاح وإن لم يكن نكاحا ولا عقد فواجب على ذلك تحريم الجمع بينهما في حكم من أحكام النكاح فلما كان استلحاق النسب ووجوب النفقة والسكنى من أحكام النكاح وجب أن يكون ممنوعا من الجمع بينهما فيه فإن قيل كيف يكون جامعا بينهما مع ارتفاع الزوجيه وكونها أجنبية منه ولو كان قد طلقها ثلاثا ثم وطئها في العدة وجب عليه الحد وهذا يدل على أنها بمنزلة الأجنبية منه فلا تمنع تزويج أختها قيل له لا يختلفان في وجوب الحد لأنه كما يجب عليها بوطئه إياها ومع ذلك لا يجوز لها أن تتزوج وتجمع إلى حقوق نكاح الأول زوجا آخر ولم يكن وجوب الحد عليها بمطاوعتها إياه على الوطء مبيحا لها نكاح زوج آخر بل كانت في المنع من زوج ثان بمنزلة من هي في حباله وكذلك الزوج لا يجوز

له جمع أختها في هذه الحال مع بقاء حقوق النكاح وإن كان وطؤه إياها موجبا للحد ودليل آخر وهو أنه لما كان تحريم نكاح الأخت من طريق الجمع ووجدنا تحريم نكاح زوج آخر إذا كانت عند زوج من طريق الجمع ثم وجدنا العدة تمنع من الجمع ما تمنع نفس النكاح وجب أن يكون الزوج ممنوعا من تزويج أختها في عدتها كما منع ذلك في حال بقاء نكاحها إذ كانت العدة تمنع من الجمع ما يمنعه نفس النكاح كما جرت العدة مجرى النكاح في باب منعها من نكاح زوج آخر حتى تنقضي عدتها فإن قيل هذا يوجب أن يكون الرجل في العدة إذا منعته من تزويج الأخت حتى تنقضي عدتها قيل له ليس تحريم النكاح مقصورا على العدة حتى إذا منعناه من نكاح أختها فقد جعلناه في العدة ألا ترى أنه ممنوع من تزوج أختها إذا كانت معتدة منه من طلاق رجعي ولم يوجب الرجل في العدة وكذلك قبل طلاق كل واحد منهما ممنوع من عقد نكاح على الأخت أو لزوج آخر وليس واحد منهما في العدة وقوله تعالى إلا ما قد سلف قال أبو بكر قد ذكرنا معنى قوله إلا ما قد سلف عند ذكر قوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف واختلاف المختلفين في تأويله واحتماله لما قيل فيه وقال تعالى عند ذكر تحريم الجمع بين الأختين إلا ما قد سلف وهو في هذا الموضع يحتمل من المعاني ما احتمله الأول وفيه احتمال لمعنى آخر لا يحتمله الأول وهو أن يكون معناه أن العقود المتقدمة على الأختين لا تنفسخ ويكون أن يختار إحداهما ويدل عليه حديث أبي وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز الديلمي عن أبيه قال أسلمت وعندي أختان فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم - فقال طلق إحداهما وفي بعض الألفاظ طلق أيتهما شئت فلم يأمره بمفارقتهما إن كان العقد عليهما معا ولم يأمره بمفارقة الآخرة منهما إن كان تزوجهما في عقدين ولم يسأله عن ذلك فدل ذلك على بقاء نكاحه عليهما بقوله طلق أيتهما شئت ودل ذلك على أن العقد عليهما كان صحيحا قبل نزول التحريم وأنهم كانوا مقرين على ما كانوا عليه من عقودهم قبل قيام حجة السمع ببطلانها واختلاف أهل العلم في الكافر يسلم وتحته أختان أو خمس أجنبيات فقال أبو حنيفة وأبو يوسف والثوري يختار الأوائل منهن إن كن خمسا وإن كانتا أختين اختار الأولى وإن كان تزوجهن في عقدة واحدة فرق بينه وبينهن وقل محمد بن الحسن ومالك والليث والأوزاعي والشافعي يختار من الخمس

أربعا أيتهن شاء ومن الأختين أيتهما شاء إلا أن الأوزاعي روى عنه في الأختين أن الأولى امرأته ويفارق الآخرة وقال الحسن بن صالح يختار الأربع الأوائل فإن لم يدر أيتهن الأولى طلق كل واحدة حتى تنقضي عدتها ثم يتزوج أربعا
والدليل على صحة القول الأول قوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين وذلك خطاب لجميع المكلفين فكان عقد الكافر على الأختين بعد نزول التحريم كعقد المسلم في حكم الفساد فوجب التفريق بينه وبين الآخرة لوقوع عقدها على فساد بنص التنزيل كما يفرق بينهما لو نكحها بعد الأسلام لقوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين والجمع واقع بالثانية وإن كان تزوجهما في عقدة واحدة فهي فاسدة فيهما جميعا لوقوعها منهيا عنها بظاهر النص فدل ذلك من وجهين على ماذكرنا أحدهما وقوع العقدة منهيا عنها والنهي عندنا يقتضي الفساد والثاني أنه منع الجمع بينهما بحال فلو بقينا عقدة عليهما بعد الإسلام كنا مثبتين لما نفاه الله تعالى من الجمع فدل ذلك على بطلان العقد الذي وقع به الجمع ومن جهة النظر أنه لما لم يجز أن يبتدىء المسلم عقدا على أختين ولم يجز أيضا أن يبقى له عقد على أختين وإن لم تكونا أختين في حال العقد كمن تزوج رضيعتين فأرضعتهما امرأة فاستوى حكم الابتداء والبقاء في نفي الجمع بينهما أشبه نكاح ذوات المحارم في استواء حال البقاء والابتداء فيهما فلما لم يختلف العقد على ذوات المحارم في وقوعه في حال الكفر وحال الإسلام ووجب التفريق متى طرأ عليه الإسلام وكان بمنزلة ابتداء العقد بعد الإسلام وجب مثله في نكاح الأختين وأكثر من أربع نسوة وكما لم يختلف حكم البقاء والابتداء فيهما كما قلنا في ذوات المحارم واحتج من غيره بعد الإسلام بحديث فيروز الديلمي الذي قدمناه وبما روى ابن أبي ليلى عن حميضة بن الشمردل عن الحرث بن قيس قال أسلمت وعندي ثمان نسوة فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أن أختار منهن أربعا وبما روي معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة أسلم وعنده عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم - خذ منهن أربعا فأما حديث فيروز فإن في لفظه ما يدل على صحة العقد وكان قبل نزول التحريم لأنه قال أيتهما شئت وهذا يدل على بقاء العقد عليهما بعد الإسلام وحديث الحارث بن قيس يحتمل أن يكون العقد كان قبل نزول التحريم فكان صحيحا إلى أن طرأ التحريم فلزمه اختيار الأربع منهن ومفارقة سائرهن كرجل له امرأتان فطلق إحداهما

ثلاثا فيقال له اختر أيهما شئت لأن العقد كان صحيحا إلى أن طرأ التحريم فإن قيل لو كان ذلك يختلف لسأله النبي صلى الله عليه وسلم -
عن وقت العقد قيل له يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - قد علم ذلك فاكتفى بعلمه عن مسألته وأما حديث معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه في قصة غيلان فإنه مما لا يشك أهل النقل فيه أن معمرا أخطأ فيه بالبصرة وأن أصل هذا الحديث مقطوع من حديث الزهري رواه مالك عن الزهري قال بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال لرجل من ثقيف أسلم وعنده عشر نسوة اختر منهن أربعا ورواه عنه عقيل ابن خالد عن ابن شهاب قال بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال لغيلان بن سلمة وكيف يجوز أن يكون عنده عن سالم عن أبيه فيجعله بلاغا عن عثمان ابن محمد بن أبي سويد ويقال إنه إنما جاء الغلط من قبل أن معمرا كان عنده عن الزهري حديثان في قصة غيلان أحدهما هذا وهو بلاغ عن عثمان بن محمد بن أبي سويد والآخر حديثه عن سالم عن أبيه أن غيلان بن سلمة طلق نساءه في زمن عمر وقسم ماله بين ورثته فقال له عمر لئن لم تراجع نساءك ثم مت لأورثهن ثم لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغال فأخطأ معمر وجعل إسناد هذا الحديث لحديث إسلامه مع النسوة
فصل قال أبو بكر والمنصوص على تحريمه في الكتاب هو الجمع بين الأختين وقد وردت آثار متواتره في النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها رواه علي وابن عباس وجابر وابن عمر وأبو موسى وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وعائشة وعبدالله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على بنت أخيها ولا على بنت أختها وفي بعضها لا الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى على اختلاف بعض الألفاظ مع اتفاق المعنى وقد تلقها الناس بالقبول مع تواترها واستفاضتها وهي من الأخبار الموجبة للعلم والعمل فوجب استعمال حكمها مع الآية وشذت طائفة من الخوارج بإباحة الجمع بين من عدا الأختين لقوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم وأخطأت في ذلك وضلت عن سواء السبيل لأن الله تعالى كما قال وأحل لكم ما وراء ذلكم قال وما آتاكم الرسول فخذوه وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم -
تحريم الجمع بين من ذكرنا فوجب أن يكون مضموما إلى الآية فيكون قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم مستعملا فيمن عدا الأختين وعدا من بين النبي صلى الله عليه وسلم -
تحريم الجمع بينهن

وليس يخلو قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم من أن يكون نزل قبل حكم النبي صلى الله عليه وسلم -
بتحريم من حرم الجمع بينهن أو معه أو بعده وغير جائز أن يكون قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم بعد الخبر لأن قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم مرتب على تحريم من ذكر تحريمهن منهن لأن قوله ما وراء ذلكم المراد به ما وراء من تقدم ذكر تحريمهن وقد كان قبل تحريم الجمع بين الأختين جميع ذلك مباحا فعلمنا أن تحريم من ذكر تحريم الجمع بينهن في الخبر لم يكن قبل تحريم الجمع بين الأختين وإذا امتنع أن يكون الخبر قبل الآية لم يخل من أن يكون معها أو بعدها فإن كان معها فلم ترد الآية إلا خاصة فيما عدا ما ذكر في الخبر تحريم جمعهن وعلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال ذلك عقيب تلاوة الآية وبين مراد الله تعالى بها فلم يعقل السامعون للآية حكما إلا خاصا على ما بينا وإن كان حكم الآية استقر على مقتضى عموم لفظها ثم ورد الخبر فإن هذا لا يكون إلا على وجه النسخ ونسخ القرآن جائز بمثله لتواتره واستفاضته وكونه في حيز الأخبار الموجبة للعلم والعمل فإن لم يثبت عندنا تاريخ الآية والخبر مع حصول اليقين بأنه غير منسوخ بالآية لأنه لم يرد قبلها على ما بينا آنفا وجب استعماله مع الآية وأولى الأشياء أن يكون الآية والخبر وردا معا لأنه ليس عندنا علم بتاريخهما وغير جائز لنا الحكم بتأخره عن الآية ونسخ بعض أحكام الآية به لأن ذلك لا يكون إلا بعد استقرار حكم الآية على عمومها ثم ورد النسخ عليها بالخبر فوجب الحكم بورودهما معا ولأن الآية والخبر إذا لم يعلم تاريخهما وجب الحكم بهما معا كالغرقى والقوم الذين يقع عليهم البيت إذا لم يعلم موت أحدهم متقدما على الآخر حكمنا بموتهم جميعا معا والله أعلم
باب نكاح ذوات الزوج
قال الله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت عطفا على من حرم من النساء من عند قوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم فروى سفيان عن حماد عن إبراهيم عن عبدالله والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم قال ذوات الأزواج من المسلمين والمشركين وقال علي بن أبي طالب ذوات الأزواج من المشركين وقد روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس كل ذات زوج إتيانها زنا إلا ما سبيت
قال أبو بكر اتفق هؤلاء على أن المراد بقوله تعالى والمحصنات من النساء ذوات الأزواج منهن وأن

نكاحها حرام ما دامت ذات زوج واختلفوا في قوله تعالى إلا ما ملكت أيمانكم فتأوله علي وابن عباس في رواية وعمر وعبدالرحمن بن عوف وابن عمر أن الآية إنما وردت في ذوات الأزواح من السبايا أبيح وطؤهن بملك اليمين ووجب بحدوث السبي عليها دون زوجها وقوع الفرقة بينهما وكانوا يقولون أن بيع الأمة لا يكون طلاقا ولا يبطل نكاحها وتأوله ابن مسعود وأبي بن كعب وأنس بن مالك وجابر بن عبدالله وابن عباس في رواية عكرمة أنه في جميع ذوات الأزواج من السبايا وغيرهم وكانوا يقولون بيع الأمة طلاقها وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبدالله بن عمر بن ميسرة قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد عن قتادة عن أبي الخليل عن أبي علقمة الهاشمي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم - بعث جيشا إلى أوطاس فلقوا عدوا فقاتلوهم وظهروا عليهم فأصابوا منهم سبايا لهن أزواج من المشركين فكان المسلمون يتحرجون من غشيانهم فأنزل الله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم أي هن لكم حلال إذا انقضت عدتهن وقد ذكر أن أبا علقمة هذا رجل جليل من أهل العلم وقد روي عنه يعلى ابن عطاء وروى هو هذا الحديث عن أبي سعيد وله أحاديث عن أبي هريرة وهذا حديث صحيح السند قد أخبر فيه بسبب نزول الآية وأنها في السبايا وتأولها ابن مسعود ومن وافقه على جميع النساء ذوات الأزواج إذا ملكن حل وطؤهن لمالكهن ووقعت الفرقة بينهن وبين أزواجهن
فإن قيل أنتم لا تعتبرون السبب وإنما تراعون حكم اللفظ إن كان عاما فهو على عمومه حتى تقوم دلالة الخصوص فهلا اعتبرت ذلك في هذه الآية وجعلتها على العموم في سائر من يطرأ عليه الملك من النساء ذوات الأزواج فينتظم السبايا وغيرهن قيل له الدلالة ظاهرة في الآية على خصوصها في السبايا وذلك لأنه قال والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم فلو كان حدوث الملك موجبا لإيقاع الفرقة لوجب أن تقع الفرقة بينها وبين زوجها إذا اشترتها امرأة أو أخوها من الرضاعة لحدوث الملك فإن قيل جائز أن يقال ذلك في سائر من طرأ عليهن الملك سواء كان حدوث الملك سببا لإباحة الوطء أو لم يكن بأن تملكها امرأة أو رجل لا يحل له وطؤها قيل له فشأن الآية إنما هو فيمن حدث له ملك اليمين فأباحت له وطأها لأنه استثناء بملك اليمين من حظر وطء المحصنات من النساء فواجب على ذلك أنه إذا

لم يستبح المالك وطأها بملك اليمين أن تكون الزوجية قائمة بينها وبين زوجها بحكم الآية وإذا وجب ذلك بحكم الآية وجب أن يكون قوله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم خاصا في السبايا ويكون السبب الموجب للفرقة اختلاف الدين لا حدوث الملك ويدل على أن حدوث الملك لا يوجب الفرقة ما روى حماد عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أنها اشترت بريرة فأعتقتها وشرطت لأهلها الولاء فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال الولاء لمن أعتق وقال له يا بريرة اختاري فالأمر إليك ورواه سماك عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة مثله وروى قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن زوج بريرة كان عبدا أسود يسمى مغيثا فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيها أن الولاء لمن أعطى الثمن وخيرها
فإن قيل فقد روى ابن عباس في أمر بريرة ما روى ثم قال بعد ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم -
بيع الأمة طلاقها فينبغي أن يقضي قوله هذا ما رواه لأنه لا يجوز أن يخالف النبي صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عنه
قيل له قد روي عن ابن عباس أن الآية نزلت في السبايا وأن بيع الأمة لا يوقع فرقة بينها وبين زوجها فجائز أن يكون الذي ذكرت عنه من أن بيع الأمة طلاقها كان يقول قبل أن تثبت عنده قصة بريرة وتخيير النبي صلى الله عليه وسلم -
إياها بعد الشرى فلما سمع بقصة بريرة رجع عن قوله وأيضا يحتمل أن يريد بقوله بيع الأمة طلاقها إذا اشتراها الزوج ولا يبقى النكاح مع الملك
والنظر يدل على أن بيع الأمة ليس بطلاق ولا يوجب الفرقة وذلك لأن الطلاق لايملكه الزوج ولا يصح إلا بإيقاعه أو بسبب من قبله فلما لم يكن من الزوج في ذلك سبب وجب أن لا يكون طلاقا ويدل أيضا على ذلك أن ملك اليمين لا ينافي النكاح لأن الملك موجود قبل البيع غير ناف للنكاح فكذلك ملك المشتري لا ينافيه
فإن قيل لما طرأ ملك المشتري ولم يكن منه رضى بالنكاح وجب أن ينفسخ
قيل له هذا غلط لأنه قد ثبت أن الملك لا ينافي النكاح والمعنى الذي ذكرت إن كان معتبرا فإنما يوجب للمشتري خيارا في فسخ النكاح وليس هذا قول أحد لأن عبدالله بن مسعود ومن تابعه يوجبون فسخ النكاح بحدوث الملك
واختلف الفقهاء في الزوجين إذا سبيا معا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر إذا سبى الحربيان معا وهما زوجان فهما على النكاح وإن سبي أحدهما قبل الآخر وأخرج إلى دار الإسلام فقد وقعت الفرقة وهو قول الثوري وقال الأوزاعي إذا

سبيا جميعا فما كانا في المقاسم فهما على النكاح فإذا اشتراهما رجل فإن شاء جمع بينهما وإن شاء فرق بينهما فاتخذها لنفسه أو زوجها غيره بعد ما يستبرئها بحيضة وهو قول الليث بن سعد وقال الحسن بن صالح إذا سبيت ذات زوج استبرئت بحيضتين لأن زوجها أحق بها إذا جاء في عدتها وغير ذات الأزواج بحيضة
وقال مالك والشافعي إذا سبيت بانت من زوجها سواء كان معها زوجها أو لم يكن
قال أبو بكر قد ثبت أن حدوث الملك غير موجب للفرقة بدلالة الأمة المبيعه والمورثة فوجب أن لا تقع الفرقة بالسبي نفسه لأنه ليس فيه أكثر من حدوث الملك ودليل آخر وهو أن حدوث الرق عليها لا يمنع ابتداء العقد فلأن لا يمنع بقاءه أولى لأن البقاء هو آكد في ثبوت النكاح معه من الابتداء ألا ترى أنه قد يمنع الابتداء مالا يمنع البقاء وهو حدوث العدة عليها من وطء بشبهة يمنع ابتداء العقد ولا يمنع بقاء العقد المتقدم
فإن احتجوا بحديث أبي سعيد الخدري في قصة سبايا أوطاس وسبب نزول الآية عليها وهو قوله والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم لم يفرق بين من سبيت مع زوجها أو وحدها قيل له روى حماد قال أخبرنا الحجاج عن سالم المكي عن محمد بن علي قال لما كان يوم أوطاس لحقت الرجال بالجبال وأخذت النساء فقال المسلمون كيف نصنع ولهن أزواج فأنزل الله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم فأخبر أن الرجال لحقوا بالجبال وأن السبايا كن منفردات عن الأزواج والآية فيهن نزلت وأيضا لم يأسر النبي صلى الله عليه وسلم - في غزاة حنين من الرجال أحدا فيما نقل أهل المغازي وإنما كانوا من بين قتيل أو مهزوم وسبى النساء ثم جاءه الرجال بعد ما وضعت الحرب أوزارها فسألوه أن يمن عليهم بإطلاق سباياهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم - أما ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لكم وقال للناس من رد عليهم فذاك ومن تمسك بشيء منهن فله خمس فرائض في كل رأس وأطلق الناس سباياهم فثبت بذلك أنه لم يكن مع ا لسبايا أزواجهن
فإن احتجوا بعموم قوله والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم لم يخصص من معهن أزواجهن والمنفردات منهن قيل له قد اتفقنا على أنه لم يرد عموم الحكم في إيجاب الفرقة بالملك لأنه لو كان كذلك لوجب أن تقع الفرقة بشرى الأمة وهبتها وبالميراث وغيره من وجوه الأملاك الحادثة فلما لم يكن ذلك كذلك علمنا أن الفرقة لم تتعلق بحدوث الملك وكان ذلك دليلا على مراد الآية وذلك لأنه إذا لم يخل

مراد الله تعالى في المعنى الموجب للفرقة في المسبية من أحد وجهين إما اختلاف الدارين بهما أو حدوث الملك ثم قامت دلالة السنة واتفاق الخصم معنا على نفي إيجاب الفرقة بحدوث الملك قضى ذلك على مراد الآية بأنه اختلاف الدارين وأوجب ذلك خصوص الآية في المسبيات دون أزواجهن ويدل على أن المعنى فيه ما ذكرنا من اختلاف الدارين أنهما المسبيات دون أزواجهن ويدل على أن المعنى فيه ما ذكرنا من اختلاف الدارين أنهما لو خرجا مسلمين أو ذميين لم تقع بينهما فرقة لأنهما لم تختلف بهما الداران فدل ذلك على أن المعنى الموجب للفرقة بين المسبية وزوجها إذا كانت منفردة اختلاف الدارين بهما ويدل عليه أن الحربية إذا خرجت إلينا مسلمة أو ذمية ثم لم يلحق بها زوجها وقعت الفرقة بلا خلاف وقد حكم الله تعالى بذلك في المهاجرات في قوله ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ثم قال ولا تمسكوا بعصم الكوافر قال أبو بكر قوله تعالى إلا ما ملكت أيمانكم يقتضى إباحة الوطء بملك اليمين لوجود الملك إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم - قد روى عنه ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عمرو بن عون قال أخبرنا شريك عن قيس بن وهب عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال في سبايا أوطاس لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة
وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا أبو معاوية عن محمد بن إسحاق قال حدثني يزيد بن أبي حبيب عن أبي مرزوق عن حنش الصنعاني عن رويفع بن ثابت الأنصاري قال قام فينا خطيبا فقال أما أني لا أقول لكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول يوم حنين لا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر ان يسقى ماؤه زرع غيره حتى يستبرئها بحيضة قال أبو داود ذكر الاستبراء ههنا وهم من أبي معاوية وهو صحيح في حديث أبي سعيد وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا النفيلي قال حدثنا مسكين قال حدثنا شعبة عن يزيد بن خمير عن عبدالرحمن ابن جبير بن نفير عن أبيه عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة فرأى امرأة مجحا فقال لعل صاحبها ألم بها قالوا نعم قال لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره كيف يورثه وهو لا يحل له وكيف يستخدمه وهو لا يحل له فهذه الأخبار

تمنع من استحدث ملكا في جارية أن يطأها حتى يستبرئها إن كانت حائلا وحتى تضع حملها إن كانت حاملا وليس بين فقهاء الأمصار خلاف في وجوب استبراء المسبية على ما ذكرنا إلا أن الحسن بن صالح قال عليها العدة حيضتين إذا كان لها زوج في دار الحرب وقد ثبت بحديث أبي سعيد الذي ذكرنا الاستبراء بحيضة واحدة وليس هذا الاستبراء بعدة لانها لو كانت عدة لفرق النبي صلى الله عليه وسلم -
بين ذوات الأزواج منهن وبين من ليس لها زوج لأن العدة لا تجب إلا عن فراش فلما سوى النبي صلى الله عليه وسلم - بين من كان لها فراش وبين من لم يكن لها فراش دل ذلك على أن هذه الحيضة ليست بعدة فإن قيل قد ذكر في حديث أبي سعيد الذي ذكرت إذا انقضت عدتهن فجعل ذلك عدة قيل له يجوز أن تكون هذه اللفظة من كلام الراوي تأويلا منه للاستبراء أنه عدة وجائز أن تكون العدة لما كان أصلها استبراء الرحم أجرى اسم العدة على الاستبراء على وجه المجاز
قال أبو بكر وقد روى في قوله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم تأويل آخر وروى زمعة عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال ذوات الأزواج ورجع ذلك إلى قوله حرم الله تعالى الزنا وروى معمر عن ابن طاوس عن أبيه في قوله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم قال فزوجتك مما ملكت يمينك يقول حرم الله الزنا لا يحل لك أن تطأ امرأة إلا ما ملكت يمينك وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم قال نهى عن الزنا وعن عطاء بن السائب قال كل محصنة عليك حرام إلا امرأة تملكها بنكاح
قال أبو بكر وكان تأويلها عند هؤلاء أن ذوات الأزواج حرام إلا على أزواجهن وليس يمتنع أن يكون ذلك من مراد الله تعالى بالآية لاحتمال اللفظ له وذلك لا يمنع إرادة المعاني التي تأولها الصحابة عليها من إباحة وطء السبايا اللاتي لهن أزواج حربيون فيكون محمولا على الأمرين والأظهر أن ملك اليمين هي الأمة دون الزوجات لأن الله قد فرق بينهما فقال الله تعالى والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فجعل ملك اليمين غير الزوجات والإطلاق إنما يتناول الإماء المملوكات دون الزوجات وهي كذلك في الحقيقة لأن الزوج لا يملك من زوجته شيئا وإنما له منها استباحة الوطء ومنافع بضعها في ملكها دونه ألا ترى أنها لو وطئت بشبهة وهي تحت زوج كان المهر لها دونه فدل ذلك

على أنه لا يملك من زوجته شيئا فوجب ان يجمل قوله تعالى إلا ما ملكت أيمانكم على من يملكها في الحقيقة وهي المسبية
قوله تعالى كتاب الله عليكم روي عن عبيدة
قال أربع وإنما نصب كتاب الله لأنهم يقولون أن معنى كتاب الله عليكم أي كتب الله عليكم ذلك وقيل معناه حرم ذلك كتابا من الله عليكم وهذا تاكيد لوجوبه وإخبار منه لنا بفرضه لأن الكتاب هو الفرض
قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم روى عن عبيدة السلماني والسدي أحل ما دون الخمس أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح وقال عطاء أحل لكم ما وراء ذوات المحارم من أقاربكم وقال قتادة ما وراء ذلكم ما ملكت أيمانكم
وقيل ما وراء ذوات المحارم وما وراء الزيادة على الأربع أن تبتغوا بأموالكم نكاحا أو ملك يمين
قال أبو بكر هو عام فيما عدا المحرمات في الآية وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم -
باب المهور
قال الله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم فعقد الإباحة بشريطة إيجاب بدل البضع وهو مال فدل على معنيين أحدهما أن بدل البضع واجب أن يكون ما يستحق به تسليم مال والثاني أن يكون المهر ما يسمى أموالا وذلك لأن هذا خطاب لكل واحد في إباحة ما وراء ذلك أن يبتغي البضع بما يسمى أموالا كقوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم خطاب لكل أحد في تحريم أمهاته وبناته عليه وفي ذلك دليل على أنه لا يجوز أن يكون المهر الشيء التافه الذي لا يسمى أموالا واختلف الفقهاء في مقدار المهر فروي عن علي رضي الله عنه أنه قال لا مهر أقل من عشرة دراهم وهو قول الشعبي وإبراهيم في آخرين من التابعين وقول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد وقال أبو سعيد الخدري والحسن وسعيد بن المسيب وعطاء يجوز النكاح على قليل المهر وكثيره وتزوج عبدالرحمن بن عوف على وزن نواة من ذهب فقال بعض الرواة قيمتها ثلاثة دراهم وثلث وقال آخرون النواة عشرة أو خمسة وقال مالك أقل المهر ربع دينار وقال ابن أبي ليلى والليث والثوري والحسن ابن صالح والشافعي يجوز بقليل المال وكثيره ولو درهم
قال أبو بكر قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم يدل على أن ما لا يسمى أموالا لا يكون مهرا وإن شرطه أن يسمى أموالا هذا مقتضى الآية وظاهرها ومن كان له درهم أو

درهمان لا يقال عنده أموال فلم يصح أن يكون مهرا بمقتضى الظاهر
فإن قيل ومن عنده عشرة دراهم لا يقال عنده أموال وقد أجزئها مهرا
قيل له كذلك يقتضي الظاهر لكن أجزناها بالاتفاق وجائز تخصيص الآية بالإجماع وأيضا قد روى حرام بن عثمان عن ابن جابر عن أبيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا مهر أقل من عشرة دراهم وقال علي بن أبي طالب لا مهر أقل من عشرة دراهم ولا سبيل إلى معرفة هذا الضر ب من المقادير التي هي حقوق الله تعالى من طريق يالاجتهاد والرأي وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق وتقديره العشرة مهرا دون ما هو أقل منها يدل على أنه قاله توقيفا وهو نظير ما روي عن أنس في أقل الحيض أنه ثلاثة أيام وأكثره عشرة وعن عثمان بن أبي العاص الثقفي في أكثر النفاس أنه أربعون يوما أن ذلك توقيف إذ لا يقال في مثله من طريق الرأي وكذلك ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه إذا قعد في آخر صلاته مقدار التشهيد فقد تمت صلاته فدل تقديره للفرض بمقدار التشهيد أنه قاله من طريق التوقيف وقد احتج بعض أصحابنا لاعتبار العشرة أن البضع عضو لا تجوز استباحته إلا بمال فأشبه القطع في السرقة فلما كانت اليد عضوا لا تجوز استباحته إلا بمال وكان المقدار الذي يستباح به عشرة على أصلهم فكذلك المهر يعتبر به وأيضا لما اتفق الجميع على أنه لا يجوز استباحة البضع بغير بدل واختلفوا فيما تجوز استباحته به من المقدار وجب أن يكون باقيا على الحظر في منع استباحته إلا بما قام دليل جوازه وهو العشرة المتفق عليها وما دونها مختلف فيه فالبضع باق على حكم الحظر وأيضا لما لم تجز استباحته إلا ببدل كان الواجب أن يكون البدل الذي به يصح قيمة البضع هو مهر المثل وأن لا يحط عنه شيء إلا بدلالة ألا ترى أنه لو تزوجها على غير مهر لكان الواجب لها مهر مثلها وفي ذلك دليل على أن عقد النكاح يوجب مهر المثل فغير جائز إسقاط شيء من موجبه إلا بدلالة وقد قامت دلالة الإجماع على جواز إسقاط ما زاد على العشرة واختلفوا فيما دونه أن يكون واجبا بإيجاب العقد له إذا لم تقم الدلالة على إسقاطه
فإن قيل لما قال الله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم اقتضى ذلك إيجاب نصف الفرض قليلا كان أو كثيرا قيل له لما ثبت بما ذكرنا ان المهر لا يكون أقل من عشرة دراهم كانت تسميته لبعض العشرة تسمية لها

كسائر الأشياء التي لا تتبعض تكون تسميته لبعضها تسمية لجميعها كالطلاق والنكاح ونحوهما وإذا كانت العشرة لا تتبعض في العقد صارت تسميته لبعضها تسمية لجميعها فإذا طلقها قبل الدخول وجب لها نصف العشرة لأن العشرة هي الفرض ألا ترى أنه لو طلق امرأته نصف تطليقه كان مطلقا لها تطليقة كاملة ولو طلق نصفها كان مطلقا كذلك لجميعها وكذلك لو عفا عن نصف دم عمد كان عافيا عن جميعه فلما كان ذلك كذلك وجب أن تكون تسميته لخمسة تسمية للعشرة لقيام الدلالة على أن العشرة لا تتبعض في عقد النكاح فمتى أوجبنا بعد الطلاق خمسة كان ذلك نصف الفرض وأيضا فإنا نوجب نصف المفروض فلسنا مخالفين لحكم الآية ونوجب الزيادة إلى تمام الخمسة بدلالة أخرى وإنما كان يكون مذهبنا خلاف الآية لو لم نوجب نصف الفرض فأما إذا أوجبناه وأوجبنا زيادة عليه بدلالة أخرى فليس في ذلك مخالفة للآية
واحتج من أجاز أن يكون المهر أقل من عشرة بحديث عامر بن ربيعة أن امرأة جيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
وقد تزوجت رجلا على نعلين فقال لها رسول الله ص - رضيت من نفسك ومالك بنعلين قالت نعم فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وبحديث أبي الزبير يعن جابر عن النبي ص - أنه قال ما أعطى امرأة في نكاح كف دقيق أو سويق أو طعاما فقد استحل وبحديث الحجاج ابن أرطأة عن عبدالملك بن المغيرة الطائفي عن عبدالرحمن بن السلماني قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فقال أنكحوا الأيامى منكم فقالوا يا رسول الله وما العلائق بينهما قال ما تراضى به الأهلون وبما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من استحل بدرهمين فقد استحل وإن عبدالرحمن بن عوف تزوج على وزن نواة من ذهب وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم -
فقال أولم ولو بشاة ولم ينكر ذلك عليه وبحديث أبي حازم عن سهل بن سعد في قصة المرأة التي قالت لنبي ص - قد وهبت نفسي لك يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم - مالي بالنساء من حاجة فقال له رجل زوجنيها فقال هل عندك من شيء تصدقها إياه فقال إزاري هذا فقال إن اعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك إلى أن قال إلتمس ولو خاتما من حديد فأجاز أن يكون المهر خاتما من حديد لا يساوي عشرة
والجواب عن إجازته النكاح على نعلين أن النعلين قد يجوز أن تساويا عشرة دراهم أو أكثر فلا دلالة فيه على موضع الخلاف لأنه تزوجها على نعلين ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم -
وجائز أن يكون قيمتها عشرة أو أكثر

وليس بعموم لفظ في إباحة التزويج على نعلين أي نعلين كانتا فلا دلالة فيه على قول المخالف وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم - أخبر بجواز النكاح وجواز النكاح لا يدل على أنه هو المهر لا غيره لأنه لو تزوجها على غير مهر لكان النكاح جائزا ولم يدل جواز النكاح على أن لا شيء لها كذلك جواز النكاح على نعلين قيمتهما أقل من عشرة دراهم لا دلالة فيه على أنه لا يجب غيرهما وأما قوله من استحل بدرهمين أو بكف دقيق فقد استحل فإنه أخبار عن ملك البضع ولا دلالة فيه على أنه لا يجب غيره
وكذلك حديث عبدالرحمن في تزوجه على وزن نواة من ذهب وعلى أنه قد روى في الخبر أن قيمتها كانت خمسة أو عشرة
وأما قوله العلائق ما تراضى به الأهلون فإنه محمول على ما يجوز مثله في الشرع ألا ترى أنهم لو تراضوا بخمر أو خنزير أو شغار لما جاز تراضيهما كذلك في حكم التسمية يكون مرتبا على ما ثبت حكمه في الشرع من تسمية العشرة
وأما حديث سهل بن سعد فإن النبي صلى الله عليه وسلم - أمره بتعجيل شيء لها وعلى ذلك كان مخرج كلامه لأنه لو أراد ما يصح به العقد من التسمية لاكتفى بإثباته في ذمته ما يجوز به العقد عن السؤال عما يعجل فدل ذلك على أنه لم يرد به ما يصح مهرا ألا ترى أنه لما لم يجد شيئا قال زوجتكها بما معك من القرآن وما معه من القرآن لا يكون مهرا فدل ذلك على صحة ما ذكرنا
واختلف الفقهاء فيمن تزوج امرأة على خدمته سنة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف إذا تزوج امرأة على خدمته سنة فإن كان حرا فلها مهر مثلها وإن كان عبدا فلها خدمته سنة وقال محمد لها قيمة خدمته إن كان حرا وقال مالك إذا تزوجها على أن يؤاجرها نفسه سنة أو أكثر أو أقل ويكون ذلك صداقها فإنه يفسخ النكاح إن لم يدخل بها وإن دخل بها ثبت النكاح وقال الأوزاعي إذا تزوجها على أن يحجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها فهو ضامن لنصف حجها من الحملان والكسوة والنفقة وقال الحسن بن صالح والشافعي النكاح جائز على خدمته إذا كان وقتا معلوما وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إذا تزوجها على تعليم سورة من القرآن لم يكن ذلك مهرا ولها مهر مثلها وهو قول مالك والليث وقال الشافعي يكون ذلك مهرا لها فإن طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف أجرة التعليم إن كان قد علمها وهي رواية المزني وحكى الربيع عنه أنه يرجع عليها بصف مهر مثلها قال أبو بكر قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلك أن تبتغوا بأموالكم قد

اقتضى أن يكون بدل البضع ما يستحق به تسليم مال لأن قوله أن تبتغوا بأموالكم يحتمل معنيين أحدهما تمليك المال بدلا من البضع والآخر تسليمه لاستيفاء منافعه فدل ذلك على أن المهر الذي يملك به البضع إما أن يكون مالا أو منافع في مال يستحق بها تسليمه إليها إذ كان قوله أن تبتغوا بأموالكم يشتمل عليهما ويقتضيهما ويدل على أن المهر حكمه أن يكون مالا قوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا وذلك لأن قوله وآتوا النساء صدقاتهن نحلة أمر يقتضي ظاهره الإيجاب ودل بفحواه على أن المهر ينبغي أن يكون مالا من وجهين أحدهما قوله وآتوا معناه أعطوا والإعطاء إنما يكون في الأعيان دون المنافع إذ المنافع لا يتأتى فيها الإعطاء على الحقيقة والثاني قوله فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا وذلك لا يكون في المنافع وإنما هو في المأكول أو فيما يمكن صرفه بعد الإعطاء إلى المأكول فدلت هذه الآية على أن المنافع لا تكون مهرا
فإن قيل فهذا يوجب أن لا تكون خدمة العبد مهرا قيل له كذلك اقتضى ظاهر الآية ولولا قيام الدلالة لما جاز ويدل عليه نهي النبي صلى الله عليه وسلم - عن نكاح الشغار وهو أن يزوجه أخته على أن يزوجه أخته أو يزوجه أمته على أن يزوجه أمته وليس بينهما مهر وهذا أصل في أن المهر لا يصح إلا أن يستحق به تسليم مال فلما أبطل النبي صلى الله عليه وسلم - أن تكون منافع البضع مهرا لأنها ليست بمال دل ذلك على أن كل ما شرط من بدل البضع مما لا يستحق به تسليم مال لا يكون مهرا وكذلك قال أصحابنا لو تزوجها على عفو من دم عمدا وعلى طلاق فلانة أن ذلك ليس بمهر مثل منافع البضع إذا جعلها مهرا وقد قال الشافعي أنه إذا سمي في الشغار لإحداهما مهرا أن النكاح جائز ولكل واحدة منهما مهر مثلها ولم يجعل البضع مهرا في الحال التي أجاز النكاح فيها ونهى ا لنبي ص - عن نكاح الشغار فدل ذلك على معنيين أحدهما أنه إذا كان الشغار في الأمتين كان المهر منافع البضع بدلا في النكاح والثاني إذا كان الشغار في الحرتين وهو أن يقول أزوجك أختي على أن تزوجني أختك أو أزوجك بنتي على أن تزوجني بنتك فيكون هذا عقدا عاريا من ذكر المهر لواحدة من المرأتين لأنه شرط المنافع لغير المنكوحة وهو الولي فالشغار في أحد الوجهين يكون عقد نكاح عاريا عن تسمية بدل للمنكوحة وفي الوجه الآخر يكون بدل البضع بضع آخر فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك أن

يكون بدلا فصار أصلا في أن بدل البضع شرطه أن يستحق به تسليم مال
فإن قيل إن منافع بضع الأمة حق في مال فهلا كانت كالتزويج على خدمة العبد قيل له لأن خدمة العبد يستحق بها تسليم مال وهو رقبة العبد كالمستأجر له يستحق تسليم العبد إليه للخدمة وزوج الأمة لا يستحق تسليمها إليه بعقد النكاح لأن للمولى أن لا يبوئها بيتا وقوله تعالى أن تبتغوا بأموالكم قد اقتضى أن يستحق عليه بعقد النكاح تسليم مال بدلا من البضع وأما التزويج على تعليم سورة من القرآن فإنه لا يصح مهرا من وجهين أحدهما ما ذكرنا من أنه لا يستحق به تسليم مال كخدمة الحر والوجه الآخر أن تعليم القرآن فرض على الكفاية فكل من علم إنسانا شيئا من القرآن فإنما قام بفرض وقد روى عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال بلغوا عني ولو آية فكيف يجوز أن يجعل عوضا للبضع ولو جاز ذلك لجاز التزويج على تعليم الإسلام وهذا باطل لأن ما أوجب الله تعالى على الإنسان فعله فهو متى فعله فعله فرضا فلا يستحق أن يأخذ عليه شيئا من أعراض الدنيا ولو جاز ذلك لجاز للحكام أخذ الرشى على الحكم وقد جعل الله ذلك سحتا محرما فإن احتج محتج بحديث سهل بن سعد في قصة المرأة التي قالت للنبي ص - قد وهبت نفسي لك فقال رجل زوجنيها إلى أن قال هل معك من القرآن شيء قال نعم سورة كذا فقال ص - قد زوجتكها بما معك من القرآن وبما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن حفص بن عبدالله قال حدثني أبي قال حدثني إبراهيم بن طهمان عن الحجاج الباهلي عن عسل عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة بنحو قصة سهل بن سعد في أمر المرأة وقال فيه ما تحفظ من القرآن قال سورة البقرة أو التي تليها قال قم فعلمها عشرين آية وهي امرأتك قيل له معناه لما معك من القرآن كما قال تعالى ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون ومعناه لما كنتم تفرحون وأيضا كون القرآن معه لا يوجب أن يكون بدلا والتعليم ليس له ذكر في هذا الخبر فعلمنا أن مراده أني زوجتك تعظيما للقرآن ولأجل ما معك من القرآن وهو كما روى عبدالله بن عبدالله بن أبي طلحة عن أنس قال خطب أبو طلحة أم سليم فقالت إني آمنت بهذا الرجل وشهدت أنه رسول الله فإن تابعتني تزوجتك قال فأنا على ما أنت عليه فتزوجته فكان صداقها الإسلام ومعناه أنها تزوجته لأجل إسلامه لأن الإسلام لا يكون صداقا لأحد في

الحقيقة وأما حديث إبراهيم بن طهمان فإنه ضعيف السند وقد روى هذه القصة مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد فلم يذكر أنه قال علمها ولم يعارض بحديث إبراهيم بن طهمان ولو صح هذا الحديث لم يكن فيه دلالة على أنه جعل تعليم القرآن مهرا لأنه جائز أن يكون أمره بتعليمها القرآن ويكون المهر ثابتا في ذمته إذ لم يقل إن تعليم القرآن مهر لها فإن قيل قال الله تعالى إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فجعل منافع الحر بدلا من البضع قيل له لم يشرط المنافع للمرأة وإنما شرطها لشعيب النبي عليه السلام وما شرط للأب لا يكون مهرا فالاحتجاج به باطل في مسألتنا وأيضا لو صح أنها كانت مشروطة لها وأنه إنما أضافها إلى نفسه لأنه هو المتولي للعقد أو لأن مال الولد منسوب إلى الوالد كقوله ص - أنت ومالك لأبيك فهو منسوخ بالنهي عن الشغار
وقوله تعالى أن تبتغوا بأموالكم يدل على أن عتق الأمة لا يكون صداقا لها إذ كانت الآية مقتضية لكون بدل البضع ما يستحق به تسليم مال إليها وليس في العتق تسليم مال وإنما فيه إسقاط الملك من غير أن استحقت به تسليم مال إليها ألا ترى أن الرق الذي كان المولى يملكه لا ينتقل إليها وإنما يتلف به ملكه فإذا لم يحصل لها به مال أو لم تستحق به تسليم مال إليها لم يكن مهرا وما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم -
أعتق صفية وجعل عتقها صداقها فلأن النبي ص - كان له أن يتزوج بغير مهر وكان مخصوصا به دون الأمة قال الله تعالى وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد أن النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين فكان ص -
مخصوصا بجواز ملك البضع بغير بدل كما كان مخصوصا بجواز تزويج التسع دون الأمة قوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا يدل أيضا على أن العتق لا يكون صداقا من وجوه أحدها أنه قال وآتوهن وذلك أمر يقتضي الإيجاب وإعطاء العتق لا يصح والثاني قوله تعالى فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا والعتق لا يصح فسخه بطيب نفسها عن شيء منه والثالث قوله تعالى فكلوه هنيئا مريئا وذلك محال في العتق
قوله تعالى محصنين غير مسافحين قال أبو بكر يحتمل قوله تعالى محصنين غير مسافحين وجهين أحدهما الحكم بكونهم محصنين بعقد النكاح والأخبار عن حالهم إذا نكحوا

والثاني أني كون الإحصان شرطا في الإباحة المذكورة في قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم فإن كان المراد الوجه الأول فإطلاق الإباحة عموم يصح اعتباره فيما انتظمه إلا ما قام دليله وإن أراد الوجه الثاني كان إطلاق الإباحة مجملا لأنه معقود بشريطة حصول الإحصان به والإحصان لفظ مجمل مفتقر إلى البيان فلا يصح حينئذ الاحتجاج به والأولى حمله على الأخبار عن حصول الإحصان بالتزويج لإمكان استعماله وذلك لأنه متى ورد لفظ يحتمل أن يكون عموما يمكننا استعمال ظاهره ويحتمل أن يكون مجملا موقوف الحكم على البيان فالواجب حمله على معنى العموم دون الإجمال لما فيه من استعمال حكمه عند وروده فعلينا المصير إليه وغير جائز حمله على وجه يسقط عنا استعماله إلا بورود بيان من غيره وفي نسق التلاوة وفحوى الآية ما يوجب أن يكون ذكر الإحصان إخبارا عن كونه محصنا بالنكاح وذلك لأنه قال محصنين غير مسافحين والسفاح هو الزنا فأخبر أن الإحصان المذكور هو ضد الزنا وهو العفة وإذا كان المراد بالإحصان في هذا الموضع العفاف فقد حصل على وجه لا يكون مجملا لأن تقديره وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم عفة غير زنا وهذا لفظ ظاهر المعنى بين المراد فيوجب ذلك معنيين أحدهما إطلاق لفظ الإباحة وكونه عموما والآخر الأخبار بأنهم إذا فعلوا ذلك كانوا محصنين غير مسافحين والإحصان لفظ مشترك متى أطلق لم يكن عموما كسائر الألفاظ المشتركة وذلك لأنه اسم يقع على معان مختلفة وأصله المنع ومنه سمي الحصن لمنعه من صار فيه من أعدائه ومنه الدرع الحصينة أي المنيعة والحصان بالكثر الفحل من الأفراس لمنعه راكبه من الهلاك والحصان بالنصب العفيفة من النساء لمنعها فرجها من الفساد قال حسان في عائشة رضي الله عنهما ... حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثة من لحوم الغوافل ...
وقال الله تعالى إن الذين يرمون المحصنات الغافلات يعني العفائف والإحصان في الشرع اسم يقع على معان مختلفة غير ما كان لها في اللغة فمنها الإسلام قال الله تعالى فإذا أحصن روى فإذا أسلمن ويقع على التزويج لأنه قد روي في التفسير أيضا أن معناه فإذا تزوجن وقال تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ومعناه ذوات الأزواج ويقع على العفة في قوله تعالى والذين يرمون المحصنات ويقع

على الوطء بنكاح صحيح في إحصان الرجم
والإحصان في الشرع يتعلق به حكمان أحدهما في إيجاب الحد على قاذفه في قوله تعالى والذين يرمون المحصنات فهذا يعتبر فيه العفاف والحرية والإسلام والعقل والبلوغ فما لم يكن على هذه الصفة لم يجب على قاذفه الحد لأنه لا حد على قاذف المجنون والصبي والزاني والكافر والعبد فهذه الوجوه من الإحصان معتبرة في إيجاب الحد على القاذف والحكم الآخر هو الإحصان الذي يتعلق به إيجاب الرجم إذا زنا وهذا الإحصان يشتمل على الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والنكاح الصحيح مع الدخول بها وهما على هذه الصفة فإن عدم شيء من هذه الخلال لم يكن عليه الرجم إذا زنا والسفاح هو الزنا قال النبي صلى الله عليه وسلم -
أنا من نكاح ولست من سفاح وقال مجاهد والسدي في قوله تعالى غير مسافحين قالا غير زانين ويقال إن أصله من سفح الماء وهو صبه ويقال سفح دمعه وسفح دم فلان وسفح الجبل أسفله لأنه موضع مصب الماء وسافح الرجل إذا زنا لأنه صب ماءه من غير أن يلحقه حكم مائه في ثبوت النسب ووجوب العدة وسائر أحكام النكاح فسمي مسافحا لأنه لم يكن له من فعله هذا غير صب الماء وقد أفاد ذلك نفي نسب الولد المخلوق من مائه منه وأنه لا يلحق به ولا تجب على المرأة العدة منه ولا تصير فراشا ولا يجب عليه مهر ولا يتعلق بذلك الوطء شيء من أحكام النكاح هذه المعاني كلها في مضمون هذا اللفظ والله أعلم بالصواب
باب
المتعة قال الله تعالى فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة قال أبو بكر هو عطف على ما تقدم ذكره من إباحة نكاح ما وراء المحرمات في قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم ثم قال فما استمتعتم به منهن يعني دخلتم بهن فآتوهن أجورهن كاملة وهو كقوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة وقوله تعالى فلا تأخذوا منه شيئا والاستمتاع هو الانتفاع وهو ههنا كناية عن الدخول قال الله تعالى أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها يعني تعجلتم الانتفاع بها وقال فاستمتعتم بخلاقكم يعني بحظكم ونصيبكم من الدنيا فلما حرم الله تعالى من ذكر تحريمه في قوله حرمت عليكم أمهاتكم وعنى به نكاح الأمهات ومن ذكر معهن ثم عطف عليه

قوله وأحل لكم ما وراء ذلكم اقتضى ذلك إباحة النكاح فيمن عدا المحرمات المذكورة ثم قال أن تبتغوا بأموالكم محصنين يعني والله أعلم نكاحا تكونون به محصنين عفائف غير مسافحين ثم عطف عليه حكم النكاح إذا اتصل به الدخول بقوله فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فأوجب على الزوج كمال المهر وقد سمى الله المهر أجرا في قوله فأنكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن فسمى المهر أجرا وكذلك الأجور المذكورة في هذه الآية هي المهور وإنما سمى المهر أجرا لأنه بدل المنافع وليس ببدل عن الأعيان كما سمى بدل منافع الدار والدابة أجرا وفي تسمية الله المهر أجرا دليل على صحة قول أبي حنيفة فيمن استأجر امرأة فزنا بها أنه لا حد عليه لأن الله تعالى قد سمى المهر أجرا فهو كمن قال أمهرك كذا وقد روى نحوه عن عمربن الخطاب ومثل هذا يكون نكاحا فاسدا لأنه بغير شهود وقال تعالى في آية أخرى ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن وقد كان ابن عباس يتأول قوله تعالى فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن على متعة النساء وروي عنه فيها أقاويل روي أنه كان يتأول الآية على إباحة المتعة ويروى أن في قراءة أبي بن كعب فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن وروي عنه أنه لما قيل له أنه قد قيل فيها الأشعار قال هي كالمضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فأباحها في هذا القول عند الضرورة وروي عن جابر بن زيد أن ابن عباس نزل عن قوله في الصرف وقوله في المتعة
وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا ابن بكير عن الليث عن بكير بن عبدالله بن الأشج عن عمار مولى الشريد قال سألت ابن عباس عن المتعة أسفاح هي أم نكاح فقال ابن عباس لا سفاح ولا نكاح قلت فما هي قال المتعة كما قال الله تعالى قلت له هل لها من عدة قال نعم عدتها حيضة قلت هل يتوارثان قال لا
وحدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخرساني عن ابن عباس في قوله تعالى فما استمتعتم به منهن قال نسختها يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وهذا يدل على رجوعه عن القول بالمتعة وقد روي عن جماعة من السلف أنها زنا حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر ابن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالله بن صالح عن الليث عن عقيل

ويونس عن ابن شهاب عن ابن عبدالملك مغيرة بن نوفل عن ابن عمر أنه سئل عن المتعة فقال ذلك السفاح وروي عن هشام بن عروة عن أبيه قال كان نكاح المتعة بمنزلة الزنا فإن قيل لا يجوز أن تكون المتعة زنا لأنه لم يختلف أهل النقل أن المتعة قد كانت مباحة في بعض الأوقات أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولم يبح الله تعالى الزنا قط
قيل له لم تكن زنا في وقت الإباحة فلما حرمها الله تعالى جاز إطلاق اسم الزنا عليها كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال الزانية هي التي تنكح نفسها بغير بينة وأيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر وإنما معناه التحريم لا حقيقة الزنا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - العينان تزنيان والرجلان تزنيان فزنا العين النظر وزنا الرجلين المشي ويصدق ذلك كله الفرج أو كذبه فأطلق اسم الزنا في هذه الوجوه على وجه المجاز إذا كان محرما فكذلك من أطلق اسم الزنا على المتعة فإنما أطلقه على وجه المجاز وتأكيد التحريم وحدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن شعبة عن قتادة قال سمعت أبا نضرة يقول كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها قال فذكرت ذلك لجابر بن عبدالله فقال على يدي دار الحديث تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - فلما قام عمر قال إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء فأتموا الحج والعمرة كما أمر الله وانتهوا عن نكاح هذه النساء لا أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته فذكر عمر الرجم في المتعة وجائز أن يكون على جهة الوعيد والتهديد لينزجر الناس عنها وقال وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج قال أخبرني عطاء قال سمعت ابن عباس يقول رحم الله عمر ماكانت المتعة إلا رحمة من الله تعالى رحم الله بها أمة محمد ص - ولولا نهيه لما احتاج إلى الزنا إلا شفا فالذي حصل من أقاويل ابن عباس القول بإباحة المتعة في بعض الروايات من غير تقييد لها بضرورة ولا غيرها
والثاني أنها كالميتة تحل بالضرورة
والثالث أنها محرمة وقد قدمنا ذكر سنده وقوله أيضا إنها منسوخة
ومما يدل على رجوعه عن إباحتها ما روى عبدالله بن وهب قال اخبرني عمرو بن الحرث أن بكير بن الأشج حدثه أن أبا إسحاق مولى بني هاشم حدثه أن رجلا سأل ابن عباس فقال كنت في سفر ومعي جارية لي ولي أصحاب فأحللت جاريتي لأصحابي يستمتعون منها فقال

ذلك السفاح فهذا أيضا يدل على رجوعه
وأما احتجاج من احتج فيها بقوله تعالى فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن وأن في قراءة أبي إلى أجل مسمى فإنه لا يجوز إثبات الأجل في التلاوة عند أحد من المسلمين فالأجل إذا غير ثابت في القرآن ولو كان فيه ذكر الأجل لما دل أيضا على متعة النساء لأن الأجل يجوز أن يكون داخلا على المهر فيكون تقديره فما دخلتم به منهن بمهر إلى أجل مسمى فآتوهن مهورهن عند حلول الأجل
وفي فحوى الآية من الدلالة على أن المراد النكاح دون المتعة ثلاثة أوجه أحدها أنه عطف على إباحة النكاح في قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم وذلك إباحة لنكاح من عدا المحرمات لا محالة لأنهم لا يختلفون أن النكاح مراد بذلك فوجب أن يكون ذكر الاستمتاع بيانا لحكم المدخول بها بالنكاح في استحقاقها لجميع الصداق والثاني قوله تعالى محصنين والإحصان لا يكون إلا في نكاح صحيح لأن الوطئ بالمتعة لا يكون محصنا ولا يتناوله هذا الاسم فعلمنا أنه أراد النكاح والثالث قوله تعالى غير مسافحين فسمى الزنا سفاحا لالتقاء أحكام النكاح عنه من ثبوت النسب ووجوب العدة وبقاء الفراش إلى أن يحدث له قطعا ولما كانت هذه المعاني موجودة في المتعة كانت في معنى الزنا ويشبه أن يكون من سماها سفاحا ذهب إلى هذا المعنى إذا كان الزاني إنما سمي مسافحا لأنه لم يحصل له من وطئها فيما يتعلق بحكمه إلا على سفح الماء باطلا من غير استلحاق نسب به فمن حيث نفى الله تعالى بما أحل من ذلك وأثبت به الإحصان اسم السفاح وجب أن يكون المراد بالاستمتاع هو المتعة إذ كانت في معنى السفاح بل المراد به النكاح
وقوله تعالى غير مسافحين شرط في الإباحة المذكورة وفي ذلك دليل على النهي عن المتعة إذ كانت المتعة في معنى السفاح من الوجه الذي ذكرنا
قال أبو بكر فكان الذي شهر عنه إباحة المتعة من الصحابة عبدالله بن عباس واختلفت الروايات عنه مع ذلك فروى عنه إباحتها بتأويل الآية له قد بينا أنه لا دلالة في الآية على إباحتها بل دلالات الآية ظاهرة في حظرها وتحريمها من الوجوه التي ذكرنا ثم روى عنه أنه جعلها بمنزلة الميتة ولحم الخنزير والدم وأنها لا تحل إلا لمضطر وهذا محال لأن الضرورة المبيحة للمحرمات لا توجد في المتعة وذلك لأن الضرورة المبيحة للميتة والدم هي التي يخاف معها تلف النفس إن لم يأكل وقد علمنا إن الإنسان لا يخاف على نفسه ولا على شيء

من أعضائه التلف بترك الجماع وفقده وإذا لم تحل في حال الرفاهية والضرورة لا تقع إليها فقد ثبت حظرها واستحال قول القائل إنها تحل عند الضرورة كالميتة والدم فهذا قول متناقض مستحيل وأخلق بان تكون هذه الرواية عن ابن عباس وهما من رواتها لأنه كان رحمه الله أفقه من أن يخفى عليه مثله فالصحيح إذا ما روي عنه من حظرها وتحريمها وحكاية من حكي عنه الرجوع عنها
والدليل على تحريمها قوله تعالى والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون فقصر إباحة الوطء على أحد هذين الوجهين وحظر ما عداهما بقوله تعالى فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والمتعة خارجة عنهما فهي إذا محرمة فإن قيل ما أنكرت أن تكون المرأة المستمتع بها زوجة وأن المتعة غير خارجة عن هذين الوجهين اللذين قصر الإباحة عليهما
قيل له هذا غلط لأن اسم الزوجة إنما يقع عليها ويتناولها إذا كانت منكوحة بعقد النكاح وإذا لم تكن المتعة نكاحا لم تكن هذه زوجة
فإن قيل ما الدليل على أن المتعة ليست بنكاح
قيل له الدليل على ذلك أن النكاح اسم يقع على أحد معنيين وهو الوطء والعقد وقد بينا فيما سلف أنه حقيقة في الوطء مجاز في العقد وإذ كان الاسم مقصورا في إطلاقه على أحد هذين المعنيين وكان إطلاقه في العقد مجازا على ما ذكرنا ووجدناهم أطلقوا الاسم على عقد تزويج مطلق أنه نكاح ولم نجدهم أطلقوا اسم النكاح على المتعة فلا يقولون إن فلانا تزوج فلانة إذا شرط التمتع بها لم يجز لنا إطلاق اسم النكاح على المتعة إذ المجاز لا يجوز إطلاقه إلا أن يكون مسموعا من العرب أو يرد به الشرع فلما عدمنا إطلاق اسم النكاح على المتعة في الشرع واللغة جميعا وجب أن تكون المتعة ما عدا ما أباحه الله وأن يكون فاعلها عاديا ظالما لنفسه مرتكبا لما حرمه الله وأيضا فإن النكاح له شرائط قد اختص بها متى فقدت لم يكن نكاحا منها أن مضي الوقت لا يؤثر في عقد النكاح ولا يوجب رفعه والمتعة عند القائلين بها توجب رفع النكاح بمضي المدة ومنها أن النكاح فراش يثبت به النسب من غير دعوة بل لا ينتفي الولد المولود على فراش النكاح إلا باللعان والقائلون بالمتعة لا يثبتون النسب منه فعلمنا أنها ليست بنكاح ولا فراش ومنها أن الدخول بها على النكاح يوجب العدة عند الفرقة والموت يوجب العدة دخل بها أو لم يدخل قال الله تعالى والذين

يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا والمتعة لا توجب عدة الوفاة وقال تعالى ولكم نصف ما ترك أزواجكم ولا توارث عندهم في المتعة فهذه هي أحكام النكاح التي يختص بها إلا أن يكون هناك رق أو كفر يمنع التوارث فلما لم يكن في المتعة مانع من الميراث من أحدهما بكفر أو رق ولا سبب يوجب الفرقة ولا مانع من ثبوت النسب مع كون الرجل ممن يستفرش ويلحقه الأنساب لفراشه ثبت بذلك أنها ليست بنكاح فإذا خرجت عن أن تكون نكاحا أو ملك يمين كانت محرمة بتحريم الله إياها في قوله فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون فإن قيل انقضاء المدة الموجبة للبينونة هو الطلاق
قيل له إن الطلاق لا يقع إلا بصريح لفظ أو كناية ولم يكن منه واحد منهما فكيف يكون طلاقا ومع ذلك فيجب على أصل هذا القائل أن لا تبين لو انقضت المدة وهي حائض لأن القائلين بإباحة المتعة لا يرون طلاق الحائض جائزا فلو كانت البينونة الواقعة بمضي المدة طلاقا لوجب أن لا يقع في حال الحيض فلما أوقعوا البينونة الواقعة بمضي الوقت وهي حائض دل ذلك على أنه ليس بطلاق وإن كانت تبين بغير طلاق ولا سبب من قبل الزوج يوجب الفرقة ثبت أنها ليست بنكاح
فإن قيل على ما ذكرنا من نفي النسب والعدة والميراث ليس انتفاء هذه الأحكام بمانع من أن تكون نكاحا لأن الصغير لا يلحق به نسب ويكون نكاحه صحيحا والعبد لا يرث والمسلم لا يرث الكافر ولم يخرجه انتفاء هذه الأحكام عنه من أن يكون نكاحا قيل له إن نكاح الصغير قد تعلق به ثبوت النسب إذا صار في ممن يستفرش ويتمتع وأنت لا تلحقه نسب ولدها مع الوطء الذي يجوز أن يلحق به النسب في النكاح والعبد والكافر إنما لم يرثا للرق والكفر وهما يمنعان التوارث بينهما وذلك غير موجود في المتعة لأن كل واحد منهما من أهل الميراث من صاحبه فإذا لم يكن بينهما ما يقطع الميراث ثم لم يرث مع وجود المتعة علمنا أن المتعة ليست بنكاح لأنها لو كانت نكاحا لأوجبت الميراث مع وجود سببه من غير مانع له من قبلهما وأيضا قد قال ابن عباس إنها ليست بنكاح ولا سفاح فإذا كان ابن عباس قد نفى عنها اسم النكاح وجب أن لا تكون نكاحا لأن ابن عباس لم يكن ممن يخفى عليه أحكام الأسماء في الشرع واللغة فإذا كان هو القائل بالمتعة من الصحابة ولم يرها نكاحا ونفى عنها الاسم ثبت أنها ليست بنكاح

ومما يوجب تحريمها من جهة السنة ما حدثنا عبدالباقي قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا القعنبي قال حدثنا مالك عن ابن شهاب عن عبدالله والحسن ابني محمد بن علي عن أبيهما عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - نهى عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الإنسية وقال فيه غير مالك إن عليا قال لابن عباس إنك امرؤ تياه إنما المتعة إنما كانت رخصة في أول الإسلام نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم - زمن خيبر وعن لحوم الإنسية وروى هذا الحديث من طرق عن الزهري رواه سفيان بن عيينة وعبيدالله بن عمر في آخرين وروى عكرمة بن عمار عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال في غزوة تبوك إن الله تعالى حرم المتعة بالطلاق والنكاح والعدة والميراث وروى عبدالواحد بن زياد قال حدثنا أبو عميس عن أياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أذن في متعة النساء عام أوطاس ثم نهى عنها وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل البلخي قال حدثنا محمد بن جعفر بن موسى قال حدثنا محمد بن الحسن قال حدثنا أبو حنيفة عن نافع عن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر عن متعة النساء وما كنا مسافحين قال أبو بكر قوله وما كنا مسافحين يحتمل وجوها أحدها أنهم لم يكونوا مسافحين حين أبيحت لهم المتعة يعني أنها لو لم تبح لم يكونوا ليسافحوا أو نفى بذلك قول من قال إنها أبيحت للضرورة كالميتة والدم ثم نهى عنها بعد والثاني أنهم لم يكونوا ليفعلوا ذلك بعد النهي فيكونوا مسافحين ويحتمل أنهم لم يكونوا في حال الإباحة مسافحين بالتمتع إذ كانت مباحة وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا عبدالوارث عن إسماعيل بن أمية عن الزهري قال كنا عند عمر بن عبدالعزيز فتذاركنا متعة النساء فقال له رجل يقال له ربيع بن سبرة أشهد علي أبي أنه حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - نهى عنها في حجة الوداع وروى عبدالعزيز بن ربيع بن سبرة عن أبيه عن جده أن ذلك كان عام الفتح ورواه إسماعيل بن عياش عن عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز عن الربيع بن سبرة عن أبيه مثله وذكر أنه كان عام الفتح ورواه أنس بن عوض الليثي عن عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز عن الربيع بن سبرة عن أبيه مثله وقال كان في حجة الوداع فلم تختلف الرواة في التحريم واختلفوا في التاريخ فسقط التاريخ كأنه ورد غير مؤرخ وثبت التحريم لاتفاق الرواة عليه ورواه أبو حنيفة عن الزهري عن محمد بن عبد

الله عن سبرة الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - نهى عن متعة النساء يوم فتح مكة وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا ابن ناحية قال حدثنا محمد بن مسلم الرازي قال حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال حدثنا صدقة عن عبيدالله بن علي عن إسماعيل بن أمية عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال خرج النساء اللاتي استمتعنا بهن معنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - هن حرام إلى يوم القيامة فإن قيل هذه الأخبار متضادة لأن في حديث سبرة الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم -
أباحها لهم في حجة الوداع وقال بعضهم عام الفتح وفي حديث علي وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم - حرمها يوم خيبر وخيبر كانت قبل الفتح وقبل حجة الوداع فكيف تكون مباحة عام الفتح أو في حجة الوداع وقد حرمت قبل ذلك عام خيبر قيل له الجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن حديث سبرة مختلف في تاريخه فقال بعضهم في حجة الوداع وفي كلا الحديثين أن النبي صلى الله عليه وسلم - أباحها في تلك السفرة ثم حرمها فلما اختلفت الرواة في تاريخه سقط التاريخ وحصل الخبر غير مؤرخ فلا يضاد حديث علي وابن عمر الذي اتفقا على تاريخه أنه حرمها يوم خيبر والوجه الآخر أنه جائز أن يكون حرمها يوم خيبر ثم أحلها في حجة الوداع أو في فتح مكة ثم حرمها فيكون التحريم المذكور في حديث علي وابن عمر منسوخا بحديث سبرة الجهني ثم تكون الإباحة بما في حديث سبرة أيضا لأن ذلك غير ممتنع فإن قيل روى إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن ابن مسعود قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - وليس لنا نساء فقلنا يا رسول الله ألا نستخصي فنهانا عن ذلك ورخص لنا أن ننكح بالثوب إلى أجل ثم قال لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم الآية قيل له هذه المتعة هي التي حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم - في سائر الأخبار التي ذكرنا ولم ننكر نحن أنها قد كانت أبيحت في وقت ثم حرمت وليس في حديث ابن مسعود ذكر التاريخ فأخبار الحظر قاضية عليها لأن فيها ذكر الحظر بعد الإباحة وأيضا لو تساويا لكان الحظر أولى لما بيناه في مواضع وأما تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم - الآية عند إباحة المتعة وهو قوله تعالى لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم فإنه يحتمل أن يريد به النهي عن الاستخصاء وتحريم النكاح المباح ويحتمل المتعة في حال ما كانت مباحة وقد روي عن عبدالله أنها منسوخة بالطلاق والعدة والميراث ويدل عليه أنه قد علم أنها قد كانت مباحة في وقت فلو كانت الإباحة باقية لورد النقل بها مستفيضا متواترا لعموم الحاجة

