ج19.وج20.
ج19. كتاب أحكام القرآن ابن العربي
الَّتِي بَعْدَهُ ، وَهِيَ مِمَّا تُبَيِّنُهُ ،
وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ } .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ يَسْلُبُ الْمَعْرِفَةَ
عِنْدَ كَثْرَةِ الِاسْتِتَارِ ، فَدَلَّ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ :
عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ تَمْيِيزَهُنَّ عَلَى الْإِمَاءِ اللَّاتِي يَمْشِينَ
حَاسِرَاتٍ ، أَوْ بِقِنَاعٍ مُفْرَدٍ ، يَعْتَرِضُهُنَّ الرِّجَالُ
فَيَتَكَشَّفْنَ ، وَيُكَلِّمْنَهُنَّ ؛ فَإِذَا تَجَلْبَبَتْ وَتَسَتَّرَتْ كَانَ
ذَلِكَ حِجَابًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُتَعَرِّضِ بِالْكَلَامِ ، وَالِاعْتِمَادُ
بِالْإِذَايَةِ ، وَقَدْ قِيلَ : وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : إنَّ
الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ
.
قَالَ قَتَادَةُ : كَانَتْ الْأَمَةُ إذَا مَرَّتْ
تَنَاوَلَهَا الْمُنَافِقُونَ بِالْإِذَايَةِ ، فَنَهَى اللَّهُ الْحَرَائِرَ أَنْ
يَتَشَبَّهْنَ بِالْإِمَاءِ ؛ لِئَلَّا يَلْحَقَهُنَّ مِثْلُ تِلْكَ الْإِذَايَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ
يَضْرِبُ الْإِمَاءَ عَلَى التَّسَتُّرِ وَكَثْرَةِ التَّحَجُّبِ ، وَيَقُولُ :
أَتَتَشَبَّهْنَ بِالْحَرَائِرِ ؟ وَذَلِكَ مِنْ تَرْتِيبِ أَوْضَاعِ الشَّرِيعَةِ
بَيِّنٌ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله
تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ آذَوْا
مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ الثَّابِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا سَتِيرًا
حَيِيًّا مَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ ، فَآذَاهُ مَنْ
آذَاهُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ، وَقَالُوا : مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إلَّا
مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ ، إمَّا بَرَصٌ ، وَإِمَّا أُدْرَةٌ ، وَإِمَّا آفَةٌ ،
وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا ، وَإِنَّ مُوسَى خَلَا
يَوْمًا وَحْدَهُ ، وَخَلَعَ ثِيَابَهُ ، وَوَضَعَهَا عَلَى حَجَرٍ ، ثُمَّ
اغْتَسَلَ .
فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا
، وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ ، فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ ، فَطَلَبَ
الْحَجَرَ ؛ فَجَعَلَ يَقُولُ :
ثَوْبِي ، حَجَرٌ ؛ ثَوْبِي ، حَجَرٌ ، حَتَّى انْتَهَى
إلَى مَلَإٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ، فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ النَّاسِ
خَلْقًا ، وَأَبْرَأَهُمْ مِمَّا كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ .
قَالَ : وَقَامَ إلَى الْحَجَرِ ، وَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ
، وَطَفِقَ مُوسَى بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ ، فَوَاَللَّهِ إنَّ بِالْحَجَرِ
لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ عَصَاهُ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا ؛ فَذَلِكَ
قَوْلُهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ آذَوْا
مُوسَى } .
فَهَذِهِ إذَايَةٌ فِي بَدَنِهِ } .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ فِي الْمَنْثُورِ : أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ صَعِدَا الْجَبَلَ فَمَاتَ هَارُونُ ،
فَقَالَ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى : أَنْتَ قَتَلْته ، وَكَانَ أَلْيَنَ لَنَا مِنْك
، وَأَشَدَّ حُبًّا ؛ فَآذَوْهُ فِي ذَلِكَ ، فَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَحَمَلْته
، فَمَرُّوا بِهِ عَلَى مَجَالِسِ بَنِي إسْرَائِيلَ ، فَتَكَلَّمَتْ
الْمَلَائِكَةُ بِمَوْتِهِ ، فَمَا عَرَفَ مَوْضِعَ قَبْرِهِ إلَّا الرَّخَمُ ،
وَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ أَصَمَّ أَبْكَمَ ، وَهَذِهِ
إذَايَةٌ فِي الْعِرْضِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي هَذَا النَّهْيِ عَنْ
التَّشَبُّهِ بِبَنِي إسْرَائِيلَ فِي إذَايَةِ نَبِيِّهِمْ مُوسَى : وَفِيهِ
تَحْقِيقُ الْوَعْدِ بِقَوْلِهِ : { لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ } .
وَهِيَ
: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فَوَقَعَ النَّهْيُ ،
تَكْلِيفًا لِلْخَلْقِ ، وَتَعْظِيمًا لِقَدْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَقَعَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ تَحْقِيقًا لِلْمُعْجِزَةِ ،
وَتَصْدِيقًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَنْفِيذًا
لِحُكْمِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ ، وَرَدًّا عَلَى الْمُبْتَدِعَةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا مَعَانِيَ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ
مُخْتَصَرِ النَّيِّرَيْنِ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله
تَعَالَى : { إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا
الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي حَقِيقَةِ الْعَرْضِ : وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُشْكِلَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي ذِكْرِ الْأَمَانَةِ :
وَفِيهَا اخْتِلَاطُ كَثِيرٍ مِنْ الْقَوْلِ ، لُبَابُهُ فِي عَشْرَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ ؛ قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا الْفَرَائِضُ ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا أَمَانَةُ الْفَرْجِ عِنْدَ
الْمَرْأَةِ ؛ قَالَهُ أُبَيٌّ
.
الرَّابِعُ : أَنَّ اللَّهَ وَضَعَ الرَّحِمَ عِنْدَ
آدَمَ أَمَانَةً .
الْخَامِسُ : أَنَّهَا الْخِلَافَةُ .
السَّادِسُ : أَنَّهَا الْجَنَابَةُ وَالصَّلَاةُ
وَالصَّوْمُ ؛ قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ .
السَّابِعُ : أَنَّهَا أَمَانَةُ آدَمَ قَابِيلَ عَلَى
أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ ، فَقَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ .
الثَّامِنُ : أَنَّهَا وَدَائِعُ النَّاسِ .
التَّاسِعُ : أَنَّهَا الطَّاعَةُ .
الْعَاشِرُ : أَنَّهَا التَّوْحِيدُ .
فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ ،
تَرْجِعُ إلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : التَّوْحِيدُ : فَإِنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَ
الْعَبْدِ ، وَخَفِيَ فِي الْقَلْبِ ، لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ ؛ وَلِذَلِكَ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ
أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ
} .
ثَانِيهِمَا : قِسْمُ الْعَمَلِ : وَهُوَ فِي جَمِيعِ
أَنْوَاعِ الشَّرِيعَةِ ، وَكُلُّهَا أَمَانَةٌ تَخْتَصُّ بِتَأْكِيدِ الِاسْمِ
فِيهَا .
وَالْمَعْنَى مَا كَانَ خَفِيًّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ
النَّاسُ ، فَأَخْفَاهُ أَحَقُّهُ بِالْحِفْظِ ، وَأَخْفَاهُ أَلْزَمُهُ
بِالرِّعَايَةِ وَأَوْلَاهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : تَخْتَصُّ
بِالْأَحْكَامِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ : ثَلَاثَةٌ : الْأَوَّلُ : الْوَدَائِعُ
؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا ، وَأَوْضَحْنَا وَجْهَ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ
فِيهَا ، وَهَلْ تُقَابَلُ بِخِيَانَةٍ أَمْ لَا ؟ الثَّانِي : أَمَانَةُ
الْمَرْأَةِ عَلَى حَيْضِهَا وَحَمْلِهَا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الثَّالِثُ
: الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ ، وَهُمَا أَمَانَتَانِ
عَظِيمَتَانِ لَا يَعْلَمُهُمَا إلَّا اللَّهُ ، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ ؛
وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جُعِلَ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَهُوَ يَجْزِي بِهِ حَسْبَمَا وَرَدَ
، وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ الطَّهَارَةَ لَمَّا كَانَتْ خَفِيَّةً
لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ كَانَ الْحُكْمُ فِيهَا إذَا
صَلَّى إمَامٌ بِقَوْمٍ ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ مُحْدِثٌ ، فَعَلَيْهِ
الْإِعَادَةُ وَحْدَهُ ، وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ حَدَثَهُ أَوْ
طَهَارَتَهُ لَا تُعْلَمُ حَقِيقَةً ، وَإِنَّمَا تُعْلَمُ بِظَاهِرٍ مِنْ
الْقَوْلِ ، وَاجْتِهَادٍ فِي النَّظَرِ ؛ لَيْسَ بِنَصٍّ وَلَا يَقِينٍ ، وَقَدْ
أُدِّيَتْ الصَّلَاةُ وَرَاءَهُ بِاجْتِهَادٍ ؛ وَلَا يَنْقُضُ بِاجْتِهَادٍ ؛
لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُهُ لِلْحَدِيثِ غَيْرَ صَحِيحٍ ، وَهُوَ
أَيْضًا نَاسٍ فِيهِ ؛ إذْ هُوَ غَيْرُ مُحَقِّقٍ لَهُ حَتَّى بَالَغُوا فِي
ذَلِكَ النَّظَرِ ، وَاسْتَوْفَوْا فِيهِ الْحَقَّ ، فَقَالُوا : إنَّ الْإِمَامَ
إذَا قَالَ : صَلَّيْت بِكُمْ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سَنَةً مُتَعَمِّدًا لِتَرْكِ الطَّهَارَةِ
مَا اسْتَقْبَلْت فِيهَا قِبْلَةً بِوُضُوءٍ ، وَلَا اغْتَسَلْت عَنْ جَنَابَةٍ ،
ذَنْبًا ارْتَكَبْته ؛ وَسَيِّئَةً اجْتَرَمَتْهَا ، وَأَنَا مِنْهَا تَائِبٌ لَمْ
يَكُنْ عَلَى وَاحِدٍ مِمَّنْ صَلَّى وَرَاءَهُ إعَادَةٌ ؛ وَاَللَّهُ حَسِيبُهُ ؛
لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ غَيْرُ مُتَحَقَّقٍ مِنْ قَوْلِهِ ، وَلَعَلَّ الْأَوَّلَ هُوَ
الْحَقُّ وَالصِّدْقُ ، وَهَذَا كَذِبٌ لِعِلَّةٍ أَوْ حِيلَةٍ أَوْ لِتَهَوُّرٍ ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ .
سُورَةُ سَبَأٍ [ مَكِّيَّةٌ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ]
الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُد مِنَّا فَضْلًا
يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } .
[ فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
قَوْلُهُ : { فَضْلًا } : فِيهِ
] أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلًا : الْأَوَّلُ :
النُّبُوَّةُ .
الثَّانِي : الزَّبُورُ .
الثَّالِثُ : حُسْنُ الصَّوْتِ .
الرَّابِعُ : تَسْخِيرُ الْجِبَالِ وَالنَّاسِ .
الْخَامِسُ : التَّوْبَةُ .
السَّادِسُ : الزِّيَادَةُ فِي الْعُمْرِ .
السَّابِعُ : الطَّيْرُ .
الثَّامِنُ : الْوَفَاءُ بِمَا وُعِدَ .
التَّاسِعُ : حُسْنُ الْخُلُقِ .
الْعَاشِرُ : الْحُكْمُ بِالْعَدْلِ .
الْحَادِيَ عَشَرَ : تَيْسِيرُ الْعِبَادَةِ .
الثَّانِيَ عَشَرَ : الْعِلْمُ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
: { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا } .
الثَّالِثَ عَشَرَ : الْقُوَّةُ ؛ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُد ذَا الْأَيْدِ إنَّهُ أَوَّابٌ } .
الرَّابِعَ عَشَرَ : قَوْلُهُ : { وَأُوتِينَا مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ } .
وَالْمُرَادُ هَاهُنَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَقْوَالِ
حُسْنُ الصَّوْتِ ؛ فَإِنَّ سَائِرَهَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ فِي
كِتَابِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْمُشْكِلَيْنِ .
وَكَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَا صَوْتٍ حَسَنٍ
وَوَجْهٍ حَسَنٍ ، وَلَهُ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ : لَقَدْ أُوتِيت مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ
دَاوُد } ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَفِيهِ دَلِيلُ
الْإِعْجَابِ بِحُسْنِ الصَّوْتِ ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ
قَالَ : { رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى
نَاقَتِهِ أَوْ جَمَلِهِ وَهِيَ تَسِيرُ بِهِ ، وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ
أَوْ مِنْ سُورَةِ الْفَتْحِ قِرَاءَةً لَيِّنَةً وَهُوَ يُرَجِّعُ ، وَيَقُولُ
آهٍ } ، وَاسْتَحْسَنَ كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ
الْأَمْصَارِ الْقِرَاءَةَ بِالْأَلْحَانِ وَالتَّرْجِيعِ ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ .
وَهُوَ جَائِزٌ { لِقَوْلِ أَبِي مُوسَى لِلنَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ : لَوْ عَلِمْت أَنَّك تَسْمَعُ لَحَبَّرْته لَك تَحْبِيرًا }
؛ يُرِيدُ لَجَعَلْته لَك أَنْوَاعًا حِسَانًا ، وَهُوَ التَّلْحِينُ ، مَأْخُوذٌ
مِنْ الثَّوْبِ الْمُحَبَّرِ ، وَهُوَ الْمُخَطَّطُ بِالْأَلْوَانِ .
وَقَدْ سَمِعْت تَاجَ الْقُرَّاءِ ابْنَ لُفْتَةَ
بِجَامِعِ عَمْرٍو يَقْرَأُ : { وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك } .
فَكَأَنِّي مَا سَمِعْت الْآيَةَ قَطُّ .
وَسَمِعْت ابْنَ الرَّفَّاءِ وَكَانَ مِنْ الْقُرَّاءِ
الْعِظَامِ يَقْرَأُ ، وَأَنَا حَاضِرٌ بِالْقَرَافَةِ : فَكَأَنِّي مَا
سَمِعْتهَا قَطُّ .
وَسَمِعْت بِمَدِينَةِ السَّلَامِ شَيْخَ الْقُرَّاءِ
الْبَصْرِيِّينَ يَقْرَأُ فِي دَارٍ بِهَا الْمَلِكُ : { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الْبُرُوجِ } فَكَأَنِّي مَا سَمِعْتهَا قَطُّ حَتَّى بَلَغَ إلَى قَوْله تَعَالَى
: { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } فَكَأَنَّ الْإِيوَانَ قَدْ سَقَطَ عَلَيْنَا .
وَالْقُلُوبُ تَخْشَعُ بِالصَّوْتِ الْحَسَنِ كَمَا
تَخْضَعُ لِلْوَجْهِ الْحَسَنِ ، وَمَا تَتَأَثَّرُ بِهِ الْقُلُوبُ فِي
التَّقْوَى فَهُوَ أَعْظَمُ فِي الْأَجْرِ وَأَقْرَبُ إلَى لِينِ الْقُلُوبِ
وَذَهَابِ الْقَسْوَةِ مِنْهَا .
وَكَانَ ابْنُ الْكَازَرُونِيِّ يَأْوِي إلَى
الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، ثُمَّ تَمَتَّعْنَا بِهِ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ ، وَلَقَدْ
كَانَ يَقْرَأُ فِي مَهْدِ عِيسَى فَيُسْمَعُ مِنْ الطُّورِ ، فَلَا يَقْدِرُ
أَحَدٌ أَنْ يَصْنَعَ شَيْئًا طُولَ قِرَاءَتِهِ إلَّا الِاسْتِمَاعَ إلَيْهِ .
وَكَانَ صَاحِبُ مِصْرَ الْمُلَقَّبُ بِالْأَفْضَلِ قَدْ
دَخَلَهَا فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَحَوَّلَهَا
عَنْ
أَيْدِي الْعَبَّاسِيَّةِ ، وَهُوَ حَنَقَ عَلَيْهَا
وَعَلَى أَهْلِهَا بِحِصَارِهِ لَهُمْ وَقِتَالِهِمْ لَهُ ، فَلَمَّا صَارَ فِيهَا
، وَتَدَانَى بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى مِنْهَا ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَصَدَّى
لَهُ ابْنُ الْكَازَرُونِيِّ ، وَقَرَأَ : { قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ
مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِك الْخَيْرُ إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ } فَمَا مَلَكَ نَفْسَهُ حِينَ سَمِعَهُ أَنْ قَالَ لِلنَّاسِ عَلَى
عِظَمِ ذَنْبِهِمْ عِنْدَهُ ، وَكَثْرَةِ حِقْدِهِ عَلَيْهِمْ : { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ
الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } .
وَالْأَصْوَاتُ الْحَسَنَةُ نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ
تَعَالَى ، وَزِيَادَةٌ فِي الْخَلْقِ وَمِنَّةٌ .
وَأَحَقُّ مَا لُبِّسَتْ هَذِهِ الْحُلَّةُ النَّفِيسَةُ
وَالْمَوْهِبَةُ الْكَرِيمَةُ كِتَابُ اللَّهِ ؛ فَنِعَمُ اللَّهِ إذَا صُرِفَتْ
فِي الطَّاعَةِ فَقَدْ قُضِيَ بِهَا حَقُّ النِّعْمَةِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : {
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ
كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُد شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ
عِبَادِي الشَّكُورُ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْمِحْرَابُ
: هُوَ الْبِنَاءُ الْمُرْتَفِعُ الْمُمْتَنِعُ ، وَمِنْهُ يُسَمَّى الْمِحْرَابُ فِي
الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهُ أَرْفَعُهُ ، أَنْشَدَ فَقِيهُ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى
عَطَاءٌ الصُّوفِيُّ : جَمَعَ الشَّجَاعَةَ وَالْخُضُوعَ لِرَبِّهِ مَا أَحْسَنَ
الْمِحْرَابَ فِي الْمِحْرَابِ وَالْجِفَانُ أَكْبَرُ الصِّحَافِ قَالَ الشَّاعِرُ
: يَا جَفْنَةً بِإِزَاءِ الْحَوْضِ قَدْ كُفِئَتْ وَمَنْطِقًا مِثْلَ وَشْيِ
الْبُرْدَةِ الْخَضِرِ وَالْجَوَابِي جَمْعُ جَابِيَةٍ ، وَهِيَ الْحَوْضُ
الْعَظِيمُ الْمَصْنُوعُ قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ جَفْنَةً : كَجَابِيَةِ
الشَّيْخِ الْعِرَاقِيِّ تَفْهَقُ { وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ } يَعْنِي ثَابِتَاتٍ ؛ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : { وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ شَاهَدْت مِحْرَابَ دَاوُد
عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِنَاءً عَظِيمًا مِنْ حِجَارَةٍ
صَلْدَةٍ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ ، طُولُ الْحَجَرِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا
، وَعَرْضُهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا ، وَكُلَّمَا قَامَ بِنَاؤُهُ صَغُرَتْ حِجَارَتُهُ
، وَيُرَى لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْوَارٍ ؛ لِأَنَّهُ فِي السَّحَابِ أَيَّامَ
الشِّتَاءِ كُلَّهَا لَا يَظْهَرُ لِارْتِفَاعِ مَوْضِعِهِ وَارْتِفَاعُهُ فِي
نَفْسِهِ ، لَهُ بَابٌ صَغِيرٌ وَمَدْرَجَةٌ عَرِيضَةٌ ، وَفِيهِ الدُّورُ
وَالْمَسَاكِنُ ، وَفِي أَعْلَاهُ الْمَسْجِدُ ، وَفِيهِ كُوَّةٌ شَرْقِيَّةٌ إلَى
الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي قَدْرِ الْبَابِ ، وَيَقُولُ النَّاسُ : إنَّهُ
تَطَلَّعَ مِنْهَا عَلَى الْمَرْأَةِ حِينَ دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْحَمَامَةُ ،
وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِي هَدْمِهِ حِيلَةٌ ، وَفِيهِ نَجَا مَنْ نَجَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ
حِينَ دَخَلَهَا الرُّومُ حَتَّى صَالَحُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنْ أَسْلَمُوهُ
إلَيْهِمْ ، عَلَى أَنْ يَسْلَمُوا فِي رِقَابِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، فَكَانَ
ذَلِكَ ، وَتَخَلَّوْا لَهُمْ عَنْهُ
.
وَرَأَيْت فِيهِ غَرِيبَةَ
الدَّهْرِ ، وَذَلِكَ أَنَّ ثَائِرًا ثَارَ بِهِ
عَلَى وَالِيهِ ، وَامْتَنَعَ فِيهِ بِالْقُوتِ ، فَحَصَرَهُ ، وَحَاوَلَ
قِتَالَهُ بِالنُّشَّابِ مُدَّةً ، وَالْبَلَدُ عَلَى صِغَرِهِ مُسْتَمِرٌّ عَلَى
حَالِهِ ، مَا أُغْلِقَتْ لِهَذِهِ الْفِتْنَةِ سُوقٌ ، وَلَا سَارَ إلَيْهَا مِنْ
الْعَامَّةِ بَشَرٌ ، وَلَا بَرَزَ لِلْحَالِ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى
مُعْتَكِفٌ ، وَلَا انْقَطَعَتْ مُنَاظَرَةٌ ، وَلَا بَطَلَ التَّدْرِيسُ ،
وَإِنَّمَا كَانَتْ الْعَسْكَرِيَّةُ قَدْ تَفَرَّقَتْ فِرْقَتَيْنِ يَقْتَتِلُونَ
، وَلَيْسَ عِنْدَ سَائِرِ النَّاسِ لِذَلِكَ حَرَكَةٌ ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُ
هَذَا فِي بِلَادِنَا لَاضْطَرَمَتْ نَارُ الْحَرْبِ فِي الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ ،
وَلَانْقَطَعَتْ الْمَعَايِشُ .
وَغُلِّقَتْ الدَّكَاكِينُ ، وَبَطَلَ التَّعَامُلُ
لِكَثْرَةِ فُضُولِنَا وَقِلَّةِ فُضُولِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : {
وَتَمَاثِيلَ } ، وَاحِدَتُهَا تِمْثَالٌ ، وَهُوَ بِنَاءٌ غَرِيبٌ ؛ فَإِنَّ
الْأَسْمَاءَ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى " تِفْعَالٍ " قَلِيلَةٌ
مُنْحَصِرَةٌ ؛ جِمَاعُهَا مَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْمَعَالِي ثَابِتُ بْنُ
بُنْدَارٍ ، أَخْبَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ رَزِيَّةَ ، أَخْبَرَنَا الْقَاضِي
أَبُو سَعِيدٍ ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ قَالَ : رَجُلٌ تِكْلَامٌ : كَثِيرُ الْكَلَامِ وَتِلْقَامٌ :
كَثِيرُ اللُّقَمِ ، وَرَجُلٌ تِمْسَاحٌ : كَذَّابٌ ، وَنَاقَةٌ تِضْرَابٌ :
قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالضِّرَابِ ، وَالتِّمْرَادُ : بَيْتٌ صَغِيرٌ لِلْحَمَامِ .
وَتِلْفَاقٌ
.
ثَوْبَانِ يُخَاطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ .
وَالتِّجْفَافُ : مَعْرُوفٌ .
وَتِمْثَالٌ : مَعْرُوفٌ .
وَتِبْيَانٌ : مِنْ الْبَيَانِ وَتِلْقَاءَ : قُبَالَتَك
وَتِهْوَاءَ مِنْ اللَّيْلِ : قِطْعَةٌ
.
وَتِعْشَارٌ : مَوْضِعٌ .
وَرَجُلٌ تِنْبَالٌ : قَصِيرٌ .
وَتِلْعَابٌ : كَثِيرُ اللَّعِبِ .
وَتِقْصَارٌ : قِلَادَةٌ .
فَهَذِهِ سِتَّةَ عَشَرَ مِثَالًا .
فَلَمَّا قَرَأْت إصْلَاحَ الْمَنْطِقِ بِبَغْدَادَ
عَلَى الشَّيْخِ الْأَجَلِّ الْخَطِيبِ رَئِيسِ اللُّغَةِ وَخَازِنِ دَارِ
الْعِلْمِ أَبِي زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنِ عَلِيٍّ التَّبْرِيزِيِّ قَالَ لِي :
كُنْت أَقْرَأُ خُطَبَ ابْنِ نَبَاتَةَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْعَرَبِيِّ
اللُّغَوِيِّ الْفَرَائِضِيِّ فَوَصَلْت إلَى قَوْلِهِ : وَتِذْكَارُهُمْ
تُوَاصِلُ مَسِيلَ الْعَبَرَاتِ ، وَقَرَأْته بِخَفْضِ التَّاءِ فَرَدَّ عَلَيَّ ،
وَقَالَ وَتَذْكَارُهُمْ بِفَتْحِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ
تِفْعَالٌ إلَّا التِّلْقَاءَ وَإِلَّا التِّبْيَانَ ، وَتِعْشَارٌ وَتِنْزَالٌ
مَوْضِعَانِ ، وَتِقْصَارٌ : قِلَادَةٌ
.
قَالَ لِي التَّبْرِيزِيُّ : ثُمَّ قَرَأْت خُطَبَ ابْنِ
نَبَاتَةَ عَلَى بَعْضِ أَشْيَاخِي ، فَلَمَّا وَصَلْت إلَى اللَّفْظِ وَذَكَرْت
لَهُ كَلَامَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ قَالَ لِي : اُكْتُبْ مَا أَمَلِي عَلَيْك .
فَأَمْلَى عَلَيَّ : الْأَشْيَاءُ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى
تِفْعَالٍ ضَرْبَانِ : مَصَادِرُ وَأَسْمَاءٌ ؛ فَأَمَّا الْمَصَادِرُ فَالتِّلْقَاءُ
وَالتِّبْيَانُ ؛ وَهُمَا فِي الْقُرْآنِ .
وَالْأَسْمَاءُ : رَجُلٌ
تِنْبَالٌ : أَيْ قَصِيرٌ .
وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ التَّاءَ فِي تِنْبَالٍ
أَصْلِيَّةٌ فَيَكُونُ وَزْنُهُ فِعْلَالًا .
وَذَكَرَ مَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ وَزَادَ التِّنْضَالُ
مِنْ الْمُنَاضَلَةِ والتِّيغَارُ حَبٌّ مَقْطُوعٌ يَزِيدُ فِي الْخَابِيَةِ ،
وَتِرْيَاعٌ : مَوْضِعٌ ، وَالتِّرْبَانُ وَتِرْغَامٌ اسْمُ شَاعِرٍ ،
وَيُقَالُ جَاءَ لِتِنْفَاقِ الْهِلَالِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا ، وَالتِّمْتَانُ
وَاحِدُ التِّمْتَانَيْنِ ، وَهِيَ خُيُوطٌ تُضْرَبُ بِهَا الْفُسْطَاطُ .
وَرَجُلٌ تِمْزَاحٌ كَثِيرُ الْمُزَاحِ ، وَالتِّمْسَاحُ
الدَّابَّةُ الْمَعْرُوفَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ التِّمْثَالُ عَلَى
قِسْمَيْنِ حَيَوَانٌ وَمَوَاتٌ ، وَالْمَوَاتُ عَلَى قِسْمَيْنِ : جَمَادٌ
وَنَامٍ ، وَقَدْ كَانَتْ الْجِنُّ تَصْنَعُ لِسُلَيْمَانَ جَمِيعَهُ ، وَذَلِكَ
مَعْلُومٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ : أَحَدُهُمَا عُمُومُ قَوْلِهِ : { تَمَاثِيلَ } .
وَالثَّانِي مَا رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ ،
أَصْلُهَا الإسرائليات ؛ لِأَنَّ التَّمَاثِيلَ مِنْ الطَّيْرِ كَانَتْ عَلَى
كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا عُمُومَ لِقَوْلِهِ : { تَمَاثِيلَ }
فَإِنَّهُ إثْبَاتٌ فِي نَكِرَةٍ ، وَالْإِثْبَاتُ فِي النَّكِرَةِ لَا عُمُومَ لَهُ
؛ إنَّمَا الْعُمُومُ فِي النَّفْيِ فِي النَّكِرَةِ حَسْبَمَا قَرَرْتُمُوهُ فِي الْأُصُولِ .
قُلْنَا : كَذَلِكَ نَقُولُ ، بَيْدَ أَنَّهُ قَدْ اُقْتُرِنَ
بِهَذَا الْإِثْبَاتِ فِي النَّكِرَةِ مَا يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى الْعُمُومِ ،
وَهُوَ قَوْلُهُ : { مَا يَشَاءُ } فَاقْتِرَانُ الْمَشِيئَةِ بِهِ يَقْتَضِي
الْعُمُومَ لَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ شَاءَ عَمَلَ الصُّوَرِ
الْمَنْهِيِّ عَنْهَا ؟ قُلْنَا : لَمْ يَرِدْ أَنَّهُ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهَا
فِي شَرْعِهِ ، بَلْ وَرَدَ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ كَانَ
أَمْرًا مَأْذُونًا فِيهِ ، وَاَلَّذِي أُوجِبَ النَّهْيَ عَنْهُ فِي شَرْعِنَا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ
، فَكَانُوا يُصَوِّرُونَ وَيَعْبُدُونَ ، فَقَطَعَ اللَّهُ الذَّرِيعَةَ وَحَمَى
الْبَابَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ حِينَ ذَمَّ الصُّوَرَ
وَعَمَلَهَا مِنْ الصَّحِيحِ قَوْلَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ
صَوَّرَ صُورَةً عَذَّبَهُ اللَّهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ ، وَلَيْسَ
بِنَافِخٍ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ
اللَّهِ } ؛ فَعَلَّلَ بِغَيْرِ مَا زَعَمْتُمْ .
قُلْنَا :
نُهِيَ عَنْ الصُّورَةِ ، وَذَكَرَ عِلَّةَ التَّشْبِيهِ
بِخَلْقِ اللَّهِ ، وَفِيهَا زِيَادَةُ عِلَّةِ عِبَادَتِهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ ،
فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ نَفْسَ عَمَلِهَا مَعْصِيَةٌ ، فَمَا ظَنُّك بِعِبَادَتِهَا
، وَقَدْ وَرَدَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ شَأْنُ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ،
وَأَنَّهُمْ كَانُوا أُنَاسًا ، ثُمَّ
صُوِّرُوا بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَعُبِدُوا .
وَقَدْ شَاهَدْت بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة إذَا مَاتَ
مِنْهُمْ مَيِّتٌ صَوَّرُوهُ مِنْ خَشَبٍ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ ، وَأَجْلَسُوهُ
فِي مَوْضِعِهِ مِنْ بَيْتِهِ وَكَسَوْهُ بِزَّتَهُ إنْ كَانَ رَجُلًا وَحِلْيَتَهَا
إنْ كَانَتْ امْرَأَةً ، وَأَغْلَقُوا عَلَيْهِ الْبَابَ .
فَإِذَا أَصَابَ أَحَدًا مِنْهُمْ كَرْبٌ أَوْ تَجَدَّدَ
لَهُ مَكْرُوهٌ فَتَحَ الْبَابَ [ عَلَيْهِ ] وَجَلَسَ عِنْدَهُ يَبْكِي
وَيُنَاجِيهِ بِكَانَ وَكَانَ حَتَّى يَكْسِرَ سَوْرَةَ حُزْنِهِ بِإِهْرَاقِ
دُمُوعِهِ ، ثُمَّ يُغْلِقُ الْبَابَ عَلَيْهِ وَيَنْصَرِفُ عَنْهُ ، وَإِنْ
تَمَادَى بِهِمْ الزَّمَانُ يَعْبُدُوهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَصْنَامِ
وَالْأَوْثَانِ ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ إنْ قُلْنَا : إنَّ شَرِيعَةَ مَنْ
قَبْلَنَا لَا تَلْزَمُنَا فَلَيْسَ يُنْقَلُ عَنْ ذَلِكَ حُكْمٌ .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ
لَنَا فَيَكُونُ نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
الصُّوَرِ نَسْخًا ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي قِسْمِ
النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ قَبْلَ هَذَا .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الَّذِي كَانَ يُصْنَعُ لَهُ
الصُّوَرُ الْمُبَاحَةُ مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ وَصُورَتِهِ فَشَرْعُنَا
وَشَرْعُهُ وَاحِدٌ .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِ مَا
كَانَ شَخْصًا لَا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ
فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ ،
لُبَابُهُ أَنَّ أُمَّهَاتِ الْأَحَادِيثِ خَمْسُ أُمَّهَاتٍ : الْأُمُّ الْأُولَى
مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَصْحَابَ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ
، أَوْ هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا
.
وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ صُورَةٍ .
الْأُمُّ الثَّانِيَةُ رُوِيَ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ
بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ } زَادَ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ : {
إلَّا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ } وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ
نَحْوُهُ ، فَقُلْت لِعَائِشَةَ : هَلْ سَمِعْت هَذَا ؟ فَقَالَتْ : لَا ؛
وَسَأُحَدِّثُكُمْ ؛ { خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ فَأَخَذْت نَمَطًا فَنَشَرْته عَلَى
الْبَابِ ، فَلَمَّا قَدِمَ وَرَأَى النَّمَطَ عَرَفْت الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهِ
، فَجَذَبَهُ حَتَّى هَتَكَهُ ، وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ
نَكْسُوَ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ .
قَالَتْ : فَقَطَعْت مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ وَحَشَوْتهمَا
لِيفًا فَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ عَلَيَّ
} .
الْأُمُّ الثَّالِثَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ : { كَانَ
لَنَا سِتْرٌ فِيهِ تِمْثَالٌ طَائِرٌ ، وَكَانَ الدَّاخِلُ إذَا دَخَلَ
اسْتَقْبَلَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
حَوِّلِي هَذَا فَإِنِّي كُلَّمَا رَأَيْته ذَكَرْت الدُّنْيَا } .
الْأُمُّ الرَّابِعَةُ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :
{ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا
مُتَسَتِّرَةٌ بِقِرَامٍ فِيهِ صُورَةٌ فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ ثُمَّ تَنَاوَلَ
السِّتْرَ فَهَتَكَهُ ، ثُمَّ قَالَ :
إنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ خَلْقَ اللَّهِ .
قَالَتْ عَائِشَةُ : فَقَطَّعْته ، فَجَعَلْت مِنْهُ
وِسَادَتَيْنِ } .
الْأُمُّ الْخَامِسَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ : { كَانَ
لَنَا ثَوْبٌ مَمْدُودٌ عَلَى سَهْوَةٍ فِيهَا تَصَاوِيرُ ، فَكَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : أَخِّرِيهِ
عَنِّي ، فَجَعَلْت مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ ؛ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْتَفِقُ بِهِمَا
} .
وَفِي رِوَايَةٍ فِي حَدِيثِ النُّمْرُقَةِ قَالَتْ : {
اشْتَرَيْتهَا لَك لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَتَوَسَّدَهَا ؛ فَقَالَ : إنَّ
أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّ
الْمَلَائِكَةَ لَا يَدْخُلُونَ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ } .
قَالَ الْقَاضِي : فَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ
أَنَّ الصُّوَرَ مَمْنُوعَةٌ عَلَى الْعُمُومِ ، ثُمَّ جَاءَ : إلَّا مَا كَانَ
رَقْمًا فِي ثَوْبٍ ، فَخُصَّ مِنْ جُمْلَةِ الصُّوَرِ ، ثُمَّ بِقَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ فِي الثَّوْبِ
الْمُصَوَّرِ : أَخِّرِيهِ عَنِّي ؛ فَإِنِّي كُلَّمَا رَأَيْته ذَكَرْت
الدُّنْيَا فَثَبَتَتْ الْكَرَاهَةُ فِيهِ .
ثُمَّ بِهَتْكِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الثَّوْبَ الْمُصَوَّرَ عَلَى عَائِشَةَ مَنَعَ مِنْهُ ، ثُمَّ
بِقَطْعِهَا لَهَا وِسَادَتَيْنِ حَتَّى تَغَيَّرَتْ الصُّورَةُ وَخَرَجَتْ عَنْ
هَيْئَتِهَا بِأَنَّ جَوَازَ ذَلِكَ إذَا لَمْ تَكُنْ الصُّورَةُ فِيهِ
مُتَّصِلَةَ الْهَيْئَةِ ، وَلَوْ كَانَتْ مُتَّصِلَةَ الْهَيْئَةِ لَمْ يَجُزْ لِقَوْلِهَا
فِي النُّمْرُقَةِ الْمُصَوَّرَةِ : اشْتَرَيْتهَا لَك لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا
وَتَتَوَسَّدَهَا ، فَمَنَعَ مِنْهُ وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ ، وَتَبَيَّنَ بِحَدِيثِ
الصَّلَاةِ إلَى الصُّورَةِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا [ فِي الرَّقْمِ ] فِي
الثَّوْبِ ، ثُمَّ نَسَخَهُ الْمَنْعُ ، فَهَكَذَا اسْتَقَرَّ فِيهِ الْأَمْرُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : {
وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ } : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : كَالْجَوْبَةِ
مِنْ الْأَرْضِ .
{ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ } يَعْنِي لَا تُحْمَلُ وَلَا
تُحَرَّكُ لِعِظَمِهَا ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ قُدُورُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
جُدْعَانَ يُصْعَدُ إلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِسُلَّمٍ ، وَرَأَيْت بِرِبَاطِ
أَبِي سَعِيدٍ قُدُورَ الصُّوفِيَّةِ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُمْ يَطْبُخُونَ
جَمِيعًا ، وَيَأْكُلُونَ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْثَارِ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَنْ
أَحَدٍ ، وَعَنْهَا عَبَّرَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ بِقَوْلِهِ : كَالْجَوَابِي
لَا تَنِي مُتْرَعَةً لِقِرَى الْأَضْيَافِ أَوْ لَلْمُحْتَضَرِ وَقَالَ أَيْضًا :
يُجْبَرُ الْمَحْرُوبُ فِيهَا مَالَهُ بِجِفَانٍ وَقِبَابٍ وَخَدَمٍ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : {
اعْمَلُوا آلَ دَاوُد شُكْرًا } : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ رُوِيَ
{ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ
فَقَالَ : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُد شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ } .
ثُمَّ قَالَ : ثَلَاثٌ مَنْ أُوتِيَهُنَّ فَقَدْ أُوتِيَ
مِثْلَ مَا أُوتِيَ آلُ دَاوُد
.
قَالَ :
فَقُلْنَا : مَا هُنَّ ؟ قَالَ : الْعَدْلُ فِي
الْغَضَبِ وَالرِّضَا ، وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى ، وَخَشْيَةُ
اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ
} .
الثَّانِي : قَوْلُهُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ .
الثَّالِثُ : الصَّلَاةُ شُكْرٌ ، وَالصِّيَامُ شُكْرٌ ،
وَكُلُّ خَيْرٍ يُفْعَلُ لِلَّهِ شُكْرٌ .
قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : حَقِيقَةُ
الشُّكْرِ اسْتِعْمَالُ النِّعْمَةِ فِي الطَّاعَةِ ، وَالْكُفْرَانُ :
اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمَعْصِيَةِ
.
وَقَلِيلٌ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْخَيْرَ أَقَلُّ
مِنْ الشَّرِّ ، وَالطَّاعَةَ أَقَلُّ مِنْ الْمَعْصِيَةِ بِحَسْبِ سَابِقِ
التَّقْدِيرِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ إنَّ
رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا
أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ
: { يُخْلِفُهُ } يَعْنِي يَأْتِي بِثَانٍ بَعْدَ الْأَوَّلِ ، وَمِنْهُ
الْخِلْفَةُ فِي النَّبَاتِ .
وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ لِأَبِي بَكْرٍ : يَا خَلِيفَةَ
رَسُولِ اللَّهِ .
فَقَالَ : لَا .
بَلْ أَنَا الْخَالِفَةُ بَعْدَهُ .
[ قَالَ ثَعْلَبٌ : يُرِيدُ بِالْقَاعِدِ بَعْدَهُ ] ،
وَالْخَالِفَةُ الَّذِي يَسْتَخْلِفُهُ الرَّئِيسُ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي مَعْنَى الْخَلَفِ
هَاهُنَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : يُخْلِفُهُ إذَا رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا ،
كَمَا يُجِيبُ الدُّعَاءَ إذَا شَاءَ
.
الثَّانِي يُخْلِفُهُ بِالثَّوَابِ .
الثَّالِثُ : مَعْنَى يُخْلِفُهُ ، فَهُوَ أَخْلَفَهُ ؛
لِأَنَّ كُلَّ مَا عِنْدَ الْعَبْدِ مِنْ خَلَفِ اللَّهِ وَرِزْقِهِ .
رَوَى أَشْهَبُ وَابْنُ نَافِعٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ
مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ : يَا
ابْنَ آدَمَ ، أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْك } .
وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْخَلَفَ فِي الدُّنْيَا
بِمِثْلِ الْمُنْفِقِ بِهَا إذَا كَانَتْ النَّفَقَةُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ ،
وَهُوَ كَالدُّعَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ ؛ إمَّا أَنْ تُقْضَى حَاجَتُهُ ،
وَكَذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ يُعَوَّضُ مِثْلَهُ وَأَزْيَدَ ، وَإِمَّا أَنْ
يُعَوَّضَ ، وَالتَّعْوِيضُ هَاهُنَا بِالثَّوَابِ ، وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ
، وَالِادِّخَارُ هَاهُنَا مِثْلُهُ فِي الْآخِرَةِ .
سُورَةُ فَاطِرٍ [ فِيهَا آيَتَانِ ] الْآيَةُ
الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ
الْعِزَّةُ جَمِيعًا إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَاَلَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي قَوْلِهِ : { يَصْعَدُ } ؛ وَالصُّعُودُ
هُوَ الْحَرَكَةُ إلَى فَوْقَ ، وَهُوَ الْعُرُوجُ أَيْضًا .
وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ ؛ لِأَنَّهُ
عَرْضٌ ، وَلَكِنْ ضَرَبَ صُعُودَهُ مَثَلًا لِقَبُولِهِ ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الثَّوَابِ
فَوْقَ ، وَمَوْضِعَ الْعَذَابِ أَسْفَلَ .
وَالصُّعُودُ رِفْعَةٌ وَالنُّزُولُ هَوَانٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ
ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ التَّوْحِيدُ الصَّادِرُ عَنْ
عَقِيدَةٍ طَيِّبَةٍ .
الثَّانِي : مَا يَكُونُ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ .
الثَّالِثُ : مَا لَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَظٌّ ،
وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : { وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ } : هُوَ الْمُوَافِقُ لِلسُّنَّةِ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ
قَوْلُهُ : { يَرْفَعُهُ } : قِيلَ الْفَاعِلُ فِي يَرْفَعُهُ مُضْمَرٌ يَعُودُ
عَلَى اللَّهِ أَيْ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ ، كَمَا أَنَّهُ
إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ .
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الَّذِي يُصْعِدُ الْكَلِمَ
الطَّيِّبَ ، وَقَدْ قَالَ السَّلَفُ بِالْوَجْهَيْنِ ، وَهُمَا صَحِيحَانِ .
فَالْأَوَّلُ حَقِيقَةٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ
الرَّافِعُ الْخَافِضُ .
وَالثَّانِي مَجَازٌ ؛ وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ سَائِغٌ .
وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ كَلَامَ الْمَرْءِ بِذِكْرِ اللَّهِ
إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ لَمْ يَنْفَعْ ؛ لِأَنَّ مَنْ خَالَفَ
قَوْلُهُ فِعْلَهُ فَهُوَ وَبَالٌ عَلَيْهِ .
وَتَحْقِيقُ هَذَا أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ إذَا
وَقَعَ شَرْطًا فِي الْقَوْلِ أَوْ مُرْتَبِطًا بِهِ فَإِنَّهُ لَا قَبُولَ لَهُ
إلَّا بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِيهِ وَلَا مُرْتَبِطًا بِهِ فَإِنَّ
كَلِمَهُ الطَّيِّبَ يُكْتَبُ لَهُ ، وَعَمَلُهُ الصَّالِحُ يُكْتَبُ عَلَيْهِ ،
وَتَقَعُ الْمُوَازَنَةُ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ يُحْكَمُ لَهُ بِالْفَوْزِ
وَالرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ذَكَرُوا عِنْدَ ابْنِ
عَبَّاسٍ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ : { إلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِعُمُومٍ عَلَى
مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ .
وَقَدْ دَخَلَ هَذَا فِي الصَّلَاةِ بِشُرُوطِهَا ، فَلَا
يَقْطَعُهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ إلَّا بِثُبُوتِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ مِنْ مِثْلِ مَا
انْعَقَدَتْ بِهِ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ .
وَقَدْ تَعَلَّقَ مَنْ رَأَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ :
يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
وَشَرْحِ الْحَدِيثِ ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْآثَارَ فِي ذَلِكَ بَيِّنَةٌ
مُتَعَارِضَةٌ فَتَبْقَى الصَّلَاةُ عَلَى صِحَّتِهَا .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا
يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ
أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي طَعَامِ الْبَحْرِ
وَحِلْيَتِهِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَالنَّحْلِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ
هَاهُنَا .
سُورَةُ يس [ فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ
الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { يس } : فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى هَكَذَا كُتِبَ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي سَطَّرْنَاهَا
الْآنَ ، وَهِيَ فِي الْمُصْحَفِ كَذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ قَوْلُهُ : { ق }
وَثَبَتَ قَوْلُهُ : { ن وَالْقَلَمِ } ؛ وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى التَّهَجِّي ،
فَيُقَالُ فِيهِ يَاسِين ، وَلَا قِيلَ قَافْ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ، وَلَا
نُونْ وَالْقَلَمِ ، وَلَوْ ثَبَتَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ لَقُلْت فِيهَا قَوْلَ مَنْ
يَقُولُ : إنَّ قَافَ جَبَلٌ ، وَإِنَّ نُونَ الْحُوتُ أَوْ الدَّوَاةُ ؛
فَكَانَتْ فِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ بَدِيعَةٌ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخُلَفَاءَ
وَالصَّحَابَةَ الَّذِينَ تَوَلَّوْا كَتْبَ الْقُرْآنِ كَتَبُوهَا مُطْلَقَةً
لِتَبْقَى تَحْتَ حِجَابِ الْإِخْفَاءِ ، وَلَا يُقْطَعُ عَلَيْهَا بِمَعْنًى مِنْ
الْمَعَانِي الْمُحْتَمَلَةِ ؛ فَإِنَّ الْقَطْعَ عَلَيْهَا إنَّمَا يَكُونُ
بِدَلِيلِ خَبَرٍ ؛ إذْ لَيْسَ لِلنَّظَرِ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
مَعْنَاهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ
تَعَالَى ؛ قَالَهُ مَالِكٌ ، رَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ قَالَ : سَأَلْت مَالِكًا
هَلْ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ يس ؟ قَالَ : مَا أَرَاهُ يَنْبَغِي ،
لِقَوْلِ اللَّهِ : { يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } يَقُولُ : هَذَا اسْمِي يس .
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يس يَا إنْسَانُ
بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ ، وَقَوْلُك يَا طَهَ : يَا رَجُلُ .
وَعَنْهُ رِوَايَةُ أَنَّهُ اسْمُ اللَّهِ ، كَمَا قَالَ
مَالِكٌ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ كُنِيَ بِهِ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ يَا يس أَيْ يَا سَيِّدُ .
الرَّابِعُ أَنَّهُ مِنْ فَوَاتِحِ السُّوَرِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : {
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : سَمَّانِي اللَّهُ فِي
الْقُرْآنِ سَبْعَةَ أَسْمَاءٍ : مُحَمَّدًا ، وَأَحْمَدَ ، وَطَه ، وَيس ، وَالْمُزَّمِّلَ
وَالْمُدَّثِّرَ ، وَعَبْدَ اللَّهِ
} .
وَهَذَا حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ ، وَقَدْ جَمَعْنَا
أَسْمَاءَهُ مِنْ الْقُرْآنِ
وَالسُّنَّةِ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ رِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْ
مَالِكٍ : لَا يُسَمَّى أَحَدٌ يس ؛ لِأَنَّهُ اسْمُ اللَّهِ كَلَامٌ بَدِيعٌ ؛
وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَسَمَّى بِاسْمِ اللَّهِ إذَا
كَانَ فِيهِ مَعْنًى مِنْهُ ، كَقَوْلِهِ : عَالِمٌ ، وَقَادِرٌ ، وَمُرِيدٌ ،
وَمُتَكَلِّمٌ ؛ وَإِنَّمَا مَنَعَ مَالِكٌ مِنْ التَّسْمِيَةِ بِهَذَا ،
لِأَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ لَا يُدْرَى مَعْنَاهُ ، فَرُبَّمَا كَانَ
مَعْنَاهُ يَنْفَرِدُ بِهِ الرَّبُّ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَيْهِ
الْعَبْدُ إذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ هَلْ هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْبَارِي
فَيُقَدَّمُ عَلَى خَطَرٍ مِنْهُ ، فَاقْتَضَى النَّظَرُ رَفْعَهُ عَنْهُ ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
سَلَامٌ عَلَى إلْ يَاسِينَ } .
قُلْنَا :
ذَلِكَ مَكْتُوبٌ بِهِجَاءٍ فَيَجُوزُ التَّسْمِيَةُ
بِهِ ، وَهَذَا الَّذِي لَيْسَ بِمُتَهَجًّى هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ مَالِكٌ
عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِشْكَالِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّا
نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ
أَحْصَيْنَاهُ فِي إمَامٍ مُبِينٍ } .
فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَتْ مَنَازِلُ الْأَنْصَارِ بَعِيدَةً مِنْ
الْمَسْجِدِ ، فَأَرَادُوا أَنْ يَنْتَقِلُوا إلَى الْمَسْجِدِ ، فَنَزَلَتْ : {
وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ
} فَقَالُوا : نَثْبُتُ مَكَانَنَا .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا بَنِي سَلِمَةَ ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ .
وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ بَنِي سَلِمَةَ أَرَادُوا أَنْ
يَنْتَقِلُوا قَرِيبًا مِنْ الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا بَنِي سَلِمَةَ ؛ دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ
آثَارُكُمْ ؛ يَعْنِي الْزَمُوا دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ لَكُمْ آثَارُكُمْ } ، أَيْ
خُطَاكُمْ إلَى الْمَسْجِدِ ، فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى
صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ سَبْعًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا ؛ وَذَلِكَ
أَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ
لَا يُخْرِجُهُ إلَّا الصَّلَاةُ لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا
دَرَجَةً ، وَحَطَّ بِهَا عَنْهُ خَطِيئَةً ، فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ
تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ : اللَّهُمَّ
صَلِّ عَلَيْهِ ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ ، وَلَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ
مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ } .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا
عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ
مُبِينٌ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
كَلَامُ الْعَرَبِ عَلَى أَوْضَاعٍ : مِنْهَا الْخُطَبُ ، وَالسَّجْعُ ،
وَالْأَرَاجِيزُ ، وَالْأَمْثَالُ ، وَالْأَشْعَارُ { وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْصَحَ بَنِي آدَمَ } ، وَلَكِنَّهُ حُجِبَ عَنْهُ الشِّعْرُ
؛ لَمَّا كَانَ اللَّهُ قَدْ ادَّخَرَ مَنْ جَعَلَ فَصَاحَةَ الْقُرْآنِ
مُعْجِزَةً لَهُ ، وَدَلَالَةً عَلَى صِدْقِهِ ، لِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ
أُسْلُوبِ الْبَلَاغَةِ وَعَجِيبِ الْفَصَاحَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ أَنْوَاعِ
كَلَامِ الْعَرَبِ اللُّسْنِ الْبُلَغَاءِ الْفُصْحِ الْمُتَشَدِّقِينَ اللُّدِّ ،
كَمَا سَلَبَ عَنْهُ الْكِتَابَةَ وَأَبْقَاهُ عَلَى حُكْمِ الْأُمِّيَّةِ ،
تَحْقِيقًا لِهَذِهِ الْحَالَةِ ، وَتَأْكِيدًا ؛ وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَمَا
يَنْبَغِي لَهُ } ؛ لِأَجْلِ مُعْجِزَتِهِ الَّتِي بَيَّنَّا أَنَّ صِفَتَهَا مِنْ
صِفَتِهِ ، ثُمَّ هِيَ زِيَادَةٌ عُظْمَى عَلَى رُتْبَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا
سَبَقَ مِنْ أَوْضَاعِنَا فِي الْأُصُولِ وَجْهَ إعْجَازِ الْقُرْآنِ وَخُرُوجِهِ
عَنْ أَنْوَاعِ كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَخُصُوصًا عَنْ وَزْنِ الشِّعْرِ ؛
وَلِذَلِكَ قَالَ أَخُو أَبِي ذَرٍّ لِأَبِي ذَرٍّ : لَقَدْ وَضَعْت قَوْلَهُ
عَلَى أَقْوَالِ الشُّعَرَاءِ فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا ، وَلَا دَخَلَ فِي بُحُورِ
الْعَرُوضِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ ، وَلَا فِي زِيَادَاتِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَيْهَا
؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْبُحُورَ تَخْرُجُ مِنْ خَمْسِ دَوَائِرَ : إحْدَاهَا دَائِرَةُ الْمُخْتَلَفِ
يَنْفَكُّ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَبْحُرٍ
: وَهِيَ الطَّوِيلُ ، وَالْمَدِيدُ ، وَالْبَسِيطُ ؛
ثُمَّ تَتَشَعَّبُ عَلَيْهَا زِيَادَاتٌ كُلُّهَا مُنْفَكَّةٌ .
الدَّائِرَةُ الثَّانِيَةُ دَائِرَةُ الْمُؤْتَلَفِ
يَنْفَكُّ مِنْهَا بَحْرُ الْوَافِرِ ، وَالْكَامِلِ ، ثُمَّ يَزِيدُ عَلَيْهَا
زِيَادَاتٌ لَا تَخْرُجُ عَنْهَا
.
الدَّائِرَةُ الثَّالِثَةُ دَائِرَةُ الْمُتَّفَقِ ،
وَيَنْفَكُّ مِنْهَا فِي الْأَصْلِ الْهَزَجُ ، وَالرَّجَزُ ، وَالرَّمَلُ ، ثُمَّ
يَزِيدُ عَلَيْهَا مَا يَرْجِعُ إلَيْهَا .
الدَّائِرَةُ الرَّابِعَةُ دَائِرَةُ الْمُجْتَثِّ يَجْرِي
عَلَيْهَا سِتَّةُ أَبْحُرٍ : وَهِيَ السَّرِيعُ ، وَالْمُنْسَرِحُ ، وَالْخَفِيفُ
، وَالْمُضَارَعُ ، وَالْمُقْتَضَبُ ، وَالْمُجْتَثُّ ، وَيَزِيدُ عَلَيْهَا مَا
يَجْرِي مَعَهَا فِي أَفَاعِيلِهَا
.
الدَّائِرَةُ الْخَامِسَةُ دَائِرَةُ الْمُنْفَرِدِ ،
وَيَنْفَكُّ مِنْهَا عِنْدَ الْخَلِيلِ وَالْأَخْفَشِ بَحْرٌ وَاحِدٌ : وَهُوَ
الْمُتَقَارَبُ ، وَعِنْدَ الزَّجَّاجِ بَحْرٌ آخَرُ سَمَّوْهُ الْمُجْتَثُّ وَالْمُتَدَارَكُ
وَرَكْضُ الْخَيْلِ .
وَلَقَدْ اجْتَهَدَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي أَنْ يُجْرُوا
الْقُرْآنَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ عَلَى وَزْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْزَانِ فَلَمْ
يَقْدِرُوا ، فَظَهَرَ عِنْدَ الْوَلِيِّ وَالْعَدُوِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ ؛
وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إنْ هُوَ
إلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ
} .
وَقَالَ : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا
تُؤْمِنُونَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : { وَمَا
يَنْبَغِي لَهُ } تَحْقِيقٌ فِي نَفْيِ ذَلِكَ عَنْهُ .
وَقَدْ اعْتَرَضَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُصَحَاءِ
الْمُلْحِدَةِ عَلَيْنَا فِي نَظْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِأَشْيَاءَ
أَرَادُوا بِهَا التَّلْبِيسَ عَلَى الضَّعَفَةِ ، مِنْهَا قَوْلُهُ { فَلَمَّا
تَوَفَّيْتَنِي كُنْت أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ } وَقَالُوا : إنَّ هَذَا مِنْ بَحْرِ الْمُتَقَارَبِ ، عَلَى مِيزَانِ
قَوْلِهِ : فَأَمَّا تَمِيمٌ تَمِيمُ بْنُ مُرٍّ فَأَلْفَاهُمْ الْقَوْمُ رُءُوسًا نِيَامًا
وَهَذَا إنَّمَا اعْتَرَضَ بِهِ الْجَاهِلُونَ بِالصِّنَاعَةِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي
يُلَائِمُ هَذَا الْبَيْتَ مِنْ الْآيَةِ قَوْلُهُ : ( فَلَمَّا ) إلَى قَوْلِهِ ( كُلِّ )
وَإِذَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ لَمْ يَتِمَّ الْكَلَامُ .
وَإِذَا أَتْمَمْنَاهُ بِقَوْلِهِ : { شَيْءٍ شَهِيدٌ }
خَرَجَ عَنْ وَزْنِ الشِّعْرِ ، وَزَادَ فِيهِ مَا يَصِيرُ بِهِ عَشْرَةَ
أَجْزَاءٍ كُلَّهَا عَلَى وَزْنِ فَعُولُنْ ، وَلَيْسَ فِي بُحُورِ الشِّعْرِ مَا
يَخْرُجُ الْبَيْتُ مِنْهُ مِنْ عَشْرَةِ أَجْزَاءٍ ، وَإِنَّمَا أَكْثَرُهُ
ثَمَانِيَةٌ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ
عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ } ادَّعَوْا أَنَّهُ مِنْ بَحْرِ
الْوَافِرِ ، وَقَطَّعُوهُ : مَفَاعِيلٌ مَفَاعِيلٌ فَعُولُنْ مَفَاعِيلٌ مَفَاعِيلٌ
فَعُولُنْ ؛ وَهُوَ عَلَى وَزْنِ قَوْلِ الْأَوَّلِ : لَنَا غَنَمٌ نَسُوقُهَا
غِزَارٌ كَأَنَّ قُرُونَ جَلَّتِهَا الْعِصِيُّ وَعَلَى وَزْنِ قَوْلِ الْآخَرِ : طَوَالُ قَنَا
يُطَاعِنُهَا قِصَارُ وَقَطْرُك فِي نَدًى وَوَغًى بِحَارُ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ
أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا أَنَّهُ إنَّمَا كَانَتْ تَكُونُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ
لَوْ زِدْت فِيهَا أَلِفًا بِتَمْكِينِ حَرَكَةِ النُّونِ مِنْ قَوْلِهِ
مُؤْمِنِينَ فَتَقُولُ مُؤْمِنِينَا
.
الثَّانِي :
أَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ عَلَى الرَّوِيِّ بِإِشْبَاعِ
حَرَكَةِ الْمِيمِ فِي قَوْلِهِ : { وَيُخْزِهِمْ } وَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ
لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا ، وَإِذَا قُرِئَ عَلَى وَجْهِهِ لَمْ يَكُنْ شِعْرًا .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ
أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ } ؛
زَعَمُوا أَنَّهُ مُوَافِقٌ بَحْرَ الرَّجَزِ فِي
الْوَزْنِ ، وَهَذَا غَيْرُ لَازِمٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ تَامٍّ ، فَإِنْ
ضَمَمْت إلَيْهِ مَا يَتِمُّ بِهِ الْكَلَامُ خَرَجَ عَنْ وَزْنِ الشِّعْرِ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ
وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ } ؛ زَعَمُوا أَنَّهُ مِنْ بَحْرِ الرَّجَزِ ، كَقَوْلِ
الشَّاعِرِ امْرِئِ الْقَيْسِ :
رَهِينٌ مُعْجَبٌ بِالْقَيْنَاتِ وَهَذَا لَا يَلْزَمُ
مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا إنَّمَا يَجْرِي عَلَى هَذَا الرَّوِيِّ إذَا
زِدْت يَاءً بَعْدَ الْبَاءِ فِي قَوْلِك : كَالْجَوَابِي ، فَإِذَا حَذَفْت
الْيَاءَ فَلَيْسَ بِكَلَامٍ تَامٍّ ، فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى وَزْنِ
شَيْءٍ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا
تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ } ؛ فَقَالُوا : هَذِهِ آيَةٌ
تَامَّةٌ ، وَهِيَ عَلَى وَزْنِ بَيْتٍ مِنْ الرَّمَلِ ؛ وَهَذِهِ مُغَالَطَةٌ ؛
لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ بِأَنْ تُحْذَفَ مِنْ قَوْلِك لَا
تَسْتَأْخِرُونَ قَوْلُهُ : " لَا تَسْ " وَتُوصِلُ قَوْلَك يَوْمٍ
بِقَوْلِك تَأْخِرُونَ ، وَتَقِفُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى النُّونِ مِنْ قَوْلِك
تَأْخِرُونَ ، فَتَقُولُ تَأْخِرُونَا بِالْأَلِفِ ، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ
مِصْرَاعًا ثَانِيًا ، وَيُتِمُّ الْمِصْرَاعَانِ بَيْتًا مِنْ الرَّمَلِ
حِينَئِذٍ ، وَلَوْ قُرِئَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا ، وَمَتَى قُرِئَتْ
الْآيَةُ عَلَى مَا جَاءَتْ لَمْ تَكُنْ عَلَى وَزْنِ الشِّعْرِ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ
ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا } .
وَهَذَا مَوْضُوعٌ عَلَى وَزْنِ الْكَامِلِ مِنْ وَجْهٍ
، وَعَلَى رَوِيِّ الرَّجَزِ مِنْ وَزْنٍ آخَرَ ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ مَنْ
قَرَأَ عَلَيْهِمْ بِإِسْكَانِ الْمِيمِ يَكُونُ عَلَى وَزْنِ فَعُولٌ ، وَلَيْسَ فِي
بَحْرِ الْكَامِلِ وَلَا فِي بَحْرِ الرَّجَزِ فَعُولُنْ بِحَالٍ ، وَمَنْ
أَشْبَعَ حَرَكَةَ الْمِيمِ فَلَا يَكُونُ بَيْتًا إلَّا بِإِسْقَاطِ الْوَاوِ
مِنْ دَانِيَةً ، وَإِذَا حُذِفَتْ الْوَاوُ بَطَلَ نَظْمُ الْقُرْآنِ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { وَوَضَعْنَا عَنْك وِزْرَك
الَّذِي أَنَقَضَ ظَهْرَك وَرَفَعْنَا لَك ذِكْرَك } زَعَمُوا
أَرْغَمَهُمْ اللَّهُ أَنَّهَا مِنْ بَحْرِ الرَّمَلِ
، وَأَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَبْيَاتٍ كُلُّ بَيْتٍ مِنْهَا عَلَى مِصْرَاعٍ ، وَهُوَ
مِنْ مَجْزُوِّهِ عَلَى فَاعِلَاتٍ فَاعِلَاتٍ ، وَيَقُومُ فِيهَا فَعِلَاتٌ
مَقَامَهُ ، فَيُقَالُ لَهُمْ : مَا جَاءَ فِي دِيوَانِ الْعَرَبِ بَيْتٌ مِنْ
الرَّمَلِ عَلَى جُزْأَيْنِ ، وَإِنَّمَا جَاءَ عَلَى سِتَّةِ أَجْزَاءٍ تَامَّةٍ
كُلُّهَا فَاعِلَاتٌ أَوْ فِعْلَاتٌ ، أَوْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَجْزَاءٍ كُلُّهَا فَاعِلَاتٌ
أَوْ فِعْلَاتٌ ؛ فَأَمَّا عَلَى جُزْأَيْنِ كِلَاهُمَا فَاعِلَاتٌ فَاعِلَاتٌ
فَلَمْ يَرِدْ قَطُّ فِيهَا ؛ وَكَلَامُهُمْ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ كُلُّ
وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى وَزْنِ بَعْضِ بَيْتٍ ، وَهَذَا مِمَّا لَا
نُنْكِرُهُ وَإِنَّمَا نُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ آيَةٌ تَامَّةٌ ، أَوْ كَلَامٌ
تَامٌّ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى وَزْنِ بَيْتٍ تَامٍّ مِنْ الشِّعْرِ .
فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ يَكُونُ الْمَجْزُوءُ
وَالْمُرَبَّعُ مِنْ الرَّمَلِ تَارَةً مُصَرَّعًا وَتَارَةً غَيْرَ مُصَرَّعٍ ،
فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ مِنْ الْمَجْزُوءِ
وَالْمُرَبَّعِ الْمُصَرَّعِ مِنْ الرَّمَلِ .
قُلْنَا : إنَّ الْبَيْتَ مِنْ الْقَصِيدَةِ إنَّمَا يَكُونُ
مُصَرَّعًا إذَا كَانَ فِيهِ أَبْيَاتٌ أَوْ بَيْتٌ غَيْرُ مُصَرَّعٍ ، فَأَمَّا
إذَا كَانَتْ أَنْصَافُ أَبْيَاتِهِ كُلُّهَا عَلَى سَجْعٍ وَاحِدٍ وَكُلُّ نِصْفٍ
مِنْهَا بَيْتٌ بِرَأْسِهِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الرَّمَلِ مَا
يَكُونُ عَلَى جُزْأَيْنِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ جُزْآنِ ،
فَلَمْ يَرِدْ عَلَى شَرْطِ الرَّمَلِ
.
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى : { أَرَأَيْت الَّذِي
يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ } وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ
الْآيَةَ لَا تَقَعُ فِي أَقْوَالِ الشُّعَرَاءِ إلَّا بِحَذْفِ اللَّامِ مِنْ
قَوْلِهِ : { فَذَلِكَ } وَبِتَمْكِينِ حَرَكَةِ الْمِيمِ مِنْ الْيَتِيمِ ،
فَيَكُونُ الْيَتِيمَا .
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى : { إنِّي وَجَدْت امْرَأَةً
تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } .
فَقَوْلُهُ : { وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا }
بَيْتٌ تَامٌّ ، فَقَدْ بَيَّنَّا
فَسَادَ هَذَا ، وَأَنَّ بَعْضَ آيَةٍ وَجُزْءًا مِنْ
كَلَامٍ لَا يَكُونُ شِعْرًا .
فَإِنْ قِيلَ : يَقَعُ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلُهُ : {
وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } إتْمَامًا لِلْكَلَامِ عَلَى مَعْنَى النَّظْمَيْنِ ، وَقَدْ
جَاءَ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهِمْ قَالَ النَّابِغَةُ : وَهُمْ وَرَدُوا الْجِفَارَ
عَلَى تَمِيمٍ وَهُمْ أَصْحَابُ يَوْمِ عُكَاظٍ إنِّي شَهِدْت لَهُمْ مَوَاطِنَ صَالِحَاتٍ
أَنَرْتُهُمُ بِنُصْحِ الْقَوْلِ مِنِّي قُلْنَا : التَّضْمِينُ عَلَى عَيْبِهِ
إنَّمَا يَكُونُ فِي بَيْتٍ عَلَى تَأْسِيسِ بَيْتٍ قَبْلَهُ ، فَأَمَّا أَنْ
يَكُونَ التَّأْسِيسُ بَيْتًا وَالتَّضْمِينُ أَقَلَّ مِنْ بَيْتٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ
بِشِعْرٍ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ ، وَلَا يُنْكِرُ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ
بَعْضُ آيَةٍ عَلَى مِثَالِ قَوْلِ الشِّعْرِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنْ
يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } فَهَذَا عَلَى نِصْفِ بَيْتٍ مِنْ الرَّجَزِ .
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى
} عَلَى نِصْفِ بَيْتٍ مِنْ الْمُتَقَارَبِ الْمُسْتَمِرِّ ، وَهَذَا كَثِيرٌ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَقَدْ ادَّعَوْهُ فِي كَلَامِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : إنْ لَمْ يَكُنْ
فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ فِي كَلَامِ الَّذِي نُفِيَتْ عَنْهُ مَعْرِفَةُ
الشِّعْرِ ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَا
النَّبِيُّ لَا كَذِبْ .
أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ } .
قُلْنَا :
قَدْ قَالَ الْأَخْفَشُ : إنَّ هَذَا لَيْسَ بِشِعْرٍ ،
وَرَوَى ابْنُ الْمُظَفَّرِ عَنْ الْخَلِيلِ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ : إنَّ مَا
جَاءَ مِنْ السَّجْعِ عَلَى جُزْأَيْنِ لَا يَكُونُ شِعْرًا .
وَرَوَى غَيْرُهُ عَنْهُ أَنَّهُ مِنْ مَنْهُوكِ
الرَّجَزِ .
فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَا يَكُونُ
شِعْرًا ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ لَا يَكُونُ مَنْهُوكَ رَجَزٍ إلَّا بِالْوَقْفِ
عَلَى الْبَاءِ مِنْ قَوْلِك : لَا كَذِبْ ، وَمِنْ قَوْلِهِ : " عَبْدُ
الْمُطَّلِبِ " وَلَمْ يُعْلَمْ كَيْفَ قَالَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ قَالَ : لَا كَذِبٌ بِتَنْوِينِ
الْبَاءِ مَرْفُوعَةً وَبِخَفْضِ
الْبَاءِ مِنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى
الْإِضَافَةِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا
يُؤْثَرُ عَنْهُ مُتَمَثِّلًا بِقَوْلِ طَرَفَةَ : سَتُبْدِي لَك الْأَيَّامُ مَا
كُنْت جَاهِلًا وَيَأْتِيك مَنْ لَمْ تَزَوَّدْ بِالْأَخْبَارِ وَقَالَ :
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْ دِ بَيْنَ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ
وَقَالَ : كَفَى الْإِسْلَامُ وَالشَّيْبُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا فَقَالَ لَهُ أَبُو
بَكْرٍ فِي ذَلِكَ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، وَقَبَّلَ رَأْسَهُ قَالَ اللَّهُ : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا
يَنْبَغِي لَهُ } .
قَالُوا
: وَمِنْهَا قَوْلُهُ : هَلْ أَنْتَ إلَّا إصْبَعٌ
دَمِيَتْ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيت وَأَلْزَمُونَا أَنَّ هَذَا شِعْرٌ
مَوْزُونٌ مِنْ بَحْرِ السَّرِيعِ
.
قُلْنَا : إنَّمَا يَكُونُ هَذَا شِعْرًا مَوْزُونًا
إذَا كُسِرَتْ التَّاءُ مِنْ دَمِيَتْ وَلَقِيت ، فَإِنْ سُكِّنَتْ لَمْ يَكُنْ
شِعْرًا بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ
تَكُونُ فَعُولٌ ، وَلَا مَدْخَلَ لِفَعُولٍ فِي بَحْرِ السَّرِيعِ .
وَلَعَلَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَهَا سَاكِنَةَ التَّاءِ أَوْ مُتَحَرِّكَةَ التَّاءِ مِنْ غَيْرِ إشْبَاعٍ .
قَالُوا : وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى
لَكُمْ } ؛ فَادَّعَوْا أَنَّهُ عَلَى وَزْنِ مَشْطُورِ الرَّجَزِ .
قُلْنَا : إنَّمَا يَكُونُ شِعْرًا إذَا تَكَلَّمَ بِهِ
الْمُتَكَلِّمُ مَوْصُولًا ، فَإِنْ وَقَفَ عَلَى قَوْلِهِ : اللَّهُ مَوْلَانَا ، أَوْ وَصَلَ
وَحَرَّكَ الْمِيمَ مِنْ قَوْلِهِ لَكُمْ لَمْ يَكُنْ شِعْرًا .
وَقَدْ نَقَلَهُ وَوَصَلَهُ بِكَلَامٍ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ
وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } .
وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لَا يَكُونُ شِعْرًا إلَّا بَعْدَ
تَفْسِيرِ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُسَكَّنُ
اللَّامُ مِنْ قَوْلِك الْوَلَدُ ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ .
وَقَدْ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ مَا
يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ مَوْزُونِ الْكَلَامِ لَا يُعَدُّ شِعْرًا ،
وَإِنَّمَا يُعَدُّ مِنْهُ مَا يَجْرِي عَلَى وَزْنِ الشِّعْرِ وَمَعَ الْقَصْدِ
إلَيْهِ .
فَقَدْ
يَقُولُ قَائِلٌ : حَدَّثَنَا شَيْخٌ لَنَا ،
وَيُنَادَى يَا صَاحِبَ الْكِسَاءِ ، وَلَا يُعَدُّ هَذَا شِعْرًا .
وَقَدْ كَانَ رَجُلٌ يُنَادِي فِي مَرَضِهِ وَهُوَ مِنْ
عُرْضِ الْعَامَّةِ الْعُقَلَاءِ : اذْهَبُوا بِي إلَى الطَّبِيبِ ، وَقُولُوا
قَدْ اكْتَوَى ، وَبِهَذَا وَسِوَاهُ يَتَبَيَّنُ صِحَّةُ الْآيَةِ مَعْنًى ،
وَبُطْلَانُ مَا مَوَّهُوا بِهِ قَطْعًا .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ
عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ إنْشَادِ الشِّعْرِ قَالَ : لَا تُكْثِرْ مِنْهُ
، فَمِنْ عَيْبِهِ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا
يَنْبَغِي لَهُ } .
قَالَ
: وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنْ اجْمَعْ الشُّعَرَاءَ قِبَلَك
وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الشِّعْرِ ، وَهَلْ بَقِيَ مَعَهُمْ مَعْرِفَةٌ بِهِ ،
وَأَحْضَرَ لَبِيدًا ذَلِكَ .
قَالَ : فَجَمَعَهُمْ وَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا : إنَّا
لَنَعْرِفُهُ وَنَقُولُهُ .
وَسَأَلَ لَبِيدًا فَقَالَ : مَا قُلْت شِعْرًا مُنْذُ
سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ } .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : هَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَتْ
مِنْ عَيْبِ الشِّعْرِ ، كَمَا لَمْ يَكُنْ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا كُنْت
تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِك } مِنْ عَيْبِ
الْخَطِّ .
فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ الْأُمِّيَّةُ مِنْ عَيْبِ الْخَطِّ
كَذَلِكَ لَا يَكُونُ نَفْيُ النَّظْمِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ عَيْبِ الشِّعْرِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَالَ الشِّعْرِ فِي سُورَةِ الظُّلَّةِ
، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : يُرْوَى أَنَّ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ أَوْ الْعَاصِيَ بْنَ وَائِلٍ مَرَّ بِرِمَّةٍ بَالِيَةٍ فَأَخَذَهَا ، وَقَالَ : الْيَوْمَ أَغْلِبُ مُحَمَّدًا ، وَجَاءَ إلَيْهِ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يُعِيدُ هَذَا كَمَا بَدَأَهُ ، وَفَتَّتَهُ بِيَدِهِ ، حَتَّى عَادَ رَمِيمًا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : {
قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي
الْعِظَامِ حَيَاةً ، وَأَنَّهُ يُنَجَّسُ بِالْمَوْتِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَحَلٍّ
تَحِلُّ الْحَيَاةُ بِهِ فَيَخْلُفُهَا الْمَوْتُ يُنَجَّسُ وَيُحَرَّمُ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } وَسَاعَدَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِيهِ ، وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ : لَا حَيَاةَ فِيهِ وَلَا يُنَجَّسُ بِالْمَوْتِ .
وَقَدْ اضْطَرَبَ أَرْبَابُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ ،
وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ
.
فَإِنْ قِيلَ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ : { مَنْ يُحْيِي
الْعِظَامَ } يَعْنِي أَصْحَابَ الْعِظَامِ ، وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ مَقَامَ
الْمُضَافِ إلَيْهِ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ مَوْجُودٌ فِي الشَّرِيعَةِ .
قُلْنَا : إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا اُحْتِيجَ
إلَيْهِ لِضَرُورَةٍ ، وَلَيْسَ هَاهُنَا ضَرُورَةٌ تَدْعُو إلَى هَذَا
الْإِضْمَارِ ، وَلَا يُفْتَقَرُ إلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ
الْكَلَامُ عَلَى الظَّاهِرِ ؛ إذْ الْبَارِي سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ بِهِ
وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ ، وَالْحَقِيقَةُ تَشْهَدُ لَهُ ؛ فَإِنَّ الْإِحْسَاسَ
الَّذِي هُوَ عَلَامَةُ الْحَيَاةِ مَوْجُودٌ فِيهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي
مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
سُورَةُ الصَّافَّاتِ [ مَكِّيَّةٌ ، فِيهَا آيَتَانِ ] الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى
: { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى فِي
الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا
تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اُخْتُلِفَ
فِي الذَّبِيحِ ، هَلْ هُوَ إِسْحَاقُ أَوْ إسْمَاعِيلُ ؟ وَقَدْ اخْتَلَفَ
النَّاسُ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسْأَلَةِ تَبْيِينِ
الصَّحِيحِ فِي تَعْيِينِ الذَّبِيحِ ، وَلَيْسَتْ الْمَسْأَلَةُ مِنْ
الْأَحْكَامِ وَلَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ ؛ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ مَحَاسِنِ
الشَّرِيعَةِ وَتَوَابِعِهَا وَمُتَمِّمَاتِهَا لَا أُمَّهَاتِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : {
إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك } وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ ،
حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّ
الْأَنْبِيَاءَ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ فِي التَّخْيِيلِ سَبِيلٌ ، وَلَا
لِلِاخْتِلَاطِ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ ؛ وَإِنَّمَا قُلُوبُهُمْ صَافِيَةٌ ،
وَأَفْكَارُهُمْ صَقِيلَةٌ ، فَمَا أُلْقِيَ إلَيْهِمْ ، وَنَفَثَ بِهِ الْمَلِكُ
فِي رَوْعِهِمْ ، وَضَرَبَ الْمَثَلَ لَهُ عَلَيْهِمْ فَهُوَ حَقٌّ ؛ وَلِذَلِكَ
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : وَمَا كُنْت أَظُنُّ أَنَّهُ يَنْزِلُ
فِي قُرْآنٍ يُتْلَى ، وَلَكِنْ رَجَوْت أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا .
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَدْ بَيَّنَّا فِي
كُتُبِ الْأُصُولِ وَالْحَدِيثِ حَقِيقَةَ الرُّؤْيَا ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي
هَذَا الْكِتَابِ نُبْذَةً مِنْهَا ، وَأَنَّ الْبَارِيَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
يَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ، وَلَهَا أَسْمَاءٌ وَكُنَى ، فَمِنْهَا رُؤْيَا تَخْرُجُ
بِصِفَتِهَا ، وَمِنْهَا رُؤْيَا تَخْرُجُ بِتَأْوِيلِهَا وَهُوَ كُنْيَتُهَا .
وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ : أُرِيتُك فِي سَرَقَةٍ مِنْ
حَرِيرٍ .
فَقَالَ الْمَلَكُ : هَذِهِ زَوْجُك ، فَاكْشِفْ عَنْهَا
، فَإِذَا هِيَ أَنْتِ .
فَقُلْت : إنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ } .
وَلَمْ يَشُكَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ
لِقَوْلِهِ : فَقَالَ لِي الْمَلَكُ ، وَلَا يَقُولُ الْمَلَكُ إلَّا حَقًّا ،
وَلَكِنَّ الْأَمْرَ احْتَمَلَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَا بِاسْمِهَا أَوْ تَكُونَ بِكُنْيَتِهَا ،
فَإِنْ كَانَتْ بِاسْمِهَا فَتَكُونُ هِيَ الزَّوْجَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ الرُّؤْيَا
مُكَنَّاةً فَتَكُونُ فِي أُخْتِهَا أَوْ قَرَابَتِهَا أَوْ جَارَتِهَا ، أَوْ
مَنْ يُسَمَّى بِاسْمِهَا ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّشْبِيهَاتِ
فِيهَا ؛ وَهَذَا أَصْلٌ تَقَرَّرَ فِي الْبَابِ فَلْيُحْفَظْ وَلْيُحَصَّلْ ،
فَإِنَّهُ أَصْلُهُ .
.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَدْ جَرَى فِي هَذِهِ
الْآيَةِ غَرِيبَةٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا حَيْثُ وَقَعَتْ مِنْ كَلَامِنَا ،
ذَكَرَهَا جَمِيعُ عُلَمَائِنَا مَعَ أَحْزَابِ الطَّوَائِفِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ
النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ الْأَمْرَ بِالذَّبْحِ قَبْلَ أَنْ
يَقَعَ الذَّبْحُ ، وَلَوْ لَمْ يُتَصَوَّرْ رَفْعُهُ .
وَقَالَ الْمُخَالِفُونَ : إنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ ،
وَلَكِنَّهُ نُفِّذَ الذَّبْحُ ، وَكَانَ كُلَّمَا قَطَعَ جُزْءًا الْتَأَمَ ،
فَاجْتَمَعَ الذَّبْحُ وَالْإِعَادَةُ لِمَوْضِعِهَا حَسْبَمَا كَانَتْ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : وَجَدَ حَلْقَهُ نُحَاسًا أَوْ
مُغَشًّى بِنُحَاسٍ ، فَكَانَ كُلَّمَا أَرَادَ قَطْعًا وَجَدَ مَنْعًا ؛ وَذَلِكَ
كُلُّهُ جَائِزٌ فِي الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ ؛ وَلَكِنْ يَفْتَقِرُ إلَى
نَقْلٍ صَحِيحٍ ، فَإِنَّهُ لَا يُدْرَكُ بِالنَّظَرِ ؛ وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ
الْخَبَرُ ، وَكَانَ الذَّبْحُ وَالْتِئَامُ الْأَجْزَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْقَعَ
فِي مَطْلُوبِهِمْ مِنْ وَضْعِ النُّحَاسِ مَوْضِعَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ ،
وَكُلُّهُ أَمْرٌ بَعِيدٌ مِنْ الْعِلْمِ ؛ وَبَابُ التَّحْقِيقِ فِيهَا
وَمَسْلَكُهُ مَا بَيَّنَّاهُ وَاخْتَرْنَاهُ ، فَأَوْضَحْنَا لِبَابِهِ الَّذِي
لَمْ نُسْبَقْ إلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى : قَالَ مُخْبِرًا عَنْ إبْرَاهِيمَ
: إنَّهُ قَالَ لِوَلَدِهِ : { يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي
أَذْبَحُك فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ
سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْت الرُّؤْيَا }
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَا إمَّا
أَنْ تَكُونَ مِنْ غَلَبَةِ الْأَخْلَاطِ كَمَا تَقُولُ الْفَلَاسِفَةُ وَتِلْكَ
أَخْلَاطٌ ، وَأَيُّهَا فَلَيْسَ لَهَا بِالْأَنْبِيَاءِ أَخْلَاطٌ ، وَإِمَّا
أَنْ تَكُونَ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَلَمْ يُحَدِّثْ إبْرَاهِيمُ قَطُّ نَفْسَهُ
بِذَبْحِ وَلَدِهِ ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ تَلَاعُبِ الشَّيْطَانِ ،
فَلَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ سَبِيلٌ فِي تَخْيِيلٍ وَلَا
تَلَاعُبٍ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ وَقَرَّرْنَاهُ
وَمَهَّدْنَاهُ وَبَسَّطْنَاهُ .
فَقَالَ إبْرَاهِيمُ لِابْنِهِ : رَأَيْت أَنِّي
أَذْبَحُك فِي الْمَنَامِ ، فَأَخَذَ الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ الرُّؤْيَا
بِظَاهِرِهَا وَاسْمِهَا ، وَقَالَ لَهُ : { افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } ؛ إذْ هُوَ
أَمْرٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى ، لِأَنَّهُمَا عَلِمَا أَنَّ رُؤْيَا
الْأَنْبِيَاءِ وَحْيُ اللَّهِ ، وَاسْتَسْلَمَا لِقَضَاءِ اللَّهِ ؛ هَذَا فِي
قُرَّةِ عَيْنِهِ ، وَهَذَا فِي نَفْسِهِ أُعْطِيَ ذِبْحًا فِدَاءً وَقِيلَ لَهُ : هَذَا فِدَاؤُك
، فَامْتَثِلْ فِيهِ مَا رَأَيْت فَإِنَّهُ حَقِيقَةُ مَا خَاطَبْنَاك فِيهِ ،
وَهُوَ كِنَايَةٌ لَا اسْمٌ ، وَجَعَلَهُ مُصَدِّقًا لِلرُّؤْيَا بِمُبَادَرَتِهِ
الِامْتِثَالَ ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ وَالتَّهَيُّؤِ
لِلْعَمَلِ .
فَلَمَّا اعْتَقَدَا الْوُجُوبَ ، وَتَهَيَّآ لِلْعَمَلِ
، هَذَا بِصُورَةِ الذَّابِحِ ، وَهَذَا بِصُورَةِ الْمَذْبُوحِ ، أُعْطِيَ
مَحَلًّا لِلذَّبْحِ فِدَاءً عَنْ ذَلِكَ الْمَرْئِيِّ فِي الْمَنَامِ ، يَقَعُ
مَوْضِعَهُ بِرَسْمِ الْكِنَايَةِ وَإِظْهَارِ الْحَقِّ الْمَوْعُودِ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ
: قَدْ قَالَ لَهُ الْوَلَدُ : { يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا
تُؤْمَرُ } فَأَيْنَ الْأَمْرُ ؟ قُلْنَا : هُمَا كَلِمَتَانِ إحْدَاهُمَا مِنْ الْوَالِدِ
إبْرَاهِيمَ ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ الْوَلَدِ إسْمَاعِيلَ .
فَأَمَّا كَلِمَةُ إبْرَاهِيمَ فَهِيَ قَوْلُهُ
أَذْبَحُك ، وَهُوَ خَبَرٌ لَا أَمْرٌ ، وَأَمَّا كَلِمَةُ إسْمَاعِيلَ : {
افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } وَهُوَ أَمْرٌ ، وَقَوْلُ إبْرَاهِيمَ : { إنِّي أَرَى فِي
الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك } وَإِنْ كَانَتْ [ صِيغَتُهُ ] صِيغَةَ الْخَبَرِ
فَإِنَّ مَعْنَاهَا الْأَمْرُ ضَرُورَةً ؛ لِأَنَّ لَوْ كَانَ عِبَارَةً عَنْ خَبَرٍ
وَاقِعٍ لَمَا كَانَ لَهُ تَأْوِيلٌ يُنْتَظَرُ ، وَإِنَّمَا هُوَ بِصِيغَةِ
الْخَبَرِ ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ ضَرُورَةً .
فَقَالَ إسْمَاعِيلُ لِأَبِيهِ إبْرَاهِيمَ : { افْعَلْ
مَا تُؤْمَرُ } ؛ فَعَبَّرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالِانْقِيَادِ إلَى مَعْنَى خَبَرِ
أَبِيهِ ، وَهُوَ الْأَمْرُ ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قَدْ صَدَّقْت
الرُّؤْيَا } حِينَ تَيَسَّرَا لِلْعَمَلِ ، وَأَقْبَلَا عَلَى الْفِعْلِ ؛ فَكَانَ
صَدَقَهَا
ذِبْحُهَا مَكَانَهَا ، وَهُوَ الْفِدَاءُ ، وَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا فِي الْمَعْنَى ضَرُورَةً ، فَكَانَ مَا كَانَ مِنْ إبْرَاهِيمَ امْتِثَالًا ، وَمِنْ إسْمَاعِيلَ انْقِيَادًا ، وَوُضِّحَتْ الْمَعَانِي بِحَقِيقَتِهَا ، وَجَرَتْ الْأَلْفَاظُ عَلَى نِصَابِهَا لِصَوَابِهَا ، وَلَمْ يُحْتَجْ إلَى تَأْوِيلٍ فَاسِدٍ يَقْلِبُ الْجِلْدَ نُحَاسًا أَوْ غَيْرَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ لَمَّا قَرَّرْنَا حَظَّ
التَّفْسِيرِ وَالْأُصُولِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَرَكَّبَتْ عَلَيْهَا مَسْأَلَةٌ
مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَهُوَ إذَا نَذَرَ الرَّجُلُ ذَبْحَ وَلَدِهِ .
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هِيَ مَعْصِيَةٌ يَسْتَغْفِرُ
اللَّهَ مِنْهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هِيَ كَلِمَةٌ يَلْزَمُهُ
بِهَا ذَبْحُ شَاةٍ .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ
: يَلْزَمُهُ ذَبْحُ شَاةٍ فِي تَفْصِيلٍ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ .
وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ الَّذِي نَنْظُرُهُ الْآنَ .
وَدَلِيلُنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ ذَبْحَ
الْوَلَدِ عِبَارَةً عَنْ ذَبْحِ الشَّاةِ شَرْعًا ، فَأَلْزَمَ اللَّهُ
إبْرَاهِيمَ ذَبْحَ الْوَلَدِ ، وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ بِذَبْحِ الشَّاةِ ،
وَكَذَلِكَ إذَا نَذَرَ الْعَبْدُ ذَبْحَ وَلَدِهِ يَجِبُ أَنْ يَلْزَمَهُ ذَبْحُ
شَاةٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ } .
وَالْإِيمَانُ إلْزَامٌ أَصْلِيٌّ .
وَالنَّذْرُ إلْزَامٌ فَرْعِيٌّ ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ
عَلَيْهِ مَحْمُولًا .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يُؤْمَرُ إبْرَاهِيمُ بِذَبْحِ
الْوَلَدِ وَهِيَ مَعْصِيَةٌ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْصِيَةِ لَا يَجُوزُ ؟ قُلْنَا :
هَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ
الْإِسْلَامَ ، فَكَيْفَ مِمَّنْ يُفْتِي فِي الْحَلَالِ مِنْهُ وَالْحَرَامِ ؟
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } .
وَاَلَّذِي يَجْلُو الِالْتِبَاسَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ
فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَعَاصِيَ وَالطَّاعَاتِ لَيْسَتْ بِأَوْصَافٍ ذَاتِيَّةٍ لِلْأَعْيَانِ
؛ وَإِنَّمَا الطَّاعَةُ عِبَارَةٌ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ الْأَمْرُ مِنْ
الْأَفْعَالِ ، وَالْمَعْصِيَةُ عِبَارَةٌ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ النَّهْيُ مِنْ
الْأَفْعَالِ ، فَلَمَّا تَعَلَّقَ الْأَمْرُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ إسْمَاعِيلَ مِنْ
إبْرَاهِيمَ صَارَ طَاعَةً وَابْتِلَاءً ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
إنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ } ؛ أَيْ الصَّبْرُ عَلَى ذَبْحِ
الْوَلَدِ وَالنَّفْسِ .
وَلَمَّا تَعَلَّقَ النَّهْيُ بِنَا فِي ذَبْحِ
أَبْنَائِنَا صَارَ مَعْصِيَةً
.
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَصِيرُ نَذْرًا
وَهُوَ مَعْصِيَةٌ ؟ قُلْنَا : إنَّمَا يَصِيرُ
مَعْصِيَةً لَوْ كَانَ هُوَ يَقْصِدُ ذَبْحَ وَلَدِهِ بِنَذْرِهِ وَلَا يَنْوِي
الْفِدَاءَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ وَقَصَدَ
الْمَعْصِيَةَ وَلَمْ يَنْوِ الْفِدَاءَ ؟ قُلْنَا : لَوْ قَصَدَ ذَلِكَ لَمْ
يَضُرَّهُ فِي قَصْدِهِ ، وَلَا أَثَرَ فِي نَذْرِهِ ، لِأَنَّ ذَبْحَ الْوَلَدِ
صَارَ عِبَارَةً عَنْ ذَبْحِ الشَّاةِ شَرْعًا .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً
عَنْهُ وَكِنَايَةً فِيهِ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ كِنَايَةً
عَنْ الشَّيْءِ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ ؛ إمَّا بِاشْتِبَاهِهِمَا فِي الْمَعْنَى الْخَاصِّ
، وَإِمَّا بِنِسْبَةٍ تَكُونُ بَيْنَهُمَا ، وَهَا هُنَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَ
الطَّاعَةِ وَهُوَ النَّذْرُ ، وَلَا بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ وَهِيَ ذَبْحُ
الْوَلَدِ ، وَلَا تَشَابُهَ أَيْضًا بَيْنَهُمَا ، فَإِنَّ ذَبْحَ الْوَلَدِ
لَيْسَ بِسَبَبٍ لِذَبْحِ الشَّاةِ
.
قُلْنَا : هُوَ سَبَبٌ لَهُ شَرْعًا لِأَنَّهُ جُعِلَ
كِنَايَةً عَنْهُ فِي الشَّرْعِ
.
وَالْأَسْبَابُ إنَّمَا تُعْرَفُ عَادَةً أَوْ شَرْعًا ،
وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا بَاقِيَ الْكَلَامِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فِي كُتُبِ
الْأُصُولِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ
.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَسَاهَمَ
فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَهُوَ يُونُسُ بْنُ
مَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُفَضِّلُونِي
عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى } .
وَنَسَبُهُ إلَى أَبِيهِ ، أَخْبَرَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ
مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَبِي الْمَعَالِي عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ الْجُوَيْنِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ : هَلْ الْبَارِي
تَعَالَى فِي جِهَةٍ ؟ فَقَالَ : لَا ، هُوَ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ .
قِيلَ لَهُ : مَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ ؟ قَالَ :
الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى
يُونُسَ بْنِ مَتَّى } .
فَقِيلَ لَهُ : مَا وَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا
الْخَبَرِ ؟ قَالَ : لَا أَقُولُهُ حَتَّى يَأْخُذَ ضَيْفِي هَذَا أَلْفَ دِينَارٍ
يَقْضِي بِهَا دَيْنَهُ .
فَقَامَ رَجُلَانِ فَقَالَا : هِيَ عَلَيْنَا .
فَقَالَ : لَا يَتْبَعُ بِهَا اثْنَيْنِ ، لِأَنَّهُ
يَشُقُّ عَلَيْهِ .
فَقَالَ وَاحِدٌ : هِيَ عَلَيَّ .
فَقَالَ :
إنَّ يُونُسَ بْنَ مَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ فِي
الْبَحْرِ ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ ، وَصَارَ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ فِي ظُلُمَاتٍ
ثَلَاثٍ ، وَنَادَى : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك إنِّي كُنْت مِنْ
الظَّالِمِينَ } كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَقْرَبَ مِنْ اللَّهِ مِنْ يُونُسَ حِينَ جَلَسَ
عَلَى الرَّفْرَفِ الْأَخْضَرِ ، وَارْتَقَى بِهِ ، وَصَعِدَ حَتَّى انْتَهَى بِهِ
إلَى مَوْضِعٍ يَسْمَعُ مِنْهُ صَرِيرُ الْأَقْلَامِ ، وَنَاجَاهُ رَبُّهُ بِمَا
نَاجَاهُ ، وَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى بِأَقْرَبَ مِنْ اللَّهِ مِنْ
يُونُسَ بْنِ مَتَّى فِي بَطْنِ الْحُوتِ وَظُلْمَةِ الْبَحْرِ .
قَصَدْت قَبْرَهُ مِرَارًا لَا أُحْصِيهَا بِقَرْيَةِ
جُلْجُونَ فِي مَسِيرِي مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إلَى قَبْرِ الْخَلِيلِ ،
وَبِتُّ بِهِ ، وَتَقَرَّبْت إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَحَبَّتِهِ ، وَدَرَسْنَا
كَثِيرًا مِنْ الْعِلْمِ عِنْدَهُ ، وَاَللَّهُ يَنْفَعُنَا بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ بَعَثَهُ اللَّهُ إلَى
أَهْلِ نِينَوَى مِنْ قُرَى الْمَوْصِلِ عَلَى دِجْلَةَ وَمَنْ دَانَاهُمْ ،
فَكَذَّبُوهُ عَلَى عَادَةِ الْأُمَمِ مَعَ الرُّسُلِ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى
يُونُسَ ، فَقَالَ لَهُ : إنَّ الْعَذَابَ يَأْتِي قَوْمَك يَوْمَ كَذَا وَكَذَا .
فَلَمَّا كَانَ يَوْمَئِذٍ جَاءَهُ جِبْرِيلُ ، فَقَالَ
لَهُ : إنَّهُمْ قَدْ حَضَرَهُمْ الْعَذَابُ .
قَالَ لَهُ يُونُسُ : أَلْتَمِسُ دَابَّةً .
قَالَ : الْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ .
قَالَ : فَأَلْتَمِسُ حِذَاءً .
قَالَ : الْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ .
قَالَ :
فَغَضِبَ يُونُسُ وَخَرَجَ ، وَكَانَتْ الْعَلَامَةُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ فِي نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ خُرُوجَهُ عَنْهُمْ .
فَلَمَّا فَقَدُوهُ خَرَجُوا بِالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ
وَالشَّاةِ وَالسَّخْلَةِ ، وَالنَّاقَةِ وَالْهُبَعِ وَالْفَحْلِ ، وَكُلِّ
شَيْءٍ عِنْدَهُمْ ، وَعَزَلُوا الْوَالِدَةَ عَنْ وَلَدِهَا وَالْمَرْأَةَ عَنْ
خَلِيلِهَا ، وَتَابُوا إلَى اللَّهِ ، وَصَاحُوا حَتَّى سُمِعَ لَهُمْ عَجِيجٌ ، فَأَتَاهُمْ
الْعَذَابُ حَتَّى نَظَرُوا إلَيْهِ ، ثُمَّ صَرَفَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَغَضِبَ
يُونُسُ ، وَرَكِبَ الْبَحْرَ فِي سَفِينَةٍ ، حَتَّى إذَا كَانُوا حَيْثُ شَاءَ
اللَّهُ رَكَدَتْ السَّفِينَةُ ، وَقِيلَ : هَاجَ الْبَحْرُ بِأَمْوَاجِهِ ،
وَقِيلَ : عَرَضَ لَهُمْ حُوتٌ حَبَسَ جَرْيَتَهَا ، فَقَالُوا : إنَّ فِينَا
مَشْئُومًا أَوْ مُذْنِبًا ، فَلْنَقْتَرِعْ عَلَيْهِ ؛ فَاقْتَرَعُوا فَطَارَ
السَّهْمُ عَلَى يُونُسَ ، فَقَالُوا : عَلَى مِثْلِ هَذَا يَقَعُ السَّهْمُ ،
قَدْ أَخْطَأْنَا فَأَعِيدُوهَا ، فَأَعَادُوا الْقُرْعَةَ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ ،
فَقَالُوا مِثْلُهُ ، وَأَعَادُوهَا ، فَوَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَيْهِ .
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ يُونُسُ رَمَى بِنَفْسِهِ فِي
الْبَحْرِ ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ : إنَّا لَمْ
نَجْعَلْ يُونُسَ لَك رِزْقًا ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَا بَطْنَك لَهُ سِجْنًا ،
فَنَادَى { أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك إنِّي كُنْت مِنْ
الظَّالِمِينَ } فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ ، وَأَمَرَ الْحُوتَ فَرَمَاهُ
عَلَى السَّاحِلِ قَدْ ذَهَبَ شَعْرُهُ ، فَأَنْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ
شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ
الشَّمْسُ تَحَاتَّ وَرَقُهَا ، فَبَكَى ؛ فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَتَبْكِي
عَلَى شَجَرَةٍ أَنْبَتُّهَا فِي يَوْمٍ وَأَهْلَكْتهَا فِي يَوْمٍ ، وَلَا
تَبْكِي عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ آمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إلَى
حِينٍ .
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : { فَسَاهَمَ
فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ } نَصٌّ عَلَى الْقُرْعَةِ .
وَكَانَتْ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا جَائِزَةً فِي
كُلِّ شَيْءٍ عَلَى الْعُمُومِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مَوَارِدُ أَخْبَارِهَا فِي الْإِسْرَائِيلِيَّات
، وَجَاءَتْ الْقُرْعَةُ فِي شَرْعِنَا عَلَى الْخُصُوصِ عَلَى مَا أَشَرْنَا
إلَيْهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ؛ فَإِنَّ الْقَوْمَ اقْتَرَعُوا عَلَى
مَرْيَمَ أَيُّهُمْ يَكْفُلُهَا ، وَجَرَتْ سِهَامُهُمْ عَلَيْهَا وَالْقَوْلُ فِي
جَرْيَةِ الْمَاءِ بِهَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي شَرْعِنَا ، وَإِنَّمَا تَجْرِي
الْكَفَالَةُ عَلَى مَرَاتِبِ الْقَرَابَةِ ، وَقَدْ وَرَدَتْ الْقُرْعَةُ فِي
الشَّرْعِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ : الْأَوَّلُ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ ، فَأَيَّتُهُنَّ
خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ
} .
الثَّانِي
: { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رُفِعَ إلَيْهِ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَا
مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً } .
الثَّالِثُ : { أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ فِي
مَوَارِيثَ دَرَسَتْ ، فَقَالَ : اذْهَبَا وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ وَاسْتَهِمَا ،
وَلْيُحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ } فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَوَاطِنَ ،
وَهِيَ الْقَسَمُ فِي النِّكَاحِ ، وَالْعِتْقُ ، وَالْقِسْمَةُ ، وَجَرَيَانُ
الْقُرْعَةِ فِيهَا لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ وَحَسْمِ دَاءِ التَّشَهِّي .
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْقُرْعَةِ بَيْنَ
الزَّوْجَاتِ عِنْدَ الْغَزْوِ عَلَى قَوْلَيْنِ ؛ الصَّحِيحُ مِنْهُمَا
الِاقْتِرَاعُ ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ
السَّفَرَ بِجَمِيعِهِنَّ لَا يُمْكِنُ ، وَاخْتِيَارُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ
إيثَارٌ ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْقُرْعَةُ .
وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ الْأَعْبُدِ السِّتَّةِ فَإِنَّ
كُلَّ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ ثُلُثٌ ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ فِيهِ
الْعِتْقُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ ، وَتَعْيِينُهُمَا بِالتَّشَهِّي لَا يَجُوزُ
شَرْعًا ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا
الْقُرْعَةُ .
وَكَذَلِكَ التَّشَاجُرُ إذَا وَقَعَ فِي أَعْيَانِ الْمَوَارِيثِ
لَمْ يُمَيِّزْ الْحَقَّ إلَّا الْقُرْعَةُ ، فَصَارَتْ أَصْلًا فِي تَعْيِينِ
الْمُسْتَحَقِّ إذَا أَشْكَلَ .
وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنْ تَجْرِيَ فِي كُلِّ مُشْكِلٍ ، فَذَلِكَ
أَبْيَنُ لَهَا ، وَأَقْوَى لِفَصْلِ الْحُكْمِ فِيهَا ، وَأَجْلَى لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ
عَنْهَا ؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إنَّ الْقُرْعَةَ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي
الطَّلَاقِ كَالْقُرْعَةِ بَيْنَ الْإِمَاءِ فِي الْعِتْقِ ؛ وَتَفْصِيلُ
الِاقْتِرَاعِ فِي بَابِ الْقِسْمَةِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الِاقْتِرَاعُ عَلَى
إلْقَاءِ الْآدَمِيِّ فِي الْبَحْرِ لَا يَجُوزُ ، فَكَيْفَ الْمُسْلِمُ ؟
وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي يُونُسَ وَفِي زَمَانِهِ مُقَدِّمَةً لِتَحْقِيقِ
بُرْهَانِهِ وَزِيَادَةٍ فِي إيمَانِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ كَانَ
عَاصِيًا أَنْ يُقْتَلَ وَلَا يُرْمَى بِهِ فِي النَّارِ وَالْبَحْرِ ؛ وَإِنَّمَا
تَجْرِي عَلَيْهِ الْحُدُودُ وَالتَّعْزِيرُ عَلَى مِقْدَارِ جِنَايَتِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا رُمِيَ فِي الْبَحْرِ ، لِأَنَّ
السَّفِينَةَ وَقَفَتْ وَأَشْرَفَتْ عَلَى الْهَلَاكِ ، فَقَالُوا : هَذَا مِنْ
حَادِثٍ فِينَا فَانْظُرُوا مَنْ بَيْنَكُمْ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ ، فَسَلَّطُوا
عَلَيْهِ مِسْبَارَ الْإِشْكَالِ وَهِيَ الْقُرْعَةُ ، فَلَمَّا خَرَجُوا بِالْقُرْعَةِ
إلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَمْيِهِمْ لَهُ ،
فَرَمَى هُوَ بِنَفْسِهِ ، وَأَيْقَنَ أَنَّهُ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّهِ وَرَجَا
حُسْنَ الْعَاقِبَةِ ، وَلِهَذَا ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْبَحْرَ إذَا
هَالَ عَلَى الْقَوْمِ فَاضْطُرُّوا إلَى تَخْفِيفِ السَّفِينَةِ أَنَّ
الْقُرْعَةَ تُضْرَبُ عَلَيْهِمْ ، فَيُطْرَحُ بَعْضُهُمْ تَخْفِيفًا .
وَهَذَا فَاسِدٌ ، فَإِنَّهَا لَا تَخِفُّ بِرَمْيِ
بَعْضِ الرِّجَالِ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ ، وَإِنَّمَا يَصْبِرُونَ
عَلَى قَضَاءِ اللَّهِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مُسْتَوْفًى عِنْدَ ذِكْرِ الْمَسَائِلِ
الْفَرْعِيَّةِ .
سُورَةُ ص [ فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ آيَةً ]
الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى
: { إنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ
بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي سُورَةِ سَبَأٍ : { يَا جِبَالُ
أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ } ؛ فَأَذِنَ اللَّهُ لِلْجِبَالِ ، وَخَلَقَ فِيهَا
، وَيَسَّرَ لَهَا أَنْ تُسَبِّحَ مَعَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا سَبَّحَ
وَكَذَلِكَ الطَّيْرُ ؛ وَكَانَ تَسْبِيحُ دَاوُد إثْرَ صَلَاتِهِ عِنْدَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ ، وَعِنْدَ غُرُوبِهَا ، وَهِيَ صَلَاةُ الْأُمَمِ قَبْلَنَا فِيمَا
يَرْوِي أَهْلُ التَّفْسِيرِ ، ثُمَّ قَالَ : { وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً } وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ { كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ } أَيْ رَاجِعٌ إلَيْهِ ،
تَرْجِعُ مَعَهُ ، وَتُسَبِّحُ بِتَسْبِيحِهِ ، وَتَحِنُّ إلَى صَوْتِهِ
لِحُسْنِهِ ، وَتُمَثِّلُ مِثْلَ عِبَادَتِهِ لِرَبِّهِ .
فَإِنْ قِيلَ : وَهَلْ لِلطَّيْرِ عِبَادَةٌ أَوْ
تَكْلِيفٌ ؟ قُلْنَا : كُلٌّ لَهُ عِبَادَةٌ ، وَكُلٌّ لَهُ تَسْبِيحٌ كَمَا
تَقَدَّمَ ، وَالْكُلُّ مُكَلَّفٌ بِتَكْلِيفِ التَّسْخِيرِ ، وَلَيْسَ
بِتَكْلِيفِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ؛ وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ
آيَةً لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَرَامَةً مِنْ تَسْخِيرِ الْكُلِّ لَهُ
تَسْخِيرَ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ ، وَآمَنَ الْجِنُّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيمَانَ الِاخْتِيَارِ وَالطَّاعَةِ ، فَقَالُوا : { إنَّا
سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ } { يَا قَوْمَنَا
أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ } .
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ :
مَا كُنْت أَعْلَمُ صَلَاةَ الضُّحَى فِي الْقُرْآنِ حَتَّى سَمِعْت اللَّهَ
يَقُولُ { يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ } وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْلُهُ
أَيْضًا فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ ، { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ
وَالْآصَالِ رِجَالٌ } وَالْأَصَحُّ هَاهُنَا أَنَّهَا صَلَاةُ الضُّحَى
وَالْعَصْرِ ، فَأَمَّا صَلَاةُ الضُّحَى فَهِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَافِلَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ
، وَهِيَ فِي الْغَدَاةِ بِإِزَاءِ الْعَصْرِ فِي الْعَشِيِّ ، لَا يَنْبَغِي أَنْ
تُصَلَّى حَتَّى تَبْيَضَّ الشَّمْسُ طَالِعَةً ، وَيَرْتَفِعَ كَدَرُهَا ،
وَتُشْرِقَ بِنُورِهَا ، كَمَا لَا تُصَلَّى الْعَصْرُ إذَا اصْفَرَّتْ الشَّمْسُ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُبَادِرُ بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ
اسْتِعْجَالًا لِأَجْلِ شُغْلِهِ ، فَيَخْسَرُ عَمَلَهُ ؛ لِأَنَّهُ يُصَلِّيهَا
فِي الْوَقْتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، وَيَأْتِي بِعَمَلٍ هُوَ عَلَيْهِ لَا لَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ لَيْسَ لِصَلَاةِ
الضُّحَى تَقْدِيرٌ مُعَيَّنٌ إلَّا أَنَّهَا صَلَاةُ تَطَوُّعٍ ، وَأَقَلُّ
التَّطَوُّعِ عِنْدَنَا رَكْعَتَانِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَكْعَةٌ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَفِي صَلَاةِ الضُّحَى أَحَادِيثُ أُصُولُهَا ثَلَاثَةٌ
: الْأَوَّلُ : حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ ، { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ
ابْنِ آدَمَ صَدَقَةٌ : تَسْلِيمُهُ عَلَى مَنْ لَقِيَهُ صَدَقَةٌ ، وَأَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ
صَدَقَةٌ ، وَنَهْيُهُ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ ، وَإِمَاطَتُهُ الْأَذَى عَنْ
الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ ، وَنَفَقَتُهُ عَلَى أَهْلِهِ صَدَقَةٌ ، وَيَكْفِي عَنْ
ذَلِكَ كُلِّهِ رَكْعَتَانِ مِنْ الضُّحَى } .
الثَّانِي : حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ
عَنْ أَبِيهِ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
{ مَنْ قَعَدَ فِي مُصَلَّاهُ حِينَ يَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى
يُسَبِّحَ صَلَاةَ الضُّحَى لَا يَقُولُ إلَّا خَيْرًا غُفِرَتْ خَطَايَاهُ ،
وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ } .
الثَّالِثُ :
حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ ضَحَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ } ،
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : { مَا سَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ ، وَإِنِّي لَأَسْتَحِبُّهَا } .
وَعَنْهَا أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ : { لَمْ يَكُنْ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى إلَّا أَنْ
يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ } .
وَتَمَامُ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : {
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
قَوْلُهُ { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } : قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْأَمَدِ
وَغَيْرِهِ أَنَّ الشَّدَّ عِبَارَةٌ عَنْ كَثْرَةِ الْقَدْرِ ؛ وَفِي تَعْيِينِ
ذَلِكَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا الْهَيْبَةُ .
وَالثَّانِي : بِكَثْرَةِ الْجُنُودِ .
وَعِنْدِي أَنَّ مَعْنَاهُ شَدَدْنَاهُ بِالْعَوْنِ
وَالنُّصْرَةِ ، وَلَا يَنْفَعُ الْجَيْشُ الْكَثِيرُ الْتِفَافُهُ عَلَى غَيْرِ
مَنْصُورٍ وَغَيْرِ مُعَانٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { مُلْكَهُ } : قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ
الْأَمَدِ وَغَيْرِهِ الْمُلْكَ وَالْمَعْنَى فِيهِ ، وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى : { قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ
تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ } .
وَحَقِيقَةُ الْمُلْكِ كَثْرَةُ الْمُلْكِ ، فَقَدْ يَكُونُ
الرَّجُلُ مَلِكًا وَلَكِنْ لَا يَكُونُ مَلِكًا ذَا مُلْكٍ حَتَّى يَكْثُرَ
ذَلِكَ ، فَلَوْ مَلَكَ الرَّجُلُ دَارًا وَقُوتًا لَمْ يَكُنْ مُلْكًا حَتَّى
يَكُونَ لَهُ خَادِمٌ يَكْفِيهِ مُؤْنَةَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَنَافِعِ الَّتِي
يَفْتَقِرُ إلَيْهَا لِضَرُورَةِ الْآدَمِيَّةِ حَسْبَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّ حَالَ النَّبِيِّ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى مُلْكًا ، وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْعَبَّاسَ أَنْ يَحْبِسَ
أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ ، حَتَّى يَمُرَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ ؛ فَحَبَسَهُ
الْعَبَّاسُ فَجَعَلَتْ الْقَبَائِلُ تَمُرُّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتِيبَةً كَتِيبَةً عَلَى أَبِي سُفْيَانَ ، فَمَرَّتْ
كَتِيبَةٌ ، فَقَالَ : يَا عَبَّاسُ ؛ مَنْ هَذِهِ ؟ قَالَ لَهُ : غَفَّارٌ .
قَالَ : مَا لِي وَلِغَفَّارٍ ، ثُمَّ مَرَّتْ جُهَيْنَةُ
فَقَالَ مِثْلُ ذَلِكَ ، ثُمَّ مَرَّتْ سَعْدُ بْنُ هُذَيْمٍ ، فَقَالَ مِثْلُ
ذَلِكَ ، ثُمَّ مَرَّتْ سُلَيْمٌ فَقَالَ مِثْلُ ذَلِكَ ، حَتَّى أَقْبَلَتْ
كَتِيبَةٌ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا ، فَقَالَ : مَنْ هَذِهِ ؟ قَالَ : هَؤُلَاءِ
الْأَنْصَارُ ، عَلَيْهِمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، فَقَالَ
أَبُو سُفْيَانَ لِلْعَبَّاسِ : لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيك الْيَوْمَ
عَظِيمًا .
فَقَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِمُلْكٍ ، وَلَكِنَّهَا
النُّبُوَّةُ } .
وَلَمْ يُرِدْ الْعَبَّاسُ نَفْيَ الْمُلْكِ ،
وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ فِي نِسْبَةِ حَالِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مُجَرَّدِ الْمُلْكِ ،
وَتَرْكِ الْأَصْلِ الْأَكْبَرِ وَهُوَ النُّبُوَّةُ الَّتِي تَتَرَكَّبُ عَلَى
الْمُلْكِ وَالْعُبُودِيَّةِ .
عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ { جِبْرِيلَ
نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ : إنَّ
اللَّهَ خَيَّرَك بَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا عَبْدًا ،
فَنَظَرَ إلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ لَهُ ، فَأَشَارَ إلَيْهِ جِبْرِيلُ :
أَنْ تَوَاضَعْ ، فَقَالَ : بَلْ نَبِيًّا عَبْدًا أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ
يَوْمًا } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : {
وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ } .
قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَفَصْلَ
الْخِطَابِ } قِيلَ : هُوَ عِلْمُ الْقَضَاءِ ، وَقِيلَ : هُوَ الْإِيجَازُ
بِجَعْلِ الْمَعْنَى الْكَثِيرِ فِي اللَّفْظِ الْقَلِيلِ .
وَقِيلَ : هُوَ قَوْلُهُ : أَمَّا بَعْدُ .
وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا ، فَأَمَّا عِلْمُ
الْقَضَاءِ فَلَعَمْرُ إلَهِك إنَّهُ لَنَوْعٌ مِنْ الْعِلْمِ مُجَرَّدٌ ،
وَفَضْلٌ مِنْهُ مُؤَكَّدٌ غَيْرُ مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ وَالْبَصَرِ
بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، فَفِي الْحَدِيثِ : { أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ ،
وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ } .
وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ بَصِيرًا بِأَحْكَامِ
الْأَفْعَالِ عَارِفًا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، وَلَا يَقُومُ بِفَصْلِ
الْقَضَاءِ فِيهَا ، وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ يَأْتِي الْقَضَاءَ مِنْ وَجْهِهِ
بِاخْتِصَارٍ مِنْ لَفْظِهِ وَإِيجَازٍ فِي طَرِيقِهِ بِحَذْفِ التَّطْوِيلِ ،
وَرَفْعِ التَّشْتِيتِ ، وَإِصَابَةِ الْمَقْصُودِ .
وَلِذَلِكَ يُرْوَى { أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
قَالَ : لَمَّا بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى
الْيَمَنِ حَفَرَ قَوْمٌ زُبْيَةً لِلْأَسَدِ ، فَوَقَعَ فِيهَا الْأَسَدُ ،
وَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَى الزُّبْيَةِ ، فَوَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ ، وَتَعَلَّقَ
بِآخَرَ ، وَتَعَلَّقَ الْآخَرُ بِآخَرَ ، حَتَّى صَارُوا أَرْبَعَةً ،
فَحَرَجَهُمْ الْأَسَدُ فِيهَا ، فَهَلَكُوا ، وَحَمَلَ الْقَوْمُ السِّلَاحَ ،
وَكَادَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ ، فَأَتَيْتهمْ فَقُلْت لَهُمْ :
أَتَقْتُلُونَ مِائَتَيْ رَجُلٍ مِنْ أَجْلِ أَرْبَعَةِ أَنَاسِيَّ ، تَعَالَوْا
أَقْضِ بَيْنَكُمْ بِقَضَاءٍ ، فَإِنْ رَضِيتُمْ فَهُوَ قَضَاءٌ بَيْنَكُمْ ،
وَإِنْ أَبَيْتُمُوهُ رَفَعْت ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ؛ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ ؛ فَجَعَلَ لِلْأَوَّلِ رُبُعَ الدِّيَةِ
، وَلِلثَّانِي ثُلُثَ الدِّيَةِ ، وَلِلثَّالِثِ نِصْفَ الدِّيَةِ ، وَجَعَلَ
لِلرَّابِعِ الدِّيَةَ ، وَجَعَلَ الدِّيَاتِ عَلَى مَنْ حَفَرَ الزُّبْيَةَ عَلَى
قَبَائِلِ الْأَرْبَعِ .
فَسَخَطَ بَعْضُهُمْ ، وَرَضِيَ بَعْضُهُمْ ، ثُمَّ
قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصُّوا
عَلَيْهِ الْقِصَّةَ ، فَقَالَ : أَنَا أَقْضِي
بَيْنَكُمْ .
فَقَالَ قَائِلٌ : إنَّ عَلِيًّا قَدْ قَضَى بَيْنَنَا ،
وَأَخْبَرُوهُ بِمَا قَضَى بِهِ عَلِيٌّ .
فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : الْقَضَاءُ كَمَا قَضَاهُ
عَلِيٌّ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { فَأَمْضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَاءَ عَلِيٍّ } .
وَكَذَلِكَ يُرْوَى فِي الْمَعْرِفَةِ بِالْقَضَاءِ
أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَاءَ إلَيْهِ رَجُلٌ ، فَقَالَ : إنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى
وَكَانَ قَاضِيًا بِالْكُوفَةِ جَلَدَ امْرَأَةً مَجْنُونَةً قَالَتْ لِرَجُلٍ :
يَا بْنَ الزَّانِيَيْنِ .
فَحَدَّهَا حَدَّيْنِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَهِيَ
قَائِمَةٌ .
فَقَالَ : أَخْطَأَ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ .
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْبَدِيهَةِ
لَا يُدْرِكُهُ أَحَدٌ بِالرَّوِيَّةِ إلَّا الْعُلَمَاءُ .
فَأَمَّا قِصَّةُ عَلِيٍّ فَلَا يُدْرِكُهَا الشَّادِي
وَلَا يَلْحَقُهَا بَعْدَ التَّمَرُّنِ فِي الْأَحْكَامِ إلَّا الْعَاكِفُ
الْمُتَمَادِي .
وَتَحْقِيقُهَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ
مَقْتُولُونَ خَطَأً بِالتَّدَافُعِ عَلَى الْحُفْرَةِ مِنْ الْحَاضِرِينَ
عَلَيْهَا فَلَهُمْ الدِّيَاتُ عَلَى مَنْ حَفَرَ عَلَى وَجْهِ الْخَطَأِ ، بَيْدَ
أَنَّ الْأَوَّلَ مَقْتُولٌ بِالْمُدَافَعَةِ قَاتِلٌ ثَلَاثَةً بِالْمُجَاذَبَةِ
، فَلَهُ الدِّيَةُ بِمَا قَتَلَ ، وَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ
لِلثَّلَاثَةِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ
.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلَهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ ،
وَعَلَيْهِ الثُّلُثَانِ لِلِاثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا بِالْمُجَاذَبَةِ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ ،
وَعَلَيْهِ النِّصْفُ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ وَاحِدًا بِالْمُجَاذَبَةِ ، فَوَقَعَتْ
الْمُحَاصَّةُ ، وَغَرِمَتْ الْعَوَاقِلُ هَذَا التَّقْدِيرَ بَعْدَ الْقِصَاصِ
الْجَارِي فِيهِ .
وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الِاسْتِنْبَاطِ .
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ نَظَرَ إلَى
الْمَعَانِي الْمُتَعَلِّقَةِ فَرَآهَا سِتَّةً : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمَجْنُونَ
لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ يُسْقِطُ التَّكْلِيفَ ، هَذَا إذَا
كَانَ الْقَذْفُ فِي حَالَةِ الْجُنُونِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يُجَنُّ مَرَّةً
وَيُفِيقُ أُخْرَى فَإِنَّهُ يُحَدُّ
بِالْقَذْفِ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ .
الثَّانِي :
قَوْلُهَا يَا بْنَ الزَّانِيَيْنِ ؛ فَجَلَدَهَا
حَدَّيْنِ لِكُلِّ أَبٍ حَدٌّ ، فَإِنَّمَا خَطَّأَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِيهِ
بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يَتَدَاخَلُ ، لِأَنَّهُ
عِنْدَهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الْخَمْرِ وَالزِّنَى .
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فَإِنَّهُمَا يَرَيَانِ
الْحَدَّ بِالْقَذْفِ حَقًّا لِلْآدَمِيِّ ، فَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ
الْمَقْذُوفِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الثَّالِثُ :
أَنَّهُ حَدٌّ بِغَيْرِ مُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ ،
وَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ حَدِّ الْقَذْفِ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ إلَّا بَعْدَ
الْمُطَالَبَةِ بِإِقَامَتِهِ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ ، وَمَنْ
يَقُولُ إنَّهُ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ
.
وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ الِاحْتِجَاجُ لِمَنْ يَرَى
أَنَّهُ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ ؛ إذْ يَقُولُ : لَوْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ لَمَا
تَوَقَّفَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ كَحَدِّ الزِّنَا .
الرَّابِعُ أَنَّهُ وَالَى بَيْنَ الْحَدَّيْنِ ، وَمَنْ
وَجَبَ عَلَيْهِ حَدَّانِ لَمْ يُوَالِ بَيْنَهُمَا ، بَلْ يُحَدُّ لِأَحَدِهِمَا
، ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَنْدَمِلَ الضَّرْبُ أَوْ يَسْتَبِلَّ الْمَضْرُوبُ ،
ثُمَّ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ الْآخَرُ .
الْخَامِسُ أَنَّهُ حَدَّهَا قَائِمَةً ، وَلَا تُحَدُّ
الْمَرْأَةُ إلَّا جَالِسَةً مَسْتُورَةً .
قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : فِي زِنْبِيلٍ ، حَسْبَمَا
بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ
.
السَّادِسُ أَنَّهُ أَقَامَ الْحَدَّ فِي الْمَسْجِدِ ،
وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ فِيهِ إجْمَاعًا .
وَفِي الْقِصَاصِ فِي الْمَسْجِدِ وَالتَّعْزِيرِ فِيهِ
خِلَافٌ قَدَّمْنَا بَيَانَهُ فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَفِي كُتُبِ
الْمَسَائِلِ وَالْخِلَافِ ؛ فَهَذَا هُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ وَعِلْمُ الْقَضَاءِ الَّذِي
وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ فِي الْحَدِيثِ
الْمَرْوِيِّ : { أَقَضَاكُمْ عَلِيٌّ } ، حَسْبَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ آنِفًا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْإِيجَازُ فَذَلِكَ لِلْعَرَبِ
دُونَ الْعَجَمِ ، وَلِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ
الْعَرَبِ ، وَقَدْ بَيَّنَ
هَذَا بِقَوْلِهِ : { أُوتِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ } ،
وَكَانَ أَفْصَحَ النَّاسِ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ، حَسْبَمَا
بَيَّنَّاهُ فِي آيَاتِ الْكِتَابِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ وَفِي سُورَةِ النُّورِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ قَوْلُهُ : " أَمَّا
بَعْدُ { فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي
خُطْبَتِهِ : أَمَّا بَعْدُ } .
وَيُرْوَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَهَا فِي
الْجَاهِلِيَّةِ سَحْبَانُ وَائِلٌ ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِالْبَعْثِ ،
وَأَوَّلُ مَنْ اتَّكَأَ عَلَى عَصًا ، وَعَمَّرَ مِائَةً وَثَمَانِينَ سَنَةً .
وَلَوْ صَحَّ أَنَّ دَاوُد قَالَهَا فَإِنَّهُ لَمْ
يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ عَلَى هَذَا النَّظْمِ ، وَإِنَّمَا كَانَ
بِلِسَانِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ
الْحِكْمَةَ الْمَعْرِفَةُ بِالدِّينِ ، وَالْفِقْهُ فِيهِ ، وَالِاتِّبَاعُ لَهُ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّ فَصْلَ الْخِطَابِ
هُوَ الْفَهْمُ وَإِصَابَةُ الْقَضَاءِ
.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ فَإِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي وَصْفِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { إنَّهُ لَقَوْلٌ
فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ } لِمَا فِيهِ مِنْ إيجَازِ اللَّفْظِ ، وَإِصَابَةِ
الْمَعْنَى ، وَنُفُوذِ الْقَضَاءِ
.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَهَلْ
أَتَاك نَبَأُ الْخَصْمِ إذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُد
فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ
فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إلَى سَوَاءِ
الصِّرَاطِ } .
الْآيَةُ فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى الْخَصْمُ كَلِمَةٌ تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ
وُقُوعَ الْمَصَادِرِ عَلَى ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمَا كَانَا اثْنَيْنِ ،
فَيَنْتَظِمُ الْكَلَامُ بِهِمَا ، وَيَصِحُّ الْمُرَادُ فِيهِمَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : {
تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } يَعْنِي جَاءُوا مِنْ أَعْلَاهُ .
وَالسُّورَةُ الْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ كَانَتْ
بُقْعَةً مَحْسُوسَةً أَوْ مَنْزِلَةً مَعْقُولَةً ؛ قَالَ الشَّاعِرُ : أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاك سُورَةً تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ
فَهَذَا هُوَ الْمَنْزِلَةُ .
وَسُورُ الْمَدِينَةِ الْمَوْضِعُ الْعَالِي مِنْهَا ،
وَذَلِكَ كُلُّهُ بِغَيْرِ هَمْزٍ
.
وَالسُّؤْرُ مَهْمُوزٌ : بَقِيَّةُ الطَّعَامِ
وَالشَّرَابِ فِي الْإِنَاءِ .
وَالسُّؤْرُ :
الْوَلِيمَةُ بِالْفَارِسِيَّةِ وَفِي الْحَدِيثِ {
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ
الْأَحْزَابِ : يَأْهَلَ الْخَنْدَقِ ؛ إنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ لَكُمْ
سُؤْرًا فَحَيَّ هَلَّا بِكُمْ
} .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الْمِحْرَابِ ، قَدْ
بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ سَبَأٍ
.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ : { إذْ
دَخَلُوا عَلَى دَاوُد } : قِيلَ : إنَّهُمَا كَانَا إنْسِيَّيْنِ ؛
قَالَهُ النَّقَّاشُ .
وَقِيلَ : مَلَكَيْنِ ؛ قَالَهُ جَمَاعَةٌ .
وَعَيَّنَهُمَا جَمَاعَةٌ ، فَقَالُوا : إنَّهُمَا
كَانَا جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ ، وَرَبُّك أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ ،
بَيْدَ أَنِّي أَقُولُ لَكُمْ قَوْلًا تَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى الْغَرَضِ ؛
وَذَلِكَ أَنَّ مِحْرَابَ دَاوُد كَانَ مِنْ الِامْتِنَاعِ بِالِارْتِفَاعِ
بِحَيْثُ لَا يَرْقَى إلَيْهِ آدَمِيٌّ بِحِيلَةٍ إلَّا أَنْ يُقِيمَ إلَيْهِ
أَيَّامًا أَوْ أَشْهُرًا بِحَسْبِ طَاقَتِهِ ، مَعَ أَعْوَانٍ يَكْثُرُ
عَدَدُهُمْ ، وَآلَاتٍ جَمَّةٍ مُخْتَلِفَةِ الْأَنْوَاعِ .
وَلَوْ قُلْنَا إنَّهُ يُوصَلُ إلَيْهِ مِنْ بَابِ
الْمِحْرَابِ لَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ ذَلِكَ : { تَسَوَّرُوا
الْمِحْرَابَ } ؛ إذْ لَا يُقَالُ تَسَوَّرَ الْمِحْرَابَ وَالْغُرْفَةَ لِمَنْ
طَلَعَ إلَيْهَا مِنْ دَرَجِهَا ، وَجَاءَهَا مِنْ أَسْفَلِهَا ، إلَّا أَنْ
يَكُونَ ذَلِكَ مَجَازًا .
وَإِذَا شَاهَدْت الْكُوَّةَ الَّتِي يُقَالُ إنَّهُ
دَخَلَ مِنْهَا الْخَصْمَانِ عَلِمْت قَطْعًا أَنَّهُمَا مَلَكَانِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ
الْعُلُوِّ بِحَيْثُ لَا يَنَالُهَا إلَّا عُلْوِيٌّ ، وَلَا نُبَالِي مَنْ كَانَا
فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُك بَيَانًا ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ وَرَاءَ
ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ : { فَفَزِعَ مِنْهُمْ } : فَإِنْ قِيلَ
: لِمَ فَزِعَ وَهُوَ نَبِيٌّ وَقَدْ قَوِيَتْ نَفْسُهُ بِالنُّبُوَّةِ ،
وَاطْمَأَنَّتْ بِالْوَحْيِ ، وَوَثِقَتْ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ مِنْ الْمَنْزِلَةِ
، وَأَظْهَرَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ الْآيَاتِ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ
لَهُ الْعِصْمَةَ ، وَلَا أَمِنَ مِنْ الْقَتْلِ وَالْإِذَايَةِ ، وَمِنْهُمَا .
كَانَ يَخَافُ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ : لَا تَخَفْ .
وَقَبْلَهُ قِيلَ ذَلِكَ لِلُوطٍ ؛ فَهُمْ فَزِعُونَ
مِنْ خَوْفٍ مَا لَمْ يَكُنْ قِيلَ لَهُمْ [ فِيهِ ] : إنَّكُمْ مِنْهُ
مَعْصُومُونَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْلُهُ : { خَصْمَانِ
بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ } : أَيْ نَحْنُ خَصْمَانِ .
وَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ لَمْ يَأْمُرْ بِإِخْرَاجِهِمْ
إذْ عَلِمَ مَطْلَبَهُمْ ، وَقَدْ دَخَلُوا عَلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنٍ ، وَهَلَّا
أَدَّبَهُمْ عَلَى تَعَدِّيهِمْ ؟ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّا لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ شَرْعِهِ فِي الْحِجَابِ وَالْإِذْنِ ، فَيَكُونُ
الْجَوَابُ عَلَى حَسْبِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ .
وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ شَرْعِنَا مُهْمَلًا
عَنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ ، حَتَّى أَوْضَحَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْبَيَانِ .
الثَّانِي : إنَّا لَوْ نَزَّلْنَا الْجَوَابَ عَلَى
أَحْكَامِ الْحِجَابِ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْفَزَعُ الطَّارِئُ عَلَيْهِ
أَذْهَلَهُ عَمَّا كَانَ يَجِبُ فِي ذَلِكَ لَهُ .
الثَّالِثُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ كَلَامَهُمَا
الَّذِي دَخَلَا لَهُ حَتَّى يَعْلَمَ آخِرَ الْأَمْرِ مِنْهُ ، وَيَرَى هَلْ
يَحْتَمِلُ التَّقَحُّمُ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنٍ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَقْتَرِنُ
بِذَلِكَ عُذْرٌ لَهُمَا ، أَمْ لَا يَكُونُ لَهُمَا عُذْرٌ عَنْهُ .
وَكَانَ مِنْ آخِرِ الْحَالِ مَا انْكَشَفَ مِنْ أَنَّهُ
بَلَاءٌ وَمِحْنَةٌ وَمَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ فِي الْقِصَّةِ ، وَأَدَبٌ وَقَعَ
عَلَى دَعْوَى الْعِصْمَةِ .
الرَّابِعُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي
الْمَسْجِدِ ، وَلَا إذْنَ فِي الْمَسْجِدِ لِأَحَدٍ ، وَلَا حَجْرَ فِيهِ عَلَى
أَحَدٍ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ
هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ
أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } .
فِيهَا وَفِي الْآيَةِ الَّتِي تَلِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ
مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى كَنَّى بِالنَّعْجَةِ عَنْ الْمَرْأَةِ ،
لِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ السُّكُونِ وَالْمُعْجِزَةِ وَضَعْفِ الْجَانِبِ .
وَقَدْ يُكْنَى عَنْهَا بِالْبَقَرَةِ وَالْحَجَرَ
وَالنَّاقَةَ ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مَرْكُوبٌ .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ
الْجَبَّارِ الْهُذَلِيُّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ
: إنَّهُ يُكَنَّى عَنْ الْمَرْأَةِ بِأَلْفِ مِثْلٍ فِي الْمَقَامِ يُعَبِّرُ
بِهِ الْمَلِكُ عَنْ الْمَعْنَى الَّذِي يُرِيدُهُ ، وَقَدْ قَيَّدْنَاهَا
كُلَّهَا عَنْهُ فِي سِفْرٍ وَاحِدٍ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ { تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً
} إنْ كَانَ جَمِيعُهُنَّ أَحْرَارًا فَذَلِكَ شَرْعُهُ ، وَإِنْ كُنَّ إمَاءً
فَذَلِكَ شَرْعُنَا .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَمْ يَكُنْ
مَحْصُورًا بِعَدَدٍ ، وَإِنَّمَا الْحَصْرُ فِي شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِضَعْفِ الْأَبَدَانِ وَقِلَّةِ الْأَعْمَارِ .
وَهْمٌ وَتَنْبِيهٌ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَالَ
بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ : لَمْ يَكُنْ لِدَاوُدَ مِائَةُ امْرَأَةٍ ، وَإِنَّمَا
ذَكَرَ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ مَثَلًا .
الْمَعْنَى هَذَا غَنِيٌّ عَنْ الزَّوْجَةِ وَأَنَا
مُفْتَقِرٌ إلَيْهَا ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعُدُولَ عَنْ
الظَّاهِرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لَا مَعْنَى لَهُ ، وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى
أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا كَانَ مَقْصُورًا مِنْ النِّسَاءِ عَلَى مَا فِي
شَرْعِنَا .
الثَّانِي
: أَنَّهُ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ
سُلَيْمَانَ قَالَ : لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ
كُلُّ امْرَأَةٍ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
وَنَسِيَ أَنْ يَقُولَ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا نَصٌّ
قَدَّمْنَا تَحْقِيقَهُ قَبْلُ
.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : {
أَكْفِلْنِيهَا } : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : مِنْ كَفْلِهَا أَيْ ضَمِّهَا أَيْ
اجْعَلْهَا تَحْتَ كَفَالَتِي .
الثَّانِي : أَعْطِنِيهَا .
وَيَرْجِعُ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْهُ
مَعْنًى .
الثَّالِثُ : تُحَوَّلُ لِي عَنْهَا ؛ قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ .
وَيَرْجِعُ إلَى الْعَطَاءِ وَالْكَفَالَةِ إلَّا
أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ الْكَفَالَةِ وَأَخَصُّ مِنْ الْعَطَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : {
وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } .
يَعْنِي غَلَبَنِي ، مِنْ قَوْلِهِمْ : مَنْ عَزَّ بَزَّ .
وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ الْغَلَبَةِ ؛ فَقِيلَ مَعْنَاهُ
: غَلَبَنِي بِبَيَانِهِ .
وَقِيلَ : غَلَبَنِي بِسُلْطَانِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا
سَأَلَهُ لَمْ يَسْتَطِعْ خِلَافَهُ
.
كَانَ بِبَلَدِنَا أَمِيرٌ يُقَالُ لَهُ سَيْرُ بْنُ
أَبِي بَكْرٍ ، فَكَلَّمْته فِي أَنْ يَسْأَلَ لِي رَجُلًا حَاجَةً ، فَقَالَ لِي
: أَمَا عَلِمْت أَنَّ طَلَبَ السُّلْطَانِ الْحَاجَةَ غَصْبٌ لَهَا .
فَقُلْت : أَمَّا إذَا كَانَ عَدْلًا فَلَا .
فَعَجِبْت مِنْ عُجْمَتِهِ وَحِفْظِهِ لِمَا تَمَثَّلَ
بِهِ ، وَفِطْنَتِهِ ، كَمَا عَجِبَ مِنْ جَوَابِي لَهُ وَاسْتَغْرَبَهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ فِي الْآيَةِ
الْخَامِسَةِ قَوْله تَعَالَى : { لَقَدْ ظَلَمَك بِسُؤَالِ نَعْجَتِك إلَى
نِعَاجِهِ } .
الظُّلْمُ :
وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ، وَقَدْ
يَكُونُ مُحَرَّمًا وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا شَرْعًا ، وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا
عَادَةً ، فَإِنْ كَانَ غَلَبَهُ عَادَةً عَلَى أَهْلِهِ فَهُوَ ظُلْمٌ مُحَرَّمٌ
، وَإِنْ كَانَ سَأَلَهُ إيَّاهَا فَهُوَ ظُلْمٌ مَكْرُوهٌ شَرْعًا وَعَادَةً ،
وَلَكِنْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ فِي تَقْيِيدِ مَا
ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْهُمْ
بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَأَحْوَالٍ مُتَفَاوِتَةٍ ؛ أَمْثَلُهَا أَنَّ دَاوُد
حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ إذْ اُبْتُلِيَ أَنْ يَعْتَصِمَ ، فَقِيلَ لَهُ .
إنَّك سَتُبْتَلَى وَتَعْلَمُ الَّذِي تُبْتَلَى فِيهِ ،
فَخُذْ حِذْرَك ؛ فَأَخَذَ الزَّبُورَ وَدَخَلَ الْمِحْرَابَ ، وَمَنَعَ مِنْ
الدُّخُولِ عَلَيْهِ ؛ فَبَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ الزَّبُورَ إذْ جَاءَ طَائِرٌ
كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ ، وَجَعَلَ يُدْرِجُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَهَمَّ أَنْ
يَتَنَاوَلَهُ بِيَدِهِ ، فَاسْتُدْرِجَ حَتَّى وَقَعَ فِي كُوَّةِ الْمِحْرَابِ ،
فَدَنَا مِنْهُ لِيَأْخُذَهُ ، فَطَارَ فَاطَّلَعَ لِيُبْصِرَهُ فَأَشْرَفَ عَلَى امْرَأَةٍ
تَغْتَسِلُ ، فَلَمَّا رَأَتْهُ غَطَّتْ جَسَدَهَا بِشَعْرِهَا ، فَوَقَعَتْ فِي
قَلْبِهِ ، وَكَانَ زَوْجُهَا غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَكَتَبَ دَاوُد
إلَى أَمِيرِ الْغَزَاةِ أَنْ يَجْعَلَ زَوْجَهَا فِي حَمْلَةِ التَّابُوتِ ،
إمَّا أَنْ يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، وَإِمَّا أَنْ يُقْتَلُوا .
فَقَدَّمَهُ فِيهِمْ ، فَقُتِلَ .
فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا خَطَبَهَا دَاوُد ،
فَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ إنْ وَلَدَتْ غُلَامًا أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةَ مِنْ
بَعْدِهِ ، وَكَتَبَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا ، وَأَشْهَدَتْ عَلَيْهِ
خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ، فَلَمْ تَسْتَقِرَّ نَفْسُهُ حَتَّى
وَلَدَتْ سُلَيْمَانَ ، وَشَبَّ وَتَسَوَّرَ الْمَلَكَانِ وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهَا
مَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ .
{ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى
بَعْضٍ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فِي التَّنْقِيحِ :
قَدْ قَدَّمْنَا لَكُمْ فِيمَا سَلَفَ ، وَأَوْضَحْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ
الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنْ الْكَبَائِرِ إجْمَاعًا ، وَفِي الصَّغَائِرِ
اخْتِلَافٌ ؛ وَأَنَا أَقُولُ : إنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ الصَّغَائِرِ
وَالْكَبَائِرِ ، لِوُجُوهٍ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ النُّبُوَّاتِ مِنْ أُصُولِ
الدِّينِ ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ : لَا صَغِيرَةَ فِي الذُّنُوبِ وَهُوَ صَحِيحٌ
، كَمَا قَالَتْ طَائِفَةٌ : إنَّ مِنْ الذُّنُوبِ كَبَائِرُ وَصَغَائِرُ ، وَهُوَ
صَحِيحٌ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْكُفْرَ مَعْصِيَةٌ لَيْسَ فَوْقَهَا
مَعْصِيَةٌ ، كَمَا أَنَّ النَّظْرَةَ مَعْصِيَةٌ لَيْسَ دُونَهَا مَعْصِيَةٌ ،
وَبَيْنَهُمَا ذُنُوبٌ إنْ قَرَنْتهَا بِالْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا
وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَالْقَذْفِ وَالْغَصْبِ كَانَتْ صَغَائِرَ ، وَإِنْ
أَضَفْتهَا إلَى مَا يَلِيهَا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ
جِهَةِ النَّظَرِ كَانَتْ كَبَائِرَ وَاَلَّذِي أَوْقَعَ النَّاسَ فِي ذَلِكَ
رِوَايَةُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلُ التَّقْصِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي قَصَصِ
الْأَنْبِيَاءِ مَصَائِبَ لَا قَدْرَ عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ اعْتَقَدَهَا
رِوَايَاتٍ وَمَذَاهِبَ ، وَلَقَدْ كَانَ مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ مَعَ
الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَلَّا تُبَثُّ عَثَرَاتُهُمْ لَوْ
عَثَرُوا ، وَلَا تُبَثُّ فَلَتَاتُهُمْ لَوْ اسْتَفْلَتُوا ؛ فَإِنَّ إسْبَالَ السِّتْرِ
عَلَى الْجَارِ وَالْوَلَدِ وَالْأَخِ وَالْفَضِيلَةُ أَكْرَمُ فَضِيلَةٍ ،
فَكَيْفَ سَتَرْت عَلَى جَارِك حَتَّى لَمْ تَقُصَّ نَبَأَهُ فِي أَخْبَارِك ؛
وَعَكَفْت عَلَى أَنْبِيَائِك وَأَحْبَارِك تَقُولُ عَنْهُمْ مَا لَمْ يَفْعَلُوا
، وَتَنْسُبُ إلَيْهِمْ مَا لَمْ يَتَلَبَّسُوا بِهِ ، وَلَا تُلَوَّثُوا بِهِ ،
نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا التَّعَدِّي وَالْجَهْلِ بِحَقِيقَةِ الدِّينِ فِي
الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَخْبَارَهُمْ .
قُلْنَا :
عَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا لِلْمَوْلَى أَنْ
يَذْكُرَ مَا شَاءَ مِنْ أَخْبَارِ عَبِيدِهِ ، وَيَسْتُرَ وَيَفْضَحَ ،
وَيَعْفُوَ وَيَأْخُذَ ،
وَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُنَبِّزَ فِي مَوْلَاهُ
بِمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ اللَّوْمَ ، فَكَيْفَ بِمَا عَلَيْهِ فِيهِ الْأَدَبُ
وَالْحَدُّ ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ فِي كِتَابِهِ لِعِبَادِهِ فِي
بِرِّ الْوَالِدَيْنِ : { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } فَكَيْفَ بِمَا زَادَ
عَلَيْهِ ؟ فَمَا ظَنُّك بِالْأَنْبِيَاءِ ، وَحَقُّهُمْ أَعْظَمُ ،
وَحُرْمَتُهُمْ آكَدُ ، وَأَنْتُمْ تَغْمِسُونَ أَلْسِنَتَكُمْ فِي أَعْرَاضِهِمْ
، وَلَوْ قَرَّرْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ حُرْمَتَهُمْ لَمَا ذَكَرْتُمْ قِصَّتَهُمْ .
الثَّانِي : أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ
قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا أَتَوْا مِنْ ذَلِكَ عِلْمَهُ بِأَنَّ الْعِبَادَ
سَيَخُوضُونَ فِيهَا بِقَدْرٍ ، وَيَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِحِكْمَةٍ ، وَلَا
يُسْأَلُ عَنْ مَعْنَى ذَلِكَ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ ، فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ
أَمْرَهُمْ كَمَا وَقَعَ ، وَوَصَفَ حَالَهُمْ بِالصِّدْقِ كَمَا جَرَى ، كَمَا
قَالَ تَعَالَى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْك أَحْسَنَ الْقَصَصِ } يَعْنِي أَصْدَقَهُ .
وَقَالَ : { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْك مِنْ أَنْبَاءِ
الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَك
} .
وَقَدْ وَصَّيْنَاكُمْ إذَا كُنْتُمْ لَا بُدَّ آخِذِينَ
فِي شَأْنِهِمْ ذَاكِرِينَ قَصَصَهُمْ أَلَّا تَعْدُوا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ
عَنْهُمْ ، وَتَقُولُوا ذَلِكَ بِصِفَةِ التَّعْظِيمِ لَهُمْ وَالتَّنْزِيهِ عَنْ غَيْرِ
مَا نَسَبَ اللَّهُ إلَيْهِمْ ، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ : قَدْ عَصَى
الْأَنْبِيَاءُ فَكَيْفَ نَحْنُ ، فَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ كَفَرَ .
.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ فِي ذِكْرِ قِصَّةِ
دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْخُصُوصِ بِالْجَائِزِ مِنْهَا دُونَ
الْمُمْتَنَعِ : أَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ دَاوُد حَدَّثَ نَفْسَهُ أَنْ
يَعْتَصِمَ إذَا اُبْتُلِيَ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ
حَدِيثَ النَّفْسِ لَا حَرَجَ فِيهِ فِي شَرْعِنَا آخِرًا ، وَقَدْ كُنَّا قَبْلَ
ذَلِكَ قِيلَ لَنَا إنَّا نُؤَاخَذُ بِهِ ، ثُمَّ رَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنَّا
بِفَضْلِهِ ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُؤَاخَذًا بِهِ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا
، وَهُوَ أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ ، فَلَيْسَ فِي وُقُوعِهِ
مِمَّنْ يَقَعُ مِنْهُ نَقْصٌ ؛ وَإِنَّمَا الَّذِي يُمْكِنُ دَفْعُهُ هُوَ
الْإِصْرَارُ بِالتَّمَادِي عَلَى حَدِيثِ النَّفْسِ وَعَقْدِ الْعَزْمِ عَلَيْهِ .
الثَّانِي أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دَاوُد
عَلَيْهِ السَّلَامُ نَظَرَ مِنْ حَالِهِ وَفِي عِبَادَتِهِ وَخُشُوعِهِ
وَإِنَابَتِهِ وَإِخْبَاتِهِ ، فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُعْطِيهِ عَادَةَ
التَّجَافِي عَنْ أَسْبَابِ الذُّنُوبِ ، فَضْلًا عَنْ التَّوَغُّلِ فِيهَا ،
فَوَثِقَ بِالْعِبَادَةِ ، فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُرِيَهُ أَنَّ ذَلِكَ
حُكْمُهُ فِي الْعِبَادَةِ وَاطِّرَادِهَا .
الثَّالِثُ : أَنَّ هَذَا النَّقْلُ لَمْ يَثْبُتْ ؛
فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ الطَّائِرَ دَرَجَ عِنْدَهُ
فَهَمَّ بِأَخْذِهِ ، فَدَرَجَ فَاتَّبَعَهُ ، فَهَذَا لَا يُنَاقِضُ الْعِبَادَةَ
؛ لِأَنَّ هَذَا مُبَاحٌ فِعْلُهُ لَا سِيَّمَا وَهُوَ حَلَالٌ ، وَطَلَبُ
الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ ، وَإِنَّمَا اتَّبَعَ الطَّائِرَ لِذَاتِهِ لَا لِجَمَالِهِ
فَإِنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهِ ؛ وَإِنَّمَا ذِكْرُهُمْ لِحُسْنِ الطَّائِرِ
حِذْقٌ فِي الْجَهَالَةِ ، أَمَّا إنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ طَائِرًا مِنْ
ذَهَبٍ فَاتَّبَعَهُ لِيَأْخُذَهُ لِأَنَّهُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ،
كَمَا رُوِيَ فِي " الصَّحِيحِ " أَنَّ أَيُّوبَ كَانَ يَغْتَسِلُ
عُرْيَانًا ، فَخَرَّ عَلَيْهِ رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ ، فَجَعَلَ
يَحْثِي مِنْهُ ، وَيَجْعَلُ فِي ثَوْبِهِ ، فَقَالَ لَهُ اللَّهُ : يَا أَيُّوبُ
، أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُك عَمَّا تَرَى ، قَالَ : بَلَى يَا
رَبِّ ، وَلَكِنْ لَا غِنًى لِي عَنْ بَرَكَتِك " .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّهُ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى
امْرَأَةٍ تَغْتَسِلُ عُرْيَانَةً فَلَمَّا رَأَتْهُ أَرْسَلَتْ شَعْرَهَا
فَسَتَرَتْ جَسَدَهَا ، فَهَذَا لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ
؛ لِأَنَّ النَّظْرَةَ الْأُولَى لِكَشْفِ الْمَنْظُورِ إلَيْهِ ، وَلَا يَأْثَمُ النَّاظِرُ
بِهَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : أَنَّهَا لَمَّا أَعْجَبَتْهُ أَمَرَ
بِتَقْدِيمِ زَوْجِهَا لِلْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا
؛ لِأَنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ لِيُرِيقَ دَمَهُ فِي غَرَضِ
نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ الْأَمْرِ أَنَّ دَاوُد قَالَ لِبَعْضِ
أَصْحَابِهِ : انْزِلْ لِي عَنْ أَهْلِك ، وَعَزَمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ، كَمَا
يَطْلُبُ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ الْحَاجَةَ بِرَغْبَةٍ صَادِقَةٍ كَانَتْ فِي
الْأَهْلِ أَوْ الْمَالِ ، وَقَدْ قَالَ سَعِيدٌ بْنُ الرَّبِيعِ لِعَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حِينَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا : وَلِي زَوْجَتَانِ ، أَنْزِلُ لَك عَنْ إحْدَاهُمَا ، فَقَالَ
لَهُ : بَارَكَ اللَّهُ لَك فِي أَهْلِك وَمَالِك .
وَمَا يَجُوزُ فِعْلُهُ ابْتِدَاءً يَجُوزُ طَلَبُهُ ،
وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ ، وَلَا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ
زَوَالِ عِصْمَةِ الرَّجُلِ عَنْهَا ، وَلَا وِلَادَتُهَا لِسُلَيْمَانَ ، فَعَنْ
مَنْ يَرْوِي هَذَا وَيُسْنَدُ ؟ وَعَلَى مَنْ فِي نَقْلِهِ يَعْتَمِدُ ، وَلَيْسَ
يُؤْثِرُهُ عَنْ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ أَحَدٌ ؟ أَمَا إنَّ فِي سُورَةِ
الْأَحْزَابِ نُكْتَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَاوُد قَدْ صَارَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ زَوْجَةً
، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ
اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ } يَعْنِي فِي
أَحَدِ الْأَقْوَالِ [ كَانَ ] تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ الَّتِي نَظَرَ إلَيْهَا ،
" كَمَا زُوِّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ
بِزَيْنَبِ بِنْتِ جَحْشٍ " إلَّا أَنَّ تَزْوِيجَ زَيْنَبَ كَانَ مِنْ
غَيْرِ سُؤَالٍ لِلزَّوْجِ فِي فِرَاقٍ ، بَلْ أَمَرَهُ بِالتَّمَسُّكِ
بِزَوْجِيَّتِهَا ، وَكَانَ
تَزْوِيجُ دَاوُد الْمَرْأَةَ بِسُؤَالِ زَوْجِهَا
فِرَاقَهَا ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْمَنْقَبَةُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى دَاوُد مُضَافَةً إلَى مَنَاقِبِهِ الْعَلِيَّةِ ، وَلَكِنْ قَدْ
قِيلَ : إنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا
مِنْ قَبْلُ } تَزْوِيجُ الْأَنْبِيَاءِ بِغَيْرِ صَدَاقِ مَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا
مِنْ النِّسَاءِ بِغَيْرِ صَدَاقٍ .
وَقِيلَ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { سُنَّةَ
اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ } أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ فُرِضَ لَهُمْ
مَا يَمْتَثِلُونَهُ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ ، وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ .
وَقَدْ رَوَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ دَاوُد نَكَحَ
مِائَةَ امْرَأَةٍ ، وَهَذَا نَصُّ الْقُرْآنِ .
وَرُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَتْ لَهُ ثَلَاثُمِائَةِ
امْرَأَةٍ وَسَبْعُمِائَةِ سَرِيَّةٍ ، وَرَبُّك أَعْلَمُ ، وَبَعْدَ هَذَا قِفُوا
حَيْثُ وَقَفَ بِكُمْ الْبَيَانُ بِالْبُرْهَانِ دُونَ مَا تَتَنَاقَلُهُ
الْأَلْسِنَةُ مِنْ غَيْرِ تَثْقِيفٍ لِلنَّقْلِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى : {
لَقَدْ ظَلَمَك بِسُؤَالِ نَعْجَتِك إلَى نِعَاجِهِ } : فِيهِ الْفَتْوَى فِي
النَّازِلَةِ بَعْدَ السَّمَاعِ مِنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ ، وَقَبْلَ أَنْ
يَسْمَعَ مِنْ الْآخِرِ بِظَاهِرِ الْقَوْلِ ؛ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ عِنْدَ
أَحَدٍ وَلَا فِي مِلَّةٍ مِنْ الْمِلَلِ ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِلْبَشَرِ ؛ وَإِنَّمَا
تَقْدِيرُ الْكَلَامِ أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ ادَّعَى ، وَالْآخَرُ سَلَّمَ
فِي الدَّعْوَى ، فَوَقَعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَتْوَى .
وَقَدْ {
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إذَا جَلَسَ إلَيْك الْخَصْمَانِ فَلَا تَقْضِ لِأَحَدِهِمَا
حَتَّى تَسْمَعَ مِنْ الْآخَرِ
} .
وَقِيلَ : إنَّ دَاوُد لَمْ يَقْضِ لِلْآخَرِ حَتَّى
اعْتَرَفَ صَاحِبُهُ بِذَلِكَ .
وَقِيلَ : تَقْدِيرُهُ لَقَدْ ظَلَمَك إنْ كَانَ
كَذَلِكَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِتَعْيِينِ مَا يُمْكِنُ مِنْ
هَذِهِ الْوُجُوهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَالَ
عُلَمَاؤُنَا : قَوْله تَعَالَى : { إذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّ الْقَضَاءَ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ،
كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، لَمَا قَرَّرَهُمْ دَاوُد عَلَى ذَلِكَ ، وَلَقَالَ : انْصَرِفَا إلَى مَوْضِعِ الْقَضَاءِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : إنَّ الْقَضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ
مِنْ الْأَمْرِ الْقَدِيمِ يَعْنِي فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ ، وَلَا بَأْسَ أَنْ
يَجْلِسَ فِي رَحْبَتِهِ لِيَصِلَ إلَيْهِ الضَّعِيفُ وَالْمُشْرِكُ وَالْحَائِضُ .
وَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ : يَقْضِي فِي مَنْزِلِهِ
وَأَيْنَ أَحَبَّ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ يُقَسِّمُ أَوْقَاتَهُ
وَأَحْوَالَهُ لِيَبْلُغَ كُلُّ أَحَدٍ إلَيْهِ وَيَسْتَرِيحَ هُوَ مِمَّا يَرِدُ
مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى
: { وَظَنَّ دَاوُد أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } : يَعْنِي أَيْقَنَ .
وَالظَّنُّ يَنْطَلِقُ عَلَى الْعِلْمِ وَالظَّنِّ ؛
لِأَنَّهُ جَارُهُ ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي قَوْله تَعَالَى : {
وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إلَّا إلَيْهِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى
: { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ } : اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الذَّنْبِ الَّذِي
اسْتَغْفَرَ مِنْهُ عَلَى أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قِيلَ : إنَّهُ نَظَرَ
إلَى الْمَرْأَةِ حَتَّى شَبِعَ مِنْهَا .
الثَّانِي : أَنَّهُ أَغْزَى زَوْجَهَا فِي حَمْلَةِ
التَّابُوتِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ نَوَى إنْ مَاتَ زَوْجُهَا أَنْ
يَتَزَوَّجَهَا .
الرَّابِعُ أَنَّهُ حَكَمَ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ الْآخَرِ
.
قَالَ الْقَاضِي : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ
مَعْصُومُونَ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ الذُّنُوبِ الْمَحْدُودَةِ
عَلَى وَجْهٍ بَيِّنٍ ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ حَكَمَ لِأَحَدِ
الْخَصْمَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ
، وَكَذَلِكَ تَعْرِيضُ زَوْجِهَا لِلْقَتْلِ كَمَا قَدَّمْنَا تَصْوِيرٌ
لِلْحَقِّ عَلَى رُوحِ الْبَاطِلِ ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ نَظَرَ إلَيْهَا حَتَّى شَبِعَ
فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدِي بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ طُمُوحَ الْبَصَرِ لَا يَلِيقُ
بِالْأَوْلِيَاءِ الْمُتَجَرِّدِينَ لِلْعِبَادَةِ ، فَكَيْفَ بِالْأَنْبِيَاءِ
الَّذِينَ هُمْ الْوَسَائِطُ الْمُكَاشَفُونَ بِالْغَيْبِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ
فِي مَوْضِعِهِ .
وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ
تِلْكَ الْحَمَامَةَ أَتَتْ فَوَقَفَتْ قَرِيبًا مِنْ دَاوُد ، وَهِيَ مِنْ ذَهَبٍ
، فَلَمَّا رَآهَا أَعْجَبَتْهُ ، فَقَامَ لِيَأْخُذَهَا ، فَفَرَّتْ مِنْ يَدِهِ
، ثُمَّ صَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ ، ثُمَّ طَارَتْ فَأَتْبَعَهَا بَصَرَهُ
، فَوَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَى تِلْكَ الْمَرْأَةِ وَهِيَ تَغْتَسِلُ ، وَلَهَا
شَعْرٌ طَوِيلٌ ، فَبَلَغَنِي أَنَّهُ أَقَامَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً سَاجِدًا حَتَّى
نَبَتَ الْعُشْبُ مِنْ دُمُوعِ عَيْنَيْهِ ، فَأَمَّا النَّظْرَةُ الثَّانِيَةُ
فَلَا أَصْلَ لَهَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ : لَا
يَبْلُغُنِي عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ يَقُولُ : إنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ
ارْتَكَبَ مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ مُحَرَّمًا إلَّا جَلَدْته مِائَةً وَسِتِّينَ
سَوْطًا ، فَإِنَّهُ يُضَاعَفُ لَهُ الْحَدُّ
حُرْمَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ؛ وَهَذَا مِمَّا لَا يَصِحُّ عَنْهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا حُكْمُهُ عِنْدَكُمْ ؟ قُلْنَا :
أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّ نَبِيًّا زَنَى فَإِنَّهُ يُقْتَلُ .
وَأَمَّا مَنْ نَسَبَ إلَيْهِ دُونَ ذَلِكَ مِنْ
النَّظْرَةِ وَالْمُلَامَسَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ نَقْلُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ ،
فَإِنْ صَمَّمَ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ فِيهِ وَنَسَبَهُ إلَيْهِ فَإِنَّهُ يُنَاقِضُ
التَّعْزِيرَ الْمَأْمُورَ بِهِ
.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّهُ نَوَى إنْ مَاتَ زَوْجُهَا
أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَلَا شَيْءَ فِيهِ ؛ إذَا لَمْ يُعَرِّضْهُ لِلْمَوْتِ ،
وَبَعْدَ هَذَا فَإِنَّ الذَّنْبَ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ سُؤَالُهُ
زَوْجَةً وَعَدَمُ الْقَنَاعَةِ بِمَا كَانَ مِنْ عَدَدِ النِّسَاءِ عِنْدَهُ ؛
وَالشَّهْوَةُ لَا آخِرَ لَهَا ، وَالْأَمَلُ لَا غَايَةَ لَهُ ؛ فَإِنَّ مَتَاعَ
الدُّنْيَا لَا يَكْفِي الْإِنْسَانَ وَحْدَهُ فِي ظَنِّهِ ، وَيَكْفِيهِ
الْأَقَلُّ مِنْهُ ؛ وَاَلَّذِي عَتَبَ اللَّهُ فِيهِ عَلَى دَاوُد تَعَلُّقُ
بَالُهُ إلَى زَوْجِ غَيْرِهِ ، وَمَدُّ عَيْنِهِ إلَى مَتَاعِ سِوَاهُ حَسْبَمَا
نَصَّ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ
أُورِيَا فَمَالَ إلَيْهَا ، وَلَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ عَارِفًا ، وَهَذَا بَاطِلٌ
يَرُدُّهُ الْقُرْآنُ وَالْآثَارُ التَّفْسِيرِيَّةُ كُلُّهَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى
: { وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ } : لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ
أَنَّ الرُّكُوعَ هَاهُنَا السُّجُودُ ؛ لِأَنَّهُ أَخُوهُ ؛ إذْ كُلُّ رُكُوعٍ
سُجُودٌ ، وَكُلُّ سُجُودٍ رُكُوعٌ ؛ فَإِنَّ السُّجُودَ هُوَ الْمِيلُ ،
وَالرُّكُوعُ هُوَ الِانْحِنَاءُ ، وَأَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْآخَرِ ،
وَلَكِنَّهُ قَدْ يَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهَيْئَةٍ ، ثُمَّ جَاءَ
عَلَى تَسْمِيَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ، فَسُمِّيَ السُّجُودُ رُكُوعًا .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هِيَ مِنْ عَزَائِمِ
السُّجُودِ أَمْ لَا ؟ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ .
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ : { ص وَالْقُرْآنِ
ذِي الذِّكْرِ } فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ ، وَسَجَدَ
النَّاسُ مَعَهُ ؛ فَلَمَّا كَانَ يَوْمٌ آخَرُ قَرَأَهَا فَهَيَّأَ النَّاسُ
لِلسُّجُودِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهَا
تَوْبَةُ نَبِيٍّ ، وَلَكِنَّنِي رَأَيْتُكُمْ تَيَسَّرْتُمْ لِلسُّجُودِ ،
وَنَزَلَ فَسَجَدَ } .
وَهَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد .
وَفِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
" أَنَّهُ قَالَ : { ص لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ الْقُرْآنِ .
وَقَدْ رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِيهَا } .
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ
أَنَّهُ قَالَ : إنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ ، لَا يُسْجَدُ فِيهَا .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : إنَّهَا تَوْبَةُ
نَبِيٍّ ؛ وَنَبِيُّكُمْ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مَوْضِعَ سُجُودٍ
، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِيهَا
فَسَجَدْنَا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ
.
وَمَعْنَى السُّجُودِ أَنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ
سَجَدَ خَاضِعًا لِرَبِّهِ ، مُعْتَرِفًا بِذَنْبِهِ ، تَائِبًا مِنْ خَطِيئَتِهِ
؛ فَإِذَا سَجَدَ أَحَدٌ فِيهَا فَلْيَسْجُدْ بِهَذِهِ النِّيَّةِ ؛ فَلَعَلَّ
اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ بِحُرْمَةِ دَاوُد الَّذِي اتَّبَعَهُ ، وَسَوَاءٌ
قُلْنَا إنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا أَمْ لَا
فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ
لِكُلِّ أَحَدٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَاللَّفْظُ
لِلْغَيْرِ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ يَسْتَتِرُ بِشَجَرَةٍ
، وَهُوَ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ ؛ فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ سَجَدَ وَسَجَدَتْ الشَّجَرَةُ
مَعَهُ ، فَسَمِعَهَا وَهِيَ تَقُولُ : اللَّهُمَّ أَعْظِمْ لِي بِهَذِهِ
السَّجْدَةِ أَجْرًا وَارْزُقْنِي بِهَا شُكْرًا } .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَا
دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاك خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ
بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّك عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ
الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا
يَوْمَ الْحِسَابِ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى هَذَا
كَلَامٌ مُرْتَبِطٌ بِمَا قَبْلَهُ وَصَّى اللَّهُ فِيهِ دَاوُد ؛ فَيَدُلُّ
ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِي عُوتِبَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا ،
وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَدْلٍ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمْ يَطْلُبْ امْرَأَةَ زَيْدٍ ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ فِي أَمْرِهَا
بَعْدَ فِرَاقِ زَوْجِهَا وَإِتْمَامِ عِدَّتِهَا .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ ،
وَيَبْعُدُ مِنْ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ ؛ فَلِهَذَا ذُكِّرَ وَعَلَيْهِ عُوتِبَ
وَبِهِ وُعِظَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : {
خَلِيفَةً } : قَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَةَ وَمَعْنَاهَا لُغَةً ، وَهُوَ قِيَامُ
الشَّيْءِ مَقَامَ الشَّيْءِ ؛ وَالْحُكْمُ لِلَّهِ ، وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ
لِلْخَلْقِ عَلَى الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { إنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ
فِيهَا فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } وَعَلَى الْخُصُوصِ فِي قَوْله تَعَالَى :
{ إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } وقَوْله تَعَالَى : { يَا دَاوُد إنَّا
جَعَلْنَاك خَلِيفَة فِي الْأَرْضِ } وَالْخُلَفَاءُ عَلَى أَقْسَامٍ :
أَوَّلُهُمْ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ ، وَآخِرُهُمْ الْعَبْدُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ
، " قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كُلُّكُمْ رَاعٍ
وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ
وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ }
.
بَيْدَ أَنَّ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ لَا يُمْكِنُهُ
تُوَلِّي كُلِّ الْأُمُورِ بِنَفْسِهِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِنَابَةِ ،
وَهِيَ عَلَى أَقْسَامٍ كَثِيرَةٍ
: أَوَّلُهَا الِاسْتِخْلَافُ عَلَى الْبِلَادِ ، وَهُوَ
عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَدِّمَهُ عَلَى الْعُمُومِ ، أَوْ
يُقَدِّمَهُ عَلَى الْخُصُوصِ ؛ فَإِنْ قَدَّمَهُ وَعَيَّنَهُ فِي مَنْشُورِهِ
وَقَفَ نَظَرُهُ حَيْثُ خُصَّ بِهِ ، وَإِنْ قَدَّمَهُ عَلَى الْعُمُومِ فَكُلُّ مَا
فِي الْمِصْرِ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ ؛ وَذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ :
الْأَوَّلُ الْقَضَاءُ بَيْنَ النَّاسِ ، فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَ ، وَلَهُ أَنْ
يُقَدِّمَ مَنْ يَقْضِي ، فَإِذَا قَدَّمَ لِلْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ
وَالْحُكْمِ بَيْنِ الْخَلْقِ كَانَ لَهُ النَّظَرُ فِيمَا فِيهِ التَّنَازُعُ
بَيْنَ الْخَلْقِ ، وَذَلِكَ حَيْثُ تَزْدَحِمُ أَهْوَاؤُهُمْ ، وَهِيَ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : النَّفْسِ ، وَالْعِرْضِ ، وَالْمَالِ ، يَفْصِلُ فِيمَا
تَنَازَعَهُمْ ، وَيَذُبُّ عَنْهُمْ مَنْ يُؤْذِيهِمْ ، وَيَحْفَظُ مِنْ
الضَّيَاعِ أَمْوَالَهُمْ بِالْجِبَايَةِ إنْ كَانَتْ مُفَرَّقَةً ،
وَبِتَفْرِيقِهَا عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا إذَا اجْتَمَعَتْ ، وَيَكُفُّ
الظَّالِمَ عَنْ الْمَظْلُومِ .
وَيَدْخُلُ فِيهِ قَوَدُ الْجُيُوشِ ، وَتَدْبِيرُ
الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ هُوَ
الثَّالِثُ .
وَقَدْ رَامَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَحْصُرَ
وِلَايَاتِ الشَّرْعِ فَجَمَعَهَا فِي عِشْرِينَ وِلَايَةً ، وَهِيَ :
الْخِلَافَةُ الْعَامَّةُ ، وَالْوَزَارَةُ ، وَالْإِمَارَةُ فِي الْجِهَادِ ،
وَوِلَايَةُ حُدُودِ الْمَصَالِحِ ، وَوِلَايَةُ الْقَضَاءِ ، وَوِلَايَةُ
الْمَظَالِمِ ، وَوِلَايَةُ النِّقَابَةِ عَلَى أَهْلِ الشَّرَفِ ، وَالصَّلَاةُ ،
وَالْحَجُّ ، وَالصَّدَقَاتُ ، وَقَسَمُ الْفَيْءِ ، وَالْغَنِيمَةِ ، وَفَرْضُ
الْجِزْيَةِ ، وَالْخَرَاجِ ، وَالْمَوَاتُ وَأَحْكَامُهُ ، وَالْحِمَى ،
وَالْإِقْطَاعُ ، وَالدِّيوَانُ ، وَالْحِسْبَةُ .
فَأَمَّا وِلَايَةُ الْخِلَافَةِ فَهِيَ صَحِيحَةٌ ،
وَأَمَّا الْوَزَارَةُ فَهِيَ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ
رَجُلٍ مَوْثُوقٍ بِهِ فِي دِينِهِ وَعَقْلِهِ يُشَاوِرُهُ الْخَلِيفَةُ فِيمَا
يَعِنُّ لَهُ مِنْ الْأُمُورِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى : {
وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي }
فَلَوْ سَكَتَ هَاهُنَا كَانَتْ وَزَارَةَ مَشُورَةٍ ، وَلَكِنَّهُ تَأَدَّبَ مَعَ
أَخِيهِ لِسِنِّهِ وَفَضْلِهِ وَحِلْمِهِ وَصَبْرِهِ فَقَالَ : { وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي }
فَسَأَلَ وَزَارَةَ مُشَارَكَةٍ فِي أَصْلِ النُّبُوَّةِ .
وَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْحَدِيثِ الْحَسَنِ : { وَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ
، وَوَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ } .
وَأَمَّا الْوِلَايَةُ عَلَى الْجِهَادِ فَقَدْ { أَمَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجُيُوشِ وَالسَّرَايَا كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي كُلِّ غَزْوَةٍ لَمْ يَشْهَدْهَا ، وَقَسَّمُوا الْغَنِيمَةَ فِيهَا } ، فَدَخَلَتْ إحْدَى الْوِلَايَتَيْنِ فِي الْأُخْرَى ، وَلِلْوَالِي أَنْ يُفْرِدَهُمَا .
وَأَمَّا حُدُودُ الْمَصَالِحِ فَهِيَ ثَلَاثَةٌ :
الرِّدَّةُ ، وَقَطْعُ السَّبِيلِ ، وَالْبَغْيُ ؛ فَأَمَّا الرِّدَّةُ
وَالْقَطْعُ لِلسَّبِيلِ فَكَانَا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { فَإِنَّ
نَفَرًا مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ ، فَجَعَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْإِبِلِ حَتَّى صَحُّوا ، فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ ، وَاسْتَاقُوا
الذَّوْدَ مُرْتَدِّينَ ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي آثَارِهِمْ ، فَجِيءَ بِهِمْ فَقَتَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ
وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ كَمَا فَعَلُوا } ، وَقَدْ
بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَشَرْحُ الْحَدِيثِ .
وَاسْتَوْفَى اللَّهُ بَيَانَ حَرْبِ الرِّدَّةِ بِأَبِي
بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَلَى يَدَيْهِ ، وَذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ
وَالْفِقْهِ .
وَأَمَّا قِتَالُ أَهْلِ الْبَغْيِ فَقَدْ نَصَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ يَقُولُ : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ } ؛ ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْحَدِيثِ وَالْمَسَائِلِ .
وَأَمَّا وِلَايَةُ الْقَضَاءِ { فَقَدَّمَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا فِي حَيَاتِهِ عَلِيَّ بْنَ
أَبِي طَالِبٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ .
وَقَالَ : لَا تَقْضِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ حَتَّى
تَسْمَعَ مِنْ الْآخَرِ } .
وَشُرُوطُهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْفِقْهِ .
{ وَقَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ غَيْرَهُ مِنْ وُلَاتِهِ
} .
وَأَمَّا وِلَايَةُ الْمَظَالِمِ فَهِيَ وِلَايَةٌ غَرِيبَةٌ أَحْدَثَهَا مَنْ تَأَخَّرَ مِنْ الْوُلَاةِ ، لِفَسَادِ الْوِلَايَةِ وَفَسَادِ النَّاسِ ؛ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ حُكْمٍ يَعْجَزُ عَنْهُ الْقَاضِي فَيَنْظُرُ فِيهِ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ يَدًا ؛ وَذَلِكَ أَنَّ التَّنَازُعَ إذَا كَانَ بَيْنَ ضَعِيفَيْنِ قَوَّى أَحَدَهُمَا الْقَاضِي ، وَإِذَا كَانَ بَيْنَ قَوِيٍّ وَضَعِيفٍ أَوْ قَوِيَّيْنِ وَالْقُوَّةُ فِي أَحَدِهِمَا بِالْوِلَايَةِ كَظُلْمِ الْأُمَرَاءِ وَالْعُمَّالِ فَهَذَا مِمَّا نُصِّبَ لَهُ الْخُلَفَاءُ أَنْفُسُهُمْ ، وَأَوَّلُ مَنْ جَلَسَ إلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فَرَدَّهُ إلَى قَاضِيهِ ابْنِ إدْرِيسَ ، ثُمَّ جَلَسَ لَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَرَدَّ مَظَالِمَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى الْمَظْلُومِينَ ؛ إذْ كَانَتْ فِي أَيْدِي الْوُلَاةِ وَالْعُتَاةِ الَّذِينَ تَعْجَزُ عَنْهُمْ الْقُضَاةُ ، ثُمَّ صَارَتْ سُنَّةً ، فَصَارَ بَنُو الْعَبَّاسِ يَجْلِسُونَ لَهَا ، وَفِي قِصَّةٍ دَارِسَةٍ عَلَى أَنَّهَا فِي أَصْلِ وَضْعِهَا دَاخِلَةٌ فِي الْقَضَاءِ ، وَلَكِنَّ الْوُلَاةَ أَضْعَفُوا الْخُطَّةَ الْقَضَوِيَّةِ لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ ضَعْفِ الرَّعِيَّةِ ، لِيَحْتَاجَ النَّاسُ إلَيْهِمْ ، فَيَقْعُدُوا عَنْهُمْ ، فَتَبْقَى الْمَظَالِمُ بِحَالِهَا .
وَأَمَّا وِلَايَةُ النِّقَابَةِ فَهِيَ مُحْدَثَةٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَثُرَتْ الدَّعَاوَى فِي الْأَنْسَابِ الْهَاشِمِيَّةِ ، لِاسْتِيلَائِهَا عَلَى الدَّوْلَةِ ، نَصَّبَ الْوُلَاةُ قَوْمًا يَحْفَظُونَ الْأَنْسَابَ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِيهَا مَنْ لَيْسَ مِنْهَا ، ثُمَّ زَادَتْ الْحَالُ فَسَادًا ، فَجَعَلُوا إلَيْهِمْ مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ، فَرَدُّوهُمْ لِقَاضٍ مِنْهُمْ لِئَلَّا تَمْتَهِنَهُمْ الْقُضَاةُ مِنْ سَائِرِ الْقَبَائِلِ ، وَهُمْ أَشْرَفُ مِنْهُمْ ، وَهِيَ بِدْعِيَّةٌ تُنَافِي الشَّرْعِيَّةَ .
وَأَمَّا وِلَايَةُ الصَّلَاةِ فَهِيَ أَصْلٌ فِي نَفْسِهَا
وَفَرْعٌ لِلْإِمَارَةِ ؛ { فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ إذَا بَعَثَ أَمِيرًا كَانَتْ الصَّلَاةُ إلَيْهِ } ،
وَلَمَّا فَسَدَ الْأَمْرُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ تُرْضَى حَالُهُ
لِلْإِمَامَةِ بَقِيَتْ الْوِلَايَةُ فِي يَدِهِ بِحُكْمِ الْغَلَبَةِ ، وَقَدَّمَ
لِلصَّلَاةِ مَنْ يَرْضَى ؛ سِيَاسَةً مِنْهُمْ لِلنَّاسِ ، وَإِبْقَاءً عَلَى
أَنْفُسِهِمْ ؛ فَقَدْ كَانَ بَنُو أُمَيَّةَ ، حِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ
بِأَنْفُسِهِمْ ، يَتَحَرَّجُ أَهْلُ الْفَضْلِ مِنْ الصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ ،
وَيَخْرُجُونَ عَلَى الْأَبْوَابِ ؛ فَيَأْخُذُونَهُمْ بِسِيَاطِ الْحَرَسِ ،
فَيَضْرِبُونَ لَهَا حَتَّى يَفِرُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ الْمَسْجِدِ .
وَهَذَا لَا يَلْزَمُ ، بَلْ يُصَلِّي مَعَهُمْ ، وَفِي
إعَادَةِ الصَّلَاةِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بَيَانُهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ .
وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحَجِّ فَهِيَ مَخْصُوصَةٌ
بِبِلَادِ الْحَجِّ .
{ وَأَوَّلُ أَمِيرٍ بَعَثَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبُو
بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ، بَعَثَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةَ تِسْعٍ
قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، وَأَرْسَلَهُ بِسُورَةِ بَرَاءَةٍ ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ
عَلِيًّا } ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي السُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ .
وَأَمَّا وِلَايَةُ الصَّدَقَةِ { فَقَدْ اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّدَقَاتِ كَثِيرًا } .
أَمَّا وَضْعُ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ فَقَدْ صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُكَيْدِرَ دَوْمَةَ وَأَهْلَ الْبَحْرَيْنِ ، فَأَمَرَ عَلَيْهِمْ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ بَعْدَ تَقْرِيرِهِ " وَلَوْ لَمْ يَتَّفِقْ التَّقْرِيرُ لِخَلِيفَةٍ لَجَازَ أَنْ يَبْعَثَ مَنْ يُقَرِّرُهُ ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ حِينَ بَعَثَ إلَى الْعِرَاقِ عُمَّالَهُ ، وَأَمَرَهُمْ بِمِسَاحَةِ الْأَرْضِ ، وَوَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا .
وَأَمَّا مَا تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ فَلَيْسَ بِوِلَايَةٍ فَيَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ الْوِلَايَاتِ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ النَّظَرُ فِي مَكَّةَ وَحَرَمِهَا وَدُورِهَا ، وَفِي الْمَدِينَةِ وَحَرَمِهَا ، وَفِيمَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فِيهَا ، وَأَحْوَالِ الْبِلَادِ فِيمَا فُتِحَ مِنْهَا عَنْوَةً وَصُلْحًا وَهَذِهِ الشَّرِيعَةُ فِيمَا اخْتَلَفَتْ الْأَسْبَابُ فِي تَمَلُّكِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ ، وَلَيْسَ بِوِلَايَةٍ مَخْصُوصَةٍ حَتَّى يُذْكَرَ فِي جُمْلَةِ الْوِلَايَاتِ ؛ وَكَذَلِكَ إحْيَاءُ الْمَوَاتِ حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَلَيْسَ مِنْ الْوِلَايَاتِ ، وَبَيَانُهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ .
وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحِمَى وَالْإِقْطَاعِ فَهِيَ
مَشْهُورَةٌ .
وَأَوَّلُ مَنْ وَلَّى فِيهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ
مَوْلَاهُ أَبَا أُسَامَةَ عَلَى حِمَى الرَّبَذَةِ ، وَوَلَّى عُمَرُ عَلَى حِمَى
السَّرِفِ مَوْلَاهُ يَرْفَأُ ، وَقَالَ : اُضْمُمْ جَنَاحَك عَنْ النَّاسِ ، وَاتَّقِ
دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ، فَإِنَّهَا مُجَابَةٌ ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ
وَرَبَّ الْغُنَيْمَةِ ، وَإِيَّايَ وَغَنَمَ ابْنُ عَوْفٍ وَابْنُ عَفَّانَ
فَإِنَّهُمَا إنْ تَهْلِكُ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَانِ إلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ ،
وَإِنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَالْغُنَيْمَةِ يَأْتِينِي بِعِيَالِهِ فَيَقُولُ :
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا
؟ لَا أَبَا لَك ، فَالْمَاءُ وَالْكَلَأُ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ الدِّينَارِ
وَالدِّرْهَمِ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ
عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْت عَلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ شِبْرًا .
وَأَمَّا الْإِقْطَاعُ فَهُوَ بَابٌ مِنْ الْأَحْكَامِ ،
{ فَقَدْ أَقْطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلَالِ بْنِ
الْحَارِثِ الْمَزْنِيِّ مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةِ مِنْ نَاحِيَةِ الْفَرْعِ } ، وَبَيَانُهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ .
وَأَمَّا وِلَايَةُ الدِّيوَانِ فَهِيَ الْكِتَابَةُ ، وَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتَّابٌ وَلِلْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ ، وَهِيَ ضَبْطُ الْجُيُوشِ بِمَعْرِفَةِ أَرْزَاقِهِمْ وَالْأَمْوَالُ لِتَحْصِيلِ فَوَائِدِهَا لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا .
وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحُدُودِ فَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ : تَنَاوُلُ إيجَابِهَا ، وَذَلِكَ لِلْقُضَاةِ ؛ وَتَنَاوُلُ اسْتِيفَائِهَا ، { وَقَدْ جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْمٍ مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ } ، وَهِيَ أَشْرَفُ الْوِلَايَاتِ ؛ لِأَنَّهَا عَلَى أَشْرَفِ الْأَشْيَاءِ ، وَهِيَ الْأَبْدَانُ ؛ فَلِنَقِيصَةِ النَّاسِ وَدَحْضِهِمْ بِالذُّنُوبِ أَلْزَمَهُمْ اللَّهُ بِالذِّلَّةِ بِأَنْ جَعَلَهَا فِي أَيْدِي الْأَدْنِيَاءِ وَالْأَوْضَاعِ بَيْنَ الْخَلْقِ .
وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحِسْبَةِ فَهِيَ مُحْدَثَةٌ ؛ وَأَصْلُهَا أَكْبَرُ الْوِلَايَاتِ ، وَهِيَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَلِكَثْرَةِ ذَلِكَ رَأَى الْأُمَرَاءُ أَنْ يَجْعَلُوهَا إلَى رَجُلٍ يَتَفَقَّدُهَا فِي الْأَحْيَانِ مِنْ السَّاعَاتِ ؛ وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى التَّوْفِيقَ لِلْجَمِيعِ ، وَيُرْشِدُ إلَى سَوَاءِ الطَّرِيقِ ، وَيَمُنُّ بِتَوْبَةٍ تُعِيدُ الْأَمْرَ إلَى أَهْلِهِ ، وَتُوسِعُنَا مَا نُؤَمِّلُهُ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَمْ
نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي
الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ
نُزُولِهَا : قِيلَ : نَزَلَتْ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ مِنْهُمْ :
عَلِيٌّ ، وَحَمْزَةُ ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ
الْحَارِثِ ، وَالطُّفَيْلُ بْنُ الْحَارِثِ ابْنَيْ الْمُطَّلِبِ ، وَزَيْدُ بْنُ
حَارِثَةَ ، وَأُمُّ أَيْمَنَ وَغَيْرُهُمْ ، وَيَقُولُ : أَمْ نَجْعَلُ هَؤُلَاءِ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ
بِالْمَعَاصِي مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ ؛ كَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ
رَبِيعَةَ ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَحَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ،
وَالْعَاصِي بْنُ أُمَيَّةَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَمْ
نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } يَعْنِي الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ
مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فِي الْآخِرَةِ كَالْفُجَّارِ يَعْنِي
مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ هَذِهِ أَقْوَالُ
الْمُفَسِّرِينَ ، وَلَا شَكَّ فِي صِحَّتِهَا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ نَفَى
الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ وَبَيْنَ الْمُتَّقِينَ
وَالْفُجَّارِ ، رُءُوسًا بِرُءُوسٍ وَأَذْنَابًا بِأَذْنَابٍ ، وَلَا مُسَاوَاةَ
بَيْنَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ، كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ ؛ لِأَنَّ
الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ فِي الْجَنَّةِ وَالْمُفْسِدِينَ الْفُجَّارَ فِي
النَّارِ ؛ وَلَا مُسَاوَاةَ أَيْضًا بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا ؛ لِأَنَّ
الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ مَعْصُومُونَ دَمًا وَعِرْضًا ، وَالْمُفْسِدِينَ
فِي الْأَرْضِ وَالْفُجَّارَ فِي النَّارِ مُبَاحُو الدَّمِ وَالْعِرْضِ
وَالْمَالِ ، فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ الْمُفْسِدِينَ بِذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ
دُونَ الدُّنْيَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَوَقَعَتْ فِي الْفِقْهِ
نَوَازِلُ مِنْهَا قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ ، وَمِنْهَا إذَا بَنَى رَجُلٌ
فِي أَرْضِ رَجُلٍ بِإِذْنِهِ ، ثُمَّ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ
الْأَرْضِ إخْرَاجَهُ عَنْ الْبُنْيَانِ ، وَهَلْ يُعْطِيهِ قِيمَتَهُ قَائِمًا
أَوْ مَنْقُوضًا ؟ وَمِنْهَا إذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِي الشِّقْصِ الَّذِي
اشْتَرَى فَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَخْذَهُ بِالشُّفْعَةِ فَإِنَّهُ يَزِنُ الثَّمَنَ
، وَهَلْ يُعْطِيهِ قِيمَةَ بِنَائِهِ قَائِمًا أَوْ مَنْقُوضًا ؟ اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إذَا بَنَى فِي الْأَرْضِ
رَجُلٌ بِإِذْنِهِ ثُمَّ وَجَبَ لَهُ إخْرَاجُهُ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ قِيمَةَ بِنَائِهِ
قَائِمًا ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُعْطِي الشَّفِيعُ لِلْمُشْتَرِي
قِيمَةَ بِنَائِهِ فِي الشِّقْصِ مَنْقُوضًا مُسَاوِيًا لَهُ بِالْغَاصِبِ .
وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَسَائِرُ عُلَمَائِنَا
وَالشَّافِعِيَّةُ إلَّا الْقَلِيلَ
.
يُعْطِيهِ قِيمَةَ بِنَائِهِ قَائِمًا ، لِأَنَّهُ
بَنَاهُ بِحَقٍّ وَتَقْوَى وَصَلَاحٍ ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ ؛ وَلِذَلِكَ لَا
يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ إذَا قَتَلَ الذِّمِّيَّ ، وَإِنْ كَانَ يُقْتَلُ بِمُسْلِمٍ
مِثْلِهِ ، وَتَعَلَّقُوا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ
الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ }
.
وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ ،
وَهُوَ قَوْلٌ عَامٌّ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمْ فِي كُلِّ حَالٍ
وَزَمَانٍ ، أَمَّا أَنَّهُ يَبْقَى النَّظَرُ فِي أَعْيَانِ هَذِهِ الْفُرُوعِ فَتَفْصِيلٌ
قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ ، لَا نُطِيلُ بِذِكْرِهِ هَاهُنَا
فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { إذْ
عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
قَوْلُهُ : بِالْعَشِيِّ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَأَنَّهُ مِنْ زَوَالِ
الشَّمْسِ إلَى الْغُرُوبِ ، كَمَا أَنَّ الْغَدَاةَ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى
الزَّوَالِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { الصَّافِنَاتُ
الْجِيَادُ } يَعْنِي الَّتِي وَقَفَتْ مِنْ الدَّوَابِّ عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ
، وَذَلِكَ لِعِتْقِهَا ، فَإِذَا ثَنَى الْفَرَسُ إحْدَى رِجْلَيْهِ فَذَلِكَ
عَلَامَةٌ عَلَى كَرَمِهِ ، كَمَا أَنَّهُ إذَا شَرِبَ وَلَمْ يَثْنِ سُنْبُكُهُ
دَلَّ أَيْضًا عَلَى كَرَمِهِ ، وَمِنْ الْغَرِيبِ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ : { مَنْ سَرَّهُ
أَنْ يَقُومَ لَهُ الرِّجَالُ صُفُونًا يَعْنِي يُدِيمُونَ لَهُ الْقِيَامَ
فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } .
وَهَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ .
وَمِنْ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ : { مَنْ سَرَّهُ أَنْ
تَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ ، وَقَدْ
يُقَالُ صَفَنَ لِمُجَرَّدِ الْوُقُوفِ ، وَالْمَصْدَرُ صُفُونًا قَالَ الشَّاعِرُ
: أَلِفَ الصُّفُونَ فَمَا يُزَالُ كَأَنَّهُ مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلَاثِ
كَسِيرًا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْجِيَادُ هِيَ الْخَيْلُ ، وَكُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ
بِرَدِيءٍ يُقَالُ لَهُ جَيِّدٌ ، وَدَابَّةٌ جَيِّدَةٌ وَجِيَادٌ مِثْلُ سَوْطٍ
وَسِيَاطٍ ؛ عُرِضَتْ الْخَيْلُ عَلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
فَشَغَلَتْهُ عَنْ صَلَاةِ الْعَشِيِّ بِظَاهِرِ الْقَوْلَيْنِ ؛ قَالَ
الْمُفَسِّرُونَ : هِيَ الْعَصْرُ
.
وَقَدْ رَوَى الْمُفَسِّرُونَ حَدِيثًا أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { صَلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ
الْعَصْرِ ، وَهِيَ الَّتِي فَاتَتْ سُلَيْمَانَ } ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ .
وَقِيلَ
: كَانَتْ أَلْفَ فَرَسٍ وَرِثَهَا مِنْ دَاوُد عَلَيْهِ
السَّلَامُ كَانَ أَصَابَهَا مِنْ الْعَمَالِقَةِ ، وَكَانَ لَهُ مَيْدَانٌ
مُسْتَدِيرٌ يُسَابِقُ بَيْنَهَا فِيهِ ، فَنَظَرَ فِيهَا حَتَّى غَابَتْ
الشَّمْسُ خَلْفَ الْحِجَابِ ، وَهُوَ مَا كَانَ يَحْجُبُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهَا لَا غَيْرُ مِمَّا يَدَّعِيهِ
الْمُفَسِّرُونَ ، وَقِيلَ أَرَادَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ حَتَّى
تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ، وَغَابَتْ عَنْ عَيْنَيْهِ فِي الْمُسَابَقَةِ ؛ لِأَنَّ
الشَّمْسَ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ بَلْ قَدْ تَقَدَّمَ
عَلَيْهَا دَلِيلٌ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : ( بِالْعَشِيِّ ) ، كَمَا تَقُولُ : سِرْت
بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى غَابَتْ يَعْنِي الشَّمْسَ ، وَتَرَكَهَا لِدَلَالَةِ
السَّامِعِ لَهَا عَلَيْهَا بِمَا ذَكَرَ مِمَّا يَرْتَبِطُ بِهَا ، وَتَعَلَّقَ بِذِكْرِهَا
؛ وَالْغَدَاةُ وَالْعَشِيُّ أَمْرٌ مُرْتَبِطٌ بِمَسِيرِ الشَّمْسِ ، فَذِكْرُهُ
ذِكْرٌ لَهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّ ذَلِكَ لَبِيدٌ بِقَوْلِهِ : حَتَّى إذَا أَلْقَتْ
يَدًا فِي كَافِرٍ وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ فَلَمَّا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ قَالَ : { إنِّي أَحْبَبْت حُبَّ
الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي }
يَعْنِي الْخَيْلَ ، وَسَمَّاهَا خَيْرًا لِأَنَّهَا
مِنْ جُمْلَةِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ بِتَسْمِيَةِ الشَّارِعِ لَهُ
بِذَلِكَ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَلِذَلِكَ قَرَأَهَا
ابْنُ مَسْعُودٍ : { إنِّي أَحْبَبْت حُبَّ الْخَيْلِ } بِالتَّصْرِيحِ بِالتَّفْسِيرِ ؛
قَالَ : { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا } بِسُوقِهَا وَأَعْنَاقِهَا ،
فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا مَسْحُهَا بِيَدِهِ إكْرَامًا لَهَا ، كَمَا وَرَدَ
فِي الْحَدِيثِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُئِيَ
وَهُوَ يَمْسَحُ عَنْ فَرَسِهِ عَرَقَهُ بِرِدَائِهِ ، وَقَالَ : إنِّي عُوتِبْت اللَّيْلَةَ
فِي الْخَيْلِ } .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَسَحَ أَعْنَاقَهَا وَسُوقَهَا
بِالسُّيُوفِ عَرْقَبَةً ، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ ، وَكَانَ
فِعْلُهُ هَذَا بِهَا حِينَ كَانَ سَبَبًا لِاشْتِغَالِهِ بِهَا عَنْ الصَّلَاةِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ قَتَلَهَا ، وَهِيَ خَيْلُ
الْجِهَادِ ؟ قُلْنَا : رَأَى أَنْ يَذْبَحَهَا لِلْأَكْلِ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ : {
أَكَلْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَرَسًا } .
فَكَانَ ذَلِكَ لِئَلَّا تُشْغِلَهُ مَرَّةً أُخْرَى .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ
أَنَّهُ قَالَ : مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ أَمْثَالَهُ ؛
أَلَا تَرَى إلَى سُلَيْمَانَ كَيْفَ أَتْلَفَ الْخَيْلَ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ
فَعَوَّضَهُ اللَّهُ مِنْهَا الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ
، غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ .
وَمِنْ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ وَهِمَ فَقَالَ : وَسَمَهَا
بِالْكَيِّ ، وَسَبَّلَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلَيْسَتْ السُّوقُ مَحَلًّا
لِلْوَسْمِ بِحَالٍ .
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : {
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إنَّك
أَنْتَ الْوَهَّابُ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
كَيْفَ سَأَلَ سُلَيْمَانُ الْمُلْكَ ، وَهُوَ مِنْ نَاحِيَةِ الدُّنْيَا ؟ قَالَ
عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا سَأَلَهُ لِيُقِيمَ فِيهِ الْحَقَّ ، وَيَسْتَعِينَ
بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ ، كَمَا قَالَ يُوسُفُ : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ
الْأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
} .
كَمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : كَيْفَ مَنَعَ مِنْ أَنْ
يَنَالَهُ غَيْرُهُ ؟ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِيهِ أَجْوِبَةٌ سَبْعَةٌ :
الْأَوَّلُ إنَّمَا سَأَلَ أَنْ يَكُونَ مُعْجِزَةً لَهُ فِي قَوْمِهِ وَآيَةً فِي
الدَّلَالَةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ
.
الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَاهُ لَا تَسْلُبْهُ عَنِّي .
الثَّالِثُ : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أَنْ
يَسْأَلَ الْمُلْكَ ، بَلْ يَكِلُ أَمْرَهُ إلَى اللَّهِ .
الرَّابِعُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي مِنْ
الْمُلُوكِ ، وَلَمْ يُرِدْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ .
الْخَامِسُ أَنَّهُ أَرَادَ الْقَنَاعَةَ .
السَّادِسُ أَنَّهُ أَرَادَ مُلْكَهُ لِنَفْسِهِ .
السَّابِعُ عَلِمَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَلَمْ
يَسْأَلْهُ إيَّاهُ لِيَفْضُلَ بِهِ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي التَّنْقِيحِ
لِمَنَاطِ الْأَقْوَالِ : أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ
مُعْجِزَةً فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَخْصِيصٌ بِفَائِدَةٍ ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ
الْمُعْجِزَةِ أَنْ تَكُونَ هَكَذَا
.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : مَعْنَاهُ لَا تَسْلُبْهُ عَنِّي
، فَإِنَّمَا أَرَادَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَدَّعِيَهُ
بَاطِلًا ؛ إذْ كَانَ الشَّيْطَانُ قَدْ أَخَذَ خَاتَمَهُ وَجَلَسَ مَجْلِسَهُ ،
وَحَكَمَ فِي الْخَلْقِ عَلَى لِسَانِهِ ، حَسْبَمَا رُوِيَ فِي كُتُبِ
الْمُفَسِّرِينَ .
وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ قَطْعًا ؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ
لَا يَتَصَوَّرُ بِصُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَلَا يَحْكُمُونَ فِي الْخَلْقِ
بِصُورَةِ الْحَقِّ ، مَكْشُوفًا إلَى النَّاسِ : بِمَرْأًى مِنْهُمْ ؛ حَتَّى يَظُنَّ
النَّاسُ أَنَّهُمْ مَعَ نَبِيِّهِمْ فِي حَقٍّ ، وَهُمْ مَعَ
الشَّيْطَانِ فِي بَاطِلٍ ؛ وَلَوْ شَاءَ رَبُّك
لَوَهَبَ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالدِّينِ لِمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلُ مَا
يَزَعُهُ عَنْ ذِكْرِهِ ، وَيَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يُخَلِّدَهُ فِي دِيوَانٍ مِنْ
بَعْدَهُ ، حَتَّى يُضِلَّ بِهِ غَيْرَهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَاهُ لَا يَنْبَغِي
لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَسْأَلَ الْمُلْكَ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ
يَصِحُّ لَوْ جَاءَ بِقَوْلِهِ : { لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي } فِي
سَعَةِ الِاسْتِئْنَافِ لِلْقَوْلِ وَالِابْتِدَاءِ بِالْكَلَامِ .
أَمَّا وَقَدْ جَاءَ مَجِيءَ الْجُمْلَةِ الْحَالَّةِ
مَحَلَّ الصِّفَةِ لِمَا سَبَقَ قَبْلَهَا مِنْ الْقَوْلِ فَلَا يَجُوزُ
تَفْسِيرُهُ بِهَذَا لِتَنَاقُضِ الْمَعْنَى فِيهِ وَخُرُوجِ ذَلِكَ عَنْ
الْقَانُونِ الْعَرَبِيِّ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَاهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ
مِنْ بَعْدِي مِنْ الْمُلُوكِ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ فَهَذَا قَوْلٌ قَلِيلٌ
الْفَائِدَةِ جِدًّا ؛ إذْ قَدْ عَلِمَ قَطْعًا وَيَقِينًا هُوَ وَالْخَلْقُ
كُلُّهُمْ مَعَهُ أَنَّ الْمُلُوكَ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إلَى ذَلِكَ ، لَا
بِالسُّؤَالِ ، وَلَا مَعَ ابْتِدَاءِ الْعَطَاءِ ، وَهُوَ مَعَ مَا بَعْدَهُ
أَمْثَلُ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ عَلِمَ أَنَّ عِيسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى دَرَجَةٍ مِنْ الزُّهْدِ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدٌ لَا
مَلِكٌ ، فَأَرَادَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلِمَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ
بَعْدَهُ لَا يُؤْتَى ذَلِكَ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ فَضْلِهِ لَا يَسْأَلُهُ ،
لِأَنَّهُ نَبِيٌّ عَبْدٌ ، وَلَيْسَ بِنَبِيٍّ مَلِكٍ ، فَحِينَئِذٍ أَقْدَمَ
عَلَى السُّؤَالِ ، وَهُوَ قَوْلٌ مُتَمَاثِلٌ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ
تَعَالَى أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَأَنَّهُ يُعْطِيهِ بِسُؤَالِهِ ، كَمَا
غَفَرَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرْطِ اسْتِغْفَارِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ عِفْرِيتًا تَفَلَّتَ عَلَيَّ
الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي ، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ ،
وَأَرَدْت أَنْ أَرْبِطَهُ إلَى جَنْبِ سَارِيَةٍ مِنْ
سِوَارِي الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ ذَكَرْت قَوْلَ أَخِي
سُلَيْمَانَ : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ
مِنْ بَعْدِي } .
فَأَرْسَلْته ، فَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَصْبَحَ يَلْعَبُ
بِهِ وِلْدَانُ الْمَدِينَةِ }
.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُرَاعَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدُعَائِهِ ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ
فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَعْدَ مَمَاتِهِ ، وَذَلِكَ بِإِذْنٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى
مَشْرُوعٌ ؛ إذْ لَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُهُ .
الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَخُذْ بِيَدِك
ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ
الْعَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ
حَلِفِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : اتَّخَذَ إبْلِيسُ
تَابُوتًا ، فَوَقَفَ عَلَى الطَّرِيقِ يُدَاوِي النَّاسَ ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةَ أَيُّوبَ
، فَقَالَتْ : يَا عَبْدَ اللَّهِ ؛ إنَّ هَاهُنَا إنْسَانًا مُبْتَلًى فِي
أَمْرِهِ كَذَا وَكَذَا ، فَهَلْ لَك أَنْ تُدَاوِيَهُ ؟ قَالَ لَهَا : نَعَمْ ،
عَلَى أَنِّي إنْ شَفَيْته يَقُولُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ : أَنْتَ شَفَيْتنِي ، لَا
أُرِيدُ مِنْهُ غَيْرَهَا .
فَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ أَيُّوبَ ، فَقَالَ : وَيْحُك ،
ذَلِكَ الشَّيْطَانُ ، لِلَّهِ عَلَيَّ إنْ شَفَانِي اللَّهُ لَأَجْلِدَنَّك
مِائَةَ جَلْدَةٍ .
فَلَمَّا شَفَاهُ اللَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ
ضِغْثًا فَيَضْرِبَهَا بِهِ ، فَأَخَذَ شَمَارِيخَ قَدْرَ مِائَةٍ ، فَضَرَبَهَا
ضَرْبَةً وَاحِدَةً .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ
قَوْلِهِ : إنَّمَا كَانَ حِينَ بَاعَتْ ذَوَائِبَهَا فِي طَعَامِهِ ، وَقَدْ
كَانَتْ عَدِمَتْ الطَّعَامَ ، وَكَرِهَتْ أَنْ تَتْرُكَهُ جَائِعًا ، فَبَاعَتْ
ذَوَائِبَهَا وَجَاءَتْهُ بِطَعَامٍ طَيِّبٍ مِرَارًا ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ
عَلَيْهَا ، فَعَرَّفَتْهُ بِهِ ، فَقَالَ مَا قَالَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي عُمُومِ هَذِهِ
الْقِصَّةِ وَخُصُوصِهَا : رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا لِلنَّاسِ عَامَّةً .
وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهَا بِالنَّكَرَةِ خَاصَّةً
، وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : مَنْ
حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ مِائَةً ، فَجَمَعَهَا فَضَرَبَهُ بِهَا ضَرْبَةً
وَاحِدَةً لَمْ يَبَرَّ .
قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : يُرِيدُ مَالِكٌ قَوْله
تَعَالَى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } .
قَالَ الْقَاضِي : شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا ،
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ، وَإِنَّمَا انْفَرَدَ مَالِكٌ فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ قِصَّةِ أَيُّوبَ هَذِهِ لَا عَنْ شَرِيعَتِهِ
لِتَأْوِيلٍ بَدِيعٍ ، وَهُوَ أَنَّ مَجْرَى الْإِيمَانِ عِنْدَ مَالِكٍ فِي
سَبِيلِ النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ أَوْلَى لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } .
وَالنِّيَّةُ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ ، وَعِمَادُ
الْأَعْمَالِ ، وَعِيَارُ التَّكْلِيفِ ؛ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ كَبِيرَةٍ
بَيْنَنَا وَبَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ قَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي كُتُبِ
الْخِلَافِ .
وَقِصَّةُ أَيُّوبَ هَذِهِ لَمْ يَصِحَّ كَيْفِيَّةُ
يَمِينِ أَيُّوبَ فِيهَا فَإِنَّهُ رَوَى أَنَّهُ قَالَ : إنْ شَفَانِي اللَّهُ
جَلَدْتُك .
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأَجْلِدَنَّك
وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ عَنْ كُتُبِ التِّرْمِذِيِّ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا
حُكْمٌ ، فَلَا فَائِدَةَ فِي النَّصْبِ فِيهَا وَلَا فِي إشْكَالِهَا بِسَبِيلِ
التَّأْوِيلِ ، وَلَا طُلِبَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا بِجَمْعِ
الدَّلِيلِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ
} يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا لِأَنَّهُ
لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهِ كَفَّارَةٌ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْبِرُّ أَوْ الْحِنْثُ .