إليه ولعرفتها الكافة كما عرفتها بديا ولما اجتمعت الصحابة على تحريمها لو كانت الإباحة باقية فلما وجدنا الصحابة منكرين لإباحتها موجبين لحظرها مع علمهم بديا بإباحتها دل ذلك على حظرها بعد الإباحة ألا ترى أن النكاح لما كان مباحا لم يختلفوا في إباحته ومعلوم أن بلواهم بالمتعة لو كانت مباحة كبلواهم بالنكاح فالواجب إذا أن يكون ورود النقل في بقاء إباحتها من طريق الإستفاضة ولا نعلم أحدا من الصحابة روي عنه تجريد القول في إباحة المتعة غير ابن عباس وقد رجع عنه حين استقر عنده تحريمها بتواتر الأخبار من جهة الصحابة وهذا كقوله في الصرف وإباحته الدرهم بالدرهمين يدا بيد فلما استقر عنده تحريم النبي صلى الله عليه وسلم - إياه وتواترت عنده الأخبار فيه من كل ناحية رجع عن قوله وصار إلى قول الجماعة فكذلك كان سبيله في المتعة ويدل على أن الصحابة قد عرفت نسخ إباحة المتعة ما روي عن عمر أنه قال في خطبته متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما وقال في خبر آخر لو تقدمت فيها لرجمت فلم ينكر هذا القول عليه منكر لا سيما في شيء قد علموا إباحته وإخباره بأنهما كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فلا يخلو ذلك من أحد وجهين إما أن يكونوا قد علموا بقاء إباحتها فاتفقوا معه على حظرها وحاشاهم من ذلك لأن ذلك يوجب أن يكونوا مخالفين لأمر النبي صلى الله عليه وسلم - عيانا وقد وصفهم الله تعالى بأنهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فغير جائز منهم التواطؤ على مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم -
ولأن ذلك يؤدي إلى الكفر وإلى الانسلاخ من الإسلام لأن من علم إباحة النبي صلى الله عليه وسلم - للمتعة ثم قال هي محظورة من غير نسخ لها فهو خارج من الملة فإذا لم يجز ذلك علمنا أنهم قد علموا حظرها بعد الإباحة ولذلك لم ينكروه ولو كان ما قال عمر منكرا ولم يكن النسخ عندهم ثابتا لما جاز أن يقروه على ترك النكير عليه وفي ذلك دليل على إجماعهم على نسخ المتعة إذ غير جائز حظر ما أباحه النبي صلى الله عليه وسلم -
إلا من طريق النسخ ومما يدل على تحريم المتعة من طريق النظر أنا قد علمنا أن عقد النكاح وإن كان واقعا على استباحة منافع البضع فإن استحقاق تلك المنافع بعقد النكاح بمنزلة العقود على المملوكات من الأعيان وأنه مخالف لعقود الإجارات الواقعة على منافع الأعيان ألا ترى أن عقد النكاح يصح مطلقا من غير شرط مدة مذكورة له وأن عقود الإجارات لا تصح إلا على مدد معلومة أو على

عمل معلوم فلما كان ذلك حكم العقد على منافع البضع أشبه عقود البياعات وما جرى مجراها إذا عقدت على الأعيان فلا يصح وقوعه موقتا كما لا يصح وقوع التمليكات في الأعيان المملوكة موقتة ومتى شرط فيه التوقيت لم يكن نكاحا فلا تصح استباحة البضع به كما لا يصح البيع إذا شرط فيه توقيت الملك وكذلك الهبات والصدقات ولا يملكه بشيء من هذه العقود ملكا موقتا وكذلك منافع البضع لما جرت مجرى الأعيان المملوكة لم يصح فيها التوقيت ومما يحتج به القائلون بإباحة المتعة اتفاق الجميع على أنها كانت مباحة في وقت من الزمان ثم اختلفنا في الحظر فنحن ثابتون على ما حصل الاتفاق عليه ولا نزول عنه بالاختلاف فيقال لهم الأخبار التي بها تثبت الإباحة بها يثبت الحظر ذلك لأن كل خبر ذكر فيه إباحة المتعة ذكر فيه حظرها فمن حيث يثبت الإباحة وجب أن يثبت الحظر وإن لم يثبت الإباحة إذا كانت الجهة التي بها تثبت الإباحة بها ورد الحظر وأيضا فإن قول القائل أنا لما اتفقنا على كذا ثم اختلفنا فيه لم ينزل عن الإجماع بالاختلاف قول فاسد لأن الموضع الذي فيه الخلاف ليس هو موضع الإجماع فإذا لم يكن إجماعا فلا بد من دلالة يقيمها على صحة دعواه وأيضا فإن كون الشيء مباحا في وقت غير موجب بقاء إباحته فيما يجوز فيه النسخ وقد دللنا على ثبوت الحظر بعد الإباحة من ظاهر الكتاب والسنة وإجماع السلف قال أبو بكر قد ذكرنا في المتعة وحكمها في التحريم ما فيه بلاغ لمن نصح نفسه ولا خلاف فيها بين الصدر الأول على ما بينا وقد اتفق فقهاء الأمصار مع ذلك على تحريمها ولا يختلفون فيه واختلف الفقهاء فيمن تزوج امرأة أياما معلومة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ومالك بن أنس والثوري والأوزاعي والشافعي إذا تزوج امرأة عشرة أيام فهو باطل ولا نكاح بينهما وقال زفر النكاح جائز والشرط باطل وقال الأوزاعي إذا تزوج امرأة ومن نيته أن يطلقها وليس ثم شرط فلا خير في هذا هذا متعة قال أبو بكر لا خلاف بينهم وبين زفر أن عقد النكاح لا يصح بلفظ المتعة وأنه لو قال أتمتع بك عشرة أيام أن ذلك ليس بنكاح وإنما الخلاف إذا عقده بلفظ النكاح قال أتزوجك عشرة أيام فجعله زفر نكاحا صحيحا وأبطل الشرط فيه لأن النكاح لا تفسده الشروط الفاسدة كما لو قال أتزوجك على أن أطلقك بعد عشرة أيام كان النكاح جائزا والشرط باطلا وإنما الخلاف بينهم وبين زفر في أن

هذا نكاح أو متعة فقال الجمهور هذا متعة وليس بنكاح والدليل على صحة هذا القول أن النكاح إلى أجل هو متعة وإن لم يلفظ بالمتعة ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إسحاق بن الحسن بن ميمون قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز عن الربيع بن سبرة الجهني أن أباه أخبره أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -
في حجة الوداح حتى نزلوا عسفان وذكر قصة أمر النبي ص - إياهم بالإحلال بالطواف إلا من كان معه هدي قال فلما أحللنا قال استمتعوا من هذه النساء والإستمتاع التزويج عندنا فعرضنا ذلك على النساء فأبين إلا أن نضرب بيننا وبينهن أجلا فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال افعلوا فخرجت أنا وابن عمي وأنا أشب منه ومعي برد ومعه برد فأتينا امرأة فأعجبها برده وأعجبها شبابي فقالت برد كبرد وهذا أشب وكان بيني وبينها عشر فبت عندها ليلة ثم أصبحت فخرجت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بين الركن والمقام يقول يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من هذه النساء ألا وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن بقي عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا فأخبر سبرة في هذا الحديث أن الاستمتاع كان التزويج وأن النبي صلى الله عليه وسلم - كان رخص لهم في توقيت المدة فيه ثم نهى عنه بعد الإباحة فثبت بذلك أن النكاح إلى أجل هو متعة ويدل على ذلك أيضا حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن عبدالله بن مسعود قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - وليس لنا نساء فقلنا يا رسول الله ألا نستخصي فنهانا عن ذلك ورخص لنا أن ننكح بالثوب إلى أجل ثم قرأ لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم فأخبر عبدالله بن مسعود أن المتعة كانت نكاحا إلى أجل ويدل على ذلك حديث جابر عن عمر بن الخطاب وقد تقدم سنده في باب المتعة أنه قال إن الله كان يحل لرسوله ما شاء فأتموا الحج والعمرة كما أمر الله واتقوا نكاح هذه النساء ألا أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته فأخبر عمر أن النكاح إلى أجل هو متعة وإذا ثبت له هذا الاسم وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم -
عن المتعة انتظم ذلك تحريم النكاح إلى أجل لدخوله تحت الاسم وأيضا لما كانت المتعة اسما للنفع القليل كما قال تعالى إنما هذه الحياة الدنيا متاع يعني نفعا قليلا وسمى الواجب بعد الطلاق متعة بقوله فمتعوهن وقال وللمطلقات متاع بالمعروف لأنه أقل من المهر علمنا أن ما أطلق عليه اسم المتعة أو متاع فقد أريد

به التقليل وأنه نزر يسير بالإضافة إلى ما يقتضيه العقد ويوجبه فسمى ما يعطى بعد الطلاق مما لا يوجب بنفس العقد متاعا ومتعة لقلته بالإضافة إلى المهر المستحق بالعقد وسمى النكاح الموقت متعة لقصر مدته وقلة الانتفاع به بالإضافة إلى ما يقتضيه العقد من بقائه مؤبدا إلى أن يفرق بينهما الموت أو سبب حادث يوجب التفريق فوجب أن لا يختلف على ذلك في إطلاق اسم المتعة أن يكون بلفظ المتعة أو بلفظ النكاح بعد أن يكون موقتا لأن اسم ا لمتعة يتناولهما من الوجه الذي ذكرنا وأيضا لا يخلو العاقد عقد النكاح على عشرة أيام من أن يجعله موقتا على ما شرط أو يبطل الشرط ويجعله مؤبدا لم يصح ذلك من قبل أن ما بعد الوقت ليس عليه عقد فلا يجوز له أن يستبيح بضعها بلا عقد ألا ترى أن من اشرتى صبرة من طعام على أنها عشرة أقفزة أو قال قد اشتريت منك عشرة أقفزة من هذه الصبرة أن العقد واقع على عشرة أقفزة دون ما عداها فكذلك إذا عقد النكاح على عشرة ايام فما بعد العشرة ليس عليه عقد النكاح فغير جائز استباحة بضعها فيه بالعقد ولا يجوز أن يجعله موقتا فيكون صريح المتعة فوجب بذلك إفساد العقد وليس هذا بمنزلة قوله قد تزوجتك على أن أطلقك بعد عشرة ايام فيجوز النكاح ويبطل الشرط لأنه عقد النكاح مؤبدا وشرط فيه قطعه بالطلاق ألا ترى أنه إذا لم يطلق كان النكاح باقيا فعلمت أن النكاح قد وقع على وجه التأبيد وإنما شرط قطعه بالطلاق وذلك شرط فاسد والنكاح لا تفسده الشروط فيبطل الشرط ويجوز العقد وليس كذلك إذا تزوجها عشرة أيام لأن ما بعد العشرة ليس عليه عقد ألا ترى أنه لو استأجر دارا عشرة أيام كان العقد واقعا على عشرة أيام وما بعدها ليس عليها عقد ولو سكنها بعد العشرة كان غاصبا ساكنا لها على غير وجه العقد ولا أجر عليه ولو قال آجرتك هذه الدار على أن أفسخ العقد بعد عشرة أيام كانت إجارة فاسدة مؤبدة ما سكن منها من المدة في العشرة وبعدها يلزمه أجر المثل فكذلك النكاح إذا عقد على عشرة فليس على ما بعد العشرة عقد
فإن قيل فلو قال قد تزوجتك على أنك طالق بعد عشرة أيام كان النكاح موقتا لأنه يبطل بعد مضي العشرة
قيل له ليس هذا نكاحا موقتا بل هو مؤبدا وإنما قطعه بالطلاق ولا فرق بين ذكر الطلاق مع العقد وإيقاعه بعد المدة لأن النكاح قد وقع بديا مؤبدا وإنما أوقع طلاقا لوقت مستقبل فلا يوجب ذلك توقيت العقد
قوله

تعالى فآتوهن أجورهن فريضة معناه المهور فسمى المهر أجرا لأنه بدل منافع البضع ويدل على أن المراد المهر أنه ذكره لمن كان محصنا بالنكاح في قوله وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين وكقوله تعالى فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات فذكر الإحصان عقيب ذكرالنكاح وسمى المهر أجرا وقوله فريضة تأكيد لوجوبه وإسقاط للظن وتوهم التأويل فيه إذ كان الفرض ما هو في أعلى مراتب الإيجاب والله أعلم بالصواب
باب
الزيادة في المهور قال الله تعالى بعد ذكر المهر ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة والفريضة هي التسمية والتقدير كفرائض المواريث والصدقات وقد بينا ذلك فيما سلف وروي عن الحسن في قوله تعالى ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة أنه ما تراضيتم به من حط بعض الصداق أو تأخيره أو هبة جميعه وفي هذه الآية دلالة على جواز الزيادة في المهر لقوله تعالى فيما تراضيتم به من بعد الفريضة وهو عموم في الزيادة والنقصان والتأخير والإبراء وهو بالزيادة أخص منه بغيرها لأنه علقه بتراضيهما والبراءة والحط والتأخير لا يحتاج في وقوعه إلى رضى الرجل والزيادة لا تصح إلا بقبولهما فلما علق ذلك بتراضيهما جميعا دل على أن المراد الزيادة ولا يجوز الاقتصار به على البراءة والحط والتأجيل لأن عموم اللفظ يقتضي جواز الجميع فلا يخص بغير دلالة ولأن الاقتصار به على ما ذكرت يسقط فائدة ذكر تراضيهما جميعا وإضافة ذلك إليهما وغير جائز إسقاط حكم اللفظ والاقتصار به على ما يجعل وجوده وعدمه سواء وقد اختلف الفقهاء في الزيادة في المهر فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد الزيادة في الصداق بعد النكاح جائزة وهي ثابتة إن دخل بها أو مات عنها وإن طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة وكان لها نصف المسمى في العقد وقال زفر بن الهزيل والشافعي الزيادة بمنزلة هبة مستقبلة إذا قبضتها جازت في قولهما جميعا وإن لم تقبضها بطلت وقال مالك بن أنس تصح الزيادة فإن طلقها قبل الدخول رجع نصف ما زادها إليه وهي بمنزلة مال وهبه لها يقوم به عليه وإن مات عنها قبل أن تقبض فلا شيء لها منه لأنها عطية لم تقبض قال ابو بكر قد ذكرنا وجه دلالة الآية على جواز الزيادة ومما يدل على جواز الزيادة

أن عقد النكاح في ملكهما والدليل على ذلك أنه جائز له أن يخلعها على البضع فيأخذ منها بدله فهما مالكان للتصرف في البضع فلما كان العقد في ملكهما وجب أن تجوز الزيادة فيه كما جازت في ابتداء عقد النكاح من حيث كانا مالكين للعقد إذا كان الملك هو التصرف وتصرفهما جائز فيه ويدل عليه اتفاق الجميع على أنه إذا قبضها جاز فلا يخلو بعد الإقباض من أن تكون هبة مستقبلة على ما قال زفر والشافعي أو زيادة في المهر لاحقه بالعقد على ما ذكرنا وغير جائز أن تكون هبة مستقبلة لأنهما لم يدخلا فيها على أنها هبة وإنما أوجبناها على أنها بدل من البضع لاحقة بالعقد ولا يجوز لنا أن نلزمهما عقدا لم يعقداه على أنفسهما لقوله تعالى أوفوا بالعقود وقوله ص - المسلمون عند شروطهم فإذا عقدا على أنفسهما عقدا لم يجز لنا إلزامهما عقدا غيره بظاهر الآية والسنة إذ كانت الآية إنما اقتضت إيجاب الوفاء بنفس العقد الذي عقده لا بغيره لأن إلزامه عقدا غيره لا يكون وفاء بالعقد الذي عقده وكذلك قوله المسلمون عند شروطهم يقتضي الوفاء بالشرط وليس في إسقاط الشرط وإلزامهما معنى غيره الوفاء بالشرط
فدلت الآية والسنة معا على بطلان قول المخالف من وجهين أحدهما اقتضاء عمومهما لإيجاب الوفاء بالعقد والشرط والآخر ما انتظمتا من امتناع إلزام عقد أو شرط غير ما عقداه ولما بطل إلزامهما الهبة بعد القبض وصح التمليك دل على أنها ملكت من جهة الزيادة
ويدل على أنه غير جائز أن يجعلها هبة أنها متى كانت زيادة كانت مضمونة على المرأة بالقبض لأنها بدل من البضع وإذا كانت هبة لم تكن مضمومة عليها وإذا كانت زيادة سقطت بالطلاق قبل الدخول وإذا كانت هبة لم يؤثر الطلاق فيها وإذا دخلا فيها على عقد يوجب الضمان لم يجز لنا إلزامهما عقدا لا ضمان فيه ألا ترى أنهما إذا تعاقدا عقد بيع لم يجز إلزامهما عقد هبة ولو تعاقدا عقد إقالة لم يلزمهما عقد بيع مستقبل وفي ذلك دليل على أنه غير جائز إثبات الهبة بعقد الزيادة إذا لم تكن هبة وقد صح التمليك كانت زيادة لاحقة بالعقد بدلا من البضع مع التسمية وأما قول مالك في جعله إياها هبة ثم قوله أنه إذا طلقها قبل الدخول رجع إليه نصف الزيادة فإنه قول غير منتظم لأنها إن كانت هبة فلا تعلق لها بعقد النكاح ولا بالمهر ولا تأثير للطلاق في رجوع شيء منها إليه وإن كانت زيادة في المهر فغير جائز بطلانها بالموت
وإنما

قال أصحابنا إنه إذا طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة كلها من قبل أن الزيادة لما لم تكن موجودة في العقد وإنما كانت ملحقة به وجب أن يكون بقاؤها موقوفا على سلامة العقد أو الدخول بالمرأة ألا ترى أن الزيادة في البيع إنما تلحق به على شرط بقاء العقد وأنه متى بطل العقد بطلت الزيادة فكذلك الزيادة في المهر فإن قيل التسمية الموجودة في العقد إنما يبطل بعضها بورود الطلاق عليها قبل الدخول فهلا كانت الزيادة كذلك إذ كانت إذا صحت ولحقت به كانت بمنزلة وجودها فيه فلا فرق بينهما وبين المسمى فيه قيل له عندنا أن المسمى في العقد يبطله كله أيضا إذا طلق قبل الدخول لبطلان العقد المسمى فيها كهلاك المبيع قبل القبض وإنما يجب النصف على جهة الاستقبال كالمتعة وقد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال فيمن طلق قبل الدخول وقد سمى لها أن نصف المسمى هو متعتها وكذلك كان يقول أبو الحسن الكرخي وعلى هذا المعنى قالوا في شاهدين شهدا على رجل بطلاق امرأته قبل الدخول وهو يجحد ثم رجعا أنهما يضمنان للزوج نصف المهر الذي غرم لأن الطلاق قبل الدخول يسقط جميع المهر والنصف الذي يلزمه في التقدير كأنه دين مستأنف ألزماه بشهادتهما فعلى هذا لا يختلف حكم الزيادة والتسمية في سقوطهما بالطلاق قبل الدخول فإن قيل هذا التأويل يؤدي إلى مخالفة قوله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم لأنك قلت إن الجميع يسقط ويجب النصف على وجه الاستئناف
قيل له ليس في الآية نفي لأن يكون النصف الواجب بعد الطلاق مهرا على وجه الاستيناف وإنما فيه وجوب نصف المفروض غير مقيد بوصف ولا شرط ونحن نوجب النصف أيضا فليس فيما ذكرنا من وجوبه في التقدير على وجه الاستئناف على أنه متعتها مخالفة للآية ويدل على أن الطلاق قبل الدخول يسقط جميع الزيادة إنا قد علمنا أن العقد إذا خلا من التسمية يوجب مهر المثل إذ غير رجائز أن يملك البضع بلا بدل ثم إذا رد الطلاق قبل الدخول أسقطه إذ لم يكن مسمى في العقد وكذلك الزيادة لما لم تكن مسماة في العقد وجب أن يسقطها الطلاق قبل الدخول وإن كانت قد وجبت بإلحاقها بالعقد والله أعلم

باب
نكاح الإماء قال الله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات قال أبو بكر الذي اقتضته هذه الآية إباحة نكاح الإماء المؤمنات عند عدم الطول إلى الحرائر المؤمنات لأنه لا خلاف أن المراد بالمحصنات ههنا الحرائر وليس فيها حظر لغيرهن لأن تخصيص هذه الحال بذكر الإباحة فيها لا يدل على حظر ما عداها كقوله تعالى ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق لا دلالة فيه على إباحة القتل عند زوال هذه الحال وقوله تعالى ولا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة لا يدل على إباحته إذا لم يكن أضعافا مضاعفة وقوله تعالى ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به ليس بدلالة على أن أحدنا يجوز أن يقوم له برهان على صحة القول بأن مع الله إلها آخر تعالى الله عن ذلك وقد بينا ذلك في اصول الفقه فإذا ليس في قوله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا الآية إلا إباحة نكاح الإماء لمن كانت هذه حاله ولا دلالة فيه على حكم من وجد طولا إلى الحرة لا بحظر ولا إباحة
واختلف السلف في معنى الطول فروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والسدي أنهم قالوا هو الغنى وروي عن عطاء وجابر بن زيد وإبراهيم قالوا إذا هوى الأمة فله أن يتزوجها وإن كان موسرا إذا خاف أن يزني بها فكان معنى الطول عند هؤلاء في هذا الموضع أن لا ينصرف قلبه عنها بنكاح الحرة لميله إليها ومحبته لها فأباحوا له في هذه الحال نكاحها والطول يحتمل الغنى والقدرة ويحتمل الفضل قال الله تعالى شديد العقاب ذي الطول قيل فيه ذو الفضل وقيل ذو القدرة والفضل والغنى يتقاربان في المعنى فاحتمل الطول المذكور في الآية الغنى والقدرة واحتمل الفضل والسعة فإذا كان معناه الغنى واحتمل وجهين أحدهما حصول الغنى له بكون الحرة تحته والثاني غنى المال وقدرته على تزوج حرة وإذا كان معناه الفضل احتمل إرادة الغنى لأن الفضل يوجب ذلك والثاني اتساع قلبه لتزوج الحرة والانصراف عن الأمة وإنه إن لم يتسع قلبه لذلك وخشي الإقدام من نفسه على محظور جاز له أن يتزوجها وإن كان موسرا على ما روي عن عطاء وجابر بن زيد وإبراهيم هذه الوجوه كلها تحتملها الآية وقد اختلف السلف في ذلك فروي عن ابن عباس وجابر وسعيد بن جبير والشعبي ومكحول لا يتزوج الأمة إلا أن لا يجد

طولا إلى الحرة وروي عن مسروق والشعبي قال نكاح الأمة بمنزلة الميتة والدم ولحم الخنزير لا يحل إلا لمضطر وروي عن علي وأبي جعفر ومجاهد وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب رواية وإبراهيم والحسن رواية والزهري قالوا ينكح الأمة وإن كان موسرا وعن عطاء وجابر بن زيد أنه إن خشي أن يزني بها تزوجها وروي عن عطاء أنه يتزوج الأمة على الحرة وعن عبدالله بن مسعود قال لا يتزوج الأمة على الحرة إلا المملوك وقال عمر وعلي وسعيد بن المسيب ومكحول في آخرين لا يتزوج الأمة على الحرة وقال إبراهيم يتزوج الأمة على الحرة إذا كان له منها ولد وقال إذا تزوج أمة وحرة في عقد واحد بطل نكاحهما جميعا وقال ابن عباس ومسروق إذا تزوج حرة فهو طلاق الأمة وقال إبراهيم رواية يفرق بينه وبين الأمة إلا أن يكون له منها ولد وقال الشعبي إذا وجد الطول إلى الحرة بطل نكاح الأمة وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال لا تنكح الأمة على الحرة إلا أن تشاء الحرة ويقسم للحرة يومين وللأمة يوما
قال أبو بكر وهذا يدل على أنه كان لا يرى تزويج الأمة على الحرة جائزا إن لم ترض الحرة
واختلفوا فيمن يجوز أن يتزوج من الإماء فروى ابن عباس أنه قال لا يتزوج من الإماء أكثر من واحدة وقال إبراهيم ومجاهد والزهري يجمع أربع إماء أن شاء فاختلف السلف في نكاح الأمة على هذه الوجوه واختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والحسن بن زياد للرجل أن يتزوج أمة إذا لم تكن تحته حرة وإن وجد طولا إلى الحرة ولا يتزوجها إذا كانت تحته حرة وقال سفيان والثوري إذا خشي على نفسه في المملوكة فلا بأس بأن يتزوجها وإن كان موسرا ومالك والليث والأوزاعي والشافعي الطول المال فإذا وجد طولا إلى الحرة لا يتزوج أمة وإن لم يجد طولا لم يتزوجها أيضا حتى يخشى العنت على نفسه واتفق أصحابنا والثوري والأوزاعي والشافعي أنه لا يجوز له أن يتزوج أمة وتحته حرة ولا يفرقون بين إذن الحرة في ذلك وغير إذنها وقال ابن وهب عن مالك لا بأس أن يتزوج الرجل الأمة على الحرة والحرة بالخيار وقال ابن القاسم عنه في الأمة تنكح على الحرة أرى أن يفرق بينهما ثم رجع وقال تخير الحرة إن شاءت أقامت وإن شاءت فارقت قال وسئل مالك عن رجل تزوج أمة وهو ممن يجد طولا إلى الحرة قال أرى أن يفرق بينهما فقيل له إنه يخاف العنت قال

السوط يضرب به ثم خففه بعد ذلك قال وقال مالك إذا تزوج العبد أمة على حرة فلا خيار للحرة لأن الأمة من نسائه وقال عثمان البتي لا بأس أن يتزوج الرجل الأمة على الحرة
والدليل على جواز نكاح الأمة وإن قدر على تزوج الحرة إذا لم تكن تحته قول الله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم قد حوت هذه الآية الدلالة من وجهين على جواز تزويج الأمة مع القدرة على نكاح الحرة أحدهما إباحة النكاح على الإطلاق في جميع النساء من العدد المذكور من غير تخصيص لحرة من أمة والثاني قوله تعالى في نسق الخطاب أو ما ملكت أيمانكم ومعلوم أن قوله أو ما ملكت أيمانكم غير مكتف بنفسه في إفادة الحكم وأنه مفتقر إلى ضمير وضميره هو ما تقدم ذكره مظهرا في الخطاب وهو عقد النكاح فكان تقديره فاعقدوا نكاحها على ما طاب لكم من النساء أو ما ملكت أيمانكم وغير جائز إضمار الوطء فيه إذ لم يتقدم له ذكر فثبت بدلالة هذه الآية أنه مخير بين تزويج الأمة أو الحرة
فإن قيل قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء إباحة معقودة بشرط وهي أن تكون مما طاب لنا فدل على أنه مما طاب حتى يجوز العقد وهو إذا كان كذلك كان بمنزلة المجمل المفتقر إلى البيان
قيل له قوله تعالى ما طاب لكم يحتمل وجهين أحدهما أن يكون معناه ما استطبتموه فيكون مفيدا للتخيير كقول القائل اجلس ما طاب لك في هذه الدار وكل ما طاب لك من هذا الطعام فيفيد تخييره في فعل ما شاء منه والوجه الآخر ما حل لكم فإن كان المراد الوجه الأول فقد اقتضى تخييره في نكاح من شاء وذلك عموم في الحرائر والإماء وإن كان معناه ما حل لكم فإنه قد عقبه ببيان ما طاب لكم منها وهو قوله تعالى مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم فقد خرج بذلك عن حيز الإجمال إلى حيز العموم واستعمال العموم واجب كيف تصرفت الحال وعلى أنها لو كانت محتملة للعموم والإجمال جميعا لكان حملها على معنى العموم أولى لإمكان استعماله ومتى أمكننا استعمال حكم اللفظ على وجه فعلينا استعماله ويدل عليه قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلك أن تبتغوا بأموالكم وذلك عموم في الحرائر والإماء ويدل عليه قوله تعالى اليوم أحل الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من

الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والإحصان اسم يقع على الإسلام وعلى العقد يدل عليه قوله تعالى فإذا أحصن روي عن بعض السلف فإذا أسلمن وقال بعضهم فإذا تزوجن ومعلوم أنه لم يرد به التزويج في هذا الموضع فثبت أنه أراد العفاف وذلك عموم في الحرائر والإماء وقوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم هو عموم أيضا في تزويج الإماء الكتابيات ويدل عليه قوله تعالى وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم وذلك عموم يوجب جواز نكاح الإماء كما اقتضى جواز نكاح الحرائر ويدل عليه أيضا قوله تعالى ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ومحال أن يخاطب بذلك إلا من قدر على نكاح المشركة الحرة ومن وجد طولا إلى الحرة المشركة فهو يجد طولا إلى الحرة المسلمة فاقتضى ذلك جواز نكاح الأمة مع وجود الطول إلى الحرة المسلمة كما اقتضاه مع وجوده إلى الحرة المشركة
ويدل عليه من طريق النظر أن القدرة على نكاح امرأة لا تحرم نكاح أخرى كالقدرة على تزويج البنت لا يحرم تزويج الأم والقدرة على نكاح المرأة لا يحرم نكاح أختها فوجب على هذا أن لا تمنع قدرته على نكاح الحرة من تزويج الأمة بل الأمة أيسر أمرا في ذلك من الأختين والأم والبنت والدليل عليه جواز اجتماع الحرة والأمة تحته عند جميع فقهاء الأمصار وامتناع اجتماع الأم والبنت والأختين تحته فلما لم يكن إمكان تزويج البنت الذي هو أغلظ حكما مانعا من الأم الحرة والأمة وجب أن لا يكون لإمكان تزوج الحرة تأثير في منع نكاح الأمة
واحتج من خالف في ذلك بقوله تعالى فمن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات إلى قوله تعالى ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم وأنه أباح نكاح الأمة بشرط عدم الطول إلى الحرة وخشية العنت فلا تجوز استباحته إلا بوجود الشرطين جميعا وهذه الآية قاضية على ما تلوت من الآي لما فيها من بيان حكم الأمة في التزويج
قيل له ليس في هذه الآية حظر نكاح الأمة في حال وجود الطول إلى الحرة وإنما فيها إباحته في حال عدم الطول إليها وسائر الآي التي تلونا يقتضي إباحة نكاحها في سائر الأحوال فليس في أحدهما ما يوجب تخصيص الأخرى لورودهما جميعا في حكم الإباحة وليس في واحدة منهما حظر فلا يجوز أن يقال إن هذه مخصصة لها والجميع وارد في حكم واحد
فإن قيل

هذا كقوله تعالى فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا فكان مقتضى جميع ذلك امتناع جوازه مع وجود ما قبله
قيل له لأنه جعل الفرق بديا عتق رقبة فاقتضى ذلك أن يكون الفرض هو العتق لا غير فلما نقله عند عدم الرقبة إلى الصيام اقتضى ذلك أن لا يجزي غيره إذا عدم الرقبة فلما قال فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا كان حكم الكفارة مقصورا على المذكور في الآية على ما اقتضته من الترتيب وليس معك آية تحظر نكاح الإماء حتى إذا ذكرت إباحتهن بشرط وحال كان عدم الشرط والحال موجبا لحظرهن بل سائر الآي الواردة في إباحة النكاح ليس فيها فرق بين الحرائر والإماء فليس إذا في قوله ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات دلالة على حظرهن عند وجود الطول إلى الحرة
وذكر إسماعيل بن إسحاق هذه الآية وذكر اختلاف السلف فيها ثم ذكر قول أصحابنا في تجويزهم نكاح الأمة مع القدرة على تزويج الحرة فقال وهذا قول تجاوز فساده ولا يحتمل التأويل لأنه محظور في الكتاب إلا من الجهة التي أبيحت
قال أبو بكر قوله لا يحتمل التأويل خلاف الإجماع وذلك لأن الصحابة قد اختلفوا فيه وقد حكينا أقاويلهم ولولا خشية الإطالة لذكرنا أسانيدها ولو كان لا يحتمل التأويل لما قال به من قال من السلف إذ غير جائز لأحد تأويل آية على معنى لا تحتمله وقد ظهر هذا الاختلاف في السلف فلم ينكر بعضهم على بعض القول فيها على الوجوه التي اختلفوا فيها ولو كان هذا القول غير محتمل ولا يسوغ التأويل فيه لأنكره من لم يقل به منهم على قائليه فإذا كان هذا القول مستفيضا فيهم من نكير ظهر من أحد منهم على قائليه فقد حصل بإجماعهم تسويغ الاجتهاد فيه واحتمال الآية للتأويل الذي تأولته فقد بان بما وصفنا أن إنكاره لاحتمال التأويل غير صحيح وأما قوله إنه محظور في الكتاب إلا من الجهة التي أبيحت فإنه لا يخلو من أن يريد أنه محظور فيه نصا أو دليلا فإن ادعى نصا طولب بتلاوته وإظهاره ولا سبيل له إلى ذلك وإن ادعى على ذلك دليلا طولب بإيجاده وذلك معدوم فلم يحصل من قوله إلا على هذه الدعوى لنفسه والتعجب من قول خصمه اللهم إلا أن يزعم أن تخصيصه الإباحة بهذه الحال والشرط دليل على حظر ما عداه فإن كان إلى هذا ذهب فإن هذا دليل يحتاج إلى دليل وما نعلم أحدا استدل بمثله قبل الشافعي ولو كان هذا دليلا لكانت

الصحابة أولى بالسبق إلى الاستدلال به في هذه المسئلة ونظائرها من المسائل مع كثرة ما اختلفوا فيه من احكام الحوادث التي لم يخل كثير منها من إمكان الاستدلال عليها بهذا الضرب كما استدلوا عليها بالقياس والاجتهاد وسائر ضروب الدلالات وفي تركهم الاستدلال بمثله دليل على أن ذلك لم يكن عندهم دليلا على شيء فإذا لم يحصل إسماعيل من قوله هو محظور في الكتاب على حجة ولا شبهة
وقد حكى داود الأصبهاني أن إسماعيل سئل عن النص ما هو فقال النص ما اتفقوا عليه فقيل له فكل ما اختلفوا فيه من الكتاب فليس بنص فقال القرآن كله نص فقيل له فلم اختلف أصحاب محمد النبي صلى الله عليه وسلم - والقرآن كله نص فقال داود ظلمه السائل ليس مثله يسئل عن هذه المسئلة هو أقل من أن يبلغ علمه هذا الموضع فإن كانت حكاية داود عنه صحيحة فإن ذلك لا يليق بإنكاره على القائلين بإباحة نكاح الأمة مع إمكان تزوج الحرة لأنه حكي عنه أنه قال مرة ما اتفقوا عليه فهو نص وقال مرة القرآن كله نص وليس في القرآن ما يخالف قولنا ولا اتفقت الأمة أيضا على خلافه وفي حكاية داود هذا عن إسماعيل عهدة وهو غير أمين ولا ثقة فيما يحكيه وغير مصدق على إسماعيل خاصة لأنه كان نفاه من بغداد وقذفه بالعظائم وما أظن تعجب إسماعيل من قولنا إلا من جهة أنه كان يعتقد في مثله أنه دلالة على حظر ما عدا المذكور وقد بينا أن ذلك ليس بدليل واستقصينا القول فيه أصول الفقه ومما يدل على صحة قولنا أن خوف العنت وعدم الطول ليسا بضرورة لأن الضرورة ما يخاف فيها تلف النفس وليس في فقد الجماع تلف النفس وقد أبيح له نكاح الأمة فإذا جاز نكاح الأمة في غير ضرورة فلا فرق بين وجود الطول وعدمه إذ عدم الطول ليس بضرورة في التزوج إذ لا تقع لأحد ضرورة إلى التزوج إلا أن يكره عليه بما يوجب تلف النفس أو بعض الأعضاء ويدل على أن الإباحة المذكورة في الآية غير معقودة بضرورة قوله في نسق الخطاب أن تصبروا خير لكم وما اضطر إليه الإنسان من ميتة أو لحم خنزير أو نحوه لا يكون الصبر عليه خيرا له لأنه لو صبر عليه حتى مات كان عاصيا وأيضا فليس النكاح بفرض حتى تعتبر فيه الضرورة وأصله تأديب وندب وإذا كان كذلك وقد جاز في غير الضرورة وجب أن يجوز في حال وجود الطول كما أجاز في حال عدمه وقوله تعالى بعضكم من بعض في نسق التلاوة قيل فيه إن كلكم من آدم وقيل فيه كلكم مؤمنون يدل على

أنه أراد المساواة بينهم في النكاح وهذا يدل على وجوب التسوية بين الحرة والأمة إلا فيما تقوم فيه دلالة التفضيل وأما من قال إن نكاح الحرة طلاق للأمة فقوله وانه ضعيف لا مساغ له في النظر لأنه لو كان كما ذكر لوجب أن يكون الطول إلى الحرة فاسخا لنكاح الأمة كما قال الشعبي كالمتيمم إذا وجد الماء ينتقض تيممه توضأ أو لم يتوضأ وقد روي عن أبي يوسف أنه تأول قوله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا على عدم الحرة في ملكه وأن وجود الطول هو كون الحرة تحته وهذا التأويل سائغ لأن من ليس عنده حرة فهو غير مستطيع للطول إليها إذ لا يصل إليها ولا يقدر على وطئها فكان وجود الطول عنده هو ملك وطء الحرة وهو أولى بمعنى الآية من تأول من تأوله على القدرة على تزوجها لأن القدرة على المال لا توجب له ملك الوطء إلا بعد النكاح فوجود الطول بحال ملك الوطء أخص منه بوجود المال الذي به يتوصل إلى النكاح ويدل عليه أنا وجدنا لملك وطء الزوجة تأثيرا في منع نكاح أخرى ولم نجد هذه المزية لوجود المال فإذا لا حظ لوجود المال في منع نكاح الأمة فتأويل أبي يوسف الآية على ملك وطء الحرة أصح من تأويل من تأولها على ملك المال فإن قيل وجود ثمن رقبة الظهار كوجود الرقبة في ملكه فهلا كان وجود مهر الحرة كوجود نكاحها
قيل له هذا خطأ منتقض من وجوه أحدها أنك لم تعقده بمعنى يوجب الجمع بينهما وبدلالة يدل بها على صحة المعنى وما خلا من ذلك من دعوى الخصم فهو ساقط غير مقبول والثاني أن ذلك يوجب أن يكون وجود مهر امرأة ي ملكه كوجود نكاحها في منع تزويج أمها أو أختها فلما لم يكن ذلك بأن به فساد ما ذكرت وعلى أن الرقبة ليست عروضا للنكاح لأن الرقبة فرض عليه عتقها وغير جائز له الانصراف عنها مع وجودها وجائز للرجل أن لا يتزوج مع الإمكان فلما كان كذلك كان وجود ثمن الرقبة في ملكه كوجودها إذ كانت فرضا هو مأمور بعتقها على حسب الإمكان وليس النكاح بفرض فيلزمه التوصل إليه لوجود المهر فليس إذا لوجود المهر في ملكه تأثير في منع نكح الأمة وكان واجده بمنزلة من لم يجد وإنما قال أصحابنا إنه لا يتزوج الأمة على الحرة لما روى الحسن ومجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا تنكح الأمة على الحرة ولولا ما ورد من الأثر لم يكن تزويج الأمة على الحرة محظورا إذ ليس في القرآن ما يوجب حظره والقياس يوجب إباحته ولكنهم اتبعوا

الأثر في ذلك والله تعالى أعلم
باب
نكاح الأمة الكتابية قال أبو بكر اختلف أهل العلم فيه فروي عن الحسن ومجاهد وسعيد بن عبدالعزيز وأبي بكر بن عبدالله بن أبي مريم كراهة ذلك وهو قول الثوري وقال أبو ميسرة في آخرين يجوز نكاحها وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر وروي عن أبي يوسف أنه كرهه إذا كان مولاها كافرا والنكاح جائز ويشبه أن يكون ذهب إلى أن ولدها يكون عبدا لمولاها وهو مسلم بإسلام الأب كما يكره بيع العبد المسلم من الكافر وقال مالك والأوزاعي والشافعي والليث بن سعد لا يجوز النكاح والدليل على جوازه جميع ما ذكرنا من عموم الآي في الباب الذي قبله الموجبة لجواز نكاح الأمة مع وجود الطول إلى الحرة ودلالتها على جواز نكاح الأمة الكتابية كهي على إباحة نكاح المسلمة ومما يختص منها بالدلالة على هذه المسألة قوله عز و جل والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وروى جرير عن ليث عن مجاهد في قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قال العفائف وروى هشيم عن مطرف عن الشعبي والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قال إحصانها أن تغتسل من الجنابة وتحصن فرجها من الزنا فثبت بذلك أن اسم الإحصان قد يتناول الكتابية قال تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم فاستثنى ملك اليمين من المحصنات فدل على أن الاسم يقع عليهن لولا ذلك لما استثناهن وقال تعالى فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فأطلق اسم الإحصان في هذا الموضع على الإماء ولما ثبت أن اسم المحصنات يقع على الكتابيات من الحرائر والإماء وأطلق الله نكاح الكتابيات المحصنات بقوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم كان عاما في الحرائر والإماء منهم فإن احتجوا بقوله ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن وكانت هذه مشركة وقال في أية أخرى ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات فكانت إباحة نكاح الإماء مقصورة على المسلمات منهن دون الكتابيات وجب أن يكون نكاح الإماء الكتابيات باقيا في حكم الحظر قيل له إطلاق اسم المشركات لا يتناول الكتابيات وإنما يقع على عبدة الأوثان دون غيرهم لأن الله تعالى

قد فرق بينهما في قوله لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين فعطف المشركين على أهل الكتاب وهذا يدل على أن إطلاق الاسم إنما يتناول عبدة الأوثان دون غيرهم فلم يعم الكتابيات فغير جائز الاعتراض به في حظر نكاح الإماء الكتابيات وأيضا فلا خلاف بين فقهاء الأمصار أن قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قاض على قوله ولا تنكحوا المشركات وذلك لأنهم لا يختلفون في جواز نكاح الحرائر الكتابيات فليس يخلو حينئذ قوله ولا تنكحوا المشركات من أن يكون عاما في إطلاقه للكتابيات والوثنيات أو أن يكون إطلاقه مقصورا على الوثنيات دون الكتابيات فإن كان الإطلاق إنما يتناول الوثنيات دون الكتابيات فالسؤال نازلا بعده فيكون مستعملا أيضا أو أن يكون حظر نكاح المشركات متأخرا عن إباحة ساقط فيه إذ ليس بناف فيه لنكاح الكتابيات وإن كان الإطلاق ينتظم الصنفين جميعا لو حملنا على ظاهره فقد اتفقوا أنه مرتب على قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم لاتفاق الجميع على استعماله معه في الحرائر منهن وإذا كان كذلك لم يخل من أن تكون الآيتان نزلتا معا أو أن تكون إباحة نكاح الكتابيات متأخرا عن حظر نكاح المشركات أو أن يكون حظر نكاح المشركات متأخرا عن إباحة نكاح الكتابيات فإن كانتا نزلتا معا فهما مستعملتان جميعا على جهة ترتيب حظر نكاح المشركات على إباحة نكاح الكتابيات أو أن يكون نكاح الكتابيات نكاح الكتابيات فإن كان كذلك فإنه ورد مرتبا على إباحة نكاح الكتابيات فالإباحة مستعملة في الأحوال كلها كيف تصرف الحال على الحال على أنه ولا خلاف أن قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم نزل بعد تحريمه نكاح المشركات لأن آية تحريم المشركات في سورة البقرة وإباحة نكاح الكتابيات في سورة المائدة وهي نزلت بعدها فهي قاضية على تحريم المشركات إن كان إطلاق اسم المشركات يتناول الكتابيات ثم لما تفرق الآية المبيحة لنكاح الكتابيات بين الحرائر منهن وبين الإماء واقتضى عمومها الفريقين منهن وجب استعمالها فيهما جميعا وأن لا يعترض بتحريم نكاح المشركات عليهن كما لم يجز الاعتراض به على الحرائر منهن وأما تخصيص الله تعالى المؤمنات من الإماء في قوله من فتياتكم المؤمنات فقد بينا في المسألة المتقدمة أن التخصيص بالذكر

لا يدل على أن ما عداالمخصوص حكمه بخلافه
فإن قيل لا يصح الاحتجاج بقوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم في إباحة النكاح وذلك لأن الإحصان اسم مشترك يتناول معاني مختلفة وليس بعموم فيجري على مقتضى لفظه بل هو مجمل موقوف الحكم على البيان فما ورد به البيان من توقيف أو اتفاق صرنا إليه وكان حكم الآية مقصورا عليه وما لم يرد به بيان فهو على إجماله لا يصح الاحتجاج بعمومه فلما اتفق الجميع على أن الحرائر من الكتابيات مرادات به استعملنا حكم الآية فيهن ولما لم تقم الدلالة على إرادة الإماء الكتابيات احتجنا في إثباتها إلى دليل من غيرها
قيل له لما روي عن جماعة من السلف في قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب إنهن العفائف منهن إذا كان اسم الإحصان يقع على العفة وجب اعتبار عموم اللفظ في جميع العفائف إذ قد ثبت أن العفة مرادة بهذا الإحصان وما عدا ذلك من ضروب الإحصان لم تقم الدلالة على أنها مرادة وقد اتفقوا على أنه ليس من شرط هذا الإحصان استكمال شرائطه كلها فما وقع عليه الاسم واتفق الجميع أنه مراد أثبتناه وما عداه يحتاج مثبته شرطا في الإباحة إلى دلالة فإن قيل اسم الإحصان يقع على الحرية فما أنكرت أن يكون المراد بقوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم الحرائر منهن قيل له لما كان معلوما أنه لم يرد بذكر الإحصان في هذا الموضع استيفاء شرائطه لم يجز لأحد أن يقتصر بمعنى الإحصان فيه على بعض ما يقع عليه الاسم دون بعض بل إذا تناوله الاسم من وجه وجب اعتبار عمومه فيه فلما كانت الأمة قد يتناولها اسم الإحصان على الإطلاق في بعض الوجوه من طريق العفة أو غيرها جاز اعتبار عموم ا للفظ فيه وإذا جاز لك أن تقتصر باسم الإحصان على الحرية دون غيرها فجائز لغيرك أن يقتصر به على العفاف دون غيره وغير جائز لنا إجمال حكم اللفظ مع إمكان استعماله على العموم وقد أطلق الله اسم الإحصان على الأمة فقال تعالى فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب فقال بعضهم أراد فإذا أسلمن وقال بعضهم فإذا تزوجن فكان اعتبار هذا العموم سائغا في إيجاب الحد عليهن وقد قال في الآية والمحصنات من المؤمنات ولم يرد به حصول جميع شرائط الإحصان وإنما أراد به العفائف منهن وحرم ذوات الأزواج بقوله والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم فكان عموما في تحريم الأزواج إلا

ما استثناهن فكذلك قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم لا يمنع ذكر الإحصان فيه من اعتبار عمومه فيمن يقع عليه الاسم من جهة العفاف على ما روي عن السلف
ومن جهة النظر أنه لا خلاف بين الفقهاء في إباحة وطء الأمة الكتابية بملك اليمين وكل من جاز وطؤها بملك اليمين جاز وطؤها بملك النكاح على الوجه الذي يجوز عليه نكاح الحرة المنفردة ألا ترى أن المسلمة لما جاز وطؤها بملك اليمين جاز وطؤها بالنكاح وأن الأخت من الرضاعة وأم المرأة وحليلة الابن وما نكح الآباء لما لم يجز وطؤهن بملك اليمين حرم وطؤهن بالنكاح فلما اتفق الجميع على جواز وطء الأمة الكتابية بملك اليمين وجب جواز وطئها بالنكاح على الوجه الذي يجوز فيه وطء الحرة المنفردة فإن قيل قد يجوز وطء الأمة الكتابية بملك اليمين ولا يجوز بالنكاح كما إذا كانت تحته حرة قيل له لم نجعل ما ذكرنا علة لجواز نكاحها في سائر الأحوال وإنما جعلناه علة لجواز نكاحها منفردة غير مجموعة إلى غيرها ألا ترى أن الأمة المسلمة يجوز نكاحها منفردة ولو كانت تحته حرة لما جاز نكاحها لأنه لم يجز نكاحها من طريق جمعها إلى الحرة كما لا يجوز نكاحها لو كانت أختها تحته وهي أمة فعلنا صحيحة مستمرة جارية في معلولاتها غير لازم عليها ما ذكرت إذ كانت منصوبة لجواز نكاحها منفردة غير مجموعة إلى غيرها وبالله التوفيق
باب
نكاح الأمة بغير إذن مولاها قال الله تعالى فانكحوهن بإذن أهلهن قال أبو بكر قد اقتضى ذلك بطلان نكاح الأمة إلا أن يأذن سيدها وذلك لأن قوله تعالى فانكحوهن بإذن أهلهن يدل على كون الإذن شرطا في جواز النكاح وإن لم يكن النكاح واجبا وهو مثل قوله ص - من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم أن السلم ليس بواجب ولكنه إذا اختار أن يسلم فعليه استيفاء هذه الشرائط كذلك النكاح وإن لم يكن حتما فعليه إذا أراد أن يتزوج الأمة أن لا يتزوجها إلا بإذن سيدها وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى في نكاح العبد حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن شاذان قال أخبرنا معلى قال حدثنا عبدالوارث قال حدثنا القاسم بن عبدالواحد عن عبدالله بن محمد بن عقيل عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
إذا تزوج العبد بغير إذن مولاه فهو عاهر حدثنا عبد

الباقي قال حدثنا محمد بن الخطابي قال حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال حدثنا الحسن بن صالح عن عبدالله بن محمد بن عقيل قال سمعت جابر بن عبدالله يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - أيما عبد تزوج بغير إذن سيده زنا وروى هشيم عن يونس عن نافع أن مملوكا لابن عمر تزوج بغير إذنه فضربهما وفرق بينهما وأخذ كل شيء أعطاها وقال الحسن وسعيد بن المسيب وإبراهيم والشعبي إذا تزوج العبد بغير إذن مولاه فالأمر إلى المولى إن شاء أجاز وإن شاء رد وقال عطاء نكاح العبد بغير إذن سيده ليس بزنا لكنه أخطأ السنة وروى قتادة عن خلاس أن غلاما لأبي موسى تزوج بغير إذنه فرفع ذلك إلى عثمان ففرق بينهما وأعطاها الخمسين وأخذ ثلاثة أخماس قال أبو بكر واتفق من ذكرنا قوله من السلف أنه لا حد عليهما وإنما روي الحد عن ابن عمر وجائز أن يكون جلدهما تعزيرا لا حدا فظن الراوي أنه حد واتفق علي وعمر في المتزوجة في العدة أنه لا حد عليها ولا نعلم أحدا من الصحابة خالفهما في ذلك والعبد الذي تزوج بغير إذن مولاه أيسر أمرا من المتزوجة في العدة لأن ذلك نكاح تلحقه الإجازة عند عامة التابعين وفقهاء الأمصار ونكاح المعتدة لا تلحقه إجازة عند أحد وتحريم نكاح المعتدة منصوص عليه في الكتاب في قوله تعالى ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله وتحريم نكاح العبد من جهة خبر الواحد والنظر فإن
قيل قال النبي صلى الله عليه وسلم -
في العبد يتزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر وقد قال ص - وللعاهر الحجر
قيل له لا خلاف أن العبد غير مراد بقوله وللعاهر الحجر لأنه لا يرجم إذا زنى وإنما سماه عاهرا على المجاز والتشبيه بالزاني لإقدامه على وطء محظور وقال النبي صلى الله عليه وسلم - العينان تزنيان والرجلان تزنيان وذلك مجاز فكذلك قوله في العبد وأيضا فقد قال أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر ولم يذكر الوطء ولا خلاف أنه لا يكون عاهرا بالتزوج فدل أن إطلاقه ذلك كان على وجه المجاز تشبيها له بالعاهر
وقوله تعالى فانكحوهن بإذن أهلهن يدل على أن للمرأة أن تزوج أمتها لأن قوله أهلهن المراد به الموالي لأنه لا خلاف أنه لا يجوز لها أن تتزوج بغير مولاها وأنه لا اعتبار بإذن غير المولى إذا كان المولى بالغا عاقلا جائز التصرف في ماله وقال الشافعي لا يجوز للمرأة أن تزوج أمتها وإنما توكل غيرها بالتزويج وهو قول يرده ظاهر الكتاب لأن الله تعالى لم يفرق بين عقدها التزويج وبين عقد غيرها بإذنها ويدل على أنها إذا أذنت لامرأة أخرى في

تزوجيها أنه جائز لأنها تكون منكوحة بإذنها وظاهر الآية مقتض لجواز نكاحها بإذن مولاها فإذا وكل مولاها أو مولاتها امرأة بتزويجها وجب أن يجوز ذلك لأن ظاهر الآية قد أجازه ومن منع ذلك فإنما خص الآية بغير دلالة وأيضا فإن كانت هي لا تملك عقد النكاح عليها فغير جائز توكيلها غيرها به لأن توكيل الإنسان إنما يجوز فيما يملكه فأما مالا يملكه فغير جائز توكيل غيره في العقود التي تتعلق أحكامها بالموكل دون الوكيل وقد يصح عندنا توكيل من لا يصح عقده إذا عقد في العقود التي تتعلق أحكامها بالوكيل دون الموكل وهي عقود البياعات والإجارت فأما عقد النكاح إذا وكل به فإنما يتعلق حكمه بالموكل دون الوكيل ألا ترى أن الوكيل بالنكاح لا يلزمه المهر ولا تسليمه البضع فلو لم تكن المرأة مالكة لعقد النكاح لما صح توكيلها به لغيرها إذ كانت أحكام العقود غير متعلقة بالوكيل فلما صح توكيلها به مع تعلق أحكامه بها دون الوكيل دل على أنها تملك العقد وهذا أيضا دليل على أن الحرة تملك عقد النكاح على نفسها كما جاز وتوكيلها على غيرها به وهو وليها وقوله تعالى وآتوهن أجورهن بالمعروف يدل على وجوب مهرها إذا نكحها سمى لها مهرا أو لم يسم لأنه لم يفرق بين من سمى وبين من لم يسم في إيجابه المهر ويدل على أنه قد أريد به مهر المثل قوله تعالى بالمعروف وهذا إنما يطلق فيما كان مبنيا على الاجتهاد وغالب الظن المعتاد والمتعارف كقوله تعالى وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بمالعروف وقوله تعالى وآتوهن أجورهن يقتضي ظاهره وجوب دفع المهر إليها والمهر واجب للمولى دونها لأن المولى هو المالك للوطء الذي أباحه للزوج بعقد النكاح فهو المستحق لبدله كما لو آجرها للخدمة كان المولى هو المستحق للأجرة دونها كذلك المهر ومع ذلك فإن الأمة لا تملك شيئا فلا تستحق قبض المهر
ومعنى الآية على أحد وجهين إما أن يكون المراد إعطاؤهن المهر بشرط إذن المولى فيه فيكون الإذن المذكور بديا مضمرا في إعطائها المهر كما كان مشروطا في التزويج فيكون تقديره فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بإذنهم فيدل ذلك على أنه غير جائز إعطاؤهن المهر إلا بإذن المولى وهو كقوله تعالى والحافظين فروجهم والحافظات والمعنى والحافظات فروجهن وقوله تعالى والذاكرين الله كثيرا والذاكرات ومعناه والذاكرات الله وتكون دلالة هذا الضمير ما في الآية من نفي ملكها لتزويجها نفسها

وإن المولى أملك بذلك منها وقوله تعالى ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء فنفي ملكه نفيا عاما وفيه الدلالة على أن الأمة لا تستحق مهرها ولا تملكه والوجه الآخر أن يكون أضاف الإعطاء إليهن والمراد المولى كما لو تزوج صبية صغيرة أو أمة صغيرة بإذن الأب والمولى جاز أن يقال أعطهما مهريهما ويكون المراد إعطاء الأب أو المولى ألا ترى أنه يصح أن يقال لمن عليه دين ليتيم قد مطله به أنه مانع لليتيم حقه وإن كان اليتيم لا يستحق قبضه ويقال أعط اليتيم حقه وقال تعالى وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل وقد انتظم ذلك الصغار والكبار من أهل هذه الأصناف وإعطاء الصغار إنما يكون بإعطاء أوليائهم فكذلك جائز أن يكون المراد بقوله وآتوهن إيتاء من يستحق ذلك من مواليهن
وزعم بعض أصحاب مالك أن الأمة هي المستحقة لقبض مهرها وأن المولى إذا آجرها للخدمة كان هو المستحق للأجر دونها واحتج للمهر بقوله تعالى وآتوهن أجورهن وقد بينا وجه ذلك ومعناه وعلى أنه إن كان المهر يجب لها لأنه بدل بضعها فكذلك يجب أن تكون الأجرة لها لأنه بدل منافعها ومن حيث كان المولى هو المالك لمنافعها كما كان مالكا لبضعها فمن استحق الأجرة دونها فواجب أن يستحق قبض المهر دونها لأنه بدل ملك المولى لا ملكها لأنها لا تملك منافع بضعها ولا منافع بدنها والمولى هو العاقد في الحالين وبه تمت الإجارة والنكاح فلا فرق بينهما
وحكى هذا القائل أن بعض العراقيين أجاز أن يزوج المولى أمته عبده بغير صداق وهذا خلاف الكتاب زعم
قال أبو بكر ما أشد إقدام مخالفينا على الدعاوى على الكتاب والسنة ومن راعى كلامه وتفقد ألفاظه قلت دعاويه بما لا سبيل له إلى إثباته فإن كان هذا القائل إنما أراد أنهم أجازوا أن يزوج أمته عبده بغير تسمية مهر فإن كتاب الله تعالى قد حكم بجواز ذلك في قوله لا جناح عليكم إن طلقتم النساء مالم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة فحكم بصحة الطلاق في نكاح لا مهر فيه مسمى فدعواه أن ذلك خلاف الكتاب قد أكذبها الكتاب وإن كان مراده أنهم قالوا إنه لا يثبت مهر ويستبيح بضعها بغير بدل فهذا مالا نعلم أحدا من العراقيين قاله فحصل هذا القائل على معنيين باطلين إحداهما دعواه على الكتاب وقد بينا أن الكتاب بخلاف ما قال والثاني دعواه على بعض العراقيين ولم يقل أحد منهم ذلك بل قولهم في ذلك أنه إذا تزوج أمته من عبده وجب لها

المهر بالعقد لامتناع استباحة البضع بغير بدل ثم يسقط في الثاني حين يستحقه المولى لأنها لا تملك والمولى هو الذي يملك مالها ولا يثبت للمولى على عبده دين فههنا حالان إحداهما حال العقد يثبت فيها المهر على العبد والحال الثانية هي حال انتقاله إلى المولى بعد العقد فيسقط كما أن رجلا لو كان له على آخر مال فقضاه كان قبضه حالان إحداهما حال قبضه فيملكه مضمونا بمثله ثم يصير قصاصا بماله عليه وكما نقول في الوكيل في الشري أن المشتري انتقل إليه بالعقد ولا يملكه وينتقل في الثاني ملكه إلى الموكل ولذلك نظائر كثيرة لا يفهمها إلا من ارتاص بالمعاني الفقهية وجالس أهل فقه هذا الشأن وأخذ عنهم
قوله تعالى محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان يعني والله أعلم فانكحوهن محصنات غير مسافحات وأمر بأن يكون العقد عليها بالنكاح صحيح وأن لا يكون وطؤها على وجه الزنا لأن الإحصان ههنا بالنكاح والسفاح الزنا ولا متخذات أخدان يعني لا يكون وطؤها على حسب ما كانت عليه عادة أهل الجاهلية في اتخاذ الأخدان قال ابن عباس كان قوم منهم يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي منه والخدن هو الصديق للمرأة يزني بها سرا فنهى الله تعالى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن وزجر عن الوطء إلا عن نكاح صحيح أو ملك يمين وسمى الله الإماء الفتيات بقوله من فتياتكم المؤمنات والفتاة اسم للشابة والعجوز الحرة لا تسمى فتاة والأمة الشابة والعجوز كل واحدة منهما تسمى فتاة ويقال إنها سميت فتاة وإن كانت عجوزا لأنها إذا كانت أمة لا توقر توقير الكبيرة والفتوة حال الغرة والحداثة والله أعلم بالصواب
باب
حد الأمة والعبد قال الله تعالى فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب قال أبو بكر قرئ فإذا أحصن بفتح الألف وقرئ بضم الألف فروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة أن أحصن بالضم معناه تزوجن وعن عمر وابن مسعود والشعبي وإبراهيم أحصن بالفتح قالوا معناه أسلمن وقال الحسن يحصنها الزوج ويحصنها الإسلام
واختلف السلف في حد الأمة متى يجب فقال من تأول قوله فإذا أحصن بالضم على التزويج أن الأمة لا يجب عليها الحد وإن أسلمت ما لم تتزوج وهو مذهب ابن عباس والقائلين بقوله ومن تأول قوله فإذ أحصن بالفتح على

الإسلام جبل عليها الحد إذا أسلمت وزنت وإن لم تتزوج وهو قول ابن مسعود والقائلين بقوله
وقال بعضهم تأويل من تأوله على أسلمن بعيد لأن ذكر الإيمان قد تقدم لهن بقوله من فتياتكم المؤمنات قال فيبعد أن يقال من فتياتكم المؤمنات فإذا آمن وليس هذا كما ظن لأن قوله من فتياتكم المؤمنات إنما هو في شأن النكاح وقد استأنف ذكر حكم آخر غيره وهو الحد فجاز استنيناف ذكر الإسلام فيكون تقديره فإذا كن مسلمات فأتين بفاحشة فعليهن هذا لا يدفعه أحد ولو كان ذلك غير سائغ لما تأوله عمر وابن مسعود والجماعة الذين ذكرنا قولهم عليه وليس يمتنع أن يكون الأمران جميعا من الإسلام والنكاح مرادين باللفظ لاحتماله لهما وتأويل السلف الآية عليهما
وليس الإسلام والتزويج شرطا في إيجاب الحد عليها إذا لم تحصن لم يجب لما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبدالله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير والضفير الحبل وفي حديث سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال في كل مرة فليقم عليها كتاب الله تعالى فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم -
بوجوب الحد عليها مع عدم الإحصان فإن قيل فما فائدة شرط الله الإحصان في قوله فإذا أحصن وهي محدودة في حال الإحصان وعدمه
قيل له لما كانت الحرة لا يجب عليها الرجم إلا أن تكون مسلمة متزوجة أخبر الله تعالى أنهن وإن أحصن بالإسلام وبالتزويج فليس عليهم أكثر من نصف حد الحرة ولولا ذلك لكان يجوز أن يتوهم افتراق حالها في حكم وجود الإحصان وعدمه فإذا كانت محصنة يكون عليها الرجم وإذا كانت غير محصنة فنصف الحد فأزال الله تعالى توهم من يظن ذلك وأخبر أنه ليس عليها إلا نصف الحد في جميع الأحوال فهذه فائدة شرط الإحصان عند ذكر حدها ولما أوجب عليها نصف حد الحرة مع الإحصان علمنا أنه أراد الجلد إذ الرجم لا ينتصف وقوله تعالى فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب أراد به الإحصان من جهة الحرية لا الإحصان الموجب للرجم لأنه لو أراد ذلك لم يصح أن يقال عليها نصف الرجم لأنه لا يتبعض
وخص الله الأمة بإيجاب نصف حد الحرة عليها إذا زنت

وعقلت الأمة من ذلك أن العبد بمثابتها إذ كان المعنى الموجب لنقصان الحد معقولا من الظاهر وهو الرق وهو موجود في العبد
وكذلك قوله تعالى والذين يرمون المحصنات خص المحصنات بالذكر وعقلت الأمة حكم المحصنين أيضا في هذه الآية إذا قذفوا إذ كان المعنى في المحصنة العفة والحرية والإسلام فحكموا للرجل بحكم النساء بالمعنى
وهذا يدل على أن الأحكام إذا عقلت بمعان فحيثما وجدت فالحكم ثابت حتى تقوم الدلالة على الاقتصار على بعض المواضع دون بعض
فصل قوله تعالى فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن يدل على جواز عطف الواجب على الندب لأن النكاح ندب ليس بفرض وإيتاء المهر واجب ونحوه قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ثم قال وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ويصح عطف الندب على الواجب أيضا كقوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى فالعدل واجب والإحسان ندب وقوله تعالى ذلك لمن خشي العنت منكم قال ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك وعطية العوفي هو الزنا وقال آخرون هو الضرر الشديد في دين أو دنيا من قوله تعالى ودوا ما عنتم وقوله لمن خشي العنت منكم راجع إلى قوله فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات وهذا شرط إلى المندوب إليه من ترك نكاح الأمة والاقتصار على تزوج الحرة لئلا يكون ولده عبدا لغيره فإذا خشي العنت ولم يأمن مواقعة المحظور فهو مباح لا كراهة فيه لا في الفعل ولا في الترك ثم عقب ذلك بقوله تعالى وأن تصبروا خير لكم فأبان عن موضع الندب والاختيار هو ترك نكاح الأمة رأسا فكانت دلالة الآية مقتضية لكراهية نكاح الأمة إذا لم يخش العنت ومتى خشي العنت فالنكاح مباح إذا لم تكن تحته حرة والاختيار أن يتركه رأسا وإن خشي العنت لقوله وأن تصبروا خير لكم وإنما ندب الله تعالى إلى ترك نكاح الأمة رأسا مع خوف العنت لأن الولد المولود على فراش النكاح من الأمة يكون عبدا لسيدها ولم يكره استيلاد الأمة بملك اليمين لأن ولده منها يكون حرا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - ما يوافق معنى الآية في كراهة نكاح الأمة حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن الفضل بن جابر السقطي قال حدثنا محمد بن عقبة بن هرم السدوسي قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - انكحوا

الأكفاء وانكحوهن واختاروا لنطفكم وإياكم والزنج فإنه خلق مشوه قوله انكحوا الأكفاء يدل على نكاح الأمة لأنها ليست بكفؤ للحر وقوله واختاروا لنطفكم يدل على ذلك أيضا لئلا يصير ولده عبدا مملوكا وماؤه حر فينتقل بتزويجه إلى الرق وروي في خبر آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال تخيروا لنطفكم فإن عرق السوء يدرك ولو بعد حين وقوله تعالى يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم يعني والله أعلم يريد ليبين لنا ما بنا الحاجة إلى معرفته والبيان من الله تعالى على وجهين أحدهما بالنص والآخر بالدلالة ولا تخلو حادثة صغيرة ولا كبيرة إلا ولله فيها حكم إما بنص وإما بدليل وهو نظير قوله ثم إن علينا بيانه وقوله هذا بيان للناس وقوله وما فرطنا في الكتاب من شيء وقوله ويهديكم سنن الذين من قبلكم من الناس من يقول إن هذا يدل على أن ما حرمه علينا وبين لنا تحريمه من النساء في الآيتين اللتين قبل هذه الآية كان محرما على الذين كانوا من قبلنا من أمم الأنبياء المتقدمين وقال آخرون لا دلالة فيه على اتفاق الشرائع وإنما معناه له يهديكم سنن الذين من قبلكم في بيان ما لكم فيه من المصلحة كما بينه لهم وإن كانت العبادات والشرائع مختلفة في أنفسها إلا أنها وإن كانت مختلفة في أنفسها فهي متفقة في باب المصالح وقال آخرون يبين لكم سنن الذين من قبلكم من أهل الحق وغيرهم لتجتنبوا الباطل وتحبوا الحق وقوله تعالى ويتوب عليكم يدل على بطلان مذهب أهل الأخبار لأنه أخبر أنه يريد أن يتوب علينا وزعم هؤلاء أنه يريد من المصرين الإصرار ولا يريد منهم التوبة والإستغفار
قوله تعالى يريد الذين يتبعون الشهوات فقال قائلون المراد به كل مبطل لأنه يتبع شهوة نفسه فيما وافق الحق أو خالفه ولا يتبع الحق في مخالفة الشهوة وقال مجاهد أراد به الزنا وقال السدي اليهود والنصارى
وقوله أن تميلوا ميلا عظيما يعني به العدول عن الاستقامة بالاستكثار من المعصية وتكون إرادتهم للميل على أحد وجهين إما لعداوتهم أو للأنس بهم والسكون إليهم في الإقامة على المعصية فأخبر الله تعالى أن إرادته لنا خلاف إرادة هؤلاء وقد دلت الآية على أن القصد في اتباع الشهوة مذموم إلا أن يوافق الحق فيكون حينئذ غير مذموم في اتباع شهوته إذ كان قصده اتباع الحق ولكن من كان هذا سبيله لا يطلق عليه أنه متبع لشهوته لأن قصده فيه اتباع الحق وافق شهوته أو خالفها
قوله تعالى

يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا التخفيف هو تسهيل التكليف وهو خلاف التثقيل وهو نظير قوله تعالى ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم وقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج وقوله تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم فنفى الضيق والثقل والحرج عنا في الآيات ونظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم - جئتكم بالحنيفة السمحة وذلك لأنه وإن حرم علينا ما ذكرنا تحريمه من النساء فقد أباح لنا غيرهن من سائر النساء تارة بنكاح وتارة بملك يمين وكذلك سائر المحرمات قد أباح لنا من جنسها أضعاف ما حظر فجعل لنا مندوحة عن الحرام بما أباح من الحلال وعلى هذا المعنى ما روي عن عبدالله بن مسعود إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم يعني أنه لم يقتصر بالشفاء على المحرمات بل جعل لنا مندوحة وغنى عن المحرمات بما أباحه لنا من الأغذية والأدوية حتى لا يضرنا فقد ما حرم في أمور دنيانا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما
وهذه الآيات يحتج بها في المصير إلى التخفيف فيما اختلف فيه الفقهاء وسوغوا فيه الاجتهاد وفيه الدلالة على بطلان مذهب المجبرة في قولهم إن الله يكلف العباد مالا يطيقون لأخباره بأنه يريد التخفيف عنا وتكليف مالا يطاق غاية التثقيل والله أعلم بمعاني كتابه
باب
التجارات وخيار البيع قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم قال أبو بكر قد انتظم هذا العموم النهي عن أكل مال الغير ومال نفسه كقوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم قد اقتضى النهي عن قتل غيره وقتل نفسه فكذلك قوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل نهي لكل أحد عن أكل مال نفسه ومال غيره بالباطل وأكل مال نفسه بالباطل إنفاقه في معاصي الله وأكل مال الغير بالباطل قد قيل فيه وجهان أحدهما ما قال السدي وهو أن يأكل بالربا والقمار والبخس والظلم وقال ابن عباس والحسن أن يأكله بغير عوض فلما نزلت هذه الآية كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس إلى أن نسخ ذلك بالآية التي في النور ليس على الأعمى حرج إلى قوله تعالى ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم الآية قال أبو

بكر يشبه أن يكون مراد ابن عباس والحسن أن الناس تحرجوا بعد نزول الآية أن يأكلوا عند أحد لا على أن الآية أوجبت ذلك لأن الهبات والصدقات لم تكن محظورة قط بهذه الآية وكذلك الأكل عند غيره اللهم إلا أن يكون المراد الأكل عند غيره بغير إذنه فهذا لعمري قد تناولته الآية وقد روى الشعبي عن علقمة عن عبدالله قال هي محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة وروى الربيع عن الحسن قال ما نسخها شيء من القرآن ونظير ما اقتضته الآية من النهي عن أكل مال الغير قوله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام وقول النبي صلى الله عليه وسلم - لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وعلى أن النهي عن أكل مال الغير معقود بصفة وهو أن يأكله بالباطل وقد تضمن ذلك أكل أبدال العقود الفاسدة كأثمان البياعات الفاسدة وكمن اشترى من المأكول فوجده فاسدا لا ينتفع به نحو البيض والجوز فيكون أكل ثمنه أكل مال بالباطل وكذلك ثمن كلا مالا قيمة له ولا ينتفع به كالقرد والخنزير والذباب والزنابير وسائر مالا منفعة فيه فالانتفاع بأثمان جميع ذلك أكل مال بالباطل وكذلك أجرة النائحة والمغنية وكذلك ثمن الميتة والخمر والخنزير وهذا يدل على أن من باع بيعا فاسدا وأخذ ثمنه أنه منهي عن أكل ثمنه وعليه رده إلى مشتريه وكذلك قال أصحابنا أنه إذا تصرف فيه فربح فيه وقد كان عقد عليه بعينة وقبضه أن عليه أن يتصدق به لأنه ربح حصل له من وجه محظور وقوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل منتظم لهذه المعاني كلها ونظائرها من العقود المحرمة فإن قيل هل اقتضى ظاهر الآية تحريم أكل الهبات والصدقات والإباحة للمال من صاحبه قيل له كل ما أباحه الله تعالى من العقود وأطلقه من جواز أكل مال الغير بإباحته إياه فخارج عن حكم الآية لأن الحظر في أكل المال مقيد الشريطة وهي أن يكون أكل مال بالباطل وما أباحه الله تعالى وأحله فليس بباطل بل هو حق فنحتاج أن ننظر إلى السبب الذي يستبيح أكل هذا المال فإن كان مباحا فليس بباطل ولم تتناوله الآية وإن كان محظورا فقد اقتضته الآية وأما قوله تعالى إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم اقتضى إباحة سائر التجارات الواقعة عن تراض والتجارة اسم واقع على عقود المعاوضات

المقصود بها طلب الأرباح قال الله تعالى هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله فسمى الإيمان تجارة على وجه المجاز تشبيها بالتجارات المقصود بها الأرباح وقال تعالى ترجون تجارة لن تبور كما سمى بذل النفوس لجهاد أعداء الله تعالى شرى قال الله تعالى إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فسمى بذل النفوس شراء على وجه المجاز وقال الله تعالى ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون فسمى ذلك بيعا وشراء على وجه المجاز تشبيها بعقود الأشرية والبياعات التي تحصل بها الأعواض كذلك سمى الإيمان بالله تعالى تجارة لما استحق به من الثواب الجزيل والأبدال الجسيمة فتدخل في قوله تعالى إلا أن تكوت تجارة عن تراض منكم عقود البياعات والإجارت والهبات المشروطة فيها الأعواض لأن المبتغى في جميع ذلك في عادات الناس تحصيل الأعواض لا غير
ولا يسمى النكاح تجارة في العرف والعادة إذ ليس المبتغى منه في الأكثر الأعم تحصيل العوض الذي هو مهر وإنما المبتغى فيه أحوال الزوج من الصلاح والعقل والدين والشرف والجاه ونحو ذلك فل يسم تجارة لهذا المعنى وكذلك الخلع والعتق على مال ليس يكاد يمسى شيء من ذلك تجارة ولما ذكرنا من اختصاص اسم التجارة بما وصفنا قال أبو حنيفة ومحمد إن المأذون له في التجارة لا يزوج أمته ولا عبده ولا يكاتب ولا يعتق على مال ولا يتزوج هو أيضا وإن كانت أمة لا تزوج نفسها لأن تصرفه مقصور على التجارة وليست هذه العقود من التجارة وقالوا إنه يؤاجر نفسه وعبيده وما في يده من أموال التجارة إذ كانت الإجارة من التجارة وكذلك قالوا في المضارب وشريك العنان لأن تصرفهما مقصور على التجارة دون غيرها ولم يختلف الناس أن البيوع من التجارات
واختلف أهل العلم في لفظ البيع كيف هو وقال أصحابنا إذا قال الرجل بعني عبدك هذا بألف درهم فقال قد بعتك لم يقع البيع حتى يقبل الأول ولا يصح عندهم إيجاب البيع ولا قبوله إلا بلفظ الماضي ولا يقع بلفظ الإستقبال لأن قوله بعني إنما هو سوم وأمر بالبيع وليس بإيقاع للعقد والأمر بالبيع ليس ببيع وكذلك قوله أشتري منك ليس بشرى وإنما هو إخبار بأنه يشتريه لأن الألف للإستقبال وكذلك قول البائع إشتر مني وقوله أبيعك ليس ذلك بلفظ العقد وإنما هو أخبار بأنه سيعقد

أو أمر به وقالوا في النكاح القياس أن يكون مثله إلا أنهم استحسنوا فقالوا إذا قال زوجني بنتك فقال قد زوجتك أنه يكون نكاحا ولا يحتاج الزوج بعد ذلك إلى قبول لحديث سهل بن سعد في قصة المرأة التي وهبت نفسها للنبي ص -
فلم يقبلها فقال له رجل زوجنيها فراجعه النبي ص - فيما يعطيها إلى أن قال له زوجتكها عقدا بما معك من القرآن فجعل النبي صلى الله عليه وسلم - قوله زوجنيها مع قوله زوجتكها عقدا واقعا ولأخبار أخر قد رويت في ذلك ولأنه ليس المقصد في النكاح الدخول فيه على وجه المساومة والعادة في مثله أنهم لا يفرقون فيه بين قوله زوجني وبين قوله قد زوجتك فلما جرت العادة في النكاح بما وصفنا كان قوله قد زوجتك وقوله زوجيني نفسك سواء
ولما كانت العادة في البيع دخولهم فيه على وجه السوم بديا كان ذلك سوما ولم يكن عقدا فحملوه على القياس وقد قال أصحابنا فيما جرت به العادة بأنهم يريدون به إيجاب التمليك وإيقاع العقد أنه يقع به العقد وهو أن يساومه على شيء ثم يزن له الدراهم ويأخذ للمبيع فجعلوا ذلك عقدا لوقوع تراضيهما به وتسليم كل واحد منهما إلى صاحبه ما طالبه منه وذلك لأن جريان العادة بالشيء كالنطق به إذ كان المقصد من القول الإخبار عن الضمير والاعتقاد فإذا علم ذلك بالعادة مع التسليم للمعقود عليه أجروا ذلك مجرى العقد كما يهدي الإنسان لغيره فيقبضه فيكون للهبة ونحر النبي صلى الله عليه وسلم - بدنات ثم قال من شاء فليقتطع فقام الاقتطاع في ذلك مقام القبول للهبة في إيجاب التمليك فهذه الوجوه التي ذكرناها هي طرق التراضي المشروط في قوله إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وقال مالك بن أنس إذا قال بعني هذا بكذا فقال قد بعتك فقد تم البيع وقال الشافعي لا يصح النكاح حتى يقول قد زوجتكها ويقول الآخر قد قبلت تزويجها أو يقول الخاطب زوجنيها ويقول الولي قد زوجتكها فلا يحتاج في هذا إلى قول الزوج قد قبلت
فإن قيل على ما ذكرنا من قول أصحابنا في المتساومين إذا تساوما على السلعة ثم وزن المشتري الثمن وسلمه إليه وسلم البائع السلعة إليه أن ذلك بيع وهو تجارة عن تراض غير جائز أن يكون هذا بيعا لأن لعقد البيع صيغة وهي الإيجاب والقبول بالقول وذلك معدوم فيما وصفت وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه نهى عن المنابذة والملامسة وبيع الحصاة وما ذكرتموه في معنى هذه البياعات التي أبطلها النبي صلى الله عليه وسلم - لوقوعها بغير لفظ البيع قيل له ليس هذا كما ظننت وليس ما أجازه أصحابنا مما

نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم - وذلك لأن بيع الملامسة هو وقوع العقد باللمس والمنابذة وقوع العقد بنبذه إليه وكذلك بيع الحصاة هو أن يضع عليه حصاة فتكون هذه الأفعال عندهم موجبة لوقوع البيع فهذه بيوع معقودة على المخاطرة ولا تعلق لهذه الأسباب التي علقوا وقوع البيع بها بعقد البيع واما ما جازه أصحابنا فهو أن يتساوما على ثمن يقف البيع ثم يزن له المشتري الثمن ويسلم البائع إليه المبيع وتسليم المبيع والثمن من حقوق البيع وأحكامه فلما فعلا موجب العقد من التسليم صار ذلك رضى منهما بما وقف عليه العقد من السوم ولمس الثوب ووضع الحصاة ونبذه ليس من موجبات العقد ولا من أحكامه فصار العقد معلقا على خطر فلا يجوز وصار ذلك أصلا في امتناع وقوع البياعات على الأخطار وذلك أن يقول بعتكه إذا قدم زيد وإذا جاء غد ونحو ذلك وقوله تعالى إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم عموم في إطلاق سائر التجارات وإباحتها وهو كقوله تعالى وأحل الله البيع في اقتضاء عمومه لإباحة سائر البيوع إلا ما خصه التحريم لأن اسم التجارة أعم من اسم البيع لأن اسم التجارة ينتظم عقود الإجارات والهبات الواقعة على الأعواض والبياعات فيضمن قوله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل معنيين أحدهما نهي معقود بشريطة محتاجة إلى بيان في إيجاب حكمه وهو قوله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل لأنه يحتاج إلى أن يثبت أنه أكل مال باطل حتى يتناوله حكم اللفظ والمعنى الثاني إطلاق سائر التجارات وهو عموم في جميعها لا إجمال فيه ولا شريطة فلو خلينا وظاهره لأجزنا سائر ما يسمى تجارة إلا أن الله تعالى قد خص منها أشياء بنص الكتاب وأشياء بسنة الرسول ص -
فالخمر والميتة والدم ولحم الخنزير وسائر المحرمات في الكتاب لا يجوز بيعها لأن إطلاق لفظ التحريم يقتضي سائر وجوه الانتفاع وقال النبي صلى الله عليه وسلم - لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وقال في الخمر إن الذي حرمها حرم بيعها وأكل ثمنها ولعن بائعها ومشتريها ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن البيع الغرر وبيع العبد الآبق وبيع مالم يقبض وبيع ما ليس عند الإنسان ونحوها من البياعات المجهولة والمعقود على غرر جميع ذلك مخصوص من ظاهر قوله تعالى إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وقد قرئ قوله إلا أن تكون تجارة عن تراض بالنصب والرفع فمن قرأها بالنصب كان تقديره إلا أن تكون الأموال تجارة عن تراض فتكون التجارة

الواقعة عن تراض مستثناة من النهي عن أكل المال إذ كان أكل المال بالباطل قد يكون من جهة التجارة ومن غير جهة التجارة فاستثنى التجارة من الجملة وبين أنها ليست أكل المال بالباطل ومن قرأها بالرفع كان تقديره إلا أن تقع تجارة كقول الشاعر ... فدى لنبي شيبان رحلي وناقتي ... إذا كان يوم ذو كواكب أشهب ...
يعني إذا حدث يوم كذلك وإذا كان معناه على هذا كان النهي عن أكل المال بالباطل على إطلاقه لم يستثن منه شيء وكان ذلك استثناء منقطعا بمنزلة لكن إن وقعت تجارة عن تراض فهو مباح
وقد دلت هذه الآية على بطلان قول القائلين بتحريم المكاسب لإباحة الله التجارة الواقعة عن تراض ونحوه قوله تعالى وأحل الله البيع وقوله تعالى فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله وقوله تعالى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فذكر الضرب في الأرض للتجارة وطلب المعاش مع الجهاد في سبيل الله فدل ذلك على أنه مندوب إليه والله تعالى أعلم وبالله التوفيق
باب
خيار المتبايعين اختلف أهل العلم في خيار المتبايعين فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد ومالك بن أنس إذا عقد بيع بكلام فلا خيار لهما وإن لم يتفرقا وروي نحوه عن عمر بن الخطاب وقال الثوري والليث وعبيدالله بن الحسن والشافعي إذا عقدا فهما بالخيار مالم يتفرقا وقال الأوزاعي هما بالخيار مالم يتفرقا إلا في بيوع ثلاثة بيع مزايدة الغنائم والشركة في الميراث والشركة في التجارة فإذا صافقه فقد وجب وليسا فيه بالخيار
ووقت الفرقة أن يتوارى كل واحد منهما عن صاحبه وقال الليث التفرق أن يقوم أحدهما وكل من أوجب الخيار يقول إذا خيره في المجلس فاختار فقد وجب البيع وروى خيار المجلس عن ابن عمر
قال أبو بكر قوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم يقتضي جواز الأكل بوقوع البيع عن تراض قبل الافتراق إذ كانت التجارة هي الإيجاب والقبول في عقد البيع وليس التفرق والاجتماع من التجارة في شيء ولا يسمى ذلك تجارة في شرع ولا لغة فإذا كان الله قد أباح أكل ما اشترى بعد وقوع التجارة عن تراض فمانع بذلك بإيجاب الخيار خارج عن

ظاهر الآية مخصص لها بغير دلالة ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود فألزم كل عاقد الوفاء بما عقد على نفسه وذلك عقد قد عقده كل واحد منهما على نفسه فيلزمه الوفاء به وفي إثبات الخيار نفي للزوم الوفاء به وذلك خلاف مقتضى الآية ويدل عليه أيضا قوله تعالى إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلى قوله تعالى إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ثم أمر عند عدم الشهود بأخذ الرهن وثيقة بالثمن وذلك مأمور به عند عقده البيع قبل التفرق لأنه قال تعالى إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه فأمر بالكتاب عند عقده المداينة وأمر بالكتابة بالعدل وأمر الذي عليه الدين بالإملاء وفي ذلك دليل على أن عقده المداينة قد أثبت الدين عليه بقوله تعالى وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فلو لم يكن عقد المداينة موجبا للحق عليه قبل الإفتراق لما قال وليملل الذي عليه الحق ولما وعظه بالبخس وهو لا شيء عليه لأن ثبوت الخيار له يمنع ثبوت الدين للبائع في ذمته وفي إيجاب الله تعالى الحق عليه بعقد المداينة في قوله تعالى وليملل الذي عليه الحق دليل على نفي الخيار وإيجاب البتات ثم قال تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم تحصينا للمال واحتياطا للبائع من جحود المطلوب أو موته قبل أدائه ثم قال تعالى ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا ولو كان لهما الخيار قبل الفرقة لم يكن في الإشهاد احتياط ولا كان أقوم للشهادة إذ لا يمكن للشاهد إقامة الشهادة بثبوت المال ثم قال وأشهدوا إذا تبايعتم وإذا هي للوقت فاقتضى ذلك الأمر بالشهادة عند وقوع التبايع من غير ذكر الفرقة ثم أمر برهن مقبوض في السفر بدلا من الإحتياط بالإشهاد في الحضر وفي إثبات الخيار إبطال الرهن إذ غير جائز إعطاء الرهن بدين لم يجب بعد فدلت الآية بما تضمنته من الأمر بالإشهاد على عقد المداينة وعلى التبايع والاحتياط في تحصين المال تارة بالإشهاد وتارة بالرهن إن العقد قد أوجب ملك المبيع للمشتري وملك الثمن للبائع بغير خيار لهما إذ كان إثبات الخيار نافيا لمعاني الإشهاد والرهن ونافيا لصحة الأقرار بالدين فإن قيل الأمر بالإشهاد والرهن ينصرف إلى أحد المعنيين إما أن يكون الشهود حاضرين العقد

ويفترقان بحضرتهم فتصح حينئد شهادتهم على صحة البيع ولزوم الثمن وإما أن يتعاقدا فيما بينهما عقد مداينة ثم يفترقان ويقران عند الشهود بعد ذلك فيشهد الشهود على إقرارهما به أو يرهنه بالدين رهنا فيصح قيل له أول ما في ذلك أن الوجهين جميعا خلاف الآية وفيها إبطال ما تضمنته من الإحتياط بالإشهاد والرهن وذلك لأن الله تعالى قال إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلى قوله تعالى واستشهدوا شهيدين فأمر بالإشهاد على عقد المداينة عند وقوعه بلا تراخ احتياطا لهما وزعمت أنت أنه يشهد بعد الإفتراق وجائز أن تهلك السلعة قبل الإفتراق فيبطل الدين أو يجحده إلى أن يفترقا ويشهد أو جائز أن يموت فلا يصل البائع إلى تحصين ماله بالإشهاد وقال الله تعالى وأشهدوا إذا تبايعتم فندب إلى الإشهاد على التبايع عند وقوعه ولم يقل إذا تبايعتم وتفرقتم وموجب الخيار مثبت في الآية من التفرق ما ليس فيها وغير جائز أن يزاد في حكم الآية ما ليس فيها وإن تركا الإشهاد إلى بعد الافتراق كان في ذلك ترك الاحتياط الذي من أجله ندب إلى الإشهاد وعسى أن يموت المشتري قبل الإشهاد أو يجحده فيصير حينئذ إيجاب الخيار مسقطا لمعنى الاحتياط وتحصين المال بالإشهاد وفي ذلك دليل على وقوع البيع بالإيجاب والقبول بتاتا لا خيار فيه لواحد منهما فإن قيل فلو شرطا في البيع ثبوت الخيار لثلاث كان الإشهاد عليه صحيحا مع شرط الخيار ولم يكن ما تلوت من آية الدين وكتب الكتاب والإشهاد والرهن مانعا وقوعه على شرط الخيار وصحة الإشهاد عليه فكذلك إثبات خيار المجلس لا ينفي صحة الشهادة والرهن قيل له الآية بما فيها من الإشهاد لم تتضمن البيع المشروط فيه الخيار وإنما تضمنت بيعا باتا وإنما أجزنا شرط الخيار بدلالة خصصناه بها من جملة ما تضمنته الآية في المداينات واستعملنا حكمها في البياعات العارية من شرط الخيار فليس فيما اجزنا من البيع المعقود على شرط الخيار ما يمنع استعمال حكم الآية بما انتظمته من الإحتياط بالإشهاد والرهن وصحة إقرار العاقد في البياعات التي لم يشرط فيها خيار والبيع المعقود على شرط الخيار خارج عن حكم الآية غير مراد بها لما وصفنا حتى يسقط الخيار ويتم البيع فحينئذ يكونان مندوبين إلى الإشهاد على الإقرار دون التبايع ولو أثبتنا الخيار في كل بيع وتم البيع على حسب ما يذهب إليه مخالفونا لم يبق للآية موضع يستعمل فيه حكمها على حسب مقتضاها وموجبها وأيضا فإن إثبات الخيار إنما يكون مع

عدم الرضى بالبيع ليرتئي في إبرام البيع أو فسخه فإذا تعاقدا عقد البيع من غير شرط الخيار فكل واحد منهما راض بتمليك ما عقد عليه لصاحبه فلا معنى لإثبات الخيار فيه مع وجود الرضى به ووجود الرضى مانع من الخيار ألا ترى أنه لا خلاف بين المثبتين لخيار المجلس أنه إذا قال لصاحبه اختر فاختاره ورضي به أن ذلك مبطل لخيارهما وليس في ذلك أكثر من رضاهما بإمضاء البيع والرضى موجود منهما بنفس المعاقدة فلا يحتاجان إلى رضى ثان لأنه لو جاز أن يشترط بعد رضاهما به بديا بالعقد رضى آخر لجاز أن يشترط رضى ثان وثالث وكان لا يمنع رضاهما به من إثبات خيار ثالث ورابع فلما بطل هذا صح أن رضاهما بالبيع هو إبطال للخيار وإتمام للبيع وإنما صح خيار الشرط في البيع لأنه لم يوجد من المشروط له الخيار رضى بإخراج شيئه من ملكه حين شرط لنفسه الخيار ومن أجل ذلك جاز إثبات الخيار فيه
فإن قيل فأنت قد أثبت خيار الرؤية وخيار العيب مع وجود الرضى بالبيع ولم يمنع رضاهما من إثبات الخيار على هذا الوجه فكذلك لا يمنع رضاهما به من إثبات خيار المجلس
قيل له ليس خيار العيب من خيار المجلس في شيء وذلك لأن خيار الرؤية لا يمنع وقوع الملك لكل واحد منهما فيما عقد صاحبه من جهته لوجود الرضى من كل واحد منهما به فليس لهذا الخيار تأثير في نفي الملك بل الملك واقع مع وجود الخيار لأجل وجود الرضى من كل واحد منهما به وخيار المجلس على قول القائلين به مانع من وقوع الملك لكل واحد منهما فيما ملكه إياه صاحبه مع وجود الرضى من كل واحد منهما بتمليكه إياه ولا فرق بين الرضى به بديا بإيجابه له العقد وبينه إذا قال قد رضيت فاختر ورضي به صاحبه فلا فرق بين البيع فيما فيه خيار الرؤية وخيار العيب وبين ما ليس فيه واحد من الخيارين في باب وقوع الملك به وإنما يختلفان بعد ذلك في خيار غير ناف للملك وإنما هو لأجل جهالة صفات المبيع عنده أو لفوت جزء منه موجب له بالعقد ويدل على أن الرضى بالعقد هو الموجب للملك اتفاق الجميع على وقوع الملك لكل واحد منهما بعد الإفتراق وبطلان الخيار به وقد علمنا أنه ليس في الفرقة دلالة على الرضى ولا على نفيه لأن حكم الفرقة والبقاء في المجلس سواء في نفي دلالته على الرضى فعلمنا أن الملك إنما وقع بالرضى بديا بالعقد لا بالفرقة وأيضا فإنه ليس في الأصول فرقة يتعلق بها تمليك وتصحيح العقد بل في الأصول أن الفرقة إنما تؤثر في فسخ كثير

من العقود من ذلك الفرقة عن عقد الصرف قبل القبض وعن السلم قبل القبض لرأس المال وعن الدين بالدين قبل تعيين أحدهما فلما وجدنا الفرقة في الأصول في كثير من العقود إنما تأثيرها في إبطال العقد دون جوازه ولم تجد في الأصول فرقة مؤثرة في تصحيح العقد وجوازه ثبت أن اعتبار خيار المجلس ووقوع الفرقة في تصحيح العقد خارج عن الأصول مع ما فيه من مخالفة ظاهر الكتاب وأيضا قد ثبت بالسنة واتفاق الأمة من شرط صحة عقد افتراقهما عن مجلس العقد عن قبض صحيح فإن كان خيار المجلس ثابتا في عقد الصرف مع التقابض والعقد لم يتم ما بقي الخيار فإذا افترقا لم يجز أن يصح بالافتراق ما من شأنه أن يبطله الافتراق قبل صحته فإذا كانا قد افترقا عنه ولما يصح بعد لم يجز أن يصح بالافتراق فيكون الموجب لصحته هو الموجب لبطلانه ويدل على نفي خيار المجلس قول النبي صلى الله عليه وسلم - لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه فأحل له المال بطيبة من نفسه وقد وجد ذلك بعقد البيع فوجب بمقتضى الخبر أن يحل له ودلالة الخبر على ذلك كدلالة قوله تعالى إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ويدل عليه نهي النبي صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري فأباح بيعه إذا جرى فيه الصاعان ولم يشرط فيه الافتراق فوجب ذلك أن يجوز بيعه إذا اكتاله من بائعه في المجلس الذي تعاقدا فيه وقال النبي صلى الله عليه وسلم - من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه فلما أجاز بيعه بعد القبض ولم يشرط فيه الافتراق فوجب بقضية الخبر انه إذا قبضه في المجلس أن يجوز بيعه وذلك ينفي خيار البائع لأن ما للبائع فيه خيار لا يجوز تصرف المشتري فيه
ويدل عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم - من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع ومن باع نخلا وله ثمره فثمرته للبائع إلا أن يشترط المبتاع فجعل الثمرة ومال العبد للمشتري بالشرط من غير ذكر التفريق ومحال أن يملكها المشتري قبل مالك الأصل المعقود عليه فدل ذلك على وقوع الملك للمشتري بنفس العقد
ويدل عليه أيضا قوله ص - في حديث أبي هريرة لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه واتفق الفقهاء على أنه لا يحتاج إلى استئناف عتق بعد الشرى وأنه متى صح له الملك عتق عليه فالنبي صلى الله عليه وسلم - أوجب عتقه بالشرى من غير شرط الفرقة ويدل عليه من جهة النظر أن المجلس قد يطول ويقصر فلو عقلنا وقوع الملك على خيار المجلس لأوجب بطلانه

لجهالة مدة الخيار الذي علق عليه وقوع الملك ألا ترى أنه لو باعه بيعا باتا وشرطا الخيار لهما بمقدار قعود فلان في مجلسه كان البيع باطلا لجهالة مدة الخيار الذي تعلقت عليه صحة العقد واحتج القائلون بخيار المجلس بما روي عن ابن عمر وأبي برزة وحكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال المتبايعان بالخيار مالم يفترقا وروي عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال إذا تبايع المتبايعان بالبيع فكل واحد منهما بالخيار من بائعه مالم يفترقا أو يكون بيعهما عن خيار فإذا كان عن خيار فقد وجب وكان ابن عمر إذا بايع الرجل ولم يخيره وأراد ألا يقيله قام فمشى هنيهة ثم رجع فاحتج القائلون بهذه المقالة بظاهر قوله المتبايعان بالخيار مالم يفترقا وابن عمر هو راوي الحديث وقد عقل من مراد النبي صلى الله عليه وسلم -
فرقة الأبدان قال أبو بكر فأما ما روي من فعل ابن عمر فلا دلالة فيه على أنه من مذهبه لأنه جائز أن يكون خاف أن يكون بائعه ممن يرى الخيار في المجلس فيحذر منه بذلك حذرا مما لحقه في البراءة من العيوب حتى خوصم إلى عثمان فحمله على خلاف رأيه ولم يجز البراءة إلا أن يبينه لمبتاعه وقد روي عن ابن عمر ما يدل على موافقته وهو ما روى ابن شهاب عن حمزة بن عبدالله بن عمر عن أبيه قال ما أدركت الصفقة حيا فهو من مال المبتاع وهذا يدل على أنه كان يرى أن المبيع كان يدخل من ملك المشتري بالصفقة ويخرج من ملك البائع وذلك ينفي الخيار قوله ص - المتبايعان بالخيار مالم يفترقا وفي بعض الألفاظ البائعان بالخيار مالم يفترقا فإن حقيقته تقتضي حال التبايع وهي حال السوم فإذا أبرما البيع وتراضيا فقد وقع البيع فليسا متبايعين في هذه الحال في الحقيقة كما أن المتضاربين والمتقايلين إنما يلحقهما هذا الاسم في حال التضارب والتقايل وبعد انقضاء الفعل لا يسميان به على الإطلاق وإنما يقال كان متقايلين ومتضاربين وإذا كانت حقيقة معنى اللفظ ما وصفنا لم يصح الاستدلال في موضع الخلاف به فإن قيل هذا التأويل يؤدي إلى إسقاط فائدة الخبر لأنه غير مشكل على أحد أن المتساومين قبل وجود التراضي بالعقد على خيارهما في إيقاع العقد أو تركه
قيل له بل فيه أعظم الفوائد وهو أنه قد كان جائزا أن يظن ظان أن البائع إذا قال للمشتري قد بعتك أن لا يكون له رجوع فيه قبل قبول المشتري كالعتق على مال والخلع على مال أنه ليس للمولى ولا للزوج الرجوع فيه قبل قبول العبد والمرأة فأبان النبي صلى الله عليه وسلم -
حكم البيع في إثبات الخيار لكل واحد منهما في الرجوع قبل قبول الآخر وأنه مفارق للعتق والخلع

فإن قيل كيف يجوز أن يسمى المتساومان متبايعين قبل وقوع العقد بينهما
قيل له ذلك جائز إذا قصدا إلى البيع بإظهار السوم فيه كما نسمي القاصدين إلى القتل متقاتلين وإن لم يقع منهما قتل بعد وكما قيل لولد إبراهيم عليه السلام المأمور بذبحه الذبيح لقربه من الذبح وإن لم يذبح قال تعالى فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف والمعنى فيه مقاربة البلوغ ألا ترى أنه قال في آية أخرى وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن وأراد به حقيقة البلوغ فجائز على هذا أن يسمى المتساومان متبايعين إذا قصدا إيقاع العقد على النحو الذي بينا والذي لا يختل على أحد أنهما بعد وقوع البيع منهما لا يسميان متبايعين على الحقيقة كسائر الأفعال إذا انقضت زال عن فاعليها الأسماء المشتقة لها من أفعالهم إلا في أسماء المدح والذم على ما بينا في صدر هذا الكتاب وإنما يقال كانا متبايعين وكانا متقايلين وكانا متضاربين
ويدل على أن هذا الاسم ليس بحقيقة لهما بعد إيقاع لعقد أنه قد يصح منهما الإقالة والفسخ بعد العقد وهما في الحقيقة متقايلان في حال فعل الإقالة وغير جائز أن يكونا متقابلين متفاسخين ومتبايعين في حال واحدة فدل ذلك على أن إطلاق اسم المتبايعين عليهما إنما يتناول حال السوم وإيقاع العقد حقيقة وأن هذا الاسم إنما يلحقهما بعد انقضاء العقد على معنى أنهما كانا متبايعين وذلك مجاز وإذا كان كذلك وجب حمل اللفظ على الحقيقة وهي حال التبايع وهو أن يقول قد بعتك فأطلق اسم البيع من قبل نفسه قبل قبول الآخر فهذه هي الحال التي هما متبايعان فيها وهي حال ثبوت الخيار لكل واحد منهما فللبائع الخيار في الفسخ قبل قبول الآخر وللمشتري الخيارفي القبول قبل الإفتراق ويدلك على أن المراد هذه الحال قوله المتبايعان وإنما ا لبائع أحدهما وهو صاحب السلعة فكأنه قال إذا قال البائع قد بعت فهما بالخيار قبل الافتراق لأنه معلوم أن المشتري ليس ببائع فثبت أن المراد إذا باع البائع قبل قبول المشتري
وقد اختلف الفقهاء في تأويل قوله ص - المتبايعان بالخيار مالم يفترقا فروي عن محمد بن الحسن أن معناه إذا قال البائع قد بعتك فله أن يرجع مالم يقل المشتري قبلت قال وهو قول أبي حنيفة وعن أبي يوسف هما المتساومان فإذا قال بعتك بعشرة فللمشتري خيار القبول في المجلس وللبائع خيار الرجوع فيه قبل قبول المشتري ومتى قام أحدهما قبل قبول البيع بطل الخيار الذي كان لهما ولم تكن لواحد منهما

إجازته فحمله محمد على الافتراق بالقول وذلك سائغ قال الله تعالى وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ويقال تشاور القوم في كذا فافترقوا عن كذا يراد به الاجتماع على قول والرضى به وإن كانوا مجتمعين في المجلس ويدل على أن المراد الافتراق بالقول ما حدثنا محمد بن بكر البصري قال حدثنا أبو داود قال حدثنا قتيبة قال حدثنا الليث عن محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
قال المتبايعيان بالخيار مالم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقبله
وقوله المتبايعان بالخيار مالم يتفرقا هو على الافتراق بالقول ألا ترى أنه قال ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله وهذا هو افتراق الأبدان بعد الافتراق بالقول وصحة وقوع العقد به والاستقالة هو مسألته الإقالة وهذا يدل من وجهين على نفي الخيار بعد وقوع العقد أحدهما أنه لو كان له خيار المجلس لما احتاج إلى أن يسأله الإقالة بل كان هو يفسخه بحق الخيار الذي له فيه والثاني أن الإقالة لا تكون إلا بعد صحة العقد وحصول ملك كل واحد منهما فيما عقد عليه من قبل صاحبه فهذا يدل على نفي الخيار وصحة البيع وقوله ولا يحل له أن يفارقه يدل على أنه مندوب إلى إقالته إذا سأله إياها ما داما في المجلس مكروه له أن لا يجيبه إليها وأن حكمه في ذلك بعد الافتراق مخالف له إذا لم يفارقه في أنه لا يكره له ترك إجابته إلى الإقالة بعد الفرقة ويكره له قبلها
ويدل عليه ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا علي بن أحمد الأزدي قال حدثنا إسماعيل بن عبدالله بن زرارة قال حدثنا هشيم عن يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - البيعان لا بيع بينهما إلا أن يفترقا إلا بيع الخيار وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا القعنبي قال حدثنا عبدالعزيز بن مسلم القسلمي عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كل بيعين لا بيع بينهما حتى يفترقا فأخبر ص - كل بيعين لا بيع بينهما إلا بعد الافتراق وهذا يدل على أنه أراد بنفيه البيع بينهما في حال السوم وذلك لأنهما لو كانا قد تبايعا لم ينف النبي صلى الله عليه وسلم - تبايعهما مع صحة العقد وقوعه فيما بينهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم - لا ينفي ما قد أثبت فعلمنا أن المراد المتساومان اللذان قد قصدا إلى التبايع وأوجب البائع البيع للمشتري إلى شرائه منه بأن قال له بعني فنفى أن يكون بينهما بيع حتى يفترقا بالقول والقبول إذا لم يكن قوله بعني قبولا

للعقد ولا من ألفاظ البيع وإنما هو أمر به فإذا قال قد قبلت وقع البيع فهذا هو الافتراق الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم -
على القول الذي قدمنا ذكر نظائره في إطلاق ذلك في اللسان فإن قيل ما أنكرت أن يكون مراد النبي صلى الله عليه وسلم - عن نفيه البيع حال إيقاع البيع بالإيجاب والقبول وإنما نفى أن يكون بينهما بيع لما لهما فيه من خيار المجلس قيل له هذا غلط من قبل أن ثبوت الخيار لا يوجب نفي اسم البيع عنه ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم - قد أثبت بينهما البيع إذا شرطا فيه الخيار بعد الافتراق ولم يكن ثبوت الخيار فيه موجبا لنفي اسم البيع عنه لأنه قال كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يفترقا إلا بيع الخيار فجعل بيع الخيار بيعا فلو أراد بقوله كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يفترقا حال وقوع الإيجاب والقبول لما نفى البيع بينهما لأجل خيار المجلس كما لم ينفه إذا كان فيه خيار مشروط بل أثبته وجعله بيعا فدل ذلك على أن قوله كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يفترقا إنما أراد به المتساومين في البيع وأفاد ذلك أن قوله إشتر مني أو قول المشتري بعني ليس ببيع حتى يفترقا بأن يقول البائع قد بعت ويقول المشتري قد اشتريت فيكون قد افترقا وتم البيع ووجب أن لا يكون فيه خيار مشروط فيكون ذلك بيعا وإن لم يفترقا بأبدانهما بعد حصول الافتراق فيهما بالإيجاب والقبول وأكثر أحوال ما روي من قوله المتبايعان بالخيار مالم يفترقا احتماله لما وصفنا ولما قال مخالفنا وغير جائز الاعتراض على ظاهر القرآن بالاحتمال بل الواجب حمل الحديث على موافقة القرآن ولا يحمل على ما يخالفه ويدل من جهة النظر على ما وصفنا اتفاق الجميع على أن النكاح والخلع والعتق على مال والصلح من دم العمد إذا تعاقداه بينهما صح بالإيجاب والقبول من غير خيار يثبت لواحد منهما والمعنى فيه الإيجاب والقبول فيما يصح العقد عليه من غير خيار مشروط وقوله عز و جل ولا تقتلوا أنفسكم قال عطاء والسدي لا يقتل بعضكم بعضا قال أبو بكر هو نظير قوله تعالى ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه ومعناه يقتلوا بعضكم وتقول العرب قتلنا ورب الكعبة إذا قتل بعضهم وقيل إنما حسن ذلك لأنهم أهل دين واحد فهم كالنفس الواحدة فلذلك قال ولا تقتلوا أنفسكم وأراد قتل بعضكم بعضا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أن المؤمنين كالنفس الواحدة إذا ألم بعضه تداعى سائره بالحمى والسهر وقال المؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا فكان تقديره ولا يقتل بعضكم بعضا في أكل أموالكم بالباطل ولا غيره مما هو محرم

عليكم وهو كقوله تعالى فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ويحتمل ولا تقتلوا أنفسكم في طلب المال وذلك بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف ويحتمل ولا تقتلوا أنفسكم في حال غضب أو ضجر وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة لاحتمال اللفظ لها وقوله تعالى ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا فإنه قيل فما عاد إليه هذا الوعيد وجوه أحدها أنه عائد على أكل المال بالباطل وقتل النفس بغير حق فيستحق الوعيد بكل واحدة من الخصلتين وقال عطاء في قتل النفس المحرمة خاصة وقيل إنه عائد على فعل كل ما نهي عنه من أول السورة وقيل من عند قوله يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها لأن ما قبله مقرون بالوعيد والأظهر عوده إلى ما يليه من أكل المال بالباطل وقتل النفس المحرمة وقيد الوعيد بقوله عدوانا وظلما ليخرج منه فعل السهو والغلط وما كان طريقه الاجتهاد في الأحكام إلى حد التعمد والعصيان وذكر الظلم والعدوان مع تقارب معانيهما لأنه يحسن مع اختلاف اللفظ كقول عدي بن زيد ... وقددت الأديم لراهشيه ... وألقى قولها كذبا ومينا ...
والكذب هو المين وحسن العطف لاختلاف اللفظين وكقول بشر بن حازم ... فما وطئ الحصى مثل ابن سعدي ... ولا لبس النعال ولا احتذاها ...
والاحتذاء هو لبس النعل وكما تقول بعدا وسحقا ومعناهما واحد وحسن لاختلاف اللفظ والله أعلم
باب
النهي عن التمني قال الله تعالى ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض روى سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة قالت قلت يا رسول الله يغزو الرجال ولا تغزو النساء ويذكر الرجال ولا تذكر النساء فأنزل الله تعالى ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض الآية ونزلت إن المسلمين والمسلمات وروى قتادة عن الحسن قال لا يتمن أحد المال وما يدريه لعل هلاكه في ذلك المال وقال سعيد عن قتادة في قوله ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض قال كان أهل الجاهلية لا يورثون المرأة شيئا ولا الصبي ويجعلون الميراث لمن يحبون فلما ألحق للمرأة نصيبها وللصبي نصيبه وجعل للذكر مثل حظ

الأنثيين قال النساء لو كان أنصباؤنا في الميراث كأنصباء الرجال وقال الرجال إنا لنرجو أن نفضل على النساء في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث فأنزل الله تعالى للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن يقول المرأة تجزى بحسناتها عشر أمثالها كما يجزى الرجل قال واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما ونهى الله عن تمني ما فضل الله به بعضنا على بعض لأن الله تعالى لو علم أن المصلحة له في إعطائه ما أعطى الآخر لفعل ولأنه لا يمنع من بخل ولا عدم وإنما يمنع ليعطي ما هو أكثر منه وقد تضمن ذلك النهي عن الحسد وهو تمني زوال النعمة عن غيره إليه وهو مثل ما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يسوم على سوم أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها فإن الله هو رازقها فنهى ص - أن يخطب على خطبة أخيه إذا كانت قد ركنت إليه ورضيت به وأن يسوم على سومه كذلك فما ظنك بمن يتمنى أن يجعل له ما قد صار لغيره وملكه وقال لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها يعني أن تسعى في إسقاط حقها وتحصيله لنفسها وروى سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فهو ينفق منه آناء الليل والنهار ورجلا آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار قال أبو بكر والتمني على وجهين أحدهما أن يتمنى الرجل أن تزول نعمة غيره عنه فهذا الحسد وهو التمني المنهي عنه والآخر أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يريد زوال النعمة عن غيره فهذا غير محظور إذا قصد به وجه المصلحة وما يجوز في الحكمة ومن التمني المنهي عنه أن يتمنى ما يستحيل وقوعه مثل أن تتمنى المرأة أن تكون رجلا أو تتمنى حال الخلافة والإمامة ونحوها من الأمور التي قد علم أنها لا تكون ولا تقع
وقوله تعالى للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن قيل فيه وجوه أحدها أن لكل واحد حظا من الثواب قد عرض له بحسن التدبير في أمره ولطف له فيه حتى استحقه وبلغ علو المنزلة به فلا تتمنوا خلاف هذا التدبير فإن لكل منهم حظه ونصيبه غير مبخوس ولا منقوص والآخر إن لكل أحد جزاء ما اكتسب فلا يضيعه بتمني ما لغيره محبطا لعمله وقيل فيه إن لكل فريق من الرجال والنساء نصيبا مما اكتسب من نعم الدنيا فعليه أن يرضى بما قسم الله له
وقوله تعالى واسألوا الله من فضله قيل

فيه إن معناه إن احتجتم إلى ما لغيركم فسلوا الله أن يعطيكم مثل ذلك من فضله لا بأن تتمنوا ما لغيركم إلا أن هذه المسألة تعني أن تكون معقودة بشريطة المصلحة والله تعالى أعلم بالصواب
باب
العصبة قال الله تعالى ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون قال ابن عباس ومجاهد وقتادة الموالي ههنا العصبة وقال السدي الموالي الورثة وقيل إن أصل المولى من ولي الشيء يليه وهو اتصال الولاية في التصرف
قال أبو بكر المولى لفظ مشترك ينصرف على وجوه فالمولى المعتق لأنه ولي نعمه في عتقه ولذلك سمي مولى النعمة والمولى العبد المعتق لاتصال ولاية مولاه به في إنعامه عليه وهذا كما يسمى الطالب غريما لأن له اللزوم والمطالبة بحقه ويسمى المطلوب غريما لتوجه المطالبة عليه وللزوم الدين إياه والمولى العصبة والمولى الحليف لأن المحالف يلي أمره بعقد اليمين والمولى ابن العم لأنه يليه بالنصرة للقرابة التي بينهما والمولى الولي لأنه يلي بالنصرة وقال تعالى ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم أي يلم بالنصرة للكافرين يعتد بنصرته ويروى للفضل بن العباس ... مهلا بني عمنا مهلا موالينا ... لا تظهرن لنا ما كان مدفونا ...
فسمى بني العم موالي والمولى مالك العبد لأنه يليه بالملك والتصرف والولاية والنصر والحماية فاسم المولى ينصرف على هذه الوجوه وهو اسم مشترك لا يصح اعتبار عمومه ولذلك قال أصحابنا فيمن أوصى لمواليه وله موال أعلى وموال أسفل إن الوصية باطلة لامتناع دخولهما تحت اللفظ في حال واحدة وليس أحدهما بأولى من الآخر فبطلت الوصية وأولى الأشياء بمعنى المولي ههنا العصبة لما روى إسرائيل عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنا أولى بالمؤمنين من مات وترك مالا فماله للموالي العصبة ومن ترك كلا أو ضياعا فأنا وليه وروى معمر عن ابن طاوس عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
اقسموا المال بين أهل الفرائض فما أبقت السهام فلا ولي رجل ذكر وروى فلا ولي عصبة ذكر وفيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في تسمية الموالي عصبة وقوله فلا ولي عصبة ذكر ما يدل على أن المراد بقوله ولكل جعلنا مولى مما ترك الوالدان

والأقربون هم العصبات ولا خلاف بين الفقهاء أن ما فضل عن سهام ذوي السهام فهو لأقرب العصبات إلى الميت والعصبات هم الرجال الذي تتصل قرابتهم إلى الميت بالبنين والآباء مثل الجد والأخوة من الأب والأعمام وأبنائهم وكذلك من بعد منهم بعد أن يكون الذي يصل بينهم البنون والآباء إلا الأخوات فإنهن عصبة مع البنات خاصة وإنما يرث من العصبات الأقرب فالأقرب ولا ميراث للأبعد مع الأقرب ولا خلاف أن من لا يتصل نسبه بالميت إلا من قبل النساء أنه ليس بعصبة
ومولى العتاقة عصبة للعبد المعتق ولا ولادة وكذلك أولاد المعتق الذكور منهم يكونون عصبة للعبد المعتق إذا مات أبوهم ويصير ولاؤه لهم دون الإناث من ولده ولا يكون أحد من النساء عصبة بالولاء إلا ما أعتقت أو أعتق من أعتقت وإنما صار مولى العتاقة عصبة بالسنة ويجوز أن يكون مرادا بقوله تعالى ولكل جعلنا مولى مما ترك الوالدان والأقربون إذ كان عصبة ويعقل عنه كما يعقل عنه بنو أعمامه فإن قيل الميت ليس هو من أقرباء مولى العتاقة ولا من والديه قيل له إذا كان معه وارث من ذوي نسبة من الميت نحو البنت والأخت جاز دخوله معهم في هذه الفريضة فيستحق بأصل السهام وإن لم يكن هو من أقرباء الميت إذ كان في الورثة ممن يجوز أن يقال فيه أنه مما ترك الوالدان والأقربون فيكون بعض الورثة قد ورث الوالدين والأقربين
واختلف أهل العلم في ميراث الولي الأسفل من الأعلى فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والشافعي وسائر أهل العلم لا يرث المولى الأسفل من المولى الأعلى وحكى أبو جعفر الطحاوي عن الحسن بن زياد قال يرث المولى الأسفل من الأعلى وذهب فيه إلى حديث رواه حماد بن سلمة وحماد بن زيد ووهب بن خالد ومحمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار عن عوسجة مولى ابن عباس عن ابن عباس أن رجلا أعتق عبدا له فمات المعتق ولم يترك إلا المعتق فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم - ميراثه للغلام المعتق قال أبو جعفر وليس لهذا الحديث معارض فوجب إثبات حكمه قال أبو بكر يجوز أن يكون دفعه إليه لا على وجه الميراث لكنه لحاجته وفقره لأنه كان مالا لا وارث له فسبيله أن يصرف إلى ذوي الحاجة والفقراء
فإن قيل لما كانت الأسباب التي يجب بها الميراث هي الولاء والنسب والنكاح وكان ذوو الأنساب يتوارثون وكذلك الزوجان وجب أن يكون

الولاء من حيث أوجب الميراث للأعلى من الأسفل أن يوجبه للأسفل من الأعلى
قال أبو بكر هذا غير واجب لأنا قد وجدنا في ذوي الأنساب من يرث غيره ولا يرثه هو إذا مات لأن امرأة لو تركت أختا أو إبنة وابن أخيها كان للبنت النصف والباقي لابن الأخ ولو كان مكانها مات ابن الأخ وخلف بنتا أو أختا وعمته لم ترث العمة شيئا فقد ورثها ابن الأخ في الحال التي لا ترثه هي والله تعالى أعلم بالصواب
باب
ولاء الموالاة قال الله تعالى والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم روى طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال كان المهاجر يرث الأنصاري دون ذوي رحمه بالأخوة التي آخى الله بينهم فلما نزلت ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون نسخت ثم قرأ والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال من النصر والرفادة ويوصي له وقد ذهب الميراث وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر فأنزل الله تعالى وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا يقول إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا لهم وصية فهو لهم جائز من ثلث مال الميت فذلك المعروف
وروى أبو بشر عن سعيد بن جبير في قوله تعالى والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيموت فيرثه فعاقد أبو بكر رجلا فمات فورثه وقال سعيد بن المسيب هذا في الذين كانوا يتبنون رجالا ويورثونهم فأنزل الله فيهم أن يجعل لهم من الوصية ورد الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم والعصبة
قال أبو بكر قد ثبت بما قدمنا من قول السلف أن ذلك كان حكما ثابتا في الإسلام وهو الميراث بالمعاقدة والموالاة ثم قال قائلون إنه منسوخ بقوله وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله وقال آخرون ليس بمنسوخ من الأصل ولكنه جعل ذوي الأرحام أولى من موالي المعاقدة فنسخ ميراثهم في حال وجود القرابات وهو باق لهم إذا فقد الأقرباء على الأصل الذي كان عليه واختلف الفقهاء في ميراث موالي الموالاة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر من أسلم على يدي رجل ووالاه وعاقده ثم مات ولا وارث له

غيره فميراثه له وقال مالك وابن شبرمة والثوري والأوزاعي والشافعي ميراثه للمسلمين وقال يحيى بن سعيد إذا جاء من أرض العدو فأسلم على يده فإن ولاءه لمن والاه ومن أسلم من أهل الذمة على يدي رجل من المسلمين فولاؤه للمسلمين عامة وقال الليث بن سعد من أسلم على يدي رجل فقد والاه وميراثه للذي أسلم على يده إذا لم يدع وارثا غيره قال أبو بكر الآية توجب الميراث للذي والاه وعاقده على الوجه الذي ذهب إليه اصحابنا لأنه كان حكما ثابتا في أول الإسلام وحكم الله به في نص التنزيل ثم قال وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين فجعل ذوي الأرحام أولى بالمعاقدين الموالي فمتى فقد ذوو الأرحام وجب ميراثهم بقضية الآية إذ كانت إنما نقلت ما كان لهم إلى ذوي الأرحام إذا وجدوا فليس في القرآن ولا في السنة ما يوجب نسخها فهي ثابتة الحكم مستعملة على ما تقتضيه من إثبات الميراث عند فقد ذوي الأرحام وقد ورد الأشر عن النبي صلى الله عليه وسلم - بثبوت هذا الحكم وبقائه عند عدم ذوي الأرحام وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا يزيد بن خالد الرملي وهشام بن عمار الدمشقي قال حدثنا يحيى بن حمزة عن عبدالعزيز بن عمر قال سمعت عبدالله بن موهب يحدث عمر بن عبدالعزيز عن قبيصة بن ذؤيب عن تميم الداري أنه قال يا رسول الله ما السنة في الرجل يسلم على يد الرجل من المسلمين قال هو أولى الناس بمحياه ومماته فقوله هو أولى الناس بمماته يقتضي أن يكون أولاهم بميراثه إذ ليس بعد الموت بينهما ولاية إلا في الميراث وهو في معنى قوله تعالى ولكل جعلنا موالي يعني ورثة وقد روي نحو قول أصحابنا في عن عمر وابن مسعود والحسن وإبراهيم وروى معمر عن الزهري أنه سئل عن رجل أسلم فوالى رجلا هل بذلك بأس قال لا بأس به قد أجاز ذلك عمر بن الخطاب وروى قتادة عن سعيد بن المسيب قال من أسلم على يدي قوم ضمنوا جرائره وحل لهم ميراثه وقال ربيعة بن أبي عبدالرحمن إذا أسلم الكافر على يدي رجل مسلم بأرض العدو أو بأرض المسلمين فميراثه للذي أسلم على يديه وقد روى أبو عاصم النبيل عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال كتب النبي صلى الله عليه وسلم - على كل بطن عقوله وقال لا يتولى مولى قوم إلا بإذنهم وقد حوى هذا الخبر معنيين أحدهما جواز الموالاة لأنه قال إلا بإذنهم فأجاز الموالاة بإذنهم

والثاني أن له أن يتحول بولاية إلى غيره إلا أنه كرهه إلا بإذن الأولين ولا يجوز أن يكون مراده عليه السلام في ذلك إلا في ولاء الموالاة لأنه لا خلاف أن ولاء العتاقة لا يصح النقل عنه وقال ص - الولاء لحمة كلحمة النسب فإن احتج محتج بما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن بشر وابن نمير وأبو أسامة عن زكريا عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن جبير بن مطعم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا حلف في الإسلام وإنما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة قال فهذا يوجب بطلان حلف الإسلام ومنع التوارث به قيل له يحتمل أن يريد به نفي الحلف في الإسلام على الوجه الذي كانوا يتحالفون عليه في الجاهلية وذلك لأن حلف الجاهلية كان على أن يعاقده فيقول هدمي هدمك ودمي دمك وترثني وأرثك وكان في هذا الحلف أشياء قد حظرها الإسلام وهو أنه كان يشرط أن يحامي عليه ويبذل دمه دونه ويهدم ما يهدمه فينصره على الحق والباطل وقد أبطلت الشريعة هذا الحلف وأوجبت معونة المظلوم على الظالم حتى يتنصف منه وأن لا يلتفت إلى قرابة ولا غيرها قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا فأمر الله تعالى بالعدل والقسط في الأجانب والأقارب وأمر بالتسوية بين الجميع في حكم الله تعالى فأبطل ما كان عليه أمر الجاهلية من معونة القريب والحليف على غيره ظالما كان أو مظلوما وكذلك قال ص - أنصر أخاك ظالما أو مظلوما قالوا يا رسول الله هذا يعينه مظلوما فكيف يعينه ظالما قال أن ترده عن الظلم فذلك معونة منك له وكان في حلف الجاهلية أن يرثه الحليف دون أقربائه فنفى النبي صلى الله عليه وسلم - بقوله لا حلف في الإسلام التحالف على النصرة والمحاماة من غير نظر في دين أو حكم وأمر باتباع أحكام الشريعة دون ما يعقده الحليف على نفسه ونفى أيضا أن يكون الحليف أولى بالميراث من الأقارب فهذا معنى قوله ص - لا حلف في الإسلام وأما قوله وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة فإنه يحتمل أن الإسلام من زاد شدة وتغليظا في المنع منه وإبطاله فكأنه قال إذا لم يجز الحلف في الإسلام مع ما فيه من تناصر المسلمين وتعاونهم فحلف الجاهلية أبعد من ذلك قال أبو بكر وعلي نحو ما ذكرنا من التوارث بالموالاة قال أصحابنا

فيمن أوصى بجميع ماله ولا وارث له أنه جائز وقد بينا ذلك فيما سلف وذلك لأنه لما جاز له أن يجعل ميراثه لغيره بعقد الموالاة ويزويه عن بيت المال جاز له أن يجعله لمن شاء بعد موته بالوصية إذ كانت الموالاة إنما تثبت بينهما بعقده وإيجابه وله أن ينتقل بولائه مالم يعقل عنه فأشبهت الوصية التي تثبت بقوله وإيجابه ومتى شاء رجع فيها إلا أنها تخالف الوصية من وجه وهو أنه وإن كان يأخذه بقوله فإنه يأخذه على وجه الميراث ألا ترى أنه لو ترك الميت ذا رحم كان أولى بالميراث من ولي الموالاة ولم يكن في الثلث بمنزلة من أوصى لرجل بماله فيجوز له منه الثلث بل لا يعطى شيئا إذا كان له وارث من قرابة أو ولاء عتاقة فولاء الموالاءة يشبه الوصية بالمال من وجه إذا لم يكن له وارث ويفارقها من وجه على نحو ما بينا والله أعلم
باب
ما يجب على المرأة من طاعة زوجها قال الله تعالى الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم روى يونس عن الحسن أن رجلا جرح امرأته فأتى أخوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فقال النبي ص - القصاص فأنزل الله تعالى الرجال قوامون على النساء الآية فقال ص -
أردنا أمرا وأراد الله غيره وروى جرير بن حازم عن الحسن قال لطم رجل امرأته فاستعدت عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال ص -
عليكم القصاص فأنزل الله ولا تعجل بالقرآن من قبل ان يقضى إليك وحيه ثم أنزل الله تعالى الرجال قوامون على النساء قال أبو بكر الحديث الأول يدل على أن لا قصاص بين الرجال والنساء فيما دون النفس وكذلك روي عن الزهري والحديث الثاني جائز أن يكون لطمها لأنها نشزت عليه وقد أباح الله تعالى ضربها عند النشوز بقوله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن قيل لو كان ضربه إياها لأجل النشوز لما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم -
القصاص قيل له إن النبي ص - إنما قال ذلك قبل نزول هذه الآية التي فيها إباحة الضرب عند النشوز لأن قوله تعالى الرجال قوامون على النساء إلى قوله فاضربوهن نزل بعد فلم يوجب عليهم بعد نزول الآية شيئا فتضمن قوله الرجال قوامون على النساء قيامهم عليهن بالتأديب والتدبير والحفظ والصيانة لما فضل الله به الرجل على المرأة في العقل والرأي وبما ألزمه الله تعالى من الإنفاق عليها
فدلت الآية على معان أحدها

تفضيل الرجل على المرأة في المنزلة وأنه هو الذي يقوم بتدبيرها وتأديبها وهذا يدل على أن له إمساكها في بيته ومنعها من الخروج وأن عليها طاعته وقبول أمره مالم تكن معصية ودلت على وجوب نفقتها عليه بقوله وبما أنفقوا من أموالهم وهو نظير قوله وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف وقوله تعالى لينفق ذو سعة من سعته وقول النبي صلى الله عليه وسلم -
ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف وقوله تعالى وبما أنفقوا من أموالهم منتظم للمهر والنفقة لأنهما جميعا مما يلزم الزوج لها قوله تعالى فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله يدل على أن في النساء الصالحات وقوله قانتات روي عن قتادة مطيعات لله تعالى ولأزواجهن وأصل القنوت مداومة الطاعة ومنه القنوت في الوتر لطول القيام وقوله حافظات للغيب بما حفظ الله قال عطاء وقتادة حافظات لما غاب عنه أزواجهن من ماله وما يجب من رعاية حاله وما يلزم من صيانة نفسها له قال عطاء في قوله بما حفظ الله أي بما حفظهن الله في مهورهن وإلزام الزوج من النفقة عليهن وقال آخرون بما حفظ الله أنهن إنما صرن صالحات قانتات حافظات بحفظ الله إياهن من معاصيه وتوفيقه وما أمدهن به من ألطافه ومعونته وروى أبو معشر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها خلفتك في مالك ونفسها ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض الآية والله الموفق
باب
النهي عن النشوز قال الله تعالى واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن قيل في معنى تخافون معنيان أحدهما يعلمون لأن خوف الشيء إنما يكون للعلم بموقعه فجاز أن يوضع مكان يعلم يخاف كما قال أبو محجن الثقفي ... ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها ...
ويكون خفت بمعنى ظننت وقد ذكره الفراء وقال محمد بن كعب هو الخوف الذي هو خلاف الأمن كأنه قيل تخافون نشوزهن بعلمكم بالحال المؤذنة به وأما النشوز فإن ابن عباس وعطاء والسدي قالوا أراد به معصية الزوج فيما يلزمه من طاعته وأصل النشوز الترفع على الزوج بمخالفته مأخوذ من نشز الأرض وهو الموضع المرتفع منها وقوله

تعالى فعظوهن يعني خوفوهن بالله وبعقابه
وقوله تعالى واهجروهن في المضاجع قال ابن عباس وعكرمة والضحاك والسدي هجر الكلام وقال سعيد بن جبير هجر الجماع وقال مجاهد والشعبي وإبراهيم هجر المضاجعة وقوله واضربوهن قال ابن عباس إذا أطاعته في المضجع فليس له أن يضربها وقال مجاهد إذا نشزت عن فراشه يقول لها اتقي الله وارجعي وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي وعثمان بن أبي شيبة وغيرهما قالوا حدثنا حاتم بن إسماعيل قال حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه خطب بعرفات في بطن الوادي فقال اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف
وروى ابن جريج عن عطاء قال الضرب غير المبرح بالسواك ونحوه وقال سعيد عن قتادة ضربا غير شائن ذكر لنا أن نبي الله ص -
قال مثل المرأة مثل الضلع متى ترد إقامتها تكسرها ولكن دعها تستمتع بها وقال الحسن فاضربوهن قال ضربا غير مبرح وغير مؤثر وحدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال حدثنا عبدالرازق قال أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله فعظوهن واهجروهن في المضاجع قالا إذا خاف نشوزها وعظها فإن قبلت وإلا هجرها في المضجع فإن قبلت وإلا ضربها ضربا غير مبرح ثم قال فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا قال لا تعللوا عليهن بالذنوب
باب
الحكمين كيف يعملان قال الله تعالى وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها وقد اختلف في المخاطبين بهذه الآية من هم فروي عن سعيد بن جبير والضحاك أنه السلطان الذي يترافعان إليه وقال السدي الرجل والمرأة
قال أبو بكر قوله واللاتي تخافون نشوزهن هو خطاب للأزواج لما في نسق الآية من الدلالة عليه وهو قوله واهجروهن في المضاجع وقوله وإن خفتم شقاق بينهما الأولى أن يكون خطابا للحاكم الناظر بين الخصمين والمانع من التعدي والظلم وذلك لأنه قد بين أمر الزوج وأمره بوعظها وتخويفها بالله ثم بهجرانها في المضجع إن لم تنزجر ثم بضربها إن أقامت على نشوزها

ثم لم يجعل بعد الضرب للزوج إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم منهما من الظالم ويتوجه حكمه عليهما وروى شعبة عن عمرو بن مرة قال سألت سعيد بن جبير عن الحكمين فغضب وقال ما ولدت إذ ذاك فقلت إنما أعني حكمي شقاق قال إذا كان بين الرجل وامرأته درء وتدارؤ بعثوا حكمين فأقبلا على الذي جاء التدارؤ من قبله فوعظاه فإن أطاعهما وإلا أقبلا على الآخر فإن سمع منهما وأقبل إلى الذي يريدان وإلا حكما بينهما فما حكما من شيء فهو جائز وروى عبدالوهاب قال حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير في المختلعة يعظها فإن انتهت وإلا هجرها وإلا ضربها فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى السلطان فيبعث حكما من أهلها وحكما من أهله فيقول الحكم الذي من أهلها يفعل كذا ويفعل كذا ويقول الحكم الذي من أهله تفعل به كذا وتفعل به كذا فأيهما كان أظلم رده إلى السلطان وأخذ فوق يده وإن كانت ناشزا أمروه أن يخلع
قال أبو بكر وهذا نظير العنين والمجبوب والإيلاء في باب أن الحاكم هو الذي يتولى النظر في ذلك والفصل بينهما بما يوجبه حكم الله فإذا اختلفا وادعى النشوز وادعت هي عليه ظلمه وتقصيره في حقوقها حينئذ بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها ليتوليا النظر فيما بينهما ويردا إلى الحاكم ما يقفان عليه من أمرهما
وإنما أمر الله تعالى بأن يكون أحد الحكمين من أهلها والآخر من أهله لئلا تسبق الظنة إذا كانا أجنبيين بالميل إلى أحدهما فإن كان أحدهما من قبله والآخر من قبلها زالت الظنة وتكلم كل واحد منهما عمن هو من قبله ويدل أيضا قوله فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها على أن الذي من أهله وكيل له والذي من أهلها وكيل لها كأنه قال فابعثوا رجلا من قبله ورجلا من قبلها فهذا يدل على بطلان قول من يقول إن للحكمين أن يجمعا إن شاآ وإن شاآ فرقا بغير أمرهما
وزعم إسماعيل بن إسحاق أنه حكى عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم لم يعرفوا أمر الحكمين قال أبو بكر هذا تكذب عليهم وما أولى بالإنسان حفظ لسانه لا سيما فيما يحكيه عن العلماء قال الله تعالى ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ومن علم أنه مؤاخذ بكلامه قل كلامه فيما لا يعنيه وأمر الحكمين في الشقاق بين الزوجين منصوص عليه في الكتاب فكيف يجوز أن يخفى عليهم مع محلهم من العلم والدين والشريعة ولكن عندهم أن الحكمين ينبغي أن يكونا وكيلين لهما أحدهما وكيل المرأة والآخر وكيل الزوج وكذا روي عن

علي بن أبي طالب رضي الله عنه وروى ابن عيينة عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال أتى عليا رجل وامرأته مع كل واحد منهما فئام من الناس فقال علي ما شأن هذين قالوا بينهما شقاق قال فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما فقال علي هل تدريان ما عليكما عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا فقالت المرأة رضيت بكتاب الله فقال الرجل أما الفرقة فلا فقال علي كذبت والله لا تنفلت مني حتى تقر كما أقرت فأخبر علي أن قول الحكمين إنما يكون برضا الزوجين فقال أصحابنا ليس للحكمين أن يفرقا إلا أن يرضى الزوج وذلك لأنه لا خلاف أن الزوج لو أقر بالإساءة إليها لم يفرق بينهما ولم يجبره الحاكم على طلاقها قبل تحكيم الحكمين وكذلك لو أقرت المرأة بالنشوز لم يجبرها الحاكم على خلع ولا على رد مهرها فإذا كان كذلك حكمها قبل بعث الحكمين فكذلك بعد بعثهما لا يجوز إيقاع الطلاق من جهتهما من غير رضى الزوج وتوكيله ولا إخراج المهر عن ملكها من غير رضاها فلذلك قال أصحابنا إنهما لا يجوز خلعهما إلا برضى الزوجين فقال أصحابنا ليس للحكمين أن يفرقا إلا برضى الزوجين لأن الحاكم لا يملك ذلك فكيف يملكه الحكمان وإنما الحكمان وكيلان لهما أحدهما وكيل المرأة والآخر وكيل الزوج في الخلع أو في التفريق بغير جعل إن كان الزوج قد جعل إليه ذلك قال إسماعيل الوكيل ليس بحكم ولا يكون حكما إلا ويجوز أمره عليه وإن أبى وهذا غلط منه لأن ما ذكر لا ينفي معنى الوكالة لأنه لا يكون وكيلا أيضا إلا ويجوز أمره عليه فيما وكل به فجواز أمر الحكمين عليهما لا يخرجهما عن حد الوكالة وقد يحكم الرجلان حكما في خصومة بينهما ويكون بمنزلة الوكيل لهما فيما يتصرف به عليهما فإذا حكم بشيء لزمهما بمنزلة إصطلاحهما على أن الحكمين في شقاق الزوجين ليس يغادر أمرهما من معنى الوكالة شيئا وتحكيم الحكم في الخصومة بين رجلين يشبه حكم الحاكم من وجه ويشبه الوكالة من الوجه الذي بينا والحكمان في الشقاق إنما يتصرفان بوكالة محضة كسائر الوكالات
قال إسماعيل والوكيل لا يسمى حكما وليس ذلك كما ظن لأنه إنما سمي ههنا الوكيل حكما تأكيدا للوكالة التي فوضت إليه
وأما قوله إن الحكمين يجوز أمرهما على الزوجين وإن أبيا فليس كذلك ولا يجوز أمرهما عليهما إذا أبيا لأنهما وكيلان وإنما يحتاج الحاكم أن يأمرهما بالنظر في أمرهما ويعرف