وَالثَّانِي :
أَنْ يَكُونَ مَا صَدَرَ مِنْهُ نَذْرًا لَا يَمِينًا ،
وَإِذَا كَانَ النَّذْرُ مُعَيَّنًا فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ عِنْدَ مَالِكٍ
وَأَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي كُلِّ نَذْرٍ كَفَّارَةٌ ،
وَهَلْ مَخْرَجُهَا عَلَى التَّفْصِيلِ أَوْ
الْإِجْمَالِ ؟
الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشَرَةَ قَوْله تَعَالَى : {
مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إذْ يَخْتَصِمُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَذَلِكَ أَنَّ { قُرَيْشًا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ؟ قَالَ : سَأَلَنِي رَبِّي
عَزَّ وَجَلَّ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ؟ قُلْت : فِي الْكَفَّارَاتِ
وَالدَّرَجَاتِ .
قَالَ : وَمَا الْكَفَّارَاتُ ؟ قُلْت : الْمَشْيُ عَلَى
الْأَقْدَامِ إلَى الْجَمَاعَاتِ ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي السَّبَرَاتِ ،
وَالتَّعْقِيبُ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ
قَالَ : وَمَا الدَّرَجَاتُ ؟ قُلْت : إفْشَاءُ السَّلَامِ ، وَإِطْعَامُ
الطَّعَامِ ، وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ وَقِيلَ :
خُصُومَتُهُمْ قَوْلُهُمْ : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِك وَنُقَدِّسُ لَك قَالَ إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ
} } هَذَا حَدِيثُ الْحَسَنِ ؛ وَهُوَ حَسَنٌ .
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { رَأَيْت رَبِّي فِي
أَحْسَنِ صُورَةٍ فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ ، فَوَجَدْت بَرْدَهَا بَيْنَ
ثَدْيَيَّ ، فَعَلِمْت مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ
الْآيَةَ : { وَكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } .
فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، فَقُلْت : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ
، قَالَ : فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ؟ قُلْت : أَيْ رَبِّ فِي الْكَفَّارَاتِ .
قَالَ : وَمَا الْكَفَّارَاتُ ؟ قُلْت : الْمَشْيُ عَلَى
الْأَقْدَامِ إلَى الْجَمَاعَاتِ ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكْرُوهَاتِ
، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ إلَى الصَّلَاةِ ، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ عَاشَ
بِخَيْرٍ وَمَاتَ بِخَيْرٍ ، وَكَانَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ صَحِيحًا عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ يَخَامِرَ
السَّكْسَكِيِّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، قَالَ : {
احْتَبَسَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى كِدْنَا
نَتَرَاءَى عَيْنَ الشَّمْسِ ، فَخَرَجَ سَرِيعًا فَثَوَّبَ بِالصَّلَاةِ ،
فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَجَوَّزَ فِي
صَلَاتِهِ ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ لَنَا : عَلَى مَصَافِّكُمْ كَمَا أَنْتُمْ ،
ثُمَّ انْتَقَلَ إلَيْنَا ثُمَّ قَالَ :
أَمَا إنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ مَا حَبَسَنِي عَنْكُمْ
الْغَدَاةَ : إنِّي قُمْت فِي اللَّيْلِ فَتَوَضَّأْت وَصَلَّيْت مَا قُدِّرَ لِي
، فَنَعَسْت فِي صَلَاتِي حَتَّى اسْتَثْقَلْت ، فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي تَبَارَكَ
وَتَعَالَى فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ .
قُلْت : لَبَّيْكَ .
قَالَ : فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ؟ قُلْت
: مَا أَدْرِي ثَلَاثًا .
قَالَ :
فَرَأَيْته وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ ، فَوَجَدْت
بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ ، فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ ، وَعَرَفْت .
ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ .
قُلْت : لَبَّيْكَ ، قَالَ : فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ
الْأَعْلَى ؟ قُلْت : فِي الْكَفَّارَاتِ .
قَالَ :
مَا هُنَّ ؟ قُلْت مَشْيُ الْأَقْدَامِ إلَى
الْحَسَنَاتِ ، وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ
عِنْدَ الْكَرِيهَاتِ .
قَالَ : وَمَا الْحَسَنَاتُ ؟ قُلْت : إطْعَامُ
الطَّعَامِ ، وَلِينُ الْكَلَامِ ، وَالصَّلَاةُ وَالنَّاسُ نِيَامٌ .
قَالَ : سَلْ
.
قُلْت : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك فِعْلَ الْخَيْرَاتِ
، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ .
وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي ، وَإِذَا أَرَدْت
فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ ، أَسْأَلُك حُبَّك وَحُبَّ
مَنْ يُحِبُّك ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إلَى حُبِّك .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : إنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا ثُمَّ تَعَلَّمُوهَا } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : لَا خِلَافَ أَنَّ
الْمَشْيَ فِيمَا قَرُبَ مِنْ الطَّاعَاتِ أَفْضَلُ مِنْ الرُّكُوبِ ، فَأَمَّا
كُلُّ مَا يُبْعِدُ فَيَكُونُ الْمَرْءُ بِكَلَالَهِ أَقَلَّ اجْتِهَادًا فِي
الطَّاعَةِ فَالرُّكُوبُ أَفْضَلُ فِيهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّاكِبَ فِي الْجِهَادِ
أَفْضَلُ مِنْ الرَّاجِلِ لِأَجْلِ غَنَائِهِ ؛ وَهَذَا فَرْعُ هَذَا الْأَصْلِ ،
إذْ الْعَمَلُ مَا كَانَ أَخْلَصَ وَأَبَرَّ كَانَ الْوُصُولُ إلَيْهِ
بِالرَّاحَةِ أَفْضَلَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : لَمْ يَخْتَلِفْ الْمَلَأُ الْأَعْلَى
فِي الْأَصْلِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْفَضِيلَةِ
وَكَمِّيَّتِهَا فَيَجْتَهِدُونَ وَيَقُولُونَ : إنَّهُ أَفْضَلُ ، كَمَا لَمْ
يَخْتَلِفُوا وَلَا أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ قَوْمٌ يَسْفِكُونَ
الدِّمَاءَ ، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ؛ وَإِنَّمَا طَلَبُوا وَجْهَ
الْحِكْمَةِ فَغُيِّبَتْ عَنْهُمْ حِكْمَتُهُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشَرَةَ قَوْله تَعَالَى : {
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : بِنَاءُ (
ك ل ف ) فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِلْإِلْزَامِ وَالِالْتِزَامِ ، وَقَدْ غَلِطَ
عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا : إنَّهُ فِعْلُ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ ، وَكُلُّ إلْزَامٍ
مَشَقَّةٌ ، فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْمَشَقَّةِ ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ
مَشَقَّةٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْمَعْنَى مَا
أُلْزِمُ نَفْسِي مَا لَا يَلْزَمُنِي ، وَلَا أُلْزِمُكُمْ مَا لَا يَلْزَمُكُمْ
، وَمَا جِئْتُكُمْ بِاخْتِيَارِي دُونَ أَنْ أُرْسِلْت إلَيْكُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ
الْمُبَارَكِ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ ، أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
الطَّبَرِيُّ ، أَخْبَرَنَا الدَّارَقُطْنِيُّ ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنُ صَالِحٍ الْكُوفِيُّ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنُ
هَارُونَ الْبَلَدِيُّ ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَرَّانِيُّ ، أَخْبَرَنَا
أَيُّوبُ بْنُ خَالِدٍ الْحَرَّانِيُّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلْوَانَ عَنْ
نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ ، فَسَارَ لَيْلًا ، فَمَرَّ عَلَى
رَجُلٍ جَالِسٍ عِنْدَ مَقْرَاةٍ لَهُ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : يَا صَاحِبَ
الْمَقْرَاةِ ، وَلَغَتْ السِّبَاعُ اللَّيْلَةَ فِي مَقْرَاتِكَ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
يَا صَاحِبَ الْمَقْرَاةِ ، لَا تُخْبِرْهُ ، هَذَا مُتَكَلِّفٌ لَهَا مَا
حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا ، وَلَنَا مَا بَقِيَ شَرَابٌ وَطَهُورٌ } .
وَهَذَا بَيَانُ سُؤَالٍ عَنْ وُرُودِ الْحَوْضِ السِّبَاعُ
، فَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا غَالِبًا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يُعَوَّلُ
عَلَى حَالِ الْمَاءِ فِي لَوْنِهِ وَطَعْمِهِ وَرِيحِهِ ، فَلَا يَنْبَغِي
لِأَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ مَا يَكْسِبُهُ فِي دِينِهِ شَكًّا أَوْ إشْكَالًا فِي
عَمَلِهِ ، وَلِهَذَا قُلْنَا لَكُمْ
: إذَا جَاءَ السَّائِلُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَوَجَدْتُمْ
لَهُ مَخْلَصًا فِيهَا فَلَا تَسْأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ ، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا لَهُ
مَخْلَصًا فَحِينَئِذٍ فَاسْأَلُوهُ عَنْ تَصَرُّفِ أَحْوَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَنِيَّتِهِ
، عَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُ مَخْلَصٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُورَةُ الزُّمَرِ فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } ، وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ فِي كُلِّ عَمَلٍ ؛ وَأَعْظَمُهُ الْوُضُوءُ الَّذِي هُوَ شَطْرُ الْإِيمَانِ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ، وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ اللَّذَيْنِ يَقُولَانِ : إنَّ الْوُضُوءَ يَكْفِي مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ ، وَمَا كَانَ لِيَكُونَ مِنْ الْإِيمَانِ شَطْرُهُ ، وَلَا لِيُخْرِجَ الْخَطَايَا مِنْ بَيْنِ الْأَظَافِرِ وَالشَّعْرِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ يَا
عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ
الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ
أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، فِي قَوْلِهِ :
{ إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } قَالَ : هُوَ
الصَّبْرُ عَلَى فَجَائِعِ الدُّنْيَا وَأَحْزَانِهَا ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ
الصَّبْرَ مِنْ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ .
قَالَ الْقَاضِي : الصَّبْرُ مَقَامٌ عَظِيمٌ مِنْ
مَقَامَاتِ الدِّينِ ، وَهُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَمَّا تَكْرَهُهُ مِنْ تَسْرِيحِ
الْخَوَاطِرِ ، وَإِرْسَالِ اللِّسَانِ ، وَانْبِسَاطِ الْجَوَارِحِ عَلَى مَا
يُخَالِفُ حَالَ الصَّبْرِ ، وَمَنْ الَّذِي يَسْتَطِيعُهُ ، فَمَا رُوِيَ أَنَّ
أَحَدًا انْتَهَى إلَى مَنْزِلَةِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى صَبَرَ
عَلَى عَظِيمِ الْبَلَاءِ عَنْ سُؤَالٍ كَشَفَهُ بِالدُّعَاءِ ، وَإِنَّمَا عَرَضَ
حِينَ خَشِيَ عَلَى دِينِهِ لِضَعْفِ قَلْبِهِ عَنْ الْإِيمَانِ ، فَقَالَ : مَسَّنِي
الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَعَلُوهُ فِي
الْآثَارِ نِصْفَ الْإِيمَانِ ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ عَلَى قِسْمَيْنِ : مَأْمُورٌ
وَمَزْجُورٌ ، فَالْمَأْمُورُ يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالْفِعْلِ ، وَالْمَزْجُورُ
امْتِثَالُهُ بِالْكَفِّ وَالدَّعَةِ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ إلَيْهِ ، وَهُوَ
الصَّبْرُ ، فَأَعْلَمَنَا رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّ ثَوَابَ
الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مُقَدَّرٌ مِنْ حَسَنَةٍ إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ،
وَخَبَّأَ قَدْرَ الصَّبْرِ مِنْهَا تَحْتَ عِلْمِهِ ، فَقَالَ : { إنَّمَا
يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
وَلَمَّا كَانَ الصَّوْمُ نَوْعًا مِنْ الصَّبْرِ حِينَ
كَانَ كَفًّا عَنْ الشَّهَوَاتِ قَالَ تَعَالَى : { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ
إلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي ، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ } .
قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ : كُلُّ أَجْرٍ يُوزَنُ وَزْنًا
، وَيُكَالُ كَيْلًا إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ يُحْثَى
حَثْيًا ، وَيُغْرَفُ غَرْفًا ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ : هُوَ الصَّبْرُ عَلَى فَجَائِعِ الدُّنْيَا وَأَحْزَانِهَا ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ سَلَّمَ فِيمَا أَصَابَهُ ، وَتَرَكَ مَا نَهَى عَنْهُ فَلَا مِقْدَارَ لِأَجْرِهِ ، وَأَشَارَ بِالصَّوْمِ إلَى أَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَمِيعَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : {
وَاَلَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إلَى اللَّهِ
لَهُمْ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ
نُزُولِهَا : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : نَزَلَتْ مَعَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي
ثَلَاثَةِ نَفَرٍ : زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ ، وَأَبِي ذَرٍّ ،
وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ كَانُوا مِمَّنْ لَمْ يَأْتِهِمْ كِتَابٌ وَلَا بُعِثَ
إلَيْهِمْ نَبِيٌّ ، وَلَكِنْ وَقَرَ فِي نُفُوسِهِمْ كَرَاهِيَةُ مَا النَّاسُ
عَلَيْهِ بِمَا سَمِعُوا مِنْ أَحْسَنِ مَا كَانَ فِي أَقْوَالِ النَّاسِ ، فَلَا
جَرَمَ قَادَهُمْ ذَلِكَ إلَى الْجَنَّةِ .
أَمَّا زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فَمَاتَ عَلَى
التَّوْحِيدِ فِي أَيَّامِ الْفَتْرَةِ فَلَهُ مَا نَوَى مِنْ الْجَنَّةِ ،
وَأَمَّا أَبُو ذَرٍّ وَسَلْمَانُ فَتَدَارَكَتْهُمْ الْعِنَايَةُ ، وَنَالُوا
الْهِدَايَةَ ، وَأَسْلَمُوا ، وَصَارُوا فِي جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ جَمَاعَةٌ :
الطَّاغُوتُ الشَّيْطَانُ ، وَقِيلَ : الْأَصْنَامُ .
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ : هُوَ كُلُّ مَا
عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، وَهُوَ فَلَعُوتٌ مَنْ طَغَى ؛ إذَا تَجَاوَزَ
الْحَدَّ ، وَدَخَلَ فِي قِسْمِ الْمَذْمُومِ فَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : كَانَتْ
الْعَرَبُ قَدْ اتَّخَذَتْ فِي الْكَعْبَةِ طَوَاغِيتَ ، وَهِيَ سِتُّونَ ،
كَانَتْ تُعَظِّمُهَا بِتَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ ، وَتُهْدَى إلَيْهَا كَمَا تُهْدَى
إلَى الْكَعْبَةِ ، وَكَانَ لَهَا سَدَنَةٌ وَحُجَّابٌ ، وَكَانَتْ تَطُوفُ بِهَا
، وَتَعْرِفُ فَضْلَ الْكَعْبَةِ عَلَيْهَا .
وَقِيلَ : كَانَ الشَّيْطَانُ يَتَصَوَّرُ فِي صُورَةِ
إنْسَانٍ فَيَتَحَاكَمُونَ إلَيْهِ وَهِيَ صُورَةُ إبْرَاهِيمَ وَفِي الْحَدِيثِ :
{ إنَّهُ يَأْتِي شَيْطَانٌ فِي صُورَةِ رَجُلٍ فَيَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْذِبُ عَلَى النَّبِيِّ مُتَعَمِّدًا
لِيُضِلَّ النَّاسَ } ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْذَرَ مِنْ الْأَحَادِيثِ
الْبَاطِلَةِ الْمُضِلَّةِ ، وَيَنْبَغِي أَلَّا يَقْصِدَ مَسْجِدًا ، وَلَا
يُعَظِّمَ بُقْعَةً إلَّا الْبِقَاعَ الثَّلَاثَ الَّتِي قَالَ فِيهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : مَسْجِدِي هَذَا ،
وَمَكَّةَ ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } .
وَقَدْ سَوَّلَ الشَّيْطَانُ لِأَهْلِ زَمَانِنَا أَنْ
يَقْصِدُوا الرُّبُطَ ، وَيَمْشُوا إلَى الْمَسَاجِدِ تَعْظِيمًا لَهَا ، وَهِيَ
بِدْعَةٌ مَا جَاءَ النَّبِيُّ بِهَا إلَّا مَسْجِدَ قُبَاءَ ، فَإِنَّهُ كَانَ
يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا ، لَا لِأَجْلِ الْمَسْجِدِيَّةِ ،
فَإِنَّ حُرْمَتَهَا فِي مَسْجِدِهِ كَانَتْ أَكْثَرَ ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ
عَلَى طَرِيقِ الِافْتِقَادِ لِأَهْلِهِ ، وَالتَّطْيِيبِ لِقُلُوبِهِمْ ،
وَالْإِحْسَانِ بِالْأُلْفَةِ إلَيْهِمْ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إلَيْك وَإِلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِك لَئِنْ أَشْرَكْت لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك وَلَتَكُونَنَّ
مِنْ الْخَاسِرِينَ } .
تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بَيَانُ حَالِ
الْإِحْبَاطِ بِالرِّدَّةِ ، وَسَنَزِيدُهُ هَاهُنَا بَيَانًا ، فَنَقُولُ : هَذَا
وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ
قِيلَ : إنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أُمَّتُهُ ، وَكَيْفَمَا تَرَدَّدَ الْأَمْرُ فَإِنَّهُ
بَيَانُ أَنَّ الْكُفْرَ يُحْبِطُ الْعَمَلَ كَيْفَ كَانَ ، وَلَا يَعْنِي بِهِ
الْكُفْرَ الْأَصْلِيَّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَمَلٌ يُحْبَطُ ،
وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ أَنَّ الْكُفْرَ يُحْبِطُ الْعَمَلَ الَّذِي كَانَ مَعَ
الْإِيمَانِ ؛ إذْ لَا عَمَلَ إلَّا بَعْدَ أَصْلِ الْإِيمَانِ ، فَالْإِيمَانُ
مَعْنًى يَكُونُ بِهِ الْمَحَلُّ أَصْلًا لِلْعَمَلِ لَا شَرْطًا فِي صِحَّةِ
الْعَمَلِ ، كَمَا تَخَيَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَا يَكُونُ
شَرْطًا لِلْفَرْعِ ؛ إذْ الشُّرُوطُ أَتْبَاعٌ فَلَا تَصِيرُ مَقْصُودَةً ؛ إذْ
فِيهِ قَلْبُ الْحَالِ وَعَكْسُ الشَّيْءِ ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى
ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ
حَبِطَ عَمَلُهُ } فَمَنْ كَفَرَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ حَبِطَ عَمَلُهُ ،
وَاسْتَأْنَفَ الْعَمَلَ إذَا أَسْلَمَ ، وَكَانَ كَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ
يَكْفُرْ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ
سَلَفَ } وَالْإِسْلَامُ وَالْهِجْرَةُ يَهْدِمَانِ مَا قَبْلَهُمَا مِنْ بَاطِلٍ
، وَلَا يَكُونُ إيمَانًا إلَّا بِاعْتِقَادٍ عَامٍّ عَلَى الْأَزْمَانِ ،
مُتَّصِلٍ بِتَأْبِيدِ الْأَبَدِ ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ؛
فَإِنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ وَإِنْ أُفْسِدَ فَسَدَ جَمِيعُهُ ، وَهُوَ حُكْمٌ لَا
يَتَجَزَّأُ شَرْعًا ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي التَّلْخِيصِ وَغَيْرِهِ .
سُورَةُ الْمُؤْمِنِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ الْآيَةُ
الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ
إيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا
يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ
مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } .
ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا كَتَمَ
إيمَانَهُ ، وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ لِسَانُهُ [ أَنَّهُ ] لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا
بِاعْتِقَادِهِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : إنَّهُ إذَا نَوَى بِقَلْبِهِ
طَلَاقَ زَوْجِهِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ، كَمَا يَكُونُ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا
بِقَلْبِهِ ، فَجَعَلَ مَدَارَ الْإِيمَانِ عَلَى الْقَلْبِ ، وَإِنَّهُ كَذَلِكَ
، لَكِنْ لَيْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ
بِمَا لُبَابُهُ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا نَوَى الْكُفْرَ بِقَلْبِهِ كَانَ كَافِرًا
، وَإِنْ لَمْ يَلْفِظْ بِلِسَانِهِ
.
وَأَمَّا إذَا نَوَى الْإِيمَانَ بِقَلْبِهِ فَلَا
يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِلِسَانِهِ ، وَأَمَّا إذَا نَوَى الْإِيمَانَ
بِقَلْبِهِ تَمْنَعُهُ التَّقِيَّةُ وَالْخَوْفُ مِنْ أَنْ يَتَلَفَّظَ
بِلِسَانِهِ [ فَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا ] فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ
تَعَالَى ، وَإِنَّمَا تَمْنَعُهُ التَّقِيَّةُ مِنْ أَنْ يَسْمَعَهُ غَيْرُهُ ، وَلَيْسَ
مِنْ شَرْطِ الْإِيمَانِ أَنْ يَسْمَعَهُ الْغَيْرُ فِي صِحَّتِهِ مِنْ
التَّكْلِيفِ ؛ إنَّمَا يُشْتَرَطُ سَمَاعُ الْغَيْرِ لَهُ لِيَكُفَّ عَنْ
نَفْسِهِ وَمَالِهِ .
الْآيَتَانِ الثَّانِيَةُ ، وَالثَّالِثَةُ قَوْلُهُ
تَعَالَى : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا
وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا
حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ } .
قَالَ الْقَاضِي : كُلُّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ
بِالْأَنْعَامِ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ ؛ فَمَنْ
شَاءَ فَلْيَلْحَظْهُ فِي مَوْضِعِهِ
.
سُورَةُ فُصِّلَتْ فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ الْآيَةُ
الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ
نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ
الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ
ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ : يَعْنِي شَدَائِدَ لَا خَيْرَ فِيهَا ، وَكَذَلِكَ
رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ
.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ " وَإِنَّمَا ذَكَرَ
ذَلِكَ مَالِكٌ رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ : إنَّ النَّحْسَ الْغُبَارُ ، وَلَوْ
كَانَ الْغُبَارُ نَحْسًا لَكَانَ أَقَلَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ نَحْسٍ ،
وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : إنَّهَا مُتَتَابِعَاتٌ لَا يَخْرُجُ مِنْ لَفْظِ قَوْله
تَعَالَى : { نَحِسَاتٍ } .
وَإِنَّمَا عُرِفَ التَّتَابُعُ مِنْ قَوْله تَعَالَى : { سَخَّرَهَا
عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا } الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قِيلَ :
إنَّهَا كَانَتْ آخِرَ شَوَّالٍ مِنْ الْأَرْبِعَاءِ إلَى الْأَرْبِعَاءِ ،
وَالنَّاسُ يَكْرَهُونَ السَّفَرَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِأَجْلِ هَذِهِ
الرِّوَايَةِ ؛ لَقِيت يَوْمًا مَعَ خَالِي الْحُسَيْنِ بْنِ حَفْصٍ رَجُلًا مِنْ
الْكتاب فَوَدَّعْنَاهُ بِنِيَّةِ السَّفَرِ ، فَلَمَّا فَارَقَنَا قَالَ لِي
خَالِي : إنَّك لَا تَرَاهُ أَبَدًا لِأَنَّهُ سَافَرَ يَوْمَ أَرْبِعَاءٍ لَا
يَتَكَرَّرُ ، وَكَذَلِكَ كَانَ : مَاتَ فِي سَفَرِهِ ، وَهَذَا مَا لَا أَرَاهُ ،
فَإِنَّ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ يَوْمٌ عَجِيبٌ بِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ
الْخَلْقِ فِيهِ ، وَالتَّرْتِيبِ ؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ ثَابِتٌ { بِأَنَّ اللَّهَ
خَلَقَ يَوْمَ السَّبْتِ التُّرْبَةَ ، وَيَوْمَ الْأَحَدِ الْجِبَالَ ، وَيَوْمَ
الِاثْنَيْنِ الشَّجَرَ ، وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ الْمَكْرُوهَ ، وَيَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ النُّورَ } ، وَرُوِيَ : النُّونُ وَفِي الْحَدِيثِ : { إنَّهُ
خَلَقَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ غُرَّةَ التِّقْنِ } ، وَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ أُتْقِنَ
بِهِ الْأَشْيَاءُ يَعْنِي الْمَعَادِنَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالنُّحَاسِ
وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ فَالْيَوْمُ الَّذِي خَلَقَ فِيهِ الْمَكْرُوهَ لَا
يَعَافُهُ النَّاسُ ، وَالْيَوْمُ
الَّذِي خَلَقَ فِيهِ النُّورَ أَوْ التِّقْنَ
يَعَافُونَهُ ، إنَّ هَذَا لَهُوَ الْجَهْلُ الْمُبِينُ .
وَفِي الْمَغَازِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَعَا عَلَى الْأَحْزَابِ مِنْ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ إلَى يَوْمِ
الْأَرْبِعَاءِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، فَاسْتُجِيبَ لَهُ } ، وَهِيَ
سَاعَةٌ فَاضِلَةٌ ؛ فَالْآثَارُ الصِّحَاحُ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ هَذَا الْيَوْمِ
، وَكَيْفَ يُدَّعَى فِيهِ تَغْرِيرُ النَّحْسِ بِأَحَادِيثَ لَا أَصْلَ لَهَا ،
وَقَدْ صَوَّرَ قَوْمٌ أَيَّامًا مِنْ الْأَشْهُرِ الشَّمْسِيَّةِ ادَّعَوْا
فِيهَا الْكَرَامَةَ ؛ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا ، وَلَا
يَشْتَغِلَ بِآلَاتِهَا ، وَاَللَّهُ حَسِيبُهُمْ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ
الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ
الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ
الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى
: { إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ } يَعْنِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ؛ إذْ لَا يَتِمُّ أَحَدُ الرُّكْنَيْنِ إلَّا
بِالْآخَرِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَاسْتَقَرَّ فِي قُلُوبِ
الْمُؤْمِنِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ
اسْتَقَامُوا } اسْتِفْعَالٌ ، مِنْ قَامَ يَعْنِي دَامَ وَاسْتَمَرَّ وَفِيهَا
قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : اسْتَقَامُوا عَلَى قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ حَتَّى
مَاتُوا عَلَيْهَا ، وَلَمْ يُبَدِّلُوا وَلَمْ يُغَيِّرُوا .
الثَّانِي : اسْتَقَامُوا عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ .
وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ لَازِمٌ ، مُرَادٌ
بِالْقَوْلِ .
وَالْمَعْنَى : فَإِنَّ " لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ " مِفْتَاحٌ لَهُ أَسْنَانٌ ، فَمَنْ جَاءَ بِالْمِفْتَاحِ
وَأَسْنَانِهِ فُتِحَ لَهُ ، وَإِلَّا لَمْ يُفْتَحْ لَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةُ
} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : يَعْنِي عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَأَنَا أَقُولُ فِي كُلِّ
يَوْمٍ ، وَآكَدُ الْأَيَّامِ يَوْمَ الْمَوْتِ ، وَحِينَ الْقَبْرِ ، وَيَوْمَ
الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ ، وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ بَيَّنَّاهَا فِي مَوَاضِعِهَا .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ
أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إنَّنِي
مِنْ الْمُسْلِمِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْحَسَنُ إذَا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ يَقُولُ
: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا حَبِيبُ اللَّهِ
، هَذَا صَفْوَةُ اللَّهِ ، هَذَا خِيرَةُ اللَّهِ ، هَذَا وَاَللَّهِ أَحَبُّ
أَهْلِ الْأَرْضِ إلَى اللَّهِ
.
وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي الْمُؤَذِّنِينَ ، وَهَذَا
ذِكْرٌ ثَانٍ لَهُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَسَيَأْتِي الثَّالِثُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ ،
وَالْأَذَانَ مَدَنِيٌّ ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهَا بِالْمَعْنَى ، لَا أَنَّهُ
كَانَ الْمَقْصُودَ ، وَيَدْخُلُ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ حِينَ قَالَ فِي
النَّبِيِّ وَقَدْ خَنَقَهُ الْمَلْعُونُ : أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي
اللَّهُ ، وَيَتَضَمَّنُ كُلَّ كَلَامٍ حَسَنٍ فِيهِ ذِكْرُ التَّوْحِيدِ
وَبَيَانُ الْإِيمَانِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَعَمِلَ صَالِحًا } .
قَالُوا :
هِيَ الصَّلَاةُ ، وَإِنَّهُ لَحَسَنٌ وَإِنْ كَانَ
الْمُرَادُ بِهِ كُلَّ عَمَلٍ صَالِحٍ ، وَلَكِنَّ الصَّلَاةَ أَجَلُّهُ ،
وَالْمُرَادُ أَنْ يَتْبَعَ الْقَوْلَ الْعَمَلُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَقَالَ
إنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ } ، وَمَا تَقَدَّمَ يَدُلُّ عَلَى الْإِسْلَامِ ، لَكِنْ
لَمَّا كَانَ الدُّعَاءُ بِالْقَوْلِ ، وَالسَّيْفُ يَكُونُ لِلِاعْتِقَادِ ،
وَيَكُونُ لِلْحُجَّةِ ، وَكَانَ الْعَمَلُ يَكُونُ لِلرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ ،
دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّصْرِيحِ بِالِاعْتِقَادِ لِلَّهِ فِي
ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَأَنَّ الْعَمَلَ لِوَجْهِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَقَالَ
إنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ } وَلَمْ يَقُلْ [ لَهُ ] إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَفِي
ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ : أَنَا مُسْلِمٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْأُصُولِ ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا
تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَك وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ ؛ كَانَ يُؤْذِي
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُمِرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
بِالْعَفْوِ عَنْهُ .
وَقِيلَ لَهُ : { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَك وَبَيْنَهُ
عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
} .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اُخْتُلِفَ مَا الْمُرَادُ
بِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قِيلَ الْمُرَادُ بِهَا مَا
رُوِيَ فِي الْآيَةِ أَنْ نَقُولَ : إنْ كُنْت كَاذِبًا يَغْفِرُ اللَّهُ لَك ،
وَإِنْ كُنْت صَادِقًا يَغْفِرُ اللَّهُ لِي ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ أَبَا
بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَهُ لِرَجُلٍ نَالَ مِنْهُ .
الثَّانِي الْمُصَافَحَةُ ، وَفِي الْأَثَرِ : {
تَصَافَحُوا يَذْهَبُ الْغِلُّ } ، وَإِنْ لَمْ يَرَ مَالِكٌ الْمُصَافَحَةَ ،
وَقَدْ اجْتَمَعَ مَعَ سُفْيَانَ فَتَكَلَّمَا فِيهَا ، فَقَالَ سُفْيَانُ : قَدْ
صَافَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعْفَرًا حِينَ قَدِمَ
مِنْ الْحَبَشَةِ ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ : ذَلِكَ خَاصٌّ لَهُ ؛ فَقَالَ لَهُ
سُفْيَانُ : مَا خَصَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَخُصُّنَا ، وَمَا عَمَّهُ يَعُمُّنَا ، وَالْمُصَافَحَةُ ثَابِتَةٌ ، فَلَا
وَجْهَ لِإِنْكَارِهَا .
وَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ قَالَ : قُلْت لِأَنَسٍ : هَلْ كَانَتْ
الْمُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ
فَيَتَصَافَحَانِ إلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا } .
وَفِي الْأَثَرِ : { مِنْ تَمَامِ الْمَحَبَّةِ
الْأَخْذُ بِالْيَدِ } .
وَمِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَهُوَ إمَامٌ
مُقَدَّمٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { قَدِمَ زَيْدُ بْنُ
حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ فِي نَفَرٍ ، فَقَرَعَ
الْبَابَ ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرْيَانًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ ، وَاَللَّهِ مَا رَأَيْته
عُرْيَانًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ ، فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ } .
الثَّالِثُ : السَّلَامُ ، لَا يُقْطَعُ عَنْهُ
سَلَامُهُ إذَا لَقِيَهُ ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ
آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا
لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إنْ
كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَاَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّك
يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } .
وَهَذِهِ آيَةُ سُجُودٍ بِلَا خِلَافٍ ، وَلَكِنْ
اُخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِهِ ؛ فَقَالَ مَالِكٌ : مَوْضِعُهُ : { كُنْتُمْ إيَّاهُ
تَعْبُدُونَ } لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْأَمْرِ .
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَالشَّافِعِيُّ : مَوْضِعُهُ {
وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } لِأَنَّهُ تَمَامُ الْكَلَامِ ، وَغَايَةُ الْعِبَادَةِ
وَالِامْتِثَالِ .
وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ يَسْجُدَانِ
عِنْدَ قَوْله تَعَالَى : { إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } .
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْجُدُ عِنْدَ قَوْلِهِ : {
يَسْأَمُونَ } .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : اُسْجُدُوا بِالْآخِرَةِ
مِنْهُمَا ، وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ مَسْرُوقٍ ، وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ
السُّلَمِيِّ ؛ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، وَأَبِي صَالِحٍ ؛ وَيَحْيَى بْنِ
وَثَّابٍ ، وَطَلْحَةُ ، وَالْحَسَنُ ، وَابْنُ سِيرِينَ .
وَكَانَ أَبُو وَائِلٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَبَكْرُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ يَسْجُدُونَ عِنْدَ قَوْلِهِ : { يَسْأَمُونَ } ، وَالْأَمْرُ
قَرِيبٌ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْ
جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ
أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ
وَاَلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى
أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ } فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا : إنَّ الَّذِي يُعَلِّمُ
مُحَمَّدًا يَسَارُ أَبُو فَكِيهَةَ مَوْلًى مِنْ قُرَيْشٍ ، وَسَلْمَانُ ،
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .
وَهَذَا يَصِحُّ فِي يَسَارٍ ، لِأَنَّهُ مَكِّيٌّ ،
وَالْآيَةُ مَكِّيَّةٌ ؛ وَأَمَّا سَلْمَانُ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِيهِ ؛
لِأَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إلَّا بِالْمَدِينَةِ ، وَقَدْ كَانَتْ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ بِإِجْمَاعٍ
مِنْ النَّاسِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي مَعْنَى الْآيَةِ :
وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَوْ نَزَلَ
بِاللُّغَةِ الْأَعْجَمِيَّةِ لَقَالَتْ قُرَيْشٌ لِمُحَمَّدٍ : يَا مُحَمَّدُ ؛
إذَا أُرْسِلْت إلَيْنَا بِهِ فَهَلَّا فَصَّلْت آيَاتِهِ ، أَيْ بَيَّنْت
وَأَحْكَمْت .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ،
التَّقْدِيرُ : أَنَّى يَجْتَمِعُ مَا يَقُولُونَ أَوْ يَنْتَظِمُ مَا يَأْفِكُونَ
؟ يَسَارٌ أَعْجَمِيٌّ ، وَالْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ ، فَأَنَّى يَجْتَمِعَانِ ،
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا :
هَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ : إنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ
بِإِبْدَالِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِيهِ بِالْفَارِسِيَّةِ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَالَ : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا } : كَذَا
لِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ لِلْعُجْمَةِ إلَيْهِ طَرِيقٌ ، فَكَيْفَ يُصْرَفُ إلَى مَا
نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بِهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَأَوْضَحْنَا
أَنَّ التِّبْيَانَ وَالْإِعْجَازَ إنَّمَا يَكُونُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ ، فَلَوْ
قُلِبَ إلَى غَيْرِ هَذَا لَمَا كَانَ قُرْآنًا وَلَا بَيَانًا ، وَلَا اقْتَضَى
إعْجَازًا ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ عَلَى التَّمَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا رَبَّ
غَيْرُهُ ، وَلَا خَيْرَ إلَّا خَيْرُهُ .
سُورَةُ الشُّورَى فِيهَا ثَمَانِ آيَاتٍ الْآيَة الْأُولَى
قَوْله تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا
وَاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْك وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى
الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ
وَيَهْدِي إلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } .
ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الْمَشْهُورِ [
الْكَبِيرِ ] : { وَلَكِنْ ائْتُوا نُوحًا ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ
اللَّهُ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ
.
فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ : أَنْتَ أَوَّلُ
رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ } .
وَهَذَا صَحِيحٌ لَا إشْكَالَ فِيهِ ، كَمَا أَنَّ آدَمَ
أَوَّلُ نَبِيٍّ بِغَيْرِ إشْكَالٍ ؛ لِأَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا
بَنُوهُ ، وَلَمْ تُفْرَضْ لَهُ الْفَرَائِضُ ، وَلَا شُرِعَتْ لَهُ الْمَحَارِمُ
؛ وَإِنَّمَا كَانَ تَنْبِيهًا عَلَى بَعْضِ الْأُمُورِ ، وَاقْتِصَارًا عَلَى
ضَرُورَاتِ الْمَعَاشِ ، وَأَخَذًا بِوَظَائِفِ الْحَيَاةِ وَالْبَقَاءِ ،
وَاسْتَقَرَّ الْمَدَى إلَى نُوحٍ ، فَبَعَثَهُ اللَّهُ بِتَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ
وَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَوَظَّفَ عَلَيْهِ الْوَاجِبَاتِ ، وَأَوْضَحَ لَهُ
الْآدَابَ فِي الدِّيَانَاتِ ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَأَكَّدُ بِالرُّسُلِ ،
وَيَتَنَاصَرُ بِالْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَاحِدًا بَعْدَ
وَاحِدٍ ، شَرِيعَةً بَعْدَ شَرِيعَةٍ ، حَتَّى خَتَمَهَا اللَّهُ بِخَيْرِ
الْمِلَلِ مِلَّتِنَا ، عَلَى لِسَانِ أَكْرَمِ الرُّسُلِ نَبِيِّنَا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَأَنَّ الْمَعْنَى : وَوَصَّيْنَاك يَا مُحَمَّدُ
وَنُوحًا دِينًا وَاحِدًا يَعْنِي فِي الْأُصُولِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الشَّرِيعَةُ
، وَهِيَ : التَّوْحِيدُ ، وَالصَّلَاةُ ، وَالزَّكَاةُ ، وَالصِّيَامُ ،
وَالْحَجُّ ، وَالتَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِصَالِحِ الْأَعْمَالِ ،
وَالتَّزَلُّفُ إلَيْهِ بِمَا يَرُدُّ الْقَلْبَ وَالْجَارِحَةَ إلَيْهِ ،
وَالصِّدْقُ ، وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ ،
وَصِلَةُ الرَّحِمِ ، وَتَحْرِيمُ الْكُفْرِ ،
وَالْقَتْلِ ، وَالزِّنَا ، وَالْإِذَايَةِ لِلْخَلْقِ ، كَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ ،
وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْحَيَوَانِ كَيْفَمَا كَانَ ، وَاقْتِحَامِ الدَّنَاءَاتِ
، وَمَا يَعُودُ بِخَرْمِ الْمُرُوءَاتِ .
فَهَذَا كُلُّهُ شُرِعَ دِينًا وَاحِدًا وَمِلَّةً مُتَّحِدَةً
لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ
أَعْدَادُهُمْ ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا
تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } أَيْ اجْعَلُوهُ قَائِمًا ، يُرِيدُ دَائِمًا مُسْتَمِرًّا
، مَحْفُوظًا مُسْتَقِرًّا ، مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِيهِ ، وَلَا اضْطِرَابٍ
عَلَيْهِ .
فَمِنْ الْخَلْقِ مَنْ وَفَى بِذَلِكَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ
نَكَثَ بِهِ ، وَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ .
وَاخْتَلَفَتْ الشَّرَائِعُ وَرَاءَ هَذَا فِي مَعَانٍ
حَسْبَمَا أَرَادَهُ اللَّهُ ، مِمَّا اقْتَضَتْهُ الْمَصْلَحَةُ ، وَأَوْجَبَتْ
الْحِكْمَةُ وَضْعَهُ فِي الْأَزْمِنَةِ عَلَى الْأُمَمِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { مَنْ
كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ
حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةٍ سُبْحَانَ
وَغَيْرِهَا بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ ، وَقَوْلُهُ هَاهُنَا : { وَمَنْ كَانَ
يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ
نَصِيبٍ } يُبْطِلُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ : إنَّهُ مَنْ
تَوَضَّأَ تَبَرُّدًا إنَّهُ يُجْزِئْهُ عَنْ فَرِيضَةِ الْوُضُوءِ الْمُوَظَّفَةِ
عَلَيْهِ ، فَإِنَّ فَرِيضَةَ الْوُضُوءِ الْمُوَظَّفَةَ عَلَيْهِ مِنْ حَرْثِ
الْآخِرَةِ ، وَالتَّبَرُّدَ مِنْ حَرْثِ الدُّنْيَا ؛ فَلَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا
عَلَى الْآخَرِ ، وَلَا تُجْزِئُ نِيَّتُهُ عَنْهُ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ ؛ وَقَدْ
بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ
آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ رُكُوبِ الْبَحْرِ بِمَا
يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : {
وَاَلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ
شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ {
وَأَمْرُهُمْ } يَعْنِي بِهِ الْأَنْصَارَ ، كَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَقَبْلَ
قُدُومِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا كَانَ يَهُمُّهُمْ أَمْرٌ
اجْتَمَعُوا فَتَشَاوَرُوا بَيْنَهُمْ وَأَخَذُوا بِهِ ، فَأَثْنَى اللَّهُ
عَلَيْهِمْ خَيْرًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الشُّورَى فَعَلَى ، مِنْ
شَارَ يَشُورُ شَوْرًا إذَا عَرَضَ الْأَمْرَ عَلَى الْخِيرَةِ ، حَتَّى يَعْلَمَ
الْمُرَادَ مِنْهُ .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ رَكِبَ
فَرَسًا يَشُورُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الشُّورَى أُلْفَةٌ
لِلْجَمَاعَةِ ، وَمِسْبَارٌ لِلْعُقُولِ ، وَسَبَبٌ إلَى الصَّوَابِ ، وَمَا
تَشَاوَرَ قَوْمٌ إلَّا هُدُوا
.
وَقَدْ قَالَ حَكِيمٌ : إذَا بَلَغَ الرَّأْيُ
الْمَشُورَةَ فَاسْتَعِنْ بِرَأْيِ لَبِيبٍ أَوْ مَشُورَةِ حَازِمٍ وَلَا تَجْعَلْ
الشُّورَى عَلَيْك غَضَاضَةً فَإِنَّ الْخَوَافِيَ نَافِعٌ لِلْقَوَادِمِ الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : مَدَحَ اللَّهُ الْمُشَاوِرَ فِي الْأُمُورِ ، وَمَدَحَ الْقَوْمَ
الَّذِينَ يَمْتَثِلُونَ ذَلِكَ ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ فِي الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ
بِمَصَالِحِ الْحُرُوبِ ، وَذَلِكَ فِي الْآثَارِ كَثِيرٌ ، وَلَمْ يُشَاوِرْهُمْ
فِي الْأَحْكَامِ ؛ لِأَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْسَامِ
: مِنْ الْفَرْضِ ، وَالنَّدْبِ ، وَالْمَكْرُوهِ ، وَالْمُبَاحِ ، وَالْحَرَامِ .
فَأَمَّا الصَّحَابَةُ بَعْدَ اسْتِئْثَارِ اللَّهِ بِهِ
عَلَيْنَا فَكَانُوا يَتَشَاوَرُونَ فِي الْأَحْكَامِ ، وَيَسْتَنْبِطُونَهُ ا
مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ وَإِنَّ أَوَّلَ مَا تَشَاوَرَ فِيهِ الصَّحَابَةُ
الْخِلَافَةَ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنُصَّ
عَلَيْهَا حَتَّى كَانَ فِيهَا بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَالْأَنْصَارِ مَا سَبَقَ
بَيَانُهُ .
وَقَالَ عُمَرُ : نَرْضَى لِدُنْيَانَا مَنْ رَضِيَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدِينِنَا .
وَتَشَاوَرُوا فِي أَمْرِ الرِّدَّةِ ، فَاسْتَقَرَّ
رَأْيُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى الْقِتَالِ
.
وَتَشَاوَرُوا فِي الْجَدِّ وَمِيرَاثِهِ ، وَفِي حَدِّ
الْخَمْرِ وَعَدَدِهِ عَلَى الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ .
وَتَشَاوَرُوا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُرُوبِ ، حَتَّى شَاوَرَ عُمَرَ الْهُرْمُزَانَ حِينَ
وَفَدَ عَلَيْهِ مُسْلِمًا فِي الْمَغَازِي ، فَقَالَ لَهُ .
الْهُرْمُزَانُ : إنَّ مَثَلَهَا وَمَثَلَ مَنْ فِيهَا
مِنْ عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ طَائِرٍ لَهُ رَأْسٌ وَلَهُ جَنَاحَانِ
وَرِجْلَانِ ، فَإِنْ كُسِرَ أَحَدُ الْجَنَاحَيْنِ نَهَضَتْ الرِّجْلَانِ
بِجَنَاحٍ وَالرَّأْسِ ، وَإِنْ كُسِرَ الْجَنَاحُ الْآخَرُ نَهَضَتْ الرِّجْلَانِ
وَالرَّأْسُ ، وَإِنْ شُدِخَ الرَّأْسُ ذَهَبَتْ الرِّجْلَانِ وَالْجَنَاحَانِ ،
وَالرَّأْسُ كِسْرَى وَالْجَنَاحُ الْوَاحِدُ قَيْصَرُ ، وَالْآخَرُ فَارِسُ .
فَمُرْ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَنْفِرُوا إلَى كِسْرَى
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ وَقَالَ بَعْضُ الْعُقَلَاءِ : مَا أَخْطَأْت
قَطُّ ؛ إذَا حَزَبَنِي أَمْرٌ شَاوَرْت قَوْمِي ، فَفَعَلْت الَّذِي يَرَوْنَ ،
فَإِنْ أَصَبْت فَهُمْ الْمُصِيبُونَ ، وَإِنْ أَخْطَأْت فَهُمْ الْمُخْطِئُونَ ، وَهَذَا
أَبْيَنُ مِنْ إطْنَابٍ فِيهِ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : {
وَاَلَّذِينَ إذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
ذَكَرَ اللَّهُ الِانْتِصَارَ فِي الْبَغْيِ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ ، وَذَكَرَ
الْعَفْوَ عَنْ الْجُرْمِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ ؛
فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا رَافِعًا لِلْآخَرِ ، وَاحْتُمِلَ أَنْ
يَكُونَ ذَلِكَ رَاجِعًا إلَى حَالَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا أَنْ يَكُونَ الْبَاغِي
مُعْلِنًا بِالْفُجُورِ ، وَقِحًا فِي الْجُمْهُورِ ، مُؤْذِيًا لِلصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ
، فَيَكُونَ الِانْتِقَامُ مِنْهُ أَفْضَلَ .
وَفِي مِثْلِهِ قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ :
يُكْرَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُذِلُّوا أَنْفُسَهُمْ ، فَيَجْتَرِئَ عَلَيْهِمْ
الْفُسَّاقُ .
الثَّانِي :
أَنْ تَكُونَ الْفَلْتَةَ ، أَوْ يَقَعَ ذَلِكَ مِمَّنْ
يَعْتَرِفُ بِالزَّلَّةِ ، وَيَسْأَلُ الْمَغْفِرَةَ ، فَالْعَفْوُ هَاهُنَا
أَفْضَلُ ، وَفِي مِثْلِهِ نَزَلَتْ : { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } وقَوْله
تَعَالَى : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } .
وَقَوْلُهُ : { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا
تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ السُّدِّيُّ :
إنَّمَا مَدَحَ اللَّهُ مَنْ انْتَصَرَ مِمَّنْ بَغَى عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ
اعْتِدَاءٍ بِالزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ مَا فَعَلَ بِهِ يَعْنِي كَمَا كَانَتْ
الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ ؛ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ }
فَبَيَّنَ فِي آخِرِ الْآيَةِ الْمُرَادَ مِنْهَا ، وَهُوَ أَمْرٌ مُحْتَمَلٌ .
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَهِيَ الْآيَةُ السَّادِسَةُ .
[ الْآيَةُ السَّابِعَةُ ] قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا
السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذِهِ
الْآيَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي ( بَرَاءَةٌ ) ، وَهِيَ
قَوْلُهُ : { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } فَكَمَا نَفَى اللَّهُ
السَّبِيلَ عَمَّنْ أَحْسَنَ فَكَذَلِكَ أَثْبَتَهَا عَلَى مَنْ ظَلَمَ ،
وَاسْتَوْفَى بَيَانَ الْقِسْمَيْنِ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ
وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ ، وَسُئِلَ عَنْ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ : لَا
أُحَلِّلُ أَحَدًا .
فَقَالَ : ذَلِكَ يَخْتَلِفُ .
فَقُلْت : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، الرَّجُلُ
يُسَلِّفُ الرَّجُلَ فَيَهْلِكُ ، وَلَا فَاءَ لَهُ .
قَالَ :
أَرَى أَنْ يُحَلِّلَهُ ، وَهُوَ أَفْضَلُ عِنْدِي
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ
أَحْسَنَهُ } وَلَيْسَ كُلَّمَا قَالَ أَحَدٌ وَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ يُتْبَعُ .
فَقِيلَ لَهُ : الرَّجُلُ يَظْلِمُ الرَّجُلَ ، فَقَالَ
: لَا أَرَى ذَلِكَ ، وَهُوَ مُخَالِفٌ عِنْدِي لِلْأَوَّلِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى : { إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ } ، وَيَقُولُ تَعَالَى
: { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } فَلَا أَرَى أَنْ تَجْعَلَهُ مِنْ
ظُلْمِهِ فِي حِلٍّ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ
أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا لَا يُحَلِّلُهُ بِحَالٍ ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيِّبِ .
وَالثَّانِي : يُحَلِّلُهُ ؛ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ
سِيرِينَ .
الثَّالِثُ إنْ كَانَ مَالًا حَلَّلَهُ ، وَإِنْ كَانَ
ظُلْمًا لَمْ يُحَلِّلْهُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَلَّا يُحَلِّلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ
، فَيَكُونَ كَالتَّبْدِيلِ لِحُكْمِ اللَّهِ .
وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ حَقُّهُ ؛ فَلَهُ أَنْ
يُسْقِطَهُ [ كَمَا يُسْقِطُ دَمَهُ وَعَرْضَهُ ] .
وَوَجْهُ الثَّالِثِ الَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ هُوَ
أَنَّ الرَّجُلَ إذَا غُلِبَ عَلَى حَقِّك فَمِنْ الرِّفْقِ بِهِ أَنْ تُحَلِّلَهُ
، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فَمِنْ
الْحَقِّ أَلَّا تَتْرُكَهُ لِئَلَّا يَغْتَرَّ
الظَّلَمَةُ ، وَيَسْتَرْسِلُوا فِي أَفْعَالِهِمْ الْقَبِيحَةِ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ
الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ الصَّامِتِ قَالَ : خَرَجْت أَنَا وَأَبِي نَطْلُبُ
الْعِلْمَ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يَهْلِكُوا ، فَكَانَ
أَوَّلُ مَنْ لَقِيَنَا أَبُو الْيُسْرِ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَمَعَهُ غُلَامٌ لَهُ مَعَهُ ضِمَامَةٌ مِنْ صُحُفٍ وَعَلَى أَبِي
الْيُسْرِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيٌّ ، وَعَلَى غُلَامِهِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيٌّ ،
فَقَالَ لَهُ أَبِي : أَيْ عَمُّ ؛ أَرَى فِي وَجْهِك سُفْعَةً مِنْ غَضَبٍ .
فَقَالَ : أَجَلْ ، كَانَ لِي عَلَى فُلَانٍ ابْنِ
فُلَانٍ الْحَرَامِيِّ دَيْنٌ ، فَأَتَيْت أَهْلَهُ فَسَلَّمْت ، وَقُلْت :
أَثَمَّ هُوَ ؟ قَالُوا : لَا ، فَخَرَجَ عَلَيَّ ابْنٌ لَهُ جَفْرٌ ، قُلْت لَهُ
: أَيْنَ أَبُوك ، فَقَالَ : سَمِعَ صَوْتَك فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي ، فَقُلْت
: اُخْرُجْ إلَيَّ ، فَقَدْ عَلِمْت أَيْنَ أَنْتَ ، فَخَرَجَ ، فَقُلْت لَهُ :
مَا حَمَلَك عَلَى أَنْ اخْتَبَأْت مِنِّي ؟ قَالَ : أَنَا وَاَللَّهِ أُحَدِّثُك
، ثُمَّ لَا أَكْذِبُك ، خَشِيت وَاَللَّهِ أَنْ أُحَدِّثَك فَأَكْذِبَك ،
وَأَعِدُك فَأُخْلِفُك ، وَأَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُنْت وَاَللَّهِ مُعْسِرًا .
قَالَ : فَقُلْت : آللَّهُ ، قَالَ : آللَّهُ .
قُلْت : آللَّهُ ، قَالَ : آللَّهُ ، قَالَ : فَقُلْت :
آللَّهُ ، قَالَ : آللَّهُ .
قَالَ : فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ فَمَحَاهَا بِيَدِهِ .
قَالَ : إنْ وَجَدْت قَضَاءً فَاقْضِ ، وَإِلَّا
فَأَنْتَ فِي حِلٍّ .
.
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
وَهَذَا فِي الْحَيِّ الَّذِي يُرْجَى لَهُ الْأَدَاءُ
لِسَلَامَةِ الذِّمَّةِ ، وَرَجَاءِ التَّحَلُّلِ ، فَكَيْفَ بِالْمَيِّتِ الَّذِي
لَا مَحَالَةَ مَعَهُ ، وَلَا ذِمَّةَ مَعَهُ ،
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { لِلَّهِ
مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ
إنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا
وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
الْمُرَادِ بِالْآيَةِ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : قَوْلُهُ { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ
إنَاثًا } يَعْنِي لُوطًا كَانَ لَهُ بَنَاتٌ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ابْنٌ وَيَهَبُ
لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ إبْرَاهِيمُ كَانَ لَهُ بَنُونَ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ
بِنْتٌ .
وَقَوْلُهُ :
{ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا } يَعْنِي
آدَمَ ، كَانَتْ حَوَّاءُ تَلِدُ لَهُ فِي كُلِّ بَطْنٍ وَلَدَيْنِ تَوْأَمَيْنِ
ذَكَرًا وَأُنْثَى ؛ فَيُزَوِّجُ الذَّكَرَ مِنْ هَذَا الْبَطْنِ مِنْ الْأُنْثَى مِنْ
هَذَا الْبَطْنِ الْآخَرِ ، حَتَّى أَحْكَمَ اللَّهُ التَّحْرِيمَ فِي شَرْعِ
نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَكَذَلِكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ لَهُ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ ، مِنْ الْأَوْلَادِ : الْقَاسِمُ ، وَالطَّيِّبِ ،
وَالطَّاهِرِ ، وَعَبْدِ اللَّهِ ؛ وَزَيْنَبَ ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ ، وَرُقَيَّةُ
، وَفَاطِمَةَ ؛ وَكُلُّهُمْ مِنْ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
وَإِبْرَاهِيمَ وَهُوَ مِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ .
وَكَذَلِكَ قَسَّمَ اللَّهُ الْخَلْقَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ
إلَى زَمَانِنَا إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ
الْمَحْدُودِ بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ وَمَشِيئَتِهِ النَّافِذَةِ ، لِيَبْقَى
النَّسْلُ ، وَيَتَمَادَى الْخَلْقُ ، وَيَنْفُذُ الْوَعْدُ ، وَيَحِقُّ الْأَمْرُ
، وَتَعْمُرُ الدُّنْيَا ، وَتَأْخُذُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَا يَمْلَأُ كُلَّ
وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَيَبْقَى ؛ فَفِي الْحَدِيثِ : { إنَّ النَّارَ لَنْ
تَمْتَلِئَ حَتَّى يَضَعَ الْجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ ، فَتَقُولَ قَطُّ قَطُّ
وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَتَبْقَى فَيُنْشِئُ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا آخَرَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إنَّ اللَّهَ لِعُمُومِ
قُدْرَتِهِ وَشَدِيدِ قُوَّتِهِ يَخْلُقُ الْخَلْقَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ
، وَبِعَظِيمِ لُطْفِهِ وَبَالِغِ حِكْمَتِهِ يَخْلُقُ
شَيْئًا مِنْ شَيْءٍ لَا عَنْ حَاجَةٍ ، فَإِنَّهُ
قُدُّوسٌ عَنْ الْحَاجَاتِ ، سَلَامٌ عَنْ الْآفَاتِ ، كَمَا قَالَ الْقُدُّوسُ
السَّلَامُ ، فَخَلَقَ آدَمَ مِنْ الْأَرْضِ ، وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ آدَمَ ،
وَخَلَقَ النَّشْأَةِ مِنْ بَيْنَهُمَا مِنْهُمَا ، مُرَتَّبًا عَنْ الْوَطْءِ
كَائِنًا عَنْ الْحَمْلِ ، مَوْجُودًا فِي الْجَنِينِ بِالْوَضْعِ ، كَمَا قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ
مَاءَ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَا ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ
أَنَّثَا } .
وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا { إذَا عَلَا مَاءُ
الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَعْمَامَهُ ، وَإِذَا عَلَا
مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَخْوَالَهُ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ ذَلِكَ فِي شَرْحِ
الْحَدِيثِ بِمَا لُبَابُهُ أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : ذَكَرٌ يُشْبِهُ
أَعْمَامَهُ .
أُنْثَى تُشْبِهُ أَخْوَالَهَا .
ذَكَرٌ يُشْبِهُ أَخْوَالَهُ .
أُنْثَى تُشْبِهُ أَعْمَامَهَا .
وَذَلِكَ فِي الْجَمِيعِ بَيِّنٌ ظَاهِرُ التَّعَالُجِ
أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : سَبَقَ : خَرَجَ مِنْ
قَبْلُ ، وَمَعْنَى عَلَا كَثُرَ ، فَإِذَا خَرَجَ مَاءُ الرَّجُلِ مِنْ قَبْلُ وَخَرَجَ
مَاءُ الْمَرْأَةِ بَعْدَهُ وَكَانَ أَقَلَّ مِنْهُ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا
بِحُكْمِ سَبْقِ مَاءِ الرَّجُلِ ، وَيُشْبِهُ أَعْمَامَهُ بِحُكْمِ كَثْرَةِ
مَائِهِ أَيْضًا وَإِنْ خَرَجَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مِنْ قَبْلُ وَخَرَجَ مَاءُ
الرَّجُلِ بَعْدَهُ وَكَانَ أَقَلَّ مِنْ مَائِهَا كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى
بِحُكْمِ سَبْقِ مَاءِ الْمَرْأَةِ ، وَيُشْبِهُ أَحْوَالَهَا لِأَنَّ مَاءَهَا
عَلَا مَاءَ الرَّجُلِ وَكَاثَرَهُ
.
وَإِنْ خَرَجَ مَاءُ الرَّجُلِ مِنْ قَبْلُ لَكِنْ
لَمَّا خَرَجَ مَاءُ الْمَرْأَةِ كَانَ أَكْثَرَ جَاءَ الْوَلَدُ ذَكَرًا بِحُكْمِ
سَبْقِ مَاءِ الرَّجُلِ وَأَشْبَهَ أُمَّهُ وَأَخْوَالَهُ بِحُكْمِ عُلُوِّ مَاءِ
الْمَرْأَةِ وَكَثْرَتِهِ .
وَإِنْ خَرَجَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مِنْ قَبْلُ لَكِنْ
لَمَّا خَرَجَ مَاءُ الرَّجُلِ مِنْ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ أَكْثَرَ وَأَعْلَى كَانَ
الْوَلَدُ أُنْثَى بِحُكْمِ سَبْقِ مَاءِ الْمَرْأَةِ ،
وَيُشْبِهُ أَبَاهُ وَأَعْمَامَهُ بِحُكْمِ غَلَبَةِ
مَاءِ الذَّكَرِ وَعُلُوِّهِ وَكَثْرَتِهِ عَلَى مَاءِ الْمَرْأَةِ .
فَسُبْحَانَ الْخَلَّاقِ الْعَظِيمِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَدْ كَانَتْ
الْخِلْقَةُ مُسْتَمِرَّةً ذَكَرًا وَأُنْثَى إلَى أَنْ وَقَعَ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى الْخُنْثَى ، فَأَتَى بِهِ فَرِيضُ الْعَرَبِ
وَمُعَمِّرُهَا عَامِرُ بْنُ الظَّرِبِ ، فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ فِيهِ ،
وَأَرْجَأَهُمْ عَنْهُ ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ تَنَكَّرَ مَوْضِعَهُ
، وَأَقَضَّ عَلَيْهِ مَضْجَعَهُ ، وَجَعَلَ يَتَقَلَّى وَيَتَقَلَّبُ .
وَتَجِيءُ بِهِ الْأَفْكَارُ وَتَذْهَبُ إلَى أَنْ
أَنْكَرَتْ الْأَمَةُ حَالَتَهُ ، فَقَالَتْ : مَا بِك ؟ قَالَ لَهَا : سَهِرْت
لِأَمْرٍ قُصِدْت فِيهِ فَلَمْ أَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهِ .
فَقَالَتْ لَهُ : مَا هُوَ ؟ قَالَ لَهَا : رَجُلٌ لَهُ ذَكَرٌ
وَفَرْجٌ ، كَيْفَ تَكُونُ حَالَتُهُ فِي الْمِيرَاثِ ؟ قَالَتْ لَهُ الْأَمَةُ :
وَرِّثْهُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ ، فَعَقَلَهَا ، وَأَصْبَحَ ، فَعَرَضَهَا لَهُمْ
وَأَمْضَاهَا عَلَيْهِمْ ، فَانْقَلَبُوا بِهَا رَاضِينَ .
وَجَاءَ الْإِسْلَامُ عَلَى ذَلِكَ فَلَمْ تَنْزِلْ إلَّا
فِي عَهْدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، فَقَضَى فِيهَا بِمَا يَأْتِي بَيَانُهُ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَدْ رَوَى الْفَرْضِيُّونَ عَنْ الْكَلْبِيِّ عَنْ
أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَوْلُودٍ لَهُ قُبُلٌ وَذَكَرٌ مِنْ أَيْنَ
يُوَرَّثُ ؟ قَالَ : مِنْ حَيْثُ يَبُولُ } .
وَرُوِيَ أَنَّهُ أَتَى بِخُنْثَى مِنْ الْأَنْصَارِ ،
فَقَالَ : { وَرِّثُوهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَبُولُ } .
قَالَ الْقَاضِي : قَالَ لَنَا شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الشَّقَّاقُ فَرَضِيُّ الْإِسْلَامِ : إنْ بَالَ مِنْهُمَا جَمِيعًا
وَرِثَ بِاَلَّذِي يَسْبِقُ مِنْهُ الْبَوْلُ ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ
الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيٍّ ، وَنَحْوَهُ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ
ابْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ ،
وَحَكَاهُ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ قَوْمٌ : لَا دَلَالَةَ فِي الْبَوْلِ ، فَإِنْ
خَرَجَ الْبَوْلُ مِنْهُمَا جَمِيعًا قَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُحْكَمُ
بِالْأَكْثَرِ .
وَأَنْكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَقَالَ : أَيَكِيلُهُ ،
وَلَمْ يَجْعَلْ أَصْحَابُ
الشَّافِعِيِّ لِلْكَثْرَةِ حُكْمًا .
وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ : تُعَدُّ
أَضْلَاعُهُ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَزِيدُ عَلَى الرَّجُلِ بِضِلْعٍ وَاحِدٍ ،
وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَمَا أَشْكَلَ حَالُهُ .
انْتَهَى كَلَامُ شَيْخِنَا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ .
وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي : لَا
أَحْفَظُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْخُنْثَى شَيْئًا .
وَحَكَى عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَهُ ذَكَرًا ، وَحَكَى
عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ نِصْفَ مِيرَاثِ ذَكَرٍ وَنِصْفَ مِيرَاثِ أُنْثَى ،
وَلَيْسَ بِثَابِتٍ عَنْهُ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّقَّاقُ : وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ
بِهِ عَلَى حَالِهِ : الْحَيْضُ ، وَالْحَبَلُ ، وَإِنْزَالُ الْمَنِيِّ مِنْ
الذَّكَرِ ، وَاللِّحْيَةُ ، وَالثَّدْيَانِ ؛ وَلَا يُقْطَعُ بِذَلِكَ .
وَقَدْ قِيلَ : إذَا بَلَغَ زَالَ الْإِشْكَالُ .
قَالَ الْقَاضِي : وَرُوِيَ عَنْ عُلَمَائِنَا فِيهِ
قَالَ مُطَرِّفٌ ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ ، وَابْنُ
وَهْبٍ ، وَابْنُ نَافِعٍ ، وَأَصْبَغُ : يُعْتَبَرُ مَبَالُهُ .
فَإِنْ بَالَ مِنْهُمَا فَالْأَسْبَقُ ، وَإِنْ خَرَجَ
مِنْهُمَا فَالْأَكْثَرُ ، وَلَوْلَا مَا قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا لَقُلْت :
إنَّهُ إنْ بَالَ مِنْ ثُقْبٍ إنَّهُ يُعْتَبَرُ بِهِ هُوَ الْآخَرُ ؛ لِأَنَّ
الْوَلَدَ لَا يُخْرِجُ مِنْ الْمَبَالِ بِحَالٍ ، وَإِنَّمَا ثُقْبُ الْبَوْلِ
غَيْرُ مَخْرَجِ الْوَلَدِ .
وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِي الْأُنْثَى ، وَقَالُوا عَلَى مَخْرَجِ
الْبَوْلِ يَنْبَنِي نِكَاحُهُ وَمِيرَاثُهُ وَشَهَادَتُهُ وَإِحْرَامُهُ فِي
حَجِّهِ ، وَجَمِيعِ أَمْرِهِ .
وَإِنْ كَانَ لَهُ ثَدْيٌ وَلِحْيَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ
وَرِثَ نِصْفَ مِيرَاثِ رَجُلٍ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ نِكَاحٌ ،
وَيَكُونُ أَمْرُهُ فِي شَهَادَتِهِ وَصَلَاتِهِ وَإِحْرَامِهِ عَلَى أَحْوَطِ
الْأَمْرَيْنِ .
وَاَلَّذِي نَقُولُ : إنَّهُ يُسْتَدَلُّ فِيهِ
بِالْحَبَلِ وَالْحَيْضِ .
حَالَةٌ ثَالِثَةٌ كَحَالَةٍ أُولَى لَا بُدَّ مِنْهَا ،
وَهِيَ أَنَّهُ إذَا أَشْكَلَ أَمْرُهُ فَطَلَب النِّكَاحَ مِنْ ذَكَرِهِ ،
وَطَلَبَ النِّكَاحَ مِنْ فَرْجِهِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ
عُلَمَاؤُنَا ، وَهُوَ مِنْ النَّوْعِ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ دَعْهُ حَتَّى
يَقَعَ ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْإِشْكَالَاتِ فِي الْأَحْكَامِ
وَالتَّعَارُضِ فِي الْإِلْزَامِ وَالِالْتِزَامِ أَنْكَرَهُ قَوْمٌ مِنْ رُءُوسِ
الْعَوَامّ ، فَقَالُوا : إنَّهُ لَا خُنْثَى ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَّمَ الْخَلْقَ
إلَى ذَكَرٍ وَأُنْثَى .
قُلْنَا : هَذَا جَهْلٌ بِاللُّغَةِ وَغَبَاوَةٌ عَنْ مَقْطَعِ
الْفَصَاحَةِ ، وَقُصُورٌ عَنْ مَعْرِفَةِ سَعَةِ الْقُدْرَةِ ؛ أَمَّا قُدْرَةُ
اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .
وَأَمَّا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فَلَا يَنْفِي وُجُودَ الْخُنْثَى
؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } ، فَهَذَا عُمُومٌ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ لِأَنَّ
الْقُدْرَةَ تَقْتَضِيهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إنَاثًا
وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا
وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } فَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ
الْغَالِبِ فِي الْمَوْجُودَاتِ ، وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ النَّادِرِ لِدُخُولِهِ
تَحْتَ عُمُومِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ ؛ وَالْوُجُودُ يَشْهَدُ لَهُ ،
وَالْعِيَانُ يُكَذِّبُ مُنْكِرَهُ
.
وَقَدْ كَانَ يَقْرَأُ مَعَنَا بِرِبَاطِ أَبِي سَعِيدٍ
عَلِيٍّ الْإِمَامِ الشَّهِيدِ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ خُنْثَى [ لَيْسَ ] لَهُ
لِحْيَةٌ ، وَلَهُ ثَدْيَانِ ، وَعِنْدَهُ جَارِيَةٌ ، فَرَبُّك أَعْلَمُ بِهِ ،
وَمَعَ طُولِ الصُّحْبَةِ عَقَلَنِي الْحَيَاءُ عَنْ سُؤَالِهِ ، وَبِوُدِّيِّ
الْيَوْمَ لَوْ كَاشَفْته عَنْ حَالِهِ
.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي تَوْرِيثِهِ ، وَهُوَ
مَذْكُورٌ عَلَى التَّمَامِ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .
سُورَة الزُّخْرُف فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ قَوْله
تَعَالَى : { وَاَلَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ
الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ
تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ
الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْلُهُ : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ }
يَعْنِي بِذَلِكَ الْإِبِلَ دُونَ الْبَقَرِ ؛ لِأَنَّ الْبَقَرَ لَمْ تُخْلَقْ
لِتُرْكَبَ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { بَيْنَمَا رَجُلٌ رَاكِبٌ بَقَرَةً
إذْ قَالَتْ لَهُ : إنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا ، وَإِنَّمَا خُلِقْت لِلْحَرْثِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : آمَنْت بِذَلِكَ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَمَا هُمَا فِي
الْقَوْمِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { لِتَسْتَوُوا
عَلَى ظُهُورِهِ } يَعْنِي الْإِبِلَ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ الْفُلْكَ إنَّمَا
تُرْكَبُ بُطُونُهَا ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَهُمَا جَمِيعًا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ ،
وَعَطَفَ أَحَدَهُمَا عَلَى آخِرِهِمَا
.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلَ ظَاهِرُهَا بَاطِنَهَا ؛
لِأَنَّ الْمَاءَ غَمَرَهُ وَسَتَرَهُ ، وَبَاطِنُهَا ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ
انْكَشَفَ لِلرَّاكِبِينَ وَظَهَرَ لِلْمُبْصِرِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : { وَتَقُولُوا
سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } أَيْ
مُطِيقِينَ ، تَقُولُ : قَرَنْت
كَذَا وَكَذَا إذَا رَبَطْته بِهِ ، وَجَعَلْته قَرِينَهُ ، وَأَقْرَنْت كَذَا
بِكَذَا إذَا أَطَقْته وَحَكَمْته ، كَأَنَّهُ جَعَلَهُ فِي قَرَنٍ وَهُوَ
الْحَبْلُ ، فَأَوْثَقَهُ بِهِ ، وَشَدَّهُ فِيهِ ؛ فَعَلَّمَنَا اللَّهُ تَعَالَى
مَا نَقُولُ إذَا رَكِبْنَا الدَّوَابَّ ، وَعَلَّمَنَا اللَّهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى
عَلَى لِسَانِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا نَقُولُ إذَا رَكِبْنَا السُّفُنَ ،
وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا
وَمُرْسَاهَا إنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } .
وَرُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا رَكِبَ قَعُودًا لَهُ
وَقَالَ : إنِّي لَمُقْرِنٌ لَهُ ، فَرَكَضَتْ بِهِ الْقَعُودُ حَتَّى صَرَعَتْهُ
، فَانْدَقَّتْ عُنُقُهُ .
وَمَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَدَعَ قَوْلَ هَذَا ،
وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ذِكْرُهُ بِاللِّسَانِ ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ اعْتِقَادُهُ
بِالْقَلْبِ ، أَمَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذِكْرُهُ بِاللِّسَانِ فَيَقُولُ
مَتَى رَكِبَ وَخَاصَّةً بِاللِّسَانِ إذَا تَذَكَّرَ فِي السَّفَرِ : { سُبْحَانَ
الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلَى
رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } { اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ ،
وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ
وَعْثَاءِ السَّفَرِ ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ ، وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ ،
وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ } يَعْنِي بِالْحَوْرِ وَالْكَوْرِ
تَشَتُّتَ أَمْرِ الرَّجُلِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِ .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ : رَكِبْت مَعَ أَبِي
جَعْفَرٍ إلَى أَرْضٍ لَهُ نَحْوُ حَائِطٍ يُقَالُ لَهَا مَدْرَكَةٌ ، فَرَكِبَ
عَلَى جَمَلٍ صَعْبٍ ، فَقُلْت لَهُ : أَبَا جَعْفَرٍ ، أَمَا تَخَافُ أَنْ
يَصْرَعَك .
فَقَالَ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : عَلَى سَنَامِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانٌ ، فَإِذَا
رَكِبْتُمُوهَا فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ كَمَا أَمَرَكُمْ ، ثُمَّ امْتَهِنُوهَا
لِأَنْفُسِكُمْ ، فَإِنَّمَا يَحْمِلُ
اللَّهُ } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ رَبِيعَةَ : { شَهِدْت عَلِيَّ
بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَكِبَ دَابَّةً يَوْمًا ، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي
الرِّكَابِ قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى الدَّابَّةِ قَالَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ .
ثُمَّ قَالَ : سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا
وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ
.
وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ .
ثُمَّ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ
ثَلَاثًا ، اللَّهُمَّ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ،
فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ ، ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْت لَهُ :
مَا أَضْحَكَك ؟ قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صَنَعَ كَمَا صَنَعْت ، وَقَالَ كَمَا قُلْت ، ثُمَّ ضَحِكَ ، فَقُلْت لَهُ : مَا
يُضْحِكُك يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِعَبْدٍ أَوْ قَالَ : عَجَبًا لِعَبْدٍ أَنْ
يَقُولَ : اللَّهُمَّ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ،
فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ ، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ غَيْرُهُ } .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : {
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
فِي شَرْحِ الْكَلِمَةِ ؛ وَهِيَ النُّبُوَّةُ فِي قَوْلٍ ، وَالتَّوْحِيدُ فِي
قَوْلٍ آخَرَ ؛ وَلَا جَرَمَ لَمْ تَزَلْ النُّبُوَّةُ بَاقِيَةً فِي ذُرِّيَّةِ
إبْرَاهِيمَ وَالتَّوْحِيدُ هُمْ أَصْلُهُ ، وَغَيْرُهُمْ فِيهِ تَبَعٌ لَهُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { فِي عَقِبِهِ }
: بِنَاءُ ع ق ب لِمَا يَخْلُفُ الشَّيْءَ ، وَيَأْتِي بَعْدَهُ ، يُقَالُ :
عَقَبَ يَعْقُبُ عُقُوبًا وَعَقِبًا إذَا جَاءَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ ، وَلِهَذَا
قِيلَ لِوَلَدِ الرَّجُلِ مِنْ بَعْدِهِ عَقِبُهُ .
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ أَنَّهُ سَافَرَ فِي عَقِبِ
رَمَضَانَ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى مَوَارِدِ كَثِيرَةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إنَّمَا كَانَتْ
لِإِبْرَاهِيمَ فِي الْأَعْقَابِ مَوْصُولَةً بِالْأَحْقَابِ بِدَعْوَتَيْهِ
الْمُجَابَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا بِقَوْلِهِ : { إنِّي جَاعِلُك لِلنَّاسِ إمَامًا
قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } فَقَدْ قَالَ
لَهُ : نَعَمْ ، إلَّا مَنْ ظَلَمَ مِنْهُمْ ، فَلَا عَهْدَ لَهُ .
ثَانِيهِمَا قَوْلُهُ : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِي أَنْ
نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } .
وَقِيلَ بَدَلُ الْأُولَى : { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ
صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } فَكُلُّ أُمَّةٍ تُعَظِّمُهُ ؛ بَنُوهُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ
يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي سَامٍ أَوْ فِي نُوحٍ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ جَرَى ذِكْرُ الْعَقِبِ
هَاهُنَا مَوْصُولًا فِي الْمَعْنَى بِالْحُقْبِ ، وَذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي
الْأَحْكَامِ ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عُقُودُ الْعُمْرَى أَوْ التَّحْبِيسِ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْمَرَ
عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَإِنَّهَا لِلَّذِي أُعْطِيهَا لَا تَرْجِعُ إلَى
الَّذِي أَعْطَاهَا } ؛ لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ .
وَهِيَ تَرِدُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ لَفْظًا قَوْلُهُ :
اللَّفْظُ الْأَوَّلُ الْوَلَدُ ، وَهُوَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عِبَارَةٌ عَمَّنْ
وُجِدَ عَنْ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ مِنْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ ، وَعَنْ
وَلَدِ الذُّكُورِ دُونَ وَلَدِ الْإِنَاثِ لُغَةً وَشَرْعًا ؛ وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْمِيرَاثُ
عَلَى الْوَلَدِ الْمُعَيَّنِ وَأَوْلَادِ الذُّكُورِ مِنْ الْمُعَيَّنِ دُونَ
وَلَدِ الْبَنَاتِ ، لِأَنَّهُ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَدْخُلُوا
فِي الْحَبْسِ بِهَذَا اللَّفْظِ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ
وَغَيْرِهَا .
اللَّفْظُ الثَّانِي الْبَنُونَ فَإِنْ قَالَ : هَذَا
حَبْسٌ عَلَى ابْنِي فَلَا يَتَعَدَّى الْوَلَدَ الْمُعَيَّنَ وَلَا يَتَعَدَّدُ .
وَلَوْ قَالَ : وَلَدِي لَتَعَدَّى وَتَعَدَّدَ فِي
كُلِّ مَنْ وُلِدَ .
وَإِنْ قَالَ : عَلَى بَنِيَّ دَخَلَ فِيهِ الذُّكُورُ
وَالْإِنَاثُ .
قَالَ مَالِكٌ : مَنْ تَصَدَّقَ عَلَى بَنِيهِ وَبَنِي
بَنِيهِ فَإِنَّ بَنَاتَه وَبَنَاتَ بَنَاتِهِ يَدْخُلْنَ فِي ذَلِكَ .
وَرَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنْ حَبَسَ
عَلَى بَنَاتِهِ فَإِنَّ بِنْتَ بِنْتِهِ تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَعَ بَنَاتِ
صُلْبِهِ .
وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاعَةُ أَصْحَابِهِ أَنَّ وَلَدَ
الْبِنْتِ لَا يَدْخُلُونَ فِي الْبَنِينَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَسَنِ بْنِ بِنْتِهِ : إنَّ ابْنِي هَذَا
سَيِّدٌ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ
مِنْ الْمُسْلِمِينَ } .
قُلْنَا : هَذَا مَجَازٌ ، وَإِنَّمَا أَشَارَ بِهِ إلَى
تَشْرِيفِهِ وَتَقْدِيمِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَفْيُهُ عَنْهُ ،
فَيَقُولُ الرَّجُلُ فِي وَلَدِ بِنْتِهِ :
لَيْسَ بِابْنِي ، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً مَا جَازَ
نَفْيُهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْحَقَائِقَ لَا تُنْفَى عَنْ مُسَمَّيَاتِهَا ، أَلَا
تَرَى أَنَّهُ يُنْسَبُ إلَى أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ ، وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ : إنَّهُ هَاشِمِيٌّ ؛ وَلَيْسَ بِهِلَالِيٍّ ، وَإِنْ
كَانَتْ أُمُّهُ هِلَالِيَّةً .
اللَّفْظُ الثَّالِثُ الذُّرِّيَّةُ ، وَهِيَ
مَأْخُوذَةٌ مِنْ ذَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ ، فِي الْأَشْهَرِ ، فَكَأَنَّهُمْ
وُجِدُوا عَنْهُ وَنُسِبُوا إلَيْهِ
.
وَيَدْخُلُ فِيهِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا وَلَدُ الْبَنَاتِ
، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ } .
إلَى أَنْ قَالَ : { وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى }
فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا أَبَ لَهُ .
اللَّفْظُ الرَّابِعُ الْعَقِبُ ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ
عِبَارَةٌ عَنْ شَيْءٍ جَاءَ بَعْدَ شَيْءٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ ،
يُقَالُ أَعْقَبَ اللَّهُ بِخَيْرٍ ، أَيْ جَاءَ بَعْدَ الشِّدَّةِ بِالرَّخَاءِ .
وَأَعْقَبَ الشِّيبُ السَّوَادَ .
وَالْمِعْقَابُ مِنْ النِّسَاءِ الَّتِي تَلِدُ ذَكَرًا
بَعْدَ أُنْثَى هَكَذَا أَبَدًا
.
وَعَقِبُ الرَّجُلِ وَلَدُهُ وَوَلَدُ وَلَدِهِ
الْبَاقُونَ بَعْدَهُ .
وَالْعَاقِبَةُ : الْوَلَدُ قَالَ يَعْقُوبُ : وَفِي
الْقُرْآنِ : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } .
وَقِيلَ : بَلْ الْوَرَثَةُ كُلُّهُمْ عَقِبُ .
وَالْعَاقِبَةُ : الْوَلَدُ ، كَذَلِكَ فَسَّرَهُ
مُجَاهِدٌ هَاهُنَا .
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ هَاهُنَا : هُمْ الذُّرِّيَّةُ .
وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ : هُمْ الْوَلَدُ وَوَلَدُ
الْوَلَدِ .
وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الْفِقْهِ فَقَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ : الْعَقِبُ الْوَلَدُ ذَكَرًا كَانَ أَمْ أُنْثَى .
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ : وَلَيْسَ وَلَدُ الْبَنَاتِ
عَقِبًا بِحَالٍ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ ابْنِ
الْقَاسِمِ ، عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ حَبَسَ عَلَى عَقِبِهِ وَلِعَقِبِهِ وَلَدٌ
فَإِنَّهُ يُسَاوِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ آبَائِهِمْ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى
سَوَاءٌ ، وَيُفَضَّلُ ذُو الْعِيَالِ ، وَهَذَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ إنَّهُ
الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ ، وَلَيْسَ
وَلَدُ الِابْنَةِ عَقِبًا وَلَا ابْنَةُ الِابْنَةِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ
التَّوْحِيدَ ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ، وَإِنْ كَانَ
الْمُرَادُ بِهِ الْإِمَامَةَ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا الذَّكَرُ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّ
الْأُنْثَى لَيْسَتْ بِإِمَامٍ
.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ وَأَوْضَحْنَاهُ ؛ وَإِنَّمَا
لَا يَكُونُ وَلَدُ الْبَنَاتِ عَقِبًا وَلَا وَلَدًا إذَا كَانَ الْقَوْلُ
الْأَوَّلُ : عَلَى وَلَدِي أَوْ عَقِبِي مُفْرَدًا ، وَأَمَّا إذَا تَكَرَّرَ
فَقَالَ : عَلَى وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي ، وَعَلَى عَقِبِي وَعَقِبِ عَقِبِي ،
فَإِنَّهُ يَدْخُلُ وَلَدُ الْبَنَاتِ فِيهِ حَسْبَمَا يَذْكُرُ فِيهِ ، وَلَا
يَدْخُلُ فِيمَا بَعْدَهُ مِثْلَ قَوْلِهِ : أَبَدًا ، وَمِثْلَ قَوْلِهِ مَا
تَنَاسَلُوا .
اللَّفْظُ الْخَامِسُ نَسْلِي ، وَهُوَ عِنْدَ
عُلَمَائِنَا كَقَوْلِهِ : وَلَدُ وَلَدِي فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ
الْبَنَاتِ ، وَيَجِبُ أَنْ يَدْخُلُوا ؛ لِأَنَّ " نَسْلَ " بِمَعْنَى
خَرَجَ ، وَوَلَدُ الْبَنَاتِ قَدْ خَرَجُوا مِنْهُ بِوَجْهٍ ، وَلَمْ يَقْتَرِنْ
بِهِ مَا يَخُصُّهُ ، كَمَا اقْتَرَنَ بِقَوْلِهِ : عَقِبِي مَا تَنَاسَلُوا ،
حَسْبَمَا تَقَدَّمَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
اللَّفْظُ السَّادِسُ الْآلُ ، وَهُمْ الْأَهْلُ .
وَهُوَ اللَّفْظُ السَّابِعُ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : هُمَا سَوَاءٌ ، وَهُمْ
الْعَصَبَةُ وَالْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ ، وَالْبَنَاتُ وَالْعَمَّاتُ ، وَلَا
يَدْخُلُ فِيهِ الْخَالَاتُ ، وَأَصْلُ الْأَهْلِ الِاجْتِمَاعُ ، يُقَالُ مَكَانٌ
آهِلٌ إذَا كَانَ فِيهِ جَمَاعَةٌ ، وَذَلِكَ بِالْعَصَبَةِ ، وَمَنْ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ
؛ وَالْعَصَبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْهُ ، وَهِيَ أَخَصُّ بِهِ .
وَفِي حَدِيثِ الْإِفْكِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ،
أَهْلُك وَلَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا يَعْنِي عَائِشَةَ ؛ وَلَكِنْ لَا تَدْخُلُ
الزَّوْجَةُ فِيهِ بِإِجْمَاعٍ ، وَإِنْ كَانَتْ أَصْلَ التَّأَهُّلِ ؛ لِأَنَّ
ثُبُوتَهَا لَيْسَ بِيَقِينٍ ، وَقَدْ يَتَبَدَّلُ رَبْطُهَا وَيَنْحَلُّ
بِالطَّلَاقِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : آلُ مُحَمَّدٍ كُلُّ تَقِيٍّ ،
وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْإِيمَانَ أَخَصُّ
مِنْ الْقَرَابَةِ ،
وَقَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الدَّعْوَةُ وَقُصِدَ بِالرَّحْمَةِ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ التُّونُسِيُّ : يَدْخُلُ
فِي الْأَهْلِ مَنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْأَبَوَيْنِ فَوَفَّى الِاشْتِقَاقَ
حَقَّهُ ، وَغَفَلَ عَنْ الْعُرْفِ وَمُطْلَقِ الِاسْتِعْمَالِ .
وَهَذِهِ الْمَعَانِي إنَّمَا تُبْنَى عَلَى الْحَقِيقَةِ
أَوْ الْعُرْفِ الْمُسْتَعْمَلِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ، فَهَذَانِ لَفْظَانِ .
اللَّفْظُ الثَّامِنُ الْقَرَابَةُ ، وَفِيهَا
أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ ،
وَابْنِ عَبْدُوسٍ : إنَّهُمْ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ بِالِاجْتِهَادِ ، وَلَا
يَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْبَنَاتِ ، وَلَا وَلَدُ الْخَالَاتِ .
الثَّانِي يَدْخُلُ فِيهِ أَقَارِبُهُ مِنْ قِبَلِ
أَبِيهِ وَأُمِّهِ ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ .
الثَّالِثُ : قَالَ أَشْهَبُ : يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ذِي
رَحِمٍ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
.
الرَّابِعُ قَالَ ابْنُ كِنَانَةٍ : يَدْخُلُ فِيهِ
الْأَعْمَامُ وَالْعَمَّاتُ وَالْأَخَوَاتُ وَالْخَالَاتُ وَبَنَاتُ الْأَخِ
وَبَنَاتُ الْأُخْتِ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْله
تَعَالَى : { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إلَّا الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى } قَالَ : إلَّا أَنْ تَصِلُوا قَرَابَةَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
وَقَالَ : لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلَّا كَانَتْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَابَةٌ ، فَهَذَا يَضْبِطُهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
اللَّفْظُ التَّاسِعُ : الْعَشِيرَةُ ، وَيَضْبِطُهُ
الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ : { وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بُطُونَ قُرَيْشٍ وَسَمَّاهُمْ } كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَهُمْ الْعَشِيرَةُ
الْأَقْرَبُونَ ؛ وَسِوَاهُمْ عَشِيرَةٌ فِي الْإِطْلَاقِ ، وَاللَّفْظُ يُحْمَلُ
عَلَى الْأَخَصِّ الْأَقْرَبِ بِالِاجْتِهَادِ ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ
عُلَمَائِنَا .
اللَّفْظُ الْعَاشِرُ الْقَوْمُ [ قَالَ الْقَرَوِيُّونَ
] : يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ خَاصَّةً مِنْ الْعَصَبَةِ دُونَ النِّسَاءِ .
وَالْقَوْمُ يَشْتَمِلُ عَلَى الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ ، وَإِنْ كَانَ الشَّاعِرُ قَدْ قَالَ :
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ أَخَالُ أَدْرِي أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ
وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا دَعَا قَوْمَهُ لِلنُّصْرَةِ عَنَى
الرِّجَالَ ، وَإِذَا دَعَاهُمْ لِلْحُرْمَةِ دَخَلَ فِيهِمْ الرِّجَالُ
وَالنِّسَاءُ ، فَتَعُمُّهُ الصِّفَةُ وَتَخُصُّهُ الْقَرِينَةُ .
اللَّفْظُ الْحَادِيَ عَشَرَ الْمَوَالِي : قَالَ
مَالِكٌ : يَدْخُلُ فِيهِ مَوَالِي أَبِيهِ وَابْنِهِ مَعَ مَوَالِيهِ .
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : يَدْخُلُ فِيهِ أَوْلَادُ
مَوَالِيهِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَاَلَّذِي يَتَحَصَّلُ فِيهِ أَنَّهُ
يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَرِثُهُ بِالْوَلَاءِ ؛ وَهَذِهِ فُصُولُ الْكَلَامِ
وَأُصُولُهُ مُرْتَبِطَةٌ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ ؛ وَالسُّنَّةُ الْمُبَيِّنَةُ
لَهُ وَالتَّفْرِيعُ وَالتَّتْمِيمُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْلَا
أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أَمَةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ
لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مَعْنَى
الْآيَةِ أَنَّ الدُّنْيَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْهَوَانِ بِحَيْثُ
كَانَ يَجْعَلُ بُيُوتَ الْكُفَّارِ وَدُرَجِهَا وَأَبْوَابِهَا ذَهَبًا وَفِضَّةً
، لَوْلَا غَلَبَةُ حُبِّ الدُّنْيَا عَلَى الْقُلُوبِ ، فَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى
الْكُفْرِ .
وَالْقَدَرُ الَّذِي [ جُعِلَ ] عِنْدَ الْكُفَّارِ مِنْ
الدُّنْيَا وَعِنْدَ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْأَغْنِيَاءِ إنَّمَا هُوَ
فِتْنَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً
أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّك بَصِيرًا
}
===============
ج20. كتاب : أحكام القرآن ابن العربي
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّ السَّقْفَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَيْتَ عِبَارَةٌ عَنْ
قَاعَةٍ وَجِدَارٍ وَسَقْفٍ وَبَابٍ ، فَمَنْ لَهُ الْبَيْتُ فَلَهُ أَرْكَانُهُ ،
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعُلُوَّ لَهُ إلَى السَّمَاءِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي السُّفْلِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ :
هُوَ لَهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَيْسَ لَهُ فِي بَطْنِ
الْأَرْضِ شَيْءٌ .
وَفِي مَذْهَبِنَا الْقَوْلَانِ .
وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ حَدِيثُ الْإِسْرَائِيلِيِّ
الصَّحِيحُ فِيمَا تَقَدَّمَ : أَنَّ رَجُلًا بَاعَ مِنْ رَجُلٍ دَارًا فَبَنَاهَا فَوَجَدَ
فِيهَا جَرَّةً مِنْ ذَهَبٍ ، فَجَاءَ بِهَا إلَى الْبَائِعِ ، فَقَالَ : إنَّمَا اشْتَرَيْت
الدَّارَ دُونَ الْجَرَّةِ .
وَقَالَ الْبَائِعُ : إنَّمَا بِعْت الدَّارَ بِمَا
فِيهَا .
وَكِلَاهُمَا تَدَافَعَا فَقَضَى بَيْنَهُمْ أَنْ يُزَوِّجَ
أَحَدُهُمَا وَلَدَهُ مِنْ بِنْتِ الْآخَرِ ، وَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْعُلُوَّ وَالسُّفْلَ لَهُ إلَّا
أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ بِالْبَيْعِ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فَإِذَا
بَاعَ أَحَدُهُمَا أَحَدَ الْمَوْضِعَيْنِ فَلَهُ مِنْهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ ،
وَبَاقِيهِ لِلْمُبْتَاعِ مِنْهُ
.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنَّهُ
لَذِكْرٌ لَك وَلِقَوْمِك وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي
الذِّكْرِ ؛ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : الشَّرَفُ .
الثَّانِي : الذِّكْرَى بِالْعَهْدِ الْمَأْخُوذِ فِي
الدِّينِ .
الثَّالِثُ : قَالَ مَالِكٌ : هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ
حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ
.
وَإِذَا قُلْنَا : إنَّهُ الشَّرَفُ وَالْفَضْلُ فَإِنَّ
ذَلِكَ حَقِيقَةً إنَّمَا هُوَ بِالدِّينِ ، فَإِنَّ الدُّنْيَا لَا شَرَفَ فِيهَا .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَفَاخُرَهَا بِالْأَحْسَابِ
، وَالنَّاسُ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ أَوْ كَافِرٌ شَقِيٌّ ، كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ
مِنْ تُرَابٍ ، وَإِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } .
وَقِيلَ : وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَك وَلِقَوْمِك يَعْنِي
الْخِلَافَةَ فَإِنَّهَا فِي قُرَيْشٍ لَا تَكُونُ فِي غَيْرِهِمْ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ ، مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ
لِمُسْلِمِهِمْ ، وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ } .
وَقَالَ مَالِكٌ : هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ حَدَّثَنِي
أَبِي عَنْ أَبِيهِ ، وَلَمْ أَجِدْ فِي الْإِسْلَامِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ إلَّا
بِبَغْدَادَ ، فَإِنَّ بَنِي التَّمِيمِيِّ بِهَا يَقُولُونَ : حَدَّثَنِي أَبِي
قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبِذَلِكَ شَرُفَتْ أَقْدَارُهُمْ ، وَعَظَّمَ النَّاسُ شَأْنَهُمْ وَتَهَمَّمَتْ
الْخِلَافَةُ بِهِمْ .
وَرَأَيْت بِمَدِينَةِ السَّلَامِ ابْنَيْ أَبِي
مُحَمَّدٍ رِزْقَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنَ أَبِي الْفَرَحِ بْنَ
عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ الْجَرْدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ
أَسَدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ أَكَيْنَة بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
التَّمِيمِيَّ وَكَانَا يَقُولَانِ : سَمِعْنَا أَبَانَا رِزْقَ اللَّهِ يَقُولُ :
سَمِعْت أَبِي يَقُولُ : سَمِعْت أَبِي يَقُولُ : سَمِعْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
يَقُولُ ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الْحَنَّانِ الْمَنَّانِ ، الْحَنَّانُ الَّذِي
يُقْبِلُ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ .
وَالْمَنَّانُ الَّذِي يَبْدَأُ بِالنَّوَالِ قَبْلَ
السُّؤَالِ ، وَالْقَائِلُ سَمِعْت عَلِيًّا أَكْيَنَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
جَدُّهُمْ الْأَعْلَى .
وَالْأَقْوَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : {
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِك } يَعْنِي الْقُرْآنَ ، فَعَلَيْهِ يَنْبَنِي
الْكَلَامُ ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ فِي تَنْقِيحِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { يُطَافُ
عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ
الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
وَفِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
الْجَنَّةُ مَخْصُوصَةٌ بِالْحَرِيرِ وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ لُبْسًا وَأَكْلًا
وَشُرْبًا وَانْتِفَاعًا ، وَقَطَعَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا عَنْ الْخَلْقِ
إجْمَاعًا عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الْأَحْكَامِ ، وَتَفْصِيلٍ فِي الْحَلَالِ
وَالْحَرَامِ ، فَأَمَّا الْحَرِيرُ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَقَدْ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ
فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ } .
قَالَ الرَّاوِي : وَإِنْ لَبِسَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ
لَمْ يَلْبَسْهُ هُوَ ، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَأْوِيلِ الرَّاوِي .
وَقَدْ بَيَّنَّا تَأْوِيلَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي
كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ
هَاهُنَا .
وَأَمْثَلُهَا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ مَعْنَاهُ وَلَمْ
يَتُبْ ، كَمَا قَالَ : { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَتُبْ
مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ
} ،
وَكَذَلِكَ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ فِي الْحَرِيرِ أَيْضًا بِنَصِّهِ .
الثَّانِي : وَهُوَ الَّذِي يُقْضَى [ بِنَصِّهِ ] عَلَى
الْأَوَّلِ أَنَّ مَعْنَاهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ ، وَآخِرُ الْأَمْرِ إلَى
حُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَجَمِيلِ الْمَآلِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي لِبَاسِ الْحَرِيرِ
عَلَى تِسْعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْحَرْبِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي السَّفَرِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْمَرَضِ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْغَزْوِ .
السَّادِسُ : أَنَّهُ مُبَاحٌ بِكُلِّ حَالٍ .
السَّابِعُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا الْعَلَمَ .
الثَّامِنُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ .
التَّاسِعُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ لُبْسُهُ دُونَ فَرْشِهِ
؛
قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ .
فَأَمَّا كَوْنُهُ مُحَرَّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلِقَوْلِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُلَّةِ السِّيَرَاءِ : { إنَّمَا
يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ } ،
وَشَبَهُهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْحَرْبِ
فَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الْغَزْوِ بِهِ
وَالصَّلَاةِ فِيهِ ؛ وَأَنْكَرَهُ مَالِكٌ فِيهِمَا .
وَوَجْهُهُ أَنَّ لِبَاسَ الْحَرِيرِ مِنْ السَّرَفِ
وَالْخُيَلَاءِ ، وَذَلِكَ أَمْرٌ يُبْغِضُهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا فِي
الْحَرْبِ ، فَرُخِّصَ فِيهِ مِنْ الْإِرْهَابِ عَلَى الْعَدُوِّ .
وَهَذَا تَعْلِيلُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ الشَّرِيعَةَ ،
فَظَنَّ أَنَّ النَّصْرَ بِالدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ
فَتَحَ اللَّهُ الْفُتُوحَ عَلَى قَوْمٍ مَا كَانَتْ حِلْيَةُ سُيُوفِهِمْ إلَّا
الْعَلَابِيَّ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي
السَّفَرِ فَلَمَّا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي
قُمُصِ الْحَرِيرِ فِي السَّفَرِ لِحَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَحْرُمُ إلَّا فِي
الْمَرَضِ فَلِأَجْلِ إبَاحَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَهُمَا اسْتِعْمَالَهُ عِنْدَ الْحَكَّةِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْغَزْوِ
فَلِأَجْلِ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ أَنَسٍ { إنَّهُ رَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ
وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ فِي غَزَاةٍ لَهُمَا } ، فَذِكْرُ
لَفْظِ الْغَزْوِ فِي الْعِلَّةِ ، وَذِكْرُ الصِّفَةِ فِي الْحُكْمِ تَعْلِيلٌ ،
حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ وَهَا هُنَا
كَمَا سَبَقَ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُبَاحٌ بِكُلِّ حَالٍ
فَإِنَّهُ رَأَى الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ يُبِيحُهُ لِلْحَكَّةِ ، وَفِي بَعْضِ
أَلْفَاظِ الصَّحِيحِ { لِأَجْلِ الْقَمْلِ } ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أَبَاحَهُ
لِلْحَكَّةِ وَلَا لِلْقَمْلِ ، كَالْخَمْرِ وَالْبَوْلِ ، فَإِنَّ التَّدَاوِي
بِمَا حَرَّمَ اللَّهُ لَا
يَجُوزُ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ ثَبَتَ
يَقِينًا ، وَالرُّخْصَةَ قَدْ وَرَدَتْ حَقًّا ، وَلِلْبَارِئِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَنْ يَضَعَ وَظَائِفَ التَّحْرِيمِ كَيْفَ شَاءَ مِنْ إطْلَاقٍ
وَاسْتِثْنَاءٍ ؛ وَإِنَّمَا أَذِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي ذَلِكَ لَهُمَا لِأَجْلِ الْقَمْلِ وَالْحَكَّةِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانَتْ
عِنْدَهُمْ خَمَائِصُ غَلِيظَةٌ لَا يَحْتَمِلُهَا الْبَدَنُ ، فَنَقَلَهُمْ إلَى
الْحَرِيرِ ، لِعَدَمِ دَقِيقِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ ، وَإِذَا وَجَدَ صَاحِبُ الْجَرَبِ
وَالْقَمْلِ دَقِيقَ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ لِينَ
الْحَرِيرِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ
إلَّا الْعَلَمَ ، فَلِمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ إبَاحَةِ الْعَلَمِ ،
وَتَقْدِيرُهُ بِأُصْبُعَيْنِ .
وَفِي رِوَايَةٍ بِثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ ؛ وَالْيَقِينُ
ثَلَاثُ أَصَابِعَ ، وَهُوَ الَّذِي رَآهُ مَالِكٌ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ ،
وَالْأَرْبَعُ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُكَفُّ الثَّوْبُ
بِالْحَرِيرِ كَمَا يَجُوزُ إدْخَالُ الْعَلَمِ فِيهِ ، لِمَا رَوَى
التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَتْ لَهُ فَرْوَةٌ مَكْفُوفَةٌ بِالدِّيبَاجِ } .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى
أَسْمَاءَ قَالَ : { أَخْرَجَتْ إلَيَّ أَسْمَاءَ طَيَالِسَةً كِسْرَوَانِيَّةً ،
لَهَا لِبْنَةُ دِيبَاجٍ ، وَفَرْجَاهَا مَكْفُوفَانِ بِالدِّيبَاجِ ، فَقَالَتْ :
هَذِهِ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ تَلْبَسُهَا حَتَّى قُبِضَتْ .
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَلْبَسُهَا ، فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى لِيُسْتَشْفَى بِهَا } .
وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، وَأَصْلٌ صَرِيحٌ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى
النِّسَاءِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ خَطَبَ
فَقَالَ : أَلَا لَا تُلْبِسُوا نِسَاءَكُمْ الْحَرِيرَ ؛ فَإِنِّي سَمِعْت عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ : سَمِعْت رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهِ
يَقُولُ : { لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ ، فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا
لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ } .
وَهَذَا ظَنٌّ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ يَدْفَعُهُ يَقِينُ
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ جَمَاعَةٍ ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
قَالَ : { أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُلَّةٌ
سِيَرَاءُ ، فَبَعَثَ بِهَا إلَيَّ فَلَبِسْتهَا ، فَعَرَفْت الْغَضَبَ فِي
وَجْهِهِ ، وَقَالَ : إنِّي لَمْ أَبْعَثْ بِهَا إلَيْك لِتَلْبَسَهَا ، إنَّمَا بَعَثْتهَا
إلَيْك لِتَشُقَّهَا خُمُرًا بَيْنَ النِّسَاءِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ { شَقَّقَهُ خُمُرًا بَيْنَ
الْفَوَاطِمِ } ، إحْدَاهُنَّ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَ عَلِيَّ ، وَالثَّانِيَةُ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ
بْنُ هَاشِمٍ زَوْجُ أَبِي طَالِبٍ أُمُّ عَلِيٍّ وَجَعْفَرٍ وَعَقِيلٌ وَطَالِبُ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَتْ أَسْلَمَتْ ، وَهِيَ أَوَّلُ هَاشِمِيَّةٍ وُلِدَتْ
لِهَاشِمِيٍّ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِغَيْرِهِمَا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّمَا حُرِّمَ لُبْسُهُ لَا
فَرْشُهُ ، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ فَهِيَ نَزْغَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ لَمْ يَعْلَمْ
مَا هُوَ اللِّبَاسُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا فِي الشَّرِيعَةِ ، وَالْفَرْشُ وَالْبَسْطُ
لَيْسَ لُغَةً ، وَهُوَ كَذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ فِي الشَّرِيعَةِ ؛
فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جَاءَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ فِيهِ
: { فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ
طُولِ مَا لُبِسَ } .
وَهَذَا نَصٌّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَة الْحَرِيرُ حَرَامٌ عَلَى
الرِّجَالِ ، وَحَلَالٌ لِلنِّسَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ فِي الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ
هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا } ، وَلِلْمَرْأَةِ
أَنْ تَتَّخِذَ ثِيَابَ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ ، وَلِلرَّجُلِ أَنْ
يَكُونَ مَعَهَا فِيهَا ، فَإِذَا انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ
ذَلِكَ .
وَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ { أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ حِينَ تَزَوَّجَ : اتَّخَذْت
أَنْمَاطًا ؟ قُلْت : وَأَنَّى لَنَا الْأَنْمَاطُ ؟ قَالَ : أَمَا إنَّهَا سَتَكُونُ } .
وَلَيْسَ يَلْزَمُ الرَّجُلَ أَنْ يَخْلَعَهَا عَنْ
ثِيَابِهَا ، وَلَا أَنْ يُعَرِّيَ بَيْتَهَا وَفِرَاشَهَا ، وَحِينَئِذٍ
يَسْتَمْتِعُ بِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ لُبْسُ الْخَزِّ جَائِزٌ ، وَهُوَ مَا سَدَاه حَرِيرٌ وَلَيْسَ لُحْمَتُهُ مِنْهُ ؛ وَقَدْ لَبِسَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ ، وَكَانَ يَرَى الْحَرِيرَ حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ ، وَلِهَذَا أَدْخَلَهُ مَالِكٌ عَنْهُ فِي الْمُوَطَّإِ ، وَقَدْ لَبِسَهُ عُثْمَانُ ، وَكَفَى بِهِ حُجَّةً ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فَأَمَّا اسْتِعْمَالُ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، مِنْ
رِوَايَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ لِلَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .
فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمِ } .
وَرَوَى حُذَيْفَةُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا ، وَلَا تَلْبَسُوا
الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي
الْآخِرَةِ } .
وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي اسْتِعْمَالِهَا فِي غَيْرِ
ذَلِكَ ؛ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ اسْتِعْمَالُهَا فِي
شَيْءٍ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الذَّهَبِ
وَالْحَرِيرِ : { هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا
} ؛ وَالنَّهْيُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِيهَا ، وَسَائِرُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى
تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِهَا ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْمَتَاعِ ، فَلَمْ يَجُزْ ،
أَصْلُهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ ؛ وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ اسْتِعْجَالُ
أَجْرِ الْآخِرَةِ ؛ وَذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَسَائِرُ
أَجْزَاءِ الِانْتِفَاعِ ؛ وَلِأَنَّهُ
{ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : هِيَ لَهُمْ فِي
الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ } ؛ فَلَمْ يَجْعَلْ لَنَا فِيهَا حَظًّا فِي
الدُّنْيَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ إذَا كَانَ الْإِنَاءُ
مُضَبَّبًا بِهِمَا أَوْ فِيهِ حَلْقَةٌ مِنْهُمَا ، فَقَالَ مَالِكٌ : لَا
يُعْجِبُنِي أَنْ يُشْرَبَ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ الْمِرْآةُ تَكُونُ فِيهَا
الْحَلْقَةُ مِنْ الْفِضَّةِ لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَنْظُرَ فِيهَا وَجْهَهُ ،
وَقَدْ كَانَ عِنْدَ أَنَسٍ إنَاءٌ مُضَبَّبٌ بِالْفِضَّةِ .
وَقَالَ : { لَقَدْ سَقَيْت فِيهِ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
قَالَ ابْنُ سِيرِينَ : كَانَتْ فِيهِ حَلْقَةُ حَدِيدٍ
، فَأَرَادَ أَنَسٌ أَنْ يَجْعَلَ فِيهِ حَلْقَةَ فِضَّةً ، فَقَالَ أَبُو
طَلْحَةَ : لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِمَّا صَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَتَرَكَهُ
.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ إذَا لَمْ يَجُزْ
اسْتِعْمَالُهَا لَمْ يَجُزْ اقْتِنَاؤُهَا ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ
اسْتِعْمَالُهُ لَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ كَالصَّنَمِ وَالطُّنْبُورِ .
وَفِي كُتُبِ عُلَمَائِنَا إنَّهُ يَلْزَمُ الْغُرْمُ فِي
قِيمَتِهَا لِمَنْ كَسَرَهَا ؛ وَهُوَ مَعْنَى فَاسِدٌ ؛ فَإِنَّ كَسْرَهَا
وَاجِبٌ ؛ فَلَا ثَمَنَ لِقِيمَتِهَا ؛ وَلَا يَجُوزُ تَقْوِيمُهَا فِي الزَّكَاةِ
بِحَالٍ ، وَغَيْرُ هَذَا لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي
الْمَسَائِلِ بِأَبْلَغَ مِنْ هَذَا
.
الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا
يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إلَّا مَنْ شَهِدَ
بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّهَادَةَ مَنْصِبٌ عَظِيمٌ ،
وَوِلَايَةٌ كَرِيمَةٌ ، فِيهَا تَنْفِيذُ قَوْلِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ ،
وَلَا يَكُونُ إلَّا بِمَا قَدْ عَلِمَهُ الشَّاهِدُ ، وَلَكِنَّهُ قَدْ
يُسْتَدَلُّ عَلَى الْعِلْمِ بِمَا يَكُونُ قَطْعًا عِنْدَهُ ، وَقَدْ يَكُونُ
عِنْدَهُ ظَاهِرًا ، وَذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُورَةُ الدُّخَانِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ الْآيَة
الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إنَّا كُنَّا
مُنْذِرِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
قَوْلُهُ : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } يَعْنِي أَنَّ
اللَّهَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بِاللَّيْلِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِنْهُ لَيْلِيًّا
وَمِنْهُ نَهَارِيًّا وَمِنْهُ سَفَرِيٌّ وَحَضَرِيٌّ ، وَمِنْهُ مَكِّيٌّ وَمَدَنِيٌّ
، وَمِنْهُ سَمَائِي وَأَرْضِيٌّ ، وَمِنْهُ هَوَائِيٌّ ؛ وَالْمُرَادُ هَاهُنَا
مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أُنْزِلَ جُمْلَةً فِي اللَّيْلِ إلَى
السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَحْوُ مَا فِي عِشْرِينَ عَامًا وَنَحْوِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { مُبَارَكَةٍ }
الْبَرَكَةُ : هِيَ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ ، وَسَمَّاهَا مُبَارَكَةً لِمَا يُعْطِي
اللَّهُ فِيهَا مِنْ الْمَنَازِلِ ، وَيَغْفِرُ مِنْ الْخَطَايَا ، وَيُقَسِّمُ
مِنْ الْحُظُوظِ ، وَيَبُثُّ مِنْ الرَّحْمَةِ ، وَيُنِيلُ مِنْ الْخَيْرِ ،
وَهِيَ حَقِيقَةُ ذَلِكَ وَتَفْسِيرُهُ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ تَعْيِينُ هَذِهِ اللَّيْلَةِ
: وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ
قَالَ : إنَّهَا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ ؛ وَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ الصَّادِقِ الْقَاطِعِ : { شَهْرُ رَمَضَانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ
} فَنَصَّ عَلَى أَنَّ مِيقَاتَ نُزُولِهِ رَمَضَانُ ،
ثُمَّ عَبَّرَ عَنْ زَمَانِيَّةِ اللَّيْلِ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ : { فِي لَيْلَةٍ
مُبَارَكَةٍ } فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ أَعْظَمَ
الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ ، وَلَيْسَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ
حَدِيثٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ، لَا فِي فَضْلِهَا ، وَلَا فِي نَسْخِ الْآجَالِ فِيهَا
، فَلَا تَلْتَفِتُوا إلَيْهَا
.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَأَسْرِ
بِعِبَادِي لَيْلًا إنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
السُّرَى : سَيْرُ اللَّيْلِ .
وَالْإِدْلَاجُ : سَيْرُ السَّحَرِ ، وَالْإِسْآدُ :
سَيْرُهُ كُلِّهِ .
وَالتَّأْوِيبُ : سَيْرُ النَّهَارِ .
وَيُقَالُ :
سَرَى وَأَسْرَى ، وَقَدْ يُضَافُ إلَى اللَّيْلِ ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاللَّيْلِ إذَا يَسْرِ } وَهُوَ يُسْرَى فِيهِ ،
كَمَا قِيلَ : لَيْلٌ نَائِمٌ ، وَهُوَ يُنَامُ فِيهِ ؛ وَذَلِكَ مِنْ اتِّسَاعَاتِ
الْعَرَبِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَأَسْرِ
بِعِبَادِي لَيْلًا } أَمْرٌ بِالْخُرُوجِ بِاللَّيْلِ ، وَسَيْرُ اللَّيْلِ
يَكُونُ مِنْ الْخَوْفِ ؛ وَالْخَوْفُ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ : إمَّا مِنْ
الْعَدُوِّ فَيُتَّخَذُ اللَّيْلُ سِتْرًا مُسْدَلًا ، فَهُوَ مِنْ أَسْتَارِ
اللَّهِ تَعَالَى .
وَإِمَّا مِنْ خَوْفِ الْمَشَقَّةِ عَلَى الدَّوَابِّ
وَالْأَبَدَانِ بِحَرٍّ أَوْ جَدْبٍ ، فَيُتَّخَذُ السُّرَى مَصْلَحَةً مِنْ
ذَلِكَ .
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُسْرَى وَيُدْلَجُ وَيَتَرَفَّقُ وَيَسْتَعْجِلُ قَدْرَ الْحَاجَةِ وَحَسْبَ
الْعَجَلَةِ ، وَمَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ .
وَفِي جَامِعِ الْمُوَطَّإِ : { إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ
يُحِبُّ الرِّفْقَ ، وَيَرْضَى بِهِ ، وَيُعِينُ عَلَيْهِ مَا لَا يُعِينُ عَلَى
الْعُنْفِ ، فَإِذَا رَكِبْتُمْ هَذِهِ الدَّوَابَّ الْعَجَمَ فَأَنْزِلُوهَا
مَنَازِلَهَا ، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ جَدْبَةً فَانْجُوَا عَلَيْهَا
بِنِقْيِهَا ، وَعَلَيْكُمْ بِسَيْرِ اللَّيْلِ فَإِنَّ الْأَرْضَ تَطْوِي
بِاللَّيْلِ مَا لَا تَطْوِي بِالنَّهَارِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعْرِيسَ عَلَى
الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ طُرُقُ الدَّوَابِّ وَمَأْوَى الْحَيَّاتِ } .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ
شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
الزَّقُّومُ : كُلُّ طَعَامٍ مَكْرُوهٍ ، يُقَالُ : تَزَقَّمَ الرَّجُلُ إذَا
تَنَاوَلَ مَا يَكْرَهُ .
وَيُحْكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الزَّقُّومَ هُوَ
التَّمْرُ وَالزُّبْدُ بِلِسَانِ الْبَرْبَرِ ، وَيَا لِلَّهِ وَلِهَذَا
الْقَائِلِ وَأَمْثَالِهِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْكِتَابِ بِالْبَاطِلِ
وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ، الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ
مَسْعُودٍ أَقْرَأَ رَجُلًا طَعَامَ الْأَثِيمَ فَلَمْ يَفْهَمْهَا ؛ فَقَالَ لَهُ
: طَعَامُ الْفَاجِرِ ، فَجَعَلَهَا النَّاسُ قِرَاءَةً ، حَتَّى رَوَى ابْنُ
وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : أَقْرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَجُلًا إنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ
طَعَامُ الْأَثِيمِ فَجَعَلَ الرَّجُلَ يَقُولُ : طَعَامُ الْيَتِيمِ ، فَقَالَ
لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : طَعَامُ الْفَاجِرِ .
فَقُلْت لِمَالِكٍ : أَتَرَى أَنْ يَقُولَ كَذَلِكَ ؟
قَالَ : نَعَمْ .
وَرَوَى الْبَصْرِيُّونَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُقْرَأُ
فِي الصَّلَاةِ بِمَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ .
وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ : لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ
مَالِكٍ إنَّهُ لَا يُصَلَّى بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى
بِهَا أَعَادَ صَلَاتَهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ بِالتَّفْسِيرِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا الْقَوْلَ فِي حَالِ ابْنِ مَسْعُودٍ
فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ، وَلَوْ صَحَّتْ قِرَاءَتُهُ لَكَانَتْ الْقِرَاءَةُ
بِهَا سُنَّةً ، وَلَكِنَّ النَّاسَ أَضَافُوا إلَيْهِ مَا لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ ؛ فَلِذَلِكَ
قَالَ مَالِكٌ : لَا يُقْرَأُ بِمَا يُذْكَرُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ .
وَاَلَّذِي صَحَّ عَنْهُ مَا فِي الْمُصْحَفِ
الْأَصْلِيِّ .
فَإِنْ قِيلَ : فَفِي الْمُصْحَفِ الْأَصْلِيِّ
قِرَاءَاتٌ وَاخْتِلَافَاتٌ فَبِأَيٍّ يُقْرَأُ ؟ قُلْنَا : وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ بِجَمِيعِهَا بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ ، فَمَا
وُضِعَتْ إلَّا لِحِفْظِ الْقُرْآنِ ، وَلَا كُتِبَتْ إلَّا لِلْقِرَاءَةِ بِهَا ،
وَلَكِنْ لَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يُعَيَّنَ الْمَقْرُوءُ بِهِ مِنْهَا ، فَيُقْرَأَ
بِحَرْفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَأَهْلِ الشَّامِّ
، وَأَهْلِ مَكَّةَ ، وَإِنَّمَا
يَلْزَمُهُ أَلَّا يَخْرُجَ عَنْهَا ، فَإِذَا قَرَأَ آيَةً بِحَرْفِ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ ، وَقَرَأَ الَّتِي بَعْدَهَا بِحَرْفِ أَهْلِ الشَّامِ كَانَ
جَائِزًا ، وَإِنَّمَا ضَبَطَ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ قِرَاءَتَهُمْ بِنَاءً عَلَى
مُصْحَفِهِمْ ، وَعَلَى مَا نَقَلُوهُ عَنْ سَلَفِهِمْ ، وَالْكُلُّ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ ،
فَاقْرَءُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ
} .
سُورَةُ الْجَاثِيَةِ [ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ]
الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا
لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ شَتَمَ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ ، فَهَمَّ أَنْ يَبْطِشَ بِهِ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ .
وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي إعْرَابِهَا :
اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ الْخَبَرَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ
هَذَا الْأَمْرِ ، وَجَاءَ ظَاهِرُهُ هَاهُنَا جَوَابًا مَجْزُومًا ، وَتَقْدِيرُ
الْكَلَامِ : قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا [ اغْفِرُوا ] يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا
يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَا
يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ } يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الرَّجَاءِ الْمُطْلَقِ ، عَلَى
أَنْ تَكُونَ الْأَيَّامُ عِبَارَةً عَنْ النِّعَمِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى
الْخَوْفِ ، وَيُعَبَّرُ بِالْأَيَّامِ عَنْ النِّقَمِ ، وَبِالْكُلِّ يَنْتَظِمُ
الْكَلَامُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ هَذَا مِنْ الْمَغْفِرَةِ
وَشَبَهُهُ مِنْ الصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ مَنْسُوخٌ بِآيَاتِ الْقِتَالِ ، وَقَدْ
بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ
مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا
يَعْلَمُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
الشَّرِيعَةُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الطَّرِيقِ إلَى الْمَاءِ ، ضُرِبَتْ
مَثَلًا لِلطَّرِيقِ إلَى الْحَقِّ لِمَا فِيهَا مِنْ عُذُوبَةِ الْمَوْرِدِ ،
وَسَلَامَةِ الْمَصْدَرِ ، وَحُسْنِهِ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْمُرَادِ بِهَا مِنْ
وُجُوهِ الْحَقِّ .
وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ
الْأَمْرَ الدِّينُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ السُّنَّةُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْفَرَائِضُ .
الرَّابِعُ : النِّيَّةُ .
وَهَذِهِ كَلِمَةٌ أَرْسَلَهَا مَنْ لَمْ يَتَفَطَّنْ
لِلْحَقَائِقِ ، وَالْأَمْرُ يَرِدُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا
بِمَعْنَى الشَّأْنِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ
وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ
} .
وَالثَّانِي أَنَّهُ أَحَدُ أَقْسَامِ الْكَلَامِ
الَّذِي يُقَابِلُهُ النَّهْيُ ، وَكِلَاهُمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا
هَاهُنَا ، وَتَقْدِيرُهُ ثُمَّ جَعَلْنَاك عَلَى طَرِيقَةٍ مِنْ الدِّينِ ،
وَهِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْك
أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } .
وَلَا خِلَافَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُغَايِرْ
بَيْنَ الشَّرَائِعِ فِي التَّوْحِيدِ وَالْمَكَارِمِ وَالْمَصَالِحِ ، وَإِنَّمَا
خَالَفَ بَيْنَهَا فِي الْفُرُوعِ بِحَسْبِ مَا عَلِمَهُ سُبْحَانَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ظَنَّ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْعِلْمِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مِنْ قَبْلِنَا لَيْسَ بِشَرْعٍ لَنَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفْرَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِشَرِيعَةٍ ؛ وَلَا نُنْكِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ مُنْفَرِدَانِ بِشَرِيعَةٍ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ مِنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَالْعِظَةِ ، هَلْ يَلْزَمُ اتِّبَاعُهُ أَمْ لَا ؟ وَلَا إشْكَالَ فِي لُزُومِ ذَلِكَ ، لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَقَدَّمْنَاهَا هُنَا وَفِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْبَيَانِ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا
السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ : {
اجْتَرَحُوا } مَعْنَاهُ افْتَعَلُوا مِنْ الْجُرْحِ ؛ وَضَرَبَ تَأْثِيرَ
الْجُرْحِ فِي الْبَدَنِ كَتَأْثِيرِ السَّيِّئَاتِ فِي الدِّينِ مَثَلًا ، وَهُوَ
مِنْ بَدِيعِ الْأَمْثَالِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى
هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ
كَالْفُجَّارِ } فَإِنَّهَا عَلَى مَسَاقِهَا ؛ فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهَا .
سُورَةُ الْأَحْقَافِ [ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ]
الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي
السَّمَوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ
إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي
مَسَاقِ الْآيَةِ ، وَهِيَ أَشْرَفُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا اسْتَوْفَتْ
أَدِلَّةَ الشَّرْعِ عَقْلِيَّهَا وَسَمْعِيَّهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { قُلْ
أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ
الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ } فَهَذِهِ بَيَانٌ لِأَدِلَّةِ
الْعَقْلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّوْحِيدِ ، وَحُدُوثِ الْعَالَمِ ، وَانْفِرَادِ
الْبَارِّي سُبْحَانَهُ بِالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْوُجُودِ وَالْخَلْقِ ،
ثُمَّ قَالَ : { ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا } عَلَى مَا تَقُولُونَ ، وَهَذِهِ
بَيَانٌ لِأَدِلَّةِ السَّمْعِ فَإِنَّ مُدْرِكَ الْحَقِّ إنَّمَا يَكُونُ
بِدَلِيلِ الْعَقْلِ أَوْ بِدَلِيلِ الشَّرْعِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ
مَرَاتِبِ الْأَدِلَّةِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، ثُمَّ قَالَ : { أَوْ أَثَارَةٍ
مِنْ عِلْمٍ } يَعْنِي أَوْ عِلْمٍ يُؤْثَرُ ، أَوْ يُرْوَى وَيُنْقَلُ ، وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا ؛ فَإِنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ الْحِفْظِ مِثْلُ
الْمَنْقُولِ عَنْ الْكُتُبِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَالَ قَوْمٌ : إنَّ
قَوْلَهُ : { أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } يَعْنِي بِذَلِكَ عِلْمَ الْخَطِّ ،
وَهُوَ الضَّرْبُ فِي التُّرَابِ لِمَعْرِفَةِ الْكَوَائِنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ
أَوْ فِيمَا مَضَى مِمَّا غَابَ عَنْ الضَّارِبِ ، وَأَسْنَدُوا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَصِحَّ .
وَفِي مَشْهُورِ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كَانَ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ ، فَمَنْ
وَافَقَ خَطَّهُ فَذَلِكَ } وَلَمْ يَصِحَّ أَيْضًا .
وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ
: إنَّهُ جَاءَ لِإِبَاحَةِ الضَّرْبِ بِهِ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ
يَفْعَلُهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : جَاءَ لِلنَّهْيِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَلِكَ } .
وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ طَرِيقِ النَّبِيِّ الْمُتَقَدِّمِ
فِيهِ فَإِذًا لَا سَبِيلَ إلَى الْعَمَلِ بِهِ : لَعَمْرُك مَا تَدْرِي
الضَّوَارِبُ بِالْحَصَى وَلَا زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعٌ
وَحَقِيقَتُهُ عِنْدَ أَرْبَابِهِ تَرْجِعُ إلَى صُوَرِ الْكَوَاكِبِ ، فَيَدُلُّ
مَا يَخْرُجُ مِنْهَا عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ تِلْكَ الْكَوَاكِبِ مِنْ سَعْدٍ
أَوْ نَحْسٍ يَحِلُّ بِهِمْ ، فَصَارَ ظَنًّا مَبْنِيًّا عَلَى ظَنٍّ ،
وَتَعَلَّقَا بِأَمْرٍ غَائِبٍ قَدْ دَرَسَتْ طَرِيقُهُ ، وَفَاتَ تَحْقِيقُهُ ،
وَقَدْ نَهَتْ الشَّرِيعَةُ عَنْهُ ، وَأَخْبَرَتْ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اخْتَصَّ
اللَّهُ بِهِ ، وَقَطَعَهُ عَنْ الْخَلْقِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ أَسْبَابٌ
يَتَعَلَّقُونَ بِهَا فِي دَرْكِ الْغَيْبِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ
رَفَعَ تِلْكَ الْأَسْبَابَ ، وَطَمَسَ تِلْكَ الْأَبْوَابَ ، وَأَفْرَدَ نَفْسَهُ
بِعِلْمِ الْغَيْبِ ؛ فَلَا يَجُوزُ مُزَاحَمَتُهُ فِي ذَلِكَ ، وَلَا تَحِلُّ
لِأَحَدٍ دَعْوَاهُ ، وَطَلَبُهُ عَنَاءً لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَهْيٌ ، فَإِذْ
قَدْ وَرَدَ النَّهْيُ فَطَلَبُهُ مَعْصِيَةٌ أَوْ كُفْرٌ بِحَسَبِ قَصْدِ
الطَّالِبِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى
لَمْ يُبْقِ مِنْ الْأَسْبَابِ الدَّالَّةِ عَلَى الْغَيْبِ الَّتِي أَذِنَ فِي
التَّعَلُّقِ بِهَا وَالِاسْتِدْلَالِ مِنْهَا إلَّا الرُّؤْيَا ، فَإِنَّهُ
أَذِنَ فِيهَا وَأَخْبَرَ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ ، وَكَذَلِكَ
الْفَأْلُ .
فَأَمَّا الطِّيَرَةُ وَالزَّجْرُ فَإِنَّهُ نَهَى
عَنْهُمَا .
وَالْفَأْلُ هُوَ الِاسْتِدْلَال بِمَا يَسْتَمِعُ مِنْ
الْكَلَامِ عَلَى مَا يُرِيدُ مِنْ الْأَمْرِ إذَا كَانَ حَسَنًا ، فَإِنْ سَمِعَ
مَكْرُوهًا فَهُوَ تَطَيُّرٌ ، وَأَمَرَ الشَّرْعُ بِأَنْ يَفْرَحَ بِالْفَأْلِ ،
وَيَمْضِيَ عَلَى أَمْرِهِ مَسْرُورًا بِهِ .
فَإِذَا سَمِعَ الْمَكْرُوهَ أَعْرَضَ عَنْهُ وَلَمْ
يَرْجِعْ لِأَجْلِهِ ، وَقَالَ كَمَا عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إلَّا طَيْرُك ، وَلَا خَيْرَ إلَّا
خَيْرُك ، وَلَا إلَهَ غَيْرُك
} .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْأُدَبَاءِ : الْفَأْلُ
وَالزَّجْرُ وَالْكُهَّانُ كُلُّهُمْ مُضَلِّلُونَ وَدُونَ الْغَيْبِ أَقْفَالٌ
وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ إلَّا فِي الْفَأْلِ ، فَإِنَّ الشَّرْعَ اسْتِثْنَاءٌ ،
وَأَمَرَ بِهِ ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْ هَذَا الشَّاعِرِ مَا نَظَمَهُ فِيهِ ، فَإِنَّهُ
تَكَلَّمَ بِجَهْلٍ ؛ وَصَاحِبُ الشَّرْعِ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَحَمْلُهُ
وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } .
رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً تَزَوَّجَتْ فَوَلَدَتْ
لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ زُوِّجَتْ ، فَأَتَى بِهَا عُثْمَانَ ، فَأَرَادَ
أَنْ يَرْجُمَهَا ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعُثْمَانَ : إنَّهَا إنْ
تُخَاصِمْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَخْصِمْكُمْ ؛ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : {
وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } .
وَقَالَ : " وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ
" فَالْحَمْلُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، وَالْفِصَالُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ
شَهْرًا ؛ فَخَلَّى سَبِيلَهَا
.
فِي رِوَايَةٍ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ
لَهُ ذَلِكَ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ،
وَهُوَ اسْتِنْبَاطٌ بَدِيعٌ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَيَوْمَ
يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي
حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ
الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا
كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى لَا
خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْكُفَّارِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ ، لِقَوْلِهِ
فِي أَوَّلِهَا : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ } ، أَيْ
فَيُقَالُ لَهُمْ : أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا ،
يُرِيدُ أَفْنَيْتُمُوهَا فِي الْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَمَعْصِيَتِهِ ، وَإِنَّ
اللَّهَ أَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ مِنْ الْحَلَالِ وَاللَّذَّاتِ ، وَأَمَرَ
بِاسْتِعْمَالِهَا فِي الطَّاعَاتِ ، فَصَرَفَهَا الْكُفَّارُ إلَى الْكُفْرِ
فَأَوْعَدَهُمْ اللَّهُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُمْ ، وَقَدْ يَسْتَعْمِلُهَا الْمُؤْمِنُ
فِي الْمَعَاصِي ، يَدْخُلُ فِي وَعِيدٍ آخَرَ وَتَنَالُهُ آيَةٌ أُخْرَى
بِرَجَاءِ الْمَغْفِرَةِ ، وَيَرْجِعُ أَمْرُهُ إلَى الْمَشِيئَةِ ، فَيُنَفِّذُ
اللَّهُ فِيهِ مَا عَلِمَهُ مِنْهُ وَكَتَبَهُ لَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
لَقَى جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ، وَقَدْ ابْتَاعَ لَحْمًا بِدِرْهَمٍ ،
فَقَالَ لَهُ : أَمَا سَمِعْت اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي
حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } وَهَذَا عِتَابٌ مِنْهُ لَهُ
عَلَى التَّوَسُّعِ بِابْتِيَاعِ اللَّحْمِ وَالْخُرُوجِ عَنْ جِلْفِ الْخُبْزِ
وَالْمَاءِ ؛ فَإِنَّ تَعَاطِي الطَّيِّبَاتِ مِنْ الْحَلَالِ تَسْتَشْرِي لَهَا
الطِّبَاعُ ، وَتَسْتَمِرُّ عَلَيْهَا الْعَادَةُ ، فَإِذَا فَقَدْتهَا
اسْتَسْهَلْت فِي تَحْصِيلِهَا بِالشُّبُهَاتِ ، وَحَتَّى تَقَعَ فِي الْحَرَامِ
الْمَحْضِ بِغَلَبَةِ الْعَادَةِ ، وَاسْتَشْرَاهِ الْهَوَى عَلَى النَّفْسِ الْأَمَارَةِ
بِالسُّوءِ ، فَأَخَذَ عُمَرُ الْأَمْرَ مِنْ أَوَّلِهِ ، وَحَمَاهُ مِنْ
ابْتِدَائِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ مِثْلُهُ .
وَاَلَّذِي يَضْبِطُ هَذَا الْبَابَ وَيَحْفَظُ
قَانُونَهُ : عَلَى الْمَرْءِ أَنْ
يَأْكُلَ مَا وَجَدَ طَيِّبًا كَانَ أَوْ قَفَارًا ،
وَلَا يَتَكَلَّفُ الطَّيِّبَ ، وَيَتَّخِذَهُ عَادَةً ؛ وَقَدْ كَانَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْبَعُ إذَا وَجَدَ ، وَيَصْبِرُ إذَا عَدِمَ ،
وَيَأْكُلُ الْحَلْوَى إذَا قَدَرَ عَلَيْهَا ، وَيَشْرَبُ الْعَسَلَ إذَا
اتَّفَقَ لَهُ ، وَيَأْكُلُ اللَّحْمَ إذَا تَيَسَّرَ ، وَلَا يَعْتَمِدُهُ أَصْلًا
، وَلَا يَجْعَلُهُ دَيْدَنًا ، وَمَعِيشَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَعْلُومَةٌ ، وَطَرِيقَةُ أَصْحَابِهِ بَعْدُ مَنْقُولَةٌ ؛ فَأَمَّا الْيَوْمَ
عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْحَرَامِ ، وَفَسَادِ الْحُطَامِ ، فَالْخَلَاصُ عَسِيرٌ ،
وَاَللَّهُ يَهَبُ الْإِخْلَاصَ ، وَيُعِينُ عَلَى الْخَلَاصِ بِرَحْمَتِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَدِمَ
عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ الْعِرَاقِ فَرَأَى الْقَوْمُ كَأَنَّهُمْ يَتَقَزَّزُونَ فِي
الْأَكْلِ ، فَقَالَ : مَا هَذَا يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ ؟ وَلَوْ شِئْت أَنْ
يُدَهْمَقُ لِي كَمَا يُدَهْمَقُ لَكُمْ ، وَلَكِنَّا نَسْتَبْقِي مِنْ دُنْيَانَا
مَا نَجِدُهُ فِي آخِرَتِنَا .
أَلَمِ تَسْمَعُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ
قَوْمًا فَقَالَ : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ
بِهَا } .
سُورَةُ مُحَمَّدٍ [ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ]
الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا
مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ
وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ
بِبَعْضٍ وَاَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } .
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي
إعْرَابِهَا : قَالَ الْمُعْرِبُونَ : هُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ
عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ ، تَقْدِيرُهُ فَاضْرِبُوا الرِّقَابَ ضَرْبًا .
وَعِنْدِي أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِقَوْلِك : اقْصِدُوا
ضَرْبَ الرِّقَابِ ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا
فِدَاءً } مَعْنَاهُ افْعَلُوا ذَلِكَ
.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي رِسَالَةٍ الْإِلْجَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { الَّذِينَ
كَفَرُوا } : فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ الْمُشْرِكُونَ
؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِيَةُ كُلُّ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ وَلَا ذِمَّةَ
؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِعُمُومِ الْآيَةِ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الْمُرَادِ
بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { ضَرْبَ الرِّقَابِ } قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا
أَنَّهُ الْقِتَالُ ؛ قَالَهُ السُّدِّيُّ .
الثَّانِي : أَنَّهُ قَتْلُ الْأَسِيرِ صَبْرًا .
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ فِي الْقِتَالِ ، وَهُوَ
اللِّقَاءُ ، وَإِنَّمَا نَسْتَفِيدُ قَتْلَ الْأَسِيرِ صَبْرًا مِنْ فِعْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ وَأَمْرِهِ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى .
{ حَتَّى إذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ }
قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ .
الْمَعْنَى اُقْتُلُوهُمْ حَتَّى إذَا كَثُرَ ذَلِكَ ،
وَأَخَذْتُمْ مَنْ بَقِيَ فَأَوْثِقُوهُمْ شَدًّا ؛ فَإِمَّا أَنْ تَمُنُّوا
عَلَيْهِمْ فَتُطْلِقُوهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، وَإِمَّا أَنْ تُفَادُوهُمْ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي
عِزَّةَ وَبِثُمَامَةَ .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ : هُوَ الْعِتْقُ ، وَكَذَلِكَ رَوَى
ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ فَإِنَّ الْإِسْقَاطَ
وَالتَّرْكَ مَعْنًى ، وَالْعِتْقَ مَعْنًى ، وَإِنْ كَانَ فِي الْعِتْقِ مَعْنَى
التَّرْكِ فَلَيْسَ حُكْمُهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ { حَتَّى تَضَعَ
الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } ، وَيَعْنِي ثَقَلَهَا ، وَعَبَّرَ عَنْ السِّلَاحِ بِهِ
لِثِقَلِ حَمْلِهَا ، وَفِي ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا حَتَّى يُؤْمِنُوا
وَيَذْهَبَ الْكُفْرُ ؛ قَالَهُ الْفَرَّاءُ .
الثَّانِي حَتَّى يُسْلِمَ الْخَلْقُ ؛ قَالَهُ الْكَلْبِيُّ .
الثَّالِثُ حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ؛
قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ أَوْ مُحَكَّمَةٌ ؟ فَقِيلَ : هِيَ
مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } ؛
قَالَهُ السُّدِّيُّ .
الثَّانِي : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فِي أَهْلِ
الْأَوْثَانِ فَإِنَّهُمْ لَا يُعَاهَدُونَ .
وَقِيلَ : إنَّهَا مُحَكَّمَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ ؛
قَالَهُ الضَّحَّاكُ .
الثَّالِثُ أَنَّهَا مُحَكَّمَةٌ بَعْدَ الْإِثْخَانِ ؛
قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، لِقَوْلِهِ : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ
لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ } .
وَالتَّحْقِيقُ الصَّحِيحُ أَنَّهَا مُحَكَّمَةٌ فِي
الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ فِي التَّنْقِيحِ :
اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْآيَاتِ
وَمُحْكَمَاتِهَا ؛ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهَا بِالْقِتَالِ ، وَبَيَّنَ
كَيْفِيَّتَهُ كَمَا بَيَّنَهُ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَاضْرِبُوا فَوْقَ
الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ
فِي الْأَنْفَالِ ؛ فَإِذَا تَمَكَّنَ الْمُسْلِمُ مِنْ عُنُقِ الْكَافِرِ أَجْهَزَ
عَلَيْهِ ، وَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ ضَرْبِ يَدِهِ الَّتِي يَدْفَعُ بِهَا عَنْ
نَفْسِهِ وَيَتَنَاوَلُ بِهَا قِتَالَ غَيْرِهِ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ ؛ فَإِنْ لَمْ
يَتَمَكَّنْ إلَّا ضَرَبَ فَرَسَهُ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِهَا إلَى مُرَادِهِ
فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ رَاجِلًا مِثْلَهُ أَوْ دُونَهُ ، فَإِنْ كَانَ فَوْقَهُ
قَصْدَ مُسَاوَاتِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ قَصْدَ حَطِّهِ ، وَالْمَطْلُوبُ
نَفْسُهُ ، وَالْمَآلُ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَمَرَ بِالْقِتَالِ أَوَّلًا ، وَعَلِمَ أَنْ
سَتَبْلُغُ إلَى الْإِثْخَانِ وَالْغَلَبَةِ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حُكْمَ
الْغَلَبَةِ بِشَدِّ الْوَثَاقِ ، فَيَتَخَيَّرُ حِينَئِذٍ الْمُسْلِمُونَ بَيْنَ الْمَنِّ
وَالْفِدَاءِ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّمَا لَهُمْ الْقَتْلُ
وَالِاسْتِرْقَاقُ ؛ وَهَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَهُ مَنْسُوخَةٌ .
وَالصَّحِيحُ إحْكَامُهَا ؛ فَإِنَّ شُرُوطَ النَّسْخِ
مَعْدُومَةٌ فِيهَا مِنْ الْمُعَارَضَةِ ، وَتَحْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ
الْمُتَأَخِّرِ ، وَقَوْلُهُ : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ
فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } فَلَا حُجَّةَ
فِيهِ ؛ لِأَنَّ التَّشْرِيدَ قَدْ يَكُونُ بِالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَالْقَتْلِ ،
فَإِنَّ طَوْقَ الْمَنِّ يُثْقِلُ أَعْنَاقَ الرِّجَالِ ، وَيَذْهَبُ بِنَفَاسَةِ
نُفُوسِهِمْ ، وَالْفِدَاءُ يُجْحِفُ بِأَمْوَالِهِمْ ؛ { وَلَمْ يَزَلْ الْعَبَّاسُ تَحْتَ
ثِقَلِ فِدَاءِ بَدْرٍ حَتَّى أَدَّى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ } فَقَدْ قَالَ : وَاحْصُرُوهُمْ
؛ فَأَمَرَ بِالْأَخْذِ كَمَا
أَمَرَ بِالْقَتْلِ .
فَإِنْ قِيلَ : أَمَرَ بِالْأَخْذِ لِلْقَتْلِ .
قُلْنَا : أَوْ لِلْمَنِّ وَالْفِدَاءِ .
وَقَدْ عَضَّدَتْ السُّنَّةُ ذَلِكَ كُلَّهُ ؛ فَرَوَى
مُسْلِمٌ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ مِنْ
سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ جَارِيَةً فَفَدَى بِهَا نَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ،
وَقَدْ هَبَطَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ
قَوْمٌ ، فَأَخَذَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنَّ
عَلَيْهِمْ } ، وَقَدْ مَنَّ عَلَى سِبِّي هَوَازِنَ ، وَقَتَلَ النَّضْرُ بْنُ
الْحَارِثِ صَبْرًا فَقَالَتْ أُخْتُهُ قُتَيْلَةُ تَرِثِيهِ : يَا رَاكِبًا إنَّ
الْأَثِيلَ مَظِنَّةٌ مِنْ صُبْحِ خَامِسَةٍ وَأَنْتَ مُوَفَّقُ أَبْلِغْ بِهَا
مَيِّتًا بِأَنَّ تَحِيَّةً مَا إنْ تَزَالُ بِهَا النَّجَائِبُ تَخْفِقُ مِنِّي
إلَيْهِ وَعَبْرَةً مَسْفُوحَةً جَادَتْ بِوَاكِفِهَا وَأُخْرَى تَخْنُقُ
فَلْيَسْمَعْنِ النَّضْرُ إنْ نَادَيْته إنْ كَانَ يَسْمَعُ مَيِّتٌ أَوْ يَنْطِقُ
أَمُحَمَّدٌ وَلَأَنْتَ ضِنْءُ كَرِيمَةٍ فِي قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ
مَا كَانَ ضَرَّك لَوْ مَنَنْت وَرُبَّمَا مِنْ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ
الْمُحْنَقُ لَوْ كُنْت قَابِلَ فِدْيَةٍ لَفَدَيْتُهُ بِأَعَزِّ مَا يُغْلَى بِهِ
مَنْ يُنْفِقُ وَالنَّصْرُ أَقْرَبُ مِنْ أَسَرْت قَرَابَةً وَأَحَقُّهُمْ لَوْ
كَانَ عِتْقٌ يُعْتِقُ ظَلَّتْ رِمَاحُ بَنِي أَبِيهِ تَنُوشُهُ لِلَّهِ أَرْحَامٌ
هُنَاكَ تُشَقَّقُ صَبْرًا يُقَادُ إلَى الْمَنِيَّةِ مَتْعَبًا رَسْفَ
الْمُقَيِّدِ وَهُوَ عَانٍ مُوثَقُ فَالنَّظَرُ إلَى الْإِمَامِ حَسْبَمَا
بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ
أَوْزَارَهَا } فَمَعْنَاهُ عِنْدَ قَوْمٍ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ آثَامَهَا
يُرِيدُونَ بِأَنْ يُسْلِمَ الْكُلُّ ، فَلَا يَبْقَى كَافِرٌ ؛ وَيُؤَوَّلُ
مَعْنَاهُ إلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حَتَّى يَنْقَطِعَ الْجِهَادُ ؛ وَذَلِكَ
لَا يَكُونُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ { لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ ؛ الْأَجْرُ
وَالْمَغْنَمُ } .
وَمَنْ ذَكَرَ نُزُولَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا
هُوَ لِأَجْلِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ إذَا نَزَلَ لَا يَبْقَى كَافِرٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ وَلَا جِزْيَةٌ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَبْقَى مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ ،
وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ جِزْيَةٌ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ فِي تَتْمِيمِ الْقَوْلِ :
قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ : فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ : الْمَعْنَى
فَضَرْبُ الرِّقَابِ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ، فَإِذَا
أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ .
وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ الْأَسِيرَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَجَّاجِ أَنَّهُ دَفَعَ أَسِيرًا
إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِيَقْتُلَهُ ، فَأَبَى وَقَالَ : لَيْسَ بِهَذَا
أَمَرَنَا اللَّهُ ، وَقَرَأَ : { حَتَّى إذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } .
قُلْنَا : قَدْ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَفَعَلَهُ ، وَلَيْسَ فِي تَفْسِيرِ اللَّهِ لِلْمَنِّ وَالْفِدَاءِ
مَنْعٌ مِنْ غَيْرِهِ ؛ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي الزِّنَا حُكْمَ ، الْجَلْدِ ،
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمَ الرَّجْمِ ؛
وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْ يَدِ الْحَجَّاجِ فَاعْتَذَرَ بِمَا
قَالَ ، وَرَبُّك أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : {
يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا
تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } .
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ افْتَتَحَ نَافِلَةً
مِنْ صَوْمٍ أَوْ صَلَاةٍ ، ثُمَّ أَرَادَ تَرْكَهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ
ذَلِكَ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ
؛ لِأَنَّهُ إبْطَالٌ لِعَمَلِهِ الَّذِي انْعَقَدَ لَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ تَطَوُّعٌ فَإِلْزَامُهُ
إيَّاهُ يُخْرِجُهُ عَنْ الطَّوَاعِيَةِ .
قُلْنَا : إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي
الْعَمَلِ ، فَإِذَا شُرِّعَ لَزِمَهُ كَالشُّرُوعِ فِي الْمُعَامَلَاتِ .
الثَّانِي :
أَنَّهُ لَا تَكُونُ عِبَادَةٌ بِبَعْضِ رَكْعَةٍ وَلَا
بَعْضِ يَوْمٍ فِي صَوْمٍ ؛ فَإِذَا قَطَعَ فِي بَعْضِ الرَّكْعَةِ أَوْ فِي
بَعْضِ الْيَوْمِ إنْ قَالَ : إنَّهُ يُعْتَدُّ بِهِ نَاقَضَ الْإِجْمَاعَ ، وَإِنْ
قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَقَدْ نَقَضَ الْإِلْزَامَ ، وَذَلِكَ
مُسْتَقْصَى فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَلَا
تَهِنُوا وَتَدْعُوَا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ وَاَللَّهُ
مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } .
قَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الصُّلْحِ مَعَ الْأَعْدَاءِ فِي
سُورَةِ الْأَنْفَالِ .
وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى [ هَاهُنَا ] عَنْهُ مَعَ
الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ لِلْكُفَّارِ ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ ، وَإِنَّ الصُّلْحَ
إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ لَهُ وَجْهٌ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَيْهِ ، وَيُفِيدُ
فَائِدَةً ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ ، وَلَا خَيْرَ إلَّا
خَيْرُهُ .
سُورَةُ الْفَتْحِ [ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ
الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ
أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمْ
اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ
يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
} .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْلُهُ { قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ } قِيلَ : هُمْ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ الْحُدَيْبِيَةِ
، وَهُمْ خَمْسُ قَبَائِلَ : جُهَيْنَةَ ، وَمُزَيْنَةَ ، وَأَشْجَعَ ، وَغَفَّارَ
، وَأَسْلَمَ : { سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَعْيِينِهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا
أَنَّهُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ .
الثَّانِي أَنَّهُمْ بَنُو حَنِيفَةَ مَعَ مُسَيْلِمَةَ
الْكَذَّابِ .
الثَّالِثُ أَنَّهُمْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ يَوْمَ
حُنَيْنٍ ؛ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ
بِالْيَمَامَةِ لَا بِفَارِسَ وَلَا بِالرُّومِ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : لِأَنَّ الَّذِي تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقِتَالُ حَتَّى يُسْلِمَ
مِنْ غَيْرِ قَبُولِ جِزْيَةٍ هُمْ الْعَرَبُ فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ وَالْمُرْتَدُّونَ .
فَأَمَّا فَارِسُ وَالرُّومُ فَلَا يُقَاتَلُونَ حَتَّى
يُسْلِمُوا ؛ بَلْ إنْ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ قُبِلَتْ مِنْهُمْ ، وَجَاءَتْ
الْآيَةُ مُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِخْبَارًا
بِالْغَيْبِ الْآتِي ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَدَلَّتْ عَلَى
إمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ لِأَنَّ
الدَّاعِي لَهُمْ كَانَ أَبَا بَكْرٍ فِي قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ
اسْتَخْلَفَ عُمَرُ ، وَعُمَرُ كَانَ الدَّاعِي لَهُمْ إلَى قِتَالِ فَارِسَ
وَالرُّومِ ، وَخَرَجَ عَلِيُّ تَحْتِ لِوَائِهِ [ وَأَخَذَ سَهْمَهُ مِنْ
غَنِيمَتِهِ وَاسْتَوْلَدَ حَنِيفَةُ الْحَنَفِيَّةِ وَلَدَهُ مُحَمَّدًا ] ،
وَلَوْ كَانَتْ إمَامَةٌ بَاطِلَةً وَغَنِيمَةٌ حَرَامًا لَمَا جَازَ عِنْدَهُمْ
وَطْءٌ عَلِيٍّ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ مَعْصُومٌ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعْذِبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا } وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النُّورِ بَيَانُهَا ، وَالْمُرَادُ بِهَا هَاهُنَا الْجِهَادُ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { هُمْ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ
يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ
تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ
لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
قَوْله تَعَالَى : { هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا } يَعْنِي قُرَيْشًا بِغَيْرِ
خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ ، وَالْقِصَّةَ مَخْصُوصَةٌ بِهِمْ ؛
فَلَا يَدْخُلُ غَيْرُهُمْ مَعَهُمْ ؛ مَنَعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ ،
وَمَنَعُوا الْهَدْيَ وَحَبَسُوهُ عَنْ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ؛ وَهَذَا كَانُوا
لَا يَعْتَقِدُونَهُ ، وَلَكِنَّهُمْ حَمَلَتْهُمْ الْأَنَفَةُ ، وَدَعَتْهُمْ
حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ إلَى أَنْ يَفْعَلُوا مَا لَا يَعْتَقِدُونَ دِينًا ، فَوَبَّخَهُمْ
اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَيْهِ ، وَأَدْخَلَ الْأُنْسَ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيَانِهِ وَوَعْدِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَنْ
يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا مَنْحَرُهُ .
الثَّانِي : الْحَرَمُ ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ .
وَكَانَ الْهَدْيُ سَبْعِينَ بَدَنَةً ، وَلَكِنَّ
اللَّهَ بِفَضْلِهِ جَعَلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مَحِلًّا لِلْعُذْرِ ، وَنَحَرَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فِيهِ بِإِذْنِ
اللَّهِ تَعَالَى وَقَبُولِهِ وَإِبْقَائِهِ سُنَّةً بَعْدَهُ لِمَنْ حُبِسَ عَنْ
الْبَيْتِ وَصُدَّ كَمَا صُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ } بِمَكَّةَ ، فَخِيفَ وَطْؤُكُمْ لَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَأَدْخَلْنَاكُمْ عَلَيْهِمْ عَنْوَةً ، وَمَلَكْنَاكُمْ الْبَلَدَ قَسْرًا ، وَلَكِنَّا صُنَّا مَنْ كَانَ [ فِيهَا ] يَكْتُمُ إيمَانَهُ خَوْفًا ، وَهَذَا حُكْمُ اللَّهِ وَحِكْمَتُهُ ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِيهِ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِذَا فَعَلَ بَعْضَهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ عَجْزٍ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ حِكْمَةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } تَفْصِيلٌ لِلصَّحَابَةِ ، وَإِخْبَارٌ عَنْ صِفَتِهِمْ الْكَرِيمَةِ مِنْ الْعِفَّةِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ ، وَالْعِصْمَةِ عَنْ التَّعَدِّي ، حَتَّى إنَّهُمْ لَوْ أَصَابُوا مِنْ أُولَئِكَ أَحَدًا لَكَانَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ، وَهَذَا كَمَا وُصِفَتْ النَّمْلَةُ عَنْ جُنْدِ سُلَيْمَانَ فِي قَوْلِهَا : { لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَوْ
تَزَيَّلُوا } يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا .
تَنْبِيهٌ عَلَى مُرَاعَاةِ الْكَافِرِ فِي حُرْمَةِ
الْمُؤْمِنِ إذَا لَمْ تُمْكِنْ إذَايَةُ الْكَافِرِ إلَّا بِإِذَايَةِ
الْمُؤْمِنِ .
وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ : قُلْت لِابْنِ الْقَاسِمِ :
أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ قَوْمًا فِي الْمُشْرِكِينَ فِي حِصْنٍ مِنْ حُصُونِهِمْ
حَصَرَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ ، وَفِيهِمْ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أُسَارَى
فِي أَيْدِيهِمْ ؛ أَيُحْرَقُ هَذَا الْحِصْنُ أَمْ لَا يُحْرَقُ ؟ قَالَ :
سَمِعْت مَالِكًا وَسَأَلَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [ يَرْمُونَ ] فِي
مَرَاكِبِهِمْ أَخَذُوا أُسَارَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ [ وَأَدْرَكَهُمْ أَهْلُ
الْإِسْلَامِ فَأَرَادُوا أَنْ يُحَرِّقُوهُمْ وَمَرَاكِبَهُمْ بِالنَّارِ ]
وَمَعَهُمْ الْأُسَارَى فِي مَرَاكِبِهِمْ ، وَقَالَ : فَقَالَ مَالِكٌ : لَا
أَرَى ذَلِكَ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِأَهْلِ مَكَّةَ : { لَوْ تَزَيَّلُوا
لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } .
وَقَالَ جَمَاعَةٌ : إنَّ مَعْنَاهُ لَوْ تَزَيَّلُوا
عَنْ بُطُونِ النِّسَاءِ وَأَصْلَابِ الرِّجَالِ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَنْ تَطَئُوهُمْ
فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } وَهُوَ فِي صُلْبِ الرَّجُلِ
لَا يُوطَأُ وَلَا تُصِيبُ مِنْهُ مَعَرَّةٌ ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ
صَرَّحَ فَقَالَ : { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ
تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ } وَذَلِكَ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَا فِي بَطْنِ
الْمَرْأَةِ وَصُلْبِ الرَّجُلِ ؛ وَإِنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى مِثْلِ الْوَلِيدِ
بْنِ الْوَلِيدِ ، وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ ، وَعَيَّاشٍ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ ،
وَأَبِي جُنْدُلِ بْنِ سُهَيْلٍ ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ .
وَقَدْ حَاصَرْنَا مَدِينَةً لِلرُّومِ ، فَحَبَسَ عَنْهُمْ
الْمَاءَ ، فَكَانُوا يُنْزِلُونَ الْأُسَارَى يَسْتَقُونَ لَهُمْ الْمَاءَ ،
فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى رَمْيِهِمْ بِالنَّبْلِ ، فَيَحْصُلُ لَهُمْ الْمَاءُ
بِغَيْرِ اخْتِيَارِنَا .
وَقَدْ جَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
وَالثَّوْرِيُّ
الرَّمْيَ فِي حُصُونِ الْمُشْرِكِينَ ، وَإِنْ كَانَ
فِيهِمْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ وَأَطْفَالُهُمْ ، وَلَوْ تَتَرَّسَ كَافِرٌ
بِوَلَدِ مُسْلِمٍ رُمِيَ الْمُشْرِكُ وَإِنْ أُصِيبَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا
دِيَةَ فِيهِ وَلَا كَفَّارَةَ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَلَا
دِيَةَ لَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِنَا .
وَهَذَا ظَاهِرٌ ؛ فَإِنَّ التَّوَصُّلَ إلَى الْمُبَاحِ
بِالْمَحْظُورِ لَا يَجُوزُ ، وَلَا سِيَّمَا بِرُوحِ الْمُسْلِمِ ، فَلَا قَوْلَ
إلَّا مَا قَالَهُ مَالِكٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى : { لَقَدْ
صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمَنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ
لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا
قَرِيبًا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله
تَعَالَى : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ } وَكَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَى أَنَّهُ يَدْخُلُ
مَكَّةَ وَيَطُوفُ ، فَأَنْذَرَ أَصَحَابَةَ بِالْعُمْرَةِ ، وَخَرَجَ فِي أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَمِائَتَيْ قُرَشِيٍّ ، حَتَّى أَتَى أَصْحَابُهُ ، وَبَلَغَ
الْحُدَيْبِيَةَ فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ وَصَالَحُوهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ
مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِسِلَاحِ الرَّاكِبِ بِالسَّيْفِ وَالْفَرَسِ ، وَفِي
رِوَايَةٍ : بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ وَهُوَ السَّيْفُ فِي قِرَابِهِ ،
فَسُمِّيَتْ عُمْرَةٌ الْقَضِيَّةِ ، لِمَا كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْقَضِيَّةِ ، وَسُمِّيَتْ عُمْرَةَ
الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَاهَا
مِنْ قَابِلٍ .
وَسُمِّيَتْ مَرَّةً عُمْرَةَ الْقِصَاصِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
: { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } أَيْ
اقْتَصَصْتُمْ مِنْهُمْ كَمَا صَدُّوكُمْ : فَارْتَابَ الْمُنَافِقُونَ ، وَدَخَلَ
الْهَمُّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الرُّفَعَاءِ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَجَاءَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ،
فَقَالَ لَهُ : أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: إنَّهُ دَاخِلٌ الْبَيْتَ فَمُطَّوِّفٌ بِهِ ، قَالَ : نَعَمْ ، وَلَكِنْ لَمْ
يَقُلْ الْعَامَ ، وَإِنَّهُ آتِيه فَمَطُوفٌ بِهِ .
وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ ، وَرَاجَعَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُرَاجَعَةِ أَبِي بَكْرٍ .
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : فَعَمِلْت لِذَلِكَ
أَعْمَالًا يَعْنِي مِنْ الْخَيْرِ
كَفَّارَةً لِذَلِكَ التَّوَقُّفِ الَّذِي دَاخَلَهُ
حِينَ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ صُدَّ عَنْ
الْبَيْتِ ، وَلَمْ تَخْرُجْ رُؤْيَاهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ
الْقَابِلِ دَخَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابُهُ آمَنِينَ فَحَلَّقُوا وَقَصَّرُوا .
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ { أَخَذَ مِنْ
شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَرْوَةِ
بِمِشْقَصٍ } وَهَذَا كَانَ فِي الْعُمْرَةِ لَا فِي الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَقَ فِي حَجَّتِهِ ، وَأَقَامَ
بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَلَمَّا انْقَضَتْ الثَّلَاثُ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ بِمَيْمُونَةَ
بِمَكَّةَ فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَبَنَى بِهَا بِسَرِفَ ، وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ
مَالِكٍ فِي ذِكْرِ مَيْمُونَةَ خَاصَّةً مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ
وَاَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ
رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي
وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ
فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارُ
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً
وَأَجْرًا عَظِيمًا } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى يَعْنِي
عَلَامَتَهُمْ ، وَهِيَ سِيمَا وَسِيمَيَا ، وَفِي الْحَدِيثِ { قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِغَيْرِكُمْ مِنْ الْأُمَمِ ؛
تَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ .
} رَوَيْت فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَأْوِيلِهَا : وَقَدْ
تُؤُوِّلَتْ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ .
الثَّانِي : ثَرَى الْأَرْضِ ؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ .
الثَّالِثُ تَبْدُو صَلَاتُهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ ؛
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الرَّابِعُ أَنَّهُ السَّمْتُ الْحَسَنُ ؛ قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ .
الْخَامِسُ أَنَّهُ الْخُشُوعُ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
السَّادِسُ أَنَّهُ مَنْ صَلَّى بِاللَّيْلِ أَصْبَحَ
وَجْهُهُ مُصْفَرًّا ؛ قَالَهُ الضَّحَّاكُ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : مَنْ كَثُرَتْ
صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ .
وَدَسَّهُ قَوْمٌ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ الْغَلَطِ ، وَلَيْسَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ ذِكْرٌ بِحَرْفٍ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِيمَا رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ
: { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } ذَلِكَ مِمَّا
يَتَعَلَّقُ بِجِبَاهِهِمْ مِنْ الْأَرْضِ عِنْدَ السُّجُودِ ؛ وَبِهِ قَالَ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الصُّبْحَ
صَبِيحَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ ، وَقَدْ
وَكَفَ الْمَسْجِدُ ، وَكَانَ عَلَى عَرِيشٍ ، فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَأَرْنَبَتِهِ
أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ } .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَأْمُرُ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ أَنْ
يُخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهَ ،
فَيَعْرِفُونَهُمْ بِعَلَامَةِ أَثَرِ السُّجُودِ وَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى
عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ ابْنِ آدَمَ آثَارَ السُّجُودِ } .
وَقَدْ رَوَى مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : هُوَ
الْخُشُوعُ .
قُلْت :
هُوَ أَثَرُ السُّجُودِ ، فَقَالَ : إنَّهُ يَكُونُ
بَيْنَ عَيْنَيْهِ مِثْلَ رُكْبَةِ الْعَنْزِ ، وَهُوَ كَمَا شَاءَ اللَّهُ .
وَقَالَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ : مَا مِنْ رَجُلٍ
يَطْلُبُ الْحَدِيثَ إلَّا كَانَ عَلَى وَجْهِهِ نَضْرَةٌ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي
فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا } الْحَدِيثَ .
سُورَةُ الْحُجُرَاتِ [ فِيهَا سَبْعُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ
الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي
سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ قَوْمًا
كَانُوا يَقُولُونَ لَوْ أَنْزَلَ فِي كَذَا وَكَذَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ
الْآيَةَ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّانِي : نُهُوا أَنْ يَتَكَلَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ
كَلَامِهِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
.
الثَّالِثُ لَا تَفْتَاتُوا عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
فِي أَمْرٍ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَشَاءُ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الرَّابِعُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ ذَبَحُوا
قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛
فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعِيدُوا الذَّبْحَ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى : مَنْ ذَبَحَ
قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ ؛ فَقَامَ أَبُو
بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ خَالُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
، هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ ، وَإِنِّي ذَبَحْت قَبْلَ أَنْ
أُصَلِّيَ ، وَعِنْدِي عَنَاقُ جَذَعَةٍ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ .
فَقَالَ : تُجْزِئُك ، وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ
بَعْدَك } .
الْخَامِسُ لَا تُقَدِّمُوا أَعْمَالَ الطَّاعَةِ قَبْلَ
وَقْتِهَا ؛ قَالَهُ الزَّجَّاجُ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ
الْأَقْوَالُ كُلُّهَا صَحِيحٌ تَدْخُلُ تَحْتَ الْعُمُومِ ، فَاَللَّهُ أَعْلَمُ
مَا كَانَ السَّبَبُ الْمُثِيرُ لِلْآيَةِ مِنْهَا ، وَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ دُونَ
سَبَبٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إذَا قُلْنَا : إنَّهَا
نَزَلَتْ فِي تَقْدِيمِ النَّحْرِ عَلَى الصَّلَاةِ وَذَبْحِ الْإِمَامِ سَيَأْتِي
ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْكَوْثَرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ إذَا قُلْنَا إنَّهَا
نَزَلَتْ فِي تَقْدِيمِ الطَّاعَاتِ عَلَى أَوْقَاتِهَا فَهُوَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ
كُلَّ عِبَادَةٍ مُؤَقَّتَةٍ بِمِيقَاتٍ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ ،
كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ ، إلَّا أَنَّ
الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الزَّكَاةِ لَمَّا كَانَتْ عِبَادَةً مَالِيَّةً ،
وَكَانَتْ مَطْلُوبَةً لِمَعْنًى مَفْهُومٍ ؛ وَهُوَ سَدُّ خُلَّةِ الْفَقِيرِ ، {
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْجَلَ مِنْ الْعَبَّاسِ
صَدَقَةَ عَامَيْنِ } ، وَلِمَا جَاءَ مِنْ جَمْعِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ
يَوْمِ الْفِطْرِ حَتَّى تُعْطَى لِمُسْتَحِقِّهَا يَوْمَ الْوُجُوبِ ، وَهُوَ يَوْمُ
الْفِطْرِ ؛ فَاقْتَضَى ذَلِكَ كُلُّهُ جَوَازَ تَقْدِيمِهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ
تَقْدِيمُهَا لِعَامٍ وَلِاثْنَيْنِ
.
فَإِنْ جَاءَ رَأْسُ الْعَامِ وَالنِّصَابُ بِحَالِهِ
وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا ، وَإِنْ جَاءَ رَأْسُ الْحَوْلِ وَقَدْ تَغَيَّرَ
النِّصَابُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ .
وَقَالَ أَشْهَبُ : لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى
الْحَوْلِ لَحْظَةً ، كَالصَّلَاةِ ، وَكَأَنَّهُ طَرَدَ الْأَصْلُ فِي
الْعِبَادَاتِ ، فَرَأَى أَنَّهَا إحْدَى دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ ، فَوَفَّاهَا
حَقَّهَا فِي النِّظَامِ وَحُسْنِ التَّرْتِيبِ .
وَرَأَى سَائِرُ عُلَمَائِنَا أَنَّ التَّقْدِيمَ فِيهَا
جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ ، بِخِلَافِ الْكَثِيرِ .
وَمَا قَالَهُ أَشْهَبُ أَصَحُّ ، فَإِنَّ مُفَارَقَةَ
الْيَسِيرِ الْكَثِيرَ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ صَحِيحٌ ، وَلَكِنَّهُ لِمَعَانٍ
تَخْتَصُّ بِالْيَسِيرِ دُونَ الْكَثِيرِ ، فَأَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا
فَالْيَوْمُ فِيهِ كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرُ كَالسَّنَةِ ، فَإِمَّا تَقْدِيمٌ
كُلِّيٌّ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِمَّا حِفْظُ الْعِبَادَةِ
وَقَصْرُهَا عَلَى مِيقَاتِهَا كَمَا قَالَ أَشْهَبُ وَغَيْرُهُ ، وَذَلِكَ
يَقْوَى فِي النَّظَرِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى { لَا
تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أَصْلٌ فِي تَرْكِ التَّعَرُّضِ
لِأَقْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيجَابِ اتِّبَاعِهِ
، وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ ؛ وَلِذَلِكَ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ : مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ .
فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِحَفْصَةَ : قُولِي لَهُ : إنَّ أَبَا
بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ ، وَأَنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَك لَا يُسْمِعُ النَّاسَ
مِنْ الْبُكَاءِ ، فَمُرْ عَلِيًّا فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّكُنَّ
لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ } .
يَعْنِي بِقَوْلِهِ : صَوَاحِبُ يُوسُفَ الْفِتْنَةَ
بِالرَّدِّ عَنْ الْجَائِزِ إلَى غَيْرِ الْجَائِزِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ بَيَانًا
شَافِيًا .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : {
يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ
النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ
تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي
سَبَبِ نُزُولِهَا : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { كَادَ
الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلَكَا : أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا
عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ
رَكْبُ بَنِي تَمِيمٍ ، فَأَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ أَخِي
بَنِي مُجَاشِعٍ ، وَأَشَارَ الْآخَرُ بِرَجُلٍ آخَرَ قَالَ نَافِعٌ عَنْهُ : لَا
أَحْفَظُ اسْمَهُ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ : مَا أَرَدْت إلَّا خِلَافِي .
قَالَ :
مَا أَرَدْت ذَلِكَ ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فِي
ذَلِكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا
أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } } الْآيَةَ .
قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ : فَمَا كَانَ عُمَرُ يَسْمَعُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ ]
حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ حُرْمَةُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيِّتًا كَحُرْمَتِهِ حَيًّا ، وَكَلَامُهُ الْمَأْثُورُ
بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الرِّفْعَةِ مِثْلُ كَلَامِهِ الْمَسْمُوعِ مِنْ لَفْظِهِ ؛
فَإِذَا قُرِئَ كَلَامُهُ وَجَبَ عَلَى كُلِّ حَاضِرٍ أَلَّا يَرْفَعَ صَوْتَهُ
عَلَيْهِ ، وَلَا يُعْرِضَ عَنْهُ ، كَمَا كَانَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ
عِنْدَ تَلَفُّظِهِ بِهِ ، وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى دَوَامِ
الْحُرْمَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى مُرُورِ الْأَزْمِنَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا
} .
وَكَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ الْوَحْيِ وَلَهُ مِنْ الْحُرْمَةِ مِثْلُ مَا لِلْقُرْآنِ إلَّا مَعَانِي
مُسْتَثْنَاةٌ ، بَيَانُهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : {
يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ
تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي
سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ مُصَدِّقًا إلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ ، فَلَمَّا أَبْصَرُوهُ
أَقْبَلُوا نَحْوَهُ فَهَابَهُمْ وَرَجَعَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ ارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ .
فَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَثَبَّت
وَلَا يَعْجَلَ ، فَانْطَلَقَ خَالِدٌ حَتَّى أَتَاهُمْ لَيْلًا ، فَبَعَثَ
عُيُونَهُ ، فَلَمَّا جَاءُوا أَخْبَرُوا خَالِدًا أَنَّهُمْ مُتَمَسِّكُونَ
بِالْإِسْلَامِ ، وَسَمِعُوا آذَانَهُمْ وَصَلَاتَهُمْ ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ
خَالِدٌ ، وَرَأَى صِحَّةَ مَا ذَكَرُوهُ عَادَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ } .
فَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ { : الْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالتَّأَنِّي مِنْ
اللَّهِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مَنْ ثَبَتَ فِسْقُهُ
بَطَلَ قَوْلُهُ فِي الْأَخْبَارِ إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ أَمَانَةٌ ،
وَالْفِسْقَ قَرِينَةٌ تُبْطِلُهَا ، فَأَمَّا فِي الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ
فَلَا يَبْطُلُ إجْمَاعًا .
وَأَمَّا فِي الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ
الشَّافِعِيَّ قَالَ : لَا يَكُونُ وَلِيًّا فِي النِّكَاحِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : يَكُونُ وَلِيًّا ؛
لِأَنَّهُ يَلِي مَالَهَا فَيَلِي بُضْعَهَا ، كَالْعَدْلِ ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ
فَاسِقًا فِي دِينِهِ إلَّا أَنَّ غِيرَتَهُ مُوَفَّرَةٌ ، وَبِهَا يَحْمِي
الْحَرِيمَ ، وَقَدْ يَبْذُلُ الْمَالَ وَيَصُونُ الْحُرْمَةَ ، فَإِذَا وُلِّيَ الْمَالَ
فَالْبُضْعُ أَوْلَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَمِنْ الْعَجَبِ أَنْ
يُجَوِّزَ الشَّافِعِيُّ وَنُظَرَاؤُهُ إمَامَةَ الْفَاسِقِ وَمَنْ لَا يُؤْتَمَنُ
عَلَى حَبَّةِ مَالٍ كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُؤْتَمَنَ عَلَى قِنْطَارِ دِينٍ ؛
وَهَذَا إنَّمَا كَانَ أَصْلُهُ أَنَّ الْوُلَاةَ [ الَّذِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ
بِالنَّاسِ ] لَمَّا فَسَدَتْ أَدْيَانُهُمْ ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَرْكُ الصَّلَاةِ
وَرَاءَهُمْ ، وَلَا اُسْتُطِيعَتْ إزَالَتُهُمْ صَلَّى مَعَهُمْ وَوَرَاءَهُمْ ،
كَمَا قَالَ عُثْمَانُ : الصَّلَاةُ أَحْسَنُ مَا يَفْعَلُ النَّاسُ ، فَإِذَا أَحْسَنُوا
فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إسَاءَتَهُمْ ؛ ثُمَّ كَانَ
مِنْ النَّاسِ مَنْ إذَا صَلَّى مَعَهُمْ تَقِيَّةٌ أَعَادُوا الصَّلَاةَ لِلَّهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَجْعَلُهَا صَلَاتَهُ .
وَبِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ أَقُولُ ؛ فَلَا يَنْبَغِي
لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الصَّلَاةَ خَلْفَ مَنْ لَا يَرْضَى مِنْ الْأَئِمَّةِ ،
وَلَكِنْ يُعِيدُ سِرًّا فِي نَفْسِهِ ، وَلَا يُؤْثَرُ ذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَأَمَّا أَحْكَامُهُ إنْ
كَانَ [ حَاكِمًا ] وَالِيًا فَيُنَفِّذُ مِنْهَا مَا وَافَقَ الْحَقَّ وَيَرُدُّ
مَا خَالَفَهُ ، وَلَا يَنْقُضُ حُكْمَهُ الَّذِي أَمْضَاهُ بِحَالٍ ، وَلَا
تَلْتَفِتُوا إلَى غَيْرِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ رِوَايَةٍ ثُؤْثَرُ ، أَوْ قَوْلٍ
يُحْكَى ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ كَثِيرٌ ، وَالْحَقَّ ظَاهِرٌ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ
يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا عَنْ غَيْرِهِ فِي قَوْلٍ يُبَلِّغُهُ ، أَوْ
شَيْءٍ يُوَصِّلُهُ أَوْ إذْنٍ يُعَلِّمُهُ ، إذَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَقِّ
الْمُرْسِلِ وَالْمُبَلِّغِ ؛ فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِمَا لَمْ
يُقْبَلْ قَوْلُهُ .
فَهَذَا جَائِزٌ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ
فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَصَرَّفْ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي إلَّا
الْعُدُولُ .
يَحْصُلُ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِعَدَمِهِمْ فِي ذَلِكَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ
بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى
أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا
إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } .
فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةٍ : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا
: وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ رَوَى
عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ
كَانَ بَيْنَهُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قِتَالٌ بِالسَّعَفِ وَالنِّعَالِ وَنَحْوِهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ .
الثَّانِي : مَا رَوَى سَعِيدٌ ، عَنْ قَتَادَةَ
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَتْ بَيْنَهُمَا
مُلَاحَاةٌ فِي حَقٍّ بَيْنَهُمَا ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ : لَآخُذَنَّهُ
عَنْوَةً لِكَثْرَةِ عَشِيرَتِهِ ، وَإِنَّ الْآخَرَ دَعَاهُ إلَى الْمُحَاكِمَةِ
إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبَى أَنْ يَتْبَعَهُ ، وَلَمْ
يَزَلْ بِهِمْ الْأَمْرُ حَتَّى تَدَافَعُوا ، وَتَنَاوَلَ بَعْضُهُمْ
بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ .
الثَّالِثُ مَا رَوَاهُ أَسْبَاطُ عَنْ السُّدِّيِّ
أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ تُدْعَى أُمَّ زَيْدٍ ، وَأَنَّ
الْمَرْأَةَ أَرَادَتْ أَنْ تَزُورَ أَهْلَهَا فَحَبَسَهَا زَوْجُهَا ،
وَجَعَلَهَا فِي عِلِّيَّةٍ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا ،
وَإِنَّ الْمَرْأَةَ بَعَثَتْ إلَى أَهْلِهَا ، فَجَاءَ قَوْمُهَا فَأَنْزَلُوهَا
لِيَنْطَلِقُوا بِهَا ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ فَاسْتَغَاثَ بِأَهْلِهِ ؛ فَجَاءَ
بَنُو عَمِّهِ لِيَحُولُوا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ أَهْلِهَا ؛ فَتَدَافَعُوا
وَاجْتَلَدُوا بِالنِّعَالِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ .
الرَّابِعُ مَا حَكَى قَوْمٌ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي
رَهْطِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ مِنْ الْخَزْرَجِ وَرَهْطِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ مِنْ الْأَوْسِ ، وَسَبَبُهُ { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ
عَلَى حِمَارٍ لَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ، وَهُوَ فِي مَجْلِسِ
قَوْمِهِ ، فَرَاثَ حِمَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ
سَطَعَ غُبَارُهُ ، فَأَمْسَكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ ، وَقَالَ :
لَقَدْ آذَانَا نَتِنُ حِمَارِك .
فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، وَقَالَ :
إنَّ حِمَارَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْيَبُ رِيحًا
مِنْك وَمِنْ أَبِيك ؛ فَغَضِبَ قَوْمُهُ وَاقْتَتَلُوا بِالنِّعَالِ وَالْأَيْدِي
، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ
} .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ :
الْأَخِيرَةُ ، وَالْآيَةُ تَقْتَضِي جَمِيعَ مَا رُوِيَ لِعُمُومِهَا وَمَا لَمْ
يُرْوَ ، فَلَا يَصِحُّ تَخْصِيصُهَا بِبَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الطَّائِفَةُ كَلِمَةٌ
تُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْوَاحِدِ مِنْ الْعَدَدِ ، وَعَلَى مَا لَا
يَحْصُرُهُ عَدَدٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْأَصْلُ فِي قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْعُمْدَةُ فِي حَرْبِ الْمُتَأَوِّلِينَ ، وَعَلَيْهَا عَوَّلَ الصَّحَابَةُ ، وَإِلَيْهَا لَجَأَ الْأَعْيَانُ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ ، وَإِيَّاهَا عَنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { يَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ } وَقَوْلُهُ فِي شَأْنِ الْخَوَارِجِ : { يَخْرُجُونَ عَلَى خَيْرِ فِرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ } أَوْ عَلَى حِينِ فِرْقَةٍ ، وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحُّ لِقَتْلِهِمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ ، وَكَانَ الَّذِي قَتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ [ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ ] فَتَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، وَثَبَتَ بِدَلِيلِ الدِّينِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إمَامًا ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ بَاغٍ ، وَأَنَّ قِتَالَهُ وَاجِبٌ حَتَّى يَفِيءَ إلَى الْحَقِّ ، وَيَنْقَادَ إلَى الصُّلْحِ ؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُتِلَ ، وَالصَّحَابَةُ بُرَآءُ مِنْ دَمِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ قِتَالِ مَنْ ثَارَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : لَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ خَلَفَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمَّتِهِ بِالْقَتْلِ ؛ فَصَبَرَ عَلَى الْبَلَاءِ ، وَاسْتَسْلَمَ لِلْمِحْنَةِ ، وَفَدَى بِنَفْسِهِ الْأُمَّةَ ، ثُمَّ لَمْ يُمْكِنْ تَرْكُ النَّاسِ سُدًى ، فَعُرِضَتْ الْإِمَامَةُ عَلَى بَاقِي الصَّحَابَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ عُمَرُ فِي الشُّورَى ، وَتَدَافَعُوهَا ، وَكَانَ عَلِيٌّ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ، فَقَبِلَهَا حَوْطَةً عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تُسْفَكَ دِمَاؤُهَا بِالتَّهَارُجِ وَالْبَاطِلِ ، وَيُتَخَرَّقُ أَمْرُهَا إلَى مَا لَا يَتَحَصَّلُ ، وَرُبَّمَا تَغَيَّرَ الدِّينُ ، وَانْقَضَّ عَمُودُ الْإِسْلَامِ ؛ فَلَمَّا بُويِعَ لَهُ طَلَبَ أَهْلِ الشَّامِ فِي شَرْطِ الْبَيْعَةِ التَّمْكِينَ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ وَأَخْذَ الْقَوَدِ مِنْهُمْ ، فَقَالَ لَهُمْ عَلِيٌّ : اُدْخُلُوا فِي الْبَيْعَةِ ، وَاطْلُبُوا الْحَقَّ تَصِلُوا إلَيْهِ فَقَالُوا : لَا تَسْتَحِقُّ بَيْعَةً وَقَتَلَةُ عُثْمَانَ مَعَك نَرَاهُمْ صَبَاحًا وَمَسَاءً ، فَكَانَ عَلِيٌّ فِي ذَلِكَ أَسَدَّ
رَأْيًا ، وَأَصْوَبَ قَوْلًا ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا
لَوْ تَعَاطَى الْقَوَدَ مِنْهُمْ لَتَعَصَّبَتْ لَهُمْ قَبَائِلُ ، وَصَارَتْ
حَرْبًا ثَالِثَةً فَانْتَظَرَ بِهِمْ أَنْ يَسْتَوْثِقَ الْأَمْرُ ، وَتَنْعَقِدَ
الْبَيْعَةُ الْعَامَّةُ ، وَيَقَعَ الطَّلَبُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ فِي مَجْلِسِ
الْحُكْمِ ، فَيَجْرِي الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ
لِلْإِمَامِ تَأْخِيرُ الْقِصَاصِ إذَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى إثَارَةِ الْفِتْنَةِ
أَوْ تَشْتِيتِ الْكَلِمَةِ ، وَكَذَلِكَ جَرَى لِطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ ؛
فَإِنَّهُمَا مَا خَلَعَا عَلِيًّا عَنْ وِلَايَةٍ ، وَلَا اعْتَرَضَا عَلَيْهِ
فِي دَيَّانَةٍ ، وَإِنَّمَا رَأَيَا أَنَّ الْبُدَاءَةَ بِقَتْلِ أَصْحَابِ
عُثْمَانَ أَوْلَى ، فَبَقِيَ هُوَ عَلَى رَأْيِهِ لَمْ يُزَعْزِعْهُ عَمَّا رَأَى
وَهُوَ كَانَ الصَّوَابُ كَلَامُهُمَا ، وَلَا أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ قَوْلُهُمَا .
وَكَذَلِكَ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُثْنِي عَلَى صَاحِبِهِ
[ وَيَذْكُرُ مَا فِيهِ ] وَيَشْهَدُ لَهُ بِالْجَنَّةِ ، وَيَذْكُرُ مَنَاقِبَهُ
؛ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ هَذَا لَتَبْرَأَ كُلُّ وَاحِدٍ [
مِنْهُمَا ] مِنْ صَاحِبِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ تَقَاتُلُ الْقَوْمِ عَلَى دُنْيَا ،
وَلَا بَغْيًا بَيْنَهُمْ فِي الْعَقَائِدِ ، وَإِنَّمَا كَانَ اخْتِلَافًا فِي
اجْتِهَادٍ ؛ فَلِذَلِكَ كَانَ جَمِيعُهُمْ فِي الْجَنَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : {
فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ } أَمَرَ اللَّهُ
بِالْقِتَالِ ، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ
سَقَطَ عَنْ الْبَعْضِ الْبَاقِينَ ؛ وَلِذَلِكَ تَخَلَّفَ قَوْمٌ مِنْ
الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ ، كَسَعْدِ بْنِ
أَبِي وَقَّاصٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ .
وَصَوَّبَ ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَهُمْ ،
وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعُذْرٍ قَبِلَهُ مِنْهُ .
وَيُرْوَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا أَفْضَى إلَيْهِ
الْأَمْرُ عَاتَبَ سَعْدًا عَلَى مَا فَعَلَ ، وَقَالَ لَهُ : لَمْ تَكُنْ مِمَّنْ
أَصْلَحَ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ حِينَ اقْتَتَلَا ، وَلَا مِمَّنْ قَاتَلَ
الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ ؛ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ : نَدِمْت عَلَى تَرْكِي قِتَالَ الْفِئَةِ
الْبَاغِيَةِ .
فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْكُلِّ دَرَكٌ
فِيمَا فَعَلَ ، وَإِنَّمَا كَانَ تَصَرُّفًا بِحُكْمِ الِاجْتِهَادِ وَإِعْمَالًا
بِمَا اقْتَضَاهُ الشَّرْعُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمُقْسِطِ كَلَامَ كُلِّ وَاحِدٍ
وَمُتَعَلِّقَهُ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ
.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
أَمَرَ بِالصُّلْحِ قَبْلَ الْقِتَالِ ، وَعَيَّنَ الْقِتَالَ عِنْدَ الْبَغْيِ ؛
فَعَلَ عَلِيٌّ بِمُقْتَضَى حَالِهِ فَإِنَّهُ قَاتَلَ الْبَاغِيَةَ الَّتِي
أَرَادَتْ الِاسْتِبْدَادَ عَلَى الْإِمَامِ ، وَنَقْضَ مَا رَأَى مِنْ
الِاجْتِهَادِ وَالتَّحَيُّزِ عَنْ دَارِ النُّبُوَّةِ وَمَقَرِّ الْخِلَافَةِ
بِفِئَةٍ تَطْلُبُ مَا لَيْسَ لَهَا طَلَبُهُ إلَّا بِشَرْطِهِ ، مِنْ حُضُورِ مَجْلِسِ
الْحُكْمِ وَالْقِيَامِ بِالْحُجَّةِ عَلَى الْخَصْمِ ؛ وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ
وَلَمْ يَقُدْ عَلَيَّ مِنْهُمْ مَا احْتَاجُوا إلَى مُجَاذَبَةٍ ؛ فَإِنَّ
الْكَافَّةَ كَانَتْ تَخْلَعُهُ ، وَاَللَّهُ قَدْ حَفِظَهُ مِنْ ذَلِكَ ،
وَصَانَهُ .
وَعَمِلَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمُقْتَضَى
حَالِهِ ، فَإِنَّهُ صَالَحَ حِينَ اسْتَشْرَى الْأَمْرُ عَلَيْهِ ، وَكَانَ
ذَلِكَ بِأَسْبَابٍ سَمَاوِيَّةٍ ، وَمَقَادِيرَ أَزَلِيَّةٍ ، وَمَوَاعِيدَ مِنْ
الصَّادِقِ
صَادِقَةٍ ، وَمِنْهَا مَا رَأَى مِنْ تَشَتُّتِ
آرَاءِ مَنْ مَعَهُ ، وَمِنْهَا أَنَّهُ طُعِنَ حِينَ خَرَجَ إلَى مُعَاوِيَةَ
فَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ وَدَاوَى جُرْحَهُ حَتَّى بَرِئَ ؛ فَعَلِمَ أَنَّ
عِنْدَهُ مَنْ يُنَافِقُ عَلَيْهِ وَلَا يَأْمَنُهُ عَلَى نَفْسِهِ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ رَأَى الْخَوَارِجَ أَحَاطُوا
بِأَطْرَافِهِ ، وَعَلِمَ أَنَّهُ إنْ اشْتَغَلَ بِحَرْبِ مُعَاوِيَةَ اسْتَوْلَى
الْخَوَارِجُ عَلَى الْبِلَادِ ، وَإِنْ اشْتَغَلَ بِالْخَوَارِجِ اسْتَوْلَى
عَلَيْهَا مُعَاوِيَةُ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ تَذَكَّرَ وَعْدَ جَدِّهِ الصَّادِقِ
عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ
ابْنِي هَذَا لَسَيِّدٌ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ
عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } ، وَإِنَّهُ لَمَا سَارَ الْحَسَنُ إلَى
مُعَاوِيَةَ بِالْكِتَابِ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا ، وَقَدِمَ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ بِعَشَرَةِ
آلَافٍ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ : إنِّي أَرَى كَتِيبَةً لَا
تُوَلِّي أُولَاهَا حَتَّى تُدْبِرَ أُخْرَاهَا .
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِعَمْرٍو : مَنْ لِي بِذَرَارِيّ
مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالَ : أَنَا
.
فَقَالَ :
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
سَمُرَةَ : تَلْقَاهُ فَتَقُولُ لَهُ : الصُّلْحَ ؛ فَصَالَحَهُ ، فَنَفَذَ الْوَعْدُ
الصَّادِقُ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ
يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } .
وَبِقَوْلِهِ : { الْخِلَافَةُ ثَلَاثُونَ سَنَةً ، ثُمَّ
تَعُودُ مُلْكًا } ، فَكَانَتْ لِأَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ،
وَعَلِيٌّ ، وَلِلْحَسَنِ [ مِنْهَا ] ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ لَا تَزِيدُ [ يَوْمًا
] وَلَا تَنْقُصُ يَوْمًا ، فَسُبْحَانَ الْمُحِيطِ لَا رَبَّ غَيْرُهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
بِالْعَدْلِ } وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ فَإِنَّ الْعَدْلَ قِوَامُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا
؛ { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ
الْمُقْسِطِينَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ يَمِينِ
الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ ؛ وَهُمْ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ بَيْنَ
النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا } .
وَمِنْ الْعَدْلِ فِي صُلْحِهِمْ أَلَّا يُطَالِبُوا
بِمَا جَرَى بَيْنَهُمْ مِنْ دَمٍ وَلَا مَالٍ فَإِنَّهُ تَلَفٌ عَلَى تَأْوِيلٍ .
وَفِي طَلَبِهِمْ لَهُ تَنْفِيرٌ لَهُمْ عَنْ الصُّلْحِ
وَاسْتِشْرَاءٌ فِي الْبَغْيِ .
وَهَذَا أَصْلٌ فِي الْمَصْلَحَةِ ؛ وَقَدْ قَالَ
لِسَانُ الْأُمَّةِ : إنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ فِي قِتَالِ الصَّحَابَةِ
التَّعَرُّفُ مِنْهُمْ لِأَحْكَامِ قِتَالِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ ؛ إذْ كَانَتْ
أَحْكَامُ قِتَالِ التَّنْزِيلِ قَدْ عُرِفَتْ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلِهِ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ : { فَإِنْ بَغَتْ
إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى } بِنَاءُ ( ب غ ي ) فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الطَّلَبُ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } ؛ وَوَقَعَ التَّعْبِيرُ بِهِ
هَاهُنَا عَمَّنْ يَبْغِي مَا لَا يَنْبَغِي عَلَى عَادَةِ اللُّغَةِ فِي
تَخْصِيصِهِ بِبَعْضِ مُتَعَلِّقَاتِهِ وَهُوَ الَّذِي يَخْرُجُ عَلَى الْإِمَامِ
يَبْغِي خَلْعَهُ أَوْ يَمْنَعُ مِنْ الدُّخُولِ فِي طَاعَةٍ لَهُ ، أَوْ يَمْنَعُ
حَقًّا يُوجِبُهُ عَلَيْهِ بِتَأْوِيلٍ ؛ فَإِنْ جَحَدَهُ فَهُوَ مُرْتَدٌّ .
وَقَدْ قَاتَلَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
الْبُغَاةَ وَالْمُرْتَدِّينَ ؛ فَأَمَّا الْبُغَاةُ فَهُمْ الَّذِينَ مَنَعُوا الزَّكَاةَ
بِتَأْوِيلٍ ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا سَقَطَتْ بِمَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَأَمَّا الْمُرْتَدُّونَ فَهُمْ الَّذِينَ
أَنْكَرُوا وُجُوبَهَا ، وَخَرَجُوا عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِدَعْوَى نُبُوَّةِ
غَيْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَاَلَّذِي قَاتَلَ عَلِيٌّ طَائِفَةٌ أَبَوْا الدُّخُولَ
فِي بَيْعَتِهِ ، وَهُمْ أَهْلُ الشَّامِ ؛ وَطَائِفَةٌ خَلَعَتْهُ ، وَهُمْ
أَهْلُ النَّهْرَوَانِ .
وَأَمَّا أَصْحَابُ الْجَمَلِ فَإِنَّمَا خَرَجُوا
يَطْلُبُونَ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الْفِرْقَتَيْنِ .
وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْجَمِيعِ أَنْ يَصِلُوا إلَيْهِ
وَيَجْلِسُوا بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَيُطَالِبُوهُ بِمَا رَأَوْا أَنَّهُ عَلَيْهِ ؛
فَلَمَّا تَرَكُوا ذَلِكَ بِأَجْمَعِهِمْ صَارُوا بُغَاةً بِجُمْلَتِهِمْ ، فَتَنَاوَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ جَمِيعَهُمْ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي
رِوَايَةِ سَحْنُونٍ : إنَّمَا يُقَاتِلُ مَعَ الْإِمَامِ الْعَدْلِ سَوَاءٌ كَانَ
الْأَوَّلَ أَوْ الْخَارِجَ عَلَيْهِ ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ
فَأَمْسِكْ عَنْهُمَا إلَّا أَنْ تُرَادَ بِنَفْسِك أَوْ مَالِكَ أَوْ ظُلْمَ الْمُسْلِمِينَ
فَادْفَعْ ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : لَا تُقَاتِلُ إلَّا مَعَ
إمَامٍ [ عَادِلٍ ] يُقَدِّمُهُ أَهْلُ الْحَقِّ لِأَنْفُسِهِمْ ، وَلَا يَكُونُ
إلَّا قُرَشِيًّا ، وَغَيْرُهُ لَا حُكْمَ لَهُ ، إلَّا أَنْ يَدْعُو إلَى
الْإِمَامِ الْقُرَشِيِّ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ ؛
لِأَنَّ الْإِمَامَةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِقُرَشِيٍّ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ ، عَنْ مَالِكٍ : إذَا
خَرَجَ عَلَى الْإِمَامِ الْعَدْلِ خَارِجٌ وَجَبَ الدَّفْعُ عَنْهُ ، مِثْلُ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، فَأَمَّا غَيْرُهُ فَدَعْهُ يَنْتَقِمُ اللَّهُ
مِنْ ظَالِمٍ بِمِثْلِهِ ثُمَّ يَنْتَقِمُ مِنْ كِلَيْهِمَا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا
بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ
الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا
} .
قَالَ مَالِكٌ : إذَا بُويِعَ لِلْإِمَامِ فَقَامَ عَلَيْهِ
إخْوَانُهُ قُوتِلُوا إذَا كَانَ الْأُوَلُ عَدْلًا ، فَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَلَا
بَيْعَةَ لَهُمْ إذَا كَانَ بُويِعَ لَهُمْ عَلَى الْخَوْفِ .
قَالَ مَالِكٌ : وَلَا بُدَّ مِنْ إمَامٍ بَرٍّ أَوْ
فَاجِرٍ .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثٍ يَرْوِيه
مُعَاوِيَةُ { : إذَا كَانَ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَتَانِ فَاقْتُلُوا أَحَدَهُمَا ؛
وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : لَا تَكْرَهُوا الْفِتْنَةَ فَإِنَّهَا
حَصَادُ الْمُنَافِقِينَ } .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ لَا يُقْتَلُ أَسِيرُهُمْ
، وَلَا يُتْبَعُ مُنْهَزِمُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُهُمْ لَا
قَتْلُهُمْ .
وَأَمَّا الَّذِي يُتْلِفُونَهُ مِنْ الْأَمْوَالِ
فَعِنْدَنَا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِي نَفْسٍ وَلَا مَالٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَضْمَنُونَ ،
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إتْلَافٌ
بِعِدْوَانٍ ، فَلْيَلْزَمْ الضَّمَانَ
.
وَالْمُعَوَّلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عِنْدَنَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ
مِنْ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي خُرُوجِهِمْ لَمْ يَتْبَعُوا
مُدْبِرًا وَلَا ذَفَّفُوا عَلَى جَرِيحٍ ، وَلَا قَتَلُوا أَسِيرًا ، وَلَا
ضَمِنُوا نَفْسًا وَلَا مَالًا ؛ وَهُمْ الْقُدْوَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
كَانَ فِي خُرُوجِهِمْ مِنْ الْحِكْمَةِ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ قِتَالِ الْبُغَاةِ
بِخِلَافِ الْكَفَرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ إنْ وَلَّوْا قَاضِيًا
، وَأَخَذُوا زَكَاةً ، وَأَقَامُوا حَقًّا بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ جَازَ ؛ قَالَهُ
مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ
.
وَقَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ : لَا يَجُوزُ بِحَالٍ .
وَرُوِيَ عَنْ أَصْبَغَ أَنَّهُ جَائِزٌ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَقَوْلِ ابْنُ
الْقَاسِمِ .
وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِغَيْرِ
حَقٍّ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ تَوْلِيَتُهُ ، فَلَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ كَانُوا
بُغَاةً .
الْعُمْدَةُ لَنَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ
الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
[ فِي خُرُوجِهِمْ ] لَمْ يَتْبَعُوا مُدْبِرًا ، وَلَا
ذَفَّفُوا عَلَى جَرِيحٍ ، وَلَا قَتَلُوا أَسِيرًا ، وَلَا ضَمِنُوا نَفْسًا
وَلَا مَالًا ، وَهُمْ الْقُدْوَةُ
.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا انْجَلَتْ الْفِتْنَةُ ،
وَارْتَفَعَ الْخِلَافُ بِالْهُدْنَةِ وَالصُّلْحِ لَمْ يَعْرِضُوا لِأَحَدٍ
مِنْهُمْ فِي حُكْمٍ .
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : الَّذِي عِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ ؛ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ لَمَّا
انْجَلَتْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الْبَاغِي ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ
يَعْتَرِضُهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَأَهْلُ مَا وَرَاءِ النَّهْرِ وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إمَامٌ ، وَلَمْ يَعْتَرِضْ لَهُمْ حُكْمٌ ، قُلْنَا : وَلَا
سَمِعْنَا أَنَّهُمْ كَانَ لَهُمْ حُكْمٌ ؛ وَإِنَّمَا كَانُوا فِتْنَةً
مُجَرَّدَةً ، حَتَّى انْجَلَتْ مَعَ الْبَاغِي لَسَكَتَ عَنْهُمْ لِئَلَّا
يُعَضِّدَ بِاعْتِرَاضِهِ مَنْ خَرَجُوا عَلَيْهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا
تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ
لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى النَّبْزُ
هُوَ اللَّقَبُ فَقَوْلُهُ : لَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ، أَيْ لَا تَدَاعَوْا
بِالْأَلْقَابِ .
وَاللَّقَبُ هُنَا اسْمٌ مَكْرُوهٌ عِنْدَ السَّامِعِ .
وَكَذَلِكَ يُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، وَلِكُلِّ رَجُلٍ اسْمَانِ وَثَلَاثَةٌ
؛ فَكَانَ يُدْعَى بِاسْمٍ مِنْهَا فَيَغْضَبُ ؛ فَنَزَلَتْ : { وَلَا تَنَابَزُوا
بِالْأَلْقَابِ } ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : { بِئْسَ الِاسْمُ
الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } يَعْنِي أَنَّك إذَا ذَكَرْت صَاحِبَك بِمَا
يَكْرَهُ فَقَدْ آذَيْته ؛ وَإِذَايَةُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ ، وَذَلِكَ لَا
يَجُوزُ .
وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ عِنْدَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَازَعَهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ لَهُ
أَبُو ذَرٍّ : يَا ابْنَ الْيَهُودِيَّةِ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
مَا تَرَى مِنْ هَاهُنَا مِنْ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ ، مَا أَنْتَ بِأَفْضَلَ مِنْهُ
} يَعْنِي إلَّا بِالتَّقْوَى ، وَنَزَلَتْ : { وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ
مُسْتَثْنَى مِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِعْمَالُ ، كَالْأَعْرَجِ وَالْأَحْدَبِ
، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ كَسْبٌ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ عَلَيْهِ ،
فَجَوَّزَتْهُ الْأُمَّةُ ، فَاتَّفَقَ عَلَى قَوْلِهِ أَهْلُ الْمِلَّةِ .
وَقَدْ وَرَدَ لَعَمْرُ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ فِي
كُتُبِهِمْ مَا لَا أَرْضَاهُ ، كَقَوْلِهِمْ فِي صَالِحٍ جَزَرَةٌ ؛ لِأَنَّهُ
صَحَّفَ زَجَرَهُ فَنُقِّبَ بِهَا ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي مُحَمَّدِ بْنُ
سُلَيْمَانَ الْحَضْرَمِيِّ مُطَيَّنٌ ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي طِينٍ ، وَنَحْوِ
ذَلِكَ مِمَّا غَلَبَ عَلَى الْمُتَأَخِّرِينَ .
وَلَا أَرَاهُ سَائِغًا فِي الدِّينِ ، وَقَدْ كَانَ
مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنُ رَبَاحٍ الْمِصْرِيُّ يَقُولُ : لَا أَجْعَلُ أَحَدًا
صَغَّرَ اسْمَ أَبِي فِي حِلٍّ
.
وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى اسْمِ أَبِيهِ التَّصْغِيرَ
بِضَمِّ الْعَيْنِ .
وَاَلَّذِي يَضْبِطُ هَذَا كُلَّهُ مَا قَدَّمْنَاهُ
مِنْ الْكَرَاهَةِ لِأَجْلِ الْإِذَايَةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : {
يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ
الظَّنِّ إثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ
أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا
اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي
حَقِيقَةِ الظَّنِّ .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ حَقِيقَةَ الظَّنِّ
تَجْوِيزُ أَمْرَيْنِ فِي النَّفْسِ لِأَحَدِهِمَا تَرْجِيحٌ عَلَى الْآخَرِ .
وَالشَّكُّ عِبَارَةٌ عَنْ اسْتِوَائِهِمَا .
وَالْعِلْمُ هُوَ حَذْفُ أَحَدِهِمَا وَتَعْيِينُ
الْآخَرِ .
وَقَدْ حَقَقْنَاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَنْكَرَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ
الْمُبْتَدِعَةِ تَعَبُّدَ اللَّهِ تَعَالَى بِالظَّنِّ ، وَجَوَازُ الْعَمَلِ
بِهِ تَحَكُّمٌ فِي الدِّينِ ، وَدَعْوَى فِي الْعُقُولِ ؛ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ
أَصْلٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الْبَارِي تَعَالَى لَمْ يَذُمَّ جَمِيعَهُ ،
وَإِنَّمَا وَرَدَ الذَّمُّ كَمَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا فِي بَعْضِهِ .
وَمُتَعَلِّقُهُمْ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ،
فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا ،
وَلَا تَقَاطَعُوا ، وَلَا تَدَابَرُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا } .
وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ فِي
الشَّرِيعَةِ قِسْمَانِ : مَحْمُودٌ ، وَمَذْمُومٌ ؛ فَالْمَحْمُودُ بِدَلَالَةِ
قَوْلِهِ : { إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ } ، وَقَوْلُهُ : { لَوْلَا إذْ
سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا } .
{ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسَبُهُ
كَذَا ، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا } .
وَعِبَادَاتُ الشَّرْعِ وَأَحْكَامُهُ ظَنِّيَّةٌ فِي
الْأَكْثَرِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ
تُفَرِّقُ بَيْنَ الْغَبِيِّ وَالْفَطِنِ .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : {
يَأَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ
{ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَطَبَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ
عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا ، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ : بَرٌّ
تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ ؛ وَالنَّاسُ
بَنُو آدَمَ ، وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
يَأَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } } .
وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى
فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى
، وَلَوْ شَاءَ لَخَلَقَهُ دُونَهُمَا كَخَلْقِهِ لِآدَمَ ، أَوْ دُونَ ذَكَرٍ
كَخَلْقِهِ لِعِيسَى ، أَوْ دُونَ أُنْثَى كَخَلْقِهِ لِحَوَّاءَ مِنْ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ .
وَهَذَا الْجَائِزُ فِي الْقُدْرَةِ لَمْ يَرِدْ بِهِ الْوُجُودُ .
وَقَدْ جَاءَ أَنَّ آدَمَ خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُ
حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعٍ انْتَزَعَهَا مِنْ أَضْلَاعِهِ ، فَلَعَلَّهُ هَذَا
الْقِسْمُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةَ الْخَلْقِ مِنْ مَاءِ
الذَّكَرِ وَمَاءِ الْأُنْثَى بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى أَنْسَابًا وَأَصْهَارًا وَقَبَائِلَ وَشُعُوبًا ، وَخَلَقَ لَهُمْ مِنْهَا التَّعَارُفَ ، وَجَعَلَ لَهُمْ بِهَا التَّوَاصُلَ ، لِلْحِكْمَةِ الَّتِي قَدَّرَهَا ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا ؛ فَصَارَ كُلُّ أَحَدٍ يَجُوزُ نِسْبَةً ، فَإِذَا نَفَاهُ عَنْهُ [ أَحَدٌ ] اسْتَوْجَبَ الْحَدَّ يَقْذِفُهُ لَهُ ، مِثْلُ أَنْ يَنْفِيَهُ عَنْ رَهْطِهِ وَجِنْسِهِ ، كَقَوْلِهِ لِلْعَرَبِيِّ : يَا عَجَمِيِّ : يَا عَرَبِيِّ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ بِهِ النَّفْيُ حَقِيقَةً ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ : { إنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } : قَدْ بَيَّنَّا الْكَرَمَ ،
وَأَوْضَحْنَا حَقِيقَتَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ صَحِيحِ الْحَدِيثِ .