أمور المانع من الحق منهما حتى ينقلا إلى الحاكم أن ما عرفاه من أمرهما فيكون قولهما مقبولا في ذلك إذا اجتمعا وينهى الظالم منهما عن ظلمه فجائز أن يكونا سميا حكمين لقبول قولهما عليهما وجائز أن يكونا سميا بذلك لأنهما إذا خلعا بتوكيل منهما وكان ذلك موكولا إلى رأيهما وتحريهما للصلاح سميا حكمين لأن اسم الحكم يفيد تحري الصلاح فيما جعل إليه وإنفاذ القضاء بالحق والعدل فلما كان ذلك موكولا إلى رأيهما وأنفذا على الزوجين حكما من جمع أو تفريق مضى ما أنفذاه فسميا حكمين من هذا الوجه فلما أشبه فعلهما فعل الحاكم في القضاء عليهما بما وكلا به على جهة تحري الخير والصلاح سميا حكمين ويكونان مع ذلك وكيلين لهما إذ غير جائز أن تكون لأحد ولاية على الزوجين مع خلع أو طلاق إلا بأمرهما
وزعم أن عليا إنما ظهر منه النكير على الزوج لأنه لم يرض بكتاب الله قال ولم يأخذه بالتوكيل وإنما أخذه بعدم الرضا بكتاب الله وليس هذا على ما ذكر لأن الرجل لما قال أما الفرقة فلا قال علي كذبت أما والله لا تنفلت مني حتى تقر كما أقرت فإنما أنكر على الزوج ترك التوكيل بالفرقة وأمره بأن يوكل بالفرقة وما قال الرجل لا أرضى بكتاب الله حتى ينكر عليه وإنما قال لا أرضى بالفرقة بعد رضى المرأة بالتحكيم وفي هذا دليل على أن الفرقة عليه غير نافذة إلا بعد توكيله بها
قال ولما قال إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما علمنا أن الحكمين يمضيان أمرهما وأنهما إن قصدا الحق وفقهما الله للصواب من الحكم
قال وهذا لا يقال للوكيلين لأنه يجوز لواحد منهما أن يتعدى ما أمر به والذي ذكره لا ينفي معنى الوكالة لأن الوكيلين إذا كانا موكلين بما رأيا من جمع أو تفريق على جهة تحري الصلاح والخير فعليهما الاجتهاد فيما يمضيانه من ذلك وأخبر الله أنه يوفقهما للصلاح إن صلحت نياتهما فلا فرق بين الوكيل والحكم إذ كل من فوض إليه أمر يمضيه على جهة تحري الخير والصلاح فهذه الصفة التي وصفه الله بها لاحقة به
قال وقد روي عن ابن عباس ومجاهد وأبي سلمة وطاوس وإبراهيم قالوا ما قضى به الحكمان من شيء فهو جائز وهذا عندنا كذلك أيضا ولا دلالة فيه على موافقة قوله لأنهم لم يقولوا إن فعل الحكمين في التفريق والخلع جائز بغير رضى الزوجين بل جائز أن يكون مذهبهم إن الحكمين لا يملكان التفريق إلا برضى الزوجين بالتوكيل ولا يكونان حكمين إلا بذلك ثم ما حكما بعد ذلك من شيء فهو جائز وكيف

يجوز للحكمين أن يخلعا بغير رضاه ويخرجا المال عن ملكها وقد قال الله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا وقال الله تعالى ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به وهذا الخوف المذكور ههنا هو المعني بقوله تعالى فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها وحظر الله على الزوج أخذ شيء مما أعطاها إلا على شريطة الخوف منهما ألا يقيما حدود الله فأباح حينئذ أن تفتدي بما شاءت وأحل للزوج أخذه فكيف يجوز للحكمين أن يوقعا خلعا أو طلاقا من غير رضاهما وقد نص الله على أنه لا يحل له أخذ شيء مما أعطى إلا بطيبة من نفسها ولا أن تفتدي به فالقائل بأن للحكمين أن يخلعا بغير توكيل من الزوج مخالف لنص الكتاب وقال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم فمنع كل أحد أن يأكل مال غيره إلا برضاه وقال الله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام فأخبر تعالى أن الحاكم وغيره سواء في أنه لا يملك أخذ مال أحد ودفعه إلى غيره وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وقال ص - فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما أقطع له قطعة من النار فثبت بذلك أن الحاكم لا يملك أخذ مالها ودفعه إلى زوجها ولا يملك إيقاع طلاق على الزوج بغير توكيله ولا رضاه وهذا حكم الكتاب والسنة وإجماع الأمة في أنه لا يجوز للحاكم في غير ذلك من الحقوق إسقاطه ونقله عنه إلى غيره من غير رضا من هو له فالحكمان إنما يبعثان للصلح بينهما وليشهدا على الظالم منهما كما روى سعيد عن قتادة في قوله تعالى وإن خفتم شقاق بينهما الآية قال إنما يبعث الحكمان ليصلحا فإن أعياهما أن يصلحا على الظالم بظلمه وليس بأيديهما الفرقة ولا يملكان ذلك وكذلك روي عن عطاء
قال أبو بكر وفي فحوى الآية ما يدل على أنه ليس للحكمين أن يفرقا وهو قوله تعالى إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ولم يقل إن يريدا فرقة وإنما يوجه الحكمان ليعظا الظالم منهما وينكرا عليه ظلمه وإعلام الحاكم بذلك ليأخذ هو على يده فإن كان الزوج هو الظالم أنكرا عليه ظلمه وقالا لا يحل لك أن تؤذيها لتخلع منك وإن كانت هي الظالمة قالا لها قد حلت لك الفدية وكان في أخذها معذورا لما ظهر للحكمين من نشوزها فإذا جعل

كل واحد منهما إلى الحكم الذي من قبله ماله من التفريق والخلع كانا مع ما ذكرنا من أمرهما وكيلين جائز لهما أن يخلعا إن رأيا وأن يجمعا إن رأيا ذلك صلاحا فهما في حال شاهدان وفي حال مصلحان وفي حال آمران بمعروف وناهيان عن منكر ووكيلان في حال إذا فوض إليهما الجمع والتفريق وأما قول من قال إنهما يفرقان ويخلعان من غير توكيل من الزوجين فهو تعسف خارج عن حكم الكتاب والسنة والله أعلم بالصواب
باب
الخلع دون السلطان قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والحسن بن صالح والشافعي يجوز الخلع بغير سلطان وروي مثله عن عمر وعثمان وابن عمر رضي الله عنهم وقال الحسن وابن سيرين لا يجوز الخلع إلا عند السلطان والذي يدل جوازه عند غير سلطان قوله تعالى فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا اقتضى ظاهره جواز أخذه ذلك منهما على وجه الخلع وغيره وقال تعالى فلا جناح عليهما فيما افتدت به ولم يشترط ذلك عند السلطان وكما جاز عقد النكاح وسائر العقود عند السلطان وعند غيره كذلك يجوز الخلع إذ لا اختصاص في الأصول لهذه العقود بكونها عند السلطان والله تعالى أعلم
باب
بر الوالدين قال الله تعالى واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا فقرن تعالى ذكره إلزام بر الوالدين بعبادته وتوحيده وأمر به كما أمر بهما كما قرن شكرهما بشكره في قوله تعالى أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وكفى بذلك دلالة على تعظيم حقهما ووجوب برهما والإحسان إليهما وقال تعالى ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما إلى آخر القصة وقال تعالى ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وقال في الوالدين الكافرين وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا وروى عبدالله بن أنيس عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس والذي نفس محمد بيده لا يحلف أحد وإن كان على مثل جناح البعوضة إلا كانت وكتة في قلبه إلى يوم القيامة قال أبو بكر

فطاعة الوالدين واجبة في المعروف لا في معصية الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا عبدالله بن وهب قال أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري أن رجلا من اليمن هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال هل لك أحد باليمن قال أبواي قال أذنا لك قال لا قال ارجع إليها فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما ومن أجل ذلك قال أصحابنا لا يجوز أن يجاهد إلا بإذن الأبوين إذا قام بجهاد العدو من قد كفاه الخروج قالوا فإن لم يكن بإزاء العدو من قد قام بفرض الخروج فعليه الخروج بغير إذن أبويه وقالوا في الخروج في التجارة ونحوها فيما ليس فيه قتال لا بأس به بغير إذنهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم - إنما منعه من الجهاد إلا بإذن الأبوين إذا قام بفرض غيره لما فيه من التعرض للقتل وفجيعة الأبوين به فأما التجارات والتصرف في المباحات التي ليس فيها تعرض للقتل فليس للأبوين منعه منها فلذلك لم يحتج إلى استئذانهما ومن أجل ما أكد الله تعالى من تعظيم حق الأبوين قال أصحابنا لا ينبغي للرجل أن يقتل أباه الكافر إذا كان محاربا للمسلمين لقوله تعالى ولا تقل لهما أف وقوله تعالى وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا فأمر تعالى بمصاحبتهما بالمعروف في الحال التي يجاهدانه فيها على الكفر ومن المعروف أن لا يشهر عليهما سلاحا ولا يقتلهما إلا أن يضطر إلى ذلك بأن يخاف أن يقتله إن ترك قتله فحينئذ يجوز قتله لأنه إن لم يفعل ذلك قد قتل نفسه بتمكنه غيره منه وهو منهي عن تمكين غيره من قتله كما هو منهي عن قتل نفسه فجاز له حينئذ من أجل ذلك قتله وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه نهى حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه وكان مشركا وقال أصحابنا في المسلم يموت أبواه وهما كافران أنه يغسلهما ويتبعهما ويدفنهما لأن ذلك من الصحبة بالمعروف التي أمر الله بها
فإن قال قائل ما معنى قوله تعالى وبالوالدين إحسانا وما ضميره قيل له يحتمل استوصوا بالوالدين إحسانا ويحتمل وأحسنوا بالوالدين إحسانا وقوله تعالى وبذي القربى أمر بصلة الرحم والإحسان إلى القرابة على نحو ما ذكره في أول السورة في قوله تعالى والأرحام فبدأ تعالى في أول الآية بتوحديه وعبادته إذ كان ذلك هو الأصل الذي به يصح سائر الشرائع والنبوات وبحصوله يتوصل إلى

سائر مصالح الدين ثم ذكر تعالى ما يجب للأبوين من الإحسان إليهما وقضاء حقوقهما وتعظيمهما ثم ذكر الجار ذا القربى وهو قريبك المؤمن الذي له حق القرابة وأوجب له الدين الموالاة والنصرة ثم ذكر الجار الجنب وهو البعيد منك نسبا إذا كان مؤمنا فيجتمع حق الجار وما أوجبه له الدين بعصمة الملة وذمة عقد النحلة وروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك قالوا الجار ذو القربى القريب في النسب وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال الجيران ثلاثة فجار له ثلاثة حقوق حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام وجار له حقان حق الجوار وحق الإسلام وجار له حق الجوار المشرك من أهل الكتاب وقوله تعالى والصاحب بالجنب روي فيه عن ابن عباس في إحدى الروايتين وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك أنه الرفيق في السفر وروي عن عبدالله بن مسعود وإبراهيم وابن أبي ليلى أنه الزوجة ورواية أخرى عن ابن عباس أنه المنقطع إليك رجاء خيرك وقيل هو جار البيت دانيا كان نسبه أو نائيا إذا كان مؤمنا قال أبو بكر لما كان اللفظ محتملا لجميع ذلك وجب حمله عليه وأن لا يخص منه شيء بغير دلالة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبي شريح الخزاعي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت وروى عبيدالله الوصافي عن أبي جعفر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ما آمن من أمسى شبعان وجاره جائعا وروى عمر بن هارون الأنصاري عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من أشراط الساعة سوء الجوار وقطيعة الأرحام وتعطيل الجهاد وقد كانت العرب في الجاهلية تعظم الجوار وتحافظ على حفظه وتوجب فيه ما توجب في القرابة قال زهير ... وجار البيت والرجل المنادي ... أمام الحي عقدهما سواء ...
يريد بالرجل المنادي من كان معك في النادي وهو 2مجالس الحي وقال بعض أهل العلم معنى الصاحب بالجنب أنه الذي يلاصق داره داره وإن الله خصه بالذكر تأكيدا لحقه على الجار غير الملاصق وقد حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أبو عمر ومحمد بن عثمان

القرشي وراق أحمد بن يونس قال حدثنا إسماعيل بن مسلم قال حدثنا عبدالسلام بن حرب عن خالد الدالاني عن أبي العلاء الأزدي عن حميد بن عبدالرحمن الحميري عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -
قال إذا اجتمع الداعيان فأجب أقربهما بابا فإن أقربهما بابا أقربهما جوارا وإذا سبق أحدهما فابدأ بالذي سبق وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أن أربعين دارا جوار وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا الحسن بن شبيب المعمري قال حدثنا محمد بن مصفى قال حدثنا يوسف بن السفر عن الأوزاعي عن يونس عن الزهري قال حدثني عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
رجل فقال إني نزلت بمحلة بني فلان وإن أشدهم لي إذا أقربهم من جواري فبعث النبي صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وعمر وعليا أن يأتوا باب المسجد فيقوموا على بابه فيصيحوا ثلاثا ألا إن أربعين دارا جوار ولا يدخل الجنة من خاف جاره بوائقه قال قلت للزهري يا أبا بكر أربعين دارا قال أربعين هكذا وأربعين هكذا وقد جعل الله الاجتماع في مدينة جوارا قال الله تعالى لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا فجعل تعالى اجتماعهم معه في المدينة جوارا
والإحسان الذي ذكره الله تعالى يكون من وجوه منها المواساة للفقير منهم إذا خاف عليه الضرر الشديد من جهة الجوع والعري ومنها حسن العشرة وكف الأذى عنه والمحاماة دونه ممن يحاول ظلمه وما يتبع ذلك من مكارم الأخلاق وجميل الفعال ومما أوجب الله تعالى من حق الجوار الشفعة لمن بيعت دار إلى جنبه والله الموفق
ذكر
الخلاف في الشفعة بالجوار قال أبو حنيفة وأبو يوسفومحمد وزفر والشريك في المبيع أحق من الشريك في الطريق ثم الشريك في الطريق أحق من الجار الملازق ثم الجار الملازق بعدهما وهو قول ابن شبرمة والثوري والحسن بن صالح وقال الشافعي لا شفعة إلا في مشاع ولا شفعة في بئر لا بياض لها ولا تحتمل القسم وقد روي وجوب الشفعة للجار عن جماعة من السلف روي عن عمر وعن أبي بكر بن أبي حفص بن عمر قال قال شريح كتب إلي عمر أن أقضي بالشفعة للجار وروى عاصم عن الشعبي عن شريح قال الشريك أحق من الخليط والخليط أحق من الجار والجار أحق ممن سواه وروى أيوب عن محمد قال كان يقال

الشريك أحق من الخليط والخليط أحق ممن سواه وقال إبراهيم إذا لم يكن شريك فالجار أحق بالشفعة وقال طاوس مثل ذلك وقال إبراهيم بن ميسرة كتب إلينا عمر بن عبدالعزيز إذا حدت الحدود فلا شفعة قال طاوس الجار أحق والذي يدل على وجوب الشفعة للجار ما روى حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم -
أرض ليس لأحد فيها شريك إلا الجار فقال الجار أحق بسبقه ما كان وروى سفيان عن إبراهيم بن ميسرة عن عمرو بن الشريد عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال الجار أحق بسبقه وروى أبو حنيفة قال حدثنا عبدالكريم عن المسور بن مخرمة عن رافع بن خديج قال عرض سعد بيتا له فقال خذه فإني قد أعطيت به أكثر مما تعطيني ولكنك أحق به لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يقول الجار أحق بسبقه وروى أبو الزبير عن جابر قال قضى رسول الله ص - بالشفعة بالجوار وروى عبدالملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
الجار أحق بسبقه ينتظر به وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا وروى ابن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - الجار أحق بسبقه ما كان وروى قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال جار الدار أحق بشفعة الجار وقتادة عن أنس عن النبي ص - أنه قال جار الدار أحق بالدار وروى سفيان عن منصور عن الحكم قال حدثني من سمع عليا وعبدالله يقولان قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
بالجوار ويونس عن الحسن قال قضى رسول الله ص - بالجوار فاتفق هؤلاء الجماعة على الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم -
وما نعلم أحدا دفع هذه الأخبار مع شيوعها واستفاضتها في الأمة فمن عدل عن القول بها كان تاركا للسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم - واحتج من أبى ذلك بما روى أبو عاصم النبيل قال حدثنا مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بالشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة وكذلك رواه عن مالك أبو قتيلة المدني وعبدالملك بن عبدالعزيز الماجشون وهذا الحديث رواه هؤلاء موصولا عن أبي هريرة وأصله عن سعيد بن المسيب مقطوع رواه معن ووكيع والقعنبي وابن وهب كلهم عن مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب من غير ذكر أبي هريرة وكذلك هو في موطأ مالك ولو ثبت موصولا لما جاز الاعتراض به على الأخبار التي رواها نحو عشرة من الصحابة

عن النبي صلى الله عليه وسلم - في إيجاب الشفعة للجار لأنها في حيز المتواتر المستفيض الذي لا تجوز معارضته بأخبار الآحاد ولو ثبت من وجوه يجوز أن يعارض به ما قدمنا ذكره لم يكن فيه ما ينفي أخبار إيجاب الشفعة للجار وذلك لأن أكثر ما فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قضى بالشفعة فيما لم يقسم ثم قال فإذا وقعت الحدود فلا شفعة فأما قوله قضى رسول الله بالشفعة فيما لم يقسم فإنه متفق على استعماله في إيجاب الشفعة للشريك ومع ذلك فهو حكاية قضية من النبي صلى الله عليه وسلم -
قضى بها وليس بعموم لفظ ولا حكاية قول منه وأما قوله فإذا وقعت الحدود فلا شفعة فإنه يحتمل أن يكون من كلام الراوي إذ ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم - قاله ولا أنه قضى به وإذا احتمل أن تكون رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم -
واحتمل أن يكون من قول الراوي أدرجه في الحديث كما وجد ذلك في كثير من الأخبار لم يجز لنا إثباته عن النبي صلى الله عليه وسلم - إذ غير جائز لأحد أن يعزي إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
مقالة بالشك والإحتمال فهذا وجه منع الاعتراض به على ما ذكرنا واحتجوا أيضا بما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا حامد بن محمد المردف قال حدثنا عبيدالله بن عمر القواريري قال حدثنا عبدالواحد بن زياد قال حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن جابر بن عبدالله قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بالشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة وهذا لا دلالة فيه على نفي الشفعة بالجوار من وجهين أحدهما أنه إنما نفى وجوب الشفعة إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فأفاد بذلك نفي الشفعة لغير الجار الملاصق لأن صرف الطرق ينفي الملاصقة لأن بينه وبين جاره طريقا والثاني أنا متى حملناه على حقيقته كان الذي يقتضيه اللفظ نفي الشفعة عند وقوع الحدود وصرف الطرق ووقوع الحدود وصرف الطرق إنما هو القسمة فكأنه إنما أفاد أن القسمة لا شفعة فيها كما قال أصحابنا أنه لا شفعة في قسمة وكذلك الحديث الأول محمول على ذلك أيضا وأيضا فقد روى عبدالملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال الجار أحق بصقبه ينتظر به وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا فهذان الخبران قد رويا عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم - وغير جائز أن نجعلهما متعارضين مع إمكان استعمالهما جميعا وقد يمكننا استعمالهما على الوجه الذي ذكرنا ومخالفونا يجعلونهما متعارضين ويسقطون أحدهما بالآخر وأيضا جائز أن يكون ذلك كلاما خرج على سبب فنقل الراوي لفظ النبي ص

وترك نقل السبب نحو أن يختصم إليه رجلان أحدهما جار والآخر شريك فيحكم بالشفعة للشريك دون الجار وقال فإذا وقعت لاحدود فلا شفعة لصاحب النصيب المقسوم مع الجار كما روى أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال لا ربا إلا في النسيئة وهو عند سائر الفقهاء كلام خارج على سبب اقتصر فيه راويه على نقل قول النبي صلى الله عليه وسلم - دون ذكر السبب وهو أن يكون سئل عن النوعين المختلفين من الذهب والفضة إذا بيع أحدهما بالآخر فقال ص - لا ربا إلا في النسيئة يعني فيما سئل عنه وكذلك ما ذكرنا وأيضا لو تساوت أخبار إيجاب الشفعة بالجوار وأخبار نفيها لكانت أخبار الإيجاب أولى من أخبار النفي لأن الأصل أنها غير واجبة حتى يرد الشرع بإيجابها فخبر نفي الشفعة وارد على الأصل وخبر إثباتها ناقل عنه وارد بعده فهو أولى
فإن قيل يحتمل أن يريد بالجار الشريك
قيل له هذه الأخبار التي رويناها وأكثرها ينفي هذا التأويل لأن فيها أن جار الدار أحق بشفعة داره والشريك لا يسمى جار الدار وحديث جابر قال فيه ينتظر به وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا وغير جائز أن يكون هذا في الشريك في المبيع وأيضا فإن الشريك لا يسمى جارا لأنه لو استحق اسم الجوار بالشركة لوجب أن يكون كل شريكين في شيء جارين كالشريكين في عبد واحد ودابة واحدة فلما لم يستحق اسم الجار بالشركة في هذه الأشياء دل ذلك على أن الشريك لا يسمى جارا وإنما الجار هو الذي ينفرد حقه ونصيبه من حق الشريك ويتميز ملك كل واحد عن ملك صاحبه وأيضا فإن الشركة إنما تستحق بها الشفعة لأنها تقتضي حصول الجوار بالقسمة والدليل عليه أن الشركة في سائر الأشياء لا توجب ا لشفعة لعدم حصول الجوار بها عند القسمة فدل ذلك على أن الشركة في العقار إنما تستحق بها الشفعة لما يتعلق بها من الجوار عند القسمة وإن كان الشريك أحق من الجار لمزية حصلت له مع تعلق حق الجوار بالقسمة والدليل عليه أن الشركة في سائر الأشياء لا توجب الشفعة لعدم حصول الجوار بها كما أن الأخ من الأب والأم أولى بالميراث من الأخ من الأب وإن كانت الأخوة من جهة الأب يستحق بها التعصيب والميراث إذا لم يكن أخ لأب وأم ومعلوم أن القرابة من جهة الأم لا يستحق بها التعصيب إذ لم تكن هناك قرابة من جهة الأب إلا أنها أكدت تعصيب القرابة من الأب وكذلك الشريك إنما يستحق الشفعة بالشركة لما تعلق بها من حصول الجوار عند

القسمة والشريك أولى من الجار لمزية حصلت له كما وصفنا بالتعصيب ويكون المعنى الذي يتعلق به وجوب الشفعة هو الجوار وأيضا لما كان المعنى الذي به وجبت الشفعة بالشركة هو دوام التأذي بالشريك وكان ذلك موجودا في الجوار لأنه يتأذى به في الإشراف عليه ومطالعة أموره والوقوف على أحواله وجب أن تكون له الشفعة لوجود المعنى الذي من أجله وجبت الشفعة للشريك وهذا المعنى غير موجود في الجار غير الملاصق لأن بينه وبينه طريقا يمنعه التشرف عليه والاطلاع على أموره
وأما قوله تعالى وابن السبيل فإنه روي عن مجاهد والربيع بن أنس أنه المسافر وقال قتادة والضحاك هو الضيف قال أبو بكر ومعناه صاحب الطريق وهذا كما يقال لطير الماء ابن ماء قال الشاعر ... وردت اعتسافا والثريا كأنها ... على قمة الرأس ابن ماء محلق ...
ومن تأوله على الضيف فقوله سائغ أيضا لأن الضيف كالمجتاز غير المقيم فسمى ابن السبيل تشبيها بالمسافر المجتاز وهو كما يقال عابر سبيل وقال الشافعي ابن السبيل هو الذي يريد السفر وليس معه نفقته وهذا غلط لأنه مالم يصر في الطريق لا يسمى ابن السبيل كما لا يسمى مسافرا ولا عابر سبيل وقوله عز و جل وما ملكت أيمانكم يعني الإحسان المأمور به في أول الآية وروى سليمان التيمي عن قتادة عن أنس قال كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم - الصلاة وما ملكت أيمانكم حتى جعل يغرغر بها في صدره وما يقبض بها لسانه وروته أيضا أم سلمة وروى الأعمش عن طلحة بن مصرف عن أبي عمارة عن عمرو بن شرحبيل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - الغنم بركة والإبل عز لأهلها والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة والمملوك أخوك فأحسن إليه فإن وجدته مغلوبا فأعنه وروى مرة الطيب عن أبي بكر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يدخل الجنة سيء الملكة قيل يا رسول الله أليس قد حدثتنا أن هذه الأمة أكثر الأمم مملوكين وأتباعا قال بلى فأكرموهم ككرامة أولادكم وأطعموهم مما تأكلون وروى الأعمش عن المعرور بن سويد قال مررت على أبي ذر وهو بالربذة فسمعته يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - المماليك

هم إخوانكم ولكن الله تعالى خولكم إياهم فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون وقوله تعالى الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله قيل في معنى البخل في اللغة أنه مشقة الإعطاء 2وقيل البخل منع مالا ينفع منعه ولا يضر بذله وقيل البخل منع الواجب ونظيره الشح ونقيضه الجود وقد عقل من معناه في أسماء الدين أنه منع الواجب ويقال إنه لا يصح إطلاقه في الدين إلا على جهة أن فاعله قد أتى كبيرة بالمنع قال الله تعالى ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة فأطلق الوعيد على من بخل بحق الله الذي أوجبه في ماله وأما قوله تعالى ويكتمون ما آتاهم الله من فضله فإنه روي عن ابن عباس ومجاهد والسدي أنها نزلت في اليهود إذ بخلوا بما أعطوا من الرزق وكتموا ما أوتوا من العلم بصفة محمد ص - وقيل هو فيمن كان بهذه الصفة وفيمن كتم نعم الله وأنكرها وذلك كفر بالله تعالى قال أبو بكر الاعتراف بنعم الله تعالى واجب وجاحدها كافر وأصل الكفر إنما هو من تغطية نعم الله تعالى وكتمانها وجحودها وهذا يدل على أنه جائز للإنسان أن يتحدث بنعم الله عنده لا على جهة الفخر بل على جهة الاعتراف بالنعمة والشكر للمنعم وهو كقوله وأما بنعمة ربك فحدث وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
أنا سيد ولد آدم ولا فخر وأنا أفصح العرب ولا فخر فأخبر بنعم الله عنده وأبان أنه ليس إخباره بها على وجه الافتخار وقال ص - لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى وقد كان ص -
خيرا منه ولكنه نهى أن يقال ذلك على وجه الافتخار وقال تعالى فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه سمع رجلا يمدح رجلا فقال لو سمعك لقطعت ظهره ورأى المقداد رجلا يمدح عثمان في وجهه فحثا في وجهه التراب وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب وقد روي إياكم والتمادح فإنه الذبح فهذا إذا كان على وجه الفخر فقد كره وإما أن يتحدث بنعم الله عنده أو يذكرها غيره بحضرته فهذا نرجو أن لا يضر إلا أن أصلح الأشياء لقلب الإنسان أن لا يغتر بمدح الناس له ولا يعتد به وقوله تعالى والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر معناه والله أعلم أنه أعد للذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس عذابا مهينا وفي ذلك دليل

على أن كل ما يفعله العبد لغير وجه الله فإنه لا قربة فيه ولا يستحق عليه الثواب لأن ما يفعل على وجه الرياء فإنما يريد به عوضا من الدنيا كالذكر الجميل والثناء الحسن فصار ذلك أصلا في أن كل ما أريد عوض من أعواض الدنيا أنه ليس بقربة كالاستيجار على الحج وعلى الصلاة الصلاة وسائر القرب أنه متى استحق عليه عوضا يخرج بذلك عن باب القربة وقد علمنا أن هذه الأشياء سبيلها أن لا تفعل إلا على وجه القربة فثبت بذلك أنه لا يجوز أن يستحق عليها الأجرة وأن الإجارة عليها باطلة قوله تعالى وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله يدل على بطلان مذهب أهل الجبر لأنهم لو لم يكونوا مستطيعين للإيمان بالله والإنفاق لما جاز أن يقال ذلك فيهم لأن عذرهم واضح وهو أنهم غير ممكنين مما دعوا إليه ولا قادرين عليه كما لا يقال للأعمى ماذا عليه لو أبصر ولا يقال للمريض ماذا عليه لو كان صحيحا وفي ذلك أوضح دليل على أن الله قطع عذرهم من فعل ما كلفهم من الإيمان وسائر الطاعات وأنهم ممكنون من فعلها
وقوله تعالى يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا فأخبر الله عنهم أنهم لا يكتمون الله هناك شيئا من أحوالهم وما عملوه لعلمهم بأن الله مطلع عليهم عالم بأسرارهم فيقرون بها ولا يكتمونها وقيل يجوز أن يكون المراد أنهم لا يكتمون أسرارهم هناك كما كانوا يكتمونها في الدنيا فإن قيل قد أخبر الله عنهم أنهم يقولون والله ربنا ما كنا مشركين قيل له فيه وجوه أحدها أن الآخرة مواطن فموطن لا تسمع فيه إلا همسا أي صوتا خفيا وموطن يكذبون فيه فيقولون ما كنا نعمل من سوء والله ربنا ما كنا مشركين وموطن يعترفون فيه بالخطأ ويسئلون الله أن يردهم إلى دار الدنيا وروي ذلك عن الحسن وقال ابن عباس أن قوله تعالى ولا يكتمون الله حديثا داخل في التمني بعد ما نطقت جوارحهم بفضيحتهم وقيل إن معناه أنه لا يعتد بكتمانهم لأنه ظاهر عند الله لا يخفى عليه شيء فكان تقديره أنهم غير قادرين هناك على الكتمان لأن الله يظهره وقيل أنهم لم يقصدوا الكتمان لأنهم إنما أخبروا على ما توهموا ولا يخرجهم ذلك من أن يكونوا قد كتموا والله تعالى أعلم
باب
الجنب يمر في المسجد قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا

ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا قال أبو بكر قداختلف في المراد من السكر بهذه الآية فقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة السكر من الشراب وقال مجاهد والحسن نسخها تحريم الخمر وقال الضحاك المراد به سكر النوم خاصة
فإن قيل كيف يجوز أن ينهى السكران في حال سكره وهو في معنى الصبي في نقص عقله
قيل له يحتمل أن يريد السكران الذي لم يبلغ نقصان عقله إلى حد يزول التكليف معه ويحتمل أن يكونوا نهوا عن التعرض للسكر إذا كان عليهم فرض الصلاة ويجوز أن يكون النهي إنما دل على أن عليهم أن يعيدوها في حال الصحو إذا فعلوها في حال السكر وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة بالآية في حال نزولها
فإن قال قائل إذا ساغ تأويل من تأولها على السكران الذي لم يزل عنه التكليف فكيف يجوز أن يكون منهيا عن فعل الصلاة في هذه الحال مع اتفاق المسلمين على أنه مأمور بفعل الصلاة في هذه الحال
قيل له قد روي عن الحسن وقتادة أنه منسوخ ويحتمل إن لم يكن منسوخا أن يكون النهي متوجها إلى فعل الصلاة مع الرسول ص -
أو في جماعة قال أبو بكر والصحيح من التأويل في معنى السكر أنه السكر من الشراب من وجهين أحدهما أن النائم ومن خالط عينه النوم لا يسمى سكران ومن سكر من الشراب يسمى سكران حقيقة فوجب حمل اللفظ على الحقيقة ولا يجوز صرفه عنها إلى المجاز إلا بدلالة والثاني ما روى سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبدالرحمن عن علي قال دعا رجل من الأنصار قوما فشربوا من الخمر فتقدم عبدالرحمن بن عوف لصلاة المغرب فقرأ قل يا أيها الكافرون فالتبس عليه فأنزل الله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وقال في سورة النساء لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ثم نسختها هذه الآية يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام الآية
قال أبو عبيد وحدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى ويسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير قال وقوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون قال كانوا

لا يشربونها عند الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها
قال أبو عبيد حدثنا عبدالرحمن عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال قال عمر اللهم بين لنا في الخمر فنزلت لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون وذكر الحديث
قال أبو عبيد وحدثنا هشيم قال أخبرنا مغيرة عن أبي رزين قال شربت الخمر بعد الآية التي في سورة البقرة والتي في سورة النساء وكانوا يشربونها حتى تحضر الصلاة فإذا حضرت الصلاة تركوها ثم حرمت في المائدة
قال أبو بكر فأخبر هؤلاء أن المراد السكر من الشراب وأخبر ابن عباس وأبو رزين أنهم تركوا شربها بعد نزول الآية عند الصلاة وشربوها في غير أوقات الصلوات ففي هذا دلالة على أنهم عقلوا من قوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى النهي عن شربها في الحال التي يكونون فيها سكارى عند لزوم فرض الصلاة وهذا يدل على أن قوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى إنما أفاد النهي عن شربها في أوقات الصلوات وكان معناه لا يكن منكم شرب تصيرون به إلى حال السكر عند أوقات ا لصلوات فتصلوا وأنتم سكارى وذلك أنهم لما كانوا متعبدين بفعل الصلوات في أوقاتها منهيين عن تركها قال تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى وقد علمنا أنه لم ينسخ بذلك فرض الصلاة كان في مضمون هذا اللفظ النهي عما يوجب السكر عند أوقات الصلوات كما أنه لما نهينا عن فعل الصلاة مع الحدث لقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
لا يقبل الله صلاة بغير طهور وكما قال تعالى ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا كان ذلك نهيا عن ترك الطهارة ولم يكن نهيا عن فعل الصلاة ولم يوجب كون الإنسان جنبا
أو محدثا سقوط فرض الصلاة وإنما نهي عن فعلها في هذه الحال وهو مأمور مع ذلك بتقديم الطهارة لها كذلك النهي عن الصلاة في حال السكر إنما دل على حظر شرب يوجب السكر قبل الصلاة وفرض الصلاة قائم عليه فهذا التأويل يدل على ما روي عن ابن عباس وأبي رزين وظاهر الآية وفحواه يقتضي ذلك على الوجه الذي بينا وهذا التأويل لا ينافي ما قدمنا ذكره عن السلف في حظر الصلاة عند السكر لأنه جائز أن يكونوا نهوا عن شرب يقتضي كونه سكران عند حضور الصلاة فيكون ذلك حظرا قائما فإن اتفق أن يشرب حتى أنه كان سكران عند حضور الصلاة كان منهيا عن فعلها مأمورا بإعادتها في حال الصحو أو يكون النهي مقصورا على فعلها مع النبي ص

أو في جماعة وهذه المعاني كلها صحيحة جائزة يحتملها لفظ الآية
وقوله تعالى حتى تعلموا ما تقولون يدل على أن السكران الذي منع من الصلاة هو الذي قد بلغ به السكر إلى حال لا يدري ما يقول وأن السكران الذي يدري ما يقول لم يتناوله النهي عن فعل الصلاة وهذا يشهد للتأويل الذي ذكرنا من النهي إنما انصرف إلى الشرب لا إلى فعل الصلاة لأن السكران الذي لا يدري ما يقول لا يجوز تكليفه في هذه الحال كالمجنون والنائم والصبي الذي لا يعقل والذي يعقل ما يقول لم يتوجه إليه النهي لأن في الآية إباحة فعل الصلاة إذا علم ما يقول وهذا يدل على أن الآية إنما حظرت عليه الشرب لا فعل الصلاة في حال السكر الذي لا يعلم ما يقول فيه إذ غير جائز تكليف السكران الذي لا يعقل وهي تدل على أن السكر الذي يتعلق به الحكم هو الذي لا يعقل صاحبه ما يقول وهذا يدل على صحة قول أبي حنيفة في السكر الموجب للحد أنه هو الذي لا يعرف فيه الرجل من المرأة ومن لا يعقل ما يقول لا يعرف الرجل من المرأة
وقوله تعالى حتى تعلموا ما تقولون يدل على فرض القراءة في الصلاة لأنه منعه من الصلاة لأجل عدم إقامة القراءة فيها فلولا أنها من أركانها وفروضها لما منع من الصلاة لأجلها
فإن قيل لا دلالة في ذلك على وجوب القراءة فيها وذلك لأن قوله تعالى حتى تعلموا ما تقولون قد دل على أنه ممنوع منها في الحال التي لا يعلم ما يقول ولم يذكر القراءة وإنما ذكر نفي العلم بما يقول وهذا على سائر الأقوال والكلام ومن صار بهذه الحال من السكر لم يصح له إحضار نية الصلاة ولا فعل سائر أركانها فإنما منع من الصلاة من كانت هذه حاله لأنه لا تصح منه نية الصلاة ولا سائر أفعالها ومع ذلك فلا يعلم أنه طاهر غير محدث
قيل له هذا على ما ذكرت في أن من كانت هذه حاله فلا يصح منه فعل الصلاة على سائر شرائطها إلا أن اختصاصه القول بالذكر دون غيره من أمور الصلاة وأحوالها يدل على أن المراد به قول مفعول في الصلاة وأنه متى كان من السكر على حال لم يمكنه إقامة القراءة فيها لم يصح له فعلها لأجل عدم القراءة وأن وجود القراءة فيها من فروضها وشرائطها وهذا مثل قوله أقيموا الصلاة في إفادته أن في الصلاة قياما مفروضا ومثل قوله واركعوا مع الراكعين في دلالته على فرض الركوع في الصلاة
وأما قوله تعالى ولاجنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا فإن أهل العلم قد تنازعوا تأويله فروى المنهال بن عمرو عن زر عن علي

رضي الله عنه في قوله ولا جنبا إلا عابري سبيل إلا أن تكونوا مسافرين ولا تجدون ما تيممون به وتصلون وروى قتادة عن أبي مجلز عن ابن عباس مثله وعن مجاهد مثله وروي عن عبدالله بن مسعود أنه قال هو الممر في المسجد وروى عطاء بن يسار عن ابن عباس مثله في تأويل الآية وكذلك روي عن سعيد بن المسيب وعطاء وعمرو بن دينار في آخرين من التابعين
واختلف السلف في مرور الجنب في المسجد فروي عن جابر قال كان أحدنا يمر في المسجد مجتازا وهو جنب وقال عطاء بن يسار كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - تصيبهم الجنابة فيتوضؤن ثم يأتون المسجد فيتحدثون فيه وقال سعيد بن المسيب الجنب لا يجلس في المسجد ويجتاز وكذلك روي عن الحسن وما روي في ذلك عن عبدالله فإن الصحيح فيه ما تأوله شريك عن عبدالكريم الجزري عن أبي عبيدة ولا جنبا إلا عابري سبيل قال الجنب يمر في المسجد ولا يجلس ورواه معمر عن عبدالكريم عن أبي عبيدة عن عبدالله ويقال إن أحدا لم يرفعه إلى عبدالله غير معمر وسائر الناس وقفوه واختلف فقهاء الأمصار في ذلك فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد لا يدخله إلا طاهرا سواء أراد القعود فيه والاجتياز وهو قول مالك بن أنس والثوري وقال الليث الجنب لا يجوز له أن يجتاز في المسجد وقال الشافعي يمر ولا يقعد والدليل على أن الجنب لا يجوز له أن يجتاز في المسجد ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا عبدالواحد بن زياد قال حدثنا أقلت بن خليفة قال حدثتني جسرة بنت دجاجة قالت سمعت عائشة رضي الله عنها تقول جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم - ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال وجهوا هذه البيوت عن المسجد ثم دخل ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة فخرج إليهم بعد فقال وجهوا هذه البيوت فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب وهذا الخبر يدل من وجهين على ما ذكرنا أحدهما قوله لا أحل المسجد لحائض ولا جنب ولم يفرق فيه بين الإجتياز وبين القعود فهو عليهما سواء والثاني أنه أمرهم بتوجيه البيوت الشارعة لئلا يجتازوا في المسجد إذا أصابتهم جنابة لأنه لو أراد القعود لم يكن لقوله وجهوا هذه البيوت فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب معنى لأن القعود منهم بعد دخول المسجد لا تعلق له بكون البيوت شارعة إليه فدل على أنه إنما أمر بتوجيه البيوت لئلا يضطروا عند الجنابة

إلى الإجتياز في المسجد إذ لم يكن لبيوتهم أبواب غير ما هي شارعة إلى المسجد وقد روى سفيان بن حمزة عن كثير بن زيد عن المطلب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - لم يكن أذن لأحد أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه وهو جنب إلا علي بن أبي طالب فإنه كان يدخله جنبا ويمر فيه لأن بيته كان في المسجد فأخبر في هذا الحديث بحظر النبي صلى الله عليه وسلم - الإجتياز كما حظر عليهم القعود وما ذكر من خصوصية علي رضي الله عنه فهو صحيح وقول الراوي لأنه كان بيته في المسجد ظن منه لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قد أمر في الحديث الأول بتوجيه البيوت الشارعة إلى غيره ولم يبح لهم المرور لأجل كون بيوتهم في المسجد وإنما كانت الخصوصية فيه لعلي رضي الله عنه دون غيره كما خص جعفر بأن له جناحين في الجنة دون سائر الشهداء وكما خص حنظلة بغسل الملائكة له حين قتل جنبا وخص دحية الكلبي بأن جبريل كان ينزل على صورته وخص الزبير بإباحة لبس الحرير لما شكا من أذى القمل فثبت بذلك أن سائر الناس ممنوعون من دخول المسجد مجتازين وغير مجتازين
وأما ما روى جابر كان أحدنا يمر في المسجد مجتازا وهو جنب فلا حجة فيه لأنه لم يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم -
علم بذلك فأقره عليه وكذلك ما روي عن عطاء بن يسار كان رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - تصيبهم الجنابة فيتوضؤن ثم يأتون المسجد فيتحدثون فيه لا دلالة فيه للمخالف لأنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم -
أقرهم عليه بعد علمه بذلك منهم ولأنه جائز أن يكون ذلك في زمان النبي ص - قبل أن يحظر عليهم ذلك ولو ثبت جميع ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم - ثم روي ما وصفنا لكان خبر الحظر أولى لأنه طارئ على الإباحة لا محالة فهو متأخر عنها ولما ثبت باتفاق الفقهاء حظر القعود فيه لأجل الجنابة تعظيما لحرمة المسجد وجب أن يكون كذلك حكم الإجتياز تعظيما للمسجد ولأن العلة في حظر القعود فيه هو الكون فيه جنبا وذلك موجود في الإجتياز وكما أنه لما كان محظورا عليه العقود في ملك غيره بغير إذنه كان حكم الإجتياز فيه حكم القعود فكان الإجتياز بمنزلة القعود كذلك القعود في المسجد لما كان محظورا وجب أن يكون كذلك الإجتياز اعتبارا بما ذكرنا والعلة في الجميع حظر الكون فيه وأما قوله تعالى ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وتأويل من تأوله على إباحة الإجتياز في المسجد فإن ما روي عن علي وابن عباس في تأويله أن المراد المسافر الذي لا يجد الماء فيتيمم أولى من تأويل من تأوله على الإجتياز في المسجد وذلك

لأن قوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى نهي عن فعل الصلاة في هذه الحال لا عن المسجد لأن ذلك حقيقة اللفظ ومفهوم الخطاب وحمله على المسجد عدول بالكلام عن حقيقته إلى المجاز بأن تجعل الصلاة عبارة عن موضعها كما يسمى الشيء باسم غيره للمجاورة أو لأنه تسبب منه كقوله تعالى لهدمت صوامع وبيع وصلوات يعني به مواضع الصلوات ومتى أمكننا استعمال اللفظ على حقيقته لم يجز صرفه عنها إلى المجاز إلا بدلالة ولا دلالة توجب صرف ذلك عن الحقيقة وفي نسق التلاوة ما يدل على أن المراد حقيقة الصلاة وهو قوله تعالى حتى تعلموا ما تقولون وليس للمسجد قول مشروط يمنع من دخوله لتعذره عليه عند السكر وفي الصلاة قراءة مشروطة فمنع من أجل العذر عن إقامتها عن فعل الصلاة فدل ذلك على أن المراد حقيقة الصلاة فيكون تأويل من تأوله عليها موافقا لظاهرها وحقيقتها
وقوله تعالى إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا فإن معناه المسافر لأن المسافر يسمى عابر سبيل ولولا أنه يطلق عليه هذا الاسم لما تأوله عليه علي وابن عباس إذ غير جائز لأحد تأويل الآية على مالا يقع عليه الاسم وإنما سمي المسافر عابر سبيل لأنه على الطريق كما يسمى ابن السبيل فأباح الله تعالى له في حال السفر أن يتيمم ويصلي وإن كان جنبا فدلت الآية على معنيين أحدهما جواز التيمم للجنب إذا لم يجد الماء والصلاة به والثاني أن التيمم لا يرفع الجنابة لأنه سماه جنبا مع كونه متيمما فهذا التأويل أولى من تأويل من حمله على الإجتياز في المسجد
وقوله تعالى حتى تغتسلوا غاية لإباحة الصلاة ولا خلاف أن الغاية في هذا الموضع داخلة في الحظر إلى أن يستوعبها بوجوب الاغتسال وأنه لا تجوز له الصلاة وقد بقي من غسله شيء في حال وجود الماء وإمكان استعماله من غير ضرر يخافه فهذا يدل على أن الغاية قد تدخل في الجملة التي قبلها وقال الله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل والغاية خارجة من الجملة لأنه بدخول أول الليل يخرج من الصوم لأن إلى غاية كما أن حتى غاية
وهذا أصل في أن الغاية قد يجوز دخولها في الكلام تارة وخروجها أخرى وحكمها موقوف على الدلالة في دخولها أو خروجها وسنذكر أحكام الجنابة ومعناها وحكم المريض والمسافر في سورة المائدة إذا انتهينا إليها إن شاء الله تعالى قوله تعالى آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها يدل على قول أصحابنا في قول الرجل لامرأته أنت طالق قبل قدوم فلان أنها

تطلق في الحال قدم فلان أو لم يقدم وحكي عن بعضهم أنها لا تطلق حتى يقدم لأنه لا يقال أنه قبل قدوم فلان وما قدم والصحيح ما قال أصحابنا وهذه الآية تدل عليه لأنه قال الله تعالى يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فكان الأمر بالإيمان صحيحا قبل طمس الوجوه ولم يوجد الطمس أصلا وكان ذلك إيمانا قبل طمس الوجوه وما وجد وهو نظير قوله تعالى فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا فكان الأمر بالعتق للرقبة أمرا صحيحا وإن لم يوجد المسيس فإن قيل إن هذا وعيد من الله لليهود ولم يسلموا ولم يقع ما توعدوا به قيل له إن قوما من هؤلاء اليهود أسلموا منهم عبدالله بن سلام وثعلبة بن سعية وزيد بن سعنة وأسد بن سعية وأسد بن عبيد ومخريق في آخرين منهم وإنما كان الوعيد العاجل معلقا بترك جميعهم الإسلام ويحتمل أن يريد به الوعيد في الآخرة إذ لم يذكر في الآية تعجيل العقوبة في الدنيا إن لم يسلموا قوله تعالى ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم قال الحسن وقتادة والضحاك هو قول اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وروي عن عبدالله أنه قال هو تزكية الناس بعضهم بعضا لينال به شيئا من الدنيا
قال أبو بكر وهذا يدل على أن النهي عن التزكية من هذا الوجه وقال الله ولا تزكوا أنفسكم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال إذا رايتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب قوله تعالى أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي وعكرمة إن المراد بالناس ههنا هو النبي صلى الله عليه وسلم -
خاصة وقال قتادة العرب وقال آخرون النبي ص - وأصحابه وهذا أولى لأن أول الخطاب في ذكر اليهود وقد كانوا قبل ذلك يقرؤن في كتبهم مبعث النبي صلى الله عليه وسلم - وصفته وحال نبوته وكانوا يوعدون العرب بالقتل عند مبعثه لأنهم زعموا أنهم لا يتبعونه وكانوا يظنون أنه يكون من بني إسرائيل فلما بعثه الله تعالى من ولد إسماعيل حسدوا العرب وأظهروا الكفر به وجحدوا ما عرفوه قال الله تعالى وكانوا يستفتتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وقال الله تعالى ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم فكانت عداوة للعرب ظاهرة بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم -
حسدا منهم لهم أن يكون النبي ص - مبعوثا منهم فالأظهر من معنى الآية حسدهم للنبي ص -
وللعرب

والحسد هو تمني زوال النعمة عن صاحبها ولذلك قيل إن كل أحد تقدر أن ترضيه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها والغبطة غير مذمومة لأنها تمني مثل النعمة من غير زوالها عن صاحبها بل مع سرور منه ببقائها عليه
قوله تعالى كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها قيل فيه إن الله تعالى يجدد لهم جلودا غير الجلود التي احترقت والقائلون بهذا هم الذين يقولون إن الجلد ليس بعض الإنسان وكذلك اللحم والعظم وأن الإنسان هو الروح اللابس لهذا البدن ومن قال إن الجلد هو بعض الإنسان وأن الإنسان هو هذا الشخص بكماله فإنه يقول إن الجلود تجدد بأن ترد إلى الحال التي كانت عليها غير محترقة كما يقال لخاتم كثر ثم صيغ خاتم آخر هذا الخاتم غير ذاك الخاتم وكما يقال لمن قطع قميصه قباء هذا اللباس غير ذاك اللباس وقال بعضهم التبديل إنما هو للسرابيل التي قد ألبسوها وهو تأويل بعيد لأن السرابيل لا تسمى جلودا والله تعالى أعلم
باب
ما أوجب الله تعالى من أداء الأمانات قال الله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها اختلف أهل التفسير في المأمورين بأداء الأمانة في هذه الآية من هم فروي عن زيد بن أسلم ومكحول وشهر بن حوشب أنهم ولاة الأمر وقال ابن جريج أنها نزلت في عثمان بن طلحة أمر بأن ترد عليه مفاتيح الكعبة وقال ابن عباس وأبي بن كعب والحسن وقتادة هو في كل مؤتمن على شيء وهذا أولى لأن قوله تعالى إن الله يأمركم خطاب يقتضي عمومه سائر المكلفين فغير جائز الاقتصار به على بعض الناس دون بعض إلا بدلالة وأظن من تأوله على ولاة الأمر ذهبت إلى قوله تعالى وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل لما كان خطابا لولاة الأمر كان ابتداء الخطاب منصرفا إليهم وليس ذلك كذلك إذ لا يمتنع أن يكون أول الخطاب عموما في سائر الناس وما عطف عليه خاصا في ولاة الأمر على ما ذكرنا في نظائره في القرآن وغيره
قال أبو بكر ما اؤتمن عليه الإنسان فهو أمانة فعلى المؤتمن عليها ردها إلى صاحبها فمن الأمانات الودائع على مودعيها ردها إلى من أودعه إياها ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أنه لا ضمان على المودع فيها إن هلكت
وقد روي عن بعض السلف فيه الضمان ذكر الشعبي عن أنس قال استحملني رجل بضاعة فضاعت من بين ثيابي فضمنني عمر بن الخطاب
وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا حامد بن

محمد قال حدثنا شريح قال حدثنا ابن إدريس عن هشام بن حسان عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك قال استودعت ستة آلاف درهم فذهبت فقال لي عمر ذهب لك معها شيء قلت لا فضمنني
وروى حجاج عن أبي الزبير عن جابر أن رجلا استودع متاعا فذهب من بين متاعه فلم يضمنه أبو بكر رضي الله عنه وقال هي أمانة
وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا قتيبة قال حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال من استودع وديعة فلا ضمان عليه وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن هاشم قال حدثنا محمد بن عون قال حدثنا عبدالله بن نافع عن محمد بن نبيه الحجبي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
لا ضمان على راع ولا على مؤتمن قال أبو بكر قوله ص - لا ضمان على مؤتمن يدل على نفي ضمان العارية لأن العارية أمانة في يد المستعير إذ كان المعير قد ائتمنه عليها ولا خلاف بين الفقهاء في نفي ضمان الوديعة إذا لم يتعد فيها المودع ما روي عن عمر في تضمين الوديعة فجائز أن يكون المودع اعترف بفعل يوجب الضمان عنده فلذلك ضمنه
واختلف الفقهاء في ضمان العارية بعد اختلاف من السلف فروي عن عمر وعلي وجابر وشريح وإبراهيم أن العارية غير مضمونة وروي عن ابن عباس وأبي هريرة أنها مضمونة وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد هي غير مضمونة إذا هلكت وهو قول ابن شبرمة والثوري والأوزاعي وقال عثمان البتي المستعير ضامن لما استعاره إلا الحيوان والعقل فإن اشترط عليه في الحيوان والعقل الضمان فهو ضامن وقال مالك لا يضمن الحيوان في العارية ويضمن الحلي والثياب ونحوها وقال الليث لا ضمان في العارية ولكن أبا ا لعباس أمير المؤمنين قد كتب إلي بأن أضمنها فالقضاء اليوم على الضمان وقال الشافعي كل عارية مضمونة
قال أبو بكر والدليل على نفي ضمانها عند الهلاك إذا لم يتعد فيها أن المعير قد ائتمن المستعير عليها حين دفعها إليه وإذا كان أمينا لم يلزمه ضمانها لأنا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا ضمان على مؤتمن وذلك عموم في نفي الضمان عن كل مؤتمن وأيضا لما كانت مقبوضة بإذن مالكها لا على شرط الضمان لم يضمنها كالوديعة وأيضا قد اتفق الجميع على نفي ضمان الثوب المستأجر مع شرط بذل المنافع إذا لم يشترط عليه ضمان بدل المقبوض فالعارية أولى أن لا تكون مضمونة إذ ليس فيها ضمان مشروط

بوجه ومن جهة أخرى أن المقبوض على وجه الإجارة مقبوض لاستيفاء المنافع ولم يكن مضمونا فوجب أن لا تضمن العارية إذ كانت مقبوضة لاستيفاء المنافع وأيضا لما كانت الهبة غير مضمونة على الموهوب له لأنها مقبوضة بإذن مالكها لا على شرط ضمان البدل وهي معروف وتبرع وجب أن تكون العارية كذلك إذ هي معروف وتبرع وأيضا قد اتفق الجميع على أن العارية لو نقصت بالاستعمال لم يضمن النقصان فإذا كان الجزء منها غير مضمون مع حصول القبض عليه وجب أن لا يضمن الكل لأن ما تعلق ضمانه بالقبض لا يختلف فيه حكم الكل والبعض كالغصب والمقبوض ببيع فاسد فلما اتفق الجميع على أن الجزء الفائت بالنقصان غير مضمون وجب أن لا يضمن الجميع كالودائع وسائر الأمانات
وقد اختلف في ألفاظ حديث صفوان بن أمية في العارية فذكر بعضهم فيه الضمان ولم يذكره بعضهم وروى شريك عن عبدالعزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه قال استعار النبي صلى الله عليه وسلم -
من صفوان أدراعا من حديد يوم حنين فقال له يا محمد مضمونة فقال مضمونة فضاع بعضها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم - إن شئت غرمناها لك فقال أنا أرغب في الإسلام من ذلك يا رسول الله ورواه إسرائيل عن عبدالعزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن صفوان بن أمية قال استعار رسول الله صلى الله عليه وسلم - من صفوان بن أمية أدراعا فضاع بعضها فقال إن شئت غرمناها لك فقال لا يا رسول الله فوصله شريك وذكر فيه الضمان وقطعه إسرائيل ولم يذكر الضمان وروى قتادة عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم - استعار من صفوان بن أمية دروعا يوم حنين فقال له أمؤداة يا رسول الله العارية فقال نعم وروى جرير عن عبدالعزيز بن رفيع عن أناس من آل عبدالله بن صفوان قال أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن يغزو حنينا وذكر الحديث من غير ذكر ضمان ويقال أنه ليس في رواة هذا الحديث أحفظ ولا أتقن ولا أثبت من جرير بن عبدالحميد ولم يذكر الضمان ولو تكافأت الرواة فيه حصل مضطربا وقد روي في أخبار أخر من طريق أبي أمامة وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال العارية مؤداة وإن صح ذكر الضمان في حديث صفوان فإن معناه ضمان الأداء كما روي في بعض ألفاظ حديث صفوان أنه قال هي مضمونة حتى أؤديها إليك وكما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا القريابي قال حدثنا قتيبة قال حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن أبي هند أن أول ما ضمنت العارية أن رسول

الله ص - قال لصفوان أعرنا سلاحك وهي علينا ضمان حتى نأتيك بها فثبت بذلك أنه إنما شرط له ضمان الرد وذلك لأن صفوان كن حربيا كافرا في ذلك الوقت فظن أنه يأخذها على جهة استباحة ماله كسائر أموال الحربيين ولذلك قال له أغصبا تأخذها يا محمد فقال لا بل عارية مضمونة حتى أؤديها إليك وعارية مؤداة فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم - أنه يأخذها على أنها عارية مؤداة وأنه ليس يأخذها على سبيل ما تؤخذ عليه أموال أهل الحرب وهو كقول القائل أنا ضامن لحاجتك يعني القيام بها والسعي فيها حتى يقضيها قال الشاعر يصف ناقة ... بتلك أسلي حاجة إن ضمنتها ... وأبرئ هما كان في الصدر داخلا ...
قال أهل اللغة في قوله إن ضمنتها يعني إن هممت وأردتها وأيضا فإنا نسلم للمخالف صحة الخبر بما روي فيه من الضمان ونقول أنه لا دلالة فيه على موضع الخلاف وذلك لأنه قال عارية مضمونة فجعل الأدراع التي قبضها مضمونة وهذا يقتضي ضمان عينها بالرد لا ضمان قيمتها إذ لم يقل أضمن قيمتها وغير جائز صرف اللفظ عن الحقيقة إلى الماز إلا بدلالة وأيضا فيما ادعى المخالف إثبات ضمير في اللفظ لا دلالة عليه وهو ضمان القيمة ولا يجوز إثباته إلا بدلالة ويدل على أنها لم تكن مضمونة ضمان القيمة عند الهلاك أن النبي صلى الله عليه وسلم - لما فقد منها أدراعا قال لصفوان إن شئت غرمناها لك فلو كان ضمان القيمة قد حصل عليه لما قال إن شئت غرمناها لك وهو غارم فدل ذلك على أن الغرم لم يجب بالهلاك وأن النبي صلى الله عليه وسلم -
إنما أراد أن يغرمها إذا شاء ذلك صفوان متبرعا بالغرم ألا ترى أن النبي ص - لما استقرض عن عبدالله بن ربيعة ثلاثين ألفا في هذه الغزاة أيضا ثم أراد أن يردها إلى عبدالله أبى عبدالله أن يقبلها فقال له خذها فإن جزاء القرض الوفاء والحمد فلو كان الغرم لازما فيما فقد من الأدراع لما قال إن شئت غرمناها لك ويدل على أنه لم يكن ضامنا لقيمة ما فقد أنه قال لا فإن في قلبي اليوم من الإيمان ما لم يكن قبل وفي ذلك دليل على أنها لم تكن مضمونة القيمة لأن ما كان مضمونا لا يختلف حكمه في الإيمان والكفر وقال بعض شيوخنا إن صفوان لما كان حربيا جاز أن يشرط له ذلك إذ قد يجوز فيما بيننا وبين أهل الحرب من الشروط مالا يجوز فيما بيننا بعضنا لبعض ألا ترى أنه يجوز أن يرتهن منهم الأحرار ولا يجوز مثله فيما بيننا أو كان أبو الحسن الكرخي يأبى هذا التأويل

ويقول لا يصح شرط الضمان لأهل الحرب فيما ليس بمضمون ألا ترى أنا لو شرطنا لهم ضمان الودائع والمضاربات ونحوها لم يصح
واحتج من
قال بضمان العارية بما رواه شعبة وسعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - على اليد ما أخذت حتى تؤديه ولا دلالة في هذا الحديث أيضا على موضع الخلاف لأنه إنما أوجب رد المأخوذ بعينه وليس فيه ذكر ضمان القيمة عند هلاكه ونحن نقول أن عليه رد العارية فهذا لا خلاف فيه ولا تعلق له أيضا بموضع الخلاف والله تعالى أعلم بالصواب
باب ما أمر الله تعالى به من الحكم بالعدل
قال الله تعالى وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل وقال تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان وقال تعالى وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا عبدالله بن موسى بن أبي عثمان قال حدثنا عبيد بن حباب الحلي قال حدثنا عبدالرحمن بن أبي الرجال عن إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيدالله قال قال ثابت الأعرج أخبرني أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقت وإذا حكمت عدلت وإذا استرحمت رحمت وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا عبدالرحمن المقري عن كهمس بن الحسن عن عبدالله الأسلمي قال شتم رجل ابن عباس فقال له ابن عباس إنك لتشتمني وفي ثلاث خصال إني لآتي على الآية من كتاب الله تعالى فلوددت بالله أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به ولعلي لا أقاضي إليه أبدا وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح به ومالي من سائمة وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا الحارث بن أبي اسامة قال حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن قال إن الله أخذ على الحكام ثلاثا أن لا يتبعوا الهوى وأن يخشوه ولا يخشوا الناس وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا ثم قرأ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى الآية وقال الله تعالى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا إلى قوله تعالى فلا تخشوا الناس واخشوني ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون

باب
في طاعة أولي الأمر قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم قال أبو بكر اختلف في تأويل أولي الأمر فروي عن جابر بن عبدالله وابن عباس رواية والحسن وعطاء ومجاهد أنهم أولوا الفقه والعلم وعن ابن عباس رواية وأبي هريرة أنهم أمراء السرايا ويجوز أن يكونوا جميعا مرادين بالآية لأن الاسم يتناولهم جميعا لأن الأمراء يلون أمر تدبير الجيوش والسرايا وقتال العدو والعلماء يلون حفظ الشريعة وما يجوز مما لا يجوز فأمر الناس بطاعتهم والقبول منهم ما عدل الأمراء والحكام وكان العلماء عدولا مرضيين موثوقا بدينهم وأمانتهم فيما يؤدون وهو نظير قوله تعالى فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ومن الناس من يقول إن الأظهر من أولي الأمر ههنا أنهم الأمراء لأنه قدم ذكر الأمر بالعدل وهذا خطاب لمن يملك تنفيذ الأحكام وهم الأمراء والقضاة ثم عطف عليه الأمر بطاعة أولي الأمر وهم ولاة الأمر الذين يحكمون عليهم ما داموا عدولا مرضيين وليس يمتنع أن يكون ذلك أمرا بطاعة الفريقين من أولي الأمر وهم أمراء السرايا والعلماء إذ ليس في تقدم الأمر بالحكم بالعدل ما يوجب الاقتصار بالأمر بطاعة أولي الأمر على ا لأمراء دون غيرهم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال من أطاع أميري فقد أطاعني وروى الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم - بالخيف من منى فقال نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها فرب حامل فقه لا فقه له ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن إخلاص العمل لله تعالى وقال بعضهم وطاعة ذوي الأمر وقال بعضهم والنصيحة لأولي الأمر ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من وراءهم والأظهر من هذا الحديث أنه أراد بأولي الأمر الأمراء وقوله تعالى عقيب ذلك فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول يدل على أن أولي الأمر هم الفقهاء لأنه أمر سائر الناس بطاعتهم قم قال فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول فأمر أولي الأمر برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه ص - إذا كانت العامة ومن ليس من أهل العلم ليست هذه منزلتهم لأنهم لا يعرفون كيفية الرد إلى كتاب الله والسنة ووجوه دلائلهما على أحكام الحوادث فثبت أنه خطاب للعلماء
واستدل بعض أهل العلم على إبطال قول

الرافضة في الإمامة بقوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم قال فليس يخلو أولو الأمر من أن يكونوا الفقهاء أو الأمراء أو الإمام الذي يدعونه فإن كان المراد الفقهاء والأمراء فقد بطل أن يكون الإمام والفقهاء والأمراء يجوز عليهم الغلط والسهو والتبديل والتغيير وقد أمرنا بطاعتهم وهذا يبطل أصل الإمامة فإن شرط الإمامة عندهم أن يكون معصوما لا يجوز عليه الغلط والخطأ والتبديل والتغيير ولا يجوز أن يكون المراد الإمام لأنه قال في نسق الخطاب فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول فلو كان هناك إمام مفروض الطاعة لكان الرد إليه واجبا وكان هو يقطع الخلاف والتنازع فلما أمر برد المتنازع فيه من الحوادث إلى الكتاب والسنة دون الإمام دل ذلك على بطلان قولهم في الإمامة ولو كان هناك إمام تجب طاعته لقال فردوه إلى الإمام لأن الإمام عندهم هو الذي يقضي قوله على تأويل الكتاب والسنة فلما أمر بطاعة أمراء السرايا والفقهاء وأمر برد المتنازع فيه من الحوادث إلى الكتاب والسنة دون الإمام ثبت أن الإمام غير مفروض الطاعة في أحكام الحوادث المتنازع فيها وأن لكل واحد من الفقهاء أن يردها إلى نظائرها من الكتاب والسنة
وزعمت هذه الطائفة أن المراد بقوله تعالى وأولي الأمر منكم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهذا تأويل فاسد لأن أولي الأمر جماعة وعلي بن أبي طالب رجل واحد وأيضا فقد كان الناس مأمورين بطاعة أولي الأمر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ومعلوم أن علي بن أبي طالب لم يكن إماما في أيام النبي ص - فثبت أن أولي الأمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم -
كانوا أمراء وقد كان المولى عليهم طاعتهم مالم يأمروهم بمعصية وكذلك حكمهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم - في لزوم اتباعهم وطاعتهم مالم تكن معصية قوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول روى مجاهد وقتادة وميمون بن مهران والسدي إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله ص -
قال أبو بكر وذلك عموم في وجوب ا لرد إلى كتاب الله وسنة نبيه ص - في حياة النبي وبعد وفاته ص -
والرد إلى الكتاب والسنة يكون من وجهين أحدهما إلى المنصوص عليه المذكور باسمه ومعناه الثاني الرد إليهما من الدلالة عليه واعتباره به من طريق القياس والنظائر وعموم اللفظ ينتظم الأمرين جميعا فوجب إذا تنازعنا في شيء رده إلى نص الكتاب والسنة إن وجدنا المتنازع فيه منصوصا على حكمه في الكتاب والسنة وإن لم نجد

فيه نصا منهما وجب رده إلى نظيره منهما لأنا مأمورون بالرد في كل حال إذ لم يخصص الله تعالى الأمر بالردإليهما في حال دون حال وعلى أن الذي يقتضيه فحوى الكلام وظاهره الرد إليهما فيما لا نص فيه وذلك لأن المنصوص عليه الذي لا احتمال فيه لغيره لا يقع التنازع فيه من الصحابة مع علمهم باللغة ومعرفتهم بما فيه احتمال مما لا احتمال فيه فظاهر ذلك يقتضي رد المتنازع فيه إلى نظائره من الكتاب والسنة فإن قيل إنما المراد بذلك ترك التنازع والتسليم لما في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم -
قيل إن ذلك خطاب للمؤمنين لأنه قال تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن كان تأويله ما ذكرت فإن معناه اتبعوا كتاب الله وسنة نبيه وأطيعوا الله ورسوله وقد علمنا أن كل من آمن ففي اعتقاده للإيمان اعتقاد لالتزام حكم الله وسنة الرسول ص -
فيؤدي ذلك إلى إبطال فائدة قوله تعالى فردوه إلى الله والرسول وعلى أن ذلك قد تقدم الأمر به في أول الآية وهو قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فغير جائز حمل معنى قوله تعالى فردوه إلى الله والرسول على ما قد أفاده بديا في أول الخطاب ووجب حمله على فائدة محددة وهو رد غير المنصوص عليه وهو ا لذي وقع فيه التنازع إلى المنصوص عليه وعلى أنا نرد جميع المتنازع فيه إلى الكتاب السنة بحق العموم ولا نخرج منه شيئا بغير دليل
فإن قيل لما كانت الصحابة مخاطبين بحكم هذه الآية عند التنازع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم -
وكان معلوما أنه لم يكن يجوز لهم استعمال الرأي والقياس في أحكام الحوادث بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم - بل كان عليهم التسليم له واتباع أمره دون تكلف الرد من طريق القياس ثبت أن المراد استعمال المنصوص وترك تكلف النظر والاجتهاد فيما لا نص فيه
قيل له هذا غلط وذلك لأن استعمال الرأي والاجتهاد ورد الحوادث إلى نظائرها من المنصوص قد كان جائزا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم -
فإحداهما في حال غيبتهم عن حضرته كما أمر النبي ص - معاذا حين بعثه إلى اليمن فقال له كيف تقضي إن عرض لك قضاء قال أقضي بكتاب الله قال فإن لم يكن في كتاب الله قال أقضي بسنة نبي الله قال فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله قال أجتهد رأيي لا ألو قال فضرب بيده على صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله فهذه إحدى الحالين اللتين كان يجوز الاجتهاد فيهما في حياة النبي صلى الله عليه وسلم -
والحال الأخرى أن يأمره النبي ص - بالاجتهاد
=============ج10.===========

ج10. كتاب : أحكام القرآن أحمد بن علي الرازي الجصاص



بحضرته ورد الحادثة إلى نظائرها ليستبرئ حاله في اجتهاده وهل هو موضع لذلك ولكن إن أخطأ وترك طريق النظر أعلمه وسدده وكان يعلمهم وجوب الاجتهاد في أحكام الحوادث بعده فالاجتهاد بحضرته على هذا الوجه سائغ كما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أسلم بن سهل قال حدثنا محمد بن خالد بن عبدالله قال حدثنا أبي عن حفص بن سليمان عن كثير بن شنظير عن أبي العالية عن عقبة بن عامر قال جاء خصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال اقض بينهما يا عقبة قلت يا رسول الله أقضي بينهما وأنت حاضر قال اقض بينهما فإن أصبت فلك عشر حسنات وإن أخطأت فلك حسنة واحدة فأباح له النبي صلى الله عليه وسلم - الاجتهاد بحضرته على الوجه الذي ذكرنا وأمر النبي صلى الله عليه وسلم -
لمعاذ وعقبة بن عامر بالاجتهاد صدر عندنا عن الآية وهو وقوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول لأنا متى وجدنا من النبي صلى الله عليه وسلم -
حكما مواطئا لمعنى قد ورد به القرآن حملناه على أنه حكم به عن القرآن وأنه لم يكن حكما مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم - كنحو قطعه السارق وجلده الزاني وما جرى مجراهما فقول القائل إن الاجتهاد في أحكام الحوادث لم يكن سائغا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم - وأن رد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة كان واجبا حينئذ فدل على أن المراد به ترك الاختلاف والتنازع والتسليم للمنصوص عليه في الكتاب والسنة غير صحيح وأما الحال التي لم يكن يسوغ الاجتهاد فيه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم - فهو أن يجتهد بحضرته على جهة إمضاء الحكم والاستبداد بالرأي لا على الوجه الذي قدمناه فهذا لعمري اجتهاد مطرح لا حكم له ولم يسوغ ذلك لأحد والله أعلم
باب
طاعة الرسول ص -
قال الله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وقال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله وقال تعالى ومن يطع الرسول فقد أطاع الله وقال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما فأكد جل وعلا بهذه الآيات وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وأبان أن طاعته إطاعة الله وأفاد بذلك أن معصيته معصية الله وقال الله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم فأوعد على مخالفة أمر الرسول وجعل مخالف أمر الرسول والممتنع من تسليم ما جاء به والشاك فيه خارجا من الإيمان

بقوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما قيل في الحرج ههنا إنه الشك روي ذلك عن مجاهد وأصل الحرج الضيق وجائز أن يكون المراد التسليم من غير شك في وجوب تسليمه ولا ضيق صدر به بل بانشراح صدر وبصيرة ويقين
وفي هذه الآية دلالة على أن من رد شيئا من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله ص - فهو خارج من الإسلام سواء رده من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والإمتناع من التسليم وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي ص - قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان
فإن قيل إذا كانت طاعة الرسول ص - طاعة الله تعالى فهلا كان أمر الرسول أمر الله تعالى قيل له إنما كانت طاعته طاعة الله بموافقتها إرادة كل واحد منهما أوامره وأما الأمر فهو قول القائل افعل ولا يجوز أن يكون أمرا وأحد الآمرين كما لا يكون فيه قول واحد من قائلين ولا فعل واحد من فاعلين
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا قيل الثبات الجماعات واحدها ثبة وقيل الثبة عصبة منفردة من عصب فأمرهم الله بأن ينفروا فرقة بعد فرقة في جهة وفرقة في جهة أو ينفروا جميعا من غير تفرق وروى ذلك عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة
وقوله تعالى خذوا حذركم معناه خذوا سلاحكم فسمى السلاح حذرا لأنه يتقى به الحذر ويحتمل احذروا عدوكم بأخذ سلاحكم كقوله تعالى وليأخذوا حذرهم واسلحتهم فانتظمت هذه الآية الأمر بأخذ السلاح لقتال العدو على حال افتراق العصب أو اجتماعها بما هو أولى في التدبير والنفور هو الفزع نفر ينفر نفورا إذا فزع ونفر إليه إذا فزع من أمر إليه والمعنى انفروا إلى قتال عدوكم والنفر جماعة تفزع إلى مثلها والنفير إلى قتال العدو والمنافرة المحاكمة للفزع إليها فيما ينوب من الأمور التي يختلف فيها ويقال إن أصلها أنهم كانوا يسئلون الحاكم أينا أعز نفرا
وقد روي في هذه الآية نسخ روى ابن جريج وعثمان بن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى فانفروا ثبات أو انفروا جميعا قال عصبا وفرقا وقال في براءة انفروا خفافا وثقالا الآية وقال إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما الآية قال فنسخ هذه الآيات قوله تعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة وتمكث

طائفة منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فالماكثون مع النبي ص - هم الذين يتفقهون في الدين وينذرون إخوانهم إذا رجعوا إليهم من الغزوات لعلهم يحذرون ما نزل من قضاء الله في كتابه وحدوده
قوله تعالى الذين يقاتلون في سبيل الله قيل في سبيل الله في طاعة الله لأنها تؤدي إلى ثواب الله في جنته التي أعدها لأوليائه وقيل دين الله الذي شرعه ليؤدي إلى ثوابه ورحمته فيكون تقديره في نصرة دين الله تعالى وقيل في الطاغوت أنه الشيطان قاله الحسن والشعبي وقال أبو العالية هو الكاهن وقيل كل ما عبد من دون الله وقوله تعالى إن كيد الشيطان كان ضعيفا الكيد هو السعي في فساد الحال على جهة الإحتيال والقصد لإيقاع الضرر قال الحسن إنما قال إن كيد الشيطان كان ضعيفا لأنه كان أخبرهم أنهم يستظهرون عليهم فلذلك كان ضعيفا وقيل إنما سماه ضعيفا لضعف نصرته لأوليائه إلى نصرة الله للمؤمنين قوله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فإن الاختلاف على ثلاثة أوجه اختلاف تناقض بأن يدعو أحد الشيئين إلى فساد الآخر واختلاف تفاوت وهو أن يكون بعضه بليغا وبعضه مرذولا ساقطا وهذان الضربان من الاختلاف منفيان عن القرآن وهو إحدى دلالات إعجازه لأن كلام سائر الفصحاء والبلغاء إذا طال مثل السور الطوال من القرآن لا يخلو من أن يختلف اختلاف التفاوت والثالث اختلاف التلاؤم هو أن يكون الجميع متلائما في الحسن كاختلاف وجوه القراءات ومقادير الآيات واختلاف الأحكام في الناسخ والمنسوخ فقد تضمنت الآية الحض على الإستدلال بالقرآن لما فيه من وجوه الدلالات على الحق الذي يلزم اعتقاده والعمل به
قوله تعالى ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم قال الحسن وقتادة وابن أبي ليلى هم أهل العلم والفقه وقال السدي الأمراء والولاة
قال أبو بكر يجوز أن يريد به الفريقين من أهل الفقه والولاة لوقوع الاسم عليهم جميعا
فإن قيل أولو الأمر من يملك الأمر بالولاية على الناس وليست هذه صفة أهل العلم
قيل له إن الله تعالى لم يقل من يملك الأمر بالولاية على الناس وجائز أن يسمي الفقهاء أولي الأمر لأنهم يعرفون أوامر الله ونواهيه ويلزم غيرهم قبول قولهم فيها فجائز أن يسموا أولي الأمر من هذا الوجه كما قال في آية أخرى ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون فأوجب الحذر بإنذارهم وألزم

المنذرين قبول قولهم فجاز من أجل ذلك إطلاق اسم أولي الأمر عليهم والأمراء أيضا يسمون بذلك لنفاذ أمورهم على من يلون عليه
وقوله تعالى لعلمه الذين يستنبطونه منهم فإن الإستنباط هو الإستخراج ومنه استنباط المياه والعيون فهو اسم لكل ما استخرج حتى تقع عليه رؤية العيون أو معرفة القلوب والإستنابط في الشرع نظير الإستدلال والإستعلام
وفي هذه الآية دلالة على وجوب القول بالقياس واجتهاد الرأي في أاحكام الحوادث وذلك لأنه أمر برد الحوادث إلى الرسول ص -
في حياته إذا كانوا بحضرته وإلى العلماء بعد وفاته والغيبة عن حضرته ص - وهذا لا محالة فيما لا نص فيه لأن المنصوص عليه لا يحتاج إلى استنباطه فثبت بذلك أن أحكام الله ما هو منصوص عليه ومنها ما هو مودع في النص قد كلفنا الوصول إلى الإستدلال عليه واستنباطه فقد حوت هذه الآية معاني منها أن في أحكام الحوادث ما ليس بمنصوص عليه بل مدلول عليه ومنها أن على العلماء استنباطه والتوصل إلى معرفته برده إلى نظائره من المنصوص ومنها أن العامي عليه تقليد العلماء في أحكام الحوادث ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم -
قد كان مكلفا باستنباط الأحكام والإستدلال عليها بدلائلها لأنه تعالى أمر بالرد إلى الرسول وإلى أولي الأمر ثم قال لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولم يخص أولي الأمر بذلك دون الرسول وفي ذلك دليل على أن للجميع الاستنباط والتوصل إلى معرفة الحكم بالاستدلال فإن قيل ليس هذا استنباطا في أحكام الحوادث وإنما هو في الأمن والخوف من العدو لقوله تعالى وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم فإنما ذلك في شأن الأراجيف التي كان المنافقون يرجفون بها فأمرهم الله بترك العمل بها ورد ذلك إلى الرسول وإلى الأمراء حتى لا يفتوا في أعضاد المسلمين إن كان شيئا يوجب الخوف وإن كان شيئا يوجب الأمن لئلا يأمنوا فيتركوا الاستعداد للجهاد والحذر من الكفار فلا دلالة في ذلك على جواز الاستنباط في أحكام الحوادث قيل له قوله تعالى وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف ليس بمقصور على أمر العدو لأن الأمن والخوف قد يكونان فيما يتعبدون به من أحكام الشرع فيما يباح ويحظر وما يجوز وما لا يجوز ذلك كله من الأمن والخوف فإذا ليس في ذكره الأمن والخوف دلالة على وجوب الاقتصار به على ما يتفق من

الأراجيف بالأمن والخوف في أمر العدو بل جائز أن يكون عاما في الجميع وحظر به على العامي أن يقول في شيء من حوادث الأحكام ما فيه حظر أو إباحة أو إيجاب أو غير ذلك وألزمهم رده إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ليستنبطوا حكمه بالاستدلال عليه بنظائره من المنصوص وأيضا فلو سلمنا لك أن نزول الآية مقصور على الأمن والخوف من العدو لكانت دلالته قائمة على ما ذكرنا لأنه إذا جاز استنباط تدبير الجهاد ومكايد العدو بأخذ الحذر تارة والإقدام في حال والإحجام في حال أخرى وكان جميع ذلك مما تعبدنا الله به ووكل الأمر فيه إلى آراء أولي الأمر واجتهادهم فقد ثبت وجوب الاجتهاد في أحكام الحوادث من تدبير الحروب ومكايد العدو وقتال الكفار فلا فرق بينه وبين الاجتهاد والاستدلال على النظائر من سائر الحوادث من العبادات وفروع الشريعة إذ كان جميع ذلك من أحكام الله تعالى ويكون المانع من الاجتهاد والاستنباط في مثله كمن أباح الاستنباط في البيوع خاصة ومنعه في المناكحات أو أباحه في الصلاة ومنعه في المناسك وهذا خلف من القول
فإن قيل ليس الاستنباط مقصور على القياس واجتهاد الرأي دون الاستدلال بالدليل الذي لا يحتمل في اللغة إلا معنى واحدا
قيل له الدليل الذي لا يحتمل في اللغة إلا معنى واحدا لا يقطع بين أهل اللغة فيه تنازع إذ كان أمرا معقولا في اللفظ فهذا ليس باستنباط بل هو في مفهوم الخطاب وذلك عندنا نحو قوله تعالى ولا تقل لهما أف أنه لا دلالة على النهي عن الضرب والشم والقتل ونحوه وهذا لا يقع في مثله خلاف فإن أردت بالدليل الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا هذا الضرب من دلائل الخطاب فإن هذا لا تنازع فيه ولا يحتاج إلى استنباط وإن أردت بالدليل تخصيص الشيء بالذكر فيكون دلالة على أن ما عداه فحكمه بخلافه فإن هذا ليس بدليل وقد بيناه في أصول الفقه ولو كان هذا ضربا من الدليل لما غفلته الصحابة ولا استدلت به على أحكام الحوادث ولو فعلوا هذا لاستفاض ذلك عنهم وظهر فلما لم ينقل ذلك عنهم دل على سقوط قولك وأيضا لو كان هذا ضربا من الإستدلال لم يمنع ذلك إيجاب الاستنباط فيما لا طريق إليه إلا من جهة الرأي والقياس إذ ليس يوجد في كل حادثة هذا الضرب من الدلالة وقد أمرنا باستنباط سائر ما لا نص فيه فما لم نجد فيه من الحوادث هذا الضرب من الدليل فعلينا استنباط حكمه من طريق القياس والاجتهاد

إذ لا سبيل لنا إليه إلا من هذه الجهة
فإن قيل لما قال الله تعالى لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولم يكن دليل القياس مفضيا بنا إلى العلم بمدلوله إذ كان القائس يجوز على نفسه الخطأ ولا يجوز القطع بأن ما أداه إليه قياسه واجتهاده هو الحق عند الله علمنا أنه لم يرد الاستنباط من طريق القياس والاجتهاد
قيل له قولك إن القائس لا يقطع بأن قياسه هو الحق عند الله خطأ لا نقول به وذلك أن ما كان طريقه الاجتهاد فإن المجتهد ينبغي له أن يقطع بأن ما أداه إليه اجتهاده هو الحق عند الله وهذا عندنا علم منه بأن هذا حكم الله عليه فاستنباطه حكم الحوادث من طريق الاجتهاد يوجب العلم بصحة موجبه وما أداه إليه اجتهاده وهذه الآية أيضا تدل على بطلان قول القائلين بالإمامة لأنه لو كان كل شيء من أحكام الدين منصوصا عليه لعرفه الإمام ولزال موضع الإستنباط وسقط الرد إلى أولي الأمر بل كان الواجب الرد إلى الإمام الذي يعرف صحة ذلك من باطله من جهة النص
وقوله تعالى وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها قال أهل اللغة التحية الملك ومنه قول الشاعر ... أسير به إلى النعمان حتى ... أتيح على تحيته بجند ...
يعني عن ملكه ومعنى قولهم حياك الله أي ملكك الله ويسمى السلام تحية أيضا لأنهم كانوا يقولون حياك الله فأبدلوا منه بعد الإسلام بالسلام وأقيم مقام قولهم حياك الله قال أبو ذر كنت أول من حيى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بتحية الإسلام فقلت السلام عليك ورحمة الله وقال النابغة ... يحيون بالريحان يوم السباسب ...
يعني أنهم يعطون الريحان ويقال لهم حياكم الله والأصل فيه ما ذكرنا من أنه ملكك الله فإذا حملنا قوله تعالى وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها على حقيقته أفاد أن من ملك غيره شيئا بغير بدل فله الرجوع فيه مالم يثبت منه فهذا يدل على صحة قول أصحابنا فيمن وهب لغير ذي رحم أن له الرجوع فيها مالم يثبت منها فإذا أثيب منها فلا رجوع له فيها لأنه أوجب أحد شيئين من ثواب أو رد لما جيء به
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
في الرجوع في الهبة ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سليمان بن

داود المهري قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرني أسامة بن زيد أن عمرو بن شعيب حدثه عن أبيه عن جده عبدالله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال مثل الذي يسترد ما وهب كمثل الكلب يقيء فيأكل قيئه فغذا استرد الواهب فليوقف وليعرف بما استرد ثم ليدفع إليه ما وهب وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن عمرو بن دينار عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - الرجل أحق بهبته مالم يثبت منها
وروى ابن عباس وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا يحل لرجل يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ومثل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب يأكل فإذا شبع قاء ثم عاد في قيئه وهذا الخبر يدل على معنيين أحدهما صحة الرجوع في الهبة والآخر كراهته وأنه من لؤم الأخلاق ودناءتها في العادات وذلك لأنه شبه الراجع في الهبة بالكلب يعود في قيئه وهو يدل من وجهين على ما ذكرنا أحدهما أنه شبهه بالكلب إذا عاد في قيئه ومعلوم أنه ليس بمحرم على الكلب فما شبه به فهو مثله والثاني أنه لو كان الرجوع في الهبة لا يصح بحال لما شبه الراجع بالكلب العائد في القيء لأنه لا يجوز تشبيه ما لا يقع بحال بما قد صح وجوده وهذا يدل أيضا على صحة الرجوع في الهبة مع استقباح هذا الفعل وكراهته وقد روي الرجوع في الهبة لغير ذي الرحم المحرم عن علي وعمر وفضالة بن عبيد من غير خلاف من أحد من الصحابة رضي الله عنهم عليهم
وقد روي عن جماعة من السلف أن ذلك في رد السلام منهم جابر بن عبدالله وقال الحسن السلام تطوع ورده فريضة وذكر الآية
ثم اختلف في أنه خاص في أهل الإسلام أو عام في أهل الإسلام وأهل الكفر فقال عطاء هو في اهل الإسلام خاصة وقال ابن عباس وإبراهيم وقتادة هو عام في الفريقين وقال الحسن تقول للكافر وعليكم ولا تقل ورحمة الله لأنه لا يجوز الاستغفار للكفار وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال لا تبدؤا اليهود بالسلام فإن بدؤكم فقولوا وعليكم وقال أصحابنا رد السلام فرض على الكفاية إذا سلم على جماعة فرد واحد منهم أجزأ
وأما قوله تعالى بأحسن منها إذا أريد رد السلام فهو الزيادة في الدعاء وذلك إذا قال السلام عليكم يقول هو وعليكم السلام ورحمة الله وإذا قال السلام عليكم ورحمة الله قال هو وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
قوله تعالى فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا روي عن ابن عباس أنها نزلت في

قوم أظهروا الإسلام بمكة وكانوا يعينون المشركين على المسلمين وروي مثله عن قتادة وقال الحسن ومجاهد نزلت في قوم قدموا بالمدينة فأظهروا الإسلام ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك وقال زيد بن ثابت نزلت في الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يوم أحد وقالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم وفي نسق الآية دلالة على خلاف هذا التأويل الأخير وأنهم من أهل مكة وهو قوله تعالى فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله وقوله تعالى أركسهم قال ابن عباس ردهم وقال قتادة أركسهم أهلكهم وقال غيرهم أركسهم نكسهم قال الكسائي أركسهم وركسهم بمعنى وإنما المعنى ردهم في حكم الكفار من الصغار والذلة وقيل من السبي والقتل لأنهم أظهروا الارتداد بعدما كانوا على النفاق وإنما وصفوا بالنفاق وقد أظهروا الارتداد عن الإسلام لأنهم نسبوا إلى ما كانوا عليه قبل من إضمار الكفر قاله الحسن وقال النحويون هذا يحسن مع علم التعريف وهو الألف واللام كما تقول هذه العجوز هي الشابة يعني هي التي كانت شابة ولا يجوز هذه شابة فأبان تعالى للمسلمين بهذه الآية عن أحوال هذه الطائفة من المنافقين إنهم يظهرون لكم الإسلام وإذا رجعوا إلى قومهم أظهروا الكفر والردة ونهى المسلمين عن أن يحسنوا بهم الظن وأن يجادلوا عنهم
قوله تعالى ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء يعني هذه الطائفة أخبر بذلك عن ضمائرهم واعتقاداتهم لئلا يحسن المؤمنون بهم الظن وليعتقدوا معاداتهم والبراءة منهم
وقوله تعالى فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله يعني والله أعلم حتى يسلموا ويهاجروا لأن الهجرة بعد الإسلام وأنهم وإن أسلموا لم تكن بيننا وبينهم موالاة إلا بعد الهجرة وهو كقوله تعالى ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وهذا في حال ما كانت الهجرة فرضا وقال النبي صلى الله عليه وسلم - أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين وأنا بريء من كل مسلم اقام مع مشرك قيل ولم يا رسول الله قال لا تراءى نارهما فكانت الهجرة فرضا إلى أن فتحت مكة فنسخ فرض الهجرة
حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يوم فتح مكة لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استننفرتم فانفروا حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مؤمل بن الفضل قال حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن الزهري عن عطاء

ابن يزيد عن أبي سعيد الخدري أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم -
عن الهجرة فقال ويحك إن شأن الهجرة شديد فهل لك من إبل قال نعم قال فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئا فأباح النبي صلى الله عليه وسلم - ترك الهجرة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن إسماعيل بن أبي خالد قال حدثنا عامر قال أتى رجل عبدالله بن عمرو فقال أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فقال سمعت رسول الله ص - يقول المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه وروي عن الحسن أن حكم الآية ثابت في كل من أقام في دار الحرب فرأى فرض الهجرة إلى دار الإسلام قائما
وقوله تعالى فخذوهم واقتلوهم فإنه روي عن ابن عباس فإن تولوا عن الهجرة
قال أبو بكر يعني والله أعلم فإن تولوا عن الإيمان والهجرة لأن قوله تعالى حتى يهاجروا في سبيل الله قد انتظم الإيمان والهجرة جميعا وقوله فإن تولوا راجع إليها ولأن من أسلم حينئذ ولم يهاجر لم يجب قتله في ذلك الوقت فدل على أن المراد فإن تولوا عن الإيمان والهجرة فخذوهم واقتلوهم
وقوله تعالى إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق قال أبو عبيد يصلون بمعنى ينتسبون إليهم كما قال الأعشى ... إذا اتصلت قالت أبكر بن وائل ... وبكر سبتها والأنوف رواغم ...
وقال زيد الخيل ... اتصلت تنادي يال قيس ... وخصت بالدعاء بني كلاب ...
قال أبو بكر الانتساب يكون بالرحم ويكون بالحلف وبالولاء وجائز أن يدخل فيه أيضا رجل في عهدهم علىحسب ما كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وبين قريش من الموادعة فدخلت خزاعة في عهد رسول الله ص - ودخلت بنو كنانة في عهد قريش وقيل إن الآية منسوخة حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق إلى قوله تعالى فما جعل الله لكم عليهم سبيلا وفي قوله تعالى لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم قال ثم نسخت هذه الآيات براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين إلى قوله ونفضل الآيات لقوم يعلمون

وقال السدي في قوله إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق إلا الذين يدخلون في قوم بينكم وبينهم أمان فلهم منه مثل ما لهم وقال الحسن هؤلاء بنو مدلج كان بينهم وبين قريش عهد وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم - وبين قريش عهد فحرم الله تعالى من بني مدلج ما حرم من قريش قال أبو بكر إذا عقد الإمام عهدا بينه وبين قوم من الكفار فلا محالة يدخل فيه من كان في حيزهم ممن ينسب إليهم بالرحم أو الحلف أو الولاء بعد أن يكون في حيزهم ومن أهل نصرتهم وأما من كان من قوم آخرين فإنه لا يدخل في العهد مالم يشرط ومن شرط من أهل قبيلة أخرى دخوله في عهد المعاهدين فهو داخل فيهم إذا عقد العهد على ذلك كما دخلت بنو كنانة في عهد قريش وأما قول من قال إن ذلك منسوخ فإنما أراد أن معاهدة المشركين وموادعتهم منسوخة بقوله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فهو كما قال لأن الله أعز الإسلام وأهله فأمروا أن لا يقبلوا من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف لقوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم فهذا حكم ثابت في مشركي العرب فنسخ به الهدنة والصلح وإقرارهم على الكفر وأمرنا في أهل الكتاب بقتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية بقوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فغير جائز للإمام أن يقر أحدا من أهل سائر الأديان على الكفر من غير جزية وأما مشركو العرب فقد كانوا أسلموا في زمن الصحابة ورجع من ارتد منهم إلى الإسلام بعد ما قتل من قتل منهم فهذا وجه صحيح في نسخ معاهدة أهل الكفر على غير جزية والدخول في الذمة على أن تجري عليهم أحكامنا فكان ذلك حكما ثابتا بعد ما أعز الله الإسلام وأظهر أهله على سائر المشركين فاستغنوا بذلك عن العهد والصلح إلا أنه إن احتيج إلى ذلك في وقت لعجز المسلمين عن مقاومتهم او خوف منهم على أنفسهم أو ذراريهم جاز لهم مهادنة العدو ومصالحته من غير جزية يؤدونها إليهم لأن حظر المعاهدة والصلح إنما كان بسبب قوتهم على العدو واستعلائهم عليهم وقد كانت الهدنة جائزة مباحة في أول الإسلام وإنما حظرت لحدوث هذا السبب فمتى زال السبب وعاد الأمر إلى الحال التي كان المسلمون عليها من خوفهم العدو على أنفسهم عاد الحكم الذي كان من جواز الهدنة وهذا نظير ما ذكرنا من نسخ

التوارث بالحلف والمعاقدة بذوي الأرحام فمتى لم يترك وارثا عاد التوارث بالمعاقدة
قوله عز و جل أو جاؤكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم قال الحسن والسدي ضاقت صدورهم على أن يقاتلوكم والحصر الضيق ومنه الحصر في القراءة لأنه ضاقت عليه المذاهب فلم يتوجه لقراءته ومنه المحصور في حبس أو نحوه وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال هلال بن عويمر الأسلمي هو الذي حصر صدره أن يقاتل المسلمين أو يقاتل قومه وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم -
حلف قال أبو بكر ظاهره يدل على أن الذين حصرت صدورهم كانوا قوما مشركين محالفين للنبي ص -
ضاقت صدورهم أن يكونوا مع قومهم على المسلمين لما بينهم وبين النبي ص - من العهد وأن يقاتلوا مع المسلمين ذوي أرحامهم وأنسابهم فأمر الله تعالى المسلمين بالكف عن هؤلاء إذا اعتزلوهم فلم يقاتلوا المسلمين وإن لم يقاتلوا المشركين مع المسلمين ومن الناس من يقول إن هؤلاء كانوا قوما مسلمين كرهوا قتال قومهم من المشركين لما بينهم وبينهم من الرحم وظاهر الآية وما روي في تفسيرها يدل على خلاف ذلك لأن المسلمين لم يقاتلوا المسلمين قط في زمان النبي صلى الله عليه وسلم -
وإن قعدوا عن القتال معهم ولا كانوا قط مأمورين بقتال أمثالهم وقوله تعالى ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم يعني إن قاتلتموهم ظالمين لهم يدل على أنهم لم يكونوا مسلمين وقوله تعالى فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا يقتضي أن يكونوا مشركين إذ ليس ذلك من صفات أهل الإسلام فدل ذلك على أن هؤلاء كانوا قوما مشركين بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم - حلف فأمر الله تعالى نبيه أن يكف عنهم إذا اعتزلوا قتال المسلمين والمشركين وأن لا يكلفهم قتال قومهم من أهل الشرك أيضا والتسليط المذكور في الآية له وجهان أحدهما تقوية قلوبهم ليقاتلوكم والثاني إباحة القتال لهم في الدفع عن أنفسهم
قوله تعالى ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم قال مجاهد نزلت في قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم - فيسلمون ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا وذكر أسباط عن السدي قال نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي وكان يأمن في المسلمين والمشركين فينقل الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم - والمشركين فقال ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم وظاهر الآية يدل على أنهم كانوا يظهرون

الإيمان إذا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
وأنهم إذا رجعوا إلى قومهم أظهروا الكفر لقوله تعالى كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها والفتنة ههنا الشرك وقوله أركسوا فيها يدل على أنهم قبل ذلك كانوا مظهرين للإسلام فأمر الله تعالى المؤمنين بالكف عن هؤلاء أيضا إذا اعتزلونا وألقوا إلينا السلم وهو الصلح كما أمرنا بالكف عن الذين يصلون إلى قوم بيننا وبينهم ميثاق وعن الذين جاؤنا وقد حصرت صدورهم وكما قال في آية أخرى لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وكما قال وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم فخص الأمر بالقتال لمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا ثم نسخ ذلك بقوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم على ما قدمنا من الرواية عن ابن عباس ومن الناس من يقول إن هذه الآيات غير منسوخة وجائز للمسلمين ترك قتال من لا يقاتلهم من الكفار إذ لم يثبت أن حكم هذه الآيات في النهي عن قتال من اعتزلنا وكف عن قتالنا منسوخ وممن حكي عنه أن فرض الجهاد غير ثابت ابن شبرمة وسفيان الثوري وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى إلا أن هذه الآيات فيها حظر قتال من كف عن قتالنا من الكفار ولا نعلم أحدا من الفقهاء يحظر قتال من اعتزل قتالنا من المشركين وإنما الخلاف في جواز ترك قتالهم لا في حظره فقد حصل الإتفاق من الجميع على نسخ حظر القتال لمن كان وصفه ما ذكرنا والله الموفق للصواب
باب
قتل الخطأ قال الله تعالى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ قال أبو بكر قد اختلف في معنى كان ههنا فقال قتادة معناه ما كان له ذلك في حكم الله وأمره وقال آخرون ما كان له سبب جواز قتله وقال آخرون ما كان له ذلك فيما سلف كما ليس له الآن واختلف أيضا في معنى إلا فقال قائلون هو استثناء منقطع بمعنى لكن قد يقتله فإذا وقع ذلك فحكمه كيت وكيت وهو كما قال النابغة ... وقفت فيها أصيلا لا أسائلها ... عيت جوابا وما بالربع من أحد ... إلا الأواري لأياما أبينها ... والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد ...
وقال آخرون هو استثناء صحيح قد أفاد أن له أن يقتله خطأ في بعض الأحوال وهو أن يرى عليه سيما المشركين أو يجده في حيزهم فيظنه مشركا فجائز له قتله وهو خطأ كما

روي عن الزهري عن عروة بن الزبير أن حذيفة بن اليمان قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - يوم أحد فأخطأ المسلمون يومئذ بأبيه يحسبونه من العدو وكروا عليه بأسيافهم فطفق حذيفة يقول إنه أبي فلم يفهموا قوله حتى قتلوه فقال عند ذلك يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين فبلغت النبي صلى الله عليه وسلم - فزادت حذيفة عنده خيرا
ومن الناس من يقول معناه ولا خطأ لأن قتل المؤمن من غير مباح بحال قتال فغير جائز أن يكون الاستثناء محمولا على حقيقته وهذا ليس بشيء من وجهين أحدهما أن إلا لم توجد بمعنى ولا والثاني ما أنكره من امتناع إباحة قتل الخطأ موجود في حظره لأن الخطأ إن كان لا تصح إباحته لأنه غير معلوم عنده أنه خطأ فكذلك لا يصح حظره ولا النهي عنه
وقال آخرون قد تضمن قوله وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ إيجاب العقاب لقاتله لاقتضاء إطلاق النهي لذلك وأفاد بذلك استحقاق المأثم ثم قال إلا خطأ فإنه لا مأثم على فاعله وإنما أدخل الاستثناء على ما تضمنه اللفظ من استحقاق المأثم وأخرج منه قاتل الخطأ والاستثناء مستعمل في موضعه على هذا القول غير معدول به عن وجهه وإنما دخل على المأثم المستحق بالقتل وأخرج قاتل الخطأ منه ولم يدخل على فعل القاتل فيكون مبيحا لما حظره بلفظ الجملة
قال أبو بكر وهذا وجه صحيح سائغ وتأويل من تأوله على إباحة قتل الخطأ فيمن يظنه مشركا فإنه معلوم أنه لم يصح له ذلك إلا على الصفة المشروطة إن كان ذلك إباحة وهو أن يكون ذلك خطأ عند القاتل وإذا كان قتل المسلم الذي في حيز العدو قصد بالقتل لا يكون خطأ عند القاتل وإنما عنده أنه قتل عمد مأمور به فغير جائز أن يكون ذلك مراد الآية لأن الإباحة على قول هذا القائل لم يوجد شرطها وهو أن يكون قتل خطأ عند القاتل ألا يرى أنه إذا قال لا تقتله عمدا اقتضى النهي قتلا بهذه الصفة عند القاتل وإذا قال لا تقتله بالسيف فإنما حظر عليه قتلا بهذه الصفة فكذلك قوله إلا خطأ إذا كان قد اقتضى إباحة قتل الخطأ فواجب أن يكون شرط الإباحة أن يكون عنده أنه خطأ وذلك محال لا يجوز وقوعه لأن الخطأ هو الذي لا يعلم القاتل أنه مخطئ فيه والحال التي لا يعلمها لا يجوز أن يتعلق بها حظر ولا إباحة
وقال أصحابنا القتل على أنحاء أربعة عمد وخطأ وشبه عمد وما ليس بعمد ولا خطأ ولا شبه عمد فالعمد ما تعمد ضربه بسلاح مع العلم بحال المقصود به
والخطأ على ضربين أحدهما أن يقصد رمي

مشرك أو طائر فيصيب مسلما والثاني أن يظنه مشركا لأنه في حيز أهل الشرك أو عليه لباسهم فالأول خطأ في الفعل والثاني خطأ في القصد
وشبه العمد ما تعمد ضربه بغير سلاخ من حجر أو عصا وقد اختلف الفقهاء في ذلك وسنذكره إن شاء الله تعالى
وأما ما ليس بعمد ولا شبه عمد ولا خطأ فهو قتل الساهي والنائم لأن العمد ما قصد إليه بعينه والخطأ أيضا الفعل فيه مقصود إلا أنه يقع الخطأ تارة في الفعل وتارة في القصد وقتل الساهي غير مقوصد أصلا فليس هو في حيز الخطأ ولا العمد إلا أن حكمه حكم الخطأ في الدية والكفارة
قال أبو بكر وقد ألحق بحكم القتل في الحقيقة لا عمدا ولا غير عمد وذلك نحو حافر البئر وواضع الحجر في الطريق إذا عطب به إنسان هذا ليس بقاتل في الحقيقة إذ ليس له فعل في قتله لأن الفعل منا إما أن يكون مباشرة أو متولدا وليس من واضع الحجر وحافر البئر فعل في العاثر بالحجر والواقع في البئر لا مباشرة ولا تولدا فلم يكن قاتلا في الحقيقة ولذلك قال أصحابنا إنه لا كفارة عليه وكان القياس أن لا تجب عليه الدية ولكن الفقهاء متفقون على وجوب الدية فيه قال الله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ولم يذكر في الآية من عليه الدية من القاتل أو العاقلة وقد وردت آثار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم -
في إيجاب دية الخطأ على العاقلة واتفق الفقهاء عليه منها ما روى الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال كتب النبي صلى الله عليه وسلم - كتابا بين المهاجرين والأنصار أن يعقلوا معاقلهم ويفكوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين
وروى ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه كتب على كل بطن عقوله ثم كتب أنه لا يحل أن يتولى مولى رجل بغير إذنه وروى مجالد عن الشعبي عن جابر أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرىولكل واحدة منهما زوج وولد فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم -
دية المقتولة على عاقلة القاتلة وترك زوجها وولدها فقال عاقلة المقتولة ميراثها لنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم - لا ميراثها لزوجها وولدها قال وكانت حبلى فألقت جنينا فخاف عاقلة القاتلة أن يضمنهم فقال يا رسول الله لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
هذا سجع الجاهلية فقضى في الجنين غرة عبد أو أمة وروى محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم - قضى في الجنين عبدا أو أمة فقال الذي قضي عليه العقل أنؤدي من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل فمثل

ذلك بطل فقال النبي صلى الله عليه وسلم -
إن هذا لقول الشاعر فيه غرة عبد أو أمة وروى عبدالواحد بن زياد عن مجالد عن الشعبي عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
جعل في الجنين غرة على عاقلة القاتل وروى الأعمش عن إبراهيم أن رسول الله ص - جعل العقل على العصبة وعن إبراهيم قال اختصم علي والزبير في ولاء موالي صفية إلى عمر فقضى بالميراث للزبير والعقل على علي رضي الله عنه وروي عن علي وعمر في قوم أجلوا عن قتيل أن الدية على بيت المال وعن عمر في قتيل وجد بين وداعة وحي آخر أنه قضى بالدية على العاقلة فقد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم -
في إيجاب دية الخطأ على العاقلة واتفق السلف وفقهاء الأمصار عليه فإن قيل قال الله تعالى ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه وقال لأبي رمثة وابنه أنه لا يجني عليك ولا تجني عليه والعقول أيضا تمنع أخذ الإنسان بذنب غيره
قيل له أما قوله تعالى ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى فلا دلالة فيه على نفي وجوب الدية على العاقلة لأن الآية إنما نفت أن يؤخذ الإنسان بذنب غيره وليس في إيجاب الدية على العاقلة أخذهم بذنب الجاني إنما الدية عندنا على القاتل وأمر هؤلاء القوم بالدخول معه في تحملها على وجه المواساة له من غير أن يلزمهم ذنب جنايته وقد أوجب الله في أموال الأغنياء حقوقا للفقراء من غير إلزامهم ذنبا لم يذنبوه بل على وجه المواساة وأمر بصلة الأرحام بكل وجه أمكن ذلك وأمر ببر الوالدين وهذه كلها أمور مندوب إليها للمواساة وصلاح ذات البين فكذلك أمرت العاقلة بتحمل الدية عن قاتل الخطأ على جهة المواساة من غير إجحاف بهم به وإنما يلزم كل رجل منهم ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم ويجعل ذلك في أعطياتهم إذا كانوا من أهل الديوان ومؤجلة ثلاث سنين فهذا مما ندبوا إليه من مكارم الأخلاق وقد كان تحمل الديات مشهورا في العرب قبل الإسلام وكان ذلك مما يعد من جميل أفعالهم ومكارم أخلاقهم وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
بعثت لأتمم مكارم الأخلاق فهذا فعل مستحسن في العقل مقبول في الأخلاق والعادات وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم - لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه ولا يجني عليك ولا تجني عليه لا ينفي وجوب الدية على العاقلة على هذا النحو الذي ذكرناه من معنى الآية من غير أن يلام على فعل الغير أو يطالب بذنب سواه ولوجوب الدية على العاقلة وجوه سائغة

مستحسنة في العقول أحدها أنه جائز أن يتعبد الله تعالى بديا بإيجاب المال عليهم لهذا الرجل من غير قتل كان منه كما أوجب الصدقات في مال الأغنياء للفقراء والثاني أن موضوع الدية على العاقلة إنما هو على النصرة والمعونة ولذلك أوجبها أصحابنا على أهل ديوانه دون أقربائه لأنهم أهل نصرته ألا ترى أنهم يتناصرون على القتال والحماية والذب عن الحريم فلما كانوا متناصرين في القتال والحماية أمروا بالتناصر والتعاون على تحمل الدية ليتساووا في حملها كما تساووا ي حماية بعضهم بعضا عند القتال والثالث أن في إيجاب الدية على العاقلة زوال الضغينة والعداوة من بعضهم لبعض إذا كانت قبل ذلك وهو داع إلى الألفة وصلاح ذات البين ألا ترى أن رجلين لو كانت بينهما عداوة فتحمل أحدهما عن صاحبه ما قد لحقه لأدى ذلك إلى زوال العداوة وإلى الألفة وصلاح ذات البين كما لو قصده إنسان بضرر فعاونه وحماه عنه انسلت سخيمة قلبه وعاد إلى سلامة الصدر والموالاة والنصرة
والرابع أنه إذا تحمل عنه جنايته حمل القاتل إذا جنى ايضا فلم يذهب حمله للجناية عنه ضياعا بل كان له أثر محمود يستحق مثله عليه إذا وقعت منه جناية فهذه وجوه كلها مستحسنة في العقول غير مدفوعة وإنما يؤتى الملحد المتعلق بمثله من ضيق عطنه وقلة معرفته وإعراضه عن النظر والفكر والحمد لله على حسن هدايته وتوفيقه ولا خلاف بين الفقهاء في وجوب دية الخطأ في ثلاث سنين قال أصحابنا كل دية وجبت من غير صلح فهي في ثلاث سنين وروى أشعث عن الشعبي والحكم عن إبراهيم قالا أول من فرض العطاء عمر بن الخطاب وفرض فيه الدية كاملة في ثلاث سنين وثلثي الدية في سنتين والنصف في سنتين وما دون ذلك في عامه قال أبو بكر استفاض ذلك عن عمر ولم يخالفه أحد من السلف واتفق فقهاء الأمصار عليه فصار إجماعا لا يسع خلافه واختلف فقهاء الأمصار في العاقلة من هم فقال أبو حنيفة وسائر أصحابنا الدية في قتل الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين من يوم يقضى بها والعاقلة هم أهل ديوانه إن كان من أهل الديوان يؤخذ ذلك من أعطياتهم حتى يصيب الرجل منهم من الدية كلها ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم فإن أصابه أكثر من ذلك ضم إليهم أقرب القبائل في النسب من أهل الديوان وإن كان القاتل ليس من أهل الديوان فرضت الدية على عاقلته الأقرب فالأقرب في ثلاث سنين من يوم يقضي بها القاضي فيؤخذ في كل سنة ثلث الدية عند رأس كل حول ويضم إليهم

أقرب القبائل منهم في النسب حتى يصيب الرجل منهم الدية ثلاثة دراهم أو أربعة قال محمد بن الحسن ويعقل عن الحليف حلفاؤه ولا يعقل عنه قوله وقال عثمان البتي ليس أهل الديوان أولى بها من سائر العاقلة وقال ابن القاسم عن مالك الدية على القبائل على الغنى على قدره ومن دونه على قدره حتى يصيب الرجل من مائة درهم ونصف وحكي عنه أن ذلك يؤخذ من أعطياتهم وقال الثوري تجعل الدية ثلثا في العام الذي أصيب فيه الرجل ولكن تكون عند الأعطية على الرجال وقال الحسن بن صالح العقل على رؤس الرجال في أعطية المقاتلة وقال الليث العقل على القاتل وعلى القوم الذين يأخذون معهم العطاء ولا يكون على قومه منه شيء وإن لم يكن فيهم من يحمل العقل ضم إلى ذلك أقرب القبائل إليهم وروى المزني في مختصره عن الشافعي أن العقل على ذوي الأنساب دون أهل الديوان والحلفاء على الأقرب فالأقرب من بني أبيه ثم من بني جده ثم من بني جد أبيه فإن عجزوا عن البعض حمل الموالي المعتقون الباقي فإن عجزوا عن بعض ولهم عواقل عقلتهم عواقلهم فإن لم يكن لهم ذو نسب ولا مولى من أعلى حمل على الموالي من أسفل ويحمل من كثر ماله نصف دينار ومن كان دونه ربع دينار ولا يزاد على هذا ولا ينقص منه قال أبو بكر حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم - كتب على كل بطن عقوله وقال لا يتولى مولى قوم إلا بإذنهم يدل على سقوط اعتبار الأقرب فالأقرب وإن القريب والبعيد من الجاني سواء في ذلك وروي عن عمر أنه قال لسلمة بن نعيم حين قتل مسلما وهو يظنه كافرا أن عليك وعلى قومك الدية ولم يفرق بين القريب والبعيد منهم وهذا يدل على تساوي القريب والعبيد ويدل أيضا على التسوية بينهم فيما يلزم كل واحد منهم من غير اعتبار الغني والفقير ويدل على أن القاتل يدخل في العقل مع العاقلة لأنه قال عليك وعلى قومك الدية وكان أهل الجاهلية يتعاقلون بالنصرة ثم جاء الإسلام فجرى الأمر فيه كذلك ثم جعل عمر الدواوين فجمع بها الناس وجعل أهل كل راية وجند يدا واحدة وجعل عليهم قتال من يليهم من الأعداء فصاروا يتناصرون بالرايات والدواوين وعليها يتعاقلون وإذا لم يكن من أهل الديوان فعلى ا لقبائل لأن التناصر في هذه الحال بالقبائل فالمعنى الذي تعاقلوا به في الجاهلية والإسلام معنى واحد وهو النصر فإذا كانت في الجاهلية النصرة بالروايات والدواوين تعاقلون بها لأنهم في هذه الحال أخص بالنصرة من القبيلة فإذا فقدت الرايات تناصروا

بالقبائل وبها يتعاقلون أيضا
والدليل على أن العقل تابع للنصرة أن النساء لا يدخلن في العقل لعدم النصرة فيهن فدل ذلك على صحة اعتبار النصرة في العقل وأما العقل بالحلف فإن سعد بن إبراهيم روى عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم - حلف الجاهلية وقد كان الحلف عندهم كالقرابة في النصرة والعقل ثم أكده الإسلام وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال مولى القوم من أنفسهم وحليفهم منهم وقد كانت ظهرت خيل للنبي ص - على رجل من المشركين فربطه إلى سارية من سواري المسجد فقال علام أحبس فقال النبي صلى الله عليه وسلم -
بجريرة حلفائك فإن قيل فقد نفى النبي ص - حلف الإسلام بقوله لا حلف في الإسلام
قيل له معناه نفي التوارث به مع ذوي الأرحام لأنهم كانوا يورثون الحليف دون ذوي الأرحام فأما حكم الحلف في العقل والنصرة فباق ثابت وكذلك الولاء ثابت يعقل به لم روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في الأخبار المتقدمة وإنما ألزم أصحابنا كل واحد ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم لاتفاق الجميع على لزومه هذا القدر وما زاد مختلف فيه لم تقم الدلالة عليه فلم يلزمه ويدخل القاتل معهم في العقل وهو قول أصحابنا ومالك وابن شبرمة والليث والشافعي وقال الحسن بن صالح والأوزاعي لا يدخل فيه وروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز أنه يعقل معهم وما روي عن أحد من السلف خلافه ومن جهة النظر أن الدية إنما تلزم القاتل والعاقلة تعقل عنه على جهة المواساة والنصرة فواجب أن لا يلزم العاقلة إلا المتيقن وقد اتفقوا على أن ما عدا حصة الواحد منهم لازم العاقلة واختلفوا في المقدار الذي هو نصيب أحدهم هل تحمله العاقلة فواجب أن لا يكون لازما لعدم الدلالة على لزومه العاقلة ومن جهة أخرى أن العاقلة إنما تعقل عنه فعقله عن نفسه أولى فينبغي أن يدخل معهم وأيضا لو كان غيره هو الجاني لدخل مع سائر العاقلة للتخفيف عنهم فإذا كان هو الجاني فهو أولى بالدخول معهم للتخفيف عنهم لأنهم متساوون في التناصر والمواساة قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والأوزاعي والشافعي يجزي في كفارة القتل الصبي إذا كان أحد أبويه مسلما وهو قول عطاء وروي عن ابن عباس والحسن وإبراهيم والشعبي لا يجزي إلا من صام وصلى ولم يختلفوا في جوازه في رقبة

الظهار ويدل على صحة القول الأول قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة وهذه رقبة مؤمنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم -
كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه فأثبت له حكم ا لفطرة عند الولادة فوجب جوازه بإطلاق اللفظ ويدل عليه أن قوله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ منتظم للصبي كما يتناول الكبير فوجب أن يتناوله عموم قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة ولم يشرط الله عليها الصيام والصلاة فلا تجوز الزيادة فيه لأن الزيادة في النص توجب النسخ ولو أن عبدا أسلم فأعتقه مولاه عن كفارته قبل حضور وقت الصلاة والصيام كان مجزيا عن الكفارة لحصول اسم الإيمان فكذلك الصبي إذا كان داخلا في إطلاق اسم الإيمان فإن قيل العبد المعتق بعد إسلامه لا يجزي إلا أن يكون قد صام وصلى قيل له لا يختلف المسلمون في إطلاق اسم الإيمان على العبد الذي أسلم قبل حضور وقت الصلاة أو الصوم فمن أين شرطت مع الإيمان فعل الصلاة والصوم والله سبحانه لم يشرطهما ولم زدت في الآية ما ليس فيها وحظرت ما أباحته من غير نص يوجب ذلك وفيه إيجاب نسخ القرآن وأيضا لما كان حكم الصبي حكم الرجل في باب التوارث والصلاة عليه ووجوب الدية على قاتله وجب أن يكون حكمه حكمه في جوازه عن الكفارة إذ كانت رقبة تامة لها حكم الإيمان فإن قيل قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة يقتضي حقيقة رقبة بالغة معتقدة للإيمان لا من لها حكم الإيمان من غير اعتقاد ولا خلاف مع ذلك أيضا أن الرقبة التي هذه صفتها مرادة بالآية فلا يدخل فيها من لا تلحقه هذه السمة إلا على وجه المجاز وهو العقل الذي لا اعتقاد له قيل له لا خلاف بين السلف أن غير البالغ جائز في كفارة الخطأ إذا كان قد صام وصلى ولم يشرط أحد وجود الإيمان منه حقيقة ألا ترى أن من له سبع سنين مأمور بالصلاة على وجه التعليم وليس له اعتقاد صحيح للإيمان فثبت بذلك سقوط اعتبار وجود حقيقة الإيمان الرقبة ولما ثبت ذلك باتفاق السلف علمنا أن الاعتبار فيه بمن لحقته سمة الإيمان على أي وجه سمي والصبي بهذه الصفة إذا كان أحد أبويه مسلما فوجب جوازه عن الكفارة
قوله تعالى إلا أن يصدقوا قال أبو بكر يعني والله أعلم إلا أن يبرئ أولياء القتيل من الدية فسمى الإبراء منها صدقة وفيه دليل على أن من كان له على آخر دين فقال قد تصدقت به عليك أن ذلك براءة صحيحة وأنه لا يحتاج في صحة هذه البراءة إلى

قبول المبرأ منه ولذلك
قال أصحابنا إن البراءة واقعة ما لم يردها المبرأ منه وقال زفر لا يبرأ الغريم من الدين إلا أن يقبل البراءة وكذلك الصدقة وجعل بمنزلة هبة الأعيان وظاهر الآية يدل على صحة قول أصحابنا لأنه لم يشرط القبول ولأن الدين حق فيصح إسقاطه كالعفو عن دم العمد والعتق ولا يحتاج إلى قبول وقال أصحابنا إذا رد المبرأ منه البراءة من الدين عاد الدين وقال غيرهم لا يعود وجعلوه كالعتق والعفو عن دم العمد والدليل على صحة قولنا أن البراءة من الدين يلحقها الفسخ ألا ترى أنه لو صالحه على ثوب برئ فإن هلك الثوب قبل القبض بطلت البراءة وعاد الدين والعتق والعفو عن الدم لا ينفسخان بحال ويدل أيضا على وقوع البراءة من الدين بلفظ التمليك أن الصدقة من ألفاظ التملك وقد حكم بصحة البراءة بها وأنه ليس بمنزلة الأعيان إذا ملكها غيره بلفظ الإبراء فلا يملك مثل أن يقول قد أبرأتك من هذا العبد فلا يملكه وإن قبل البراءة وإذا قال قد تصدقت بمالي عليك من الدين أو قد وهبت لك ما لي عليك صحت البراءة ويدل على ذلك أن من له على غيره دين وهو غني فقال قد تصدقت به عليك برئ منه لأن الله تعالى لم يفرق بين الغني والفقير في ذلك ويدل على أن الأهل يعبر به عن الأولياء والورثة لأن قوله فدية مسلمة إلى أهله معناه إلى ورثته وقال محمد بن الحسن فيمن أوصى لأهل فلان أن القياس أن يكون لزوجاته إلا أني قد تركت القياس وجعلته لكل من كان في عياله قال أبو بكر الأهل اسم يقع على الزوجة وعلى جميع من يشتمل عليه منزله وعلى أتباع الرجل وأشياعه قال الله تعالى إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك فكان ذلك على جميع أهل منزله من أولاده وغيرهم وقال فأنجيناه وأهله أجمعين ويقع على من اتبعه في دينه كقوله ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له ونجيناه وأهله من الكرب العظيم فسمى أتباعه في دينه أهله وقال في ابنه إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فاسم الأهل يقع على معان مختلفة وقد يطلق اسم الأهل ويراد به الآل وهو قراباته من قبل الأب كما يقال آل النبي وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم - وهما سواء
باب شبه العمد
قال أبو بكر أصل أبي حنيفة في ذلك أن العمد ما كان بسلاح أو ما يجري مجراه

مثل الذبح بليطة قصبة أو شقة العصا أو بكل شيء له حد يعمل عمل السلاح أو بحرقه بالنار فهذا كله عنده عمد محض فيه القصاص ولا نعلم في هذه الجملة خلافا بين الفقهاء وقال أبو حنيفة ما سوى ذلك من القتل بالعصا والحجر صغيرا كان أو كبيرا فهو شبه العمد وكذلك التغريق في الماء وفيه الدية مغلظة على العاقلة وعليه الكفارة ولا يكون التغليظ عنده إلا في أسنان الإبل خاصة دون عددها وليس فيما دون النفس شبه عمد بل بأي شيء ضربه فعليه القصاص إذا أمكن وإن لم يكن فعليه أرشه مغلظا إذا كان من الإبل يسقط ما يجب وأصل أبي يوسف ومحمد أن شبه العمد مالا يقتل مثله كاللطمة الواحدة والضربة الواحدة بالسوط ولو كرر ذلك حتىصار جملته مما يقتل كان عمدا وفيه القصاص بالسيف وكذلك إذا غرقه بحيث لا يمكنه الخلاف منه وهو قول عثمان البتي إلا أنه يجعل دية شبه العمد في ماله قال ابن شبرمة وما كان من شبه العمد فهو عليه في ماله يبدأ بماله فيؤخذ حتى لا يترك له شيء فإن لم يتم كان ما بقي من الدية على عاقلته وقال ابن وهب عن مالك إذا ضربه بعصا أو رماه بحجر أو ضربه عمدا فهو عمد وفيه القصاص ومن العمد أن يضربه في نائرة تكون بينهما ثم ينصرف عنه وهو حي ثم يموت فتكون فيه القسامة وقال ابن القاسم عن مالك شبه العمد باطل إنما هو عمد أو خطأ وقال الأشجعي عن الثوري شبه العمد أن يضربه بعصا أو بحجر أو بيده فيموت ففيه الدية مغلظة ولا قود فيه والعمد ما كان بسلاح وفيه القود والنفس يكون فيها العمد وشبه العمد والخطأ الجراحة لا يكون فيها إلا خطأ أو عمد وروى الفضل بن دكين عن الثوري قال إذا حدد عودا أو عظما فجرح به بطن حرا فهذا شبه عمد ليس فيه قود قال أبو بكر هذا قول شاذ وأهل العلم على خلافه وقال الأوزاعي في شبه العمد الدية في ماله فإن لم يكن تماما فعلى العاقلة وشبه العمد أن يضربه بعصا أو سوط ضربة واحدة فيموت فإن ثنى بالعصا فمات مكانه فهو عمد يقتل به والخطأ على العاقلة وقال الحسن بن صالح إذا ضربه بعصا ثم على فقتله مكانه من الضربة الثانية فعليه القصاص وإن على الثانية فلم يمت منها ثم مات بعدها فهو شبه عمد لا قصاص فيه وفيه الدية على العاقلة والخطأ على العاقلة وقال الليث العمد ما تعمده إنسان فإن ضربه بأصبعه فمات من ذلك دفع إلى ولي المقتول والخطأ فيه على العاقلة وهذا يدل على أن الليث كان لا يرى شبه العمد وإنما يكون

خطأ أو عمدا وقال المزني في مختصره عن الشافعي إذا عمد رجل بسيف أو حجر أو سنان رمح أو ما يشق بحده فضرب به أو رمى به الجلد أو اللحم فجرحه جرحا كبيرا أو صغيرا فمات فعليه القود وإن شدخه بحجر أو تابع عليه الخنق ووالى بالسوط عليه حتى مات أو طبق عليه مطبقا بغير طعام ولا شراب أو ضربه بسوط في شدة حر أو برد مما الأغلب أنه يموت منه فمات فعليه القود وإن ضربه بعمود أو بحجر لا يشدخ أو بحد سيف ولم يجرح أو ألقاه في بحر قريب البر وهو يحسن العوم أو ما الأغلب أنه لا يموت مثله فمات فلا قود فيه وفيه الدية مغلظة على العاقلة
والدليل على ثبوت شبه العمد ما روى هشيم عن خالد الحذاء عن القاسم بن ربيعة بن جوشن عن عقبة بن أوس السدوسي عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه ص - خطب يوم فتح مكة فقال في خطبته ألا إن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر فيه الدية مغلظة مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها
وروى إبراهيم عن عبيد بن نضلة الخزاعي عن المغيرة بن شعبة أن امرأتين ضربت إحداهما الأخرى بعمود الفسطاط فقتلتها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
بالدية على عصبة القاتلة وقضى فيما في بطنها بالغرة وروى يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب وأبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة قال اقتتلت امرأتان من هذيل فضربت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فقضى أن دية جنينها عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها ففي أحد هذين الحديثين أنها ضربتها بعمود فسطاط وفي الآخر أنها ضربتها بحجر
وقد روى أبو عاصم عن ابن جريج قال أخبرني عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب نشد الناس قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم -
في الجنين فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال إنني كنت بين امرأتين لي وأن إحداهما ضربت الأخرىبمسطح فقتلتها وجنينها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم - في الجنين بغرة وأن تقتل مكانها
وروى الحجاج بن محمد عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس عن عمر بمثله فذكر أبو عاصم والحجاج عن ابن جريج أنه أمر بقتل المرأة
وروى هذا الحديث هشام بن سليمان المخزومي عن ابن جريج عن ابن دينار وسفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار بإسناده ولم يذكرا فيه أنه أمر أن تقتل وذكر أبو عاصم والحجاج أنه أمر أن تقتل المرأة فاضطرب حديث ابن عباس في هذه القصة

وروى سعيد عن قتادة عن أبي المليح عن حمل بن مالك قال كانت له امرأتان فرجمت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب قلبها وهي حامل فألقت جنينا فماتت فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فقضى رسول الله ص - بالدية على عاقلة القاتلة وقضى في الجنين بغرة عبد أو أمة فكان حديث حمل بن مالك في إيجاب القود على المرأة مختلفا متضادا وروي في بعض أخبار ابن عباس في هذه القصة بعينها القصاص ولم يذكره في بعضها قال حمل بن مالك وهو صاحب القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم -
أوجب الدية على عاقلة القاتلة فتضادت الأخبار في قصة حمل بن مالك وسقطت وبقي حديث المغيرة بن شعبة وأبي هريرة في نفي القصاص من غير معارض
وقد روى أبو معاوية عن حجاج عن قتادة عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
قتيل السوط والعصا شبه العمد وإثبات شبه العمد ضربا من القتل دون الخطأ فيه اتفاق السلف عندنا لا خلاف بينهم فيه وإنما الاختلاف بينهم في كيفية شبه العمد فأما أن يقول مالك لا أعرف إلا خطأ أو عمدا فإن هذا قول خارج عن أقاويل السلف كلهم وروى شريك عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي قال شبه العمد بالعصا والحجر الثقيل وليس فيهما قود وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال يعمد أحدكم فيضرب أخاه بمثل آكلة اللحم وهي العصا ثم يقول لا قود علي لا أوتى بأحد فعل ذلك إلا أقدته فكان هذا عنده من العمد لأن مثله يقتل في الغالب عل ما قال أبو يوسف ومحمد ومما يبين إجماع الصحابة على شبه العمد وأنه قسم ثالث ليس بعمد محض ولا خطأ محض اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - في أسنان الإبل في الخطأ ثم اختلافهم في أسنان شبه العمد وأنها أغلظ من الخطأ منهم علي وعمر وعبدالله بن مسعود وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت وأبو موسى والمغيرة بن شعبة كل هؤلاء أثبت أسنان الإبل في شبه العمد أغلظ منها في الخطأ على ما سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى فثبت بذلك شبه العمد
ولما ثبت شبه العمد بما قدمنا من الآثار واتفاق السلف بعد اختلاف منهم في كيفيته احتجنا أن نعتبر شبه العمد فوجدنا عليا قال شبه العمد بالعصا والحجر العظيم ومعلوم أن شبه العمد اسم شرعي لا سبيل إلى إثباته إلا من جهة التوقيف إذ ليس في اللغة هذا الاسم لضرب من القتل فعلمنا أن عليا لم يسم القتل بالحجر العظيم شبه العمد إلا توقيفا ولم يذكر الحجر العظيم إلا والصغير والكبير متساويان عنده في سقوط القود به ويدل عليه ما حدثنا عبدالباقي

ابن قانع قال حدثنا المعمري قال حدثنا عبدالرحمن بن عبدالله الرقي قال حدثنا ابن المبارك عن سليمان التيمي وخالد الحذاء عن القاسم بن ربيعة عن عقبة بن أوس عن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال قتيل الخطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها فقد حوى هذا الخبر معاني منها إثباته قتيل خطأ العمد قسما غالب العمد وغير الخطأ وهو شبه العمد ومنها إيجابه الدية في قتيل السوط والعصا من غير فرق بين ما يقتل مثله وبين مالا يقتل مثله وبين من يوالي الضرب حتى يقتله وبين من يقتل بضربة واحدة ومنها أنه جمع بين السوط والعصا والسوط لا يقتل مثله في الغالب والعصا يقتل مثلها في الأكثر فدل على وجوب التسوية بين ما يقتل وبين مالا يقتل
وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا عقبة بن مكرم قال حدثنا يونس بن بكير قال حدثنا قيس بن الربيع عن أبي حصين عن إبراهيم بن بنت النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كل شيء سوى الحديدة خطأ ولكل خطأ أرش وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن يحيى بن سهل بن محمد العسكري قال حدثنا محمد بن المثنيى قال حدثنا يوسف بن يعقوب الضبعي قال حدثنا سفيان الثوري وشعبة عن جابر الجعفي عن أبي عازب عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كل شيء خطأ إلا السيف وفي كل خطأ أرش وأيضا لما اتفقوا على أنه لو جرحه بسكين صغيرة لم يختلف حكمها وحكم الكبيرة في وجوب القصاص فوجب أن لا يختلف حكم الصغير والكبير من الحجر والخشب في سقوطه وهذا يدل على أن الحكم في إيجاب القصاص متعلق بالآلة وهي أن تكون سلاحا أو يعمل عمل السلاح فإن قيل على ما روينا من قوله ص -
قتيل خطأ العمد إن العمد لا يكون خطأ ولا الخطأ عمدا وهذا يدل على فساد الحديث
قيل ليس كذلك لأنه سماه خطأ في الحكم عمد في الفعل وذلك معنى صحيح لأنه دل به على التغليظ من حيث هو عمد وعلى سقوط القود من حيث هو في حكم الخطأ
فإن قيل قوله تعالى كتب عليكم القصاص في القتلى وقوله النفس بالنفس وسائر الآي التي فيها إيجاب القصاص يوجبه على القاتل بالحجر العظيم
قيل له لا خلاف أن هذه الآي إنما أوجبت القصاص في العمد وهذا ليس بعمد ومع ذلك فإن الآي وردت في إيجاب القصاص في الأصل والآثار التي

ذكرنا واردة فيما يجب فيه القصاص فكل واحد منهما مستعمل فيما ورد فيه لا يعترض بأحدهما على الآخر وأيضا قال الله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله وسمى النبي صلى الله عليه وسلم - شبه العمد قتيل الخطأ فلما أطلق عليه اسم الخطأ وجب أن تكون فيه الدية فإن احتجوا بحديث ابن عباس في قصة المرأتين قتلت إحداهما الأخرى بمسطح فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم - عليها القصاص قيل له قد بينا اضطراب الحديث وما عارضه من رواية حمل بن مالك في إيجاب الدية دون القود ولو ثبت القود أيضا فإن ذلك إنما كان في شيء بعينه ليس بعموم في جميع من قتل بمسطح وجائز أن يكون كان فيه حديد وأصابها الحديد دون الخشب فمن أوجب النبي صلى الله عليه وسلم -
فيه القود فإن احتجوا بما روي أن يهوديا رضخ رأس جارية بالحجارة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم - بأن يرضح رأسه قيل له جائز أن يكون كان لها مروة وهي التي لها حد يعمل عمل السكين فلذلك أوجب النبي صلى الله عليه وسلم - قتله وأيضا روى عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس أن يهوديا قتل جارية من الأنصار على حلي لها وألقاها في نهر ورضخ رأسها بالحجارة فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم - فأمر به أن يرجم حتى يموت فرجم حتى مات ولا خلاف أن الرجم لا يجب على وجه القود وجائز أن يكون اليهودي مستأمنا فقتل الجارية ولحق بأرضه فأخذ وهو حربي لقرب منازلهم من المدينة فقتله على أنه محارب حربي ورجمه كما سمل أعين العرنيين الذين استاقوا الإبل وقتلوا الراعي وقطع أيديهم وأرجلهم وتركهم حتى ماتوا ثم نسخ القتل على وجه المثلة
فصل وأما ما دون النفس فإنه ليس فيه شبه العمد من جهة الآلة ويجب فيه القصاص بحجر شجه أو بحديد وفيه شبه العمد من جهة التغليظ إذا تعذر فيه القصاص وإنما لم يثبت فيما دون النفس بشبه العمد لأن الله تعالى قال والجروح قصاص وقال والسن بالسن ولم يفرق بين وقوعها بحديد أو غيره والأثر إنما ورد في إثبات خطأ معمد في القتل وذلك اسم شرعي لا يجوز إثباته إلا من طريق التوقيف ولم يرد فيما دون النفس توقيف في شبه العمد وأثبتوا فيه التغليظ إذا لم يمكن فيه القصاص لأنه بمنزلة شبه العمد حين كان عمدا في الفعل وقد روي عن عمر نضر الله وجهه أنه قضى قتادة المدلجي حين حذف ابنه بالسيف فقتله بمائة من الإبل مغلظة حين كان عمدا سقط فيه القصاص

كذلك فيما دون النفس إذا كان عمدا قد سقط فيه القصاص إيجاب قسطه من الدية مغلظا ومع ذلك فلا نعلم خلافا بين الفقهاء في إيجاب القصاص في الجراحات التي يمكن القصاص فيها بأي شيء جرح قال أبو بكر قد ذكرنا الخطأ وشبه العمد في سورة البقرة والله أعلم
باب
مبلغ الدية من الإبل قد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم -
بمقدار الدية وأنها مائة من الإبل فمنها حديث سهل بن أبي حثمة في القتيل الموجود بخيبر وأن النبي صلى الله عليه وسلم - وداه بمائة من الإبل وروى سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان عن القاسم بن ربيعة عن ابن عمر قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بمكة فقال ألا إن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا فيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون خلفة في بطونها أولادها وفي كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم - وفي النفس مائة من الإبل وروى عمرو بن دينار عن طاوس قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم - دية الخطأ ماله من الإبل وذكر علي بن موسى القمي قال حدثنا يعقوب بن شيبة قال حدثنا قيس بن حفص قال حدثنا الفضل بن سليمان النميري قال حدثنا غالب بن ربيعة بن قيس النميري قال أخبرني قرة بن دعموص النميري قال أتيت أنا وعمي النبي صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول الله إن لي عند هذا دية أبي فمره أن يعطينيها قال أعطه دية أبيه وكان قتل في الجاهلية قلت يا رسول الله هل لأمي فيها حق قال نعم وكان ديته مائة من الإبل فقد حوى هذا الخبر أحكاما منها أن المسلم والكافر في الدية سواء لأنه أخبر أنه قتل في الجاهلية ومنها أن المرأة ترث من دية زوجها ومنها أن الدية مائة من الإبل ولا خلاف بين السلف وفقهاء الأمصار في ذلك والله أعلم
باب
أسنان الإبل في دية الخطأ قال أبو بكر اختلف السلف في ذلك
فروى علقمة عن الأسود عن عبدالله بن مسعود في دية الخطأ أخماسا وعشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنات مخاض وعشرون بنو مخاض وعشرون بنات لبون وعن عمر بن الخطاب أخماسا أيضا وروى عاصم بن ضمرة وإبراهيم عن علي في دية الخطأ أرباعا خمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة وخمس وعشرون بنات مخاض وخمس وعشرون بنات لبون أربعة

أسنان مثل أسنان الزكاة وقال عثمان وزيد بن ثابت في الخطأ ثلاثون بنات لبون وثلاثون جذعة وعشرون بنو لبون وعشرون بنات مخاض وروي عنهما مكان الجذاع الحقاق قال أبو بكر واتفق فقهاء الأمصار أصحابنا ومالك والشافعي أن دية الخطأ أخماس إلا أنهم اختلفوا في الأسنان من كل صنف فقال أصحابنا جميعا عشرون بنات مخاض وعشرون بنو مخاض وعشرون بنات لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة وقال مالك والشافعي عشرون بنات مخاض وعشرون بنو لبون وعشرون بنات لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة
وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن داود بن توبة التمار قال حدثنا عمرو بن محمد الناقد قال حدثنا أبو معاوية قال حدثنا حجاج بن أرطارة عن زيد بن جبير عن خشف بن مالك عن عبدالله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم - جعل الدية في الخطأ أخماسا واتفق الفقهاء على استعمال هذا الخبر في الأخماس يدل على صحته ولم يبين فيه كيفية الأسنان فروى منصور عن إبراهيم عن ابن مسعود في دية الخطأ أخماسا وذكر الأسنان مثل قول أصحابنا فهذا يدل على أن الأخماس التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم - كانت على هذا الوجه لأنه غير جائز أن يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم -
شيئا ثم يخالفه إلى غيره فإن قيل خشف بن مالك مجهول
قيل له استعمال الفقهاء الخبرة في إثبات الأخماس يدل على صحته واستقامته وأيضا فإن قول من جعل في الخطأ مكان بنو لبون بني مخاض أولى لأن بني لبون بمنزلة بنات مخاض لقوله ص - فإن لم توجد ابنة مخاض فابن لبون فيصير بمنزلة من أوجب أربعين بنات مخاض إذا أوجب عشرين بني لبون وعشرين بنات مخاض وأيضا فإن بني لبون فوق بني مخاض ولا يجوز إثبات زيادة ما بين بني لبون وبنات مخاض إلا بتوقيف وأيضا فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم - الدية مائة من الإبل يقتضي جواز ما يقع عليه الاسم فلا تثبت الزيادة إلا بدلالة ومذهب أصحابنا أقل ما قيل فيه فهو ثابت وما زاد فلم تقم عليه دلالة فلا يثبت وأيضا قد ثبت مثل قول أصحابنا عن عبدالله بن مسعود في كيفية الأسنان ولم يرو عن أحد من الصحابة ممن قال بالأخماس خلافه وقول مالك والشافعي لا يروى عن أحد من الصحابة وإنما يروى عن سليمان بن يسار فكان قول أصحابنا أولى لاتفاق الجميع من فقهاء الأمصار على إثبات الأخماس وثبوت كيفيتها على الوجه الذي يذهب إليه أصحابنا عن عبدالله بن مسعود
فإن قيل إيجاب

بني لبون أولى من بني مخاض لأنها تؤخذ في الزكاة ولا تؤخذ بنو مخاض
قيل له ابن اللبون يؤخذ في الزكاة على وجه البدل وكذلك ابن مخاض يؤخذ عندنا على وجه البدل فلا فرق بينهما وأيضا فإن الديات غير معتبرة بالزكاة ألا ترى أنه يجب عند المخالف أربعون خلفة في شبه العمد ولا يجب مثلها في الزكاة والله أعلم
باب
أسنان الإبل في شبه العمد روي عن عبدالله بن مسعود في شبه العمد أرباعا خمس وعشرون بنات مخاض وخمس وعشرون بنات لبون وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة وهي مثل أسنان الإبل في الزكاة
وروي عن علي وأبي موسى والمغيرة بن شعبة في شبه العمد ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون ما بين ثنيةإلى بازل عامها كلها خلفة وعن عثمان وزيد بن ثابت ثلاثون بنات لبون وثلاثون حقة وأربعون جذعة خلفة
وروى أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي في شبه العمد ثلاث وثلاثون حقة وثلاث وثلاثون جذعة وأربع وثلاثون ثنية إلى بازل عامها كلها خلفة
واختلف فقهاء الأمصار في ذلك فقال أبو حنيفة وأبو يوسف دية شبه العمد أرباع على ما روي عن عبدالله بن مسعود وقال محمد دية شبه العمد أثلاث ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون ما بين ثنية إلى بازل عامها كلها خلفة والخلفة هي الحوامل وهو قول سفيان الثوري وروي مثله عن عمر وزيد بن ثابت ومن قدمنا ذكره من السلف
وروى ابن القاسم بن مالك أن الدية المغلظة في الرجل يحذف ابنه بالسيف فيقتله فتكون عليه الدية مغلظة ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وهي حالة قال والجد إذا قتل ولد ولده على هذا الوجه مثل الأب فإن قطع يد الولد وعاش ففيه نصف الدية مغلظة وقال مالك تغلظ على أهل الورق والذهب أيضا وهو أن ينظر إلى قيمة الثلاثين من الحقة والثلاثين من الجذعة والأربعين من الخلفة فيعرف كم قيمتهن ثم ينظر إلى دية الخطأ أخماسا من سنان عشرين بنت مخاض وعشرين ابن لبون وعشرين بنات لبون وعشرين حقة وعشرين جذعة ثم ينظر كم فضل ما بين دية الخطأ والدية المغلظة فيزاد في الرقة على قدر ذلك قال وهو على قدر الزيادة والنقصان في سائر الأزمان وإن صارت دية التغليظ ضعفي دية الخطأ زيد عليه من الورق بقدر ذلك وقال الثوري في دية شبه العمد من

الورق يزاد عليها بقدر ما بين دية الخطأ إلى دية شبه العمد في أسنان الإبل نحو ما قال مالك وهو قول الحسن بن صالح
قال أبو بكر لما ثبت أن دية الخطأ أخماس بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم - وبما قدمنا من الحجاج ثم اختلفوا في شبه العمد فجعله بعضهم أرباعا وبعضهم أثلاثا كان قول من قال بالأرباع أولى لأن في الأثلاث زيادة تغليظ لم تقم عليها دلالة وقول النبي صلى الله عليه وسلم - الدية مائة من الإبل يوجب جواز الكل والتغليظ بالأرباع متفق عليه والزيادة عليها غير ثابتة فظاهر الخبر ينفيها فلم نثبتها وأيضا فإن في إثبات الخلفات وهي الحوامل إثبات زيادة عدد فلا يجوز لأنها تصير أكثر من مائة لأجل الأولاد
فإن قيل في حديث القاسم بن ربيعة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم -
في قتيل خطأ العمد مائة من الإبل أربعون منها خلفة في بطونها أولادها وقد احتججتم به في إثبات شبه العمد فهلا أثبتم الأسنان
قيل له أثبتنا به شبه العمد لاستعمال الصحابة إياه في إثبات شبه العمد ولو كان ذلك ثابتا لكان مشهورا ولو كان كذلك لما اختلفوا فيه كما لم يختلفوا في إثبات شبه العمد وليس يمتنع أن يشتمل خبر على معان فيثبت بعضها ولا يثبت بعض إما لأنه غير ثابت في الأصل أو لأنه منسوخ وأما التغليظ في الورق والذهب فإنه لا يخلو أصل الدية من أن يكون واجبا من الإبل وأن الورق والذهب مأخوذان عنها على أنهما قيمة لها أو أن تكون الدية في الأصل واجبة في أحد الأصناف الثلاثة من الدراهم والدنانير والإبل لا على أن بعضها بدل من بعض فإن كانت الإبل هي الدية وإنما تؤخذ الدراهم والدنانير بدلا منها فلا اعتبار بما ذكره مالك من إيجاب فضل ما بين دية الخطأ إلى الدية المغلظة وإنما الواجب أن يقال أن عليه قيمة الإبل على أسنان التغليظ وكذلك دية الخطأ ينبغي أن تعتبر فيها قيمة الإبل على أسنان الخطأ وأن لا تعتبر الدراهم والدنانير في الديات مقدرا محدودا فلا يقال أن الدية من الدراهم عشرة آلاف ولا اثنا عشر ألفا ولا من الذهب ألف دينار بل ينظر في سائر الأزمان إلى قيمة الإبل فإن كانت ستى آلاف أوجب ذلك من الدراهم بغير زيادة خمسة عشر ألفا أوجب ذلك وكذلك قيمتها من الدنانير فلما قال السلف في الدية أحد قولين إما عشرة آلاف وإما اثنا عشر الفا وقالوا أنها من الدنانير ألف دينار حصل الاتفاق من الجميع على أن الزيادة على هذه المقادير والنقصان منها غير سائغ وفي ذلك

دليل على أن الدراهم والدنانير هي ديات بأنفسها لا بدلا من غيرها وإن كان كذلك لم يجز التغليظ فيها من وجهين أحدهما أن إثبات التغليظ طريقه التوقيف أو الاتفاق ولا توقيف في إثبات التغليظ في الدراهم والدنانير ولا اتفاق والثاني أن التغليظ في الإبل إنما هو من جهة الأسنان لا من جهة زيادة العدد وفي إثبات التغليظ من جهة زيادة الوزن في الورق والذهب خروج عن الأصول ووجه آخر يدل على أن الدراهم والدنانير ليست على وجه القيمة عن الإبل وهو أنه معلوم أن القاضي يقضي على العاقلة إذا كانت من أهل الورق بالورق وإذا كانت من أهل الذهب بالدنانير فلو كانت الإبل هي الواجبة والدراهم والدنانير بدل منها لما جاز أن يقضي القاضي فيها بالدراهم والدنانير على أن تؤديها في ثلاث سنين لأنه دين بدين فلما جاز ذلك دل على أنها ديات بأنفسها ليست أبدالا عن غيرها ويدل على أن التغليظ غير جائز في الدراهم والدنانير أن عمر رضي الله عنه جعل الدية من الذهب ألف دينار ومن الورق ما اختلف عنه فيه فروى عنه أهل المدينة اثنا عشر ألفا وروى عنه أهل العراق عشرة آلاف ولم يفرق في ذلك بين دية شبه العمد والخطأ وذلك بمحضر من الصحابة من غير خلاف من أحد منهم عليه فدل على أن اعتبار التغليظ فيها ساقط ويدل عليه أيضا أن الصحابة قد اختلفت في كيفية التغليظ في أسنان الإبل لما كان التغليظ فيها واجبا ولو كان التغليظ في الورق والذهب واجبا لاختلفوا فيه حسب اختلافهم في الإبل فلما لم يذكر عنهم خلاف في ذلك وإنما روي عنهم في الذهب ألف دينار وفي الدراهم عشرة آلاف أو اثنا عشر الفا من غير زيادة ولا نقصان ثبت بإجماعهم على نفي التغليظ في غير الإبل
فإن قيل على ما ذكرنا من الأصول لو كان من الإبل لكان قضاء القاضي عليهم بالدية من الدراهم يوجب أن يكون دينا بدين إن هذا كما يقولون فيمن تزوج امرأة على عبد وسط أنه إن جاء بالقيمة دراهم قبلت منه ولم يكن ذلك بيع دين بدين
قيل له القاضي عندنا لا يقضي عليه بدراهم إذا تزوجها على عبد ولكنه يقول له إن شئت فأعطها عبدا وسطا وإن شئت قيمته دراهم فليس فيما قلنا بيع دين بدين والدية يقضي بها القاضي على العاقلة دراهم ولا يقبل منهم الإبل إذا قضى بذلك وعلى أنه إنما تعتبر قيمة العبد في وقت ما يعطي قيمته دراهم والإبل لا تعتبر قيمتها إذا أراد القضاء بالدراهم سواء نقصت قيمتها أو زادت
واختلف

السلف وفقهاء الأمصار في المقتول في الحرم والشهر الحرام فقال أبو حنيفة ومحمد وزفر وابن أبي ليلى ومالك القتل في الحرم والشهر الحرام كهو في غيره فيما يجب من الدية والقود وسئل الأوزاعي عن القتل في الشهر الحرام والحرم هل تغلظ الدية فيه بلغنا أنه إذا قتل في الحرم أو الشهر الحرام زيد العقل ثلثه ويزاد في شبه العمد في أسنان الإبل وذكر المزني عن الشافعي في مختصره وذكر تغليظ الدية في شبه العمد وقال الدية في هذا على العاقلة وكذلك الجراح وكذلك التغليظ في النفس والجراح في الشهر الحرام والبلد الحرام وذوي الرحم وروي عن عثمان أنه قضى في دية امرأة قتلت بمكة بدية وثلث وروى إبراهيم عن الأسود أن رجلا أصيب عند البيت فسأل عمر عليا فقال له على ديته من بيت المال فلم ير فيه على أكثر من الدية ولم يخالفه عمر وقال الله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله وهو عام في الحل والحرم ولما كانت الكفارة في الحرم كهي في الحل لا فرق بينهما وإن كان ذلك كله حقا لله تعالى وجب أن تكون الدية كذلك إذ الدية حق لآدمي ولا تعلق لها بالحرم ولا بالشهر الحرام لأن حرمة الحرم والشهر الحرام إنما هي حق لله تعالى فلو كان لحرمة الحرم والأشهر تأثير في إلزام الغرم لكان تأثيره في الكفارة التي هي حق لله تعالى أولى ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم - ألا إن قتيل الخطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل ولم يفرق بين الحل والحرم وقد اختلف التابعون في ذلك فروي عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبدالرحمن وخارجة بن زيد وعبيدالله بن عبدالله وسليمان بن يسار الدية في الحرم كهي في غيره وكذلك الشهر الحرام وروي عن القاسم بن محمد وسالم بن عبدالله أن من قتل في الحرم زيد على ذلك ديته مثل ثلثها والله أعلم
باب الدية من غير الإبل
قال أبو حنيفة الدية من الإبل والدراهم والدنانير فمن الدراهم عشرة آلاف درهم ومن الدنانير ألف دينار وأبو حنيفة لا يرى الدية إلا من الإبل والورق والذهب وقال مالك والشافعي من الورق اثنا عشر ألفا ومن الذهب ألف دينار وقال مالك أهل الذهب أهل الشام ومصر وأهل الورق أهل العراق وأهل الإبل أهل البوادي وقال مالك ولا يقبل من أهل الإبل إلا الإبل ومن أهل الذهب إلا الذهب ومن أهل الورق إلا الورق وقال

أبو يوسف ومحمد الدية من الورق عشرة وعلى أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الإبل مائة بعير وعلى أهل البقر مائتا بقرة وعلى أهل الشاء ألفا شاة وعلى أهل الحلل مائتا حلة يمانية ولا يؤخذ من الغنم والبقر في الدية إلا الثني فصاعدا ولا تؤخذ من الحلل إلا اليمانية قيمة كل حلة خمسون درهما فصاعدا وروي عن ابن أبي ليلى عن الشعبي عن عبيدة السلماني عن عمر أنه جعل الدية على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة وعلى أهل الإبل مائة من الإبل
قال أبو بكر الدية قيمة النفس وقد اتفق الجميع على أن لها مقدارا معلوما لا يزاد عليه ولا ينقص منه وأنها غير موكولة إلى اجتهاد الرأي كقيم المتلفات ومهور المثل ونحوهما وقد اتفق الجميع على إثبات عشرة آلاف واختلفوا فيما زاد فلم يجز إثباته إلا بتوقيف وقد روى هشيم عن يونس عن الحسن أن عمر بن الخطاب قوم الإبل في الدية مائة من الإبل قوم كل بعير بمائة وعشرين درهما اثني عشر ألف درهم وقد روي عنه في الدية عشرة آلاف وجائز أن يكون من روى اثني عشر ألفا على أنها وزن ستة فتكون عشرة آلاف وزن سبعة وذكر الحسن في هذا الحديث أنه جعل الدية من الورق قيمة الإبل لا أنه أصل في الدية وفي غير هذا الحديث أنه جعل الدية من الورق وروى عكرمة عن أبي هريرة في الدية عشرة آلاف درهم
فإن احتج محتج بما روى محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال الدية اثنا عشر ألفا وروى ابن أبي نجيح عن أبيه أن عمر قضى في الدية باثني عشر الفا وروى نافع بن جبير عن ابن عباس مثله والشعبي عن الحارث عن علي مثله
قيل له أما حديث عكرمة فإنه يرويه ابن عيينة وغيره عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يذكر فيه ابن عباس ويقال إن محمد بن مسلم غلط في وصله وعلى أنه لو ثبت جميع ذلك احتمل أن يريد بها اثني عشر الف درهم وزن ستة وإذا احتمل ذلك لم يجز إثبات الزيادة بالاحتمال ويثبت عشرة آلاف بالاتفاق وأيضا قد اتفق الجميع على أنها من الذهب ألف دينار وقد جعل في الشرع كل عشرة دراهم قيمة لدينار ألا ترى أن الزكاة في عشرين مثقالا وفي مائتي درهم فجعلت مائتا الدرهم نصابا بإزاء العشرين دينارا كذلك ينبغي أن يجعل بإزاء كل دينار من الدية عشرة دراهم
وإنما لم يجعل أبو حنيفة الدية من غير الأصناف

الثلاثة من قبل أن الدية لما كانت قيمة النفس كان القياس أن لا تكون إلا من الدراهم والدنانير كقيم سائر المتلفات إلا أنه لما جعل النبي صلى الله عليه وسلم - قيمتها من الإبل اتبع الأثر فيها ولم يوجبها من غيرها والله أعلم
باب ديات أهل الكفر
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وعثمان البتي وسفيان الثوري والحسن بن صالح دية الكافر مثل دية المسلم واليهودي والنصراني والمجوسي والمعاهد والذمي سواء وقال مالك بن أنس دية أهل الكتاب على دية المسلم ودية المجوسي ثمان مائة درهم وديات نسائهم على النصف من ذلك وقال الشافعي دية اليهودي والنصراني ثلث الدية ودية المجوسي ثمان مائة والمرأة على النصف
قال أبو بكر الدليل على مساواتهم المسلمين في الديات قوله عز و جل ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا إلى قوله وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله والدية اسم لمقدار معلوم من المال بدلا من نفس الحر لأن الديات قد كانت متعالمة معروفة بينهم قبل الإسلام وبعده فرجع الكلام إليها في قوله في قتل المؤمن خطأ ثم لما عطف عليه قوله تعالى وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله كانت هذه الدية المذكورة بديا إذ لو لم تكن كذلك لما كانت دية لأن الدية اسم لمقدار معلوم من بدل النفس لا يزيد ولا ينقص وقد كانوا قبل ذلك يعرفون مقادير الديات ولم يكونوا يعرفون الفرق بين دية المسلم والكافر فوجب أن تكون الدية المذكورة للكافر هي التي ذكرت للمسلم وأن يكون قوله تعالى فدية مسلمة إلى أهله راجعا إليها كما عقل من دية المسلم أنها المعتاد المتعارف عندهم ولولا أن ذلك كذلك لكان اللفظ مجملا مفتقرا إلى البيان وليس الأمر كذلك
فإن قيل فقوله تعالى فدية مسلمة إلى أهله لا يدل على أنها مثل دية المسلم كما أن دية المرأة على النصف من دية الرجل ولا يخرجها ذلك من أن تكون دية كاملة لها
قيل له هذا غلط من وجهين أحدهما أن الله تعالى إنما ذكر الرجل في الآية فقال ومن قتل مؤمنا خطأ ثم قال وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله فكما اقتضى فيما ذكره للمسلم كمال الدية كذلك دية المعاهد لتساويهما في اللفظ مع وجود التعارف عندهم في مقدار الدية والوجه الآخر أن دية المرأة لا يطلق عليها اسم الدية

وإنما يتناولها الاسم مقيدا ألا ترى أنه يقال دية المرأة نصف الدية وإطلاق اسم الدية إنما يقع على المتعارف المعتاد وهو كمالها
فإن قيل قوله تعالى وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق يحتمل أن يريد به وإن كان المقتول المؤمن من قوم بينكم وبينهم ميثاق فاكتفى بذكر الإيمان للقتيلين الأولين عن إعادته في القتيل
الثالث قيل له هذا غلط من وجوه أحدها أنه قد تقدم في أول الخطاب ذكر القتيل المؤمن خطأ وحكمه وذلك عموم يقتضي سائر المؤمنين إلا ما خصه الدليل فغير جائز إعادة ذكر المؤمن بذلك الحكم في سياق الآية مع شمول أول الآية له ولغيره فعلمنا أنه لم يرد المؤمن ممن كان بيننا وبينهم ميثاق والثاني لما يقيده بذكر الإيمان وجب إجراؤه في الجميع من المؤمنين والكفار من قوم بيننا وبينهم ميثاق وغير جائز تخصيصه بالمؤمنين دون الكافرين بغير دلالة والثالث أن إطلاق القول بأنه من المعاهدين يقتضي أن يكون معاهدا مثلهم ألا ترى أن قول القائل إن هذا الرجل من أهل الذمة يفيد أنه ذمي مثلهم وظاهر قوله تعالى وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق يوجب أن يكون معاهدا مثلهم ألا ترى أنه لما أراد بيان حكم المؤمن إذا كان من ذوي أنساب المشركين قال فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة فقيده بذكر الإيمان لأنه لو أطلقه لكان المفهوم منه كافر مثلهم والرابع أنه لو كان كما قال هذا القائل لما كانت الدية مسلمة إلى أهله لأن أهله كفار لا يرثونه فهذه الوجوه كلها تقتضي المساواة وفساد هذا التأويل
ويدل على صحة قول أصحابنا أيضا ما رواه محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال لما نزلت فإن جاؤك فاحكم بينهم الآية قال كان إذا قتل بنو النضير من بني قريظة قتيلا أدوا نصف الدية وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير أدوا الدية إليهم قال فسوى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
بينهم في الدية قال أبو بكر لما قال أدوا الدية ثم قال سوى بينهم في الدية دل ذلك على أنه راجع إلى الدية المعبودة المبدوء بذكرها لأنه لو كان رد بني النضير إلى نصفها لقال سوى بينهم في نصف الدية ولم يقل سوى بينهم الدية ويدل عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم -
في النفس مائة من الإبل وهو عام في الكافر والمسلم وروى مقسم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم - ودى العامريين وكانا مشركين دية الحرين المسلمين وروى محمد بن عبدوس قال حدثنا علي بن الجعد قال حدثنا أبو بكر قال سمعت نافعا عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه ودى ذميا دية مسلم وهذان الخبران يوجبان

مساواة الكافر للمسلم في الدية لأنه معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم - وداهما بما في الآية في قوله عز و جل وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله فدل على أن المراد من الآية دية المسلم وأيضا لما لم يكن مقدار الدية مبينا في الكتاب كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم -
في ذلك واردا مورد الباين وفعله ص - إذا ورد مورد البيان فهو على الوجوب وروى أبو حنيفة عن الهيثم عن أبي الهيثم أن النبي صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وعثمان قالوا دية المعاهد دية الحر المسلم وروى إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب قال كان أبو بكر وعمر وعثمان يجعلون دية اليهودي والنصراني إذا كانوا معاهدين مثل دية المسلم وروى سعيد بن أبي أيوب قال حدثني يزيد بن أبي حبيب أن جعفر بن عبدالله بن الحكم أخبره أن رفاعة بن السموءل اليهودي قتل بالشام فجعل عمر ديته ألف دينار وروى محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح عن مجاهد عن ابن مسعود قال دية أهل الكتاب مثل دية المسلمين وهو قول علقمة وإبراهيم ومجاهد وعطاء والشعبي وروى الزهري عن سالم عن أبيه أن مسلما قتل كافرا من أهل العقد فقضى عليه عثمان بن عفان بدية المسلم فهذه الأخبار وما ذكرنا من أقاويل السلف مع موافقتها لظاهر الآية توجب مساواة الكافر للمسلم في الديات وقد روي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم ودية المجوسي ثمان مائة قال سعيد وقضى عثمان في دية المعاهد بأربعة آلاف
قال أبو بكر وقد روي عنهما خلاف ذلك وقد ذكرناه واحتج المخالف بما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم - لما دخل مكة عام الفتح قال في خطبته ودية الكافر نصف دية المسلم وبما روى عبدالله بن صالح قال حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - دية المجوس ثمان مائة
قيل له قد علمنا حضور هؤلاء الصحابة الذين ذكرنا عنهم مقدار الدية خطبة النبي صلى الله عليه وسلم -
بمكة فلو كان ذلك ثابتا لعرفه هؤلاء ولما عدلوا عنه إلى غيره وأيضا قد روي عنه ص - أنه قال دية المعاهد مثل دية المسلم وأنه ودى العامريين دية الحرين المسلمين وهذا أولى لما فيه من الزيادة ولو تعارض الخبران لكان ما اقتضاه ظاهر الكتاب وما ورد به النقل المتواتر عن الرسول ص - في أن الدية مائة من الإبل من غير فصل فيه بين المسلم والكافر أولى فوجب تساويهما في الديات وأما حديث عقبة بن عامر في دية المجوسي فإنه حديث واه لا يحتج بمثله لأن ابن

لهيعة ضعيف لا سيما من رواية عبدالله بن صالح عنه
فإن قيل قوله تعالى فدية مسلمة إلى أهله عطفا على ما ذكر في دية المسلم لا يدل على تساوي الديتين كما لو قال من قتل عبدا فعليه قيمته ومن استهلك ثوبا فعليه قيمته لم يدل على تساوي القيمتين
قيل له الفرق بينهما أن الدية اسم لمقدار من المال بدلا من نفس الحر كانت معلومة المقدار عندهم وهي مائة من الإبل فمتى أطلقت كان من مفهوم اللفظ هذا القدر فإطلاق لفظ الدية قد أنبأ عن هذا المعنى وعطفها على الدية المتقدمة مع تساوي اللفظ فيهما بأنها دية مسلمة قد اقتضى ذلك أيضا والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب
باب
المسلم يقيم في دار الحرب فيقتل قبل أن يهاجر إلينا قال الله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة روى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن قال يكون الرجل مؤمنا وقومه كفار فلا دية له ولكن عتق رقبة مؤمنة
قال أبو بكر هذا محمول على الذي يسلم في دار الحرب فيقتل قبل أن يهاجر إلينا لأنه غير جائز أن يكون مراده في مؤمن في دار الإسلام إذا قتل وله أقارب كفار لأنه لا خلاف بين المسلمين أن على قاتله الدية لبيت المال وأن كون أقربائه كفارا لا يوجب سقوط ديته لأنهم بمنزلة الأموات حيث لا يرثونه وروى عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس فإن كان من قوم عدو لكم الآية قال كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم - فيسلم ثم يرجع إلى قومه فيكون فيهم فيصيبه المسلمون خطأ في سرية أو غزاة فيعتق الذي يصيبه رقبة قال أبو بكر إذا اسلم في دار الإسلام لم تسقط ديته برجوعه إلى دار الحرب كسائر المسلمين لأن ما بينه وبين المشركين من القرابة لا تأثير له في إسقاط قيمة دمه كسائر أهل دار الإسلام إذا دخلوا دار الحرب بأمان على القاتل الدية وروي عن ابن عباس وقال قتادة هو المسلم يكون في المشركين فيقتله المؤمن ولا يدري ففيه عتق رقبة وليس فيه دية وهذا على أنه يقتل قبل الهجرة إلى دار الإسلام وروى مغيرة عن إبراهيم فإن كان من قوم عدو لكم قال هو المؤمن يقتل وقومه مشركون ليس بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم -
عهد فعليه تحرير رقبة وإن كان بينهم وبين النبي ص -
عهد أدى ديته إلى قرابته الذين بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم - عهد
قال أبو بكر وهذا لا معنى له من قبل أن أقرباءه لا يرثونه لأنهم كفار

وهو مسلم فكيف يأخذون ديته وإن كان قومه أهل حرب وهو من أهل الإسلام فالدية واجبة لبيت المال كمسلم قتل في الإسلام ولا وارث له
وقد اختلف فقهاء الأمصار فيمن قتل في دار الحرب وهو مؤمن قبل أن يهاجر فقال أبو حنيفة وأبو يوسف في الرواية المشهورة ومحمد في الحربي يسلم فيقتله مسلم مستأمن قبل أن يخرج فلا شيء عليه إلا الكفارة في الخطأ وإن كان مستأمنين دخلا دار الحرب فقتل أحدهما صاحبه فعليه الدية في العمد والخطأ والكفارة في الخطأ خاصة وإن كانا أسيرين فلا شيء على القاتل إلا الكفارة في الخطأ في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد الدية في العمد والخطأ وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف في الحربي يسلم في دار الحرب فيقتله رجل مسلم قبل أن يخرج إلينا أن عليه الدية استحسانا ولو وقع في بئر حفرها أو وقع عليه ميزاب عمله لم يضمن شيئا وهذا خلاف المشهور من قوله وخلاف القياس ايضا
وقال مالك إذا أسلم في دار الحرب فقتل قبل أن يخرج إلينا فعلى قاتله الدية والكفارة إن كان خطأ قال وقوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة إنما كان في صلح النبي صلى الله عليه وسلم -
أهل مكة لأن من لم يهاجر لم يورث لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة قال الله تعالى والذين لم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا فلم يكن لمن يهاجر ورثة يستحقون ميراثه فلم تجب الدية ثم نسخ ذلك بقوله وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله وقال الحسن بن صالح من أقام في أرض العدو وإن انتحل الإسلام وهو يقدر على التحويل إلى المسلمين فأحكامه أحكام المشركين وإذا أسلم الحربي فأقام ببلادهم وهو يقدر على الخروج فليس بمسلم يحكم فيه بما يحكم على أهل الحرب في ماله ونفسه وقال الحسن إذا لحق الرجل بدار الحرب ولم يرتد عن الإسلام فهو مرتد بتركه دار الإسلام
وقال الشافعي إذا قتل المسلم مسلما في دار الحرب في الغارة أو الحرب وهو لا يعلمه مسلما فلا عقل فيه ولا قود وعليه الكفارة وسواء كان المسلم أسيرا أو مستأمنا أو رجلا أسلم هناك وإن علمه مسلما فقتله فعليه القود
قال أبو بكر لا يخلو قوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة من أن يكون المراد به الحربي الذي يسلم فيقتل قبل أن يهاجر على ما قاله أصحابنا او المسلم الذي له قرابات من أهل الحرب لأن قوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم يحتمل المعنيين جميعا بأن يكون من

أهل دار الحرب وبأن يكون ذا نسب من أهل الحرب فلو خلينا والظاهر لأسقطنا دية من قتل في دار الإسلام من المسلمين إذا كان ذا قرابة من أهل الحرب لاقتضاء الظاهر ذلك فلما اتفق المسلمون على أن كونه ذا قرابة من أهل الحرب لا يسقط حكم دمه في إيجاب الدية أو القود إذا قتل في دار الإسلام دل ذلك على أن المراد من كان مسلما من أهل دار الحرب لم يهاجر إلى دار الإسلام فيكون الواجب على قاتله خطأ الكفارة دون الدية لأن الله تعالى إنما أوجب فيه الكفارة ولم يوجب الدية وغير جائز أن يزاد في النص إلا بنص مثله إذ كانت الزيادة في النص توجب النسخ
فإن قيل هلا أوجبت الدية بقوله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله قيل له غير جائز أن يكون هذا المؤمن مرادا بالمؤمن المذكور في أول الآية لأن فيها إيجاب الدية والرقبة فيمتنع أن نعطفه عليه ونشرط كونه من أهل دار الحرب ونوجب فيه الرقبة وهو قد أوجبها بديا مع الدية في ابتداء الخطاب وأيضا فإن قوله فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن استيناف كلام يتقدم له ذكر في الخطاب لأنه لا يجوز أن يقال أعط هذا رجلا وإن كان رجلا فأعطه هذا كلام فاسد لا يتكلم به حكيم ثبت أن هذا المؤمن المعطوف على الأول غير داخل في أول الخطاب
ويدل عليه من جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا هناد بن السري قال حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل عن قيس عن جرير بن عبدالله قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم -
إلى جثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل فبلغ ذلك النبي ص - فأمر لهم بنصف العقل وقال أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا يا رسول الله لم قال لا تراءى ناراهما وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن علي بن شعيب قال حدثنا ابن عائشة قال حدثنا حماد بن سلمة عن الحجاج عن إسماعيل عن قيس عن جرير بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة أو قال لا ذمة له قال ابن عائشة هو الرجل يسلم فيقيم معهم فيغزون فإن اصيب فلا دية له لقوله ص - فقد برئت منه الذمة
وقوله أنا بريء منه يدل على أن لا قيمة لدمه كأهل الحرب الذين لا ذمة لهم ولما أمر لهم بنصف العقل في الحديث الأول كان ذلك على أحد وجهين إما أن يكون الموضع الذي قتل فيه كان مشكوكا في أنه من دار الحرب أو من دار الإسلام أو أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم -
تبرع

به لأنه لو كان جميعه واجبا لما اقتصر على نصفه
وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال حدثنا شيبان قال حدثنا سليمان يعني ابن المغيرة قال حدثنا حميد بن هلال قال أتاني أبو العالية وصاحب لي فانطلقنا حتى أتينا بشر بن عاصم الليثي فقال أبو العالية حدث هذين فقال بشر حدثني عقبة بن مالك الليثي وكان من رهطه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم - سرية فأغارت على قوم فشذ رجل من القوم واتبعه رجل من السرية ومعه السيف شاهره فقال الشاذ إني مسلم فضربه فقتله فنمى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال فيه قولا شديدا فقال القاتل يا رسول الله ما قال إلا تعوذا من القتل فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم -
مرارا تعرف المساءة في وجهه وقال إن الله أبى علي أن أقتل مؤمنا ثلاث مرات قال أبو بكر فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم - بإيمان المقتول ولم يوجب على قاتله الدية لأنه كان حربيا لم يهاجر بعد إسلامه
وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا الحسن بن علي وعثمان بن أبي شيبة قالا حدثنا يعلى بن عبيد عن الأعمش عن أبي ظبيان قال حدثنا أسامة بن زيد قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -
سرية إلى الحرقات فنذروا بنا فهربوا فأدركنا رجلا فلما غشيناه قال لا إله إلا الله فضربناه حتى قتلناه فذكرته النبي صلى الله عليه وسلم - فقال من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة فقلت يا رسول الله إنما قالها مخافة السلاح قال أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة فما زال يقولها حتى وددت أني لم أسلم إلا يومئذ وهذا الحديث ايضا يدل على ما قلنا لأنه لم يوجب عليه شيئا
وهو حجة على الشافعي في إيجابه القود على قاتل المسلم في دار الحرب إذا علم أنه مسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم -
قد أخبر بإسلام هذا الرجل ولم يوجب على أسامة دية ولا قودا وأما قول مالك إن قوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم إنما كان حكما لمن أسلم ولم يهاجر وهو منسوخ بقوله تعالى وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض فإنه دعوى لنسخ حكم ثابت في القرآن بلا دلالة وليس في نسخ التوارث بالهجرة وإثباته بالرحم ما يوجب نسخ هذا الحكم بل هو حكم ثابت بنفسه لا تعلق له بالميراث وعلى أنه في حال ما كان التوارث بالهجرة قد كان من لم يهاجر من القرابات يرث بعضهم بعضا وإنما كانت الهجرة قاطعة للميراث بين المهاجر وبين من لم يهاجر فأما من لم يهاجر فقد كانوا يتوارثون بأسباب أخر فلو كان الأمر على ما قال مالك لوجب أن تكون ديته واجبة لمن لم يهاجر من أقربائه لأنه معلوم أنه

لم يكن ميراث من لم يهاجر مهملا لا مستحق له فلما لم يوجب الله تعالى له دية قبل الهجرة لا للمهاجرين ولا لغيرهم علمنا أنه كان مبقي على حكم الحرب لا قيمة لدمه وقوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم يفيد أنه مالم يهاجر فهو أهل دار الحرب باق على حكمه الأول في أن لا قيمة لدمه وإن كان دمه محظورا إذ كانت النسبة إليهم قد تصح بأن يكون من بلدهم وإن لم يكن بينه وبينهم رحم بعد أن يجمعهم في الوطن بلد أو قرية أو صقع فنسبه الله إليهم بعد الإسلام إذ كان من أهل ديارهم ودل بذلك على أن لا قيمة لدمه وأما قول الحسن بن صالح في أن المسلم إذا لحق بدار الحرب فهو مرتد فإنه خلاف الكتاب والإجماع لأن الله تعالى قال والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا فجعلهم مؤمنين مع إقامتهم في دار الحرب بعد إسلامهم وأوجب علينا نصرتهم بقوله وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ولو كان ما قال صحيحا لوجب أن لا يجوز للتجار دخول دار الحرب بأمان وأن يكونوا بذلك مرتدين وليس هذا قول أحد فإن احتج محتج بما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل وعبدان المروزي قالا حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا حميد بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي إسحاق عن الشعبي عن جرير قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم - يقول إذا ابق العبد إلى المشركين فقد حل دمه فإن هذا محمول عندنا على أنه قد لحق بهم مرتدا عن الإسلام لأن أباق العبد لا يبيح دمه واللحاق بدار الحرب كدخول التاجر إليها بأمان فلا يبيح دمه وأما قول الشافعي في أن من أصاب مسلما في دار الحارب وهو لا يعلمه مسلما فلا شيء عليه وإن علم إسلامه أقيد به فإنه متناقض من قبل أنه إذا ثبت أن لدمه قيمة لم يختلف حكم العمد والخطأ في وجوب بدله في العمد وديته في الخطأ فإذا لم يجب في الخطأ شيء كذلك حكم العمد فيه ولما ثبت بما قدمنا أنه لا قيمة لدم المقيم في دار الحرب بعد إسلامه قبل الهجرة إلينا وكان مبقي على حكم الحرب وإن كان محظور الدم أجروه أصحابنا مجرى الحربي في إسقاط الضمان عن متلف ماله لأن دمه أعظم حرمة من ماله ولا ضمان على متلف نفسه فماله أحرى أن لا يجب فيه ضمان وأن يكون كمال الحربي من هذا الوجه ولذلك أجاز أبو حنيفة مبايعته على سبيل ما يجوز مبايعته الحربي من بيع الدرهم بالدرهمين في دار الحرب وأما الأسير في دار الحرب فإن أبي حنيفة أجراه مجرى الذي أسلم هناك قبل أن يهاجر وذلك لأن

إقامته هناك لا على وجه الأمان وهو مقهور مغلوب فلما استويا من هذا الوجه استوى حكمهما في سقوط الضمان عن قاتلهما والله أعلم
ذكر
أقسام القتل وأحكامه قال أبو بكر القتل ينقسم إلى أربعة أنحاء واجب ومباح ومحظور وما ليس بواجب ولا محظور ولا مباح فأما الواجب فهو قتل أهل الحرب المحاربين لنا قبل أن يصيروا في أيدينا بالأسر أو بالأمان أو العهد وذلك في الرجال منهم دون النساء اللاتي لا يقاتلن ودون الصغار الذين لا يقاتلون المحاربين إذا خرجوا ممتنعين وقتلوا وصاروا في يد الإمام قبل التوبة وقتل أهل البغي إذا قاتلونا وقتل من غير قصد إنسانا محظور الدم بالقتل فعلينا قتله وقتل الساحر والزاني المحصن رجما وكل قتل وجب على وجه الحد فهذه ضروب القتل الواجب وأما المباح فهو القتل الواجب لولي الدم على وجه القود فهو مخير بين القتل والعفو فالقتل ههنا مباح ليس بواجب وكذلك قتل أهل الحرب إذا صاروا في أيدينا فالإمام مخير بين القتل والاستبقاء وكذلك من دخل دار الحرب وأمكنه القتل والأسر فهو مخير بين أن يقتل وبين أن يأسر وأما المحظور فإنه ينقسم إلى أنحاء منها ما يجب فيه القود هو قتل المسلم عمدا في دار الإسلام العاري من الشبهة فعلى القاتل القود في ذلك ومنها ما تجب فيه الدية دون القود وهو قتل شبه العمد وقتل الأب ابنه وقتل الحربي المستأمن والمعاهد وما يدخله الشبهة فيسقط القود وتجب الدية ومنها ما لا يجب فيه شيء وهو قتل المسلم في دار الحرب قبل أن يهاجر وقتل الأسير في دار الحرب من المسلمين على قول أبي حنيفة وقتل المولى لعبده هذه ضروب من القتل محظورة ولا يجب على القاتل فيها شيء غير التعزير وأما ما ليس بواجب ولا مباح ولا محظور فهو قتل المخطئ والساهي والنائم والمجنون والصبي وقد بينا حكمه فيما سلف قوله تعالى وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة قال ابن عباس والشعبي وقتادة والزهري هو الرجل من أهل الذمة يقتل خطأ فتجب على قاتله الدية والكفارة وهو قول أصحابنا وقال إبراهيم والحسن وجابر بن زيد أراد وإن كان المؤمن المقتول من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة وكانوا لا يوجبون الكفارة على قاتل الذمي وهو مذهب مالك وقد بينا فيما سلف أن ظاهر

الآية يقتضي أن يكون المقتول المذكور في الآية كافرا ذا عهد وأنه غير جائز إضمار الإيمان له إلا بدلالة ويدل عليه أنه لما أراد مؤمنا من أهل دار الحرب ذكر الإيمان فقال فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة فوصفه بالإيمان لأنه لو أطلق لاقتضى الإطلاق أن يكون كافرا من قوم عدو لنا ويدل عليه أن الكافر المعاهد تجب على قاتله الدية وذلك مأخوذ من الآية فوجب أن يكون المراد الكافر المعاهد والله أعلم
باب
القتل العمد هل فيه كفارة قال الله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة فنص على إيجاب الكفارة في قتل الخطأ وذكر قتل العمد في قوله تعالى كتب عليكم القصاص في القتلى وقال النفس بالنفس وخصه بالعمد فلما كان كل واحد من القتيلين مذكورا بعينه ومنصوصا على حكمه لم يجز لنا أن نتعدى ما نص الله تعالى علينا فيهما إذ غير جائز قياس المنصوصات بعضها على بعض وهذا قول أصحابنا جميعا
وقال الشافعي على قاتل العمد الكفارة ومع ذلك ففي إثبات الكفارة في العمد زيادة في حكم النص وغير جائز الزيادة في النص إلا بمثل ما يجوز به النسخ وأيضا فغير جائر إثبات الكفارات قياسا وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق وأيضا لما نص الله على حكم كل واحد من القتيلين وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
من أدخل في أمرنا ما ليس منه فهو رد فموجب الكفارة على العامد مدخل في أمره ما ليس منه
فإن قيل لما وجبت الكفارة في الخطأ فهي في العمد أوجب لأنه أغلظ قيل له ليست هذه الكفارة مستحقة بالمأثم فيعتبر عظم المأثم فيها لأن المخطئ غير آثم فاعتبار المأثم فيه ساقط وأيضا قد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم - سجود السهو على الساهي ولا يجب على العامد وإن كان العمد أغلظ فإن احتجوا بحديث ضمرة عن إبراهيم بن أبي عبلة عن العريف بن الديلي عن واثلة بن الأسقع قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم - في صاحب لنا قد أوجب يعني النار بالقتل فقال اعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار قيل له رواه ابن المبارك وهانئ بن عبدالرحمن بن أخي إبراهيم بن أبي عبلة هذا الحديث عن أبي عبلة فلم يذكر أنه أوجب بالقتل وهؤلاء أثبت من ضمرة بن ربيعة ومع ذلك لو ثبت الحديث على ما رواه ضمرة لم يدل على قول المخالف من وجوه أحدها

أنه تأويل من الراوي في قوله أوجب النار بالقتل لأنه قال يعني بالقتل والثاني أنه لو أراد رقبة القتل لذكر رقبة مؤمنة فلما لم يشرط لهم الإيمان فيها دل على أنها ليست من كفارة القتل وأيضا فإنما أمرهم بأن يعتقوا عنه ولا خلاف أنه ليس عليهم عتقها عنه وأيضا فإن عتق الغير عن القاتل لا يجزيه عن الكفارة قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة جعل الله من صفة رقبة القتل الإيمان ولا خلاف أنها لا تجزي إلا بهذه الصفة وهذا يدل على أن عتق الرقبة المؤمنة أفضل من الكافرة لأن هذه الصفة قد صارت شرطا في الفرض وكذلك من نذر أن يعتق رقبة مؤمنة لم تجزه الكافرة لأنه أوجبها مقرونة بصفة هي قربة وفي ذلك دليل على أن الصدقة على المسلمين أفضل منها على الكفار الذميين وإن كانت تطوعا وكذلك جعل الله التتابع في صوم كفارة القتل صفة زائدة ولا خلاف أنه لا يجزي إلا بهذه الصفة مع الإمكان وكذلك قال أصحابنا فيمن أوجب صوم شهر متتابع أنه لا يجزيه التفريق لإيجابه إياه بصفة هي قربة فوجبت حين أوجبها كما وجب المنذور من الصوم قوله تعالى فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين قال أبو بكر لم ختلف الفقهاء أنه إذا صام بالأهلة أنه لا يعتبر فيه النقصان وأنها إن كانت ناقصة أو تامة أجزأته وقال النبي صلى الله عليه وسلم - صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين فأمر باعتبار الشهور بالأهلة وأمر عند عدم الرؤية باعتبار الثلاثين وإن ابتدأ صيام الشهرين من بعض الشهر اعتبر الشهر الثاني بالهلال وبقية الشهر الأول بالعدد تمام ثلاثين وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه لا يعتبر الأهلة إلا أن يكون ابتداء صومه بالهلال وروي نحوه عن الحسن البصري والأول أصح لأنه قد روي في معنى قوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر أنها بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وبقية من ربيع الآخر فاعتبر الكسر بالأيام على التمام وسائر الشهور بالأهلة وقوله فصيام شهرين متتابعين معلوم أنه كلفنا التتابع على حسب الإمكان وفي العادة أن المرأة لا تخلو من حيض في كل شهر ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - لحمنة بنت جحش تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر فأخبر أن عادة النساء حيضة في كل شهر فإذا كان تكليف صوم التتابع على حسب الإمكان وفي العادة أن المرأة لا تخلو من حيض في كل شهر ولذلك قال النبي ص

لحمنة بنت جحش تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر فأخبر أن عادة النساء حيضة في كل شهر فإذا كان تكليف صوم التتابع على حسب الإمكان وكانت المرأة إذا كان عليها صوم شهرين متتابعين لم يكن في وسعها في العادة أن تصوم شهرين لا حيض فيهما سقط حكم أيام الحيض ولم يقطع حكم التتابع وصارت أيام الحيض بمنزلة الليل الذي لا يقطع التتابع وهو قول الشافعي وروى عن إبراهيم أنها تستقبل وقال أصحابنا إذا مرض في الشهرين فأفطر استقبل وقال مالك يصل ويجزيه وفرقوا بين الحيض والمرض لأنه يمكنه في العادة صيام شهرين متتابعين بلا مرض ولا يمكنها ذلك بلا حيض ووجه آخر وهو أن حدوث المرض لا يوجب الإفطار بفعله والحيض ينافي الصوم لا يفعلها فأشبه الليل ولم يقطع التتابع
قوله تعالى توبة من الله قيل فيه إن معناه اعملوا بما أوجبه الله للتوبة من الله أي ليقبل الله توبتكم فيما اقترفتموه من ذنوبكم وقيل إنه خاص في سبب القتل فأمر بالتوبة منه وقيل معناه توسعة ورحمة من الله كما قال فتاب عليكم وعفا عنكم والمعنى وسع عليكم وسهل عليكم
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام الآية روي أن سبب نزول هذه الآية أن سرية النبي صلى الله عليه وسلم -
لقيت رجلا ومعه غنيمات له فقال السلام عليكم لا إله إلا الله محمد رسول الله فقتله رجل من القوم فلما رجعوا أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال لم قتلته وقد أسلم فقال إنما قالها متعوذا من القتل فقال هلا شققت عن قلبه وحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم - ديته إلى أهله ورد عليهم غنيماته قال ابن عمر وعبدالله بن أبي حدرد القاتل محلم بن جثامة قتل عامر بن الأضبط الأشجعي وروي أن القاتل مات بعد أيام فلما دفن لفظته الأرض ثلاث مرات فقال النبي صلى الله عليه وسلم - إن الأرض لتقبل من هو شر منه ولكن الله أراد أن يريكم عظم الدم عنده ثم أمر أن يلقى عليه الحجارة وهذه القصة مشهورة لمحلم بن جثامة وقد ذكرنا حديث اسامة بن زيد أنه قتل في سرية رجل قال لا إله إلا الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم - قتلته بعد ما قال لا إله إلا الله فقال إنما قالها تعوذا فقال هلا شققت عن قلبه من لك بلا إله إلا الله وذكرنا أيضا حديث عقبة بن مالك الليثي في هذا المعنى وأن الرجل قال إني مسلم فقتله فأنكره النبي صلى الله عليه وسلم - وقال إن الله أبى علي أن أقتل مؤمنا
وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا

الليث عن ابن شهاب عن عطاء بن زيد الليثي عن عبيدالله بن عدي بن الخيار عن المقداد بن الأسود أنه أخبره أنه قال يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت لله أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
لا تقتله فقلت يا رسول الله قطع يدي قال لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها
وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا ابو النضر هاشم بن القاسم قال حدثنا المسعودي عن أبي مجلز عن أبي عبيدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا شرع أحدكم الرمح إلى الرجل فإن كان سنانه عند ثغرة نحره فقال لا إله إلا الله فليرجع منه الرمح وقال أبو عبيدة جعل الله تعالى هذه الكلمة أمنة المسلم وعصمه ماله ودمه وجعل الجزية أمنة الكافر وعصمة ماله ودمه وهو نظير ما روي في آثار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وفي بعضها وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم - فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله رواه عمر وجرير بن عبدالله وابن عمر وأنس بن مالك وأبو هريرة وقالوا لأبي بكر الصديق حين أراد قتل العرب لما امتنعوا من أداء الزكاة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم فقال أبو بكر إلا بحقها وهذا من حقها فاتفقت الصحابة على صحة هذا الخبر وهو معنى قوله تعالى ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا فحكم الله تعالى بصحة إيمان من أظهر الإسلام وأمرنا بإجرائه على أحكام المسلمين وإن كان في المغيب على خلافه وهذا مما يحتج به في قبول توبة الزنديق متى أظهر الإسلام لأن الله تعالى لم يفرق بين الزنديق وغيره إذا أظهر الإسلام وهو يوجب أن من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله أو قال إني مسلم أنه يحكم له بحكم الإسلام لأن قوله تعالى لمن ألقى إليكم السلم إنما معناه لمن استسلم فأظهر الانقياد لما دعي إليه من الإسلام وإذا قرئ السلام فهو إظهار تحية الإسلام وقد كان ذلك علما لمن أظهر به الدخول في الإسلام وقال النبي صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي قتل الرجل الذي أسلمت والذي قال لا إله إلا الله قتلته بعد ما أسلم فحكم له بالإسلام بإظهار هذا القول وقال محمد بن الحسن في كتاب السير الكبير لو أن يهوديا أو نصرانيا قال أنا مسلم لم يكن بهذا القول مسلما لأن كلهم

يقولون نحن مسلمون ونحن مؤمنون ويقولون إن ديننا هو الإيمان وهو الإسلام فليس في هذا دليل على الإسلام منهم وقال محمد ولو أن رجلا من المسلمين حمل على رجل من المشركين ليقتله فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله كان هذا مسلما وإن رجع عن هذا ضرب عنقه لأن هذا هو الدليل على الإسلام قال أبو بكر لم يجعل اليهودي مسلما بقوله أنا مسلم أو مؤمن لأنهم كذلك يقولون ويقولون الإيمان والإسلام هو ما نحن عليه فليس في هذا القول دليل على إسلامه وليس اليهودي والنصراني بمنزلة المشركين الذين كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم - لأنهم كانوا عبدة أوثان فكان إقرارهم بالتوحيد وقول القائل منهم إني مسلم وإني مؤمن تركا لما كان عليه ودخولا في الإسلام فكان يقتصر منه على هذا القول لأنه كان لا يسمح به إلا وقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم - وآمن به ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم وإنما أراد المشركين بهذا القول دون اليهود لأن اليهود قد كانوا يقولون لا إله إلا الله وكذلك النصارى يطلقون ذلك وإن ناقضوا بعد ذلك في التفصيل فيثبتونه ثلاثة فعلمنا أن قول لا إله إلا الله إنما كان علما لإسلام مشركي العرب لأنهم كانوا لا يعترفون بذلك إلا استجابة لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم - وتصديقا له فيما دعاهم إليه ألا ترى إلى قوله تعالى إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون واليهود والنصارى يوافقون المسلمين على إطلاق هذه الكلمة وإنما يخالفون في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم -
فمتى أظهر منهم مظهر الإيمان بالنبي ص - فهو مسلم
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة في اليهودي والنصراني إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولم يقل إني داخل في الإسلام ولا بريء من اليهودية ولا من النصرانية لم يكن بذلك مسلما وأحسب إني قد رأيت عن محمد مثل هذا لأن الذي ذكره محمد في السير الكبير خلاف ما رواه الحسن بن زياد ووجه ما رواه الحسن بن زياد أن من هؤلاء من يقول إن محمدا رسول الله ولكنه رسول إليكم ومنهم من يقول إن محمدا رسول الله لكنه لم يبعث بعد وسيبعث فلما كان فيهم من يقول ذلك في حال إقامته على اليهودية أو النصرانية لم يكن في إظهاره لذلك ما يدل على إسلامه حتى يقول إني داخل الإسلام أو يقول إني بريء من اليهودية أو النصرانية فقوله عز و جل ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا

لو خلينا وظاهره لم يدل على ان فاعل ذلك محكوم له بالإسلام لأنه جائز أن يكون المراد أن لا تنفوا عنه الإسلام ولا تثبتوه ولكن تثبتوا في ذلك حتى تعلموا منه معنى ما أراد بذلك ألا ترى أنه قال إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا فالذي يقتضيه ظاهر اللفظ الأمر بالتثبت والنهي عن نفي سمة الإيمان عنه وليس في النهي عن نفي سمة الإيمان عنه إثبات الإيمان والحكم به ألا ترى أنا متى شككنا في إيمان رجلا لا نعرف حاله لم يجز لنا أن نحكم بإيمانه ولا بكفره ولكن نتثبت حتى نعلم حاله وكذلك لو أخبرنا مخبر بخبر لا نعلم صدقه من كذبه لم يجز لنا أن نكذبه ولا يكون تركنا لتكذيبه تصديقا منا له كذلك ما وصفنا من مقتضى الآية ليس فيه إثبات إيمان ولا كفر وإنما فيه الأمر بالتثبت حتى نتبين حاله إلا أن الآثار التي قد ذكرنا قد أوجبت له الحكم بالإيمان لقوله ص - أقتلت مسلما وقتلته بعد ما أسلم وقوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها فأثبت لهم حكم الإسلام بإظهار كلمة التوحيد وكذلك قوله في حديث عقبة بن مالك الليثي إن الله تعالى أبى علي أن أقتل مؤمنا فجعله مؤمنا بإظهار هذه الكلمة وروي أن الآية نزلت في مثل ذلك فدل ذلك على أن مراد الآية إثبات الإيمان له في الحكم بإظهار هذه الكلمة وقد كان المنافقون يعصمون دماءهم وأموالهم بإظهار هذه الكلمة مع علم الله تعالى باعتقادهم الكفر وعلم النبي صلى الله عليه وسلم - بنفاق كثير منهم فدل ذلك على أن قوله ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا قد اقتضى الحكم لقائله بالإسلام قوله تعالى تبتغون عرض الحياة الدنيا يعني به الغنيمة وإنما سمى متاع الدنيا عرضا لقلة بقائه على ما روي في الرجل الذي قتل الذي أظهر الإسلام وأخذ ما معه قوله تعالى وإذا ضربتم في سبيل الله يعني به السير فيها وقوله تعالى فتثبتوا قرئ بالتاء والنون وقيل إن الاختيار التبين لأن التثبت إنما هو للتبين والتثبت إنما هو سبب له وقوله تعالى كذلك كنتم من قبل قال الحسن كفارا مثلهم وقال سعيد بن جبير كنتم مستخفين بدينكم بين قومكم كما استخفوا
وقوله تعالى فمن الله عليكم يعني بإسلامكم كقوله تعالى بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان وقيل فمن الله عليكم بإعزازكم حتى أظهرتم دينكم
قوله تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر الآية يعني به تفضيل

المجاهدين على القاعدين والحض على الجهاد ببيان ما للمجاهدين من منزلة الثواب التي ليست للقاعدين عن الجهاد ودل به على أن شرف الجزاء على قدر شرف العمل فذكر بديا أنهما غير متساويين ثم بين التفضيل بقوله فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وقد قرئ غير بالرفع والنصب فالرفع على أنها نعت للقاعدين والنصب على الحال ويقال إن الاختيار فيها الرفع لأن الصفة أغلب على غير من معنى الاستثناء وإن كان كلاهما جائز أو الفرق بين غير إذا كانت صفة وبينها إذا كانت استثناء أنها في الاستثناء توجب إخراج بعض من كل نحو جاءني القوم غير زيد وليست كذلك في الصفة لأنك تقول جاءني رجل غير زيد فغير ههنا صفة وفي الأول استثناء وإن كانت في الحالين مخصصة على حد النفي
وقوله تعالى وكلا وعد الله الحسنى يعني والله أعلم المجاهدين والقاعدين من المؤمنين وهذا دليل على ان فرض الجهاد على الكفاية وليس على كل أحد بعينه لأنه وعد القاعدين الحسنى كما وعد المجاهدين وإن كان ثواب المجاهدين أشرف وأجزل ولو لم يكن القعود عن الجهاد مباحا إذا قامت به طائفة لما وعد القاعدين الثواب وفي ذلك دليل على ما ذكرنا أن فرض الجهاد غير معين على كل أحد في نفسه
وقوله تعالى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ذكر ههنا درجات منه وذكر في أول الآية درجة فإنه روي عن ابن جريج أن الأول على أهل الضرر فضلوا عليهم درجة واحدة والثاني على غير أهل الضرر فضلوا عليهم درجات كثيرة وأجرا عظيما وقيل إن الأول على الجهاد بالنفس ففضلوا درجة واحدة والآخر الجهاد بالنفس والمال ففضلوا درجات كثيرة وقيل إنه أراد بالأول درجة المدح والتعظيم وشرف الدين وأراد بالآخر درجات الجنة
فإن قيل هل في الآية دلالة على مساواة أولي الضرر للمجاهدين في سبيل الله من أجل معنى الاستثناء فيها قيل له لا دلالة فيها على التساوي لأن الاستثناء ورد من حيث كان مخرج الآية تحريضا على الجهاد وحثا عليه فاستثنى أولي الضرر إذ ليسوا مأمورين بالجهاد لا من حيث ألحقوا بالمجاهدين قوله عز و جل إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم الآية قيل فيه تقبض أرواحهم عند الموت وقال الحسن تحشرهم إلى النار وقيل إنها نزلت في قوم من المنافقين كانوا يظهرون الإيمان للمؤمنين خوفا وإذا رجعوا إلى قومهم أظهروا لهم الكفر ولا

يهاجرون إلى المدينة فبين الله تعالى بما ذكر أنهم ظالمون لأنفسهم بنفاقهم وكفرهم وبتركهم الهجرة وهذا يدل على فرض الهجرة في ذلك الوقت لولا ذلك لما ذمهم على تركها ويدل أيضا على أن الكفار مكلفون بشرائع الإسلام معاقبون على تركها لأن الله قد ذم هؤلاء المنافقين على ترك الهجرة وهذا نظير قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى فذمهم على ترك اتباع سبيل المؤمنين كما ذمهم على ترك الإيمان ودل بذلك على صحة حجة الإجماع لأنه لولا أن ذلك لازم لما ذمهم على تركه ولما قرنه إلى مشاقة رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وهذا يدل على النهي عن المقام بين أظهر المشركين لقوله تعالى ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها وهذا يدل على الخروج من أرض الشرك إلى أي أرض كانت من أرض الإسلام وروي عن ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي إن الآية نزلت في قوم من أهل مكة تخلفوا عن الهجرة وأعطوا المشركين المحبة وقتل قوم منهم ببدر على ظاهر الردة ثم استثنى منهم الذين أقعدهم الضعف بقوله إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطعيون حيلة ولا يهتدون سبيلا يعني طريقا إلى المدينة دار الهجرة وقوله تعالى فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم قال الحسن عسى من الله واجبة وقيل إنها بمنزلة الوعد لأنه لا يخبر بذلك عن شك وقيل إنما هذا على شك العباد أي كونوا أنتم على الرجاء والطمع قوله تعالى ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة قيل في المراغم أنه أراد متسعا لهجرته لأن الرغم أصله الذل تقول فعلت ذلك على الرغم من فلان أي فعلته على الذل والكره والرغام التراب لأنه يتيسر لمن رامه مع احتقاره وأرغم الله أنفه أي ألصقه بالتراب إذلالا له فقال تعالى ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة أي يجد في الأرض متسعا سهلا كما قال تعالى هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور فمراغم وذلول متقاربان في المعنى وقيل في المراغم إنه ما يرغم به من كان يمنعه من الهجرة وأما قوله تعالى وسعة فإنه روي عن ابن عباس والربيع بن أنس والضحاك أنه السعة في الرزق وروي عن قتادة أنه السعة في إظهار الدين لما كان يلحقهم من تضييق المشركين عليهم في أمر دينهم حتى يمنعوهم من إظهاره وقوله عز و جل ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت

فقد وقع أجره على الله فيه إخبار بوجوب أجر من هاجر إلى الله ورسوله وإن لم تتم هجرته وهذا يدل على أن من خرج متوجها لفعل شيء من القرب إن الله يجازيه بقدر نيته وسعيه وإن اقتطع دونه كما أوجب الله أجر من خرج مهاجرا وإن لم تتم هجرته وفيه ما يدل على صحة قول أبي يوسف ومحمد فيمن خرج يريد الحج ثم مات في بعض الطريق وأوصى أن يحج عنه من الموضع الذي مات فيه وكذلك الحاج عن الميت أو عمن ليس عليه فرض الحج بنفسه أنه يحج عنه من حيث مات الذي قصد للحج لأن الله قد كتب له من الخروج والنفقة فلما كان ذلك محتبسا للأول كان الذي وجب أن يقضي عنه ما بقي وفيه الدلالة على أن من قال إن خرجت من دار إلا إلى الصلاة أو إلى الحج فعبدي حر فخرج يريد الصلاة أو الحج ثم لم يصل ولم يحج وتوجه إلى حاجة أخرى أنه لا يحنث في يمينه لأن خروجه بديا كما كان للصلاة أو للحج لمقارنة النية له كما كان خروج من خرج مهاجرا قربة وهجرة لمقارنة النبية واقتطاع الموت له عن الوصول إلى دار الهجرة لم يبطل حكم الخروج على الوجه الذي وجد بديا عليه ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه فأخبر أن أحكام الأفعال متعلقة بالنيات فإذا كان خروجه على نية الهجرة كان مهاجرا وإذا كان على نية الغزو كان غازيا واستدل قوم بهذه الآية على أن الغازي إذا مات في الطريق وجب سهمه من الغنيمة لورثته وهذه الآية لا تدل على ما قالوا لأن كونها غنيمة متعلق بحيازتها إذ لا تكون غنيمة إلا بعد الحيازة وقال الله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه فمن مات قبل أن يغنم فهو لم يغنم شيئا فلا سهم له وقوله تعالى فقد وقع أجره على الله لا دلالة فيه على وجوب سهمه لأنه لا خلاف أنه لو خرج غازيا من بيته فمات في دار الإسلام قبل أن يدخل دار الحرب أنه لا سهم له وقد وجب أجره على الله كما وجب أجر الذي خرج مهاجرا ومات قبل بلوغه دار هجرته والله أعلم
باب
صلاة السفر قال الله تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فأباح الله تعالى القصر المذكور في هذه الآية بمعنيين

أحدهما السفر وهو الضرب في الأرض والآخر الخوف واختلف السلف في معنى القصر المذكور فيها ما هو فروي عن ابن عباس قال فرض الله تعالى صلاة الحضر أربعا وصلاة السفر ركعتين والخوف ركعة على لسان نبيكم ص - وروى يزيد الفقير عن جابر قال صلاة الخوف ركعة ركعة وروى مجاهد أنه قصر العدد من أربع إلى ثنتين وروى ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه قال قال قصرها في الخوف والقتال الصلاة في كل حال راكبا وماشيا فأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم - وصلاة الناس في السفر ركعتين فليس بقصر وروي عن ابن عباس رواية أخرى غير ما قدمنا في القصر وهي أنه قال إنما هو قصر حدود الصلاة وأن تكبر وتخفض رأسك وتومي إيماء قال ابو بكر وأولى المعاني وأشبهها بظاهر الآية ما روي عن ابن عباس وطاوس في أنه قصر في صفة الصلاة بترك الركوع والسجود إلى الإيماء وترك القيام إلى الركوب وجائز أن يسمى المشي في الصلاة قصرا إذ كان مثله في غير الخوف يفسدها وما روي عن ابن عباس وجابر في أن صلاة الخوف ركعة فمحمول على أن الذي يصليه المأموم مع الإمام ركعة لأنه يجعل الناس طائفتين فيصلي بها بالتي معه ركعة ثم يمضون إلى تجاه العدو ثم تأتي الطائفة الثانية فيصلي بها ركعة ويسلم بتلك فيصير لكل طائفة من المأمومين ركعة ركعة مع الإمام ثم يقضون ركعة ركعة فيكون ما روي عن ابن عباس في أنه قصر في صفة الصلاة غير مخالف لقوله إن صلاة الخوف ركعة لأن الآثار قد تواترت في فعل النبي صلى الله عليه وسلم - لصلاة الخوف مع اختلافها وكلها موجبة للركعتين وليس في شيء منها أنه صلاها ركعة إلا أنها طائفة ركعة مع الإمام والقضاء لركعة دون الاقتصار على واحدة ولو كانت صلاة الخوف ركعة واحدة لما اختلف حكم النبي صلى الله عليه وسلم - وحكم المأمومين فيها فلما نقل ابن عباس وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم -
صلى ركعتين علمنا أن أن فرض صلاة الخائف كفرض غيره وأن ما روي من أنه كان للقوم ركعة ركعة على معنى أنها كانت ركعة ركعة مع النبي صلى الله عليه وسلم - وأنهم قضوا ركعة ركعة على ما روي في سائر الأخبار والدليل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في صفة الصلاة أو المشي والاختلاف فيها على النحو الذي قدمنا ذكره دون أعداد ركعاتها وأن مذهب ابن عباس في القصر ما وصفنا دون نقصان عدد الركعات ما روى مجاهد أن رجلا جاء إلى ابن عباس فقال إني وصاحب لي خرجنا في سفر فكنت

أتم وكان صاحبي يقصر فقال ابن عباس أنت الذي تقصر وصاحبك الذي كان يتم فأخبر ابن عباس أن القصر ليس في عدد الركعات وأن الركعتين في السفر ليستا بقصر ويدل على ذلك ما روى سفيان عن زبير اليامي عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن عمر قال صلاة السفر ركعتان وصلاة الفطر والأضحى ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم ص -
وقد دخل في ذلك صلاة الخوف في السفر لأنه ذكر جميع هذه الصلوات وأخبر أنها تمام غير قصر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم - فثبت بذلك أن القصر المذكور في الآية هو على ما وصفنا دون أعداد ركعات الصلاة فإن قيل روي عن يعلى بن أمية أنه قال قلت لعمر بن الخطاب كيف تقصر وقد أمنا وقال الله تعالى فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فقال عجبت مما عجبت منه فسألت النبي صلى الله عليه وسلم - فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته فهذا يدل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات وأن ذلك كان مفهوما عندهم من معنى الآية قيل له ما كان اللفظ محتملا للمعنيين من أعداد ركعات الصلاة ومن صفتها على الوجه الذي بينا لم يمتنع أن يكون قد سبق في وهم عمر ويعلى بن أمية ما ذكر وأن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم - عن القصر في حال الأمن لا على أنه ذكر للنبي ص -
أن قصر الآية هو في العدد فأجابه بما وصف ولكنه جائز أن يكون قال النبي ص - كيف نقصر وقد أمنا من غير أن ذكر له تأويل الآية لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قد كان يقصر في مغازيه ثم قصر في الحج في حال الأمن وزوال القتال فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته يعني إن الله قد أسقط عنكم في السفر فرض الركعتين في حال الخوف والأمن جميعا وقد روى عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - في صلاة السفر أنها تمام غير قصر فجائز أن يكون ظن بديا أن قصر الخوف هو في عدد الركعات فلما سمعه يقول صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر علم أن قصر الآية إنما هو في صفة الصلاة لا في عدد الركعات وإذا صح بما وصفنا أن المراد بالقصر ما ذكرنا لم تكن في الآية دلالة على فرض المسافر ولا على أنه مخير بين الإتمام والقصر إذ لا ذكر له في الآية
وقد اختلف الفقهاء في فرض المسافر فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد فرض المسافر ركعتان إلا صلاة المغرب فإنها ثلاث فإن صلى المسافر أربعا ولم يقعد في الإثنتين فسدت صلاته وإن قعد فيهما مقدار التشهد تمت صلاته بمنزلة من صلى الفجر أربعا بتسليمة وهو قول

الثوري وقال حماد بن أبي سليمان إذا صلى أربعا أعاد وقال الحسن بن صالح إذا صلى أربعا متعمدا أعاد إذا كان ذلك منه الشيء اليسير فإذا طال في سفره وكثر لم يعد قال وإذا افتتح الصلاة على أن يصلي أربعا استقبل الصلاة حتى يبتدئها بالنية على ركعتين وتشهد ثم بدأ له أن يتم فصلى أربعا أعاد وإن نوى أن يصلي أربعا بعد ما افتتح الصلاة على ركعتين ثم بدا له فسلم في الركعتين أجزته وقال مالك إذا صلى المسافر أربعا فإنه يعيد ما دام في الوقت فإذا مضى الوقت فلا إعادة عليه قال ولو أن مسافرا افتتح المكتوبة ينوي أربعا فلما صلى ركعتين بدا له فسلم أنه لا يجزيه ولو صلى المسافر بمسافرين فقام في الركعتين فسبحوا به فلم يرجع فإنهم يقعدون ويتشهدون ولا يتبعونه وقال الأوزاعي يصلي المسافر ركعتين فإن قام إلى الثالثة وصلاها فإنه يلغيها ويسجد سجدتي السهو وقال الشافعي ليس للمسافر أن يصلي ركعتين إلا أن ينوي القصر مع الإحرام فإذا أحرم ولم ينو القصر كان على أصل فرضه أربعا
قال أبو بكر قد بينا أنه ليس في الآية حكم القصر في أعداد الركعات ولم يختلف الناس في قصر النبي صلى الله عليه وسلم -
في أسفاره كلها في حال الأمن والخوف فثبت أن فرض المسافر ركعتان بفعل النبي صلى الله عليه وسلم - وبيانه لمراد الله تعالى قال عمر بن الخطاب سألت النبي صلى الله عليه وسلم - عن القصر في حال الأمن فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته وصدقة الله علينا هي إسقاطه عنا فدل ذلك على أن الفرض ركعتان وقوله فاقبلوا صدقته يوجب ذلك لأن الأمر للوجوب فإذا كنا مأمورين بالقصر فالإتمام منهي عنه وقال عمر بن الخطاب صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم فأخبر ان الفرض ركعتان وأنه ليس بقصر بل هو تمام كما ذكر صلاة الفجر والجمعة والأضحى والفطر وعزا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فصار ذلك بمنزلة قول النبي صلى الله عليه وسلم -
صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر وذلك ينفي التخيير بين القصر والإتمام وروي عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسافرا صلى ركعتين حتى يرجع وروى علي بن زيد عن أبي نضرة عن عمران بن حصين قال حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم - فكان يصلي ركعتين حتى يرجع إلى المدينة وأقام بمكة ثماني عشرة لا يصلي إلا ركعتين وقال لأهل مكة صلوا أربعا فإنا قوم سفر وقال ابن عمر صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم - في السفر فلم يزد على ركعتين وصحبت أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في السفر فلم يزيدوا على ركعتين حتى قبضهم الله تعالى وقد قال الله تعالى لقد

كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وروى بقية بن الوليد قال حدثنا أبان بن عبدالله عن خالد بن عثمان عن أنس بن مالك عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال صلاة المسافر ركعتان حتى يؤب إلى أهله أو يموت وقال عبدالله بن مسعود صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين وقال مورق العجلي سئل ابن عمر عن الصلاة في السفر فقال ركعتين ركعتين من خالف السنة كفر فهذه أخبار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم - والصحابة في فعل الركعتين في السفر لا زيادة عليهما وفي ذلك الدلالة من وجهين على أنهما فرض المسافر أحدهما أن فرض الصلاة مجمل في الكتاب مفتقر إلى البيان وفعل النبي صلى الله عليه وسلم - إذا ورد على وجه البيان فهو كبيانه بالقول يقتضي الإيجاب وفي فعله صلاة السفر ركعتين بيان منه أن ذلك مراد الله كفعله لصلاة الفجر وصلاة الجمعة وسائر الصلوات والوجه الثاني لو كان مراد الله الإتمام أو القصر على ما يختاره المسافر لما جاز للنبي ص -
أن يقتصر بالبيان على أحد الوجهين دون الآخر وكان بيانه للإتمام في وزن بيانه للقصر فلما ورد البيان إلينا من النبي صلى الله عليه وسلم - في القصر دون الإتمام دل ذلك على أنه مراد الله دون غيره ألا ترى أنه لما كان مراد الله في رخصة المسافر في الإفطار أحد شيئين من إفطار أو صوم ورد البيان من النبي صلى الله عليه وسلم -
تارة بالإفطار وتارة بالصوم وأيضا لما صلى عثمان بمنى أربعا أنكرت عليه الصحابة ذلك فقال عبدالله بن مسعود صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم - ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين ثم تفرقت بكم الطرق فلوددت أن حظي من أربع ركعتان متقبلتان وقال ابن عمر صلاة السفر ركعتان من خالف السنة كفر وقال عثمان أنا إنما أتممت لأني تأهلت بهذا البلد وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم - يقول من تأهل بللد فهو من أهله فلم يخالفهم عثمان في منع الإتمام وإنما اعتذر بأنه قد تأهل بمكة فصار من أهلها وكذلك قولنا في أهل مكة أنهم لا يقصرون وقال ابن عباس فرض الله تعالى الصلاة في السفر ركعتين وفي الحضر أربعا وقالت عائشة أول ما فرضت الصلاة ركعتان ركعتان ثم زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر على ما كانت عليه فأخبرت أن فرض المسافر في الأصل ركعتان وفرض المقيم أربع كفرض صلاة الفجر وصلاة الظهر فغير جائز الزيادة عليها كما لا تجوز الزيادة على سائر الصلوات ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على أن للمسافر ترك الأخريين

لا إلى بدل ومتى فعلهما فإنما يفعلهما على وجه الابتداء فدل على أنهما نفل لأن هذه صورة النفل وهو أن يكون مخيرا بين فعله وتركه وإذا تركه تركه لا إلى بدل
واحتج من خيره بين القصر والإتمام بما روي عن عائشة قالت قصر رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وأتم وهذا صحيح ومعناه أنه قصر في الفعل وأتم في الحكم كقول عمر صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم ص -
واحتج أيضا من قال بالتخيير أنه لو دخل في صلاة مقيم لزمه الإتمام فدل على أنه مخير في الأصل وهذا فاسد لأن الدخول في صلاة الإمام يغير الفرض ألا ترى أن المرأة والعبد فرضهما يوم الجمعة أربع ولو دخلا في الجمعة صليا ركعتين ولم يدل ذلك على أنهما مخيران قبل الدخول بين الأربع والركعتين وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في مواضع من كتبنا
واختلفوا أيضا في المسافر يدخل في صلاة المقيم فقال أصحابنا والشافعي والأوزاعي يصلي صلاة مقيم وإن أدركه في التشهد وهو قول الثوري وقال مالك إذا لم يدرك معه ركعة صلى ركعتين والذي يدل على القول الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم -
ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا وفي بعض الألفاظ وما فاتكم فاقضوا فأمر النبي صلى الله عليه وسلم - بقضاء الفائت من صلاة الإمام والذي فاته أربع ركعات فعليه قضاؤها وأيضا قد صح له الدخول في آخر صلاته ويلزمه سهوه وانتفى عنه سهو نفسه لأجل إمامه كذلك لزمه حكم صلاته في الإتمام وأيضا لو نوى المسافر الإقامة في هذه الحال لزمه الإتمام كذلك دخوله مع الإمام ويكون دخوله معه في التشهد كدخوله في أولها كما كانت نية الإقامة في التشهد كهي في أولها والله أعلم
فصل قال أبو بكر وجميع ما قدمنا في قصر الصلاة للمسافر يدل على أن صلاة سائر المسافرين ركعتان في أي شيء كان سفرهم من تجارة أو غيرها وذلك لأن الآثار المروية فيه لم تفرق بين شيء من الأسفار وقد روى الأعمش عن إبراهيم أن رجلا كان يتجر إلى الحرين فقال للنبي ص - كم أصلي فقال ركعتين وعن ابن عباس وابن عمر أنهما خرجا إلى الطائف فقصر الصلاة وروي عن عبدالله بن مسعود قال لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد وعن عطاء قال لا أرى أن يقصر الصلاة إلا من كان في سبيل الله
فإن قيل لم يقصر النبي صلى الله عليه وسلم - إلا في حج أو جهاد قيل له لأنه لم يسافر إلا في حج أو جهاد وليس في ذلك دليل على أن القصر مخصوص بالحج والجهاد وقول عمر صلاة السفر ركعتان على

لسان نبيكم عموم في سائر الأسفار وقول النبي صلى الله عليه وسلم - صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته عام أيضا في سائر الأسفار وكذلك قوله لأهل مكة أتموا فإنا قوم سفر ولم يقل في حج دليل على أن حكم القصر عام في جميع المسافرين ولما كان ذلك حكما متعلقا بالسفر وجب أن لا يختلف حكم الأسفار فيه كالمسح على الخفين ثلاثا ومن يتأول قوله تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة على عدد الركعات يحتج بعمومه في جميع الأسفار إذا كان خائفا من العدو ثم إذا ثبت ذلك في صلاة الخوف إذا كان سفره في غير جهة القربة وجب مثله في سائر الأسفار لأن أحدا لم يفرق بينهما وقد بينا أن القصر ليس هو في عدد الركعات والذي ذكرناه في القصر في جميع الأسفار بعد أن يكون السفر ثلاثا هو قول أصحابنا والثوري والأوزاعي وقال مالك إن خرج إلى الصيد وهو معاشه قصر وإن خرج متلذذا لم أستحب له أن يقصر وقال الشافعي إذا سافر في معصية لم يقصر ولم يمسح مسح السفر قال أبو بكر قد بينا أن ذلك في شأن المضطر في سورة البقرة وقد اختلف في الملاح هل يقصر في السفينة فقال أصحابنا يقصر إذا كان في سفر حتى يصير إلى قريته فيتم وهوقول مالك والشافعي وقال الأوزاعي إذا كان فيها أهله وقراره يقصر إذا أكراها حتى ينتهي إلى أكراها فإذا انتهى أتم الصلاة وقال الحسن بن صالح إذا كانت السفينة بيته وليس له منزل غيرها فهو فيها بمنزلة المقيم يتم
قال أبو بكر كون الملاح مالكا للسفينة لا يخرجه من حكم السفر كالجمال مالك للجمال التي ينتقل بها من موضع إلى موضع فلا يخرجه ذلك من حكم السفر وقد بينا الكلام في مدة السفر في سورة البقرة عند أحكام الصوم وشرط أصحابنا فيه ثلاثة أيام ولياليها وهو قول الثوري والحسن بن صالح وقال مالك ثمانية وأربعون ميلا فإن لم تكن فيها أميال فمسيرة يوم وليلة للقفل وهو قول الليث وقال الأوزاعي يوم تام وقال الشافعي ستة وأربعون ميلا بالهاشمي وروي عن ابن عمر ثلاثة أيام وروي عن ابن عباس يوم وليلة واختلفوا في المدة التي يتم فيها الصلاة فقال أصحابنا والثوري إذا نوى إقامة خمسة عشر يوما أتم وإن كان أقل قصر وقال مالك والليث والشافعي إذا نوى إقامة أربع أتم وقال الأوزاعي إذا نوى إقامة ثلاثة عشر يوما أتم وإن نوى أقل قصر وقال الحسن بن صالح إن مر المسافر بمصره الذي فيه أهله وهو منطلق ماض في سفره قصر فيه الصلاة مالم

يقم به عشرا أو إن أقام به عشرا أو بغيره أتم الصلاة
قال أبو بكر وروي عن ابن عباس وجابر أن النبي صلى الله عليه وسلم - قدم مكة صبحية الرابعة من ذي الحجة فكان مقامه إلى وقت خروجه أكثر من أربع وكان يقصر الصلاة فلدل على سقوط اعتبار الأربع وأيضا روى أبو حنيفة عن عمر بن ذر عن مجاهد عن ابن عباس وابن عمر قالا إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم بها خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة بها وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصرها ولم يرو عن أحد من السلف خلاف ذلك فثبتت حجته فإن قيل روى الخراساني عن سعيد بن المسيب قال من أجمع على أربع وهو مسافر أتم الصلاة قيل له روى هشيم عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب قال إذا أقام المسافر خمسة عشر يوما وليلة أتم الصلاة وما كان من دون ذلك فليقصر وإن جعلنا الروايتين متعارضتين سقطتا وصار كأنه لم يرو عنه شيء ولو ثبتت الرواية عنه من غير معارضة لما جاز أن يكون خلافا على ابن عباس وابن عمر وأيضا مدة الإقامة والسفر لا سبيل إلى إثباتها من طريق المقاييس وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق وقد حصل الاتفاق في خمسة عشر يوما وما دونها مختلف فيه فيثبت الخمسة عشر أنها إقامة صحيحة ولم يثبت ما دونها وكذلك السلف قد اتفقوا على الثلاث أنها سفر صحيح يتعلق بها حكم القصر والإفطار واختلفوا فيما دونها فلم يثبت والله أعلم
باب صلاة الخوف
قال الله تعالى وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك الآية قال أبو بكر قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف على ضروب مختلفة واختلف فقهاء الأمصار فيها فقال أبو حنيفة ومحمد تقوم طائفة مع الإمام وطائفة بإزاء العدو فيصلي بهم ركعة وسجدتين ثم ينصرفون إلى مقام أصحابهم ثم تأتي الطائفة الأخرى التي بإزاء العدو فيصلي بهم ركعة وسجدتين ويسلم وينصرفون إلى مقام أصحابهم ثم تأتي الطائفة التي بإزاء العدو فيقضون ركعة بغير قراءة وتشهدوا ويسلموا ويذهبوا إلى وجه العدو ثم تأتي الطائفة الأخرى فيقضون ركعة وسجدتين بقراءة وقال ابن أبي ليلى إذا كان العدو بينهم وبين القبلة جعل الناس طائفتين فيكبر ويكبرون ويركع ويركعون جميعا معه وسجد الإمام والصف الأول ويقوم الصف الآخر في وجوه العدو فإذا قاموا من السجود

سجد الصف المؤخر فإذا فرغوا من سجودهم قاموا وتقدم الصف المؤخر 2وتأخر الصف المقدم فيصلي بهم الإمام الركعة الأخرى كذلك وإن كان العدو في دبر القبلة قام الإمام ومعه صف مستقبل القبلة والصف الآخر مستقبل العدو فيكبر ويكبرون جميعا ويركع ويركعون جميعا ثم يسجد الصف الذي مع الإمام سجدتين ثم ينقلبون فيكونون مستقبلي العدو ثم يجيء الآخرون ويصلي بهم الإمام جميعا الركعة الثانية فيركعون جميعا ويسجد الصف الذي معه ثم ينلقبون إلى وجه العدو ويجيء الآخرون فيسجدون معه ويفرغون ثم يسلم الإمام وهم جميعا
قال أبو بكر وروي عن أبي يوسف في صلاة الخوف ثلاث روايات إحداها مثل قول أبي حنيفة ومحمد والأخرى مثل قول ابن أبي ليلى إذا كان العدو في القبلة وإذا كان في غير القبلة فمثل قول أبي حنيفة والثالثة أنه لا تصلى بعد النبي صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف بإمام واحد وإنما تصلى بإمامين كسائر الصلوات وروي عن سفيان الثوري مثل قول أبي حنيفة وروي أيضا مثل قول ابن ابي ليلى وقال إن فعلت كذلك جاز وقال مالك يتقدم الإمام بطائفة وطائفة بإزاء العدو فيصلي بهم ركعة وسجدتين ويقوم قائما وتتم الطائفة التي معه لأنفسها ركعة أخرى ثم يتشهدون ويسلمون ثم يذهبون إلى مكان الطائفة التي لم تصل فيقومون مكانهم وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعة وسجدتين ثم يتشهدون ويسلم ويقومون فيتمون لأنفسهم الركعة التي بقيت قال ابن القاسم كان مالك يقول لا يسلم الإمام حتى تتم الطائفة الثانية لأنفسها ثم يسلم بهم لحديث يزيد بن رومان ثم رجع إلى حديث القاسم وفيه إن الإمام يسلم ثم تقوم الطائفة الثانية فيقضون وقال الشافعي مثل قول مالك إلا أنه قال الإمام لا يسلم حتى تتم الطائفة الثانية لأنفسها ثم يسلم بهم وقال الحسن بن صالح مثل قول أبي حنيفة إلا أنه قال الطائفة الثانية إذا صلت مع الإمام وسلم الإمام قضت لأنفسها الركعة التي لم يصلوها مع الإمام ثم تنصرف وتجيء الطائفة الأولى فتقضي بقية صلاتها قال أبو بكر أشد هذه الأقاويل موافقة لظاهر الآية قول أبي حنيفة ومحمد ذلك لأنه تعالى قال وإذا كنت

فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وفي ضمن ذلك أن طائفة منهم بإزاء العدو لأنه قال وليأخذوا أسلحتهم وجائز أن يكون مراده الطائفة التي بإزاء العدو وجائز أن يريد به الطائفة المصلية والأولى الطائفة التي بإزاء العدو لأنها تحرس هذه المصلية وقد عقل من ذلك أنهم لا يكونون جميعا مع الإمام لأنهم لو كانوا مع الإمام لما كانت طائفة منهم قائمة مع النبي صلى الله عليه وسلم -
بل يكونون جميعا معه وذلك خلاف الآية ثم قال تعالى فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم وعلى مذهب مالك يقضون لأنفسهم ولا يكونون من ورائهم إلا بعد القضاء وفي هذه الآية الأمر لهم بأن يكونوا بعد السجود من ورائهم وذلك موافق لقولنا
ثم قال ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك فدل ذلك على معنيين أحدهما أن الإمام يجعلهم طائفتين في الأصل طائفة معه وطائفة بإزاء العدو على ما قال أبو حنيفة لأنه قال ولتأت طائفة أخرى ونون مذهب مخالفنا هي مع الإمام لا تأتيه والثاني قوله لم يصلوا فليصلوا معك وذلك يقتضي نفي كل جزء من الصلاة ومخالفنا يقول يفتتح الجميع الصلاة مع الإمام فيكون على حينئذ بعد الافتتاح فاعلين لشيء من الصلاة وذلك خلاف الآية بهذه الوجوه التي ذكرنا من معنى الآية موافقة لمذهب أبي حنيفة ومحمد وقولنا موافق للسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم -
وللأصول وذلك لأن النبي ص - قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا وقال إني امرؤ قد بدنت فلا تبادروني بالركوع ولا بالسجود ومن مذهب المخالف أن الطائفة الأولى تقضي صلاتها وتخرج منها قبل الإمام وفي الأصول أن المأموم مأمور بمتابعة الإمام لا يجوز له الخروج منها قبله وأيضا جائز أن يلحق الإمام سهو وسهوه يلزم المأموم ولا يمكن الخارجين من صلاته قبل فراغه أن يسجدوا ويخالف هذا القول الأصول من جهة أخرى وهي اشتغال المأموم بقضاء صلاته والإمام قائم أو جالس تارك لأفعال الصلاة فيحصل به مخالفة الإمام في الفعل وترك الإمام لأفعال الصلاة لأجل المأموم وذلك ينافي معنى الافتداء والائتمام ومنع الإمام من الاشتغال بالصلاة لأجل المأموم فهذان وجهان أيضا خارجان من الأصول فإن قيل جائز أن تكون صلاة الخوف مخصوصة بجواز انصراف الطائفة الأولى قبل الإمام كما جاز المشي فيها قيل له المشي له نظير في الأصول وهو الراكب المنهزم يصلي وهو سائر

بالاتفاق فكان لما ذكرنا أصل متفق عليه فجاز أن لا تفسد صلاة الخوف وأيضا قد ثبت عندنا أن الذي سبقه الحدث في الصلاة ينصرف ويتوضأ ويبني قد ردت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
روي عن ابن عباس وعائشة أن النبي ص - قال من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبن على ما مضى من صلاته والرجل يركع ويمشي إلى الصف فلا تبطل صلاته وركع أبو بكر حين دخل المسجد ومشى إلى الصف فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم - قال له زادك الله حرصا ولا تعد ولم يأمره باستيناف الصلاة فكان للمشي في الصلاة نظائر في الأصول وليس للخروج من الصلاة قبل فراغ الإمام نظير فلم يجز فعله وأيضا فإن المشي فيها اتفاق بيننا وبين مالك والشافعي ولما قامت به الدلالة سلمناه لها وما عدا ذلك فواجب حمله على موافقة الأصول حتى تقوم الدلالة على جواز خروجه عنها ومما يدل من جهة السنة على ما وصفنا ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - صلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو ثم انصرفوا وقاموا في مقام أولئك وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أخرى ثم سلم عليهم ثم قام هؤلاء فقضوا ركعتهم وقام هؤلاء فقضوا ركعتهم قال أبو داود كذلك رواه نافع وخالد بن معدان عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم -
وقال أبو داود وكذلك قول مسروق ويوسف بن مهران عن ابن عباس وكذلك روى يونس عن الحسن عن أبي موسى أنه فعله
وقول ابن عمر فقضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة على أنهم قضوا على وجه يجوز القضاء وهو أن ترجع الثانية إلى مقام الأولى وجاءت الأولى فقضت ركعة وسلمت ثم جاءت الثانية فقضت ركعة وسلمت
وقد بين ذلك في حديث خصيف عن أبي عبيدة عن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - صلى في حرة بني سليم صلاة الخوف قام فاستقبل القبلة وكان العدو في غير القبلة فصف معه صفا وأخذ صف السلاح واستقبلوا العدو فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم - والصف الذي معه ثم ركع وركع الصف الذي معه ثم تحول الصف الذين صفوا مع النبي صلى الله عليه وسلم -
فأخذوا السلاح وتحول الآخرون فقاموا مع النبي ص - فركع النبي صلى الله عليه وسلم -
وركعوا وسجد وسجدوا ثم سلم النبي ص - فذهب الذين صلوا معه وجاء الآخرون فقضوا ركعة فلما فرغوا أخذوا السلاح وتحول الآخرون وصلوا ركعة فكان للنبي ص -
ركعتان

وللقوم ركعة ركعة فبين في هذا الحديث انصراف الطائفة الثانية قبل قضاء الركعة الأولى وهو معنى ما أجمله ابن عمر في حديثه وقد روي في حديث عبدالله بن مسعود من رواية ابن فضل عن خصيف عن أبي عبيدة عن عبدالله أن الطائفة الثانية قضت ركعة لأنفسها قبل قضاء الطائفة الأولى الركعة التي بقيت عليها والصحيح ما ذكرناه أولا لأن الطائفة الأولى قد أدركت أول الصلاةوالثانية لم تدرك فغير جائز للثانية الخروج من صلاتها قبل الأولى ولأنه لما كان من حكم الطائفة الأولى أن تصلي الركعتين في مقامين فكذلك حكم الثانية أن تقضيهما في مقامين لا في مقام واحد لأن سبيل صلاة الخوف أن تكون مقسومة بين الطائفتين على التعديل بينهما فيها واحتج مالك بحديث رواه عن زيد بن رومان عن صالح بن خوات مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم -
وذكر فيه أن الطائفة الأولى صلت الركعة الثانية قبل أن يصليها رسول الله ص - وهذا لم يروه أحد إلا يزيد بن رومان وقد خولف فيه فروى شعبة عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - صلى بهم صلاة الخوف فصف صفا خلفه وصف مصاف العدو فصلى بهم ركعة ثم ذهب هؤلاء وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ثم قاموا فقضوا ركعة ركعة ففي هذا الحديث أن الطائفة الأولى لم تقض الركعة الثانية إلا بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم - من صلاته وهذا أولى لما قدمناه من دلائل الأصول عليه وقد روى يحيى بن سعيد عن القاسم عن صالح مثل رواية يزيد بن رومان وفي حديث مالك عن يزيد بن رومان أن تلك الصلاة إنما كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم -
بذات الرقاع وقد روى يحيى بن كثير عن أبي سلمة عن جابر قال كنا مع رسول الله ص - بذات الرقاع فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
بطائفة منهم ركعتين ثم انصرفوا وجاء الآخرون فصلى بهم ركعتين فصلى رسول الله ص - أربعا وكل طائفة ركعتين وهذا يدل على اضطراب حديث يزيد بن رومان وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
صلاة الخوف على وجوه أخر فاتفق ابن مسعود وابن عمر وجابر وحذيفة وزيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم - صلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهون العدو ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعة وإن أحدا منهم لم يقض بقية صلاته قبل فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وروى صالح بن خوات على ما قد اختلف عنه فيه مما قدمنا ذكره وروى أبو عياش الزرقي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخوف نحو

المذهب الذي حكيناه عن ابن أبي ليلى وأبي يوسف إذا كان العدو في القبلة وروى أيوب وهشام عن أبي الزبير عن جابر هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم - وكذلك رواه داود بن حصين عن عكرمة عن ابن عباس وكذلك عبدالملك عن عطاء عن جابر وكذلك قتادة عن الحسن عن حطان عن أبي موسى من فعله ورواه عكرمة بن خالد عن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم - وكذلك هشام بن عروة عن النبي صلى الله عليه وسلم -
وقد روي عن ابن عباس وجابر ما قدمنا ذكره قبل هذا واختلفت الرواية عنهما فيها
وروي فيها نوع آخر وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الحسن بن علي قال حدثنا أبو عبدالرحمن المقري قال حدثنا حياة بن شريح وابن لهيعة قالا أخبرنا أبو الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عن مروان بن الحكم أنه سأل أبا هريرة هل صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -
صلاة الخوف فقال ابو هريرة نعم قال مروان متى فقال أبو هريرة عام غزوةنجد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلى صلاة العصر فقامت معه طائفة وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فكبروا جميعا الذين معه والذين مقابلي العدو ثم ركع رسول الله ص - ركعة واحدة وركعت الطائفة التي معه ثم سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فسجدت الطائفة التي تليه والآخرون قيام مقابلي العدو ثم قام رسول الله ص - وقامت الطائفة التي معه فذهبوا إلى العدو فقابلوهم وأقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم -
قائم كما هو ثم قاموا فركع رسول الله ص - ركعة أخرى وركعوا معه وسجد وسجدوا معه ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم -
قاعد ومن معه ثم كان السلام فسلم رسول الله ص - وسلموا جميعا فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم -
ركعتان ولكل رجل من الطائفتين ركعة ركعة وقد روي عنه ص - نوع آخر من صلاة الخوف وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبيدالله بن معاذ قال حدثنا أبي قال حدثنا الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو فصلى ركعتين ثم سلم فانطلق الذين صلوا فوقفوا موقف أصحابهم ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ثم سلم فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم -
أربعا ولأصحابه ركعتين ركعتين وبذلك كان يفتي الحسن قال أبو داود وكذلك يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم - وكذلك رواه سليمان

اليشكري عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال أبو بكر وقد قدمنا قبل ذلك أن ابن عباس وجابرا رويا عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه صلى بكل طائفة ركعة ركعة فكان لرسول الله ص - ركعتان ولكل طائفة ركعة وأن هذا محمول عندنا على أنه كان ركعة في جماعة وفعلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فذهب ابن أبي ليلى وأبو يوسف إذا كان العدو في القبلة إلى حديث أبي عياش الزرقي الذي ذكرناه وجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - قد صلى هذه الصلوات على الوجوه التي وردت به الروايات وذلك لأنها لم تكن صلاة واحدة فتتضاد الروايات فيها وتتنافى بل كانت صلوات في مواضع مختلفة بعسفان في حديث أبي عياش الزرقي وفي حديث جابر ببطن النخل ومنها حديث أبي هريرة في غزوة نجد وذكر فيه أن الصلاة كانت بذات الرقاع وصلاها في حرة بني سليم ويشبه أن يكون قد صلى في بعض هذه المواضع عدة صلوات لأن في بعض حديث جابر الذي يقول فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم - صلى بكل طائفة ركعتين ذكر أنه كان بذات الرقاع وفي حديث صالح بن خوات أيضا أنه صلاها بذات الرقاع وهما مختلفان كل واحد منهما ذكر فيه من صفة صلاته خلاف صفة الأخرى وكذلك حديث أبي عياش الزرقي ذكر أنه صلاها بعسفان وذكر ابن عباس أيضا أنه صلاها بعسفان فروى تارة نحو حديث أبي عياش وتارة على خلافه واختلاف هذه الآثار تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم - قد صلى هذه الصلوات على اختلافها على حسب ورود الروايات بها وعلى ما رآه النبي احتياطا في الوقت من كيد العدو وما هو أقرب إلى الحذر والتحرز على ما أمر الله تعالى به من أخذ الحذر في قوله وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولذلك كان الاجتهاد سائغا في جميع أقاويل الفقهاء على اختلافها لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - فيها إلا أن الأولى عندنا ما وافق ظاهر الكتاب والأصول وجائز أن يكون الثابت الحكم منها واحدا والباقي منسوخ وجائز أن يكون الجميع ثابتا غير منسوخ توسعة وترفيها لئلا يحرج من ذهب إلى بعضها ويكون الكلام في الأفضل منها كاختلاف الروايات في الترجيع في الأذان وفي تثنية الإقامة وتكبيرات العيدين والتشريق ونحو ذلك مما الكلام فيه بين الفقهاء في الأفضل فمن ذهب إلى وجه منها فغير معنف عليه في اختياره وكان الأولى عندنا ما وافق ظاهر الآية والأصول وفي حديث جابر وأبي بكرة

أن النبي صلى الله عليه وسلم -
صلى بكل طائفة ركعتين فجائز أن يكون النبي ص - قد كان مقيما حين صلاها كذلك ويكون قولهما أنه سلم في الركعتين المراد به تسليم التشهد وذلك لأن ظاهر الكتاب ينفيه على الوجه الذي يقتضيه ظاهر الخبر لأن الله تعالى قال فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم وظاهر الخبر يوجب أن يكونوا مصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم -
بعد السجود على الحال التي كانوا عليها قبله فإن قيل كيف يكون مقيما في البادية وهي ذات الرقاع وليست موضع إقامة ولا هي بالقرب من المدينة
قيل له جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - خرج من المدينة لم ينو سفر ثلاث وإنما نوى في كل موضع يبلغ إليه سفر يومين فيكون مقيما عندنا إذ لم ينشئ سفر ثلاث وإن كان في البادية ويحتمل أن يكون فعلها في الوقت الذي يعاد الفرض فيه وذلك منسوخ عندنا وعلى أنه لو كان كذلك لم يكن صلاة خوف وإنما هي صلاة على هيئة سائر الصلوات ولا خلاف أن صلاة الخوف مخالفة لسائر الصلوات المفعولة في حال الأمن
وأما القول الذي روي عن أبي يوسف في أنه لا تصلى بعد النبي صلى الله عليه وسلم -
صلاة الخوف وأنه ينبغي أن تصلى عند الخوف بإمامين فإنه ذهب فيه إلى ظاهر قول الله تعالى وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فخص هذه الصلاة بكون النبي صلى الله عليه وسلم - فيهم وأباح لهم فعلها معه على هذا الوجه ليدركوا فضيلة الصلاة خلفه التي مثلها لا يوجد في الصلاة خلف غيره فغير جائز بعده لأحد أن يصليها إلا بإمامين لأن فضيلة الصلاة خلف الثاني كهي خلف الأول فلا يحتاج إلى مشي واختلاف واستدبار القبلة مما هو مناف للصلاة
قال أبو بكر فأما تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم -
بالخطاب بها بقوله وإذا كنت فيهم فليس بموجب بالاقتصار عليه بهذا الحكم دون غيره لأن الذي قال وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة هو الذي قال فاتبعوه فإذا وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم -
قد فعل فعلا فعلينا اتباعه فيه على الوجه الذي فعله ألا ترى أن قوله خذ من أموالهم صدقة تطهرهم لم يوجب كون النبي صلى الله عليه وسلم -
مخصوصا به دون غيره من الأئمة بعده وكذلك قوله إذا جاءك المؤمنات يبايعنك وكذلك قوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله وقوله فإن جاؤك فاحكم بينهم فيه تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم -
بالمخاطبة والأئمة بعده مرادون بالحكم معه وأما إدراك فضيلة الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم - فليس يجوز أن يكون علة لإباحة المشي في الصلاة واستدبار القبلة والأفعال التي تركها

من فروض الصلاة لأنه لما كان معلوما أن فعل الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم - لم يكن فرضا فغير جائز أن يكونوا أمروا بترك الفرض لأجل إدراك الفصل فلما كان هذا على ما وصفنا بطل اعتلاله بذلك وصح أن فعل صلاة الخوف على الوجه الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - جائز بعده كما جاز معه وقد روى جماعة من الصحابة جواز فعل صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم - منهم ابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو موسى وحذيفة وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن سمرة في آخرين منهم من غير خلاف يحكى عن أحد منهم ومثله يكون إجماعا لا يسع خلافه والله أعلم
باب الاختلاف في صلاة المغرب
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والحسن بن صالح والأوزاعي والشافعي يصلي بالطائفة الأولى ركعتين وبالطائفة الثانية ركعة إلا أن مالكا والشافعي يقولان يقوم الإمام قائما حتى يتموا لأنفسهم ثم يصلي بالطائفة الثانية ركعة أخرى ثم يسلم الإمام وتقوم الطائفة الثانية فيقضون ركعتين وقال الشافعي إن شاء الإمام ثبت جالسا حتى تتم الطائفة الأولى لأنفسهم وإن شاء كان قائما ويسلم الإمام بعد فراغ الطائفة الثانية وقال الثوري يقوم صف خلفه وصف موازي العدو فيصلي بهم ركعة ثم يذهبون إلى مقام أولئك ويجيء هؤلاء فيصلي بهم ركعة ويجلسون فإذا قام ذهب هؤلاء إلى مصاف أولئك وجاء أولئك فركعوا وسجدوا والإمام قائم لأن قراءة الإمام لهم قراءة وجلسوا ثم قاموا يصلون مع الإمام الركعة الثالثة فإذا جلسوا وسلم الإمام ذهبوا إلى مصاف أولئك وجاء الآخرون فصلوا ركعتين وذهب في ذلك إلى أن عليه التعديل بين الطائفتين في الصلاة فيصلي بكل واحدة ركعة وقد ترك هذا المعنى حين جعل للطائفة الأولى أن يصلي مع الإمام الركعة الأولى والثالثة والطائفة الثانية إنما صلت الركعة الثانية معه وقال الثوري إنه إذا كان مقيما فصلى بهم الظهر أنه يصلي بالطائفة الأولى ركعتين وبالثانية ركعتين فلم يقسم الصلاة بينهم على أن يصلي كل طائفة منهم معه ركعة على حيالها ومذهب الثوري هذا مخالف للأصول من وجه آخر وذلك أنه أمر الإمام أن يقوم قائما حتى تفرغ الطائفة الأولى من الركعة الثانية وذلك خلاف الأصول على ما بينا فيما سلف من مذهب مالك والشافعي والله أعلم بالصواب

ذكر
اختلاف الفقهاء في الصلاة في حال القتال قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر لا يصلى في حال القتال فإن قاتل في الصلاة فسدت صلاته وقال مالك والثوري يصلي إيماء إذا لم يقدر على الركوع والسجود وقال الحسن بن صالح إذا لم يقدر على الركوع من القتال كبر بدل كل ركعة تكبيرة وقال الشافعي لا بأس بأن يضرب في الصلاة الضربة ويطعن الطعنة فإن تابع الطعن والضرب أو عمل عملا يطول بطلت صلاته قال أبو بكر الدليل على أن القتال يبطل الصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قد صلى صلاة الخوف في مواضع على ما قدمنا ذكره ولم يصل يوم الخندق أربع صلوات حتى كان هوى من الليل ثم قال ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى ثم قضاهن على الترتيب فأخبر أن القتال شغله عن الصلاة ولو كانت الصلاة جائزة في حال القتال لما تركها كما لم يتركها في حال الخوف في غير قتال وقد كانت الصلاة مفروضة في حال الخوف قبل الخندق لأن النبي صلى الله عليه وسلم - صلى بذات الرقاع صلاة الخوف وقد ذكر محمد بن إسحاق والواقدي أن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق فثبت بذلك أن القتال ينافي الصلاة وأن الصلاة لا تصح معه وأيضا فلما كان القتال فعلا ينافي الصلاة لا تصح معه في غير الخوف كان حكمه في الخوف كهو في غيره مثل الحدث والكلام والأكل والشرب وسائر الأفعال المنافية للصلاة وإنما أبيح له المشي فيها لأن المشي لا ينافي الصلاة في كل حال على ما بيناه فيما سلف ولأنهم متفقون على أن المشي لا يفسدها فسلمناه للإجماع وما عداه من الأفعال المنافية للصلاة فهو محمول على أصله وقوله تعالى فلقتم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم يحتمل أن يكون المأمورون بأخذ السلاح الطائفة التي مع الإمام ويحتمل أن تكون الطائفة التي بإزاء العدو لأن في الآية ضميرا للطائفة التي بإزاء العدو وضميرها ظاهر في نسق الآية في قوله ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك ومن وجه آخر يدل على ما ذكرنا وهو أنه أمر الطائفة المصلية مع الإمام بأخذ السلاح ولم يقل فليأخذوا حذرهم لأن في وجه العدو طائفة غير مصلية حامية لها قد كفت هذه أخذ الحذر ثم قال تعالى ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم وفي ذلك دليل من وجهين على أن

قوله فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم إنما أريد به الطائفة التي مع الإمام أحدهما أنه لما ذكر الطائفة الثانية قال وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ولو كانوا مأمورين بأخذ السلاح بديا لاكتفى بذكرها بديا لهم والوجه الثاني قوله وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم فجمع لهم بين الأمرين من أخذ الحذر والسلاح جميعا لأن الطائفة الأولى قد صارت بإزاء العدو وهي في الصلاة وذلك أولى بطمع العدو فيهم إذ قد صارت الطائفتان جميعا في الصلاة فدل ذلك على أن قوله وليأخذوا أسلحتهم إنما أريد به الطائفة الأولى وهذا أيضا يدل على أن الطائفة التي تقف بإزاء العدو بديا غير داخلة في الصلاة وأنها إنما تدخل في الصلاة بعد مجيئها في الركعة الثانية ولذلك أمرت بأخذ الحذر والسلاح جميعا لأن الطائفة التي في وجه العدو في الصلاة فيشتد طمع العدو فيها لعلمهم باشتغالها بالصلاة ألا ترى أن خالد بن الوليد قال لأصحابه بعسفان بعد ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم -
الظهر دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم فإذا صلوها حملنا عليهم فصلى النبي صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف ولذلك أمرهم الله بأخذ الحذر والسلاح جميعا والله أعلم ولما جاز أخذ السلاح في الصلاة وعمل ذلك فيها دل على أن العمل اليسير معفو عنه فيها قوله تعالى ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة إخبار عما كان عزم عليه المشركون من الإيقاع بالمسلمين إذا اشتغلوا بالصلاة فأطلع الله نبيه ص -
عليه وأمر المسلمين بأخذ الحذر منهم قوله تعالى ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم فيه إباحة وضع السلاح لما فيه من المشقة في حال المرض والوحل والطين وسوى الله تعالى بين أذى المطر والمرض ورخص فيهما جميعا في وضع السلاح وهذا يدل على أن من كان في وحل وطين فجائز له أن يصلي بالإيماء كما يجوز ذلك له في حال المرض إذا لم يمكنه الركوع والسجود إذ كان الله تعالى قد سوى بين أذى المطر والمرض فيما وصفنا وأمر مع ذلك بأخذ الحذر من العدو وأن لا يغفلوا عنه فيكون سلاحهم بالقرب منهم بحيث يمكنهم أخذه إن حمل عليهم العدو قوله تعالى فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما

وقعودا وعلى جنوبكم قال أبو بكر أطلق الله تعالى الذكر في غير هذا الموضع وأراد به الصلاة في قوله الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم يروى أن عبدالله بن مسعود رأى الناس يصيحون في المسجد فقال ما هذا النكر قالوا أليس الله يقول الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم فقال إنما يعني بهذه الصلاة المكتوبة إن لم تستطع قائما فقاعدا وإن لم تستطع فصل على جنبك وروي عن الحسن الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم هذه رخصة من الله للمريض أن يصلي قاعدا وإن لم يستطع فعلى جنبه فهذا الذكر المراد به نفس الصلاة لأن الصلاة ذكر الله تعالى وفيها أيضا أذكار مسنونة ومفروضة وأما الذكر الذي في قوله تعالى فإذا قضيتم الصلاة فليس هو الصلاة ولكنه على أحد وجهين أما الذكر بالقلب وهو الفكر في عظمة الله وجلاله وقدرته وفيما في خلقه وصنعه من الدلائل عليه وعلى حكمه وجميل صنعه والذكر الثاني الذكر باللسان بالتعظيم والتسبيح والتقديس وروي عن ابن عباس قال لم يعذر أحد في ترك الذكر إلا مغلوبا على عقله والذكر الأول أشرفهما وأعلاهما منزلة والدليل على أنه لم يرد بهذا الذكر الصلاة أنه أمر به بعد الفراغ منها بقوله تعالى فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم وقوله تعالى فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين فإنه روي عن الحسن ومجاهد وقتادة فإذا رجعتم إلى الوطن في دار الإقامة فأتموا الصلاة من غير قصر وقال السدي وغيره فعليكم أن تتموا ركوعها وسجودها غير مشاة ولا ركبان قال أبو بكر من تأول القصر المذكور في قوله تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة على إتمام الركعات عند زوال الخوف والسفر ومن تأوله على صفة الصلاة من فعلها بالإيماء أو على إباحة المشي فيها جعل قوله تعالى فأقيموا الصلاة أمرا بفعل الصلاة المعهودة على الهيئة المفعولة قبل الخوف والله أعلم
باب
مواقيت الصلاة قال الله تعالى إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا روي عن عبدالله بن مسعود أنه قال إن للصلاة وقتا كوقت الحج وعن ابن عباس ومجاهد وعطية مفروضا وروي عن ابن مسعود أيضا أنه قال موقوتا منجما كلما مضى نجم جاء نجم آخر وعن

زيد بن أسلم مثل ذلك قال أبو بكر قد انتظم ذلك إيجاب الفرض ومواقيته لأن قوله تعالى كتابا معناه فرضا وقوله موقوتا معناه أنه مفروض في أوقات معلومة معينة فأجمل ذكر الأوقات في هذه الآية وبينها في مواضع أخر من الكتاب من غير ذكر تحديد أوائلها وأواخرها وبين على لسان الرسول ص -
تحديدها ومقاديرها فمما ذكر الله في الكتاب من أوقات الصلاة قوله أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر ذكر مجاهد عن ابن عباس لدلوك الشمس قال إذا زالت الشمس عن بطن السماء لصلاة الظهر إلى غسق الليل قال بدو الليل لصلاة المغرب وكذلك روي عن ابن عمر في دلوكها أنه زوالها وروى أبو وائل عن عبدالله بن مسعود قال إن دلوكها غروبها وعن أبي عبدالرحمن السلمي نحوه قال أبوبكر لما تأولوا الآية على المعنيين من الزوال ومن الغروب دل على احتمالها لولا ذلك لما تأوله السلف عليهما والدلوك في اللغة الميل فدلوك الشمس ميلها وقد تميل تارة للزوال وتارة للغروب وقد علمنا أن دلوكها هو أول الوقت وغسق الليل نهايته وغايته لأنه قال إلى غسق الليل وإلى غاية ومعلوم أن وقت الظهر لا يتصل بغسق الليل لأن بينهما وقت العصر فالأظهر أن يكون المراد بالدلوك ههنا هو الغروب وغسق الليل ههنا هو اجتماع الظلمة لأن وقت المغرب يتصل بغسق الليل ويكون نهاية له واحتمال الزوال مع ذلك قائم لأن ما بين زوال الشمس إلى غسق الليل وقت هذه الصلاة وهي الظهر والعصر والمغرب فيفيد ذلك أن من وقت الزوال إلى غسق الليل لا ينفك من أن يكون وقتا لصلاة فيدخل فيه الظهر والعصر والمغرب ويحتمل أن يراد به العتمة أيضا لأن الغاية قد تدخل في الحكم كقوله تعالى وأيديكم إلى المرافق والمرافق داخلة فيها وقوله حتى تغتسلوا والغسل داخل في شرط الإباحة فإن حمل المعنى على الزوال انتظم أربع صلوات ثم قال وقرآن الفجر وهو صلاة الفجر فتنتظم الآية الصلوات الخمس وهذا معنى ظاهر قد دل عليه إفراده صلاة الفجر بالذكر إذ كان بينها وبين صلاة الظهر وقت ليس من أوقات الصلاة المفروضة فأبان تعالى أن من وقت الزوال إلى وقت العتمة وقتا لصلوات مفعولة فيه وأفرد الفجر بالذكر إذ كان بينها وبين الظهر فاصلة وقت ليس من أوقات الصلاة فهذه الآية يحتمل أن يريد بها بيان وقت صلاتين إذا كان المراد بالدلوك الغروب وهو وقت المغرب والفجر بقوله تعالى وقرآن

الفجر ويحتمل أن يريد بها الصلوات الخمس على الوجه الذي بينا ويحتمل أن يريد بها الظهر والمغرب والفجر وذلك لأنه جائز أن يريد بقوله إلى غسق الليل أقم الصلاة مع غسق الليل كقوله تعالى ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ومعناه مع أموالكم ويكون غسق الليل حينئذ وقتا لصلاة المغرب ويجوز أن يريد به وقت صلاة العتمة وقد روى ليث عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان يقول دلوك الشمس حين تزول إلى غسق الليل حين تجب الشمس قال وقال ابن مسعود دلوك الشمس حين تجب إلى غسق الليل حين يغيب الشفق وعن عبدالله أيضا أنه لما غربت الشمس قال هذا غسق الليل وعن أبي هريرة غسق الليل غيبوبة الشمس وقال الحسن غسق الليل صلاة المغرب والعشاء وقال إبراهيم النخعي غسق الليل العشاء الآخرة وعن أبي جعفر غسق الليل انتصافه وروى مالك عن داود بن الحصين قال أخبرني مخبر عن ابن عباس أنه كان يقول غسق الليل اجتماع الليل وظلمته فهذه الآية فيها احتمال للوجوه التي ذكرنا من مواقيت الصلوات وقال تعالى وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل روى عمرو عن الحسن في قوله تعالى طرفي النهار قال صلاة الفجر والأخرى الظهر والعصر وزلفا من الليل قال المغرب والعشاء فعلى هذا القول قد انتظمت الآية الصلوات الخمس وروى يونس عن الحسن أقم الصلاة طرفي النهار قال الفجر والعصر
وروى ليث عن الحكم عن أبي عياض قال قال ابن عباس جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة فسبحان الله حين تمسون المغرب والعشاء وحين تصبحون الفجر وعشيا العصر وحين تظهرون الظهر وعن الحسن مثله وروى أبو رزين عن ابن عباس وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب قال الصلاة المكتوبة وقال وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى وهذه الآية منتظمة لأوقات الصلوات أيضا فهذه الآيات كلها فيها ذكر أوقات الصلوات من غير تحديد لها إلا فيما ذكر من الدلوك فإنه جعله أول وقت لتلك الصلاة ووقت الزوال والغروب معلومان وقوله تعالى إلى غسق الليل ليس فيه بيان نهاية الوقت بلفظ غير محتمل للمعاني وقوله حين تمسون إن أراد به المغرب كان معلوما وكذلك تصبحون لأن و قت الصبح معلوم وقوله طرفي النهار لا دلالة فيه على تحديد الوقت لاحتماله أن يريد الظهر والعصر وذلك لأن وسط

النهار هو وقت الزوال فما كان منه في النصف الآخر فهو طرف وكذلك ما كان منه في النصف الأول فهو طرف وجائز أن يريد به العصر لأن آخر النهار من طرفه والأولى أن يكون المراد العصر دون الظهر لأن طرف الشيء إما أن يكون ابتداءه ونهايته وآخره ويبعد أن يكون ما قرب من الوسط طرفا إلا أن الحسن في رواية عمر وقد تأوله على الظهر والعصر جميعا وقد روى عنه يونس أنه العصر وهو أشبه بمعنى الآية ألا ترى أن طرف الثوب ما يلي نهايته ولا يسمى ما قرب من وسطه طرفا
فهذه الآي دالة على أعداد الصلوات
وقوله تعالى وحافظوا على الصلوات الآية يدل على أنها وتر لأن الشفع لا وسط له وقد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم -
ونقلت الأمة عنه قولا وفعلا فرض الصلوات الخمس وقد روى أنس بن مالك وعبادة بن الصامت في حديث المعراج عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بخمسين صلاة وأنه لم يزل يسئل ربه التخفيف حتى استقرت على خمس وهذا عندنا كان فرضا موقوفا على اختيار النبي صلى الله عليه وسلم - كذلك لأنه لا يجوز نسخ الفرض قبل التمكن من الفعل وقد بيناه في أصول الفقه ولا خلاف بين المسلمين في فرض الصلوات الخمس وقال جماعة من السلف بوجوب الوتر وهو قول أبي حنيفة وليس هو بفرض عنده وإن كان واجبا لأن الفرض ما كان في أعلى مراتب الإيجاب وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم - آثار متواترة في بيان تحديد أوقات الصلوات واتفقت الأمة في بعضها واختلفت في بعض
وقت
الفجر فأما أول وقت الفجر فلا خلاف فيه أنه من حين يطلع الفجر الثاني الذي يعترض في الأفق وروى سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ليس الفجر أن يقول هكذا وجمع كفه حتى يكون هكذا ومد أصبعيه السبابتين وروى قيس بن طلق عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
كلوا واشربوا ولا يهدينكم الساطع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر
وروى سفيان عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال الفجر فجران فجر يحل فيه الطعام وتحرم فيه الصلاة وفجر تحل فيه الصلاة ويحرم فيه الطعام وروى نافع بن جبريل في حديث المواقيت عن النبي صلى الله عليه وسلم - أن جبريل عليه السلام أمه عند البيت فصلى الفجر في اليوم الأول

حين برق الفجر وحرم الطعام والشراب على الصائم فهذا أول وقت الفجر وقد تواترت به الآثار واتفق عليه فقهاء الأمصار وأما آخر وقتها فهو إلى طلوع الشمس عند سائر الفقهاء وذكر ابن القاسم عن مالك أنه قال وقت الصبح الإغلاس والنجوم بادية مشتبكة وآخر وقتها إذا أسفر ويحتمل أن يكون مراده الوقت المستحب وكراهة التأخير إلى بعد الإسفار لا على معنى أنها تكون فائتة إذا أخرها إلى بعد الإسفار قبل طلوع الشمس وقد روى عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال وقت الفجر مالم تطلع الشمس وقد روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن للصلاة أولا وآخرا وأن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر وأن آخر وقتها حين تطلع الشمس وورى أبو هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال من أدرك ركعة من صلاة الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك فألزم النبي صلى الله عليه وسلم - مدرك هذا القدر من الوقت جميع الصلاة مثل الحائض تطهر والصبي يبلغ والكافر يسلم فثبت أن وقت الفجر إلى طلوع الشمس
وقت
الظهر وأما أول وقت الظهر فهو من حين تزول الشمس ولا خلاف بين أهل العلم فيه وقال الله تعالى وعشيا وحين تظهرون وقال أقم الصلاة لدلوك الشمس وقد بينا أن دلوك الشمس تحتمل الزوال والغروب جميعا وهو عليهما فتنتظم الآية الأمر بصلاة الظهر والمغرب وبيان أول وقتيهما ومن جهة السنة حديث ابن عباس وأبي سعيد وجابر وعبدالله بن عمر وبريدة الأسلمي وأبي هريرة وأبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم -
في ذكر المواقيت حين أمه جبريل وأنه صلى الظهر حين زالت الشمس وفي بعضها ابتداء اللفظ من النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أول وقت الظهر إذا زالت الشمس وهي أحاديث مشهورة كرهت الإطالة بذكر أسانيدها وسياقة ألفاظها فصار أول وقت الظهر معلوما من جهة الكتاب والسنة واتفاق الأمة
وأما آخر وقتها فقد اختلف فيه الفقهاء فروي عن أبي حنيفة فيه ثلاث روايات إحداهن أن يصير الظل أقل من قامتين والأخرى وهي رواية الحسن بن زياد أن يصير ظل كل شيء مثله والثالثة أن يصير الظل قامتين وهي رواية الأصل وقال أبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والحسن بن صالح والثوري والشافعي هو أن يصير ظل كل شيء مثله وحكي عن مالك أن وقت الظهر والعصر إلى

غروب الشمس ويحتج لقول من قال بالمثلين في آخر وقت الظهر بظاهر قوله أقم الصلاة طرفي النهار وذلك يقتضي فعل العصر بعد المثلين لأنه كلما كان أقرب إلى وقت الغروب فهو أولى باسم الطرف وإذا كان وقت العصر من المثلين فما قبله من وقت الظهر لحديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
إن أول وقت الظهر حين تزول الشمس وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر ويحتج أيضا لهذا القول بظاهر قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقد بينا أن الدلوك يحتمل الزوال فإذا أريد به ذلك اقتضى ظاهره امتداد الوقت إلى الغروب إلا أنه ثبت أن ما بعد المثلين ليس بوقت للظهر فوجب أن يثبت إلىالمثلين بالظاهر ويحتج فيه من جهة السنة بحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أجلكم في أجل من مضى قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ومثلكم ومثل أهل الكتابين قبلكم كرجل استأجر أجراء فقال من يعمل لي ما بين غدوة إلى نصف النهار على قيراط فعملت اليهود ثم قال من يعمل لي ما بين نصف النهار إلى العصر على قيراط فعملت النصارى ثم قال من يعمل لي ما بين العصر إلى المغرب على قيراطين فعملتم أنتم فغضبت اليهود والنصارى فقالوا كنا أكثر عملا وأقل عطاء قال هل نقصتم من جعلكم شيئا قالوا لا قال فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء ودلالة هذا الخبر على ما ذكرنا من وجهين أحدهما قوله أجلكم في أجل من مضى قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس وإنما أراد بذلك الإخبار عن قصر الوقت وقال ص - بعثت أنا والساعة كهاتين وجمع بين السبابة والوسطى وفي خبر آخر كما بين هذه وهذه فأخبر فيه أن الذي بقي من مدة الدنيا كنقصان السبابة عن الوسطى وقد قدر ذلك بنصف السبع فثبت بذلك حين شبه ص - أجلنا في أجل من مضى قبلنا بوقت العصر في قصر مدته أنه لا ينبغي أن يكون من المثل لأنه لو كان كذلك لكان أكثر من ذلك فدل ذلك على أن وقت العصر بعد المثلين والوجه الآخر من دلالة الخبر المثل الذي ضربه ص - لنا ولأهل الكتابين بالعمل في الأوقات المذكورة وأنهم غضبوا فقالوا كنا أكثر عملا وأقل عطاء فلو كان وقت العصر في المثل لما كانت النصارى أكثر عملا من المسلمين بل كان يكون المسلمون أكثر عملا لأن ما بين المثل إلى الغروب أكثر مما بين الزوال إلى المثل فثبت بذلك أن وقت العصر أقصر من وقت الظهر فإن قيل إنما

أراد أن وقتي الفريقين بذلك على حياله دون الإخبار عنهما مجموعين ألا ترى أنهم قالوا كنا أكثر عملا وأقل عطاء وليسا بمجموعهما أقل عطاء لأن عطاءهما جميعا هو مثل عطاء المسلمين ويدل عليه حديث عروة عن بشير بن أبي مسعود عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم - أن جبريل أتاه في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله فقال قم فصل الظهر فأخبر أن جبريل أتاه بعد المثل فأمره بفعل الظهر فلو كان ما بعد المثل من وقت العصر لكان قد أخر الظهر عن وقتها فإن قيل في حديث ابن عباس وجابر وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه صلى العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله وهذا يوجب أن يكون وقت العصر بعد المثل قيل له أما حديث ابن عباس فإنه أخبر فيه عن إمامة جبريل عند باب البيت وذلك قبل الهجرة وفيه أنه صلى الظهر من اليوم الثاني لوقت العصر بالأمس وذلك يوجب أن يكون وقت الظهر ووقت العصر واحدا فيما صلاهما في اليومين فإن قيل إنما أراد أنه ابتدأ العصر في وقت فراغه من الظهر من الأمس قيل له في حديث ابن مسعود إن جبريل أتاه حين صار ظل كل شيء مثله في اليوم الأول فقال قم فصل العصر وأنه أتاه في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله فقال قم فصل الظهر فأخبر أن مجيئه إليه وأمره إياه بالصلاة كان بعد المثل وهذا يسقط تأويل من تأوله وإذا كان ذلك كذلك وقد روى عبدالله بن عمر وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال وقت الظهر مالم يحضر وقت العصر وفي حديث أبي قتادة عن النبي ص - التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى ثبت بذلك أن ما في حديث ابن عباس وابن مسعود على النحو الذي ذكرنا منسوخ وأنه كان قبل الهجرة وعلى أنه لو كان ثابت الحكم لوجب أن يكون الفعل الآخر ناسخا للأول وأن يكون الآخر منهما ثابتا والآخر من الفعلين أنه فعل الظهر في اليوم الثاني بعد المثل وذلك يقتضي أن يكون ما بعد المثل من وقت الظهر وفي حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم - حين سأله السائل عن مواقيت الصلاة أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس مرتفعة قبل أن تدخلها الصفرة وكذلك في حديث سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة ولا يقال هذا فيمن صلاها حين يصير الظل مثله وقد ذكر أيضا في حديث ابن مسعود أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة رواه جماعة من كبار أصحاب الزهري عن عروة منهم

مالك والليث وشعيب ومعمر وغيرهم ورواه أيوب عن عتبة عن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عروة فذكر فيه مقادير الفيء على نحو ما قدمنا فحديث ابن مسعود يروى على هذين الوجهين فذكر في أحدهما أنه جاءه جبريل عليه السلام حين صار ظل كل شيء مثله فقال قم فصل الظهر وفي اليوم الثاني جاءه حين صار ظل كل شيء مثليه فقال قم فصل العصر وحديث الزهري عن عروة لم يذكر فيه مقدار الفيء وذكر أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة لم تدخلها صفرة
وقد رويت أخبار في تعجيل العصر قد يحتج بها من يقول بالمثل وفيها احتمال لما قالوه ولغيره فلا تثبت بمثلها حجة في إثبات المثل دون غيره إذ لا حجة في المحتمل منها حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العصر ثم يذهب الذاهب إلى العوالي فيجدهم لم يصلوا العصر قال الزهري والعوالي على الميلين والثلاثة وورى أبو واقد الليثي قال حدثنا أبو أروى قال كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم - العصر بالمدينة ثم أمشي إلى ذي الحليفة قبل أن تغرب الشمس وفي حديث أسامة بن زيد عن الزهري عن عروة عن بشير بن أبي مسعود عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يصلي العصر والشمس بيضاء مرتفعة يسير الرجل حين ينصرف منها إلى ذي الحليفة ستة أميال قبل غروب الشمس وروي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن يظهر الفيء وفي لفظ آخر لم يفئ الفيء بعد
وليس في هذه الأخبار ذكر تحديد الوقت وما ذكر من المضي إلى العوالي وذي الحليفة فليس يمكن الوقوف منه على مقدار معلوم من الوقت لأنه على قدر الإبطاء والسرعة في المشي وقد كان شيخنا أبو الحسن رحمه الله تعالى يستدل بقوله ص - أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم على أن ما بعد المثل وقت للظهر لأن الإبراد لا يكون عند المثل بل أشد ما يكون الحر في الصيف عند ما يصير ظل كل شيء مثله ومن قال بالمثل يجيب عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بالهجير عند الزوال والفيء قليل في ذلك الوقت فكان منهم من يصلي في الشمس أو بالقرب منها وكذلك قال خباب شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
حر الرمضاء فلم يشكنا ثم قال أبردوا بالظهر فأمرهم أن يصلوها بعد ما يفيء الفيء فهذا هو الإبراد المأمور به عند من قال بالمثل
وأما ما حكي عن مالك أن وقت الظهر والعصر إلى غروب الشمس فإنه قول ترده الأخبار المروية في المواقيت لأن النبي صلى الله عليه وسلم -
صلى في

اليومين في حديث ابن عباس وابن مسعود وجابر وأبي سعيد وأبي موسى وغيرهم في أول الوقت وآخره ثم قال ما بين هذين وقت وفي حديث عبدالله بن عمر وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - وقت الظهر مالم يحضر وقت العصر وفي بعض ألفاظ حديث أبي هريرة وآخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر فغير جائز لأحد أن يجعل وقت العصر وقتا للظهر مع إخبار النبي صلى الله عليه وسلم - أن آخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر وقد نقل الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم -
هذه الأوقات عملا وقولا كما نقلوا وقت الفجر ووقت العشاء والمغرب وعقلوا بتوقيفه ص - أن كل صلاة منها مخصوصة بوقت غير وقت الأخرى وقال النبي صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي قتادة التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الآخر ولا خلاف أن تارك الظهر لغير عذر حتى يدخل وقت العصر مفرط فثبت أن للظهر وقتا مخصوصا وكذلك العصر وإن وقت كل واحدة منهما غير وقت الأخرى ولو كان الوقتان جميعا وقتا للصلاتين لجاز أن يصلي العصر في وقت الظهر من غير عذر ولما كان للجمع بعرفة خصوصية وفي امتناع جواز ذلك لغير عذر عند الجميع دلالة على أن كل واحدة من الصلاتين منفردة بوقتها
فإن احتجوا بقوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وأن الدلوك هو الزوال وجعل ذلك كله وقتا للظهر إلى غروب الشمس لأنه روي في غسق الليل عن جماعة من السلف أنه الغروب
قيل له ظاهره يقتضي إباحة فعل هذه الصلاة من وقت الزوال إلى غسق الليل وقد اتفق الجميع على أن ذلك ليس بمراد وأنه غير مخير في فعل الظهر من وقت الزوال إلى الليل فثبت أن المراد صلاة أخرى يفعلها وهي إما العصر وإما المغرب والمغرب أشبه بمعنى الآية لاتصال وقتها بغسق الليل الذي هو اجتماع الظلمة فيكون تقدير الآية أقم الصلاة لزوال الشمس وأقمها أيضا إلى غسق الليل وهي صلاة أخرى غير الأولى فلا دلالة في الآية على أن وقت الظهر إلى غروب الشمس
وقد وافق الشافعي مالكا في هذا المعنى أيضا من وجه وذلك أنه يقول من أسلم قبل غروب الشمس لزمته الظهر والعصر جميعا وكذلك الحائض إذا طهرت والصبي إذا بلغ وذهب إلى أنه وإن لم يكن وقت اختيار فهو وقت الضرورة والعذر لأنه يجوز على أصله الجمع بين الصلاتين في السفر والمرض ونحوه بأن يؤخر الظهر إلى وقت العصر أويجعل العصر فيصليها في وقت الظهر معها فجعل من أجل ذلك الوقت

وقتا لهما في حال العذر والضرورة فإن كان هذا اعتبارا صحيحا فإنه يلزمه أن يقول في المرأة إذا حاضت في أول وقت الظهر أن تلزمها صلاة الظهر والعصر جميعا كما أنها إذا طهرت في آخر وقت
العصر لزمتها صلاة الظهر والعصر جميعا وقد أدركت هذه التي حاضت في وقت الظهر من الوقت ما يجوز لها فيه الجمع بين الصلاتين للعذر وهذا لا يقوله أحد فثبت بذلك أن وقت العصر غير وقت الظهر في سائر الأحوال وأنه لا تلزم أحدا صلاة الظهر بإدراكه وقت العصر دون وقت الظهر
وقت العصر
قال أبو بكر أما أول وقت العصر فهو على ما ذكرنا من خروج وقت الظهر على اختلافهم فيه والصحيح من قولهم أنه ليس بين وقت الظهر ووقت العصر واسطة وقت من غيرهما وما روي عن أبي حنيفة من أن آخر وقت الظهر أن يصير الظل أقل قامتين وأول وقت العصر إذا صار الظل قامتين فهو رواية شاذة وهي أيضا مخالفة للآثار الوارد في أن وقت الظهر مالم يحضر وقت العصر وفي بعض ألفاظ حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - وآخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر وفي حديث أبي قتادة التفريط في الصلاة أن يتركها حتى يدخل وقت الأخرى والصحيح من مذهب أبي حنيفة أحد قولين إما المثلان وإما المثل وإن بخروج وقت الظهر يدخل وقت العصر
واتفق فقهاء الأمصار أن آخر وقت العصر غروب الشمس ومن الناس من يقول إن آخر وقتها حين تصفر الشمس ويحتج فيه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم -
عن الصلاة عند غروب الشمس قال أبو بكر والدليل على أن آخر وقتها الغروب قول النبي صلى الله عليه وسلم - من فاته العصر حتى غابت الشمس فكأنما وتر أهله وماله فجعل فواتها بالغروب وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك وهذا يدل على أن وقتها إلىالغروب فإن احتج محتج بحديث عبدالله بن عمر وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال آخر وقت العصر حين تصفر الشمس
فإن هذا عندنا على كراهة التأخير وبيان الوقت المستحب كما روي في حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال آخر وقت العشاء الآخرة نصف الليل ومراده الوقت المستحب لأنه لا خلاف أن ما بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر من وقت العشاء الآخرة وأن مدركه بالإحتلام أو الإسلام

يلزمه فرضها وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال إن الرجل ليصلي الصلاة ولما فاته من وقتها خير له من أهله وماله فقد يكون وقت يلزمه به مدركه الفرض ويكره له تأخيرها إليه ألا ترى أنه يكره الإسفار بصلاة الفجر بمزدلفة ولم تخرجه كراهة التأخير إليه من أن يكون وقتا لها فكذلك الأخبار التي فيها تقدير آخر الوقت باصفرار الشمس واردة على فوات فضيلة الوقت الذي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم - خيرا له من أهله وماله
وقت
المغرب أول وقت المغرب من حين تغرب الشمس لا اختلاف بين الفقهاء في ذلك وقال الله عز و جل أقم الصلاة لدلوك الشمس وهو يقع على الغروب لما بيناه فيما سلف وقال تعالى وزلفا من الليل وهو ما قرب منه من النهار وهو أول أوقاته والله أعلم وقال تعالى فسبحان الله حين تمسون قيل فيه إنه وقت الغروب وفي أخبار المواقيت عن النبي صلى الله عليه وسلم -
من طريق ابن عباس وجابر وأبي سعيد وغيرهم أن النبي ص - صلى المغرب في اليومين جميعا حين غابت الشمس وقال سلمة بن الأكوع كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -
إذا تواترت بالحجاب وقد ذهب شواذ من الناس إلى أن أول وقت المغرب حين يطلع النجم واحتجوا بما روى أبو تميم الجيشاني عن أبي بصرة الغفاري قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - صلاة العصر فقال إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها فمن حافظ عليها منكم أوتي أجره مرتين ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد والشاهد النجم وهذا حديث شاذ لا تعارض به الأخبار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم - في أول وقت المغرب أنه حين تغيب الشمس وقد روي ذلك أيضا عن جماعة من الصحابة منهم عمر وعبدالله وعثمان وأبي هريرة
ويحتمل أن يكون خبر أبي بصرة في ذكر طلوع الشاهد غير مخالف لهذه الأخبار وذلك لأن النجم قد يرى في بعض الأوقات بعد غروب الشمس قبل اختلاط الظلام فلما كان الغالب في ذلك أنه لا يكاد يخلو من أن يرى بعض النجوم بعد غروب الشمس جعل ذلك عبارة عن غيبوبة الشمس وأيضا فلو كان الاعتبار برؤية النجم لوجب أن تصلى قبل الغروب إذا رؤي النجم لأن بعض النجوم قد يرى في بعض الأوقات قبل ا لغروب ولا خلاف أنه غير جائز فعلها قبل

الغروب مع رؤية الشاهد فسقط بذلك اعتبار طلوع الشاهد
وأما آخر وقت المغرب فإن أهل العلم مختلفون فيه فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والحسن بن صالح لوقت المغرب أول وآخر كسائر الصلوات وقال الشافعي ليس للمغرب إلا وقت واحد ثم اختلف من قال بأن له أولا وآخرا في آخر وقتها فقال أصحابنا والثوري والحسن بن صالح آخر وقتها أن يغيب الشفق ثم اختلفوا في الشفق فقال أبو حنيفة الشفق البياض وقال أبو يوسف ومحمد وابن أبي ليل ومالك والثوري والحسن بن صالح والشافعي الشفق الحمرة وقال مالك وقت المغرب والعشاء إلى طلوع الفجر
قال أبو بكر وقد اختلف السلف أيضا في الشفق ما هو فقال بعضهم هو البياض وقال بعضهم الحمرة فممن قال أنه الحمرة ابن عباس وابن عمر وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس
وحدثنا أبو يعقوب يوسف بن شعيب المؤذن قال حدثنا أبو عمران موسى بن القاسم العصار والحسين بن الفرج البزاز قالا حدثنا هشام بن عبيدالله قال حدثنا هياج عمن ذكر عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قال الشفق الحمرة قال هشام وحدثنا أبو سفيان عن العمري عن نافع عن ابن عمر قال الشفق الحمرة
قال هشام وحدثنا محمد بن الحسن عن ثور بن يزيد عن مكحول قال كان عبادة بن الصامت وشداد بن أوس يصليان العشاء إذا غابت الحمرة ويريانها الشفق فهؤلاء الذين روى عنهم الحمرة وممن روي عنه أن الشفق البياض عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وعمر بن عبدالعزيز حدثنا يوسف بن شعيب قال حدثنا موسى بن القاسم والحسين بن الفرج قالا حدثنا هشام بن عبيدالله قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثنا عنبسة بن سعيد الكلاعي قال حدثني قتادة عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب كتب إن أول وقت العشاء مغيب الشفق ومغيبه إذا اجتمع البياض من الأفق فينقطع فذلك أول وقتها قال هشام حدثنا أبو عثمان عن خالد بن يزيد عن إسماعيل بن عبيدالله عن عبدالرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل قال الشفق البياض
قال هشام وحدثنا محمد بن الحسن عمن ذكر عن عمر بن عبدالعزيز أنه كان يقول الشفق البياض
فصل وأما الدلالة على أن لوقت المغرب أولا وآخرا وأنه غير مقدر بفعل الصلاة فحسب قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقد ذكرنا من

قال من السلف أنه الغروب واحتمال اللفظ له فاقتضت الآية أن يكون لوقت المغرب أول وآخر لأن قوله تعالى إلى غسق الليل غاية وقد روي عن ابن عباس أن غسق الليل اجتماع الظلمة فثبت بدلالة الآية أن وقت المغرب من حين الغروب إلى اجتماع الظلمة وفي ذلك ما يقضي ببطلان قول من جعل لها وقتا واحدا مقدرا بفعل الصلاة وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال أول وقت المغرب حين تسقط الشمس وأن آخر وقتها حين يغيب الأفق وفي حديث أبي بكرة عن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم - أن سائلا سأله عن مواقيت الصلاة فذكر الحديث وقال فيه وصلى المغرب في اليوم الأول حين وقعت الشمس وآخرها في اليوم الثاني حتى كان عند سقوط الشفق ثم قال الوقت فيما بين هذين وفي حديث علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم - أن رجلا سأله عن وقت الصلاة فقال صل معنا فأقام المغرب حين غابت الشمس ثم صلى المغرب في اليوم الثاني قبل أن يغيب الشفق وكذلك في حديث جابر فثبت بذلك أن لوقت المغرب أولا وآخرا وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا همام عن قتادة عن أبي أيوب عن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال وقت المغرب مالم يغب الشفق وروى عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يقرأ في صلاة المغرب بأطوال الطول وهي المص وهذا يدل على امتداد الوقت ولو كان الوقت مقدرا بفعل ثلاث ركعات لكان من قرأ المص قد أخرها عن وقتها فإن قيل روي في حديث ابن عباس وأبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم - صلى المغرب في اليومين جميعا في وقت واحد بعد غروب الشمس قيل له هذا لا يعارض ما ذكرنا لأنه جائز أن يكون فعله كذلك ليبين الوقت المستحب وفي الأخبار التي رويناها بيان أول الوقت وآخره وإخبار منه بأن ما بين هذين وقت فهو أولى لأن فيه استعمال الخبرين ومع ذلك فإن فعله لها في اليومين في وقت واحد لو انفرد عما يعارضه من الأخبار التي ذكرنا لم تكن فيه دلالة على أنه لا وقت لها غيره كما لم يدل فعله للعصر في اليومين قبل اصفرار الشمس على أنه لا وقت لها غيره وكفعله للعشاء الآخرة في اليومين قبل نصف الليل لم يدل على أن ما بعد نصف الليل ليس بوقت لها ومن جهة النظر أن سائر الصلوات المفروضات لما كان لأوقاتها أول وآخر ولم تكن أوقاتها

مقدرة بفعل الصلاة وجب أن يكون المغرب كذلك فقول من جعل الوقت مقدرا بفعل الصلاة خارج عن الأصول مخالف للأثر والنظر جميعا ومما يلزم الشافعي في هذا أنه يجيز الجمع بين المغرب والعشاء في وقت واحد إما لمرض أو سفر كما يجيزه بين الظهر والعصر فلو كان بينهما وقت ليس منهما لما جاز الجمع بينهما كما لا يجوز الجمع بين الفجر والظهر إذ كان بينهما وقت ليس منهما فإن قيل ليست علة الجمع تجاور الوقتين لأنه لا يجمع المغرب إلى العصر مع تجاور الوقتين قيل له لم نلزمه أن يجعل تجاور الوقتين علة للجمع وإنما ألزمناه المنع من الجمع إذا لم يكن الوقتان متجاورين لأن كل صلاتين بينهما وقت ليس منهما لا يجوز الجمع بينهما والله أعلم بالصواب
ذكر
القول في الشفق والاحتجاج له قال أبو بكر لما اختلف الناس في الشفق فقال منهم قائلون هو الحمرة وقال آخرون البياض علمنا أن الاسم يتناولهما ويقع عليهما في اللغة لولا ذلك لما تأولوه عليهما إذ كانوا عالمين بمعاني الأسماء اللغوية والشرعية ألا ترى أنهم لما اختلفوا في معنى ا لقرء فتأوله بعضهم على الحيض وبعضهم على الطهر ثبت بذلك أن الاسم يقع عليهما وإنما نحتاج بعد ذلك إلى أن نستدل على المراد منهما بالآية وحدثنا أبو عمر غلام ثعلب قال سئل ثعلب عن الشفق ما هو فقال البياض فقال له السائل الشواهد على الحمرة أكثر فقال ثعلب إنما يحتاج إلى الشاهد ما خفي فأما البياض فهو أشهر في اللغة من أن يحتاج إلى الشاهد قال أبو بكر ويقال إن اصل الشفق الرقة ومنه يقال ثوب شفق ومنه الشفقة وهي رقة القلب وإذا كان أصله كذلك فالبياض أخص به لأنه عبارة عن الأجزاء الرقيقة الباقية من ضياء الشمس وهو في البياض أرق منه في الحمرة ويشهد لمن قال بالحمرة قول أبي النجم ... حتى إذا الشمس اجتلاها المجتلي ... بين سماطي شفق مهول ... فهي على الأفق كعين الأحول ...
ومعلوم أنه أراد الحمرة لأنه وصفها عند الغروب ومما يحتج به البياض قوله تعالى فلا أقسم بالشفق قال مجاهد هو النهار ويدل عليه قوله والليل وما وسق فأقسم

بالليل والنهار فهذا يوجب أن يكون الشفق البياض لأن أول النهار هو طلوع بياض الفجر وهذا يدل على أن الباقي من البياض بعد غروب الشمس هو الشفق ومما يستدل به على أن المراد البياض قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقد بينا أن الدلوك هو اسم يقع على الغروب ثم جعل غسق الليل غايته وروي عن ابن عباس في غسق الليل أنه اجتماع الظلمة وذلك لا يكون إلا مع غيبوبة البياض لأن البياض ما دام باقيا فالظلمة متفرقة في الأفق فثبت بذلك أن وقت المغرب إلى غيبوبة البياض فثبت أن المراد البياض فإن قيل روي عن ابن مسعود وأبي هريرة أن غسق الليل هو غروب الشمس قيل له المشهور عن ابن مسعود أو دلوك الشمس هو غروبها ومحال إذا كان الدلوك عنده الغروب أن يكون غسق الليل غروب الشمس أيضا لأن الله تعالى قال أقم الصلاة لدلوك الشمس فجعل الدلوك أول الوقت وغسق الليل آخره ويستحيل أن يكون ما جعله ابتداء هو الذي جعله غاية وإذا كان ذلك كذلك فالراوي عن ابن مسعود أن غسق الليل هو غروب الشمس غالط في روايته ومع ذلك فقد روي عن ابن مسعود رواية مشهورة أن دلوك الشمس غروبها وأن غسق الليل حين يغيب الشفق وهذه الرواية مستقيمة على ما ثبت عنه من تأويل الآية وقد روى ليث عن مجاهد عن ابن عباس أن دلوك الشمس حين تزول إلى غسق الليل حين تجب الشمس وهذا غير بعيد على ما ثبت عنه في تأويل الدلوك أنه الزوال إلا أنه قد روى عنه مالك عن داود بن الحصين قال أخبرني مخبر عن ابن عباس أنه كان يقول غسق الليل اجتماع الليل وظلمته وهذا ينفي أن يكون غسق الليل وقت الغروب من قبل أن وقت الغروب لا تكون ظلمة مجتمعة وقد روي عن أبي جعفر في غسق الليل أنه انتصافه وعن إبراهيم غسق الليل العشاء الآخرة وأولى هذه المعاني بلفظ الآية اجتماع الظلمة وذهاب البياض وذلك لأنه لو كان غسق الليل هو غروب الشمس لكانت الغاية المذكورة للوقت هي وجود الليل فحسب فيصير تقدير الآية أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى الليل وتسقط معه فائدة ذكر الغسق مع الليل ولما وجب حمل كل لفظ منه على فائدة مجددة وجب أن يكون غسق الليل قد أفاد مالم يفدناه لو قال إلى الليل عاريا من اجتماعها ومما يستدل به على أن الشفق هو البياض حديث بشير بن أبي مسعود عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم -
صلى العشاء اليوم الأول حين اسود الأفق

وربما أخرها حتى يجتمع الناس فأخبر عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم - في أوائل أوقاتها وأخبر عنها في أواخرها وذكر في أول الوقت العشاء الآخرة اسوداد الأفق ومعلوم أن بقاء البياض يمنع إطلاق الاسم عليه بذلك فثبت أن أول وقت العشاء الآخرة غيبوبة البياض ومن يأبى هذا القول يقول إن قوله حين اسود الأفق لا ينفي بقاء البياض لأنه إنما أخبر عن اسوداد أفق من الآفاق لا عن جميعها ولو أراد غيبوبة البياض لقال حين اسودت الآفاق وليس يمتنع أن يبقى البياض وتكون سائر الآفاق غير موضع البياض مسودة ويحتج القائلون بالبياض أيضا بحديث الزهري عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العشاء الآخرة حين يستوي الأفق وربما أخرها حتى يجتمع الناس وهذا اللفظ يحتمل من المعنى ما احتمله قوله في الحديث الأول حين اسود الأفق ومما يحتج به القائلون بالحمرة ما روى ثور بن يزيد عن سليمان بن موسى عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبدالله قال سأل رجل نبي الله ص - عن وقت الصلاة فقال صل معي فصلى في اليوم الأول العشاء الآخرة قبل غيبوبة الشفق قالوا ومعلوم أنه لم يصلها قبل غيبوبة الحمرة فوجب أن يكون أراد البياض ولا تكون رواية من روى أنه صلاها بعد ما غاب الشفق معارضة لحديث جابر هذا من قبل ما غاب الشفق الذي هو الحمرة إذا كان الاسم يقع عليهما جميعا ليتفق الحديثان ولا يتضادا ومن يجعل الشفق البياض يجعل خبر جابر منسوخا على نحو ما روي في خبر ابن عباس في المواقيت أنه صلى ا لظهر في اليوم الثاني وقت العصر بالأمس ومما يحتج به القائلون بالحمرة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أول وقت المغرب إذا غربت الشمس وآخره غيبوبة الشفق وفي بعض أخبار عبدالله بن عمر إذا غابت الشمس فهو وقت المغرب إلى أن يغيب الشفق وفي لفظ آخر وقت المغرب مالم يسقط ثور الشفق قالوا فالواجب حمله على أولهما وهو الحمرة ومن يقول البياض يجيب عن هذا بأن ظاهر ذلك يقتضي غيبوبة جميعه وهو بالبياض فيدل ذلك على اعتبار البياض دون الحمرة لأنه غير جائز أن يقال قد غاب الشفق إلا بعد غيبوبة جميعه كما لا يقال غابت الشمس إلا بعد غيبوبة جميعها دون بعضها ولمن قال بالحمرة أن يقول إن البياض والحمرة ليسا شفقا واحدا بل هما شفقتان فيتناول الاسم أولهما غيبوبة كما أن

الفجر الأول والثاني هما فجران وليسا فجرا واحدا فيتناولهما إطلاق الاسم معا كذلك الشفق ومما يحتج به القائلين بالبياض حديث النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العشاء لسقوط القمر الليلة الثالثة وظاهر ذلك يقتضي غيبوبة البياض قال أبو بكر وهذا لا يعتمد عليه لأن ذلك يختلف في الصيف والشتاء ولا يمتنع بقاء البياض بعد سقوط القمر في الليلة الثالثة وجائز أن يكون قد غاب قبل سقوطه قال أبو بكر وحكى ابن قتيبة عن الخليل بن أحمد قال راعيت البياض فرأيته لا يغيب البتة وإنما يستدير حتى يرجع إلى مطلع الفجر قال أبو بكر وهذا غلط والمحنة بيننا وبينهم وقد راعيته في البوادي في ليالي الصيف والجو نقي والسماء مصحية فإذا هو يغيب قبل أن يمضي من الليل ربعه بالتقريب ومن اراد أن يعرف ذلك فليجرب حتى يتبين له غلط هذا القول ومما يستدل به على أن المراد بالشفق البياض أنا وجدنا قبل طلوع الشمس حمرة وبياضا قبلها وكان جميعا من وقت صلاة واحدة إذ كانا جميعا من ضياء الشمس دون ظهور جرمها كذلك يجب أن تكون الحمرة والبياض جميعا بعد غروبها من وقت صلاة واحدة للعلة التي ذكرناها
وقت العشاء الآخرة
وأول وقت العشاء الآخرة من حين يغيب الشفق على اختلافهم فيه إلى أن يذهب نصف الليل في الوقت المختار وفي رواية أخرى حتى يذهب ثلث الليل ويكره تأخيرها إلى بعد نصف الليل ولا تفوت إلا بطلوع الفجر الثاني وقال الثوري والحسن بن صالح وقت العشاء إذا سقط الشفق إلى ثلث الليل والنصف أبعده قال أبو بكر ويحتمل أن يكونا أرادا الوقت المستحب لأنه لا خلاف بين الفقهاء أنها لا تفوت إلا بطلوع الفجر

وإن من أدرك أو أسلم قبل طلوع الفجر أنه تلزمه العشاء الآخرة وكذلك المرأة إذا طهرت من الحيض قوله تعالى ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون الآية هو حث على الجهاد وأمر به ونهي عن الضعف عن طلبهم ولقائهم لأن الابتغاء هو الطلب يقال بغيت وابتغيت إذا طلبت والوهن ضعف القلب والجبن الذي يستشعره الإنسان عند لقاء العدو واستدعاهم إلى نفي ذلك واستشعار الجرأة والإقدام عليهم بقوله إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون فأخبر أنهم يساوونكم فيما يلحق من الألم بالقتال وإنكم تفضلونهم فإنكم ترجون من الله ما لا يرجون فأنتم أولى بالإقدام والصبر على ألم الجراح منهم إذ ليس لهم هذا الرجاء وهذه الفضيلة قوله تعالى وترجون من الله ما لا يرجون قيل فيه وجهان أحدهما ما وعدكم الله من النصر إذا نصرتم دينه والآخر ثواب الآخرة ونعيم الجنة فدواعي المسلمين على التصبر على القتال واحتمال ألم الجراح أكثر من دواعي الكفار وقيل فيه ترجون من الله مالا يرجون تؤملون من ثواب الله مالا يؤملون روي ذلك عن الحسن وقتادة وابن جريج وقال آخرون وتخافون من الله ما لا يخافون كما قال تعالى مالكم لا ترجون لله وقارا يعني لا تخافون لله عظمة وبعض أهل اللغة يقول لا يكون الرجاء بمعنى الخوف إلا مع النفي وذلك حكم لا يقبل إلا بدلالة قوله تعالى إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله الآية فيه إخبار أنه أنزل الكتاب ليحكم بين الناس بما عرفه الله من الأحكام والتعبد
قوله تعالى ولا تكن للخائنين خصيما روي أنه أنزل في رجل سرق درعا فلما خاف أن تظهر عليه رمى بها في دار يهودي فلما وجدت الدرع أنكر اليهودي أن يكون أخذها وذكر السارق أن اليهودي أخذها فأعان قوم من المسلمين هذا الآخذ على اليهودي فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلى قولهم فأطلعه الله على الآخذ وبرأ اليهودي منه ونهاه عن مخاصمة اليهودي وأمره بالاستغفار مما كان منه من معاونته الذين كانوا يتكلمون عن السارق
وهذا يدل على أنه غير جائز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حق أو نفيه وهو غير عالم بحقيقة أمره لأن الله تعالى قد عاتب نبيه على مثله وأمره بالاستغفار منه وهذه الآية وما بعدها من النهي عن المجادلة عن الخونة إلى آخر ما ذكر كله تأكيد للنهي عن معونة من لا يعلمه حقا
وقوله تعالى لتحكم بين الناس بما أراك الله ربما احتج

به من يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم -
لم يكن يقول شيئا من طريق الاجتهاد وأن أقواله وأفعاله كلها كانت تصدر عن النصوص وأنه كقوله تعالى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وليس في الآيتين دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقول شيئا من طريق الاجتهاد وذلك لأنا نقول ما صدر عن اجتهاد فهو مما أراه الله وعرفه إياه ومما أوحى به إليه أن يفعله فليس في الآية دلالة على نفي الاجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم - في الأحكام وقد قيل في قوله تعالى ولا تكن للخائنين خصيما أنه جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - دفع عنهم وجائز أن يكون هم بالدفع عنهم ميلا منه إلى المسلمين دون اليهودي إذ لم يكن عنده أنهم غير محقين وإذا كان ظاهر الحال وجود الدرع عند اليهودي فكان اليهودي أولى بالتهمة والمسلم أولى ببراءة الساحة فأمره الله تعالى بترك الميل إلى أحد الخصمين والدفع عنه وإن كان مسلما والآخر يهوديا فصار ذلك أصلا في أن الحاكم لا يكون له ميل إلى أحد الخصمين على الآخر وإن كان أحدهما ذا حرمة له والآخر علىخلافه وهذا يدل أيضا على أن وجود السرقة في يد إنسان لا يوجب الحكم عليه بها لأن الله تعالى نهاه عن الحكم على اليهودي بوجود السرقة عنده إذ كان جاحدا أن يكون هو الآخذ وليس ذلك مثل ما فعله يوسف عليه السلام حين جعل الصاع في رحل أخيه ثم أخذه بالصاع واحتبسه عنده لأنه إنما حكم عليهم بما كان عندهم أنه جائز وكانوا يسترقون السارق فاحتبسه عنده وكان له أن يتوصل إلى ذلك ولم يسترقه ولا قال أنه سرق وإنما قال ذلك رجل غيره ظنه سارقا وقد نهى الله عن الحكم بالظن والهوى بقوله اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
إياكم والظن فإنه أكذب الحديث وقوله ولا تكن للخائنين خصيما وقوله ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم جائز أن يكون صادف ميلا من النبي صلى الله عليه وسلم - على اليهودي بوجود الدرع المسروقة في داره وجائز أن يكون هم بذلك فأعلمه الله براءة ساحة اليهودي ونهاه عن مجادلته عن المسلمين الذين كانوا يجادلون عن السارق وقد كانت هذه الطائفة شاهدة للخائن بالبراءة سائلة للنبي ص - أن يقوم بعذره في أصحابه وأن ينكر ذلك على من ادعى عليه فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم -
أظهر معاونته لما ظهر من الطائفة من الشهادة ببراءته وأنه ليس ممن يتهم بمثله فأعلمه الله باطن أمورهم بقوله ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك بمسئلتهم معونة هذا الخائن وقد قيل

أن هذه الطائفة التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك وأعانوا الخائن كانوا مسلمين ولم يكونوا أيضا على يقين من أمر الخائن وسرقته ولكنه لم يكن لهم الحكم جائزا على اليهودي بالسرقة لأجل وجود الدرع في داره
فإن قيل كيف يكون الحكم على ظاهر الحال ضلالا إذا كان في الباطن خلافه وإنما على الحاكم الحكم بالظاهر دون الباطن
قيل له لا يكون الحكم بظاهر الحال ضلال وإنما الضلال إبراء الخائن من غير حقيقة علم فإنما اجتهدوا أن يضلوه عن هذا المعنى
قوله تعالى ومن يكسب خطيئة أو إثما فإنه قد قيل في الفرق بين الخطيئة والإثم أن الخطيئة قد تكون من غير تعمد والإثم ما كان عن عمد فذكرهما جميعا ليبين حكمهما وأنه سواء كان تعمد أو غير تعمد فإنه إذا رمى به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا إذ غير جائز له رمي غيره بما لا يعلمه منه
قوله تعالى لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة الآية قال أهل اللغة النجوى هو الإسرار فأبان تعالى أنه لا خير في كثير ما يتسارون به إلا أن يكون ذلك أمرا بصدقة أو أمرا بمعروف أو إصلاح بين الناس وكل أعمال البر معروف لاعتراف العقول بها لأن العقول تعترف بالحق من جهة إقرارها به والتزامها له وتنكر الباطل من جهة زجرها عنه وتبريها منه ومن جهة أخرى سمى أعمال البر معروفا وهو أن أهل الفضل والدين يعرفون الخير لملابستهم إياه وعلمهم به ولا يعرفون الشر بمثل معرفتهم بالخير لأنهم لا يلابسونه ولا يعلمون به فسمى أعمال البر معروفا والشر منكرا
حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن عبدالله قال حدثنا سهل بن بكار قال حدثنا عبدالسلام أبو الخليل عن عبيدة الهجيمي قال قال أبو جري جابر بن سليم ركبت قعودي ثم انطلقت إلى مكة فأنخت قعودي بباب المسجد فإذا النبي صلى الله عليه وسلم - جالس عليه بردان من صوف فيها طرائق حمر فقلت السلام عليك يا رسول الله فقال وعليك السلام قلت إنا معشر أهل البادية فينا الجفاء فعلمني كلمات ينفعني الله بها فقال أدن ثلاثا فدنوت فقال أعد علي فأعدت عليه فقال اتق الله ولا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه منبسط وأن تفرغ من فضل

دلوك في إناء المستسقي وإن امرؤ سبك بما يعلم منك فلا تسبه بما تعلم منه فإن الله جاعل لك أجرا وعليه وزرا ولا تسبن شيئا مما خولك الله قال أبو جري والذهب ذهب بنفسه ما سببت بعده شيئا لا شاة ولا بعيرا
وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن محمد المسلم الدقاق قال حدثنا هارون بن معروف قال حدثنا سعيد بن مسلمة عن جعفر عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
إصنع المعروف إلى من هو أهله وإلى من ليس أهله فإن أصبت أهله فهو أهله وإن لم تصب أهله فأنت أهله
وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد الحماني والحسين بن إسحاق قالا حدثنا شيبان قال حدثنا عيسى بن شعيب قال حدثنا حفص بن سليمان عن يزيد بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كل معروف صدقة وأول أهل الجنة دخولا أهل المعروف صنائع المعروف تقي مصارع السوء وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا معاذ بن المثنى وسعيد بن محمد الأعرابي قالا حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا سفيان الثوري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري يعني عبدالله عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق وأما الصدقة فعلى وجوه منها الصدقة بالمال علىالفقراء فرضا تارة ونفلا أخرى ومنها معونة المسلم بالجاه والقول كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال كل معروف صدقة وقال ص - على كل سلامي من ابن آدم صدقة وقال النبي صلى الله عليه وسلم - أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم قالوا ومن أبو ضمضم قال رجل ممن كان قبلكم كان إذا خرج من بيته قال اللهم أني قد تصدقت بعرضي على من شتمه فجعل احتماله أذى الناس صدقة بعرضه عليهم
قوله عز و جل أو إصلاح بين الناس هو نظير قوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما وقوله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين وقال فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وقال تعالى إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا ابن العلاء قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سالم عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى يا رسول الله قال إصلاح ذات البين وفساد ذات البين الحالقة
وإنما قيد الكلام بشرط فعله ابتغاء مرضاة الله لئلا يتوهم أن من فعله للترأس على الناس والتأمر عليهم يدخل في هذا الوعد قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى الآية فإن مشاقة رسول الله صلى الله عليه وسلم - مباينته ومعاداته بأن يصير في شق غير الشق الذي هو فيه وكذلك قوله تعالى إن الذين يحادون الله ورسوله هو أن يصير في حد غير حد الرسول وهو يعني مباينته في الاعتقاد والديانة وقال من بعد ما تبين له الهدى تغليظا في الزجر عنه وتقبيحا لحاله وتبيينا للوعيد فيه إذ كان معاندا بعد ظهور الآيات والمعجزات الدالة على صدق الرسول ص - وقرن اتباع غير سبيل المؤمنين إلى مباينة الرسول فيما ذكر له من الوعيد فدل على صحة إجماع الأمة لإلحاقه الوعيد بمن اتبع غير سبيلهم وقوله نوله ما تولى إخبار عن براءة الله منه وأنه يكله إلى ما تولى من الأوثان واعتضد به ولا يتولى الله نصره ومعونته قوله تعالى ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام التبتيك التقطيع يقال بتكه يبتكه تبتيكا والمراد به في هذا الموضع شق أذن البحيرة روي ذلك عن قتادة وعكرمة والسدي وقوله ولأمنينهم يعني والله أعلم أنه يمنيهم طول البقاء في الدنيا ونيل نعيمها ولذاتها ليركنوا إلى ذلك ويحرصوا عليه ويؤثروا الدنيا على الآخرة ويأمرهم أن يشقوا آذان الأنعام ويحرموا على أنفسهم وعلى الناس بذلك أكلها وهي البحيرة التي كانت ا لعرب تحرم أكلها وقوله ولآمرنهم فليغيرن خلق الله فإنه روي فيه ثلاثة أوجه أحدها عن ابن عباس رواية إبراهيم ومجاهد والحسن والضحاك والسدي دين الله بتحريم الحلال وتحليل الحرام ويشهد له قوله تعالى لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم والثاني ما روي عن أنس وابن عباس رواية شهر بن حوشب وعكرمة وأبي صالح أنه الخصاء والثالث ما روي عن عبدالله والحسن أنه الوشم وروى قتادة عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا بإخصاء الدابة وعن طاوس وعروة مثله وروي عن ابن عمر أنه نهى عن الإخصاء وقال ما أنهى إلا في الذكور وقال ابن عباس إخصاء البهيمة مثله ثم قرأ ولآمرنهم فليغيرن خلق الله وروى عبدالله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
عن إخصاء الجمل قوله تعالى واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا هو نظير قوله ثم أوحينا

إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وهذا يوجب أن كل ما ثبت من ملة إبراهيم عليه السلام فعلينا اتباعه فإن قيل فواجب أن تكون شريعة النبي صلى الله عليه وسلم -
هي شريعة إبراهيم عليه السلام قيل له إن ملة إبراهيم داخلة في ملة النبي ص - وفي ملة نبينا ص -
زيادة على ملة إبراهيم فوجب من أجل ذلك اتباع ملة إبراهيم إذ كانت داخلة في ملة النبي صلى الله عليه وسلم - فكان متبع ملة النبي صلى الله عليه وسلم - متبعا لملة إبراهيم وقيل في الحنيف أنه المستقيم فمن سلك طريق الاستقامة فهو على الحنيفية وإنما قيل للمعوج الرجل أحنف تفاؤلا كما قيل للمهلكة مفازة وللديغ سليما وقوله واتخذ الله إبراهيم خليلا فإنه قد قيل فيه وجهان أحدهما الاصطفاء بالمحبة والاختصاص بالأسرار دون من ليس له تلك المنزلة والثاني أنه من الخلة وهي الحاجة فخليل الله المحتاج إليه المنقطع إليه بحوائجه فإذا أريد به الوجه الأول جاز أن يقال إن إبراهيم خليل الله والله تعالى خليل إبراهيم وإذا أريد به الوجه الثاني لم يجز أن يوصف الله بأنه خليل إبراهيم وجاز أن يوصف إبراهيم بأنه خليل الله وقوله تعالى ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن قال أبو بكر روي أنها نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ولا يقسط لها في صداقها فنهوا أن ينكحوهن أو يبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق
وقوله تعالى وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء يعني به ما ذكر في أول السورة من قوله تعالى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء وقد بيناه في مواضعه والله الموفق
باب
مصالحة المرأة وزوجها قال الله تعالى وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا قيل في معنى النشوز أنه الترفع عليها لبغضه إياها مأخوذ من نشز الأرض وهي المرتفعة وقوله أو إعراضا يعني لموجدة أو أثرة فأباح الله لهما الصلح فروي علن علي وابن عباس أنه أجاز لهما أن يصطلحا على ترك بعض مهرها أو بعض أيامها بأن تجعله لغيرها وقال عمر ما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال خشيت سودة أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم -
فقالت يا رسول الله لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة ففعل فنزلت هذه الآية وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا الآية فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز وقال هشام

ابن عروة عن أبيه عن عائشة أنها نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد طلاقها ويتزوج غيرها فتقول أمسكني ولا تطلقني ثم تزوج وأنت في حل من النفقة والقسمة لي فذلك قوله تعالى فلا جناح عليهما إلى قوله تعالى والصلح خير وعن عائشة من طرق كثيرة أن سودة وهبت يومها لعائشة فكان النبي صلى الله عليه وسلم - يقسم به لها قال أبو بكر فهذه الآية دالة على وجوب القسم بين النساء إذا كان تحته جماعة وعلى وجوب الكون عندها إذا لم تكن عنده إلا واحدة وقضى كعب بن سور بأن لها يوما من أربعة أيام بحضرة عمر فاستحسنه عمر وولاه قضاء البصرة وأباح الله أن تترك حقها من القسم وأن تجعله لغيرها من نسائه وعموم الآية يقتضي جواز اصطلاحا على ترك المهر والنفقة والقسم وسائر ما يجب لها بحق الزوجية إلا أنه إنما يجوز لها إسقاط ما وجب من النفقة للماضي فأما المستقبل فلا تصح البراءة منه وكذلك لو أبرأت من الوطء لم يصح إبراؤها وكان لها المطالبة بحقها منه وإنما يجوز بطيب نفسها بترك المطالبة بالنفقة وبالكون عندها فأما أن تسقط ذلك في المستقبل بالبراءة منه فلا ولا يجوز أيضا أن يعطيها عوضا على ترك حقها من القسم أو الوطء لأن ذلك أكل مال بالباطل أو ذلك حق لا يجوز أخذ العوض عنه لأنه لا يسقط مع وجوب السبب الموجب له وهو عقد النكاح وهو مثل أن تبرئ الرجل من تسليم العبد المهر فلا يصح لوجود ما يوجبه وهو العقد فإن قيل فقد أجاز أصحابنا أن يخلعها على نفقة عدتها فقد أجازوا البراءة من نفقة لم تجب بعد مع وجود السبب الموجب لها وهي العدة قيل له لم يجيزوا البراءة من النفقة ولا فرق بين المختلعة والزوجة في امتناع وقوع البراءة من نفقة لم تجب بعد ولكنه إذا خالعها على نفقة العدة فإنما جعل الجعل مقدار نفقة العدة والجعل في الخلع يجوز فيه هذا القدر من الجهالة فصار ذلك في ضمانها بعقد الخلع ثم ما يجب لها بعد من نفقة العدة في المستقبل يصير قصاصا بماله عليها وقد دلت الآية على جواز اصطلاحهما من المهر على ترك جميعه أو بعضه أو على الزيادة عليه لأن الآية لم تفرق بين شيء من ذلك وأجازت الصلح في سائر الوجوه وقوله تعالى والصلح خير قال بعض أهل العلم يعني خير من الإعراض والنشوز وقال آخرون من الفرقة وجائز أن يكون عموما في جواز الصلح في سائر الأشياء إلا ما خصه الدليل ويدل على جواز الصلح عن إنكار والصلح من

المجهول وقوله تعالى وأحضرت الأنفس الشح
قال ابن عباس وسعيد بن جبير الشح على أنصبائهن من أزواجهن وأموالهن وقال الحسن تشح نفس كل واحد من الرجل والمرأة بحقه قبل صاحبه والشح البخل وهو الحرص على منع الخير قوله تعالى ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم الآية روي عن أبي عبيدة قال يعني المودة وميل الطباع وكذلك روي عن ابن عباس والحسن وقتادة
وقوله تعالى فلا تميلوا كل الميل يعني والله أعلم إظهاره بالفعل حتى ينصرف عنها إلى غيرها يدل عليه قوله فتذروها كالمعلقة قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة لا أيم ولا ذات زوج وقد روى قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط وهذا الخبر يدل أيضا على وجوب القسم بينهما بالعدل وأنه إذا لم يعدل فالفرقة أولى لقوله تعالى فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فقال تعالى بعد ذكره ما يجب لها من العدل في القسم وترك إظهار الميل عنها إلى غيرها وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته تسلية لكل واحد منهما عن الآخر وأن كل واحد منهما سيغنيه الله عن الآخر إذا قصدا الفرقة تخوفا من ترك حقوق الله التي أوجبها وأخبر أن رزق العباد كلهم على الله وأن ما يجريه منه على أيدي عباده فهو المسبب له والمستحق للحمد عليه وبالله التوفيق
باب ما يجب على الحاكم من العدل بين الخصوم
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم الآية روى قابوس عن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس في قوله يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله قال هو الرجلان يجلسان إلى القاضي فيكون لي القاضي وإعراضه عن الآخر وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن عبدالله بن مهران الدينوري قال حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا زهير قال حدثنا عباد بن كثير بن أبي عبدالله عن عطاء بن يسار عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لم يرفع على الآخر قال أبو بكر قوله تعالى كونوا قوامين بالقسط قد

أفاد الأمر بالقيام بالحق والعدل وذلك موجب على كل أحد إنصاف الناس من نفسه فيما يلزمه لهم وإنصاف المظلوم من ظالمه ومنع الظالم من ظلمه لأن جميع ذلك من القيام بالقسط ثم أكد ذلك بقوله شهداء لله يعني والله أعلم فيما إذا كان الوصول إلى القسط من طريق الشهادة فتضمن ذلك الأمر بإقامة الشهادة على الظالم المانع من الحق للمظلوم صاحب الحق لاستخراج حقه منه وأيضا له إليه وهو مثل قوله تعالى ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه وتضمن أيضا الأمر بالاعتراف والإقرار لصاحب الحق بحقه بقوله تعالى ولو على أنفسكم لأن شهادته على نفسه هو إقراره بما عليه لخصمه فدل ذلك على جواز إقرار المقر على نفسه لغيره وأنه واجب عليه أن يقر إذا طالبه صاحب الحق وقوله تعالى أو الوالدين والأقربين فيه أمر بإقامة الشهادة علىالوالدين والأقربين ودل على جواز شهادة الإنسان على والديه وعلى سائر أقربائه لأنهم والأجنبيين في هذا الموضع بمنزلة وإن كان الوالدان إذا شهد عليهما أولادهما ربما أوجب ذلك حبسهما وأن ذلك ليس بعقوق ولا يجب أن يمتنع من الشهادة عليهما لكراهتهما لذلك لأن ذلك منع لهما من الظلم وهو نصرة لهما كما قال ص -
أنصر أخاك ظالما أو مظلوما فقيل يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما قال ترده عن الظلم فذلك نصر منك إياه وهو مثل قوله ص - لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وهذا يدل على أنه إنما تجب عليه طاعة الأبوين فيما يحل ويجوز وأنه لا يجوز له أن يطيعهما في معصية الله تعالى لأن الله قد أمره بإقامة الشهادة عليهما مع كراهتهما لذلك
وقوله تعالى إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما أمر لنا بأن لا ننظر إلى فقر المشهود عليه بذلك إشفاقا منا عليه فإن الله أولى بحسن النظر لكل أحد من الأغنياء والفقراء وأعلم بمصالح الجميع فعليكم إقامة الشهادة عليهم بما عندكم
وقوله تعالى فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا يعني لا تتركوا العدل اتباعا للهوى والميل إلى الأقرباء وهو نظير قوله تعالى إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى وفي ذلك دليل على أن على الشاهد إقامة الشهادة على الذي عليه الحق وإن كان عالما بفقره وأنه لا يجوز له الامتناع من إقامتها خوفا من أن يحبسه القاضي لفقد علمه بعدمه
وقوله تعالى وإن تلووا أو تعرضوا فإنه يحتمل ما روي عن ابن عباس أنه في القاضي يتقدم إليه الخصمان فيكون

ليه وإعراضه على أحدهما واللي هو الدفع ومنه قوله لي الواجد يحل عرضه وعقوبته يعني مطله ودفع الطالب عن حقه فإذا أريد به القاضي كان معناه دفعه الخصم عما يجب له من العدل والتسوية ويحتمل أن يريد به الشاهد في أنه مأمور بإقامة الشهادة وأن لا يدفع صاحب الحق عنها ويمطله بها ويعرض عنه إذا طالبه بإقامتها وليس يمتنع أن يكون أمرا للحاكم والشاهد جميعا لاحتمال اللفظ لهما فيفيد ذلك الأمر بالتسوية بين الخصوم في المجلس والنظر والكلام وترك إسرار احدهما والخلوة به كما روي عن علي كرم الله وجهه قال نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أن نضيف أحد الخصمين دون الآخر وقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله قيل فيه يا أيها الذين آمنوا بمن قبل محمد من الأنبياء آمنوا بالله وبمحمد وما أتى به من عند الله لأنهم من حيث آمنوا بالمتقدمين من الأنبياء لما كان معهم من الآيات فقد ألزمهم الإيمان بمحمد ص -
لهذه العلة بعينها ومن جهة أخرى أن في كتب الأنبياء المتقدمين البشارة بمحمد ص - فمن حيث آمنوا بهم وصدقوا بما اخبروا به عن الله تعالى وقد أخبروهم نبوة محمد ص -
فعليهم الإيمان به وهم محجوجون بذلك وقيل إنه خطاب للمؤمنين بمحمد ص - وأمر لهم بالمداومة على الإيمان والثبات عليه والله أعلم
باب
استتابة المرتد قال الله تعالى إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا قال قتادة يعني به أهل الكتابين من اليهود والنصارى آمن اليهود بالتوراة ثم كفروا بمخالفتها وكذلك آمنوا بموسى عليه السلام ثم كفروا بمخالفته وآمن النصارى بالإنجيل ثم كفروا بمخالفته وكذلك آمنوا بعيسى عليه السلام ثم كفروا بمخالفته ثم ازدادوا كفرا بمخالفة الفرقان ومحمد ص - وقال مجاهد هي في المنافقين آمنوا ثم ارتدوا ثم ماتوا على كفرهم وقال آخرون هم طائفة من أهل الكتاب قصدت تشكيك أهل الإسلام وكانوا يظهرون الإيمان به والكفر به وقد بين الله أمرهم في قوله
وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون
قال أبو بكر هذا يدل على أن المرتد متى تاب تقبل توبته وإن توبة الزنديق مقبولة إذ لم تفرق بين الزنديق وغيره من الكفار وقبول توبته بعد الكفر مرة بعد

أخرى والحكم بإيمانه متى أظهر الإيمان واختلف الفقهاء في استتابة المرتد والزنديق فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر في الأصل لا يقتل المرتد حتى يستتاب ومن قتل مرتدا قبل أن يستتاب فلا ضمان عليه وذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف في الزنديق الذي يظهر الإيمان قال أبو حنيفة أستتيبه كالمرتد فإن أسلم خليت سبيله وإن أبى قتلته وقال أبو يوسف كذلك زمانا فلما رأى ما يصنع الزنادقة ويعودون قال أرى إذا أتيت بزنديق آمر بضرب عنقه ولا أستتيبه فإن تاب قبل أن أقتله خليته وذكر سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبي يوسف قال إذا زعم الزنديق أنه قد تاب حبسته حتى أعلم توبته وذكر محمد في السير عن أبي يوسف عن أبي حنيفة إن المرتد يعرض عليه السلام فإن أسلم وإلا قتل مكانه إلا أن يطلب أن يؤجل فإن طلب ذلك أجل ثلاثة أيام ولم يحك خلافا
قال أبو جعفر الطحاوي وحدثنا سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبي يوسف في نوادر ذكرها عنه أدخلها في أماليه عليهم قال قال أبو حنيفة أقتل الزنديق سرا فإن توبته لا تعرف ولم يحك أبو يوسف خلافه وقال ابن القاسم عن مالك المرتد يعرض عليه الإسلام ثلاثا فإن أسلم وإلا قتل وإن ارتد سرا قتل ولم يستتب كما يقتل الزنادقة وإنما يستتاب من أظهر دينه الذي ارتد إليه قال مالك يقتل الزنادقة ولا يستتابون فقيل لمالك فكيف يستتاب القدرية قال يقال لهم اتركوا ما أنتم عليه فإن فعلوا وإلا قتلوا وإن أقر القدرية بالعلم لم يقتلوا
وروى مالك عن زيد بن أسلم قال قال النبي صلى الله عليه وسلم - من غير دينه فاضربوا عنقه قال مالك هذا فيمن ترك الإسلام ولم يقربه لا فيمن خرج من اليهودية إلى النصرانية ولا من النصرانية إلى اليهودية قال مالك وإذا رجع المرتد إلى الإسلام فلا ضرب عليه وحسن أن يترك المرتد ثلاثة أيام ويعجبني وقال الحسن بن صالح يستتاب المرتد وإن تاب مائة مرة وقال الليث الناس لا يستتيبون من ولد في الإسلام إذا شهد عليه بالردة ولكنه يقتل تاب من ذلك أو لم يتب إذا قامت البينة العادلة وقال الشافعي يستتاب المرتد ظاهرا والزنديق وإن لم يتب قتل وفي الاستتابة ثلاثا قولان أحدهما حديث عمر والآخر أنه لا يؤخر لأن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يأمر فيه بأناة وهذا ظاهر الخبر قال أبو بكر روى سفيان عن جابر عن الشعبي قال يستتاب المرتد ثلاثا ثم قرأ إن الذين آمنوا ثم كفروا الآية وروي

عن عمر أنه أمر باستتابته ثلاثا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من بدل دينه فاقتلوه ولم يذكر فيه استتابته إلا أنه يجوز أن يكون محمولا على أنه قد استحق القتل وذلك لا يمنع دعاءه إلى الإسلام والتوبة لقوله تعالى ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة الآيةوقال تعالى قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني فأمر بالدعاء إلى دين الله تعالى ولم يفرق بين المرتد وبين غيره فظاهره يقتضي دعاء المرتد إلى الإسلام كدعاء سائر الكفار ودعاؤه إلى الإسلام هو الاستتابة وقال تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وقد تضمن ذلك الدعاء إلى الإيمان ويحتج بذلك أيضا في استتابة الزنديق لاقتضاء عموم اللفظ له وكذلك قوله إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا لم يفرق فيه بين الزنديق وغيره فظاهره يقتضي قبول إسلامه فإن قيل قوله تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف لا دلالة فيه على زوال القتل عنه لأنا نقول هو مغفور له ذنوبه ويجب مع ذلك قتله كما يقتل الزاني المحصن وإن كان تائبا ويقتل قاتل النفس مع التوبة
قيل له قوله تعالى إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف يقتضي غفران ذنوبه وقبول توبته لو لم تكن مقبولة لما كانت ذنوبه مغفورة وفي ذلك دليل على صحة استتابته وقبولها منه في أحكام الدنيا والآخرة وأيضا فإن قتل الكافر إنما هو مستحق بإقامته على الكفر فإذا انتقل عنه إلى الإيمان فقد زال المعنى الذي من أجله وجب قتله وعاد إلى حظر دمه ألا ترى أن المرتد ظاهرا متى أظهر الإسلام حقن دمه كذلك الزنديق وقد روي عن ابن عباس في المرتد الذي لحق بمكة وكتب إلى قومه سلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم -
هل لي من توبة فأنزل الله كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم إلى قوله تعالى إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فكتبوا بها إليه فرجع فأسلم فحكم له بالتوبة بما ظهر من قوله فوجب استعمال ذلك والحكم له بما يظهر منه دون ما في قلبه
وقول من قال إني لا أعرف توبته إذا كفر سرا فإنا لا نؤاخذ باعتبار حقيقة اعتقاده لأن ذلك لا نصل إليه وقد حظر الله علينا الحكم بالظن بقوله تعالى اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
إياكم والظن فإنه أكذب الحديث وقال تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وقال إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن ومعلوم أنه لم يرد حقيقة العلم بضمائرهن

واعتقادهن وإنما أراد ما ظهر من إيمانهن بالقول وجعل ذلك علما فدل على أنه لا اعتبار بالضمير في أحكام الدنيا وإنما الاعتبار بما يظهر من القول وقال تعالى ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا وذلك عموم في جميع الكفار وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
لأسامة بن زيد حين قتل الرجل الذي قال لا إله إلا الله فقال إنما قالها متعوذا قال هلا شققت عن قلبه
وروى الثوري عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب أنه أتى عبدالله فقال ما بيني وبين أحد من العرب أحنة وأني مررت بمسجد بني حنيفة فإذا هم يؤمنون بمسيلمة فأرسل إليهم عبدالله فجاء بهم واستتابهم غير ابن النواحة قال له سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول لولا أنك رسول لضربت عنقك فأنت اليوم لست برسول أبن ما كنت تظهر من الإسلام قال كنت أتقيكم به فأمر به قرظة بن كعب فضرب عنقه بالسوق ثم قال من أراد أن ينظر إلى ابن النواحة قتيلا بالسوق فهذا مما يحتج به من لم يقبل توبة الزنديق وذلك لأنه استتاب القوم وقد كانوا مظهرين لكفرهم وأما ابن النواحة فلم يستتبه لأنه أقر أنه كان مسرا للكفر مظهرا للإيمان على وجه التقية وقد كان قتله إياه بحضرة الصحابة لأن في الحديث أنه شاور الصحابة فيهم وروى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله قال أخذ بالكوفة رجال يؤمنون بمسيلمة الكذاب فكتب فيهم إلى عثمان فكتب عثمان أعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فمن قالها وتبرأ من دين مسيلمة فلا تقتلوه ومن لزم دين مسيلمة فاقتله فقبلها رجال منهم ولزم دين مسيلمة رجال فقتلوا
قوله تعالى بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين قيل في معنى قوله أولياء من دون المؤمنين إنهم اتخذوهم أنصارا واعتضادا لتوهمهم أن لهم القوة والمنعة بعداوتهم للمسلمين بالمخالفة جهلا منهم بدين الله وهذا من صفة المنافقين المذكورين في الآية وهذا يدل على أنه غير جائز للمؤمنين الاستنصار بالكفار على غيرهم من الكفار إذ كانوا متى غلبوا كان حكم الكفر هو الغالب وبذلك قال أصحابنا
وقوله أيبتغون عندهم العزة يدل على صحة هذا الاعتبار وأن الاستعانة بالكفار لا تجوز إذ كانوا متى غلبوا كان الغلبة والظهور للكفار وكان حكم الكفر هو الغالب
فإن قيل إذا كانت الآية في شأن المنافقين وهم كفار فكيف يجوز الاستدلال به على المؤمنين قيل له لأنه قد ثبت أن هذا الفعل محظور فلا يختلف

حكمه بعد ذلك أن يكون من المؤمنين أو من غيرهم لأن الله تعالى متى ذم قوما على فعل فذلك الفعل قبيح لا يجوز لأحد من الناس فعله إلا أن تقوم الدلالة عليه وقيل إن أصل العزة هو الشدة ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة عزاز وقيل قد استعز المرض على المريض إذا اشتد مرضه ومنه قول القائل عز علي كذا إذا اشتد عليه وعز الشيء إذا قل لأنه يشتد مطلبه وعازه في الأمر إذا شاده فيه وشاة عزوز إذا كانت تحلب بشدة لضيق أحاليلها والعزة القوة منقولة عن الشدة والعزيز القوي المنيع فتضمنت الآية النهي عن اتخاذ الكفار أولياء وأنصارا أو الاعتزاز بهم والالتجاء إليهم للتعزز بهم
وقد حدثنا من لا أتهم قال حدثنا عبدالله بن إسحاق بن إبراهيم الدوري قال حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب قال حدثنا عبدالله بن عبدالله الأموي عن الحسن بن الحر عن يعقوب بن عتبة عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من اعتز بالعبيد أذله الله تعالى وهذا محمول علىمعنى الآية فيمن اعتز بالكفار والفساق ونحوهم فأما أن يعتز بالمؤمنين فذلك غير مذموم قال الله تعالى ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين وقوله تعالى أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا تأكيد للنهي عن الاعتزاز بالكفار وإخبار بأن العزة لله دونهم وذلك منصرف على وجوه أحدها امتناع إطلاق العزة لله عز و جل لأنه لا يعتد بعزة أحد مع عزته لصغرها واحتقارها في صفة عزته والآخر أنه المقوي لمن له القوة من جميع خلقه فجميع العزة له إذ كان عزيزا لنفسه معزا لكل من نسب إليه شيء من العزة والآخر أن الكفار أذلاء في حكم الله فانتفت عنهم صفة العزة وكانت لله ومن جعلها له في الحكم وهم المؤمنون فالكفار وإن حصل لهم ضرب من القوة والمنعة فغير مستحق لإطلاق اسم العزة لهم
قوله تعالى وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فيه نهي عن مجالسة من يظهر الكفر والاستهزاء بآيات الله فقال تعالى فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره وحتى ههنا تحتمل معنيين أحدهما أنها تصير غاية لحظر القعود معهم حتى إذا تركوا إظهار الكفر والاستهزاء بآيات الله زال الحظر عن مجالستهم والثاني أنهم كانوا إذا رأوا هؤلاء أظهروا الكفر والاستهزاء بآيات الله فقال لا تقعدوا معهم لئلا يظهروا ذلك ويزدادوا كفرا واستهزاء بمجالستكم لهم والأول أظهر وروي عن الحسن أن ما اقتضته الآية من

إباحة المجالسة إذا خاضوا في حديث غيره منسوخ بقوله فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين قيل إنه يعني مشركي العرب وقيل أراد به المنافقين الذين ذكروا في هذه الآية وقيل بل هي عامة في سائر الظالمين
وقوله إنكم إذا مثلهم قد قيل فيه وجهان أحدهما في العصيان وإن لم تبلغ معصيتهم منزلة الكفر والثاني إنكم مثلهم في الرضى بحالهم في ظاهر أمركم والرضى بالكفر والاستهزاء بآيات الله تعالى كفر ولكن من قعد معهم ساخطا لتلك الحال منهم لم يكفر وإن كان غير موسع عليه في القعود معهم وفي هذه الآية دلالة على وجوب إنكار المنكر على فاعله وأن من إنكاره إظهار الكراهة إذا لم يمكنه إزالته وترك مجالسة فاعله والقيام عنه حتى ينتهي ويصير إلى حال غيرها فإن قيل فهل يلزم من كان بحضرته منكر أن يتباعد عنه وأن يصير بحيث لا يراه ولا يسمعه قيل له قد قيل في هذا أنه ينبغي له أن يفعل ذلك إذا لم يكن في تباعده وترك سماعه ترك الحق عليه من نحو ترك الصلاة في الجماعة لأجل ما يسمع من صوت الغناء والملاهي وترك حضور الجنازة لما معها من النوح وترك حضور الوليمة لما هناك من اللهو واللعب فإذا لم يكن هناك شيء من ذلك فالتباعد عنهم أولى وإذا كان هناك حق يقوم به ولم يلتفت إلى ما هناك من المنكر وقام بما هو مندوب إليه من حق بعد إظهاره لإنكاره وكراهته وقال قائلون إنما نهى الله عن مجالسة هؤلاء المنافقين ومن يظهر الكفر والاستهزاء بآيات الله لأن في مجالستهم تأنيسا لهم ومشاركتهم فيما يجري في مجلسهم وقد قال أبو حنيفة في رجل يكون في الوليمة فيحضر هناك اللهو واللعب أنه لا ينبغي له أن يخرج وقال لقد ابتليت به مرة وروي عن الحسن أنه حضر هو وابن سيرين جنازة وهناك نوح فانصرف ابن سيرين فذكر ذلك للحسن فقال إنا كنا متى رأينا باطلا وتركنا حقا أسرع ذلك في ديننا لم نرجع وإنما لم ينصرف لأن شهود الجنازة حق قد ندب إليه وأمر به فلا يتركه لأجل معصية غيره وكذلك حضور الوليمة قد ندب إليها النبي صلى الله عليه وسلم - فلم يجز أن يترك لأجل المنكر الذي يفعله غيره إذا كان كارها له وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن عبدالله الغداني قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثنا سعيد بن عبدالعزيز عن سليمان بن موسى عن نافع قال سمع ابن عمر مزمارا فوضع اصبعيه في أذنيه ونأى عن الطريق وقال لي يا نافع هل تسمع شيئا فقلت لا فرفع أصبعيه من أذنيه وقال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم - فسمع

مثل هذا فصنع مثل هذا وهذا هو اختيار لئلا تساكنه نفسه ولا تعتاد سماعه فيهون عنده أمره فأما أن يكون واجبا فلا قوله تعالى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا روي عن علي وابن عباس قالا سبيلا في الآخرة وعن السدي ولن يجعل الله لهم عليهم حجة يعني فيما فعلوا بهم من قتلهم وإخراجهم من ديارهم فهم في ذلك ظالمون لا حجة لهم فيه ويحتج بظاهره في وقوع الفرقة بين الزوجين بردة الزوج لأن عقد النكاح يثبت عليها للزوج سبيلا في إمساكها في بيته وتأديبها ومنعها من الخروج وعليها طاعته فيما يقتضه عقد النكاح كما قال تعالى الرجال قوامون على النساء فاقتضى قوله تعالى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا وقوع الفرقة بردة الزوج وزوال سبيله عليها لأنه ما دام النكاح باقيا فحقوقه ثابتة وسبيله باق عليها
فإن قيل إنما قال على المؤمنين فلا تدخل النساء فيه
قيل له إطلاق لفظ التذكير يشتمل على المؤنث والمذكر كقوله إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا وقد أراد به الرجال والنساء وكذلك قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ونحوه من الألفاظ ويحتج بظاهره أيضا في الكافر الذمى إذا أسلمت امرأته أنه يفرق بينهما إن لم يسلم وفي الحربي كذلك أيضا فإنه لا يجوز إقرارها تحته أبدا ويحتج به أصحاب الشافعي في إبطال شرى الذمي للعبد المسلم لأنه بالملك يستحق السبيل عليه وليس ذلك كما قالوا لأن الشرى ليس هو المنفي بالآية لأن ا لشرا ليس هو الملك الملك إنما يتعقب الشرى وحينئذ يملك السبيل عليه فإذا ليس في الآية نفي الشرى وإنما فيها نفي السبيل
فإن قيل إذا كان الشرى هو المؤدي إلى حصول السبيل وجب أن يكون منتفيا كما كان السبيل منتفيا قيل له ليس الأمر كذلك لأنه ليس يمتنع أن يكون السبيل عليه منتفيا ويكون الشرى المؤدي إلى حصول السبيل جائزا وإنما أردت نفي الشرى بالآية نفسها فإن ضممت إلى الآية معنى آخر في نفي الشرى فقد عدلت عن الاحتجاج بها وثبت بذلك أن الآية غير مانعة صحة الشرىوأيضا فإنه لا يستحق بصحة الشرى السبيل عليه لأنه ممنوع من استخدامه والتصرف فيه إلا بالبيع وإخراجه عن ملكه فلم يحصل له ههنا سبيل عليه وقوله تعالى إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم قيل فيه وجهان أحدهما يخادعون نبي الله والمؤمنين بما يظهرون من الإيمان لحقن دمائهم ومشاركة المسلمين في غنائمهم والله تعالى يخادعهم بالعقاب على خداعهم فسمى الجزاء

على الفعل باسمه على مزاوجة الكلام كقوله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه والآخر أنهم يعملون عمل المخادع لمالكه بما يظهرون من الإيمان ويبطنون خلافه وهو يعمل عمل المخادع بما أمر به من قبول إيمانهم من علمهم بأن الله عليم بما يبطنون من كفرهم
وقوله تعالى ولا يذكرون الله إلا قليلا قيل فيه إنما سماه قليلا لأنه لغير وجهه فهو قليل في المعنى وإن كثر الفعل منهم وقال قتادة إنما سماه قليلا لأنه على وجه الرياء فهو حقير غير متقبل منهم بل هو وبال عليهم وقيل إنه أراد إلا يسيرا من الذكر نحو ما يظهرونه للناس دون ما أمروا به من ذكر الله في كل حال أمر به المؤمنين في قوله تعالى فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم وأخبر أيضا أنهم يقومون إلى الصلاة كسالى مراآة للناس والكسل هو التثاقل عن الشيء للمشقة فيه مع ضعف الدواعي إليه فلما لم يكونوا معتقدين للإيمان لم يكن لهم داع إلى الصلاة إلا مراآة للنا خوفا منهم
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين فإن الولي هو الذي يتولى صاحبه بما يجعل له من النصرة والمعونة على أمره والمؤمن ولي الله بما يتولى من إخلاص طاعته والله ولي المؤمنين بما يتولى من جزائهم على طاعته واقتضت الآية النهي عن الاستنصار بالكفار والاستعانة بهم والركون إليهم والثقة بهم وهو يدل على أن الكافر لا يستحق الولاية على المسلم بوجه ولدا كان أو غيره ويدل على أنه لا تجوز الاستعانة بأهل الذمة في الأمور التي يتعلق بها التصرف والولاية وهو نظير قوله لا تتخذوا بطانة من دونكم وقد كره أصحابنا توكيل الذمي في الشرى والبيع ودفع المال إليه مضاربة وهذه الآية دالة على صحة هذا القول
قوله تعالى وأخلصوا دينهم لله يدل على أن كل ما كان من أمر الدين على منهاج القرب فسبيله أن يكون خالصا لله سالما من شوب الرياء أو طلب عرض من الدنيا أو ما يحبطه من المعاصي وهذا يدل على امتناع جواز أخذ شيء من أعراض الدنيا على ما سبيله أن لا يفعل إلا على وجه القربة من نحو الصلاة والأذان والحج
قوله عز و جل لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم قال ابن عباس وقتادة إلا أن يدعو على ظالمه وعن مجاهد رواية إلا أن يخبر بظلم ظالمه له وقال الحسن والسدي إلا أن ينتصر من ظالمه وذكر الفرات بن سليمان قال سئل عبدالكريم عن قول الله لا يحب الله الجهر

بالسوء من القول إلا من ظلم قال هو الرجل يشتمك فتشتمه ولكن إن افترى عليك فلا تفتري عليه وهو مثل قوله ولمن انتصر بعد ظلمه وروى ابن عيينة عن أبي نجيح عن إبراهيم بن أبي بكر عن مجاهد في قوله لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم قال ذاك في الضيافة إذا جئت الرجل فلم يضفك فقد رخص أن تقول فيه
قال أبو بكر إن كان التأويل كما ذكر فقد يجوز أن يكون ذلك في وقت كانت الضيافة واجبة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - الضيافة ثلاثة أيام فما زاد فهو صدقة وجائز أن يكون فيمن لا يجد ما يأكل فيستضيف غيره فلا يضيفه فهذا مذموم يجوز أن يشكى وفي هذه الآية دلالة على وجوب الإنكار على من تكلم بسوء فيمن كان ظاهره الستر والصلاح لأن الله تعالى قد أخبر أنه لا يحب ذلك وما لا يحبه فهو الذي لا يريده فعلينا أن نكرهه وننكره وقال إلا من ظلم فما لم يظهر لنا ظلمه فعلينا إنكار سوء القول فيه
وقوله تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم قال قتادة عوقبوا على ظلمهم وبغيهم بتحريم أشياء عليهم وفي ذلك دليل على جواز تغليظ المحنة عليهم بالتحريم الشرعي عقوبة لهم على ظلمهم لأن الله تعالى قد أخبر في هذه الآية أنه حرم عليهم طيبات بظلمهم وصدهم عن سبيل لله والذي حرم عليهم ما بينه تعالى في قوله وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وقوله وأخذهم الربوا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل يدل على أن الكفار مخاطبون بالشرائع مكلفون بها مستحقون للعقاب على تركها لأن الله تعالى قد ذمهم على أكل الربا وأخبر أنه عاقبهم عليه
قوله تعالى لكن الراسخون في العلم منهم روي عن قتادة أن لكن ههنا استثناء وقيل أن لا ولكن قد تتفقان في الإيجاب بعد النفي أو النفي بعد الإيجاب وتطلق إلا ويراد بها لكن كقوله تعالى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومعناه لكن إن قتله خطأ فتحرير رقبة فأقيمت إلا في هذا الموضع مقام لكن وتنفصل لكن من إلا بأن إلا لإخراج بعض من كل ولكن قد تكون بعد الواحد نحو قولك ما جاءني زيد لكن عمرو وحقيقة لكن الاستدراك ولا للتخصيص قوله تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم روي عن الحسن أنه خطاب لليهود والنصارى لأن النصارى غلت

في المسيح فجاوزوا به منزلة الأنبياء حتى اتخذوه إلها واليهود غلت فيه فجعلوه لغير رشدة فغلا الفريقان جميعا في أمره والغلو في الدين هو مجاوزة حد الحق فيه وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم - سأله أن يناوله حصيات لرمي الجمار قال فناولته إياها مثل حصا الخذف فجعل يقلبهن بيده ويقول بمثلهن بمثلهن إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من قبلكم بالغلو في دينهم ولذلك قيل دين الله بين المقصر والغالي
قوله تعالى وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه قيل في وصف المسيح بأنه كلمة الله ثلاثة أوجه أحدها ما روي عن الحسن وقتادة أنه كان عيسى بكلمة الله وهو قوله كن فيكون لا على سبيل ما أجري العادة به من حدوثه من الذكر والأنثى جميعا والثاني أنه يهتدى به كما يهتدى بكلمة الله والثالث ما تقدم من البشارة به في الكتب المتقدمة التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه
وأما قوله تعالى وروح منه فلأنه كان بنفخة جبريل بإذن الله والنفخ يسمى روحا كقول ذي الرمة ... فقلت له أرفعها إليك وأحيها ... بروحك واقتته لها قيتة قدرا ...
أي بنفختك وقيل إنما سماه روحا لأنه يحيى الناس به كما يحيون بالأرواح ولهذا المعنى سمي القرآن روحا في قوله وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا وقيل لأنه روح من الأرواح كسائر أرواح الناس وأضافه الله تعالى إليه تشريفا له كما يقال بيت الله وسماء الله
قوله يبين الله لكم أن تضلوا قيل فيه إنه بمعنى لئلا تضلوا فحذف لا كما تحذف مع القسم في قولك والله أبرح قاعدا أي لا أبرح قال الشاعر ... تالله يبقى على الأيام ذو حيد ...
معناه لا يبقى وقيل يبين الله لكم كراهة أن تضلوا كقوله واسئل القرية يعني أهل القرية
سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود روي عن ابن عباس ومجاهد ومطرف

والربيع والضحاك والسدي وابن جريج والثوري قالوا العقود في هذا الموضع أراد بها العهود وروى معمر عن قتادة قال هي عقود الجاهلية الحلف وروى جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا حلف في الإسلام وأما حلف الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة وروى ابن عيينة عن عاصم الأحول قال سمعت أنس بن مالك يقول حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار في دارنا فقيل له قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
لا حلف في الإسلام وما كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فقال حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار في دارنا قال ابن عيينة إنما آخى بين المهاجرين والأنصار قال أبو بكر قال الله تعالى والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم فلم يختلف المفسرون أنهم في أول الإسلام قد كانوا يتوارثون بالحلف دون النسب وهو معنى قوله والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إلى أن جعل الله ذوي الأرحام أولى من الحليف بقوله وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين فقد كان حلف الإسلا على التناصر والتوارث ثابتا صحيحا وأما قوله لا حلف في الإسلام فإنه جائز أن يريد به الحلف علىالوجوه التي كان عليها الحلف في الجاهلية وكان هذا القول منه بعد نسخ التوارث بالحلف وقد كان حلف الجاهلية على وجوه منها الحلف في التناصر فيقول أحدهما لصاحبه إذا حالفه دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك فيتعاقدان الحلف على أن ينصر كل واحد منهم صاحبه فيدفع عنه ويحميه بحق كان ذلك أو بباطل ومثله لا يجوز في الإسلام لأنه لا يجوز أن يتعاقدا الحلف على أن ينصره على الباطل ولا أن يزوي ميراثه عن ذي أرحامه ويجعله لحليفه فهذا أحد وجوه الحلف الذي لا يجوز مثله في الإسلام وقد كانوا يتعاقدون الحلف للحماية والدفع وكانوا يدفعون إلى ضرورة لأنهم كانوا نشرا لا سلطان عليهم ينصف المظلوم من الظالم ويمنع القوي عن الضعيف فكانت الضرورة تؤديهم إلى التحالف فيمتنع به بعضهم من بعض وكان ذلك معظم ما يراد الحلف من أجله ومن أجل ذلك كانوا يحتاجون إلى الجوار وهو أن يجير الرجل أو الجماعة أو العير على قبيلة ويؤمنهم فلا ينداه مكروه منهم فجائز أن يكون أراد بقوله لا حلف في الإسلام هذا الضرب من الحلف وكانوا يحتاجون إلى الحلف في أول الإسلام

لكثرة أعدائهم من سائر المشركين ومن يهود المدينة ومن المنافقين فلما أعز الله الإسلام وكثر أهله وامتنعوا بأنفسهم وظهروا على أعدائهم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم -
باستغنائهم عن التحالف لأنهم قد صاروا كلهم يدا واحدة على أعدائهم من الكفار بما أوجب الله عليهم من التناصر والموالاة بقوله تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وقال النبي صلى الله عليه وسلم - المؤمنون يد على من سواهم وقال ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن إخلاص العمل لله والنصيحة لولاة الأمر ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من وراءهم فزال التناصر بالحلف وزال الجوار ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم ولعلك أن تعيش حتى ترى المرأة تخرج من القادسية إلى اليمن بغير جوار ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - لا حلف في الإسلام وأما قوله وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فإنما يعني به الوفاء بالعهد مما هو مجوز في العقول مستحسن فيها نحو الحلف الذي عقده الزبير بن عبدالمطلب قال النبي صلى الله عليه وسلم - ما أحب أن لي بحلف حضرته حمر النعم في دار ابن جدعان وإني أغدر به هاشم وزهرة وتيم تحالفوا أن يكونوا مع المظلوم ما بل بحر صوفه ولو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت وهو حلف الفضول وقيل إن الحلف كان على منع المظلوم وعلى التأسي في المعاش فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم - أنه حضر هذا الحلف قبل النبوة وأنه لو دعي إلى مثله في الإسلام لأجاب لأن الله تعالى قد أمر المؤمنين بذلك وهو شيء مستحسن في العقول بل واجب فيها قبل ورود الشرع فعلمنا أن قوله لا حلف في الإسلام إنما أراد به الذي لا تجوزه العقول ولا تبيحه الشريعة وقد روي عنه ص - أنه قال حضرت حلف المطيبين وأنا غلام وما أحب أن أنكثه وأن لي حمر النعم وقد كان حلف المطيبين بين قريش على أن يدفعوا عن الحرم من أراد انتهاك حرمته بالقتال فيه وأما قوله وما كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فهو نحو حلف المطيبين وحلف الفضول وكل ما يلزم الوفاء به من المعاقدة دون ما كان منه معصية لا تجوزه الشريعة والعقد في اللغة هو الشد تقول عقدت الحبل إذا شددته واليمين على المستقبل تسمى عقدا قال الله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان والحلف يسمىعقدا قال الله تعالى والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم وقال أبو عبيدة في قوله أوفوا بالعقود قال هي العهود والأيمان وروي عن ===الاتي ان شاء الله ج11وج12.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج22.تذكرة الحفاظ/شيوخ صاحب التذكرة الجزء الاخير

شيوخ صاحب تذكرة الحفاظ ج22. 1- ولقد انتفعت وتخرجت بشيخنا الإمام العالم المحدث الحافظ الشهيد أبي الحسين علي ابن الشيخ الفقيه ببعلبك ولز...