وَفِي صَحِيحِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْحَسَبُ الْمَالُ ، وَالْكَرَمُ التَّقْوَى } .
ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى قَوْله تَعَالَى : { إنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنُ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ
يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ } .
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ
أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي } .
وَلِذَلِكَ كَانَ أَكْرَمَ الْبَشَرِ عَلَى اللَّهِ
تَعَالَى .
وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي لَحَظَ مَالِكٌ فِي
الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ .
رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مَالِكٍ يُزَوَّجُ
الْمَوْلَى الْعَرَبِيَّةَ .
وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : يُرَاعَى
الْحَسَبُ وَالْمَالُ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ
بْنَ عُقْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَنَّى سَالِمًا ، وَأَنْكَحَهُ هِنْدَ
بِنْتَ أَخِيهِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ
مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَضُبَاعَةُ بِنْتُ الزُّبَيْرِ كَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ
بْنِ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيِّ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْمَوْلَى
الْعَرَبِيَّةَ .
وَإِنَّمَا تُرَاعَى الْكَفَاءَةُ فِي الدِّينِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَى سَهْلُ بْنُ
سَعْدٍ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَرَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ : مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ قَالُوا : حَرِيٌّ
إنْ خَطَبَ أَنْ يَنْكِحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ أَنْ
يُسْمَعَ .
قَالَ : ثُمَّ سَكَتَ .
فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ :
مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أَلَّا يَنْكِحَ ،
وَإِنْ شَفَعَ أَلَّا يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ
أَلَّا يُسْمَعَ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلِ هَذَا } .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِمَالِهَا وَجَمَالِهَا وَدِينِهَا وَفِي
رِوَايَةٍ : وَحَسَبِهَا ، فَعَلَيْك بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك } .
وَقَدْ خَطَبَ سَلْمَانُ إلَى أَبِي بَكْرٍ ابْنَتَهُ
فَأَجَابَهُ وَخَطَبَ إلَى عُمَرَ ابْنَتَهُ فَالْتَوَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ سَأَلَهُ
أَنْ يَنْكِحَهَا ، فَلَمْ يَفْعَلْ سَلْمَانُ ، { وَخَطَبَ بِلَالٌ بِنْتَ
الْبُكَيْرِ فَأَبَى إخْوَتُهَا ، فَقَالَ بِلَالٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ : مَاذَا
لَقِيت مِنْ بَنِي الْبُكَيْرِ ، خَطَبْت إلَيْهِمْ أُخْتَهمْ فَمَنَعُونِي وَآذُونِي .
فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ أَجْلِ بِلَالٍ ؛ فَبَلَغَهُمْ الْخَبَرُ ، فَأَتَوْا أُخْتَهُمْ ، فَقَالُوا
: مَاذَا لَقِينَا مِنْ سَبَبِك ، غَضِبَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ بِلَالٍ .
فَقَالَتْ أُخْتُهُمْ أَمْرِي بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَزَوَّجَهَا بِلَالًا } ، وَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَبِي هِنْدٍ حِينَ حَجَمَهُ :
{ أَنْكِحُوا أَبَا هِنْدٍ وَأَنْكِحُوا إلَيْهِ وَهُوَ مَوْلَى بَنِي بَيَاضَةَ } .
سُورَةُ ق [ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ ] وَهِيَ
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنْ
اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي الصَّحِيحِ
عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : { كُنَّا جُلُوسًا لَيْلَةً مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ
أَرْبَعَ عَشْرَةَ ، فَقَالَ : إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ
هَذَا ، لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ ؛ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَلَّا تَغْلِبُوا
عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا ؛ ثُمَّ
قَرَأَ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
الْغُرُوبِ } } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : {
وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ } فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ هُوَ
تَسْبِيحُ اللَّهِ فِي اللَّيْلِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا صَلَاةُ اللَّيْلِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ .
الرَّابِعُ أَنَّهَا صَلَاةُ الْعِشَاءِ الْأَخِيرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُ [ مَنْ قَالَ ]
إنَّهُ التَّسْبِيحُ ، يُعَضِّدُهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ : { مَنْ تَعَارَّ مِنْ
اللَّيْلِ فَقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ
الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، سُبْحَانَ
اللَّهِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ
، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ كُفِّرَ عَنْهُ وَغُفِرَ لَهُ } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا صَلَاةُ اللَّيْلِ
فَإِنَّ الصَّلَاةَ تُسَمَّى تَسْبِيحًا لِمَا فِيهَا مِنْ تَسْبِيحِ اللَّهِ ، وَمِنْهُ
سُبْحَةُ الضُّحَى وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهَا صَلَاةُ الْفَجْرِ و الْعِشَاءِ
فَلِأَنَّهُمَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ ، وَالْعِشَاءُ أَوْضَحُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى {
وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ النَّوَافِلُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ ذِكْرُ اللَّهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ؛
وَهُوَ الْأَقْوَى فِي النَّظَرِ
.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ الْمَكْتُوبَةِ : { لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ ، وَلَهُ الْحَمْدُ ، وَهُوَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت ، وَلَا مُعْطِيَ
لِمَا مَنَعْت ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ } .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الصُّبْحِ ق ،
فَلَمَّا انْتَهَى إلَى قَوْله تَعَالَى : { وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ
نَضِيدٌ } رَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ } .
وَثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ أَبَا
وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ مَاذَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى ؟ فَقَالَ : { كَانَ يَقْرَأُ بِ قَ وَالْقُرْآنِ
الْمَجِيدِ وَ اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ
} .
سُورَةُ الذَّارِيَاتِ [ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى :
{ كَانُوا قَلِيلًا مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْهُجُوعُ : النَّوْمُ ، وَذَلِكَ مِنْ أَحَدِ
وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ الْإِقْبَالُ [ عَلَى الْأُنْسِ بِالْحَدِيثِ ، وَكَانَتْ
عَادَتَهُمْ ، أَوْ ] عَلَى الْوَطْءِ
.
الثَّانِي الْإِقْبَالُ عَلَى الصَّلَاةِ ، وَهُوَ
الصَّحِيحُ .
وَالْأَوَّلُ [ ضَعِيفٌ وَالثَّانِي ] بَاطِلٌ .
وَلَوْلَا مَخَافَتُنَا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ
مُتَعَلِّقٌ يَوْمًا مَا ذَكَرْنَاهُ لِبُطْلَانِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ تَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ
فِي قَوْلِهِ : { كَانُوا قَلِيلًا مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } لِأَجْلِ
أَنَّ ظَاهِرَهُ يُعْطِي أَنَّ نَوْمَهُمْ بِاللَّيْلِ كَانَ قَلِيلًا ، وَلَمْ
يَكُنْ كَذَلِكَ .
وَإِنَّمَا مَدَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ يُصَلِّي قَلِيلًا
؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ ؛ وَإِنَّمَا [ مَعْنَاهُ ] كَانُوا يَهْجَعُونَ
قَلِيلًا مِنْ اللَّيْلِ ، أَيْ يَسْهَرُونَ قَلِيلًا .
وَمَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى السَّهَرَ بِالْقَلِيلِ ؛
لِأَنَّ عَمَلَ الْعِبَادِ كُلَّهُ قَلِيلٌ .
وَفِي قَوْلِهِ ( مَا ) اخْتِلَافٌ بَيْنَ النُّحَاةِ :
قَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ صِلَةٌ
.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ مَعَ الْفِعْلِ بِتَأْوِيلِ
الْمَصْدَرِ ؛ وَالْكُلُّ صَحِيحٌ
.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْمُلْجِئَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ صَلَاةُ اللَّيْلِ مَمْدُوحَةٌ شَرْعًا إجْمَاعًا ، وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ ، لِأَجْلِ فَرَاغِ الْقَلْبِ وَضَمَانِ الْإِجَابَةِ ، وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : {
وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } .
رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْله تَعَالَى :
{ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } قَالَ : هُوَ الرَّجُلُ يَمُدُّ
الصَّلَاةَ إلَى السَّحَرِ .
قَالَ ابْنُ شَعْبَانَ : يُرِيدُ مَالِكٌ بِالرَّجُلِ
الرَّبِيعَ بْنَ خُثَيْمٍ .
وَقِيلَ : هِيَ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَهْلِ قُبَاءَ .
وَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ هَذَا لُبَابُهَا .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : كَانُوا قَلَّ لَيْلَةٌ تَمُرُّ
بِهِمْ إلَّا أَصَابُوا مِنْهَا خَيْرًا .
قَالَ الْقَاضِي : وَخَصَّ السَّحَرَ لِمَا رُوِيَ عَنْ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { جَوْفُ اللَّيْلِ
أَسْمَعُ } .
وَرُوِيَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا ذَهَبَ الثُّلُثُ الْأَوَّلُ ، وَفِي رِوَايَةٍ
: إذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ ، وَأَصَحُّهُ إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ يَنْزِلُ
اللَّهُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي
فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي
فَأَغْفِرَ لَهُ ، حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ } .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَفِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى {
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ } ، وَقَدْ بَيَّنَّا
فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ هَلْ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ أَمْ لَا بِمَا
يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا
.
وَالْأَقْوَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ الزَّكَاةُ ؛
لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ : سَأَلَ سَائِلٌ : { وَاَلَّذِينَ فِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } وَالْحَقُّ
الْمَعْلُومُ هُوَ الزَّكَاةُ الَّتِي بَيَّنَ الشَّرْعُ قَدْرَهَا وَجِنْسَهَا
وَوَقْتَهَا ، فَأَمَّا غَيْرُهَا لِمَنْ يَقُولُ بِهِ فَلَيْسَ بِمَعْلُومٍ ؛
لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَلَا مُجَنَّسٍ وَلَا مُؤَقَّتٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { لِلسَّائِلِ }
، وَهُوَ الْمُتَكَفِّفُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : { وَالْمَحْرُومِ
} ، وَهُوَ الْمُتَعَفِّفُ ؛ فَبَيَّنَ أَنَّ لِلسَّائِلِ حَقَّ الْمَسْأَلَةِ
وَلِلْمَحْرُومِ حَقَّ الْحَاجَةِ
.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ
الَّذِي يُحَرَّمُ الرِّزْقُ .
وَقِيلَ :
الَّذِي أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا
عَنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ الْمُحْتَرِقَةِ : { قَالُوا إنَّا لَضَالُّونَ بَلْ
نَحْنُ مَحْرُومُونَ } وَفِيهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ لَمْ نُطَوِّلْ
بِذِكْرِهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا أَصَحُّهَا ؛ إذْ يَقْتَضِي هَذَا التَّقْسِيمُ أَنَّ
الْمُحْتَاجَ إذَا كَانَ مِنْهُ مَنْ يَسْأَلُ فَالْقِسْمُ الثَّانِي هُوَ الَّذِي
لَا يَسْأَلُ ، وَيَتَنَوَّعُ أَحْوَالُ الْمُتَعَفِّفِ ، وَالِاسْمُ يَعُمُّهُ
كُلَّهُ ، فَإِذَا رَأَيْته فَسَمِّهِ بِهِ ، وَاحْكُمْ عَلَيْهِ بِحُكْمِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُورَةُ الطُّورِ [ فِيهَا آيَتَانِ ] الْآيَةُ
الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ
بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ
عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } .
وَقُرِئَ : وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ
بِإِيمَانٍ .
فِيهَا (
مَسْأَلَةٌ ) : الْقِرَاءَتَانِ لِمَعْنَيَيْنِ : أَمَّا
إذَا كَانَ اتَّبَعَتْهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ لِلذُّرِّيَّةِ
فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الذُّرِّيَّةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا تَعْقِلُ الْإِيمَانَ
وَتَتَلَفَّظُ بِهِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْفِعْلُ وَاقِعًا بِهِمْ مِنْ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ نِسْبَةً إلَيْهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ
لِمَنْ كَانَ مِنْ الصِّغَرِ فِي حَدٍّ لَا يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ ، وَلَكِنْ
جَعَلَ اللَّهُ لَهُ حُكْمَ أَبِيهِ لِفَضْلِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْعِصْمَةِ
وَالْحُرْمَةِ .
فَأَمَّا إتْبَاعُ الصَّغِيرِ لِأَبِيهِ فِي أَحْكَامِ
الْإِسْلَامِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ
.
وَأَمَّا تَبَعِيَّتُهُ لِأُمِّهِ فَاخْتَلَفَ فِيهِ
الْعُلَمَاءُ وَاضْطَرَبَ فِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ .
وَالصَّحِيحُ فِي الدِّينِ أَنَّهُ يَتْبَعُ مَنْ
أَسْلَمَ مِنْ أَحَدِ أَبَوَيْهِ ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ : كُنْت أَنَا وَأُمِّي مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ،
وَذَلِكَ أَنَّ أُمَّهُ أَسْلَمَتْ وَلَمْ يُسْلِمْ الْعَبَّاسُ فَاتَّبَعَ
أُمَّهُ فِي الدِّينِ ، وَكَانَ لِأَجْلِهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ فَعَقَلَ
الْإِسْلَامَ صَغِيرًا وَتَلَفَّظَ بِهِ ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ اخْتِلَافًا
كَثِيرًا .
وَمَشْهُورُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا .
وَالْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهَا
بِطُرُقِهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَمِنْ عُمُدِهَا هَذِهِ الْآيَةُ ، وَهِيَ
قَوْلُهُ : { وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ } ، فَنَسَبَ الْفِعْلَ
إلَيْهِمْ ؛ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ عَقَلُوهُ وَتَكَلَّمُوا بِهِ ؛
فَاعْتُبِرَهُ اللَّهُ ، وَجَعَلَ لَهُمْ حُكْمَ الْمُسْلِمِينَ .
وَمِنْ الْعُمُدِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ
الْمُخَالِفَ يَرَى صِحَّةَ
رِدَّتِهِ فَكَيْفَ يَصِحُّ اعْتِبَارُ رِدَّتِهِ وَلَا يُعْتَبَرُ إسْلَامُهُ ، وَقَدْ احْتَجَّ جَمَاعَةٌ بِإِسْلَامِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ صَغِيرًا وَأَبَوَاهُ كَافِرَانِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى .
{ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّك فَإِنَّك بِأَعْيُنِنَا
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك حِينَ تَقُومُ وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ
وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْلُهُ : { حِينَ تَقُومُ } فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : الْمَعْنَى فِيهِ
حِينَ تَقُومُ مِنْ الْمَجْلِسِ لِيُكَفِّرَهُ .
الثَّانِي : حِينَ تَقُومُ مِنْ النَّوْمِ ، لِيَكُونَ
مُفْتَتِحًا بِهِ كَلَامَهُ .
الثَّالِثُ : حِينَ تَقُومُ مِنْ نَوْمِ الْقَائِلَةِ ،
وَهِيَ الظُّهْرُ .
الرَّابِعُ : التَّسْبِيحُ فِي الصَّلَاةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ
: إنَّ مَعْنَاهُ حِينَ تَقُومُ مِنْ الْمَجْلِسِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا
يَكْثُرُ فِيهِ لَغَطُهُ ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ : سُبْحَانَك
اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ، وَأَسْتَغْفِرُك ،
وَأَتُوبُ إلَيْك إلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ } .
وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعْلُولٌ .
جَاءَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ
إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ فَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَقَالَ : دَعْنِي
أُقَبِّلُ رِجْلَيْك يَا أُسْتَاذَ الْأُسْتَاذَيْنِ وَسَيِّدَ الْمُحَدِّثِينَ ،
وَطَبِيبَ الْحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ ، حَدَّثَك مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ ،
حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ ، حَدَّثَنِي
مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ فَمَا عِلَّتُهُ ؟
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ : هَذَا حَدِيثٌ مَلِيحٌ ، وَلَا أَعْلَمُ فِي
الدُّنْيَا فِي هَذَا الْبَابِ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ ، إلَّا
أَنَّهُ مَعْلُولٌ .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ بْنُ إسْمَاعِيلَ ، أَنْبَأَنَا
وُهَيْبٌ ، أَنْبَأَنَا سُهَيْلٌ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَوْلُهُ
قَالَ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ هَذَا أَوْلَى ، فَإِنَّهُ لَا
يُذْكَرُ لِمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ سَمَاعٌ مِنْ
سُهَيْلٍ .
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ : أَرَادَ
الْبُخَارِيُّ أَنَّ حَدِيثَ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ حَمَلَهُ
سُهَيْلٌ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ حَتَّى تَغَيَّرَ حِفْظُهُ بِآخِرَةٍ ؛ فَهَذِهِ
مَعَانٍ لَا يُحْسِنُهَا إلَّا الْعُلَمَاءُ بِالْحَدِيثِ ، فَأَمَّا أَهْلُ
الْفِقْهِ فَهُمْ عَنْهَا بِمَعْزِلٍ
.
وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا رَوَى
ابْنُ عُمَرَ قَالَ { : كُنَّا نَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِائَةَ مَرَّةٍ :
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ
} .
وَأَمَّا قَوْلُهُ حِينَ يَقُومُ يَعْنِي مِنْ اللَّيْلِ
فَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ : فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : مَنْ تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ : لَا إلَهَ
إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ،
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ ، وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا
قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ } وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ سُقُوطِ
التَّهْلِيلِ .
الثَّانِي وَرُوِيَ عَنْهُ { أَنَّهُ قَرَأَ الْعَشْرَ
الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { اللَّهُمَّ
فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، وَأَنْتَ
تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ، اهْدِنِي لِمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ ، فَإِنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } .
وَأَمَّا نَوْمُ الْقَائِلَةِ فَلَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ ، وَهُوَ
يَلْحَقُ بِنَوْمِ اللَّيْلِ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الصُّبْحُ لِنَوْمِ اللَّيْلِ ،
وَالظُّهْرُ لِنَوْمِ الْقَائِلِ ، وَهُوَ أَصْلُ التَّسْبِيحِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ تَسْبِيحُ الصَّلَاةِ فَهُوَ
أَفْضَلُهُ ، وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ، أَعْظَمُهَا مَا ثَبَتَ عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ
مَنْكِبَيْهِ ، وَيَصْنَعُ ذَلِكَ إذَا قَضَى
قِرَاءَتَهُ وَأَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ ، وَيَضَعُهَا إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ
الرُّكُوعِ ، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ وَهُوَ قَاعِدٌ ،
وَإِذَا قَامَ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ كَذَلِكَ وَكَبَّرَ وَيَقُولُ
حِينَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ : وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي
فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ ؛ إنَّ
صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا
شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ، اللَّهُمَّ أَنْتَ
الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك أَنْتَ رَبِّي ، وَأَنَا عَبْدُك
ظَلَمْت نَفْسِي ، وَاعْتَرَفْت بِذَنْبِي ، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا ،
وَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ
الْأَخْلَاقِ ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ ، وَاصْرِفْ عَنِّي
سَيِّئَهَا ، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ ، لَبَّيْكَ
وَسَعْدَيْكَ ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْك وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك ،
وَإِنَّا بِك وَإِلَيْك لَا مَنْجَى مِنْك ، وَلَا مَلْجَأَ إلَّا إلَيْك ،
أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك } .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ
أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ { قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي .
فَقَالَ : قُلْ رَبِّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا
، وَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ ، فَاغْفِرْ
لِي مِنْ عِنْدِك ، وَارْحَمْنِي ، إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الصَّحِيحِ عَنْ
أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : { شَكَوْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَشْتَكِي ، فَقَالَ : طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ ،
وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ .
قَالَتْ : فَطُفْت وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ يُصَلِّي إلَى جَنْبِ الْبَيْتِ يَقْرَأُ بِالطُّورِ
وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ } .
وَفِيهِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ { : سَمِعْت
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِالطُّورِ فِي
الْمَغْرِبِ } .
قَالَ الْقَاضِي : وَرَدَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ أُسَارَى بَدْرٍ وَهُوَ
لَمْ يُسْلِمْ بَعْدُ ، فَحَضَرَ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ { : فَسَمِعْته يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ
بِالطُّورِ ، فَلَمَّا بَلَغَ إلَى قَوْلِهِ : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ
أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ } كَادَ يَنْخَلِعُ فُؤَادِي ، ثُمَّ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيَّ
بَعْدُ بِالْإِسْلَامِ } .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : لَمْ
يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ إنَّ سَجْدَةَ النَّجْمِ لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ
الْقُرْآنِ ، وَرَآهَا ابْنُ وَهْبٍ مِنْ عَزَائِمِهِ ، وَكَانَ مَالِكٌ
يَسْجُدُهَا فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ .
وَرَوَى مَالِكٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ
بِالنَّجْمِ إذَا هَوَى ، فَسَجَدَ فِيهَا ، ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ سُورَةً أُخْرَى .
وَرَوَى غَيْرُهُ أَنَّ السُّورَةَ الَّتِي وَصَلَهَا
بِهَا " إذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا .
" وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ النَّجْمَ
، فَسَجَدَ فِيهَا ، وَسَجَدَ مَنْ كَانَ مَعَهُ إلَّا شَيْخًا كَبِيرًا أَخَذَ
كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ مِنْ تُرَابٍ ، فَرَفَعَهُ إلَى جَبْهَتِهِ ، وَقَالَ : يَكْفِينِي
هَذَا } .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : وَلَقَدْ رَأَيْته بَعْدُ
قُتِلَ كَافِرًا .
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِيهَا يَعْنِي فِي النَّجْمِ ، وَسَجَدَ
فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ } .
الشَّيْخُ الَّذِي لَمْ يَسْجُدْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ ، قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ
كَافِرًا .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ
كَانَ إذَا قَرَأَهَا عَلَى النَّاسِ سَجَدَ ، فَإِذَا قَرَأَهَا وَهُوَ فِي
الصَّلَاةِ رَكَعَ وَسَجَدَ .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا قَرَأَ " وَالنَّجْمُ
" وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ تَكُونَ بَعْدَهَا قِرَاءَةٌ قَرَأَهَا وَسَجَدَ .
وَإِذَا انْتَهَى إلَيْهَا رَكَعَ وَسَجَدَ ، وَلَمْ
يَرَهَا [ عَلِيٌّ ] مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : هِيَ مِنْ
عَزَائِمِ السُّجُودِ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
سُورَةُ الرَّحْمَنِ [ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ ]
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانُ } .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَنَّ
جِبْرِيلَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِحْسَانِ
، فَقَالَ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ
فَإِنَّهُ يَرَاك } .
فَهَذَا إحْسَانُ الْعَبْدِ .
وَأَمَّا إحْسَانُ اللَّهِ فَهُوَ دُخُولُ الْحُسْنَى
وَهِيَ الْجَنَّةُ ، وَلِلْحُسْنَى دَرَجَاتٌ بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ
؛ وَهَذَا مِنْ أَجَلِّهَا قَدْرًا ، وَأَكْرَمِهَا أَمْرًا ، وَأَحْسَنِهَا
ثَوَابًا ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى
وَزِيَادَةٌ } فَهَذَا تَفْسِيرُهُ
.
سُورَةُ الْوَاقِعَةِ [ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ ]
قَوْله تَعَالَى : { لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى [
هَلْ ] هَذِهِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةٌ حَالَ الْقُرْآنِ فِي كُتُبِ اللَّهِ أَمْ
هِيَ مُبَيِّنَةٌ فِي كُتُبِنَا ؟ فَقِيلَ : هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ .
وَقِيلَ : هُوَ مَا بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ ؛ فَهَذَا
كِتَابُ اللَّهِ .
وَقِيلَ : هِيَ مَصَاحِفُنَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { لَا يَمَسُّهُ
} فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ الْمَسُّ بِالْجَارِحَةِ حَقِيقَةً .
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ لَا يَجِدُ طَعْمَ نَفْعِهِ إلَّا
الْمُطَهَّرُونَ بِالْقُرْآنِ ؛ قَالَهُ الْفَرَّاءُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : { إلَّا
الْمُطَهَّرُونَ } فِيهِ قَوْلَانِ
: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ الْمَلَائِكَةُ طُهِّرُوا مِنْ
الشِّرْكِ وَالذُّنُوبِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ الْمُطَهَّرِينَ مِنْ
الْحَدَثِ ، وَهُمْ الْمُكَلَّفُونَ مِنْ الْآدَمِيِّينَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ هَلْ قَوْلُهُ : { لَا
يَمَسُّهُ } نَهْيٌ أَوْ نَفْيٌ ؟ فَقِيلَ : لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ ،
وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ .
وَقِيلَ : هُوَ نَفْيٌ .
وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَؤُهَا : مَا يَمَسُّهُ
إلَّا الْمُطَهَّرُونَ ، لِتَحْقِيقِ النَّفْيِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فِي تَنْقِيحِ الْأَقْوَالِ
: أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَهُوَ
بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَنَالُهُ فِي وَقْتٍ ، وَلَا تَصِلُ
إلَيْهِ بِحَالٍ ؛ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ لَمَا كَانَ لِلِاسْتِثْنَاءِ
فِيهِ مَحَلٌّ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : أَنَّهُ الَّذِي بِأَيْدِي
الْمَلَائِكَةِ مِنْ الصُّحُفِ فَإِنَّهُ قَوْلٌ مُحْتَمَلٌ ؛ وَهُوَ الَّذِي
اخْتَارَهُ مَالِكٌ قَالَ : أَحْسَنُ مَا سَمِعْت فِي قَوْلِهِ : { لَا يَمَسُّهُ
إلَّا الْمُطَهَّرُونَ } أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْآيَةِ الَّتِي فِي { عَبَسَ
وَتَوَلَّى } : { فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ
بِأَيْدِي سَفْرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } يُرِيدُ أَنَّ الْمُطَهَّرِينَ هُمْ الْمَلَائِكَةُ
الَّذِينَ وُصِفُوا بِالطَّهَارَةِ فِي سُورَةِ "
عَبَسَ "
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّوَضُّؤِ
[ بِالْقُرْآنِ ] إذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَمَسَّ صُحُفَهُ ، فَإِنَّهُمْ
اخْتَلَفُوا ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ الْخَبَرِ
وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ،
وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ ، وَحَقَّقْنَا أَنَّهُ خَبَرٌ
عَنْ الشَّرْعِ ، أَيْ لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ شَرْعًا ، فَإِنْ
وُجِدَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ الشَّرْعِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَاهُ لَا يَجِدُ
طَعْمَهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ مِنْ الذُّنُوبِ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ
فَهُوَ صَحِيحٌ ، اخْتَارَهُ الْبُخَارِيُّ ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ذَاقَ طَعْمَ الْإِسْلَامِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا ، وَبِالْإِسْلَامِ
دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا } ؛ لَكِنَّهُ
عُدُولٌ عَنْ الظَّاهِرِ لِغَيْرِ ضَرُورَةِ عَقْلٍ وَلَا دَلِيلِ سَمْعٍ .
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ فِي كِتَابِ
عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الَّذِي كَتَبَهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُسْخَتُهُ { : مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ إلَى شُرَحْبِيلَ
بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ ، وَالْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ ، وَنُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ
كُلَالٍ ، قِيلَ ذِي رُعَيْنٍ وَمَعَافِرَ وَهَمْدَانَ : أَمَّا بَعْدُ وَكَانَ
فِي كِتَابِهِ أَلَّا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ } .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَخَلَ
عَلَى أُخْتِهِ وَزَوْجِهَا سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ ،
وَهُمَا يَقْرَآنِ طَهَ ، فَقَالَ
: مَا هَذِهِ الْهَيْنَمَةُ ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى
أَنْ قَالَ : هَاتُوا الصَّحِيفَةَ
.
فَقَالَتْ لَهُ أُخْتُهُ : إنَّهُ لَا يَمَسُّهُ إلَّا
الْمُطَهَّرُونَ فَقَامَ وَاغْتَسَلَ وَأَسْلَمَ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَرْثِي
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَقَدْنَا الْوَحْيَ إذْ وَلَّيْت
عَنَّا وَوَدَّعَنَا مِنْ اللَّهِ الْكَلَامُ سِوَى مَا قَدْ تَرَكْت لَنَا قَدِيمًا
تَوَارَثَهُ الْقَرَاطِيسُ الْكِرَامُ وَأَرَادَ صُحُفَ الْقُرْآنِ الَّتِي
كَانَتْ
بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمْلِيهَا عَلَى كَتَبَتِهِ .
وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ مِنْهُمْ إبْرَاهِيمُ
النَّخَعِيُّ .
وَلَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛
فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَمَسُّهُ الْمُحْدِثُ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَمَسُّ
ظَاهِرَهُ وَحَوَاشِيَهُ وَمَا لَا مَكْتُوبَ فِيهِ .
وَأَمَّا الْكِتَابُ فَلَا يَمَسُّهُ إلَّا
الْمُطَهَّرُونَ .
وَهَذَا إنْ سُلِّمَ مِمَّا يُقَوِّي الْحُجَّةَ
عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ حَرِيمَ الْمَمْنُوعِ مَمْنُوعٌ ، وَفِيمَا كَتَبَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَقْوَى
دَلِيلٍ عَلَيْهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُورَةُ الْحَدِيدِ [ فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ ]
الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ
وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْأَمَدِ تَفْسِيرُ
هَذِهِ الْأَسْمَاءِ ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْآخِرُ بِعَيْنِهِ [
يَعْنِي ] لِأَنَّهُ وَاحِدٌ ، وَأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الْبَاطِنُ ، وَأَنَّ
الْأَوَّلَ هُوَ الْبَاطِنُ ، وَأَنَّ الْآخِرَ هُوَ الظَّاهِرُ ؛ إذْ هُوَ
تَعَالَى وَاحِدٌ تَخْتَلِفُ أَوْصَافُهُ ، وَتَتَعَدَّدُ أَسْمَاؤُهُ ، وَهُوَ
تَعَالَى وَاحِدٌ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : قَالَ مَالِكٌ : لَا يُحَدُّ
وَلَا يُشَبَّهُ .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : مَنْ
قَرَأَ " يَدُ اللَّهِ
" وَأَشَارَ إلَى يَدِهِ ، وَقَرَأَ عَيْنُ اللَّهِ
، وَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ الْعُضْوِ مِنْهُ يُقْطَعُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ فِي
تَقْدِيسِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا أَشْبَهَ إلَيْهِ ، وَشَبَّهَهُ
بِنَفْسِهِ ، فَتُعْدَمُ [ نَفْسُهُ وَ ] جَارِحَتُهُ الَّتِي شَبَّهَهَا
بِاَللَّهِ ، وَهَذِهِ غَايَةٌ فِي التَّوْحِيدِ لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهَا مَالِكًا مُوَحِّدٌ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ نَافِعٍ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ { : ذُكِرَ الدَّجَّالُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ
بِأَعْوَرَ .
وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى عَيْنِهِ ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ
الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ } .
فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا
خَبَرٌ وَاحِدٌ ، لَا يُوجِبُ عِلْمًا
.
الثَّانِي أَنَّ هَذِهِ الْإِشَارَةَ فِي النَّفْيِ لَا
فِي الْإِثْبَاتِ ، وَفِي التَّقْدِيسِ لَا فِي التَّشْبِيهِ ، وَهَذَا نَفِيسٌ
فَاعْرِفْهُ .
.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا
لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ
وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا
وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
نَفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ فَتْحِ
مَكَّةَ وَبَيْنَ مَنْ أَنْفَقَ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ النَّاسِ كَانَتْ
قَبْلَ الْفَتْحِ أَكْثَرُ ، لِضَعْفِ الْإِسْلَامِ ، وَفِعْلُ ذَلِكَ كَانَ عَلَى
الْمُنَافِقِينَ أَشَقُّ ، وَالْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى أَشْهَبُ عَنْ
مَالِكٍ قَالَ : يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ أَهْلُ الْفَضْلِ وَالْعَزْمِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي
مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ
دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ
الْحُسْنَى } وَقَدْ بَيَّنَّا نَحْنُ فِيمَا تَقَدَّمَ تَرْتِيبَ أَحْوَالِ الصَّحَابَةِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَنَازِلِهِمْ فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ
وَمَرَاتِبِ التَّابِعِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إذَا ثَبَتَ انْتِفَاءُ الْمُسَاوَاةِ
بَيْنَ الْخَلْقِ وَقَعَ التَّفْضِيلُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحِكْمَةِ وَالْحُكْمِ
؛ فَإِنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ يَكُونُ [ فِي الدِّينِ وَيَكُونُ ] فِي أَحْكَامِ
الدُّنْيَا ، فَأَمَّا فِي أَحْكَامِ الدِّينِ فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ
قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ ، وَأَعْظَمُ
الْمَنَازِلِ مَرْتَبَةً الصَّلَاةُ
} .
{ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ : مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ .
فَقِيلَ لَهُ : إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إذَا
قَامَ مَقَامَك لَمْ يُسْمِعْ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ ، فَمُرْ عُمَرَ
فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ .
فَقَالَ : مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ } .
الْحَدِيثَ
.
فَقَدَّمَ الْمُقَدَّمَ ، وَرَاعَى الْأَفْضَلَ .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ
رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ : { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ
لِكِتَابِ اللَّهِ ؛ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ
بِالسُّنَّةِ ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً ،
فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا ، وَلَا يَؤُمُّ
الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ ، وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ } .
وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَأَخِيهِ فَأَذِّنَا
وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا } .
فَفَهِمَ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ
الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ أَرَادَ كِبَرَ الْمَنْزِلَةِ ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ } .
وَلَمْ يَعْنِ كِبَرَ السِّنِّ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ
كِبَرَ الْمَنْزِلَةِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ : وَإِنَّ لِلسِّنِّ
حَقًّا .
وَرَاعَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَهُوَ
أَحَقُّ بِالْمُرَاعَاةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ الْعِلْمُ وَالسِّنُّ فِي
خَيِّرَيْنِ قُدِّمَ الْعِلْمُ وَأَمَّا أَحْكَامُ الدُّنْيَا فَهِيَ مُرَتَّبَةٌ
عَلَى أَحْكَامِ الدِّينِ ، فَمَنْ قُدِّمَ فِي الدِّينِ قُدِّمَ فِي الدُّنْيَا .
وَفِي الْآثَارِ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ
كَبِيرَنَا ، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا ، وَيَعْتَرِفْ لِعَالِمِنَا } .
وَفِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ فِي الْأَفْرَادِ : { مَا
أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ سِنِّهِ
مَنْ يُكْرِمُهُ } .
وَأَنْشَدَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
قَاسِمٍ الْعُثْمَانِيُّ الشَّهِيدُ نَزِيلُ الْقُدْسِ لِابْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ
السَّرَقُسْطِيِّ : يَا عَائِبًا لِلشُّيُوخِ مِنْ أَشَرٍ دَاخَلَهُ لِلصِّبَا
وَمِنْ بَذَخِ اُذْكُرْ إذَا شِئْت أَنْ تَعِيبَهُمْ جَدَّك وَاذْكُرْ أَبَاك يَا
بْنَ أَخِي وَاعْلَمْ بِأَنَّ الشَّبَابَ مُنْسَلِخٌ عَنْك وَمَا وِزْرُهُ بِمُنْسَلِخِ
مَنْ لَا يُعِزُّ الشُّيُوخَ لَا بَلَغَتْ يَوْمًا بِهِ سِنُّهُ إلَى الشَّيْخِ
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ
وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ
أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ
أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي
الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالشُّهَدَاءُ } وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ
: أَحَدُهَا أَنَّهُمْ النَّبِيُّونَ
.
الثَّانِي : أَنَّهُمْ الْمُؤْمِنُونَ .
الثَّالِثُ أَنَّهُمْ الشُّهَدَاءُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ شَهِيدٌ ، أَمَّا الْأَنْبِيَاءُ
عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فَهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى الْأُمَمِ ، وَأَمَّا
الْمُؤْمِنُونَ فَهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ [ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {
لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ
} ] .
وَأَمَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَهُوَ شَهِيدٌ عَلَى الْكُلِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيدًا } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ
الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ شَاهِدٍ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { خَيْرُ الشُّهَدَاء
الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا ، وَلَهُ الْأَجْرُ إذَا
أَدَّى وَالْإِثْمُ إذَا كَتَمَ
} .
وَنُورُهُمْ [ قِيلَ ] وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ هُوَ ظُهُورُ الْحَقِّ بِهِ ، وَقِيلَ نُورُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
وَالْكُلُّ صَالِحٌ لِلْقَوْلِ حَاصِلٌ لِلشَّاهِدِ
بِالْحَقِّ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الشُّهَدَاءَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَهُمْ الَّذِينَ قَاتَلُوا لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ
الْعُلْيَا .
وَهُمْ أَوْفَى دَرَجَةً وَأَعْلَى .
وَالشُّهَدَاءُ قَدْ بَيَّنَّا عَدَدَهُمْ ، وَهُمْ
الْمَقْتُولُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
.
الْمَقْتُولُ دُونَ مَالِهِ [ الْمَقْتُولُ دُونَ
أَهْلِهِ ] .
الْمَطْعُونُ
.
الْغَرِقُ
.
الْحَرِقُ
.
الْمَجْنُونُ
.
الْهَدِيمُ
.
ذَاتُ الْجَمْعِ .
الْمَقْتُولُ ظُلْمًا .
أَكِيلُ السَّبْعِ .
الْمَيِّتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
مَنْ مَاتَ مِنْ بَطْنٍ فَهُوَ شَهِيدٌ .
الْمَرِيضُ شَهِيدٌ .
الْغَرِيبُ شَهِيدٌ .
صَاحِبُ النَّظْرَةِ شَهِيدٌ .
فَهَؤُلَاءِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهِيدًا .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُمْ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَالَ جَمَاعَةٌ : إنَّ
قَوْلَهُ { وَالشُّهَدَاءُ } مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْله تَعَالَى : { الصِّدِّيقُونَ } عَطْفُ
الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ يَعْنِ ي أَنَّ الصِّدِّيقَ هُوَ الشَّهِيدُ ، وَالْكُلُّ
لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ
.
وَقِيلَ : هُوَ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ ،
وَالشُّهَدَاءُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ ، وَأَظْهَرُهُ عَطْفُ
الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ
قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ
رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ
إلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
الرَّهْبَانِيَّةُ : فَعْلَانِيَّةٌ مِنْ الرَّهَبِ كَالرَّحْمَانِيَّةِ ؛ وَقَدْ
قُرِئَتْ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهِيَ مِنْ الرُّهْبَانِ كالرَّضْوانِيَّةِ مِنْ
الرُّضْوَانِ .
[ وَالرَّهَبُ هُوَ الْخَوْفُ ، كَفَى بِهِ عَنْ فِعْلٍ
الْتَزَمَ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ وَرَهْبًا مِنْ سَخَطِهِ ] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَفْسِيرِهَا : وَفِيهِ
أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ أَنَّهَا رَفْضُ النِّسَاءِ ، وَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ
فِي دِينِنَا ، كَمَا تَقَدَّمَ
.
الثَّانِي : اتِّخَاذُ الصَّوَامِعِ لِلْعُزْلَةِ ؛
وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ عِنْدَ فَسَادِ الزَّمَانِ .
الثَّالِثُ : سِيَاحَتُهُمْ ، وَهِيَ نَحْوٌ مِنْهُ .
الرَّابِعُ رَوَى الْكُوفِيُّونَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ
قَالَ { : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ
تَدْرِي أَيَّ النَّاسِ أَعْلَمُ ؟ قَالَ : قُلْت : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
قَالَ
: أَعْلَمُ النَّاسِ أَبْصَرُهُمْ بِالْحَقِّ إذَا
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ ، وَإِنْ كَانَ
يَزْحَفُ عَلَى اسْتِهِ } .
وَافْتَرَقَ مَنْ [ كَانَ ] قَبْلَنَا عَلَى اثْنَتَيْنِ
وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، نَجَا مِنْهَا ثَلَاثٌ ، وَهَلَكَ سَائِرُهَا : فِرْقَةٌ آزَتْ
الْمُلُوكَ ، وَقَاتَلَتْهُمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى حَتَّى قُتِلُوا
، وَفِرْقَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ بِمُوَازَاةِ الْمُلُوكِ أَقَامُوا
بَيْنَ ظَهْرَانِي قَوْمِهِمْ يَدْعُونَهُمْ إلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ ، فَأَخَذَتْهُمْ الْمُلُوكُ وَقَتَلَهُمْ وَقَطَّعَتْهُمْ
بِالْمَنَاشِيرِ ، وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طَاقَة بِمُوَازَاةِ الْمُلُوك ،
وَلَا بِأَنْ
يُقِيمُوا بَيْنَ ظَهْرَانِي قَوْمِهِمْ ،
فَيَدْعُوهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ [ وَدِينِهِ ] وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ،
فَسَاحُوا فِي الْجِبَالِ ، وَتَرَهَّبُوا فِيهَا ، وَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا
: { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلَّا ابْتِغَاءَ
رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ
الْبَاهِلِيِّ ، وَاسْمُهُ صُدَيُّ بْنُ عَجْلَانَ ، وَأَنَّهُ قَالَ : أَحْدَثْتُمْ
قِيَامَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ ، إنَّمَا كُتِبَ عَلَيْكُمْ
الصِّيَامُ ؛ فَدُومُوا عَلَى الْقِيَامِ إذَا فَعَلْتُمُوهُ ، وَلَا تَتْرُكُوهُ
؛ فَإِنَّ نَاسًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ابْتَدَعُوا بِدَعًا لَمْ يَكْتُبْهَا
اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، ابْتَغَوْا بِهَا رِضْوَانَ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ
رِعَايَتِهَا ، فَعَاتَبَهُمْ اللَّهُ بِتَرْكِهَا ، فَقَالَ : { وَرَهْبَانِيَّةً
ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ
فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } يَعْنِي تَرَكُوا ذَلِكَ فَعُوقِبُوا عَلَيْهَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْله
تَعَالَى : { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } مِنْ وَصْفِ الرَّهْبَانِيَّةِ ،
وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ } مُتَعَلِّقٌ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { ابْتَدَعُوهَا
} .
وَقَدْ زَاغَ قَوْمٌ عَنْ مَنْهَجِ الصَّوَابِ فَظَنُّوا
أَنَّهَا رَهْبَانِيَّةٌ كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ الْتَزَمُوهَا ،
وَلَيْسَ يَخْرُجُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ مَضْمُونِ الْكَلَامِ ، وَلَا يُعْطِيه
أُسْلُوبُهُ وَلَا مَعْنَاهُ ، وَلَا يُكْتَبُ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ إلَّا بِشَرْعٍ
أَوْ نَذْرٍ ، وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ [ فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُك فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاَللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتُهُمْ إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فِيهَا تِسْعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةٍ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي سَمَاعِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا قَوْلًا أَوْ غَيْرَهُ ، لَا يَخْتَصُّ بِسَمَاعِ الْأَصْوَاتِ ، بَلْ كُلُّ مَوْجُودٍ يَسْمَعُهُ وَيَرَاهُ وَيَعْلَمُهُ ، وَيَعْلَمُ الْمَعْدُومَ بِأَبْدَعِ بَيَانٍ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ وَالْأُصُولِ ، وَكَذَلِكَ أَوْضَحْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ تَعَلُّقُ سَمِعْنَا بِكُلِّ مَوْجُودٍ ، وَكَذَلِكَ رُؤْيَتُنَا ، وَلَكِنَّ الْبَارِي تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ بِتَعَلُّقِ رُؤْيَتِنَا بِالْأَلْوَانِ ، وَسَمْعِنَا بِالْأَصْوَاتِ ؛ وَلِلَّهِ الْحِكْمَةُ فِيمَا خَصَّ وَالْقُدْرَةُ فِيمَا عَمَّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : {
تُجَادِلُك فِي زَوْجِهَا } : وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمُجَادِلَةِ
وَحَقِيقَتُهَا وَجَوَازُهَا فِي طَلَبِ قَصْدِ الْحَقِّ وَإِظْهَارِهِ ، وَأَمْرِ
اللَّهِ بِهَا ، وَنَسْخِهِ وَتَخْصِيصِهِ لَهَا وَتَعْمِيمِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي تَعْيِينِ هَذِهِ
الْمُجَادِلَةِ : وَفِيهِ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ : قِيلَ هِيَ خَوْلَةُ امْرَأَةُ
أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ .
وَقِيلَ هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ دُلَيْجٍ .
وَقِيلَ : بِنْتُ الصَّامِتِ .
وَأُمُّهَا مُعَاذَةُ ؛ كَانَتْ أَمَةً لِابْنِ أُبَيٍّ .
وَفِيهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تُكْرِهُوا
فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } الْآيَةَ .
وَقِيلَ :
خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ ، وَهِيَ أَشْبَهُهَا ؛
لِمَا رُوِيَ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ ثَعْلَبَةَ جَاءَتْ إلَى عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ وَهِيَ عَجُوزَةٌ كَبِيرَةٌ ، وَالنَّاسُ مَعَهُ ، وَهُوَ عَلَى
حِمَارٍ قَالَ : فَجَنَحَ إلَيْهَا ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِهَا ،
وَتَنَحَّى النَّاسُ عَنْهَا ، فَنَاجَاهَا طَوِيلًا ، ثُمَّ انْطَلَقَتْ
فَقَالُوا : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، حَبَسْت رِجَالَاتِ قُرَيْشٍ عَلَى هَذِهِ الْعَجُوزِ .
قَالَ : أَتَدْرُونَ مَنْ هِيَ ؟ هَذِهِ خَوْلَةُ بِنْتُ
ثَعْلَبَةَ ، سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ ؛ فَوَاَللَّهِ
لَوْ قَامَتْ هَكَذَا إلَى اللَّيْلِ لَقُمْت مَعَهَا إلَى أَنْ تَحْضُرَ صَلَاةٌ
، وَأَنْطَلِقَ لِأُصَلِّيَ ثُمَّ أَرْجِعَ إلَيْهَا .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ
سَمْعُهُ كُلَّ شَيْءٍ ، إنِّي لَأَسْمَعُ كَلَامَ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ ،
وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُهُ ، وَهِيَ تَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ .
وَفِي تَرَاجِمِ الْبُخَارِيِّ ، وَعَنْ تَمِيمِ بْنِ
سَلَمَةَ ، وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ؛ { قُلْت : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ
الَّتِي تُجَادِلُك } } .
وَنَصُّهُ عَلَى الِاخْتِصَارِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ { لَمَّا ظَاهَرَ
أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ مِنْ امْرَأَتِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ قَالَتْ لَهُ :
وَاَللَّهِ مَا أَرَاك إلَّا قَدْ أَثِمْت فِي
شَأْنِي ، لَبِسْت جِدَّتِي ، وَأَفْنَيْت شَبَابِي ، وَأَكَلْت مَالِي ، حَتَّى
إذَا كَبِرَتْ سِنِّي ، وَرَقَّ عَظْمِي ، وَاحْتَجْت إلَيْك فَارَقْتنِي .
قَالَ : مَا أَكْرَهَنِي لِذَلِكَ ، اذْهَبِي إلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْظُرِي هَلْ تَجِدِينَ عِنْدَهُ
شَيْئًا فِي أَمْرِك ؟ فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ ، فَلَمْ تَبْرَحْ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ : { قَدْ
سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُك فِي زَوْجِهَا } فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَعْتِقْ رَقَبَةً .
قَالَ : لَا أَجِدُ ذَلِكَ .
قَالَ : صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ .
قَالَ : لَا أَسْتَطِيعُ ذَلِكَ ؛ أَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ .
قَالَ : أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا .
قَالَ : لَا أَجِدُ .
فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ شَعِيرًا ، وَقَالَ : خُذْ هَذَا فَأَطْعِمْهُ } .
وَرُوِيَ أَيْضًا { أَنَّ سَعِيدًا أَتَى أَبَا سَلَمَةَ
بْنَ صَخْرٍ أَحَدَ بَنِي بَيَاضَةَ ، كَانَ رَجُلًا ميطا فَلَمَّا جَاءَ شَهْرُ
رَمَضَانَ جَعَلَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ كَأُمِّهِ ، فَرَآهَا ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي
بِرِيقِ الْقَمَرِ ، وَرَأَى بَرِيقَ خَلْخَالِهَا وَسَاقِهَا فَأَعْجَبَتْهُ فَأَتَاهَا
، وَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصَّ عَلَيْهِ
الْقِصَّةَ فَقَالَ لَهُ : أَتَيْت بِهَذَا يَا أَبَا سَلَمَةَ ثَلَاثًا ؟
فَأَمَرَ النَّبِيُّ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً .
قَالَ : مَا أَمْلِكُ غَيْرَ رَقَبَتِي هَذِهِ .
فَأَمَرَهُ بِالْإِطْعَامِ .
قَالَ : إنَّمَا هِيَ وَجْبَةٌ .
قَالَ : صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ .
قَالَ : مَا مِنْ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ النَّاسُ أَشَدُّ
عَلَيَّ مِنْ الصِّيَامِ .
قَالَ : فَأَتَى النَّاسُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِنَاعٍ فِيهِ تَمْرٌ .
فَقَالَ لَهُ : خُذْ هَذَا ، فَتَصَدَّقْ بِهِ
وَأَطْعِمْهُ عِيَالَك } .
[ وَقِيلَ هَذَا صَخْرُ بْنُ ] سَلَمَةَ بْنُ صَخْرِ
بْنُ سُلَيْمَانَ الَّذِي أَعْطَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْمِجَنَّ يَوْمَ أُحُدٍ .
وَقَالَ : وَجْهِي أَحَقُّ بِالْكَلْمِ مِنْ وَجْهِك ،
وَارْتُثَّ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْقَتْلَى ، وَبِهِ رَمَقٌ ، وَقَدْ كُلِمَ كُلُومًا كَثِيرَةً ، فَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُومَهُ ، وَاسْتَشْفَى لَهُ فَبَرِئَ ، وَفِيهِ نَزَلَتْ آيَةُ الظِّهَارِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ } :
رُوِيَ { أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ دُلَيْجٍ ظَاهَرَ مِنْهَا زَوْجُهَا ، فَأَتَتْ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَتْهُ كَذَلِكَ ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ حَرُمْت عَلَيْهِ ،
فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا إلَى السَّمَاءِ فَقَالَتْ : إلَى اللَّهِ أَشْكُو حَاجَتِي
إلَيْهِ .
ثُمَّ عَادَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : حَرُمْت عَلَيْهِ
.
فَقَالَتْ :
إلَى اللَّهِ أَشْكُو حَاجَتِي إلَيْهِ ، وَعَائِشَةُ
تَغْسِلُ شِقَّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنَ ، ثُمَّ تَحَوَّلَتْ إلَى الشِّقِّ الْآخَرِ
، وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ ، فَذَهَبَتْ أَنْ تُعِيدَ ، فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ
، اُسْكُتِي ، فَإِنَّهُ نَزَلَ الْوَحْيُ .
فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَوْجِهَا : أَعْتِقْ رَقَبَةً .
قَالَ : لَا أَجِدُ .
قَالَ : صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ .
قَالَ : إنْ لَمْ آكُلْ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ
خِفْت أَنْ يَعْشُوَ بَصَرِي .
قَالَ : فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا .
قَالَ : فَأَعِنِّي ، فَأَعَانَهُ بِشَيْءٍ } .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : {
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ } حَقِيقَتُهُ تَشْبِيهُ ظَهْرٍ [ بِظَهْرٍ ، وَالْمُوجِبُ
لِلْحُكْمِ مِنْهُ تَشْبِيهُ ظَهْرِ ] مُحَلَّلٍ بِظَهْرِ مُحَرَّمٍ ،
وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ ، أُصُولُهَا سَبْعَةٌ : الْفَرْعُ
الْأَوَّلُ : إذَا شَبَّهَ جُمْلَةَ أَهْلِهِ بِظَهْرِ أُمِّهِ ، كَمَا جَاءَ فِي
الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي .
الْفَرْعُ الثَّانِي : إذَا شَبَّهَ جُمْلَةَ أَهْلِهِ
بِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ أُمِّهِ كَانَ ظِهَارًا ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي
قَوْلِهِ : إنْ شَبَّهَهَا بِعُضْوٍ يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ
ظِهَارًا ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ
الِاسْتِمْتَاعِ لَا يَحِلُّ لَهُ ، وَفِيهِ رَفْعُ التَّشْبِيهِ ، وَإِيَّاهُ
قَصَدَ الْمُظَاهِرُ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ : إنَّهُ لَا
يَكُونُ ظِهَارًا إلَّا فِي الظَّهْرِ وَحْدَهُ ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ
عُضْوٍ مِنْهَا مُحَرَّمٌ ، فَكَانَ التَّشْبِيهُ بِهِ ظِهَارًا كَالظَّهْرِ ،
وَلِأَنَّ الْمُظَاهِرَ إنَّمَا يَقْصِدُ تَشْبِيهَ الْمُحَلَّلِ بِالْمُحَرَّمِ ؛
فَلَزِمَ عَلَى الْمَعْنَى .
الْفَرْعُ الثَّالِثُ إذَا شَبَّهَ عُضْوًا مِنْ امْرَأَتِهِ بِظَهْرِ أُمِّهِ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : لَا يَكُونُ ظِهَارًا ، وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ وَافَقَنَا عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَيْهِ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ؛ فَصَحَّ إضَافَةُ الظِّهَارِ إلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْفَرْعُ الرَّابِعُ إذَا قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ
كَأُمِّي ، أَوْ مِثْلُ أُمِّي ، فَإِنْ نَوَى ظِهَارًا كَانَ ظِهَارًا ، وَإِنْ
نَوَى طَلَاقًا كَانَ طَلَاقًا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ كَانَ ظِهَارًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : إنْ لَمْ
يَنْوِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ
.
وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ أَطْلَقَ تَشْبِيهَ امْرَأَتِهِ
بِأُمِّهِ ، فَكَانَ ظِهَارًا ؛ أَصْلُهُ إذَا ذَكَرَ الظَّهْرَ ، وَهَذَا قَوِيٌّ
؛ إذْ مَعْنَى اللَّفْظِ فِيهِ مَوْجُودٌ ، وَاللَّفْظُ بِمَعْنَاهُ ، وَلَمْ
يَلْزَمْ حُكْمُ الظَّهْرِ لِلَفْظِهِ ، وَإِنَّمَا لَزِمَ لِمَعْنَاهُ وَهُوَ
التَّحْرِيمُ .
الْفَرْعُ الْخَامِسُ إذَا قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ ظِهَارًا ؛ وَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : أَنْتِ حَرَامٌ يَحْتَمِلُ التَّحْرِيمَ بِالطَّلَاقِ وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ ، وَيَحْتَمِلُ التَّحْرِيمَ بِالظِّهَارِ ، فَلَمَّا صَرَّحَ بِهِ كَانَ تَفْسِيرًا لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ فَقَضَى بِهِ فِيهِ .
الْفَرْعُ السَّادِسُ إنْ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ
بِأَجْنَبِيَّةٍ فَإِنْ ذَكَرَ الظَّهْرَ كَانَ ظِهَارًا حَمْلًا عَلَى الْأَوَّلِ
، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الظَّهْرَ فَاخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا ، فَمِنْهُمْ
مَنْ قَالَ : يَكُونُ
ظِهَارًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَكُونُ طَلَاقًا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَكُونُ
شَيْئًا ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَ مُحَلَّلًا مِنْ الْمَرْأَةِ
بِمُحَرَّمٍ ، فَكَانَ مُقَيَّدًا بِحُكْمِهِ كَالظَّهْرِ .
وَالْأَسْمَاءُ بِمَعَانِيهَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُمْ
بِأَلْفَاظِهَا ، وَهَذَا نَقْضٌ لِلْأَصْلِ مِنْهُمْ .
الْفَرْعُ السَّابِعُ إذَا قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ
كَظَهْرِ أُخْتِي كَانَ مُظَاهِرًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ ،
وَهَذِهِ أَشْكَلُ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا .
وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِظَهْرٍ
مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ مُؤَبَّدٍ كَالْأُمِّ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْلُهُ : { مِنْكُمْ } .
يَعْنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَذَلِكَ يَقْتَضِي
خُرُوجَ الذِّمِّيِّ مِنْ الْخِطَابِ
.
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ .
قُلْنَا : هُوَ اسْتِدْلَالٌ بِالِاشْتِقَاقِ .
وَالْمَعْنَى فَإِنَّ أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ فَاسِدَةٌ
مُسْتَحِقَّةُ الْفَسْخِ ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمُ طَلَاقٍ وَلَا ظِهَارٍ
، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَصِحُّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ ؛
وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ عُظْمَى
.
وَقَدْ مَدَدْنَا إطْنَابَ الْقَوْلِ فِيهَا فِي
مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ .
وَلُبَابُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْكُفَّارَ
مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِغَيْرِ
خِلَافٍ ؛ وَإِذَا خُوطِبُوا فَإِنَّ أَنْكِحَتَهُمْ فَاسِدَةٌ لِإِخْلَالِهِمْ بِشُرُوطِهَا
مِنْ وَلِيٍّ وَأَهْلٍ وَصَدَاقٍ وَوَصْفِ صَدَاقٍ ، فَقَدْ يَعْقِدُونَ بِغَيْرِ
صَدَاقٍ ، وَيَعْقِدُونَ [ بِغَيْرِ مَالٍ كَخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ،
وَيَعْقِدُونَ فِي الْعِدَّةِ وَيَعْقِدُونَ ] نِكَاحَ الْمُحَرَّمَاتِ ، وَإِذَا
خَلَتْ الْأَنْكِحَةُ عَنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ فَهِيَ فَاسِدَةٌ ، وَلَا ظِهَارَ
فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بِحَالٍ
.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَهَذَا الدَّلِيلُ بِعَيْنِهِ يَقْتَضِي صِحَّةَ ظِهَارِ الْعَبْدِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَهُ ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَأَحْكَامُ النِّكَاحِ فِي حَقِّهِ ثَابِتَةٌ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْعِتْقُ وَالْإِطْعَامُ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الصِّيَامِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ قَالَ مَالِكٌ : لَيْسَ عَلَى
النِّسَاءِ تَظَاهُرٌ ، إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ
مِنْ نِسَائِهِمْ } وَلَمْ يَقُلْ
: وَاَللَّاتِي يُظَاهِرْنَ مِنْكُنَّ مِنْ
أَزْوَاجِهِنَّ ، وَإِنَّمَا الظِّهَارُ عَلَى الرِّجَالِ .
قَالَ الْقَاضِي : هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ
، وَسَالِمٍ ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، وَرَبِيعَةَ ، وَأَبِي الزِّنَادِ ؛
وَهُوَ صَحِيحٌ مَعْنًى ؛ لِأَنَّ الْحَلَّ وَالْعَقْدَ وَالتَّحْلِيلَ
وَالتَّحْرِيمَ فِي النِّكَاحِ بِيَدِ الرِّجَالِ ، لَيْسَ بِيَدِ الْمَرْأَةِ
مِنْهُ شَيْءٌ .
وَهَذَا إجْمَاعٌ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ يَلْزَمُ الظِّهَارُ فِي
كُلِّ أَمَةٍ يَصِحُّ وَطْؤُهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَلْزَمُ
، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عَسِيرَةٌ جِدًّا عَلَيْنَا ؛ لِأَنَّ مَالِكًا يَقُولُ :
إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ لَمْ يَلْزَمْ ، فَكَيْفَ
يُبْطَلُ صَرِيحُ التَّحْرِيمِ ، وَيُصَحَّحُ كِنَايَتُهُ ، وَلَكِنْ تَدْخُلُ الْأَمَةُ
فِي عُمُومِ : { مِنْ نِسَائِهِمْ } ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مِنْ مُحَلَّلَاتِكُمْ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِالْبُضْعِ
دُونَ رَفْعِ الْعَقْدِ فَيَصِحُّ فِي الْأَمَةِ ، أَصْلُهُ الْحَلِفُ بِاَللَّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ مَنْ بِهِ لَمَمٌ ، وَانْتَظَمَتْ لَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ الْكَلِمُ إذَا ظَاهَرَ لَزِمَ ظِهَارُهُ ، لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ { أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ ثَعْلَبَةَ وَكَانَ زَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ وَكَانَ بِهِ لَمَمٌ فَدَاخَلَهُ بَعْضُ لَمَمِهِ ، فَظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ } .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مَنْ غَضِبَ
فَظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ أَوْ طَلَّقَ لَمْ يُسْقِطْ غَضَبُهُ حُكْمَهُ .
وَفِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ يُوسُفُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ : حَدَّثَتْنِي خَوْلَةُ امْرَأَةُ أَوْسِ بْنِ
الصَّامِتِ قَالَتْ : كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ ، فَقَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ
كَظَهْرِ أُمِّي .
ثُمَّ خَرَجَ إلَى نَادِي قَوْمِهِ .
فَقَوْلُهَا : كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ دَلِيلٌ
عَلَى مُنَازَعَةٍ أَحْرَجَتْهُ ، فَظَاهَرَ مِنْهَا .
وَالْغَضَبُ لَغْوٌ لَا يَرْفَعُ حُكْمًا ، وَلَا
يُغَيِّرُ شَرْعًا .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ وَكَذَلِكَ السَّكْرَانُ يَلْزَمُهُ حُكْمُ الظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ فِي حَالِ سُكْرِهِ إذَا عَقَلَ قَوْلَهُ ، وَنَظَمَ كَلَامَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ فِيمَا أَوْرَدْنَاهُ
مِنْ هَذَا الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَكَمَ فِي الظِّهَارِ بِالْفِرَاقِ ، وَهُوَ الْحُكْمُ بِالتَّحْرِيمِ
بِالطَّلَاقِ ، حَتَّى نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْكَفَّارَةِ .
وَهَذَا نَسْخٌ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ ، فِي حَقِّ شَخْصٍ
وَاحِدٍ ، فِي زَمَانَيْنِ ؛ وَذَلِكَ جَائِزٌ عَقْلًا ، وَاقِعٌ شَرْعًا .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ النَّسْخِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ الظِّهَارُ يُحَرِّمُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الِاسْتِمْتَاعِ ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : " أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي " يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ اسْتِمْتَاعٍ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ ، وَإِنَّمَا حُرِّمَ الْوَطْءُ بِالتَّشْبِيهِ بِالْمُحَرَّمَةِ ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ الِاسْتِمْتَاعِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَالَ الشَّافِعِيُّ
: إذَا ظَاهَرَ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ بِشَرْطِ الزَّوَاجِ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا ،
وَعِنْدَنَا يَكُونُ ظِهَارًا ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا كَذَلِكَ لَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ
[ إذَا زُوِّجَهَا ] لِأَنَّهَا مِنْ نِسَائِهِ حِينَ شَرَطَ نِكَاحَهَا .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَفِيمَا
تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ
.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ إذَا ظَاهَرَ
مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَلْزَمُهُ أَرْبَعُ
كَفَّارَاتٍ ؛ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ
لَفْظَ الْجَمْعِ إنَّمَا وَقَعَ فِي عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّمَا
الْمُعَوِّلُ عَلَى الْمَعْنَى ، وَهُوَ أَنَّهُ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِالْفَرْجِ
يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ لِوَجْهٍ ، فَكَانَتْ وَاحِدَةً .
وَإِنْ عَلَّقَهُ بِعَدَدٍ ، أَصْلُهُ الْإِيلَاءُ ،
وَمَا أَقْرَبُ مَا بَيْنَهُمَا ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي الْإِنْصَافِ ،
وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمُوجَبَ لَا يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمَحَلِّ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا } [ فَسَمَّاهُ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا ] ، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمَهُ [ مِنْ الْكَفَّارَةِ وَالتَّحْرِيمِ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ وَهُوَ فِي حَالِ الْحَيْضِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ ] إذَا وَقَعَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ قَوْلُهُ : {
ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } : وَهُوَ حَرْفٌ مُشْكِلٌ ؛
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي
مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ .
وَمَحْصُولُ الْأَقْوَالِ سَبْعَةٌ : أَحَدُهَا :
أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ ؛ وَهُوَ مَشْهُورُ قَوْلِ الْعِرَاقِيِّينَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ .
الثَّالِثُ : الْعَزْمُ عَلَيْهِمَا ؛ وَهُوَ قَوْلُ
مَالِكٍ فِي مُوَطَّئِهِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ الْوَطْءُ نَفْسُهُ .
الْخَامِسُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ أَنْ
يُمْسِكَهَا زَوْجَةً بَعْدَ الظِّهَارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّلَاقِ .
السَّادِسُ : أَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ وَطْأَهَا إلَّا
بِكَفَّارَةٍ .
السَّابِعُ : هُوَ تَكْرِيرُ الظِّهَارِ بِلَفْظِهِ ،
وَيُسْنَدُ إلَى بُكَيْر بْنِ الْأَشَجِّ .
فَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْعَوْدُ إلَى لَفْظِ
الظِّهَارِ فَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا ، وَلَا يَصِحُّ عَنْ بُكَيْر ، وَإِنَّمَا
يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَهَالَةِ دَاوُد وَأَشْيَاعِهِ .
وَقَدْ رَوَيْت قِصَصَ الْمُتَظَاهِرِينَ ، وَلَيْسَ فِي
ذِكْرِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِمْ ذِكْرٌ لِعَوْدِ الْقَوْلِ مِنْهُمْ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَعْنَى يَنْقُضُهُ ؛ لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِأَنَّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ ، فَكَيْفَ
يُقَالُ لَهُ إذَا أَعَدْت الْقَوْلَ الْمُحَرَّمَ وَالسَّبَبَ الْمَحْظُورَ
وَجَبَتْ عَلَيْك الْكَفَّارَةُ ، وَهَذَا لَا يُعْقَلُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ
سَبَبٍ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِعَادَةُ مِنْ قَتْلٍ وَوَطْءٍ
فِي صَوْمٍ وَنَحْوِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّهُ تَرْكُ
الطَّلَاقِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَيَنْقُضُهُ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ أُمَّهَاتٍ
: الْأَوَّلُ : أَنَّهُ قَالَ { ثُمَّ
} وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي التَّرَاخِيَ .
الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ { ثُمَّ يَعُودُونَ }
يَقْتَضِي وُجُودَ فِعْلٍ مِنْ جِهَتِهِ ، وَمُرُورُ الزَّمَانِ لَيْسَ بِفِعْلٍ
مِنْهُ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا
يُنَافِي الْبَقَاءَ عَلَى الْمِلْكِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ الظِّهَارِ
كَالْإِيلَاءِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا رَآهَا كَالْأُمِّ لَمْ
يُمْسِكْهَا ؛ إذْ لَا يَصِحُّ إمْسَاكُ الْأُمِّ بِالنِّكَاحِ .
وَهَذَا عُمْدَةُ أَهْلِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ .
قُلْنَا : إذَا عَزَمَ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ ،
وَرَآهَا خِلَافَ الْأُمِّ كَفَّرَ ، وَعَادَ إلَى أَهْلِهِ .
وَتَحْقِيقُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْعَزْمَ قَوْلٌ
نَفْسِيٌّ ، وَهَذَا رَجُلٌ قَالَ قَوْلًا يَقْتَضِي التَّحْلِيلَ ، وَهُوَ
النِّكَاحُ ، وَقَالَ قَوْلًا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَهُوَ الظِّهَارُ ، ثُمَّ
عَادَ لِمَا قَالَ ، وَهُوَ قَوْلُ التَّحْلِيلِ ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ
مِنْهُ ابْتِدَاءَ عَقْدٍ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَاقٍ ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ
قَوْلُ عَزْمٍ يُخَالِفُ مَا اعْتَقَدَهُ ، وَقَالَهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ
الظِّهَارِ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَفَّرَ ، وَعَادَ إلَى أَهْلِهِ
لِقَوْلِهِ : { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ بَالِغٌ فِي
فَنِّهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ مُحَرَّمٌ ،
فَلَا أَثَرَ لَهُ فِي مُوَافَقَةِ الْمُحَرَّمِ .
قُلْنَا : هَذَا لَا مَعْنَى لَهُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا
يَعْزِمُ عَلَى مَا يَجُوزُ لَهُ بِمُحَلَّلٍ ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ وَلَا يَحِلُّ
لَهُ أَنْ يَطَأَ حَتَّى يُكَفِّرَ ، فَإِنْ وَطِئَ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ لَمْ
تَتَعَدَّدْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ .
قُلْنَا : أَمَّا الْكَفَّارَةُ الْوَاحِدَةُ
فَقُرْآنِيَّةٌ سُنِّيَّةٌ .
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَقَوْلٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْإِنْصَافِ ، عَلَى
أَنَّ جَمَاعَةً رَوَوْا مِنْهُمْ النَّسَائِيّ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ { أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ قَدْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا ، فَقَالَ : يَا
رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي قَدْ ظَاهَرْت مِنْ امْرَأَتِي ، فَوَقَعْت عَلَيْهَا قَبْلَ
أَنْ أُكَفِّرَ .
قَالَ : مَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُك اللَّهُ ،
قَالَ : رَأَيْت خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ .
فَقَالَ : لَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَك
اللَّهُ } .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ إذَا
طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بَعْدَ الظِّهَارِ ، ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ
لَمْ يَطَأْ حَتَّى يُكَفِّرَ ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَبَنَاهَا عَلَى مَا
تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْعَوْدِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ، فَلَا مَعْنًى لِإِعَادَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ إذَا
ظَاهَرَ مُوَقِّتًا بِزَمَانٍ .
قَالَ مَالِكٌ : يَلْزَمُهُ مُؤَبَّدًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَلْغُو ؛ وَمَا أَخْبَرَ
اللَّهُ عَنْهُ فِي الظِّهَارِ عُمُومٌ فِي الْمُؤَقَّتِ وَالْمُؤَبَّدِ .
وَإِذَا وَقَعَ التَّحْرِيمُ بِالظِّهَارِ لَمْ
يَرْفَعْهُ مُرُورُ الزَّمَانِ ، وَإِنَّمَا تَرْفَعُهُ الْكَفَّارَةُ الَّتِي
جَعَلَهَا اللَّهُ رَافِعَةً لَهُ
.
وَقَدْ وَافَقَنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ زَمَانًا
مُؤَقَّتًا لَزِمَهُ الطَّلَاقُ عَامًّا ، وَلَا انْفِصَالَ لَهُ عَنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذِكْرِ الرَّقَبَةِ ، وَأَنَّهَا السَّلِيمَةُ مِنْ الْعُيُوبِ ، وَفِي أَنَّهَا الْمُؤْمِنَةُ لَيْسَتْ الْكَافِرَةَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ وَأَنَّهَا مَنْ لَا شَائِبَةَ لِلْحُرِّيَّةِ فِيهَا ، كَالْمُكَاتَبَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْجَمِيعِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تُجْزِي ، فَالْمُكَاتَبَةُ مِثْلُهَا ؛ لِأَنَّ [ عَقْدَ ] الْحُرِّيَّةِ قَدْ ثَبَتَ لَهَا ، وَهِيَ مِنْ السَّيِّدِ فِي حُكْمِ الْأَجْنَبِيَّةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَرَجَّحْنَا أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ أَشْبَهُ بِأُمِّ الْوَلَدِ مِنْهَا بِالْأَمَةِ ، وَكَذَلِكَ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْمَسَاكِينِ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ اخْتَلَفَ
عُلَمَاؤُنَا هَلْ الْمُعْتَبَرُ فِي الْكَفَّارَةِ حَالُ الْوُجُوبِ أَوْ حَالُ
الْأَدَاءِ ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُعْتَبَرُ حَالُ الْأَدَاءِ فِي أَحَدِ
قَوْلَيْنِ .
وَقَالَهُ مَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ أَيْضًا .
وَالثَّانِي الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْوُجُوبِ .
وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَظَاهِرُ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { ثُمَّ
يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } [ فِيهِ ] يَرْتَبِطُ الْوُجُوبُ
بِالْعَوْدِ ، وَفِيهِ يَرْتَبِطُ كَيْفَمَا كَانَتْ حَالَةُ الِارْتِبَاطِ ،
بَيْدَ أَنَّهُ لِلْمَسْأَلَةِ حَرْفٌ جَرَى فِي أَلْسِنَةِ عُلَمَائِنَا مِنْ غَيْرِ
قَصْدٍ ، وَهُوَ مَقْصُودُ الْمَسْأَلَةِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي
الْكَفَّارَةِ صِفَةُ الْعِبَادَةِ أَوْ صِفَةُ الْعُقُوبَةِ .
وَالشَّافِعِيُّ اعْتَبَرَ صِفَةَ الْعُقُوبَةِ ؛ وَنَحْنُ
اعْتَبَرْنَا صِفَةَ الْقُرْبَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ
الْخِلَافِ ؛ فَإِذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ صِفَةَ الْقُرْبَةِ فَالْقُرْبُ إنَّمَا
يُعْتَبَرُ فِي حَالِ الْإِجْزَاءِ خَاصَّةً بِحَالِ الْأَدَاءِ كَالطَّهَارَةِ
وَالصَّلَاةِ ، وَاَلَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ حَالَةُ الْوُجُوبِ هِيَ الْحُدُودُ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا وَجَبَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ
قَائِمًا ، ثُمَّ عَجَزَ فَقَعَدَ فِيهَا فَهَذَا مِنْ الْمُغَايِرِ لِلْقُرْبَةِ
فِي الْهَيْئَاتِ ، بِخِلَافِ الْعِتْقِ وَالصَّوْمِ فَإِنَّهُمَا جِنْسَانِ ،
وَعَلَيْهِ عَوَّلَ أَبُو الْمَعَالِي
.
قُلْنَا : إنْ كَانَ الْعِتْقُ وَالصَّوْمُ جِنْسَيْنِ فَإِنَّ
الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ ضِدَّانِ ، فَالْخُرُوجُ مِنْ جِنْسٍ إلَى جِنْسٍ
أَقْرَبُ مِنْ الْعُدُولِ مِنْ ضِدٍّ إلَى ضِدٍّ .
فَإِنْ قِيلَ : الطَّهَارَةُ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً
لِنَفْسِهَا ، وَإِنَّمَا تُرَادُ لِلصَّلَاةِ ؛ فَاعْتُبِرَ حَالُ فِعْلِ
الصَّلَاةِ فِيهَا .
قُلْنَا
: وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً
لِنَفْسِهَا ، وَإِنَّمَا تُرَادُ لِحِلِّ الْمَسِيسِ ؛ فَإِذَا اُحْتِيجَ إلَى
الْمَسِيسِ اُعْتُبِرَتْ الْحَالَةُ الْمَذْكُورَةُ فِيهَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَدْ
بَيَّنَّا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْوَسَطُ مِنْ
الْإِطْعَامِ ، وَهُوَ مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ .
وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ
عَبْدِ الْحَكَمِ : مُدٌّ بِمُدِّ هِشَامٍ ، وَهُوَ الشِّبَعُ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ الطَّعَامَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْوَسَطَ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ : مُدَّانِ بِمُدِّ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قِيلَ لَهُ : أَلَمْ تَكُنْ قُلْت : مُدُّ هِشَامٍ ،
قَالَ : بَلَى ، وَمُدَّانِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَحَبُّ إلَيَّ .
وَكَذَلِكَ قَالَ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا .
وَمُدُّ هِشَامٍ هُوَ مُدَّانِ غَيْرُ ثُلُثٍ بِمُدِّ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ أَشْهَبُ : قُلْت لَهُ : أَيَخْتَلِفُ الشِّبَعُ
عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
الشِّبَعُ عِنْدَنَا مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشِّبَعُ عِنْدَكُمْ أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَنَا بِالْبَرَكَةِ دُونَكُمْ ،
وَأَنْتُمْ تَأْكُلُونَ أَكْثَرَ مِمَّا نَأْكُلُ نَحْنُ ، وَهَذَا بَيِّنٌ جِدًّا .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَقَعَ الْكَلَامُ هَاهُنَا
كَمَا تَرَوْنَ فِي مُدِّ هِشَامٍ ، وَدِدْت أَنْ يُهَشِّمَ الزَّمَانُ ذِكْرَهُ ،
وَيَمْحُوَ مِنْ الْكُتُبِ رَسْمَهُ ؛ فَإِنَّ الْمَدِينَةَ الَّتِي نَزَلَ
الْوَحْيُ بِهَا ، وَاسْتَقَرَّ بِهَا الرَّسُولُ ، وَوَقَعَ عِنْدَهُمْ
الظِّهَارُ وَقِيلَ لَهُمْ فِيهِ : { فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } فَهِمُوهُ
وَعَرَفُوا الْمُرَادَ بِهِ ، وَأَنَّهُ الشِّبَعُ ، وَقَدْرُهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ
مُتَقَدِّرٌ لَدَيْهِمْ ، فَقَدْ كَانُوا يَجُوعُونَ لِحَاجَةٍ وَيَشْبَعُونَ
بِسُنَّةٍ لَا بِشَهْوَةٍ [ وَمَجَاعَةٍ ] ، وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الشِّبَعِ فِي
الْأَخْبَارِ كَثِيرًا ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ فِي الْأَنْوَارِ ،
وَاسْتَمَرَّتْ الْحَالُ عَلَى ذَلِكَ أَيَّامَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ
الْمَهْدِيِّينَ ، حَتَّى نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِ هِشَامٍ ، فَرَأَى مُدَّ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا
يُشْبِعُهُ ، وَلَا مِثْلَهُ مِنْ حَاشِيهِ وَنُظَرَائِهِ ، فَسَوَّلَ لَهُ أَنْ
يَتَّخِذَ مُدًّا يَكُونُ فِيهِ شِبَعُهُ ، فَجَعَلَهُ رَطْلَيْنِ ، وَحَمَلَ
النَّاسَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا ابْتَلَّ عَادَ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَرْطَالٍ ،
فَغَيَّرَ السُّنَّةَ ، وَأَذْهَبَ مَحَلَّ الْبَرَكَةِ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حِينَ دَعَا رَبَّهُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ بِالْبَرَكَةِ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ
وَصَاعِهِمْ : مِثْلَ مَا بَارَكَ لِإِبْرَاهِيمَ بِمَكَّةَ .
فَكَانَتْ الْبَرَكَةُ تَجْرِي بِدَعْوَةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُدِّهِ ، فَسَعَى الشَّيْطَانُ فِي
تَغْيِيرِ هَذِهِ السُّنَّةِ وَإِذْهَابِ الْبَرَكَةِ ، فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ
فِي ذَلِكَ إلَّا هِشَامٌ ، فَكَانَ مِنْ حَقِّ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُلْغُوا
ذِكْرَهُ ، وَيَمْحُوا رَسْمَهُ ، وَإِذَا لَمْ يُغَيِّرُوا أَمْرَهُ ، وَأَمَّا
أَنْ يُحِيلُوا عَلَى ذِكْرِهِ فِي الْأَحْكَامِ ، وَيَجْعَلُوهُ تَفْسِيرًا لِمَا
ذَكَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُفَسِّرًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ
الَّذِينَ نَزَلَ عَلَيْهِمْ فَخَطْبٌ جَسِيمٌ ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتْ رِوَايَةُ أَشْهَبَ
فِي ذِكْرِ مُدَّيْنِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
كَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَحَبَّ إلَيْنَا مِنْ الرِّوَايَةِ بِأَنَّهَا بِمُدِّ
هِشَامٍ .
أَلَا تَرَى كَيْفَ نَبَّهَ مَالِكٌ عَلَى هَذَا
الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ [ لِأَشْهَبَ ] : الشِّبَعُ عِنْدَنَا بِمُدِّ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالشِّبَعُ عِنْدَكُمْ أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَنَا بِالْبَرَكَةِ ،
وَبِهَذَا أَقُولُ ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ إذَا أُدِّيَتْ بِالسُّنَّةِ ، فَإِنْ
كَانَتْ فِي الْبَدَنِ كَانَ أَسْرَعَ لِلْقَبُولِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَالِ
كَانَ قَلِيلُهَا أَثْقَلَ فِي الْمِيزَانِ ، وَأَبْرَكَ فِي يَدِ الْآخِذِ ،
وَأَطْيَبَ فِي شِدْقِهِ ، وَأَقَلَّ آفَةً فِي بَطْنِهِ ، وَأَكْثَرَ إقَامَةً
لِصُلْبِهِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْلُهُ
: { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا }
يَقْتَضِي أَنَّ الْوَطْءَ لِلزَّوْجَةِ فِي لَيْلِ صَوْمِ الظِّهَارِ يُبْطِلُ
الْكَفَّارَةَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرَطَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ
فِعْلَهَا قَبْلِ التَّمَاسِّ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّمَا يَكُونُ شَرْطُ
الْمَسِيسِ فِي الْوَطْءِ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ .
قَالَ :
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الصَّوْمَ قَبْلَ
التَّمَاسِّ ، فَإِذَا وَطِئَ فِيهِ فَقَدْ [ تَعَذَّرَ كَوْنُهُ قَبْلَهُ ،
فَإِذَا أَتَمَّهَا كَانَ بَعْضُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَهُ ، وَإِذَا اسْتَأْنَفَهَا ] كَانَ الْوَطْءُ
قَبْلَ جَمِيعِهَا ، وَامْتِثَالُ الْأَمْرِ فِي بَعْضِهَا أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ
فِي جَمِيعِهَا .
قُلْنَا : هَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يُذَقْ طَعْمَ
الْفِقْهِ ؛ فَإِنَّ الْوَطْءَ الْوَاقِعَ فِي خِلَالِ الصَّوْمِ لَيْسَ
بِالْمُحَلِّ الْمَأْذُونِ فِيهِ بِالْكَفَّارَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ وَطْءُ
تَعَدٍّ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الِامْتِثَالِ لِلْأَمْرِ بِصَوْمٍ لَا يَكُونُ فِي
أَثْنَائِهِ وَطْءٌ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ
غَرِيبِ الْأَمْرِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : الْحَجْرُ عَلَى الْحُرِّ
بَاطِلٌ ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } ، وَلَمْ
يُفَرِّقْ بَيْنَ السَّفِيهِ وَالرَّشِيدِ .
وَهَذَا فِقْهٌ ضَعِيفٌ لَا يُنَاسِبُ قَدْرَهُ ؛
فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ ، وَقَدْ كَانَ الْقَضَاءُ بِالْحَجْرِ فِي
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشِيًا ،
وَالنَّظَرُ يَقْتَضِيهِ .
وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجْرٌ لِصِغَرٍ أَوْ لِوِلَايَةٍ
، وَبَلَغَ سَفِيهًا قَدْ نُهِيَ عَنْ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ فَكَيْفَ يَنْفُذُ
فِعْلُهُ فِيهِ ؟ وَالْخَاصُّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَلَمْ
تَرَ إلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنْ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ
وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا
جَاءُوك حَيَّوْك بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي
أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا
فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .
لَا خِلَافَ بَيْنَ النَّقَلَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ
الْيَهُودُ ، كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَيَقُولُونَ : السَّامُ عَلَيْك ؛ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ السَّلَامَ ظَاهِرًا ،
وَهُمْ يَعْنُونَ الْمَوْتَ بَاطِنًا ، فَيَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَيْكُمْ
[ فِي رِوَايَةٍ ] ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى :
وَعَلَيْكُمْ بِالْوَاوِ ، وَهِيَ مُشْكِلَةٌ .
وَكَانُوا يَقُولُونَ : لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا
مَا أَمْهَلَنَا اللَّهُ بِسِبِّهِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ ؛ وَجَهِلُوا أَنَّ
الْبَارِئَ تَعَالَى حَلِيمٌ لَا يُعَاجِلُ مَنْ سَبَّهُ ، فَكَيْفَ مَنْ سَبَّ
نَبِيَّهُ .
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا أَحَدَ أَصَبْرُ عَلَى الْأَذَى مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ،
يَدَّعُونَ لَهُ الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ ، وَهُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ } .
فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا كَشْفًا لِسَرَائِرِهِمْ ،
وَفَضْحًا لِبَوَاطِنِهِمْ ، وَمُعْجِزَةً لِرَسُولِهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا شَرْحَ هَذَا فِي مُخْتَصَرِ
النَّيِّرَيْنِ .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ
يَهُودِيًّا أَتَى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى
أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : السَّامُ عَلَيْكُمْ ، فَرَدَّ عَلَيْهِ ، فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَدْرُونَ مَا قَالَ هَذَا ؟ قَالُوا
: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ
.
قَالَ : قَالَ كَذَا ؛ رُدُّوهُ عَلَيَّ ، فَرَدُّوهُ .
قَالَ : قُلْت : السَّامُ عَلَيْكُمْ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ .
فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ : إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا :
عَلَيْك مَا قُلْت } .
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
: { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ } .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ
فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ اُنْشُزُوا فَانْشُزُوا
يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
دَرَجَاتٍ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْلَمُونَ خَبِيرٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي
تَفْسِيرِ الْمَجْلِسِ : فِيهِ أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ
مَجْلِسُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ .
وَكَانَ قَوْمٌ إذَا أَخَذُوا فِيهِ مَقَاعِدَهُمْ
شَحُّوا عَلَى الدَّاخِلِ أَنْ يَفْسَحُوا لَهُ .
وَلَقَدْ أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ بْنُ
الْكَرَامِيُّ بِهَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُمَرَ ، أَخْبَرَنَا
ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بُكَيْر الْغَلَّابِيُّ ، حَدَّثَنَا
الْعَبَّاسُ بْنُ بَكَّارٍ الضَّبِّيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْمُثَنَّى الْأَنْصَارِيُّ عَنْ عَمِّهِ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَنَسٍ [ عَنْ أَنَسٍ ] قَالَ : { بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَقَدْ أَطَافَ بِهِ أَصْحَابُهُ إذْ
أَقْبَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَوَقَفَ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ نَظَرَ مَجْلِسًا
يُشْبِهُهُ ؛ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
وُجُوهِ أَصْحَابِهِ أَيِّهِمْ يُوَسِّعُ لَهُ ؛ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ جَالِسًا عَلَى
يَمِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَزَحْزَحَ لَهُ عَنْ
مَجْلِسِهِ ، وَقَالَ : هَا هُنَا يَا أَبَا الْحَسَنِ ، فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ .
قَالَ : فَرَأَيْنَا السُّرُورَ فِي وَجْهِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ ،
فَقَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ ؛ إنَّمَا يَعْرِفُ الْفَضْلَ لِأَهْلِ الْفَضْلِ
ذَوُو الْفَضْلِ } .
الثَّانِي : أَنَّهُ الْمَسْجِدُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ مَجْلِسُ الذِّكْرِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ مَوْقِفُ الصَّفِّ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فِي الْقِتَالِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَمِيعَ مُرَادٌ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُحْتَمِلٌ لَهُ ، وَالتَّفَسُّحُ وَاجِبٌ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { اُنْشُزُوا
فَانْشُزُوا } : فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا
جَلَسُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسِهِ
أَطَالُوا ، يَرْغَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِ
بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ أَنْ
يَرْتَفِعُوا .
الثَّانِي : أَنَّهُ الْأَمْرُ بِالِارْتِفَاعِ إلَى
الْقِتَالِ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ ؛ قَالَهُ
مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ الْخَيْرُ كُلُّهُ ؛ قَالَهُ
قَتَادَةُ .
وَهُوَ الصَّحِيحُ ، كَمَا بَيَّنَّاهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْفُسْحَةُ كُلُّ فَرَاغٍ
بَيْنَ مَلَأَيْنِ .
وَالنَّشْزُ : مَا ارْتَفَعَ مِنْ الْأَرْضِ .
ذَكَرَ الْأَوَّلَ بِلَفْظِهِ وَحَقِيقَتِهِ ، وَضَرَبَ
الْمَثَلَ لِلثَّانِي فِي الِارْتِفَاعِ ؛ فَصَارَ مَجَازًا فِي اللَّفْظِ
حَقِيقَةً فِي الْمَعْنَى .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ كَيْفِيَّةُ التَّفَسُّحِ
فِي الْمَجَالِسِ مُشْكِلَةٌ ، وَتَفَاصِيلُهَا كَثِيرَةٌ : الْأَوَّلُ مَجْلِسُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْسَحُ فِيهِ بِالْهِجْرَةِ
وَالْعِلْمِ وَالسِّنِّ .
الثَّانِي مَجْلِسُ الْجُمُعَاتِ يُتَقَدَّمُ فِيهِ
بِالْبُكُورِ إلَّا مَا يَلِي الْإِمَامَ ، فَإِنَّهُ لِذَوِي الْأَحْلَامِ
وَالنُّهَى .
الثَّالِثُ : مَجْلِسُ الذِّكْرِ يَجْلِسُ فِيهِ كُلُّ
أَحَدٍ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ .
الرَّابِعُ مَجْلِسُ الْحَرْبِ يَتَقَدَّمُ فِيهِ ذَوُو
النَّجْدَةِ وَالْمِرَاسِ مِنْ النَّاسِ .
الْخَامِسُ مَجْلِسُ الرَّأْيِ وَالْمُشَاوَرَةِ
يَتَقَدَّمُ فِيهِ مَنْ لَهُ بَصَرٌ بِالشُّورَى ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي مَجْلِسِ
الذِّكْرِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ : { يَرْفَعْ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } فَيَرْتَفِعُ
الْمَرْءُ بِإِيمَانِهِ أَوَّلًا ، ثُمَّ بِعِلْمِهِ ثَانِيًا .
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ
يُقَدِّمُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الصَّحَابَةِ ، فَكَلَّمُوهُ فِي
ذَلِكَ ، فَدَعَاهُمْ وَدَعَاهُ ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ تَفْسِيرِ { إذَا جَاءَ
نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } فَسَكَتُوا ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ أَجَلُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ اللَّهُ إيَّاهُ .
فَقَالَ عُمَرُ : مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إلَّا مَا
تَعْلَمُ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : إنَّ الْآيَةَ فِي مَجْلِسِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَجَالِسِنَا هَذِهِ ، وَإِنَّ
الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى عَنْهُ : إنَّ قَوْلَهُ :
{ يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا } الصَّحَابَةَ { وَاَلَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا الْعَالِمَ وَالطَّالِبَ لِلْحَقِّ .
وَالْعُمُومُ أَوْقَعُ فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَأَوْلَى
بِمَعْنَى الْآيَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيْ نَجَوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ
تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى رُوِيَ
عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَلْقَمَةَ الْأَنْمَارِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
قَالَ : { لَمَّا نَزَلَتْ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَاجَيْتُمْ
الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } قَالَ لِي
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دِينَارٌ ؛ قُلْت : لَا
يُطِيقُونَهُ .
قَالَ : نِصْفُ دِينَارٍ .
قُلْت : لَا يُطِيقُونَهُ .
قَالَ : فَكَمْ ؟ قُلْت : شَعِيرَةٌ .
قَالَ إنَّك لَزَهِيدٌ .
فَنَزَلَتْ :
{ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ
نَجَوَاكُمْ صَدَقَاتٍ } قَالَ : فَبِي خَفَّفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ } .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ
أُصُولِيَّتَيْنِ : الْأُولَى نَسْخُ الْعِبَادَةِ قَبْلَ فِعْلِهَا .
الثَّانِيَةُ النَّظَرُ فِي الْمُقَدَّرَاتِ
بِالْقِيَاسِ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ : شَعِيرَةٌ .
يُرِيدُ وَزْنَ شَعِيرَةٍ [ مِنْ ذَهَبٍ ] .
وَقَدْ رُوِيَ [ عَنْ ] مُجَاهِدٍ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ
تَصَدَّقَ فِي ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، تَصَدَّقَ بِدِينَارٍ ، وَنَاجَى
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُوِيَ [ أَنَّهُ تَصَدَّقَ ] بِخَاتَمٍ ،
وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَصِحُّ .
وَقَدْ سَرَدَ الْمَسْأَلَةَ كَمَا يَجِبُ أَسْلَمُ فِي
رِوَايَةِ زَيْدٍ ابْنِهِ عَنْهُ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَالَ : وَكَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْنَعُ أَحَدًا مُنَاجَاتَهُ .
يُرِيدُ لَا يَسْأَلُهُ حَاجَةً إلَّا نَاجَاهُ بِهَا
مِنْ شَرِيفٍ أَوْ دَنِيءٍ ؛ فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَأْتِيهِ فَيُنَاجِيهِ ، كَانَتْ
لَهُ حَاجَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ ، وَكَانَتْ الْأَرْضُ كُلُّهَا حَرْبًا عَلَى
الْمَدِينَةِ ، وَكَانَ الشَّيْطَانُ يَأْتِي أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ حَوْلَهُ
.
فَيَقُولُ لَهُ : أَتَدْرُونَ لِمَ نَاجَى فُلَانٌ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ إنَّمَا نَاجَاهُ ؛ لِأَنَّ
جُمُوعًا [ كَثِيرَةً ] مِنْ بَنِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ قَدْ خَرَجُوا
لِيُقَاتِلُوكُمْ .
قَالَ : فَيُحْزِنُ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَشُقُّ
عَلَيْهِمْ .
وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ : إنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ
سَمَّاعَةٌ يَسْمَعُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ يُنَاجِيهِ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ : { وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ } .
وَقَالَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ
الَّذِي إلَيْهِ تُحْشَرُونَ إنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ } فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْ الْمُنَاجَاةِ ؛
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا
نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجَوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ
خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ } لِيَنْتَهِيَ أَهْلُ الْبَاطِلِ عَنْ مُنَاجَاةِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَعَرَفَ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْبَاطِلِ لَا يُقَدِّمُونَ
بَيْنَ يَدَيْ نَجَوَاهُمْ صَدَقَةً ؛ فَانْتَهَى أَهْلُ الْبَاطِلِ عَنْ
النَّجْوَى ، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ الْحَوَائِجِ وَالْمُؤْمِنِينَ ،
فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالُوا : لَا نُطِيقُهُ ، فَخَفَّفَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَنَسَخَتْهَا
آيَةُ : {
فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } .
وَهَذَا الْخَبَرُ مِنْ زَيْدٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْأَحْكَامَ لَا تَتَرَتَّبُ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
قَالَ : { ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ } [ ثُمَّ نَسَخَهُ مَعَ كَوْنِهِ
خَيْرًا وَأَطْهَرَ ] .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ عَظِيمٌ فِي
الْتِزَامِ الْمَصَالِحِ ؛ لَكِنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ عَنْ زَيْدٍ ابْنُهُ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْعُلَمَاءُ .
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ : { ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَأَطْهَرُ } نَصٌّ مُتَوَاتِرٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَا
تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ
حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ
أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ
نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ ؛
كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أَبُوهُ الْجَرَّاحُ يَتَصَدَّى لِأَبِي عُبَيْدَةَ ،
فَجَعَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَحِيدُ عَنْهُ ، فَلَمَّا أَكْثَرَ قَصَدَ إلَيْهِ أَبُو
عُبَيْدَةَ فَقَتَلَهُ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى حِينَ قَتَلَ أَبَاهُ : {
لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ
حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ
مَالِكٍ : لَا تُجَالِسْ الْقَدَرِيَّةَ وَعَادَهُمْ فِي اللَّهِ لِقَوْلِ
الْآيَةِ : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } .
قَالَ الْقَاضِي : قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مِنْ
كَلَامِنَا فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ بَدَائِعَ اسْتِنْبَاطِ مَالِكٍ مِنْ كِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ كَانَ حَفِيًّا بِأَهْلِ التَّوْحِيدِ غَرِيًّا
بِالْمُبْتَدِعَةِ يَأْخُذُ عَلَيْهِمْ جَانِبَ الْحُجَّةِ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَمِنْ
أَجْلِهِ أَخَذَهُ لَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ؛ فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ تَدَّعِي
أَنَّهَا تَخْلُقُ كَمَا يَخْلُقُ اللَّهُ ، وَأَنَّهَا تَأْتِي بِمَا يَكْرَهُ اللَّهُ
وَلَا يُرِيدُهُ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّ ذَلِكَ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَجُوسِيًّا نَاظَرَ قَدَرِيًّا ،
فَقَالَ الْقَدَرِيُّ لِلْمَجُوسِيِّ : مَالَك لَا تُؤْمِنُ ؟ فَقَالَ لَهُ
الْمَجُوسِيُّ : لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَآمَنْت .
قَالَ لَهُ الْقَدَرِيُّ : قَدْ شَاءَ اللَّهُ ،
وَلَكِنَّ الشَّيْطَانَ يَصُدُّك
.
قَالَ لَهُ الْمَجُوسِيُّ : فَدَعْنِي مَعَ أَقْوَاهُمَا .
سُورَةُ الْحَشْرِ [ فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ آيَةً ]
الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ
يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ
اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا
يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ : سُورَةُ الْحَشْرِ ؟ قَالَ : قُلْ
سُورَةُ النَّضِيرِ ، وَهُمْ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ مِنْ ذُرِّيَّةِ هَارُونَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ نَزَلُوا الْمَدِينَةَ فِي فَنَنِ بَنِي إسْرَائِيلَ انْتِظَارًا
لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا قَصَّ
اللَّهُ فِي كِتَابِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : {
لِأَوَّلِ الْحَشْرِ } فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : جَلَاءُ
الْيَهُودِ .
الثَّانِي : إلَى الشَّامِ ؛ لِأَنَّهَا أَرْضُ
الْمَحْشَرِ ؛ قَالَهُ عُرْوَةُ ، وَالْحَسَنُ .
الثَّالِثُ :
قَالَ قَتَادَةُ : أَوَّلُ الْحَشْرِ نَارٌ تَسُوقُ
النَّاسَ إلَى الْمَغَارِبِ ، وَتَأْكُلُ مَنْ خُلِّفَ [ فِي الدُّنْيَا ] .
وَنَحْوُهُ رَوَى وَهْبٌ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : قُلْت
لِمَالِكٍ : هُوَ جَلَاؤُهُمْ عَنْ دَارِهِمْ ؟ فَقَالَ لِي : الْحَشْرُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ حَشْرُ الْيَهُودِ ؛ قَالَ : وَإِجْلَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ إلَى خَيْبَرَ حِينَ سُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ
الْمَالِ فَكَتَمُوهُ فَاسْتَحَلَّهُمْ بِذَلِكَ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : لِلْحَشْرِ أَوَّلٌ وَوَسَطٌ وَآخِرٌ
؛ فَالْأَوَّلُ إجْلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ ، وَالْأَوْسَطُ إجْلَاءُ خَيْبَرَ ،
وَالْآخِرُ حَشْرُ الْقِيَامَةِ الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَأَشَارَ إلَى
أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي وَقْتِهَا : قَالَ
الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ : كَانَتْ بَعْدَ بَدْرٍ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيُّ : كَانَتْ
بَعْدَ أُحُدٍ ، وَبَعْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ ، وَكَانَتْ عَلَى يَدَيْ عَمْرِو بْنِ
أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ ، وَاخْتَارَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهَا قَبْلَ أُحُدٍ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا
ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : {
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ
مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا } : وَثِقُوا بِحُصُونِهِمْ ، وَلَمْ يَثِقُوا
بِاَللَّهِ لِكُفْرِهِمْ ، فَيَسَّرَ اللَّهُ مَنَعَتَهُمْ ، وَأَبَاحَ
حَوْزَتَهُمْ .
وَالْحِصْنُ هُوَ الْعُدَّةُ وَالْعِصْمَةُ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ : وَلَقَدْ عَلِمْت عَلَى
تَوَقِّي الرَّدَى أَنَّ الْحُصُونَ الْخَيْلُ لَا مُدُنُ الْقُرَى يَخْرُجْنَ
مِنْ خَلَلِ الْقَتَامِ عَوَابِسَا كَأَنَامِلِ الْمَقْرُورِ أَقْعَى فَاصْطَلَى وَلَقَدْ
أَحْسَنَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي إصَابَةِ الْمَعْنَى ، فَقَالَ : وَإِنْ
بَاشَرَ الْأَصْحَابُ فَالْبِيضُ وَالْقَنَا قِرَاهُ وَأَحْوَاضُ الْمَنَايَا
مَنَاهِلُهُ وَإِنْ يَبْنِ حِيطَانًا عَلَيْهِ فَإِنَّمَا أُولَئِكَ عِقَالَاتُهُ
لَا مَعَاقِلُهُ وَإِلَّا فَأَعْلِمْهُ بِأَنَّك سَاخِطٌ وَدَعْهُ فَإِنَّ
الْخَوْفَ لَا شَكَّ قَاتِلُهُ
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَقَذَفَ
فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله
تَعَالَى : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ } : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : نُصِرْت بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ
شَهْرٍ ، فَكَيْفَ لَا يُنْصَرُ بِهِ مَسِيرَةَ مَيْلٍ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَحَلَّةِ
بَنِي النَّضِيرِ .
وَهَذِهِ خِصِّيصَةٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ غَيْرِهِ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : {
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } : فِيهِ
خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : يُخْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ بِنَقْضِ
الْمُوَادَعَةِ ، وَبِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُقَاتَلَةِ ؛ قَالَهُ
الزُّهْرِيُّ .
الثَّانِي
: بِأَيْدِيهِمْ فِي تَرْكِهِمْ لَهَا ، وَبِأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ فِي إجْلَائِهِمْ عَنْهَا ؛ قَالَهُ أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ .
الثَّالِثُ بِأَيْدِيهِمْ دَاخِلَهَا ، وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ خَارِجَهَا ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ .
الرَّابِعُ كَانَ الْمُسْلِمُونَ إذَا هَدَمُوا بَيْتًا
مِنْ خَارِجِ الْحِصْنِ هَدَمُوا بُيُوتَهُمْ يَرْمُونَهُمْ مِنْهَا .
الْخَامِسُ كَانُوا يَحْمِلُونَ مَا يُعْجِبُهُمْ
فَذَلِكَ خَرَابُ أَيْدِيهِمْ .
وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ : أَنَّ التَّنَاوُلَ
لِلْإِفْسَادِ إذَا كَانَ بِالْيَدِ كَانَ حَقِيقَةً ، وَإِنْ كَانَ بِنَقْضِ
الْعَهْدِ كَانَ مَجَازًا ، إلَّا أَنَّ قَوْلَ الزُّهْرِيِّ فِي الْمَجَازِ
أَمْثَلُ مِنْ قَوْلِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ مَنْ
قَرَأَهَا بِالتَّشْدِيدِ أَرَادَ هَدْمَهَا ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِالتَّخْفِيفِ
أَرَادَ جَلَاءَهُمْ عَنْهَا ؛ وَهَذِهِ دَعْوَى لَا يُعَضِّدُهَا لُغَةٌ وَلَا
حَقِيقَةٌ ، وَالتَّضْعِيفُ بَدِيلُ الْهَمْزَةِ فِي الْأَفْعَالِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : {
فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } : وَهِيَ كَلِمَةٌ أُصُولِيَّةٌ قَدْ
بَيَّنَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا ، وَمِنْ وُجُوهِ الِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ
اعْتَصَمُوا بِالْحُصُونِ دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَأَنْزَلَهُمْ اللَّهُ
مِنْهَا ، وَمِنْ وُجُوهِهِ أَنَّهُ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ يَرْجُوهُمْ ،
وَمِنْ وُجُوهِهِ أَنَّهُمْ هَدَمُوا أَمْوَالَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ .
وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ بِغَيْرِهِ اعْتَبَرَ بِنَفْسِهِ
، وَمِنْ الْأَمْثَالِ الصَّحِيحَةِ : السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } .
فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ .
يَعْنِي نَقَضُوا الْعَهْدَ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُمْ صَارُوا فِي شِقٍّ ، أَيْ
جِهَةٍ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُخْرَى ،
وَذِكْرُ اللَّهِ مَعَ رَسُولِهِ تَشْرِيفٌ لَهُ ، وَكَانَ نَقْضُهُمْ الْعَهْدَ
لِخَبَرٍ ؛ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ ، مِنْهُمْ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ ، قَالَ :
{ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّضِيرَ يَسْتَعِينُهُمْ
فِي دِيَةٍ ، فَقَعَدَ فِي ظِلِّ جِدَارٍ ، فَأَرَادُوا أَنْ يُلْقُوا عَلَيْهِ
رَحًى ، فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ ، فَقَامَ وَانْصَرَفَ ؛
وَبِذَلِكَ اسْتَحَلَّهُمْ وَأَجَلَاهُمْ إلَى خَيْبَرَ ، وَصَفِيَّةُ مِنْهُمْ
سَبَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ .
قَالَ : فَرَجَعَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجَلَاهُمْ عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتْ
الْإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، وَالصَّفْرَاءِ ، وَالْبَيْضَاءِ ، وَالْحَلْقَةِ
، وَالدِّنَانِ ، وَمِسْكِ الْجَمَلِ
} .
فَالصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ : الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ .
وَالْحَلْقَةُ : السِّلَاحُ .
وَالدِّنَانُ : الْفَخَّارُ .
وَمِسْكُ الْجَمَلِ : جُلُودٌ يُسْتَقَى فِيهَا الْمَاءُ
بِشَعْرِهَا .
{ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَجَعَ إلَيْهِمْ : يَا أَخَابِثَ خَلْقِ اللَّهِ ، يَا
إخْوَةَ الْخَنَازِيرِ وَالْقِرَدَةِ
} .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : فَقَالُوا : مَهْ
يَا أَبَا الْقَاسِمِ ، فَمَا كُنْت فَحَّاشًا .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إضْمَارَ الْخِيَانَةِ
نَقْضٌ لِلْعَهْدِ ؛ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ قَوْلًا [ فَيَنْتَقِضُ قَوْلًا ] ،
وَالْعَقْدُ إذَا ارْتَبَطَ بِالْقَوْلِ انْتَقَضَ بِالْقَوْلِ وَبِالْفِعْلِ ،
وَإِذَا ارْتَبَطَ بِالْفِعْلِ لَمْ يَنْتَقِضْ إلَّا بِالْفِعْلِ ، كَالنِّكَاحِ
يَرْتَبِطُ بِالْقَوْلِ وَيَنْحَلُّ بِالْقَوْلِ ، وَهُوَ الطَّلَاقُ ،
وَبِالْفِعْلِ ، وَهُوَ الرَّضَاعُ
.
وَعِتْقُ الْمِدْيَانِ يَنْعَقِدُ
بِالْقَوْلِ ، وَيُنْقِضُهُ الْحَاكِمُ إذَا لَمْ
يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُ ، وَالِاسْتِيلَادُ لَا يُنْقِضُهُ الْقَوْلُ ، وَقَدْ
بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ كَيْفِيَّةَ نَقْضِ الْعَهْدِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا تَحَقَّقَ نَقْضُ الْعَهْدِ
فَلِمَ بَعَثَ إلَيْهِمْ اُخْرُجُوا مِنْ بِلَادِي ؟ وَلِمَ لَمْ يَأْخُذْهُمْ
قَبْلَ ذَلِكَ ؟ قُلْنَا : قَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ
قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } .
فَإِنَّ قِيلَ : هَذَا مَا خَانَهُ ، وَإِنَّمَا
تَحَقَّقَ بِخَبَرِ اللَّهِ عَنْهُ
.
قُلْنَا : الْخَوْفُ هَاهُنَا الْوُقُوعُ ، وَإِلَّا
فَمُجَرَّدُ الْخَوْفِ مَوْجُودٌ مِنْ كُلِّ عَاقِدٍ .
وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ لِأَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ
وَحْدَهُ ، فَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مَشْهُورًا ، وَسَاقَهُ اللَّهُ إلَى
مَا كَتَبَ مِنْ الْجَلَاءِ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { مَا قَطَعْتُمْ
مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ
وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي
سَبَبِ نُزُولِهَا : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ ، وَقَطَعَ ؛ وَهِيَ
الْبُوَيْرَةُ } ، وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ : لَهَانَ عَلَى سَرَاةِ
بَنِي لُؤَيٍّ حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى :
{ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ } الْآيَةَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اخْتَلَفَتْ النَّاسُ فِي
تَخْرِيبِ دَارِ الْعَدُوِّ وَحَرْقِهَا وَقَطْعِ ثِمَارِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ؛ قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ .
الثَّانِي : إنْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ ذَلِكَ
لَهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ، وَإِنْ يَيْأَسُوا فَعَلُوا ؛ قَالَهُ مَالِكٌ فِي
الْوَاضِحَةِ ، وَعَلَيْهِ تَنَاظُرُ الشَّافِعِيَّةِ ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ .
وَقَدْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ لَهُ ، وَلَكِنَّهُ قَطَعَ وَحَرَقَ
لِيَكُونَ ذَلِكَ نِكَايَةً لَهُمْ وَوَهْنًا فِيهِمْ ، حَتَّى يَخْرُجُوا عَنْهَا
، فَإِتْلَافُ بَعْضِ الْمَالِ لِصَلَاحِ بَاقِيهِ مَصْلَحَةٌ جَائِزَةٌ شَرْعًا
مَقْصُودَةٌ عَقْلًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
النَّوْعِ الَّذِي قُطِعَ ، وَهُوَ اللِّينَةُ ، عَلَى سَبْعَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ النَّخْلُ كُلُّهُ ، وَإِلَّا الْعَجْوَةَ ؛ قَالَهُ
الزُّهْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَالْخَلِيلُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ النَّخْلُ كُلُّهُ ؛ قَالَهُ
الْحَسَنُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ كَرَائِمُ النَّخْلِ ؛ قَالَهُ
ابْنُ شَعْبَانَ .
الرَّابِعُ أَنَّهُ الْعَجْوَةُ خَاصَّةً ؛ قَالَهُ
جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ .
الْخَامِسُ أَنَّهَا النَّخْلُ الصِّغَارُ ، وَهِيَ
أَفْضَلُهَا .
السَّادِسُ أَنَّهَا الْأَشْجَارُ كُلُّهَا .
السَّابِعُ أَنَّهَا الدَّقَلُ ؛ قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ .
قَالَ : وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ : لَا
نُنَحِّي الْمَوَائِدَ حَتَّى نَجِدَ الْأَلْوَانَ يَعْنُونَ الدَّقَلَ .
وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ
لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا أَعْرَفُ بِبَلَدِهِمَا وَثِمَارِهَا
وَأَشْجَارِهَا .
الثَّانِي أَنَّ الِاشْتِقَاقَ يُعَضِّدُهُ ، وَأَهْلُ
اللُّغَةِ يُصَحِّحُونَهُ ، قَالُوا : اللِّينَةُ وَزْنُهَا لِوْنَةٌ ،
وَاعْتُلَّتْ عَلَى أَصْلِهِمْ
.
[ فَآلَتْ إلَى لَيْنَةٍ ] ، فَهُوَ لَوْنٌ ، فَإِذَا
دَخَلَتْ الْهَاءُ كُسِرَ أَوَّلُهَا ؛ كَبَرْكِ الصَّدْرِ بِفَتْحِ الْبَاءِ ،
وَبِرْكِهِ بِكَسْرِهَا لِأَجْلِ الْهَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مَتَى كَانَ الْقَطْعُ ؛ فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا نَخْلُ بَنِي النَّضِيرِ ، وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا نَخْلُ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ ، وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى أَنَّ الْإِذْنَ وَالْجَوَازَ فِي بَنِي النَّضِيرِ [ تَضَمَّنَ بَنِي قُرَيْظَةَ ؛ إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ ] قَبْلَ قُرَيْظَةَ بِمُدَّةٍ كَبِيرَةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ تَأَسَّفَتْ الْيَهُودُ عَلَى النَّخْلِ الْمَقْطُوعَةِ ، وَقَالُوا : يَنْهَى مُحَمَّدٌ عَنْ الْفَسَادِ وَيَفْعَلُهُ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَقْطَعُ ، وَبَعْضُهُمْ لَا يَقْطَعُ ، فَصَوَّبَ اللَّهُ الْفَرِيقَيْنِ ، وَخَلَّصَ الطَّائِفَتَيْنِ فَظَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ يُخَرَّجُ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعَهُمْ ، وَلَا اجْتِهَادَ مَعَ حُضُورِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى اجْتِهَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ أَخْذًا بِعُمُومِ الْإِذَايَةِ لِلْكُفَّارِ ، وَدُخُولًا فِي الْإِذْنِ لِلْكُلِّ بِمَا يَقْضِي عَلَيْهِمْ بِالِاجْتِيَاحِ وَالْبَوَارِ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا أَفَاءَ
اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا
رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى {
مَا أَفَاءَ اللَّهُ } : يُرِيدُ مَا رَدَّ اللَّهُ .
وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَمْوَالَ فِي الْأَرْضِ
لِلْمُؤْمِنِينَ حَقًّا ، فَيَسْتَوْلِي عَلَيْهَا الْكُفَّارُ مِنْ اللَّهِ
بِالذُّنُوبِ عَدْلًا ، فَإِذَا رَحِمَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَرَدَّهَا
عَلَيْهِمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ رَجَعَتْ فِي طَرِيقِهَا ذَلِكَ ، فَكَانَ ذَلِكَ
فَيْئًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { فَمَا
أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } : الْإِيجَافُ : ضَرْبٌ مِنْ
السَّيْرِ .
وَالرِّكَابُ
: اسْمٌ لِلْإِبِلِ خَاصَّةً عُرْفًا لُغَوِيًّا ،
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُشْتَقًّا مِنْ الرُّكُوبِ ، وَيَشْتَرِكُ غَيْرُهَا مَعَهَا
فِيهَا ، وَلَكِنْ لِلْعُرْفِ احْتِكَامٌ فِي اخْتِصَاصِ بَعْضِ الْمُشْرَكَاتِ بِالِاسْمِ
الْمُشْتَرَكِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى {
وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ } : الْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ
الْأَمْوَالَ وَإِنْ كَانَتْ فَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهَا
لِرَسُولِهِ ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهَا كَانَ بِرُعْبٍ أُلْقِيَ فِي قُلُوبِهِمْ ،
دُونَ عَمَلٍ مِنْ النَّاسِ ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَكَلَّفُوا سَفَرًا ، وَلَا
تَجَشَّمُوا رِحْلَةً ، وَلَا صَارُوا عَنْ حَالَةٍ إلَى غَيْرِهَا ، وَلَا
أَنْفَقُوا مَالًا ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِاخْتِصَاصِ
رَسُولِهِ بِذَلِكَ الْفَيْءِ ، وَأَفَادَ الْبَيَانُ بِأَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ
الْيَسِيرَ مِنْ النَّاسِ فِي مُحَاصَرَتِهِمْ لَغْوٌ لَا يَقَعُ الِاعْتِدَادُ
بِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ سَهْمٍ ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَخْصُوصًا بِهَا .
رَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ
الْحَدَثَانِ النَّصْرِيِّ { أَنَّ عَلِيًّا وَالْعَبَّاسَ لَمَّا طَلَبَا عُمَرَ
بِمَا كَانَ فِي يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَالِ
، وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ عُثْمَانَ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ،
وَالزُّبَيْرِ ، وَسَعْدٍ ، قَالَ لَهُمْ عُمَرُ : أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا
الْأَمْرِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ هَذَا الْفَيْءِ بِسَهْمٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ ، وَقَرَأَ : {
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ
خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ اللَّهَ اخْتَارَهَا ، وَاَللَّهِ مَا
احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ .
وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ ؛ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبُثُّهَا ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ خَصَّهُ
بِهَا } .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ أَعْطَاهَا الْمُهَاجِرِينَ
خَاصَّةً ، وَمِنْ الْأَنْصَارِ لِأَبِي دُجَانَةَ سِمَاكِ بْنِ خَرَشَةَ ،
وَسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ [ وَالْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ ] لِحَاجَةٍ كَانَتْ بِهِمْ ، وَفِي
آثَارٍ
كَثِيرَةٍ بَيَّنَّاهَا فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ تَمَامُ الْكَلَامِ : فَلَا
حَقَّ لَكُمْ فِيهِ وَلَا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ ، وَحُذِفَتْ اخْتِصَارًا
لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ
.
الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { مَا
أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ
دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى لَا خِلَافَ
أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَاصَّةً ، وَهَذِهِ الْآيَةُ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ أَنَّهَا هَذِهِ الْقُرَى الَّتِي قُوتِلَتْ ، فَأَفَاءَ
اللَّهُ بِمَالِهَا ؛ فَهِيَ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ ، ثُمَّ
نُسِخَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ .
الثَّانِي هُوَ مَا غَنِمْتُمْ بِصُلْحٍ مِنْ غَيْرِ
إيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ، فَيَكُونُ لِمَنْ سَمَّى اللَّهُ فِيهِ ،
وَالْأُولَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً ، إذَا
أَخَذَ مِنْهُ حَاجَتَهُ كَانَ الْبَاقِي فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ .
الثَّالِثُ : قَالَ مَعْمَرٌ : الْأُولَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّانِيَةُ فِي الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ لِلْأَصْنَافِ
الْمَذْكُورَةِ فِيهِ ، وَالثَّالِثَةُ الْغَنِيمَةُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ لِلْغَانِمِينَ .
الرَّابِعُ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ فِي قَوْله
تَعَالَى : { فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } هِيَ
النَّضِيرُ ، لَمْ يَكُنْ فِيهَا خُمُسٌ ، وَلَمْ يُوجَفْ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ
وَلَا رِكَابٍ ، كَانَتْ صَافِيَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَسَمَهَا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَثَلَاثَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ :
أَبِي دُجَانَةَ سِمَاكِ بْنِ خَرَشَةَ ، وَسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ، وَالْحَارِثِ
بْنِ الصِّمَّةِ .
وقَوْله تَعَالَى : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى
} هِيَ قُرَيْظَةُ وَكَانَتْ قُرَيْظَةُ وَالْخَنْدَقُ
فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
هَذَا لُبَابُ الْأَقْوَالِ الْوَارِدَةِ ؛
وَتَحْقِيقُهَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ السُّورَةَ سُورَةُ النَّضِيرِ ،
وَأَنَّ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِيهَا آيَاتُ بَنِي النَّضِيرِ وَإِنْ كَانَ قَدْ
دَخَلَ فِيهَا بِالْعُمُومِ مَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ وَفَعَلَ فِعْلَهُمْ ،
وَفِيهَا آيَتَانِ : الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ
مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } .
وَالثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ
عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى
} .
وَفِي الْأَنْفَالِ آيَةٌ ثَالِثَةٌ ، وَهِيَ : {
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ } .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ : هَلْ هِيَ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ
أَوْ مَعْنَيَانِ ؟ وَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّهَا ثَلَاثَةُ مَعَانٍ فِي ثَلَاثِ
آيَاتٍ : أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَهِيَ قَوْلُهُ : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ } .
ثُمَّ قَالَ : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ
مِنْهُمْ } يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ { فَمَا
أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } يُرِيدُ كَمَا بَيَّنَّا فَلَا
حَقَّ لَكُمْ فِيهِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ : إنَّهَا كَانَتْ خَالِصَةً
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي بَنِي النَّضِيرِ ، وَمَا
كَانَ مِثْلَهَا ، فَهَذِهِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ وَمَعْنًى مُتَّحِدٌ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { مَا
أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
وَلِذِي الْقُرْبَى } .
وَهَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ غَيْرُ الْأَوَّلِ
لِمُسْتَحِقٍّ غَيْرِ الْأَوَّلِ ، وَسَمَّى الْآيَةَ الثَّالِثَةَ آيَةَ
الْغَنِيمَةِ ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مَعْنًى آخَرُ بِاسْتِحْقَاقٍ ثَانٍ
لِمُسْتَحِقٍّ آخَرَ ، بَيْدَ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ
اشْتَرَكَتَا فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَضَمَّنَتْ شَيْئًا أَفَاءَهُ
اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ، وَاقْتَضَتْ الْآيَةُ الْأُولَى أَنَّهُ حَاصِلٌ
بِغَيْرِ قِتَالٍ ، وَاقْتَضَتْ آيَةُ الْأَنْفَالِ أَنَّهُ حَاصِلٌ بِقِتَالِ ، وَعُرِّيَتْ
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ
مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } عَنْ ذِكْرِ حُصُولِهِ لِقِتَالٍ أَوْ لِغَيْرِ قِتَالٍ ؛
فَنَشَأَ الْخِلَافُ مِنْ هَاهُنَا ، فَمِنْ طَائِفَةٍ قَالَتْ : هِيَ مُلْحَقَةٌ
بِالْأُولَى ، وَهُوَ مَالُ الصُّلْحِ كُلُّهُ وَنَحْوُهُ .
وَمِنْ طَائِفَةٍ قَالَتْ : هِيَ مُلْحَقَةٌ
بِالثَّانِيَةِ ؛ وَهِيَ آيَةُ الْأَنْفَالِ .
وَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِآيَةِ
الْأَنْفَالِ اخْتَلَفُوا : هَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ أَوْ
مُحْكَمَةٌ ؟ وَإِلْحَاقُهَا بِشَهَادَةِ اللَّهِ بِالْأُولَى أَوْلَى ؛ لِأَنَّ
فِيهِ تَجْدِيدَ فَائِدَةٍ وَمَعْنًى
.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَمْلَ الْحَرْبِ عَلَى فَائِدَةٍ
مُجَدَّدَةٍ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى فَائِدَةٍ مُعَادَةٍ .
وَهَذَا الْقَوْلُ يُنَظِّمُ لَك شَتَاتَ الرَّأْيِ ،
وَيُحْكِمُ الْمَعْنَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ وَإِذَا انْتَهَى الْكَلَامُ إلَى
هَذَا الْقَدْرِ فَيَقُولُ مَالِكٌ : إنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ فِي بَنِي
قُرَيْظَةَ إشَارَةً إلَى أَنَّ مَعْنَاهَا يَعُودُ إلَى آيَةِ الْأَنْفَالِ وَيَلْحَقُهَا
النَّسْخُ ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْقَوْلِ بِالْإِحْكَامِ ، وَنَحْنُ لَا
نَخْتَارُ إلَّا مَا قَسَّمْنَا وَبَيَّنَّا أَنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ لَهَا
مَعْنًى مُجَدَّدٌ حَسْبَمَا دَلَّلْنَا عَلَيْهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا
آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
فِي الْمَعْنَى ؛ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مَعْنَاهَا مَا
أَعْطَاكُمْ مِنْ الْفَيْءِ ، وَمَا مَنَعَكُمْ مِنْهُ فَلَا تَطْلُبُوهُ .
الثَّانِي : مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ مِنْ مَالِ
الْغَنِيمَةِ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ الْغُلُولِ فَلَا تَأْتُوهُ .
الثَّالِثُ : مَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنْ طَاعَتِي
فَافْعَلُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِي فَاجْتَنِبُوهُ .
وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ ؛ لِأَنَّهُ لِعُمُومِهِ
تَنَاوَلَ الْكُلَّ ، وَهُوَ صَحِيحٌ فِيهِ مُرَادٌ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَقَعَ الْقَوْلُ
هَاهُنَا مُطْلَقًا بِذَلِكَ ، وَقَيَّدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا
اسْتَطَعْتُمْ ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إذَا أَمَرَ النَّبِيُّ
بِأَمْرٍ كَانَ شَرْعًا ، وَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا
وَلِذَلِكَ قَالَ : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ
رَدٌّ } .
وَقَالَ فِي حَدِيثِ الْعَسِيفِ الَّذِي افْتَدَى مِنْ الْجَلْدِ
بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ : { أَمَّا غَنَمُك فَرَدٌّ عَلَيْك وَجَلْدُ ابْنِك
مِائَةً وَتَغْرِيبُهُ عَامًا }
.
وَتَرَدَّدَتْ هَاهُنَا مَسْأَلَةٌ عُظْمَى بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ ؛ وَهِيَ مَا إذَا اجْتَمَعَ فِي عَقْدٍ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَازْدَحَمَ
عَلَيْهِ صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ ؛ فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : لَا يَجُوزُ
، وَيُفْسَخُ بِكُلِّ حَالٍ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : ذَلِكَ يَخْتَلِفُ ؛ أَمَّا فِي
الْبَيْعِ فَلَا يَجُوزُ إجْمَاعًا ، وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَلَا ،
وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ .
وَأَمَّا فِي الْأَحْبَاسِ وَالْهِبَاتِ فَيَحْتَمِلُ
كَثِيرًا مِنْ الْجَهَالَةِ وَالْأَخْطَارِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فِيهَا ، حَتَّى
قَالَ أَصْبَغُ : إنَّ مَا لَا يَجُوزُ إذَا دَخَلَ فِي الصُّلْحِ مَعَ مَا
يَجُوزُ مَضَى الْكُلُّ .
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ : يَمْضِي إنْ طَالَ .
وَقَالَ سَائِرُ عُلَمَائِنَا : لَا يَجُوزُ شَيْءٌ
مِنْهُ ، وَهُوَ كَالْبَيْعِ .
وَأَمَّا إنْ وَقَعَ النَّهْيُ فِي الْبَيْعِ فَقَالَ
كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : يُفْسَخُ أَبَدًا .
وَقَالَ مَالِكٌ : يُفْسَخُ مَا لَمْ يَفُتْ ، فِي
تَفْصِيلٍ طَوِيلٍ بَيَانُهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ تَأْصِيلًا ، وَفِي فُرُوعِ
مَسَائِلِ الْفِقْهِ تَفْصِيلًا بَنَيْنَاهُ عَلَى تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي
الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ ، وَالْمَعْنَى وَالرَّدِّ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا فَسْخُ الْفَاسِدِ أَبَدًا
حَيْثُمَا وَقَعَ ، وَكَيْفَمَا وُجِدَ ، فَاتَ أَوْ لَمْ يَفُتْ ، لِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا
لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ : { وَمَا
آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } وَإِنْ جَاءَ بِلَفْظِ الْإِيتَاءِ وَهِيَ
الْمُنَاوَلَةُ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { وَمَا
نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } فَقَابَلَهُ بِالنَّهْيِ ، وَلَا يُقَابِلُ النَّهْيَ إلَّا
الْأَمْرُ ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى فَهْمِ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَلْقَمَةَ
، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ ، وَالْمُسْتَوْشِمَات ،
وَالْمُتَنَمِّصَاتِ ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ ، الْمُغَيِّرَاتِ لِخَلْقِ
اللَّهِ } .
فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ
لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ ، فَجَاءَتْ فَقَالَتْ : إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّك لَعَنْتَ
كَيْتَ وَكَيْتَ ؟ فَقَالَ : وَمَالِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، فَقَالَتْ : لَقَدْ قَرَأْتُ
مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْت فِيهِ مَا تَقُولُ .
قَالَ :
لَئِنْ كُنْت قَرَأْته لَقَدْ وَجَدْته ؛ أَمَا قَرَأْت
: { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } .
قَالَتْ : بَلَى .
قَالَ : فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ .
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : {
وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ
هَاجَرَ إلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ
شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَالَ
الْخَلْقُ بِأَجْمَعِهِمْ : يُرِيدُ بِذَلِكَ الْأَنْصَارَ الَّذِينَ آوَوْا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ طُرِدَ ، وَنَصَرُوهُ
حِينَ خُذِلَ ، فَلَا مِثْلَ لَهُمْ وَلَا لِأَجْرِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ :
سَمِعْت مَالِكًا وَهُوَ يَذْكُرُ فَضْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ
الْآفَاقِ فَقَالَ : إنَّ الْمَدِينَةَ تُبُوِّئَتْ بِالْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ ،
وَإِنَّ غَيْرَهَا مِنْ الْقُرَى اُفْتُتِحَتْ بِالسَّيْفِ ثُمَّ قَرَأَ الْآيَةَ
: { وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ
مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ } الْآيَةَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فَضْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى كُلِّ
بُقْعَةٍ فِي كِتَابِ الْإِنْصَافِ ، وَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ ، بَيْدَ أَنَّ
الْقَارِئَ رُبَّمَا تَعَلَّقَتْ نَفْسُهُ بِنُكْتَةٍ كَافِيَةٍ فِي ذَلِكَ
مُغْنِيَةٍ عَنْ التَّطْوِيلِ ، فَيُقَالُ لَهُ : إنْ أَرَدْت الْوُقُوفَ عَلَى
الْحَقِيقَةِ فِي ذَلِكَ فَاتْلُ مَنَاقِبَ مَكَّةَ إلَى آخِرِهَا ، فَإِذَا
اسْتَوْفَيْتهَا قُلْ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
فِي الصَّحِيحِ : { اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ ، وَأَنَا
أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ بِمِثْلِ مَا حَرَّمَ بِهِ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ ،
وَمِثْلِهِ مَعَهُ } ؛ فَقَدْ جَعَلَ حُرْمَةَ الْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ حُرْمَةِ
مَكَّةَ .
وَقَالَ عُمَرُ فِي وَصِيَّتِهِ : أُوصِي الْخَلِيفَةَ بِالْمُهَاجِرِينَ
وَبِالْأَنْصَارِ الْأَوَّلِينَ أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ .
وَأُوصِي الْخَلِيفَةَ بِالْأَنْصَارِ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا
الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُهَاجِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزَ عَنْ
مُسِيئِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : {
وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } يَعْنِي لَا يَحْسُدُونَ
الْمُهَاجِرِينَ عَلَى مَا خُصُّوا بِهِ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ وَغَيْرِهِ كَذَا
قَالَ النَّاسُ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ : وَلَا يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا إذَا كَانَ قَلِيلًا ؛ بَلْ يَقْنَعُونَ بِهِ
، وَيَرْضَوْنَ عَنْهُ .
وَقَدْ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ حِينَ حَيَاةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُنْيَا ، ثُمَّ كَانُوا عَلَيْهِ
بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَقَدْ أَنْذَرَهُمْ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] وَقَالَ : { سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً
، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : {
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } : فِي
الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ
نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا قُوتُهُ وَقُوتُ صِبْيَانِهِ ،
فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ : نَوِّمِي الصِّبْيَةَ ، وَأَطْفِئِي السِّرَاجَ ، وَقَرِّبِي
لِلضَّيْفِ مَا عِنْدَك ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ
} .
مُخْتَصَرٌ ، وَتَمَامُهُ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ ؛
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :
{ أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ؛ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَصَابَنِي الْجَهْدُ ؛ فَأَرْسَلَ
إلَى نِسَائِهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُنَّ شَيْئًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَا رَجُلٌ يُضَيِّفُهُ اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ
اللَّهُ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ : أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ،
فَذَهَبَ إلَى أَهْلِهِ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ : ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لَا تَدَّخِرِي عَنْهُ شَيْئًا .
فَقَالَتْ : وَاَللَّهِ مَا عِنْدِي سِوَى قُوتِ
الصِّبْيَةِ .
قَالَ :
فَإِذَا أَرَادَ الصِّبْيَةُ الْعَشَاءَ فَنَوِّمِيهِمْ
وَتَعَالَيْ فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ وَنَطْوِي بُطُونَنَا اللَّيْلَةَ ،
فَفَعَلَتْ ثُمَّ غَدَا الرَّجُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ : لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ أَوْ ضَحِكَ اللَّهُ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانَةَ ،
وَأَنْزَلَ : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } } .
وَرُوِيَ { أَنَّ النَّضِيرَ لَمَّا اُفْتُتِحَتْ
أَرْسَلَ إلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ فَقَالَ : جِئْنِي بِقَوْمِك .
قَالَ : الْخَزْرَجُ .
قَالَ :
الْأَنْصَارُ ، فَدَعَاهُمْ وَقَدْ كَانُوا وَاسَوْا
الْمُهَاجِرِينَ بِدِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، فَقَالَ لَهُمْ : إنْ شِئْتُمْ أَشْرَكْتُكُمْ
فِيهَا مَعَ الْمُهَاجِرِينَ ، وَإِنْ شِئْتُمْ خَصَصْتُهُمْ بِهَا ، وَكَانَتْ
لَكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَدِيَارُكُمْ ؛ فَقَالَ لَهُ السَّعْدَانِ : بَلْ
نَخُصُّهُمْ بِهَا وَيَبْقَوْنَ عَلَى مُوَاسَاتِنَا
لَهُمْ ؛ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ } .
الْأَوَّلُ أَصَحُّ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ : { كَانَ الرَّجُلُ
يَجْعَلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّخَلَاتِ حَتَّى
افْتَتَحَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ } .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الْإِيثَارُ بِالنَّفْسِ
فَوْقَ الْإِيثَارِ بِالْمَالِ ، وَإِنْ عَادَ إلَى النَّفْسِ وَمِنْ الْأَمْثَالِ
السَّائِرَةِ : وَالْجُودُ
بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ وَمِنْ عِبَارَاتِ الصُّوفِيَّة فِي حَدِّ
الْمَحَبَّةِ : إنَّهَا الْإِيثَارُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ
لَمَا تَنَاهَتْ فِي حُبِّهَا لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ آثَرَتْهُ عَلَى
نَفْسِهَا بِالتَّبْرِئَةِ ، فَقَالَتْ : { أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ } .
وَأَفْضَلُ الْجُودُ بِالنَّفْسِ الْجُودُ عَلَى
حِمَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَفِي الصَّحِيحِ
{ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ تَرَّسَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَتَطَلَّعُ فَيَرَى الْقَوْمَ ، فَيَقُولُ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ : لَا تُشْرِفْ
يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَا يُصِيبُونَك ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِك .
وَوَقَى بِيَدِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشُلَّتْ }
.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ الْإِيثَارُ هُوَ تَقْدِيمُ
الْغَيْرِ عَلَى النَّفْسِ فِي حُظُوظِهَا الدُّنْيَوِيَّةِ رَغْبَةً فِي
الْحُظُوظِ الدِّينِيَّةِ ، وَذَلِكَ يَنْشَأُ عَنْ قُوَّةِ النَّفْسِ ، وَوَكِيدِ
الْمَحَبَّةِ ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَشَقَّةِ ؛ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ
بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُؤْثَرِينَ ؛ كَمَا رُوِيَ فِي الْآثَارِ { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ مَالَهُ وَمِنْ
عُمَرَ نِصْفَ مَالِهِ ، وَرَدَّ أَبَا لُبَابَةَ وَكَعْبًا إلَى الثُّلُثِ ،
لِقُصُورِهِمَا عَنْ دَرَجَتَيْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ؛ إذْ لَا خَيْرَ لَهُ فِي
أَنْ يَتَصَدَّقَ ثُمَّ يَنْدَمَ ، فَيُحْبِطُ أَجْرَهُ نَدَمُهُ } .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ
} اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الشُّحِّ وَالْبُخْلِ عَلَى
قَوْلَيْنِ : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَهُمَا مَعْنَيَانِ :
فَالْبُخْلُ مَنْعُ الْوَاجِبِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَثَلُ
الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقُ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ
حَدِيدٍ ، فَإِذَا أَرَادَ الْبَخِيلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ
مَكَانَهَا فَيُوَسِّعُهَا فَلَا تَتَّسِعُ } .
وَالشُّحُّ : مَنْعُ الَّذِي لَمْ يَجِدْ ؛ بِدَلِيلِ
هَذِهِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ ؛ فَذَكَرَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ ذَهَابِ
الشُّحِّ ؛ وَهَذَا لَا يَلْزَمُ ؛ فَإِنَّ كُلَّ حَرْفٍ يُفَسَّرُ عَلَى
مَعْنَيَيْنِ أَوْ مَعْنًى يُعَبَّرُ عَنْهُ بِحَرْفَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
كُلُّ وَاحِدٍ يُوضَعُ مَوْضِعَ صَاحِبِهِ جَمْعًا أَوْ فَرْقًا ، وَذَلِكَ
كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ ، وَلَمْ يَقُمْ هَاهُنَا دَلِيلٌ عَلَى الْفَرْقِ
بَيْنَهُمَا .
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : {
وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّك رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي
تَعْيِينِ هَؤُلَاءِ .
وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ أَهْلُ
الْإِسْلَامِ غَيْرُ ذَيْنِ مِنْ سَائِرِ الْقَبَائِلِ وَالْأُمَمِ وَمِنْ
الصَّحَابَةِ .
الثَّانِي : أَنَّهُمْ التَّابِعُونَ بَعْدَ قَرْنِ
الصَّحَابَةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
.
وَهُوَ اخْتِيَارُ جَمَاعَةٍ ، مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ
أَنَسٍ رَوَاهُ عَنْهُ سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَشْهَبُ وَغَيْرُهُمَا ؛
قَالُوا : قَالَ مَالِكٌ : مَنْ سَبَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْفَيْءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ
جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا
الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ
} .
التالي بمشيئة الله هو ج21.وج22.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق