حمل مصاحف


فهرس القرآن الكريم الكريمmp3 القرآن الكريم مكتوب

9مصاحف
/ / / /  / / /

شكرا للفريق المجتهد

شكرا لبلوجر وفريقه المحترمين- Thanks to blogger and his respected team

الثلاثاء، 22 نوفمبر 2022

ج7.وج8. البرهان في علوم القرآن بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي 

ج7.وج8. البرهان في علوم القرآن بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي
فإنه قد قيل: ظاهره نفى وجود الهم منهم بإضلاله وهو خلاف الواقع فإنهم هموا وردوا القول.
وقيل: قوله: {لَهَمَّتْ} ليس جواب [لو] بل هو كلام تقدم على [لو] وجوابها مقول على طريق القسم وجواب [لو] محذوف تقديره: {لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} لولا فضل الله عليك لأضلوك.
وقوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ}، أي همت بمخالطته وجواب [لولا] محذوف، أي لولا أن رأى برهان ربه لخالطها.
وقيل: لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، والوقف على هذا {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} والمعنى أنه لم يهم بها.
ذكره أبو البقاء والأول للزمخشري.
ولا يجوز تقديم جواب [لو] عليها لأنه في حكم الشرط وللشرط صدر الكلام.
وقوله: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} جواب الشرط محذوف يدل عليه قوله: {إِنَّا لَمُهْتَدُون} أي إن شاء الله اهتدينا.
وقد توسط الشرط هنا بين جزأي الجملة بالجزاء لأن التقديم على الشرط فيكون دليل الجواب متقدما على الشرط والذي حسن تقديم الشرط عليه الاهتمام بتعليق الهداية بمشيئة الله تعالى.
وقوله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ} تقديره: لما استعجلوا فقالوا متى هذا الوعد.

وقال الزجاج: تقديره [لعلموا صدق الوعد] لأنهم قالوا: متى هذا الوعد وجعل الله الساعة موعدهم فقال تعالى: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً}.
وقيل: تقديره: [لما أقاموا على كفرهم ولندموا أو تابوا].
وقوله في سورة التكاثر: {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} تقديره لما: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}.
وقيل: تقديره: لشغلكم ذلك عما أنتم فيه.
وقيل: لرجعتم عن كفركم أو لتحققتم مصداق ما تحذرونه.
وقوله: {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً} أي لا يتبعونهم.
وقوله: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، تقديره: [لآمنتم] أو [لما كفرتم] أو [لزهدتم في الدنيا] أو [لتأهبتم للقائنا].
ونحوه: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ}، أي يهتدون في الدنيا لما رأوا العذاب في الاخرة أو لما اتبعوهم.
وقوله: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} ، قال محمد بن إسحاق: معناه لو أن لي قوة لحلت بينكم وبين المعصية.
وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ} أي رأيت ما يعتبر به عبرة عظيمة.

وقوله عقب آية اللعان: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ}، قال الواحدي: قال الفراء: جواب لو محذوف لأنه معلوم المعنى وكل ما علم فإن العرب تكتفي بترك جوابه ألا ترى أن الرجل يشتم الرجل فيقول المشتوم: أما والله لولا أبوك.. فيعلم أنك تريد: لشتمتك.
وقال المبرد: تأويله والله أعلم: لهلكتم أو لم يبق لكم باقية أو لم يصلح أمركم ونحوه من الوعيد الموجع فحذف لأنه لا يشكل.
وقال الزجاج: المعنى لنال الكاذب منكم أمر عظيم وهذا أجود مما قدره المبرد.
وكذلك [لولا] التي بعدها في قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}، جوابها محذوف وقدره بعضهم في الأولى لافتضح فاعل ذلك وفي الثانية: لعجل عذاب فاعل ذلك وسوغ الحذف طول الكلام بالمعطوف والطول داع للحذف.
وقوله: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} جوابها محذوف أي لولا احتجاجهم بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة.
وقال مقاتل: تقديره: لأصابتهم مصيبة.
وقال الزجاج: لولا ذلك لم يحتج إلى إرسال الرسول ومواترة الاحتجاج.
وقوله: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} أي لأبدت.

وقوله تعالى:{ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي}، تقديره: لو تملكون، [تملكون] فأضمر [تملك] الأولى على شريطة التفسير وابدل من الضمير المتصل الذي هو [الواو] ضمير منفصل وهو [أنتم] لسقوط ما يتصل به من الكلام فـ[أنتم] فاعل الفعل المضمر [وتملكون] تفسيره.
وقال الزمخشري: هذا ما يقتضيه الإعراب فأما ما يقتضيه علم البيان فهو أن [أنتم] تملكون فيه دلالة على الاختصاص وأن الناس هم المختصون بالشح المتتابع وذلك لأن الفعل الأول لما سقط لأجل المفسر برز الكلام في صورة المبتدأ والخبر.
ومن حذف الجواب قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، أي أعرضوا ؟ بدليل قوله بعده:{إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} وقوله في قصة إبراهيم في الحجر: {فَقَالُوا سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} وفي غيرها من السور: {قَالُوا سَلاماً} {قَالَ سَلامٌ} قال الكرماني: لأن هذه السورة متأخرة عن الأولى فاكتفى بما في هذه ولو ثبت تعدد الوقائع لنزلت على واقعتين.

وكقوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} قال الزمخشري حذف الجواب وتقديره مصرح به في سورتي التكوير والانفطار وهو قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ}.
وقال في: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}: الجواب محذوف أي أنهم ملعونون يدل عليه قوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ}.
وكقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} أي [حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها] والواو واو وحال وفي هذا ما حكى أنه اجتمع أبو علي الفارسي مع ابي عبد الله الحسين بن خالويه في مجلس سيف الدولة فسئل ابن خالويه عن قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}، في النار بغير واو، وفي الجنة بالواو! فقال ابن خالويه: هذه الواو تسمى واو الثمانية لأن العرب لا تعطف الثمانية إلا بالواو قال: فنظر سيف الدولة إلى أبي علي وقال أحق هذا فقال أبو علي: لا أقول كما قال إنما تركت الواو في النار لأنها مغلقة وكان مجيئهم شرطا في فتحها فقوله:{ فُتِحَتْ} فيه معنى الشرط وأما قوله:{ وَفُتِحَتْ} في الجنة فهذه واو الحال كأنه قال جاءوها وهي مفتحة الأبواب أو هذه حالها.
وهذا الذي قاله أبو علي هو الصواب ويشهد له أمران:.
أحدهما : أن العادة مطردة شاهدة في إهانة المعذبين بالسجون من إغلاقها حتى يردوا عليها وإكرام المنعمين بإعداد فتح الأبواب لهم مبادرة واهتماما.

والثاني: النظير في قوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ}.
وللنحويين في الآية ثلاثة أقوال:.
أحدها: أن الواو زائدة والجواب قوله: [فتحت] وهؤلاء قسمان منهم من جعل هذه الواو مع أنها زائدة واو الثمانية ومنهم من لم يثبتها.
والثاني: أن الجواب محذوف عطف عليه قوله: [وفتحت] كأنه قال:{حتى إذا جاءوها [جاءوها] وفتحت} قال الزجاج وغيره: وفي هذا حذف المعطوف وإبقاء المعطوف عليه.
والثالث: أن الجواب محذوف آخر الكلام كأنه قال بعد الفراغ استقروا أو خلدوا أواستووا مما يقتضه المقام وليس فيه حذف معطوف ويحتمل أن يكون التقدير إذا جاءوها إذن لهم في دخولها وفتحت أبوابها المجىء ليس سببا مباشرا للفتح بل الإذن في الدخول هو السبب في ذلك.
وكذلك قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} ، أي رحمهم ثم تاب عليهم وهذا التأويل أحسن من القول بزيادة [ثم].
وحذف المعطوف عليه وإبقاء المعطوف سائغ، كقوله تعالى: {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً}، التقدير والله أعلم: فذهبا فبلغا فكذبا فدمرناهم لأن المعنى يرشد إلى ذلك.
وكذا قوله تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ}، أي فامتثلتم أو فعلتم فتاب عليكم.

وقوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي رحما وسعدا وتله وابن عطية يجعل التقدير فلما أسلما اسلما وهو مشكل.
وقوله: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا} ، المعنى: حتى إذا كان ذلك ندم الذين كفروا ولم ينفعهم إيمانهم لأنه من الآيات والأشراط.
وقد يجيء في الكلام شرطان ويحذف جواب أحدهما اكتفاء بالآخر كقوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} في الاعتراض به مجرى الظرف لأن الشرط وإن كان جملة فإنه لما لم يقم بنفسه جرى مجرى الجزء الواحد ولو كان عنده جملة لما جاز الفصل به بين [أما] وجوابها لأنه لا يجوز. أما زيد فمنطلق وذهب الأخفش إلى أن الفاء جواب لهما.
ونظيره: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} فقوله:[ لَعَذَّبْنَا ]جواب للولا ولو جميعا.
واختار ابن مالك قول سيبويه أن الجواب [لأما] واستغنى به عن جواب [إن] لأن الجواب الأول الشرطين المتواليين في قوله: {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} ونظائره.
فإذا كان أول الشرطين [أما[ كانت أحق بذلك لوجهين:.
أحدهما: أن جوابها إذا انفردت لا يحذف أصلا وجواب غيرها إذا انفرد يحذف كثيرا لدليل وحذف ما عهد حذفه أولى من حذف ما لم يعهد.

والثاني: أن أما قد التزم معها حذف فعل الشرط وقامت هي مقامة فلو حذف جوابها لكان ذلك إجحافا وإن ليس كذلك انتهى.
والظاهر أنه لا حذف في الآية الكريمة وإما الشرط الثاني وجوابه جواب الأول والمحذوف إنما هو أحد الفاءين.
وقال الفارسي في قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} الآية. إنه حذف منه أعزنا ولا تذلنا.
وقال في قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}، تقديره:[ فكيف تجدونهم مسرورين أو محزونين] فـ "كيف" في موضع نصب بهذا الفعل المضمر وهذا الفعل المضمر قد سد مسد جواب إذا.
حذف جواب القسم.
لعلم السامع المراد منه كقوله تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً يوم ترجف الراجفة}، تقديره: لتبعثن ولتحاسبن بدليل إنكارهم للبعث في قولهم: {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ}.
وقيل: القسم وقع على قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى}.
وكقوله تعالى: {لَنْ نُؤْثِرَكَ} وحذف لدلالة الكلام السابق عليه.

واختلف في جواب القسم في: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} فقال الزجاج: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}، واستبعده الكسائي.
وقال الفراء: قد تأخر كثيرا وجرت بينهما قصص مختلفة فلا يستقيم ذلك في العربية.
وقيل: {كَمْ أَهْلَكْنَا} ومعناه: لكم أهلكنا وما بينهما اعتراض وحذفت اللام لطول الكلام.
وقال الأخفش: {إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} والمعترض بينهما قصة واحدة.
وعن قتادة: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} ، مثل: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا}.
وقال صاحب النظم في هذا القول: معنى "بل" توكيد الأمر بعده فصار مثل أن الشديدة تثبت ما بعدها وإن كان لها معنى آخر في نفي خبر متقدم كأنه قال: إن الذين كفروا في عزة وشقاق.
وقال أبو القاسم الزجاجي: إن النحويين قالوا: إن "بل" تقع في جواب القسم كما تقع "إن" لأن المراد بها توكيد الخبر وذلك في {ص وَالْقُرْآنِ} الآية. وفي: {ق وَالْقُرْآنِ} الآية. وهذا من طريق الاعتبار ويصلح أن يكون بمعنى "إن" لأنه سائغ في كلامهم أو يكون "بل" جوابا للقسم لكن لما كانت متضمنة رفع خبر وإتيان خبر بعده كانت أوكد من سائر التوكيدات فحسن وضعها موضع "إن".

وقيل: الجواب محذوف أي والقرآن المجيد ما الأمر كما يقول هؤلاء أو الحق ما جاء به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال الفراء في قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} جوابه محذوف أي فيومئذ يلاقي حسابه.
وعن قتاده أن جوابه: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} يعني أن الواو فيها بمعنى السقوط كقوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ} ، أي ناديناه.
حذف الجملة.
هي أقسام: قسم هي مسببة عن المذكور وقسم هي سبب له وقسم خارج عنها، فالأول: كقوله تعالى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} فإن اللام الداخلة على الفعل لا بد لها من متعلق يكون سببا عن مدخول اللام فلما لم يوجد لها متعلق في الظاهر وجب تقديره ضرورة فيقدر: فعل ما فعل ليحق الحق.
والثاني: كقوله تعالى: {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً}، فإن الفاء إنما تدخل على شيء مسبب عن شيء ولا مسبب إلا له سبب فإذا وجد المسبب - ولا سبب له ظاهرا - أوجب أن يقدر ضرورة فيقدر: فضربه فانفجر.
والثالث: كقوله تعالى: {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} أي نحن هم أو هم نحن.
وقد يكون المحذوف أكثر من جملةكقوله تعالى: {فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ} الآية. فإن التقدير:" فأرسلون إلى يوسف لأستعبره الرؤيا فأرسلوه إليه لذلك فجاء فقال له:.

يا يوسف" وإنما قلنا إن هذا الكل محذوف لأن قوله: {أَرْسِلُونِ} يدل لا محالة على المرسل إليه فثبت أن "إلى يوسف" محذوف ثم إنه لما طلب الإرسال إلى يوسف عند العجز الحاصل للمعبرين عن تعبير رؤيا الملك دل ذلك على أن المقصود من طلب الإرسال إليه استعباره الرؤيا التي عجزوا عن تعبيرها ومنه قوله تعالى:{اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} الآية، فأعقب بقوله حكاية عنها: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ}، تقديره: فأخذ الكتاب فألقاه إليهم فرأته بلقيس وقرأته و{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ}.
وقوله: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} حذف يطول تقديره: فلما ولد يحيى ونشأ وترعرع قلنا: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ}.
ومنه قوله تعالى حكاية عن قوم موسى: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}.
وقوله: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ} إلى قوله: {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا}.
وقوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} أي كمن قسا قلبه ترك على ظلمه وكفره ودل على المحذوف قوله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ}.
ومن حذف الجملة قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} قيل: المعنى جاعل في الأرض خليفة يفعل كذا وكذا وإلا فمن أين علم الملائكة أنهم يفسدون وباقي الكلام يدل على المحذوف.
وقوله: {يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ}، قال

الفارسي: المعنى فكما كرهتموه فاكرهوا الغيبة:" واتقوا الله" عطف على قوله:" فاكرهوا" إن لم يذكر لدلالة الكلام عليه كقوله تعالى:" فانفجرت" أي فضرب فانفجرت فقوله:" كرهتموه" كلام مستأنف وإنما دخلت الفاء لما في الكلام من معنى الجواب لأن قوله:" أيحب أحدكم" كأنهم قالوا في جوابه لا، فقال: فكرهتموه أي فكما كرهتموه فاكرهوا الغيبة.
قال ابن الشجري: وهذا التقدير بعيد لأنه قدر المحذوف موصولا وهو "ما" المصدرية وحذف الموصول وإبقاء صلته ضعيف وإنما التقدير فهذا كرهتموه والجملة المقدرة المحذوفة ابتدائية لا أمرية والمعنى فهذا كرهتموه والغيبة مثله وإنما قدرها أمرية ليعطف عليها الجملة الأمرية في قوله:" واتقوا الله".
حذف القول.
قد كثر في القرآن العظيم حتى إنه في الإضمار بمنزلة الإظهار كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، أي يقولون: ما نعبدهم إلا للقربة.
ومنه: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا} أي وقلنا كلوا أو قائلين.
وقوله: {عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا} أي قلنا.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا} أي وقلنا خذوا.

{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} أي وقلنا: اتخذوا.
وقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا} أي يقولان: ربنا وعليه قراءة عبد الله.
{فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} أي فيقال لهم لأن أما لا بد لها في الخبر من فاء فلما أضمر القول أضمر الفاء.
وقوله: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ هَذَا مَا تُوعَدُونَ} يقال لهم هذا.
وقوله: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي يقولون سلام.
وقوله: {تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} أي يقولون لهم ذلك.
وقوله: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ} أي يقولون ما نعبدهم.
وقوله: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} أي يقولون إنا لمغرمون أي معذبون وتفكهون: تندمون.
وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} أي يقولون ربنا

وقوله: { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} أي قالوا قال الحق.
حذف الفعل.
وينقسم إلى عام وخاص:.
الخاص
فالخاص نحو: أعنى مضمرا وينتصب المفعول به في المدح نحو: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} ، وقوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي أمدح.
واعلم أنه إذا كان المنعوت متعينا لم يجز تقديره ناصب نعته بأعنى نحو الحمد لله الحميد بل المقدر فيه وفي نحوه أذكر أو أمدح فاعرف ذلك والذم نحو قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} في قراءة النصب والأخفش ينصب في المدح بأمدح وفي الذم بأذم.
وأعلم أن مراد المادح إبانة الممدوح من غيره فلا بد من إبانة إعرابه عن غيره ليدل اللفظ على المعنى المقصود ويجوز فيه النصب بتقدير أمدح والرفع على معنى "هو" ولا يظهران لئلا يصيرا بمنزلة الخبر.
والذي لا مدح فيه فاختزال العامل فيه واجب كاختزاله في والله لأفعلن إذ لو قيل: أحلف بالله لكان عدة لا قسما.

العام.
والعام كل منصوب دل عليه الفعل لفظا أو معنى أو تقديرا ويحذف لأسباب:.
أحدها: أن يكون مفسرا، كقوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}،{وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}.
ومنه: {أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ} {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} {وَإِنْ طَائِفَتَانِ} فإنه ارتفع "باقتتل" مقدرا.
قالوا: ولا يجوز حذف الفعل مع شيء من حروف الشرط العاملة سوى "إن" لأنها الأصل.
وجعل ابن الزملكاني هذا مما هو دائر بين الحذف والذكر فإن الفعل المفسر كالمتسلط على المذكور ولكن لا يتعين إلا بعد تقدم إبهام ولقد يزيده الإضمار إبهاما إذا لم يكن المضمر من جنس الملفوظ به نحو: {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}.
الثاني: أن يكون هناك حرف جر نحو: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فإنه يفيد.

أن المراد: بسم الله أقرأ أو أقوم أو أقعد عند القراءة وعند الشروع في القيام أو القعود أي فعل كان.
واعلم ان النحاة اتفقوا على أن بسم الله بعض جملة واختلفوا.
فقال البصريون: الجملة اسمية أي ابتدائي بسم الله.
وقال الكوفيون: الجملة فعلية وتابعهم الزمخشري في تقدير الجملة فعلية ولكن خالفهم في موضعين: أحدهما: أنهم يقدرون الفعل مقدما وهو يقدره مؤخرا. والثاني: أنهم يقدرونه فعل البداية وهو يقدره في كل موضع بحسبه فإذا قال الذابح: بسم الله كان التقدير: بسم الله أذبح وإذا قال القارىء: بسم الله فالتقدير: بسم الله أقرأ.
وما قال أجود مما قالوا لأن مراعاة المناسبة أولى من إهمالها ولأن اسم الله أهم من الفعل فكان أولى بالتقديم ومما يدل على ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " باسمك ربي وضعت " ، جنبي فقدم اسم الله على الفعل المتعلق ثم الجار وهو "وضعت".
الثالث: أن يكون جوابا لسؤال وقع، كقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وقوله: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} أي بل نتبع.

أو جوابا لسؤال مقدر كقراءة: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ} ببناء الفعل للمفعول فإن التقدير: يسبحه رجال.
وفيه فوائد: منها: الإخبار بالفعل مرتين. ومنها جعل الفضلة عمدة.
ومنها: أن الفاعل فسر بعد اليأس منه كضالة وجدها بعد اليأس، ويصح أن يكون "يُسَبَّح" بدل من "يُذْكَر"على طريقة: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} و"له فيها" خبر مبتدأ هو "رجال".
مثله قراءة من قرأ: {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} ، قال أبو العباس: المعنى زينه شركاؤهم فيرفع الشركاء بفعل مضمر دل عليه "زين".
ومثله قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} إن جعلنا قوله "لله شركاء" مفعولي "جعلوا" لأن لله في موضع الخبر المنسوخ وشركاء نصب في موضع المبتدأ وعلى هذا فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون مفعولا بفعل محذوف دل عليه سؤال مقدر كأنه قيل: أجعلوا لله شركاء قيل جعلوا الجن فيفيد الكلام إنكار الشريك مطلقا فدخل اعتقاد الشريك من غير الجن في إنكار دخول اتخاذه من الجن.
والثاني: ذكره الزمخشري أن الجن بدل من "شركاء" فيفيد إنكار الشريك مطلقا كما سبق وإن جعل "لله" صلة كان "شركاء الجن" مفعولين قدم ثانيهما على أولهما وعلى هذا فلا حذف.
فأما على الوجه الأول فقيل: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} ولم يقل: "وجعلوا.

الجن شركاء لله" تعظيما لاسم الله تعالى لأن شأن الله أعظم في النفوس فإذا قدم "لله" والكلام فيه يستدعي طلب المجعول له ما هو؟ فقيل: شركاء وقع في غاية التشنيع لأن النفس منتظرة لهذا المهم المعلق بهذا المعظم نهاية التعظيم فإذا علم أنه علق به هذا المستبشع في النهاية كان أعظم موقعا من العكس لأنه إذا قيل: وجعلوا شركاء لم يعطه تشوف النفوس لجواز أن يكون: جعلوا شركاء في أموالهم وصدقاتهم أو غير ذلك.
الثالث: أن الجعل غالبا لا يتعلق بالله ويخبر به إلا وهو جعل مستقبح كاذب إذ لا يستعمل جعل الله رحمة ومشيئة وعلما ونحوه لا سيما بالاستقراء القرآني كـ {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} إلى غير ذلك.
الرابع: أن أصل الجعل وإن جاز وإسناده إلى الله فيما إذا كان الأمر لائقا فإن بابه مهول لأن الله تعالى قد علمنا عظيم خطره وألا نقول فيه إلا بالعلم كقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}، إلى غير ذلك، مع ما دل عليه الأدب عقلا وكان نفس الجعل مستنكرا إن لم يتبع بمجعول لائق فإذا أتبع بمجعول غير لائق منهم ثم فسر بخاص مستنكر صار قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} في قوة إنكار ذلك ثلاث مرات الأول جسارتهم في أصل الجعل الثاني في كون المجعول شركاء الثالث في أنهم شركاء جن.
الخامس: أن في تقديم "لله" إفادة تخصيصهم إياه بالشركة على الوجه الثالث دون جميع ما يعبدون لأنه الإله الحق.
السادس: أنه جيء بكلمة "جعلوا" لا "اعتقدوا" ولا "قالوا" لأنه أدل على إثبات المعتقد لأنه يستعمل في الخلق والإبداع.

السابع: كلمة "شركاء" ولم يقل: شريكا، وفاقا لمزيد ما فتحوا من اعتقادهم.
الثامن: لم يقل "جنا" وإنما قال: الجن، دلالة على أنهم اتخذوا الجن كلها جعلوه من حيث هو صالح لذلك وهو أقبح من التنكير الذي وضعه للمفردات المعدولة.
الرابع: أن يدل عليه معنى الفعل الظاهر، كقوله تعالى: {انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ} أي وائتوا أمرا خيرا لكم فعند سيبويه أن "خيرا" انتصب بإضمار ائت لأنه لما نهاء علم أنه يأمره بما هو خير فكأنه قال:" وائتوا خيرا" لأن النهي عن الشيء أمر بضده ولأن النهي تكليف وتكليف العدم محال لأنه ليس مقدورا فثبت أن متعلق التكليف أمر وجودي ينافي المنهى عنه وهو الضد.
وحمله الكسائي على إضمار كان أي يكن الانتهاء خيرا لكم ويمنعه إضمار كان ولا تضمر في كل موضع ومن جهة المعنى إذ من ترك ما نهى عنه فقد سقط عنه اللوم وعلم أن ترك المنهي عنه خير من فعله فلا فائدة في قوله "خيرا".
وحمله الفراء على أنه صفة لمصدر محذوف أي انتهوا انتهاء خيرا لكم وقال إن هذا الحذف لم يأت إلا فيما كان أفعل نحو خير لك، وأفعل.
ورد مذهبه ومذهب الكسائي بقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً} لو حمل على ما قالا لا يكون خيرا لأن من انتهى عن التثليث وكان معطلا لا يكون خيرا له. وقول سيبويه: وأنت خيرا يكون أمرا بالتوحيد الذي هو خير فلله در الخليل وسيبويه ما أطلعهما على المعاني !.

وقوله: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} إن لم يجعل مفعولا معه أي وادعوا شركاءكم وبإظهار "ادعوا" قرأ وكذلك هو مثبت في مصحف ابن مسعود.
وقوله تعالى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ}، قال ابن الشجري: معناه مال عليهم بضربهم ضربا. ويجوز نصبه على الحال نحو أتيته مشيا أي ماشيا.
{ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً} أي ساعيات. وقوله: "باليمين" إما اليد أو القوة.
وجوز ابن الشجري إرادة القسم والباء للتعليل أي لليمين التي حلفها وهي قوله تعالى: {لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}.
وزعم النووي في قوله تعالى: { قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} ، أن التقدير ليكن منكم طاعة معروفة.
الخامس: أن يدل عليه العقل، كقوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} أي فضرب فانفجرت.
وقوله: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ. فَفَتَحْنَا} قال النحاس: التقدير فنصرناه ففتحنا أبواب السماء لأن ما ظهر من الكلام يدل على ما حذف.
وقوله: {يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} أي يكتب بذلك كلمات الله ما نفدت قاله أبو الفتح.
وقوله: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}.
فقوله:" ثم أحياهم "معطوف على فعل محذوف تقديره فماتوا ثم أحياهم ولا يصح.

عطف قوله:" ثم أحياهم " على قوله:" موتوا " لأنه أمر وفعل الأمر لا يعطف على الماضي.
وقوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} أي فاختلفوا فبعث وحذف لدلالة قوله: {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} وهي في قراءة عبد الله كذلك.
وقيل: تقديره كان الناس أمة واحدة كفارا فبعث الله النبيين فاختلفوا والأول أوجه.
وقوله: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ} فالهمزة للإنكار والواو للعطف والمعطوف عليه محذوف تقديره: أكذبتم وعجبتم أن جاءكم.
وقوله: {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} ، هو معطوف على محذوف سد مسده حرف الإيجاب كأنه قال إيجابا لقولهم: {نَّ لَنَا لأَجْراً} ، نعم إن لكم أجرا وإنكم لمن المقربين.
وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ}، أي فأفطر فعدة، خلافا للظاهرية حيث أوجبوا الفطر على المسافر أخذا من الظاهر.
وقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَة}، أي فحلق ففدية.
وقوله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} قال الزمخشري: التقدير فضربوه فحيى.

فحذف ذلك لدلالة قوله: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى}.
وزعم ابن جنى أن التقدير في قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} أن التقدير فكيف يكون إذا جئنا.
السادس: أن يدل عليه ذكره في موضع آخر، كقوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً}، قال الواحدي: هو بإضمار "اذكر" ولهذا لم يأت لإذ بجواب. ومثله قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} وليس شيء قبله تراه ناصبا لـ"صالحا"، بل علم بذكر النبي والمرسل إليه أن فيه إضمار" أرسلنا ".
وقوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} أي وسخرنا.
ومثله: {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ} {وَذَا النُّونِ}.
وكذا: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ}، أي واذكر.
قال: ويدل على "اذكر" في هذه الآيات قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ} {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ}.
وما قاله ظاهر، إلا أن مفعول "اذكر" يكون محذوفا أيضا تقديره:" واذكروا أخالكم "ونحوه إذا كان كذا وذلك ليكون "إذ" في موضع نصب على الظرف ولو لم يفد ذلك المحذوف لزم وقوع "إذ" مفعولا به والأصح أنها لا تفارق الظرفية.

السابع: المشاكلة كحذف الفاعل في" بسم الله "لأنه موطن لا ينبغي أن يتقدم فيه سوى ذكر الله فلو ذكر الفعل وهو لا يستغني عن فاعله كان ذلك مناقضا للمقصود وكان في حذفة مشاكلة اللفظ للمعنى ليكون المبدوء به اسم الله كما تقول في الصلاة الله أكبر ومعناه:" من كل شيء "ولكن لا تقول هذا المقدر ليكون اللفظ في اللسان مطابقا لمقصود الجنان وهو أن يكون في القلب ذكر الله وحده وأيضا فلأن الحذف أعم من الذكر فإن أي فعل ذكرته كان المحذوف أعم منه لأن التسمية تشرع عند كل فعل.
الثامن: أن يكون بدلا من مصدره، كقوله تعالى: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} وقوله: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} أي فإما أن تمنوا وإما أن تفادوا.
وقد اختلف في نصب السلام في قوله تعالى في سورة هود: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً} وفي الذاريات: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً} وفي نصبها وجهان:.
أحدهما: أن يكون منصوبا بالقول أي يذكرون قولا سلاما فيكون من قلت حقا وصدقا.
الثاني: أن يكون منصوبا بفعل محذوف تقديره فقالوا سلمنا سلاما أي سلمنا تسليما فيكون قد حكى الجملة بعد القول ثم حذفها واكتفى ببعضها.
والحاصل أنه هل هو منصوب بالقول أو بكونه مصدر لفعل محذوف ؟.
ومثله قوله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً}.

منصوب "بقالوا" كقولك فقلت حقا أو منصوب بفعل مضمر أي قالوا: أنزل خيرا من باب حذف الجملة المحكية وتبقية بعضها.
وأما قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} فمرفوع لأنه لا يمكن نصبه على تقدير قالوا أساطير الأولين لأنهم لم يكونوا يرونه من عند الله حتى يقولوا ذلك ولا هو أيضا من باب قلت حقا وصدقا فلم يبق إلا رفعه.
تنبيه:.
قد يشتبه الحال في أمر المحذوف وعدمه لعدم تحصيل معنى الفعل كما قالوا في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} فإنه قد يظن أن الدعاء فيه بمعنى النداء فلا يقدر في الكلام حذف وليس كذلك وإلا لزم الاشتراك إن كانا متفاوتين أو عطف الشيء على نفسه وإنما الدعاء هنا بمعنى التسمية التي تتعدى لمفعولين أي سموه الله أو الرحمن.
قد يشتبه في تعيين المحذوف لقيام قرينتين كقوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ} قدره سيبويه بـ"بلى نجمعها قادرين"، فقادرين حال وحذف الفعل لدلالة: {أَلَّنْ نَجْمَعَ} عليه.
وقدره الفراء " نحسب " لدلالة {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ} أي بلى نحسبنا قادرين.

وتقدير سيبويه أولى لأن بلى ليس جوابا لـ"يحسب" إنما هو جواب لـ"ألن نجمع" وقدره بعضهم: بلى نقدر قادرين.
وقيل: منصوب لوقوعه موقع الفعل وهو باطل لأنه ليس من نواصب الاسم وقوعه موقع الفعل.
تنبيه آخر:.
إن الحذف على ضربين: أحدهما: ألا يقام شيء مقام المحذوف كما سبق والثاني: أن يقام مقامه ما يدل عليه كقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ}، ليس الإبلاغ هو الجواب لتقدمه على قولهم، فالتقدير: فإن تولوا فلا ملام على لأني قد أبلغتكم.
وقوله: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ } فلا تحزن واصبر.
وقوله: {وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} أي يصيبهم ما أصاب الأولين.
حذف الحرف.
قال أبو الفتح في" المحتسب ": أخبرنا أبو علي قال: قال أبو بكر بن السراج: حذف الحرف ليس يقاس وذلك لأن الحرف نائب عن الفعل بفاعله ألاتراك إذا قلت: ما قام زيد فقد نابت ما عن أنفي كما نابت إلا عن أستثنى وكما نابت الهمزة وهل عن أستفهم وكما نابت حروف العطف عن أعطف ونحو ذلك. فلو ذهبت.

تحذف الحرف لكان ذلك اختصارا واختصار المختصر إجحاف به إلا إذا صح التوجه إليه وقد جاز في بعض الأحوال حذفه لقوة الدلالة عليه. انتهى.
فمنه الواو تحذف لقصد البلاغة فإن في إثباتها ما يقتضى تغاير المتعاطفين فإذا حذفت أشعر بأن الكل كالواحد: كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} تقديره: ولا يألونكم خبالا.
وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} أي ووجوه.
وخرج عليه الفارسي قوله تعالى: { وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا } الآية. وقال: تقديره: "وقلت لا أجد" فهو معطوف على قوله: "أتوك" لأن جواب "إذا" قوله: "تولوا".
ومنعه ابن الشجري في أماليه وعلى هذا فلا موضع له من الإعراب لأنه معطوف على الصلة والصلة لا موضع لها من الإعراب فكذلك ما عطف عليها.
وقال الزمخشري: هي حال من الكاف في" أتوك "، "وقد" قبله مضمرة كما في قوله: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} أي إذا ما أتوك قائلا لا أجد تولوا وعلى هذا فله موضع من الإعراب لأنه حال.
قال السهيلي في أماليه: ليس معنى الآية كما قالوا لأن رفع الحرج عن القوم ليس مشروطا بالبكاء عند التولي وإنما شرطه عدم الجدة ونزلت في السبعة الذين سمى أبو إسحاق ولو كان جواب "إذا أتوك" في قوله: { تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ } لكان من لم تفض عيناه من الدمع هو الذي حرج وأثم وما رفع الله الحرج عنهم إلا لأن الرسول.

لم يجد ما يحملهم عليه وإذا عطفت "قلت لا أجد" على "أتوك" كان الحرج غير مرفوع عنهم حتى يقال: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ} فجواب إذا في قوله لا أجد وما بعد ذلك خبر ونبأ على هؤلاء السبعة الذين كانوا سبب نزول هذه الآية ففضيلة البكاء مخصوصة بهم ورفع الحرج بشرط عدم الجدة عام فيهم وفي غيرهم.
وقال الواحدي في قوله تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً}: آية البقرة في مصاحف الشام بغير واو - يعني قراءة ابن عامر - لأن هذه الآية ملابسة لما قبلها من قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} لأن القائلين:" اتخذ الله ولدا " من جملة المتقدم ذكرهم فيستغنى عن ذكر الواو لالتباس الجملة بما قبلها كما استغنى عنها في نحو قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، ولو كان وهم كان حسنا إلا أن التباس إحدى الجملتين بالأخرى وارتباطها بها أغنى عن الواو.
ومثله: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ} ولم يقل: ورابعهم كما قال: {وَثَامِنُهُمْ} ولو حذف الواو منها كما حذف من التي قبلها واستغنى عن الواو بالملابسة التي بينهما كان حسنا ويمكن أن يكون حذف الواو لاستئناف الجملة ولا يعطف على ما تقدم. انتهى.
وحصل من كلامه أنه عند حذف الواو يجوز أن يلاحظ معنى العطف ويكتفى للربط بينها وبين ما قبلها بالملابسة كما ذكر. ويجوز ألا يلاحظ ذلك فتكون الجملة مستأنفة.
قال ابن عمرون: وحذف الواو في الجمل أسهل منه في المفرد وقد كثر حذفها في الجمل.

في الكلام المحمول بعضه على بعض نحو قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } كله محمول بعضه على بعض والواو مزيدة حذفت لاستقلال الجمل بأنفسها بخلاف المفرد ولأنه في المفرد ربما أوقع لبسا في نحو: رأيت زيدا ورجلا عاقلا.، ولو جاز حذف الواو احتمل أن يكون رجلا بدلا بخلاف الجملة.
وقريب منه قوله تعالى: { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ} أي وقال.
ومنه الفاء في جواب الشرط على رأى، وخرج عليه قوله تعالى: { إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ } أي فالوصية.
والفاء في العطف كقوله: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }، تقديره: " فقال أعوذ بالله "ذكره ابن الشجري في أماليه.
وقوله تعالى: { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ } حذف حرف العطف من قوله:" قال" ولم يقل: "فقال" كما في قصة نوح لأنه على تقدير سؤال سائل قال: ما قال لهم هود ؟ فقيل: قال يا قوم اعبدوا الله واتقوه.

ومنه حذف همزة الاستفهام، كقوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي} أي أهذا ربي ؟.
وقوله: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} أي أفمن نفسك !.
وقوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} أي أو تلك نعمة !.
وقوله: {إِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ} على قراءة ابن كثير بكسر الهمزة على خلاف في ذلك جميعه.
ومنه حذف ألف ما الاستفهامية مع حرف الجر للفرق بين الاستفهامية والخبرية، كقوله تعالى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ}{فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} و{مِمَّ خُلِقَ}.
ومنه حذف الياء في: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} للتخفيف ورعاية الفاصلة.
ومنه حذف حرف النداء،كقوله: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ} أي يا هؤلاء.
وقوله: {يُوسُفُ} أي يا يوسف.
وقوله: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ} أي يا رب.
ويكثر في المضاف نحو: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ} {رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً}.
وكثر ذلك في نداء الرب سبحانه وحكمة ذلك دلالته على التعظيم والتنزيه لأن النداء يتشرب معنى الأمر لأن إذا قلت يا زيد فمعناه أدعوك يا زيد فحذفت يا من نداء الرب ليزول معنى الأمر ويتمحص التعظيم والإجلال.

وقال الصفار: يجوز حذف حرف النداء من المنادى إلا إذا كان المنادى نكرة مقبلا عليها إذ لا دليل عليه وإلا إذا كان اسم إشارة.
ومنه حذف "لو" في قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} تقديره: لو كان معه إله لذهب كل إله بما خلق.
وقوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} معناه لو كان كذلك لارتاب المبطلون.
ومنه حذف "قد" في قوله تعالى: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} أي وقد اتبعك لأن الماضي لا يقع موقع الحال إلا و"قد" معه ظاهرة أو مقدرة.
ومثلها: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} أي وقد كنتم.
وقوله: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} قيل معناه:" قد حصرت " بدلالة قراءة يعقوب "حصرةً صدورهم". وقال الأخفش: الحال محذوفة، و"حصرت صدورهم" صفتها أي جاءوكم يوما حصرت دعاء عليهم بأن تحصر صدورهم عن قتالهم لقومهم طريقته قاتلهم الله. ورده أبو علي بقوله أي قاتلوا قومهم فلا يجوز أن يدعى عليهم بأن تحصر صدورهم عن قتالهم لقومهم لكن بقول اللهم ألق بأسهم بينهم.
ومنه حذف " أن " في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً}، المعنى أن يريكم.

وحذف "لا" في قوله: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ} أي لا تفتأ لأنها ملازمة للنفي ومعناها لا تبرح.
قوله: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}، أي لا تميد.
وقوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ} أي لا تبوء.
وبهذا يزول الإشكال من الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ}، أي لا يطيقونه على قول.
فائدة.
[في حذف الجار ثم إيصال الفعل إلى المجرور].
كثر في القرآن حذف الجار ثم إيصال الفعل إلى المجرور به كقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} أي من قومه.
{وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} أي على عقدة.
{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} ، أي يخوفكم بأوليائه، ولذلك قال: {فَلا تَخَافُوهُمْ}.
{وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} أي يبغون لها.

{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاه} أي قدرنا له.
{سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا} أي على سيرتها.
فصل.
[فيما حذف في آية وأثبت في أخرى].
من الأنواع ما حذف في آية وأثبت في أخرى وهو قسمان:.
أحدهما: أن يكون ما حذف منه محمولا على المذكور كالمطلق في الرقبة في كفارة لظهار مقيدا بالمؤمنة في كفارة القتل.
وكقوله: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}، قيدت بالتشبيه في موضع آخر ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} وقوله في سورة النحل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} فإن هذه تقتضي أن الأولى على حذف مضاف.

والقسم الثاني : لا يكون مرادا. فمنه قوله تعالى في سورة المؤمنين: {لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} وفي الزخرف: {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ}.
وقوله في البقرة: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وفي سورة الأعراف: {أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.
وحكمته: أنه قد اختلف الخبران في سورة البقرة فلذلك دخل العاطف بخلاف الخبرين في الأعراف فإنهما متفقان لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم واحد فكانت الجملة الثالثة مقررة ما في الأولى فهي من العطف بمعزل.
ومنه قوله تعالى في البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} وقال في يس: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} مع العاطف وحكمته أن ما في يس وما بعده جملة معطوفة على جملة أخرى فاحتاجت إلى العاطف والجملة هنا ليست معطوفة فهي من العطف بمعزل.
ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ} فأثبت الواو في الأعراف وحذفها في الكهف فقال: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى} والفرق بينهما أن الذي في الأعراف خطاب لجمع وأصله تدعونهم حذفت للجزم والتي في الكهف خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو واحد وعلامة الجزم فيه سقوط الواو.
ومنه في آل عمران: {جاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} وفي فاطر:.

{جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} والفرق أن الأولى حذفت الباء ففيها للاختصار استغناء بالتي قبلها وخرجت عن الأصل للتوكيد وتقدير المعنى كما تقول مررت بك وبأخيك وبأبيك إذا اختصرت.
ومنه قوله في قصة ثمود: {مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} وفي قصة شعيب: {وَمَا أَنْتَ} بالواو، والفرق أن الأولى جرى على انقطاع الكلام عند النحويين واستئناف {وَمَا أَنْتَ} فاستغنى عن الواو لما تقرر من الابتداء وفي الثانية جرى في العطف وأن يكون قوله: {وَمَا أَنْتَ} معطوفا على {إِنَّمَا أَنْتَ}.
ومنه قوله تعالى في سورة النحل: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} وفي سورة النمل: {وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ} بإثبات النون وحكمته أن القصة لما طالت في سورة النحل ناسب التخفيف بحذف النون بخلافه في سورة النمل فإن الواو استئنافية ولا تعلق لها بما قبلها.
وقوله في البقرة: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} وفي آل عمران: {فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} وحكمته أن الخطاب في البقرة لليهود وهم أشد جدالا.
ومنه قوله في الأعراف: {لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} وفي الأنعام: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا}.

ومنه قوله تعالى في سورة البقرة { ويقتلون النبيين بغير الحق } 1 وفي سورة آل عمران { بغير حق } والحكمة فيه أن الجملة في آل عمران خرجت مخرج الشرط وهو عام فناسب أن يكون النفي بصيغة التنكير حتى يكون عاما وفي سورة البقرة جاء عن أناس معهودين وهو قوله تعالى { ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق } فناسب أن يؤتى بالتعريف لأن الحق الذي كان يستباح به قتل الأنفس عندهم كان معروفا كقوله تعالى { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } فالحق هنا الذي تقتل به الأنفس معهود معروف بخلاف ما في سورة آل عمران
ومنه قوله تعالى في هود حاكيا عن شعيب { ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون } وأمر نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول لقريش { ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون }
ويمكن أن يقال لما كررت مراجعته لقوم ناسب اختصاص قصته بالاستئناف الذي هو أبلغ في الإنذار والوعيد وأما نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكانت مدة إنذاره لقومه قصيرة فعقب عملهم على مكافأتهم بوعيدهم بالفاء إشارة إلى قرب نزول الوعيد لهم بخلاف شعيب فإنه طالت مدته في قومه فاستأنف لهم ذكر الوعيد
ولعل قوم شعيب سألوه السؤال المتقدم فأجابهم بهذا الجواب والفاء لا تحسن فيه والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل ذلك جوابا للسؤال ولا يحسن معه الحذف
ومنه أنه تعالى قال في خطاب المؤمنين { هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم }

عَذَابٍ أَلِيمٍ} ، إلى أن قال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، وقال في خطاب الكافرين: {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}، {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}.
قال الزمخشري في تفسير سورة إبراهيم: ما علمته جاء الخطاب هكذا في القرآن إلا في خطاب الكافرين وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ولئلا يسوي بين الفريقين في الميعاد.
واعترض الإمام فخر الدين بأن هذا التبعيض إن حصل فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب وإن لم يحصل كان هذاالكلام فاسدا.
وقال الشيخ أثير الدين أبو حيان في تفسيره: ويقال: ما فائدة الفرق في الخطاب والمعنى مشترك؟ إذ الكافر إذا آمن والمؤمن إذا تاب مشتركان في الغفران وما تخيلت فيه مغفرة بعض الذنوب منالكافر إذا هو آمن موجود في المؤمن إذا تاب.
وسيأتي بسط الكلام على ذلك في آخر الكتاب.
الإيجاز.
وهو قسم من الحذف ويسمى إيجاز القصر فإن الإيجاز عندهم قسمان وجيز بلفظ ووجيز بحذف.

فالوجيز باللفظ أن يكون اللفظ بالنسبة إلى المعنى أقل من القدرالمعهود عادة وسبب حسنه أنه يدل على التمكن في الفصاحة ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أوتيت جوامع الكلم ".و.
اللفظ لا يخلو إما أن يكون مساويا لمعناه وهو المقدر أو أقل منه وهو المقصور.
أما المقدر فكقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} الاية.
وقوله: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} وهو كثير.
وأما المقصور فإما أن يكون نقصان لفظه عن معناه لاحتمال لفظه لمعان كثيرة أولا.
الأول: كاللفظ المشترك الذي له مجازان، أو حقيقة ومجاز إذا أريد معانيه كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} فإن الصلاة من الله مغايرة للصلاة من الملائكة والحق أنه من القدر المشترك وهو الاعتناء والتعظيم وكذلك قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} الآية. فإن السجود في الكل يجمعه معنى واحد وهو الانقياد.
والثاني: كقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}.
وقوله: {أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}.

وكذلك قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} إذ معناه كبير ولفظه يسير.
وقد نظر لقول العرب:" القتل أنفى للقتل "وهو بنون ثم فاء ويروي بتاء ثم قاف ويروي " أوقى " والمعنى أنه إذا أقيم وتحقق حكمة خاف من يريد قتل أحد أن يقتص منه وقد حكاه الحوفي في تفسيره عن علي بن أبي طالب وقال: قول علي في غاية البلاغة وقد أجمع الناس على بلاغته وفصاحته وأبلغ منه قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وقد تكلموا في وجه الأبلغية. انتهى.
وقد أشار صاحب "المثل السائر" إلى إنكار ذلك وقال: لا نسبة بين كلام الخالق عز وجل وكلام المخلوق وإنما العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك.
وهو كما قال وكيف يقابل المعجز بغيره مفاضلة وهو منه في مرتبة العجز عن إدراكه:
وماذا يقول القائلون إذا بدا جمال خطاب فات فهم الخلائق
وجملة ما ذكروا في ذلك وجوه:.
أحدها: أن قوله: {الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أوجز فإن حروفه عشرة وحروف "القتل أنفى للقتل" أربعة عشر حرفا والتاء وألف الوصل ساقطان لفظا وكذا التنوين لتمام الكلام المقتضى للوقف.
الثاني: أن قولهم فيه كلفة بتكرير القتل ولا تكرير في الآية.
الثالث : أن لفظ القصاص فيه حروف متلائمة لما فيه من الخروج من القاف إلى الصاد إذ القاف من حروف الاستعلاء والصاد من حروف الاستعلاء والإطباق،.

بخلاف الخروج من القاف إلى التاء التي هي حرف منخفض فهو غير ملائم وكذا الخروج من الصاد إلى الحاء أحسن من الخروج من اللام إلى الهمزة لبعد مادون طرف اللسان وأقصى الحلق.
الرابع: في النطق بالصاد والحاء والتاء حسن الصوت ولا كذلك تكرير القاف والفاء.
الخامس: تكرير ذلك في كلمتين متماثلتين بعد فصل طويل وهو ثقل في الحروف أو الكلمات.
السادس: الإثبات أول والنفي ثان عنه والإثبات أشرف.
السابع: أن القصاص المبني على المساواة أوزن في المعادلة من مطلق القتل ولذلك يلزم التخصيص بخلاف الآية.
الثامن: الطباع أقبل للفظ الحياة من كلمة القتل لما فيه من الاختصار وعدم تكرار الكلمة وعدم تنافر الحروف وعدم تكرار الحرفين وقبول الطبع للفظ "الحياة" وصحة الإطلاق.
التاسع : أن نفي القتل لا يستلزم الحياة والآية ناصة على ثبوتها التي هي الغرض المطلوب منه.
العاشر: أن قولهم لا يكاد يفهم إلا بعد فهم أن القصاص هو الحياة وقوله في القصاص حياة مفهوم لأول وهلة.
الحادي عشر: أن قولهم خطأ فإن القتل كله ليس نافيا للقتل فإن القتل العدواني لا ينفى القتل وكذا القتل في الردة والزنا لا ينفيه وإنما ينفيه قتل خاص.

وهو قتل القصاص الذي في الآية تنصيص على المقصود والذي في المثل لا يمكن حمله على ظاهره.
الثاني عشر: فيه دلالة على ربط المقادير بالأسباب وإن كانت الأسباب أيضا بالمقادير وكلام العرب يتضمنه إلا أن فيه زيادة وهي الدلالة على ربط الأجل في الحياة بالسبب لا من مجرد نفي القتل.
الثالث عشر: في تنكير "حياة" نوع تعظيم يدل على أن في القصاص حياة متطاولة كقوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} ولا كذلك المثل فإن اللام فيه للجنس ولهذا فسروا الحياة فيها بالبقاء.
الرابع عشر: فيه بناء أفعل التفضيل من متعد والآية سالمة منه الخامس عشر: أن أفعل في الغالب تقتضي الاشتراك فيكون ترك القصاص نافيا القتل ولكن القصاص أكثر نفيا وليس الأمر كذلك والآية سالمة من هذا.
السادس عشر: أن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكن اللسان من النطق وظهرت فصاحته بخلافه إذا تعقب كل حركة سكون والحركات تنقطع بالسكنات نظيره إذا تحركت الدابة أدنى حركة فخنست ثم تحركت فخنست لا يتبين انطلاقها ولا تتمكن من حركتها على ما تختاره وهي كالمقيدة وقولهم: "القتل أنفي للقتل" حركاته متعاقبة بالسكون بخلاف الآية.
السابع عشر: الآية اشتملت على فن بديع وهو جعل أحد الضدين الذي هو الفناء والموت محلا ومكانا لضده الذي هو الحياة واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة ذكره في الكشاف.

الثامن عشر: أن في الآية طباقا لأن القصاص مشعر بضد الحياة بخلاف المثل.
التاسع عشر: القصاص في الأعضاء والنفوس وقد جعل في الكل حياة فيكون جمعا بين حياةالنفس والأطراف وإن فرض قصاص بما لا حياة فيه كالسن فإن مصلحة الحياة تنقص بذهابه ويصير كنوع آخر وهذه اللطيفة لا يتضمنها المثل.
العشرون: أنها أكثر فائدة لتضمنه القصاص في الأعضاء وأنه نبه على حياة النفس من وجهين من وجه به القصاص صريحا ومن وجه القصاص في الطرف لأن أحد أحوالها أن يسري إلى النفس فيزيلها ولا كذلك المثل.
وقد قيل غير ذلك.
وأما زيادة {لكم} ففيها لطيفة وهي بيان العناية بالمؤمنين على الخصوص وأنهم المراد حياتهم لا غيرهم لتخصيصهم بالمعنى مع وجوده فيمن سواهم.
والحاصل أن هذا من البيان الموجز الذي لا يقترن به شيء.
ومن بديع الإيجاز قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ.} الآية، فإنها نهاية التنزيه.
وقوله: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}، وهذا بينا عجيب يوجب التحذير من الاغترار بالإمهال.
وقوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} ، وهذا من أحسن الوعد والوعيد.

وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} فهذه ثلاث كلمات اشتملت على جميع ما في الرسالة.
وقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، فهذه جمعت مكارم الأخلاق كلها لأن في {خُذِ الْعَفْوَ} صلة القاطعين والصفح عن الظالمين وفي الأمر بالمعروف تقوى الله وصلة الأرحام وصرف اللسان عن الكذب وفي الإعراض عن الجاهلين الصبر والحلم وتنزيه النفس عن مماراة السفيه.
قوله: {مُدْهَامَّتَانِ} معناه مسودتاه من شدة الخضرة.
وقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}.
وقوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} فدل بأمرين على ججميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنام من العشب والشجر والحب والتمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح لأن النار من العيدان والملح من الماء.
وقوله: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ}، فدل على نفسه ولطفه ووحدانيته وقدرته وهدى للحجة عل من ضل عنه لأنه لو كان ظهور الثمرة بالماء والتربة لوجب في القياس ألا تختلف الطعوم والروائح ولا يقع التفاضل في الجنس الواحد إذا نبت في مغرس واحد ولكنه صنع اللطيف الخبير.
وقوله: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ}، كيف نفى بهذين جميع عيوب الخمر وجمع بقوله: {وَلا يُنْزِفُونَ} عدم العقل وذهاب المال ونفاد الشراب.

وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} فدل على فضل السمع والبصر حيث جعل مع الصم فقدان العقل ولم يجعل مع العمي إلا فقدان البصر وحده.
وقوله: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} كيف أمر ونهى وأخبر ونادى ونعت وسمى وأهلك وأبقى وأسعد وأشقى قص من الأنباء مالو شرح ما اندرج في هذه الجملة من بديع اللفظ والبلاغة والإيجاز والبيان لجفت الأقلام وانحسرت الأيدي.
وقوله تعالى عن النملة: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} فجمع في هذه اللفظة أحد عشر جنسا من الكلام نادت وكنت ونبهت وسمعت وأمرت وقضت وحذرت وخصت وعمت وأشارت وغدرت فالنداء "يا" والكناية " أيّ " والتنبيه "ها" والتسمية النمل والأمر "ادخلوا" والقصص "مساكنكم" والتحذير "لا يحطمنكم" والتخصيص سليمان والتعميم جنوده والإشارة "وهم" والغدر لا يشعرون. فأدت خمس حقوق حق الله وحق رسوله وحقها وحق رعيتها وحق جنود سليمان فحق الله أنها استرعيت على النمل فقامت بحقهم وحق سليمان أنها نبهته على النمل وحقها إسقاطها حق الله عن الجنود في نصحهم4 وحق الجنود بنصحها لهم ليدخلوا مساكنهم وحق الجنود إعلامها إياهم وجميع الخلق أن من.

استرعاه رعية فوجب عليه حفظها والذب عنها وهو داخل في الخبر المشهور: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ".
ويقال إن سليمان عليه السلام لم يضحك في عمره إلا مرة واحدة وأخرى حين أشرف على وادي النمل فرآها على كبر الثعالب لها خراطيم وأنياب فقال رئيسهم: ادخلوا مساكنكم فخرج كبير النمل في عظم الجواميس فلما نظر إليه سليمان هاله فأراه الخاتم فخضع له ثم قال: أهذه كلها نمل ؟ فقال: إن النمل لكبيرة إنها ثلاثة اصناف: صنف في الجبال وصنف في القرى وصنف في المدن. فقال سلميان عليه السلام: اعرضها علي فقال له: قف. فبقى سليمان عليه السلام تسعين يوما واقفا يمر عليه النمل، فقال: هل انقطعت عساكركم، فقال ملك النمل: لو وقفت إلى يوم القيامة ما انقطعت. فذكر الجنيد أن سليمان عليه السلام قال لعظيم النمل: لم قلت للنمل: ادخلوا مساكنكم ؟ أخفت عليهم من ظلمنا ؟ قال: لا، ولكن خفت أن يفتتنوا بما رأوا من ملكك فيشغلهم ذلك عن طاعة الله.
وقوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وهذا أشد ما يكون من الحجاج.
وقوله: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} وهذا أعظم ما يكون من التحسير.
وقوله: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} وهذا أشد ما يكون من التنفير عن الخلة إلا على التقوى.

وقوله: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}، وهذا أشد ما يكون من التحذير من التفريط.
وقوله: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، وهذا أشد ما يكون من التبعيد.
وقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}، فهذا أعظم ما يكون من التخيير.
وقوله: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} ، وهذا أبلغ ما يكون من التذكير.
وقوله: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}، وهذا أشد ما يكون في التقريع على التمادى في الباطل.
وقوله: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}، وهذا أشد ما يكون من التقريع.
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} وهذا غاية الترهيب.
وقوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}، وهذه غاية الترغيب.

وقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}.
وقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وهذا أبلغ ما يكون من الحجاج وهو الأصل الذي عليه أثبتت دلالة التمانع في علم الكلام.
وقوله: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وهذا أبلغ ما يكون من الوصف بكل ما تميل إليه النفس من الشهوات وتلذ الأعين من المرئيات ليعلم أن هذا اللفظ القليل جدا حوى معاني كثيرة لا تنحصر عددا.
وقوله: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ} وهذا أشد ما يكون من الخوف.
وقوله: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ}.
وقوله: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ}.
وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ}.
وقوله: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}.
وقوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ}.
وقوله: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} معناه قابلهم بما يفعلونه معك وعاملهم مثل معاملتهم لك سواء مع ما يدل عليه سواء من الأمر بالعدل.
وقوله: {وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} فإنه أشار به إلى انقطاع مدة الماء النازل.

من السماء والنابع من الأرض وقوله: {وَقُضِيَ الأَمْرُ} أي هلك من قضى هلاكه ونجا من قدرت نجاته وإنما عدل عن لفظه إلى لفظ التمثيل لأمرين اختصار اللفظ وكون الهلاك والنجاة كانا بأمر مطاع إذ الأمر يستدعى آمرا ومطاعا وقضاؤه يدل على قدرته.
ومن أقسام الأيجاز الاقتصار على السبب الظاهر للشيء اكتفاء بذلك عن جميع الأسباب كما يقال فلان لا يخاف الشجعان والمراد لا يخاف أحدا.
ومنه قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} ولا شك أن من فسخت النكاح ايضا تتربص لأن السبب الغالب للفراق الطلاق.
وقوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} ولم يذكر النوم وغيره لأن السبب الضروري النقاض خروج الخارج فإن النوم الناقض ليس بضروري فذكر السبب الظاهر وعلم منه الحكم في الباقي.
ومنه قوله: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} أي وهو مالم يقع في وهم الضمير من الهواجس ولم يخطر على القلوب من مخيلات الوساوس.
ومنه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} ونظائره.
وكذلك زيد وعمرو قائم على القول بأن قائم خبر عن أحدهما واستغنى به عن خبر الآخر.
ومنها الاقتصار على المبتدأ وإقامة الشيء مقام الخبر نحو أقائم الزيدان فإن قائم مبتدأ لا خبر له.

ومنها باب "علمت أنك قائم" إذا جعلنا الجملة سادة مسد المفعولين فإن الجملة محلة لاسم واحد سد مسد اسمين مفعولين من غير حذف.
ومنه باب النائب عن الفاعل في ضرب زيد ف زيد دل على الفاعل بإعطائه حكمه وعلى المفعول بوضعه.
ومنها جميع أدوات الاستفهام والشرط فإن " كم مالك "؟ يغنى عن عشرين أو ثلاثين ومن يقم أكرمه يغنى عن زيد وعمرو قال ابن الأثير في "الجامع".
ومنه الألفاظ اللازمة للعموم مثل أحد وديار قاله ابن الأثير أيضا.
ومنه لفظ الجمع فإن الزيدين يغنى عن زيد وزيد وزيد وكذا التثنية أصلها رجل ورجل فحذفوا العطف والمعطوف وأقاموا حرف الجمع والتثنية مقامهما اختصارا وصح ذلك لاتفاق الذاتين في التسمية بلفظ واحد فإن اختلف لفظ الاسمين رجعوا إلى التكرار بالعطف نحو مررت بزيد وبكر.
منه باب الضمائر على ما سيأتي بيانه في قاعدة الضمير.
ومنه لفظ "فعل" فإنه يجيء كثيرا كناية عن أفعال متعددة قال تعالى: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ}.
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله.

القول في التقديم والتأخير.
هو أحد أساليب البلاغة فإنهم أتوا به دلالة على تمكنهم في الفصاحة وملكتهم في الكلام وانقياده لهم وله في القلوب أحسن موقع وأعذب مذاق.
وقد اختلف في عدة من المجاز فمنهم من عده منه لأنه تقديم ما رتبته التأخير كالمفعول وتأخير ما رتبته التقديم كالفاعل نقل كل واحد منهما عن رتبته وحقه.
والصحيح أنه ليس منه فإن المجاز نقل ما وضع له إلى ما لم يوضع.
ويقع الكلام فيه في فصول.
الفصل الأول: في أسباب التقديم والتأخير.
الأول: في أسبابه، وهي كثيرة:.
أحدها: أن يكون أصله التقديم ولا مقتضى للعدول عنه كتقديم الفاعل على المفعول والمبتدأ على الخبر وصاحب الحال عليها نحو جاء زيد راكبا.
والثاني: أن يكون في التأخير إخلال ببيان المعنى كقوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} ، فإنه لو أخر قوله: {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} فلا يفهم أنه منهم.
وجعل السكاكي من الأسباب كون التأخير مانعا مثل الإخلال بالمقصود،.

كقوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بتقديم الحال أعنى {مِنْ قَوْمِهِ} على الوصف أعنى {الَّذِينَ كَفَرُوا} ولو تأخر لتوهم أنه من صفة الدنيا لأنها هاهنا اسم تفضيل من الدنو وليست أسما والدنو يتعدى بـ"من" وحينئذ يشتبه الأمر في القائلين أنهم أهم من قومه أم لا فقدم لاشتمال التأخير على الإخلال ببيان المعنى المقصود وهو كون القائلين من قومه وحين أمن هذا الإخلال بالتأخير قال تعالى في موضع آخر من هذه السورة: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} بتأخير المجرور عن صفة المرفوع.
الثالث: أن يكون في التأخير إخلال بالتناسب فيقدم لمشاكلة الكلام ولرعاية الفاصلة كقوله: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ، بتقديم "إياه" على "تعبدون" لمشاكلة رءوس الآي وكقوله: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} فإنه لو أخر {فِي نَفْسِهِ} عن {مُوسَى} فات تناسب الفواصل لأن قبله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} وبعده،: {إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى}.
وكقوله: {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} فإن تأخير الفاعل عن المفعول لمناسبته لما بعده.
وكقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}، وهو أشكل بما قبله لأن قبله: {مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ}.

وجعل منه السكاكي: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} بتقديم "هارون" مع أن "موسى" أحق بالتقديم.
الرابع: لعظمة والاهتمام به، وذلك أن من عادة العرب الفصحاء إذا أخبرت عن مخبر ما - وأناطت به حكما - وقد يشركه غيره في ذلك الحكم أو فيما أخبر به عنه وقد عطفت أحدهما على الآخر بالواو المقتضية عدم الترتيب - فإنهم مع ذلك إنما يبدءون بالأهم والأولى. قال سيبويه: كأنهم يقدمون الذي شأنه أهم لهم وهم ببيانه أعنى وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم. انتهى.
قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، فبدأ بالصلاة لأنها أهم.
وقال سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}.
وقال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، فقدم العبادة للاهتمام بها.
ومنه تقدير المحذوف في بسم الله مؤخرا.
وأوردوا: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، وأجيب بوجهين:.
أحدهما: أن تقديم الفعل هناك أهم لأنها أول سورة نزلت.
والثاني : أن بأسم ربك متعلق ب أقرأ الثاني ومعنى الأول أوجد القراءة والقصد التعميم.
الخامس : أن يكون الخاطر ملتفتا إليه والهمة معقودة به، وذلك كقوله تعالى:.

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} ، بتقديم المجرور على المفعول الأول لأن الإنكار متوجه إلى الجعل لله لا إلى مطلق الجعل.
السادس: أن يكون التقديم لإرادة التبكيت والتعجيب من حال المذكور كتقديم المفعول الثاني على الأول في قوله تعالى: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ}، والأصل" الجن شركاء "، وقدم لأن المقصود التوبيخ وتقديم الشركاء أبلغ في حصوله.
ومنه قوله تعالى في سورة يس: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} وسنذكره.
السابع: الاختصاص، وذلك بتقديم المفعول والخبر والظرف والجار والمجرور ونحوها على الفعل كقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، أي نخصك بالعبادة فلا نعبد غيرك.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي إن كنتم تخصونه بالعبادة.
والخبر كقوله: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي}، وقوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ}.
وأما تقديم الظرف، ففيه تفصيل فإن كان في الإثبات دل على الاختصاص كقوله تعالى :{إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}، وكذلك: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} ، فإن ذلك يفيد اختصاص ذلك بالله تعالى: وقوله: {لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ}.

أي لا إلى غيره وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} أخرت صلة الشهادة في الأول وقدمت في الثاني لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم وفي اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم.
وقوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} أي لجميع الناس من العجم والعرب على أن التعريف للاستغراق.
وإن كان في النفي فإن تقديمه يفيد تفضيل المنفى عنه كما في قوله تعالى: {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ}، أي ليس في خمر الجنة ما في خمرة غيرها من الغول وأما تأخيره فإنها تفيد النفي فقط كما في قوله: {لا رَيْبَ فِيهِ} فكذلك إذا قلنا لاعيب في الدار كان معناه نفي العيب في الدار وإذا قلنا لا في الدار عيب كان معناه أنها تفضل على غيرها بعدم العيب.
تنبيه:.
ما ذكرناه من أن تقديم المعمول يفيد الاختصاص فهمه الشيخ أبو حيان في كلام الزمخشري وغيره، والذي عليه محققو البيانيين أن ذلك غالب لا لازم، بدليل قوله تعالى: {كلاًًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} وقوله: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} إن جعلنا ما بعد الظرف مبتدأ.
وقد رد صاحب "الفلك الدائر" القاعدة بالآية الأولى وكذلك ابن الحاجب والشيخ أبو حيان وخالفوا البيانيين في ذلك وأنت إذا علمت أنهم.

ذكروا في ذلك قيد الغلبة سهل الأمر. نعم له شرطان:.
أحدهما: ألا يكون المعمول مقدما بالوضع فإن ذلك لا يسمى تقديما حقيقة كأسم الاستفهام وكالمبتدأ عند من يجعله معمولا لخبره.
والثاني: ألا يكون التقديم لمصلحة التركيب مثل: {وَأَمَّا ثَمُودَ فَهَدَيْنَاهُمْ} على قراءة النصب.
وقد اجتمع الاختصاص وعدمه في آية واحدة وهي قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ} ، التقديم في الأول قطعا ليس للاختصاص بخلاف الثاني.
الفصل الثاني: في أنواعه.
وهي إما أن يقدم والمعنى عليه أو يقدم وهو في المعنى مؤخر أو بالعكس.
النوع الأول: ما قدم والمعنى عليه.
ومقتضياته كثيرة قد يسر الله منها خمسا وعشرين ولله در ابن عبدون في قوله:
سقاك الحيا من معان سفاح فكم لي بها من معان فصاح

أحدها: السبق.
وهو أقسام: منها السبق بالزمان والإيجاد، كقوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} قال ابن عطية: المراد بالذين اتبعوه في زمن الفترة.
وقوله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} فإن مذهب أهل السنة تفضيل البشر وإنما قدم الملك لسبقه في الوجود.
وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ} فإن الأزواج أسبق بالزمان لأن البنات أفضل منهن لكونهن بضعة منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}.
واعلم أنه ينضم إليه مع ذلك التشريف كقوله :{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ}.
وقوله: {وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى}.
{صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}.
وأما قوله: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} فإنما قدم ذكر موسى لوجهين: أحدهما : أنه في سياق الاحتجاج عليهم بالترك وكانت صحف موسى منتشرة أكثر انتشارا من صحف إبراهيم. وثانيهما: مراعاة رءوس الآى.

وقد ينضم إليه التحقير، كما في قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}، تقدم اليهود لأنهم كانوا أسبق من النصارى ولأنهم كانوا أقرب إلى المؤمنين بالمجاورة.
وقد لا يلحظ هذا كقوله تعالى: {وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} وقوله: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى}.
ومن التقديم بالإيجاد تقديم السنة على النوم في قوله: {تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} لأن العادة في البشر أن تأخذ العبد السنة قبل النوم فجاءت العبارة على حسب هذه العادة.
ذكره السهيلي وذكر معه وجها آخر، وهو أنها وردت في معرض التمدح والثناء وافتقاد السنة أبلغ في التنزيه فبدىء بالأفضل لأنه إذا استحالت عليه السنة فأحرى أن يستحيل عليه النوم.
ومنه تقديم الظلمة على النور في قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} فإن الظلمات سابقة على النور في الإحساس وكذلك الظلمة المعنوية سابقة على النور المعنوي قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} فانتفاء العلم ظلمة وهو متقدم بالزمان على نور الإدراكات.
ومنه تقديم الليل على النهار: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ.

تُصْبِحُونَ} ولذلك اختارت العرب التاريخ بالليالي دون الأيام وإن كانت الليالي مؤنثة والأيام مذكرة وقاعدتهم تغليب المذكر إلا في التاريخ.
فإن قلت: فما تصنع بقوله تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ}.
قلت: استشكل الشيخ أبو محمد بن عبد السلام في قواعده بالإجماع على سبق الليلة على اليوم وأجاب بأن المعنى: تدرك القمر في سلطانه وهو الليل أي لا تجيء الشمس في أثناء الليل فقوله بعده: {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي لا يأتي في بعض سلطان الشمس وهو النهار وبين الجملتين مقابلة.
فإن قيل: قوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} مشكل على هذا لأن الإيلاج إدخال الشيء في وهذا البحث ينافيه.
قلت: المشهور في معنى الآية أن الله يزيد في زمن الشتاء مقدارا من النهار ومن النهار في الصيف مقدارا من الليل وتقدير الكلام: يولج بعض مقدار الليل في النهار وبعض مقدار النهار في الليل وعلى غير المشهور يجعل الليل في المكان الذي كان فيه النهار ويجعل النهار في المكان الذي كان فيه الليل والتقدير: يولج الليل في مكان النهار ويولج النهار في مكان الليل.
ومنه تقديم المكان على الزمان في قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ.

وَالنُّورَ} أي الليل والنهار، وقوله: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ وََهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.
وهذه مسألة مهمة قل من تعرض لها أعنى سبق المكان على الزمان وقد صرح بها الإمام أبو جعفر الطبري في أول تاريخه واحتج على ذلك بحديث ابن عباس: إن الله خلق التربة يوم السبت وخلق الشمس والقمر وكان ذلك كله ولا ليل ولا نهار إذ كانا إنما هما أسماء لساعات معلومة من قطع الشمس والقمر "درج الفلك" وإذا كان ذلك صحيحا وأنه لا شمس ولا قمر كان معلوما أنه لا ليل ولا نهار قال: وحديث أبي هريرة - يعني في صحيح مسلم - صريح فيه فإن فيه: " وخلق [الله] النور يوم الأربعاء " قال: ويعني به الشمس إن شاء الله.
والحاصل أن تأخر خلق الأيام عن بعض الأشياء المذكورة في الخبر لازم.
فإن قلت: الحديث كالمصرح بخلافه فإنه قال خلق الله التربة يوم السبت حين خلق البرية وهي أول المخلوقات المذكورة فلا يمكن أن يكون خلق الأيام كلها متأخرا عن ذلك.
قلت: قد نبه الطبري على جواب ذلك بما حاصله أن الله تعالى سمى أسماء الأيام قبل خلق التربة وخلق الأيام كلها ثم قدر كل يوم مقدارا فخلق التربة في مقدار يوم السبت قبل خلقه يوم السبت وكذا الباقي.
وهذا وإن كان خلاف الظاهر لكن أوجبه ما قاله الطبري من أنه يتعين تأخير الأيام لما ذكرناه من الدليل المستفاد من الخبرين.
والحاصل أن الزمان قسمان تحقيقي وتقديري والمذكور في الحديث التقديري.

ومنه قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ}، {مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا}، ولذلك لما استغنى عن أحدهما ذكر المشرق فقد فقال: {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا}.
ومنه قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} وقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ}.
ويمكن فيه وجوه آخر:.
منها: أن فيه قهرا للخلق والمقام يقتضيه.
ومنها: أن حياة الإنسان كلاحياة ومآله إلى الموت ولا حياة إلا بعد الموت.
ومنها: أن الموت تقدم في الوجود إذ الإنسان قبل نفخ الروح فيه كان ميتا لعدم الروح.
وهذا إن أريد بالموت عدم الوجود بدليل {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} وإن أريد به بعد الوجود فالناس منتازعون في الموت هل هو أمر وجودي كالحياة أولا ؟.
وقيل بالوقف، فقالت الفلاسفة: الموت عدم الحياة عما من شأنه أن يكون حيا.
والجمهور على أنه أمر وجودي يضاد الحياة محتجين بقوله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} والحديث في الإتيان بالموت في صورة كبش وذبحه.
وأجيب عن الآية بأن الخلق بمعنى التقدير، ولا يجب في المقدر أن يكون وجوديا وعن الثاني بأن ذلك على طريق التمثيل لبيان انقطاع الموت وثبوت الخلود.
فإن قلنا: عدمي، فالتقابل بينه وبين الحياة تقابل العدم والملكة وعلى الصحيح تقابل التضاد وعلى القول بأنه وجودي يجب أن يقال تقديم الموت الذي هو عدم الوجود،.

لكونه سابقا أو معدوم الحياة الذي هو مفارقة الروح البدني يجوز أن يكون لكونه الغاية التي يساق إليها في دار الدنيا فهي العلة الغائبة بعدم تحقيقها لتحقق فخص العلة العامة كما وقع تأكيده في قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} أو تزهيدا في الدار الفانية وترغيبا فيما بعد الموت.
فإن قيل: فما وجه تقدم "الحياة" في قوله: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ} وقوله: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ؟.
قلنا: إن كان الخطاب لآدم وحواء فلأن حياتهما في الدنيا سبقت الموت وإن كان للخلق بالخطاب لمن هو حي يعقبه الموت فما التقديم بالترتيب وكذا الآية بعده.
فإن قيل: فما وجه تقديم الموت على الحياة في الحكاية عن منكر البعث: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} ؟.
قلت: لأجل مناسبة رءوس الآي.
فإن قلت: فما وجه تقدم التوفي على الرفع في قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} مع أن الرفع سابق ؟.
قيل: فيه جوابان:.
أحدهما: المراد بالتوفي النوم، كقوله تعالى: { يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ}.
وثانيهما: أن التاء في "متوفيك" زائدة أي موفيك عملك.
ومنها سبق إنزال، كقوله: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} . وقوله: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ}.

وأما قوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} فإنما قدم القرآن منبها له على فضيلة المنزل إليهم.
ومنها سبق وجوب كقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} وقوله: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً}.
فإن قيل فقد قال: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}.
قيل: يحتمل أنه كان في شريعتهم السجود قبل الركوع ويحتمل أن يراد بالركوع ركوع الركعة الثانية.
وقيل: المراد بـ"اركعي" اشكري.
وقيل: أراد بـ"اسجدي" صلي وحدك. وبـ"اركعي" صلي في جماعة، ولذلك قال: {مَعَ الرَّاكِعِينَ}.
ومنها سبق تنزيه، كقوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ} فبدأ بالرسول قبل المؤمنين، ثم قال: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ} فبدأ بالإيمان بالله لأنه قد يحصل بدليل العقل والعقل سابق في الوجود على الشرع ثم قال:" وملائكته " مراعاة لإيمان الرسول فإنه يتعلق بالملك الذي هو جبريل أولا ثم بالكتاب الذي نزل به جبريل ثم بمعرفة نفسه أنه رسول. وإنما عرف نبوة نفسه بعد معرفته بجبريل عليه السلام وإيمانه فترتب الذكر المنزل عليه بحسب ذلك فظهرت الحكمة والإعجاز فقال: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} لأن الملك هو النازل بالكتاب وإن كان الكتاب أقدم من الملك ولكن رؤية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للملك كانت قبل سماعه الكتاب وأما إيماننا نحن بالعقل آمنا بالله أي.

بوجوده ولكن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عرفنا اسمه وجوب النظر المؤدي إلى معرفته فآمنا بالرسول ثم بالكتاب المنزل عليه وبالملك النازل به فلو ترتب اللفظ على حسب إيماننا لبدأ بالرسول قبل الكتاب ولكن إنما ترتب على حسب إيمان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم الذي هو إمام المؤمنين. ذكره السهيلي في آماليه.
وقال غيره: في هذا الترتيب سر لطيف وذلك لأن النور والكمال والرحمة والخير كله مضاف إلى الله تعالى والوسائط في ذلك الملائكة والمقابل لتلك الرحمة هم الأنبياء والرسل فلا بد أولا من أصل وثانيا من وسائط وثالثا من حصول تلك الرحمة ورابعا من وصولها إلى المقابل لها والأصل المقتضى للخيرات والرحمة هو الله ومن أعظم رحمة رحم بها عباده إنزال كتبه إليهم والموصل لها هم الملائكة والمقابل لها المنزلة عليهم هم الأنبياء فجاء الترتيب على ذلك بحسب الوقائع.
الثاني: بالذات.
كقوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ}. ونحوه {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} وقوله: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} وكذلك جميع الأعداد كل مرتبة هي متقدمة على ما فوقها بالذات.
وأما قوله تعالى: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ} فوجه تقديم المثنى أن المعنى حثهم على القيام بالنصيحة لله وترك الهوى مجتمعين متساويين أو منفردين متفكرين ولا شك أن الأهم حالة الاجتماع فبدأ بها.

الثالث: بالعلة والسببية.
كتقديم "العزيز" على "الحكيم" لأنه عز فحكم وتقديم "العليم" على "الحكيم" لأن الإتقان ناشىء عن العلم وكذا أكثر ما في القرآن من تقديم وصف العلم على الحكمة: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.
ويجوز أن يكون قدم وصف العلم هنا ليتصل بما يناسبه وهو {لا عِلْمَ لَنَا} وفي غيره من نظائره لأنه صفات ذات فيكون من القسم قبله.
ومنه قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قدمت العبادة لأنها سبب حصول الإعانة.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} فإن التوبة سبب الطهارة.
وكذا: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} لأن الإفك سبب الإثم.
وكذا: {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}.
وقوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} قدم إحياء الأرض لأنه سبب إحياء الأنعام والأناسي وقدم إحياء الأنعام لأنه مما يحيا به الناس بأكل لحومها وشرب ألبانها.

وكذا كل علة مع معلولها كقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ}، قيل: قدم الأموال من باب تقديم السبب فإنه إنما شرع النكاح عند قدرته على مؤونته فهو سبب والتزويج سبب للتناسل ولأن المال سبب للتنعيم بالولد وفقده سبب لشقائه.
وكذا تقديم البنات على البنين في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} وأخر ذكر الذهب والفضة عن النساء والبنين لأنهما أقوى في الشهوة الجبلية من المال فإن الطبع يحث على بذل المال فيحصل النكاح والنساء أقعد من الأولاد في الشهوة الجبلية والبنون أقعد من الأموال والذهب أقعد من الفضة والفضة أقعد من الأنعام إذ هي وسيلة إلى تحصيل النعم فلما صدرت الآية بذكر الحب وكان المحبوب مختلف المراتب اقتضت حكمة الترتيب أن يقدم ما هو الأهم فالأهم في رتبة المحبوبات.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} قدم الشكر على الإيمان لأن العاقل ينظر "إلى" ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضة للمنافع فيشكر شكرا مبهما فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكرا متصلا فكان الشكر متقدما على الإيمان وكأنه أصل التكليف ومداره. انتهى.
وجعله غيره من عطف الخاص على العام لأن الإيمان من الشكر وخص بالذكر لشرفه.

الرابع: بالرتبة.
كتقديم "سميع" على "عليم" فإنه يقتضى التخويف والتهديد فبدأ بالسميع لتعلقه بالأصوات وإن من سمع حسك فقد يكون أقرب إليك في العادة ممن يعلم وإن كان علم الله تعلق بما ظهر وما بطن.
وكقوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} فإن المغفرة سلامة والرحمة غنيمة والسلامة مطلوبة قبل الغنيمة وإنما تأخرت في آية سبأ في قوله: {الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} لأنها منتظمة في سلك تعداد أصناف الخلق من المكلفين وغيرهم وهو قوله: {مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} فالرحمة شملتهم جميعا والمغفرة تخص بعضا والعموم قبل الخصوص بالرتبة.
وقوله تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} فإن الهماز هو المغتاب وذلك لا يفتقر إلى شيء بخلاف النميمة.
وقوله: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} فإن الغالب أن الذين يأتون رجالا من مكان قريب والذين يأتون على الضامر من البعيد. ويحتمل أن يكون من التقديم بالشرف لأن الأجر في المشي مضاعف.
وأما قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} مع أن الراكب متمكن من الصلاة أكثر من الماشي فجبرا له في باب الرخصة.

ومنه قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فقدم الطائفين لقربهم من البيت ثم ثنى بالقائمين وهم العاكفون لأنهم يخصون موضعا بالعكوف والطواف بخلافه فكان أعم منه والأعم قبل الأخص ثم ثلث بالركوع لأن الركوع لا يلزم أن يكون في البيت ولا عنده.
ثم في هذه الآية ثلاثة أسئلة:.
الأول: كيف جمع الطائفين والقائمين جمع سلامة والركع جمع تكسير ؟ والجواب: أن جمع السلامة أقرب إلى لفظ الفعل فطائفون بمنزلة يطوفون ففي لفظة إشعار بصلة التطهير وهو حدوث الطواف وتجدده ولو قال: بالطواف لم يفد ذلك لأن لفظ المصدر يخفي ذلك وكذا القول في القائمين وأما الراكعون فلما سبق أنه لا يلزم كونه في البيت ولا عنده فلهذا لم يجمع جمع سلامة إذ لا يحتاج فيه إلى بيان الفعل الباعث على التطهير كما احتيج فيما قبله.
الثاني: كيف وصف الركع بالسجود ولم يعطف بالواو ؟.
والجواب: لأن الركع هم السجود والشيء لا يعطف على نفسه لأن السجود يكون عبارة عن المصدر وهو هنا عبارة عن الجمع فلو عطف بالواو لأوهم إرادة المصدر دون اسم الفاعل لأن الراكع إن لم يسجد فليس براكع شرعا ولو عطف بالواو لأوهم أنه مستقل كالذي قبله.
الثالث: هلا قيل السجد كما قيل الركع وكما جاء في آية أخرى: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} والركوع قبل السجود! والجواب: أن السجود يطلق على وضع الجبهة بالأرض وعلى الخشوع فلو قال: المسجد لم يتناول إلا المعنى الظاهر ومنه: {تَرَاهُمْ.

رُكَّعاً سُجَّداً} وهو من رؤية العين ورؤية العين لا تتعلق إلا بالظاهر فقصد بذلك الرمز إلى السجود المعنوي والصوري بخلاف الركوع فإنه ظاهر في أعمال الظاهر التي يشترط فيها البيت كما في الطواف والقيام المتقدم دون أعمال القلب فجعل السجود وصفا للركوع وتتميما له لأن الخشوع روح الصلاة وسرها الذي شرعت له.
الخامس: بالداعية.
كتقدم الأمر بغض الأبصار على حفظ الفروج في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} لأن البصر داعية إلى الفرج لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " العينان تزنيان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ".
السادس: التعظيم.
كقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ}.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}.
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ}.
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا}.

السابع: الشرف وهو أنواع.
منها: شرف الرسالة، كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} فإن الرسول أفضل من النبي خلافا لابن عبد السلام.
وقوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} {وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً}.
ومنها: شرف الذكورة:.
كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ}.
وقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى}.
وقوله: {رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً}.
وأما تقديم الإناث في قول تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً} فلجبرهن إذ هن موضع الانكسار ولهذا جبر الذكور بالتعريف للإشارة إلى ما فاتهم من فضيلة التقديم.
ويحتمل أن تقديم الإناث لأن المقصود بيان أن الخلق كله بمشيئة الله تعالى لا على وفق غرض العباد.
ومنها: شرف الحرية، كقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} ومن الغريب حكاية بعضهم قولين في أن الحر أشرف من العبد أم لا حكاه القرطبي في تفسير سورة النساء فلينظر فيه.

ومنها: شرف العقل، كقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ}.
وقوله: {مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}.
وأما تقديم الأنعام عليهم في قوله: {تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ} فمن باب تقديم السبب وقد سبق.
ومنها: شرف الإيمان، كقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا} وكذلك تقديم المسلمين على الكافرين في كل موضع والطائع على العاصي وأصحاب اليمين عن أصحاب الشمال.
ومنها: شرف العلم، كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}.
ومنها: شرف الحياة، كقوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ}.
وقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ}. وأما تقديم الموت في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} فمن تقدم السبق بالوجود وقد سبق.
ومنها: شرف المعلوم، نحو: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} فإن علم الغيبيات أشرف من المشاهدات.
ومنه: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ}.{وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}.

وأما قوله: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} ، أي من السر فعن ابن عباس وغيره: " السر: ما أسررت في نفسك وأخفى منه ما لم تحدث به نفسك مما يكون في عد علم الله فيهما سواء " ولا شك أن الآتي أبلغ وفيه وجهان:.
أحدهما: أنه أفعل تفضيل يستدعي مفضلا عليه علم حتى يتحقق في نفسه فيكون حينئذ تقديم السر من النوع الأول.
وثانيهما: مراعاة رءوس الآي.
ومنها شرف الإدراك، كتقديم السمع على البصر والسميع على البصير لأن السمع أشرف على أرجح القولين عند جماعة وقدم القلب عليهما في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} لأن الحواس خدمة القلب وموصلة إليه وهو المقصود وأما قوله: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} فأخر القلب فيها لأن العناية هناك بذم المتصامين عن السماع ومنهم الذين كانوا يجعلون القطن في آذانهم حتى لا يسمعوا ولهذا صدرت السورة بذكرهم في قوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا}.
ومنها: شرف المجازاة، كقوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ}.
ومنها: شرف العموم، فإن العام أشرف من الخاص كتقديم العفو على الغفور أي عفو عما لم يؤاخذنا به مما نستحقه بذنوبنا غفور لما واخذنا به في الدنيا قبلنا ورجعنا إليه فتقدم العفو على الغفور لأنه أعم وأخرت المغفرة لأنها أخص.

ومنها: شرف الإباحة للإذن بها، كقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ}، وإنما تقديم الحرام في قوله: {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً} فللزيادة في التشنيع عليهم أو لأجل السياق لأن قبله: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً}. ثم {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ}.
ومنها: الشرف بالفضيلة، كقوله تعالى: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} وقوله: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} وقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} الآية. وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ}{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ} وقوله: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} في الأعراف والشعراء فإن موسى استأثر باصطفائه تعالى له بتكليمه وكونه من أولى العزم فإن قلت فقد جاء هارون وموسى في سورة طه بتقديم هارون قلنا لتناسب رءوس الآي ومنه تقديم جبريل على ميكائيل في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} لأن جبريل صاحب الوحي والعلم وميكائيل.

صاحب الأرزاق والخيرات النفسانية أفضل من الخيرات الجسمانية.
ومنه تقديم المهاجرين، في قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار}.
وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} ويدل على فضيلة الهجرة قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لولا الهجرة لكنت أمرأ من الأنصار" وبالآية احتج الصديق على تفضيلهم وتعيين الإمامة فيهم.
ومنه قوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فإن الصلاة أفضل من السلام وقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} قدم القريب لأن الصدقة عليه أفضل من الأجنبي.
ومنه تقديم الوجه، في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ}.
وتقديم اليمين على الشمال، في نحو: {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ}.
ومنه تقديم الأنفس على الأموال، في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}. وأما تقديم الأموال في سورة الأنفال في قوله: {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فوجه التقديم أن الجهاد يستدعي تقديم إنفاق الأمولا فهو من باب السبق بالسببية.
ومنه :{مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} فإن الحلق أفضل من التقصير.

ومنه تقديم السموات على الأرض، كقوله: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} وهو كثير وكذلك كثير ما يقع السموات بلفظ الجمع والأرض لم تقع إلا مفردة.
وأما تأخيرها عنها في قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} فلأنه لما ذكر المخاطبين، وهو قوله: {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} وهو خطاب لأهل الأرض وعملهم يكون في الأرض وهذا بخلاف الآية التي في سبأ فإنها منتظمة في سياق علم الغيب.
وكذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}.
وأما تأخيرها عنها في قوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} فلأن الآية في سياق الوعد والوعيد وإنما هو لأهل الأرض.
وكذا قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}.
ومنه تقديم الإنس على الجن في قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} الاية.
وقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} وقوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} وقوله: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً}.

وقوله: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}.
وأما تقديم الجن في مواضع أخر كقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} فلأنهم أقدم في الخلق فيكون من النوع الأول - أعنى التقديم بالزمان - ولهذا لما أخر في آية الحجر صرح بالقبلية بذكر الإنسان ثم قال: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ}.
ويجوز أن يكون في الأمثلة السالفة من باب تقديم الأعجب لأن خلقها أغرب كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ}.
أو لأنهم أقوى أجساما وأعظم أقداما ولهذا قدموا في: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وفي: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ}.
ومنه تقديم السجد على الراكعين في قوله: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} وسبق فيه شيء آخر.
ومنه تقديم الخيل على البغال والبغال على الحمير في قوله تعالى :{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا}.
ومنه تقديم الذهب على الفضة في قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}.

فإن قلت: فهل يجوز أن يكون من تقديم المذكر على المؤنث ؟.
قلت: هيهات الذهب أيضا مؤنت ولهذا يصغر على ذهيبة كـ"قدم".
ومنه تقديم الصوف في قوله: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} ولهذا احتج به بعض الصوفية على اختيار لبس الصوف على غيره من الملابس وأنه شعار الملائكة في قوله: { مُسَوِّمِينَ} قيل: سيماهم يؤمئذ الصوف. وعن علي: الصوف الأبيض رواه أبو نعيم في مدح الصوف وقال: إنه شعار الأنبياء. وقال ابن مسعود: " كانت الأنبياء قبلكم يلبسون الصوف " وفي الصحيح في موسى عليه السلام: " عليه عباءة ".
منه تقديم الشمس على القمر في قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} وقوله: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً} ولهذا قال تعالى: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً}، والحكماء يقولون: إن نور القمر مستمد من نور الشمس، قال الشاعر:
يا مفردا بالحسن والشكل من دل عينيك على قتلي
البدر من شمس الضحى نوره والشمس من نورك تستملي
وأما قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} فيحتمل وجهين مناسبة رءوس الآي أو أن انتفاع أهل السموات به أكثر قال ابن الأنباري يقال إن القمر وجهه يضيء لأهل الشمس.

وظهره إلى الأرض ولهذا قال تعالى: {فِيهِنَّ} لما كان أكثر نوره يضيء إلى أهل السماء.
الثامن: الغلبة والكثرة.
كقوله تعالى: {مِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} قدم الظالم لكثرته ثم المقتصد ثم السابق.
وقوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ}.
{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ}.
وجعل منه الزمخشري: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} يعني بدليل قوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وحديث بعث النار.
وأما قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} قدم ذكر العذاب لكون الكلام مع اليهود الذين كفروا بعيسى وراموا قتله.
وجعل من هذا النوع قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} لأن السرقة في الذكور أكثر.
وقدم في الزنى المرأة في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} لأن الزنى فيهن أكثر وأما قوله:.

{الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ}.
فقال الزمخشري: سيقت الآية التي قبلها لعقوبتهما على ما جنيا والمرأة هي المادة التي نشأت منها الخيانة لأنها لو لم تطمع الرجل [ولم تومض له] وتمكنه لم يطمع ولم يتمكن فلما كانت أصلا وأولا في ذلك بدأ بذكرها وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل [فيه] لأنه هو الراغب والخاطب يبدأ الطلب.
ومنه قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}، قال الزمخشري: قدم غض البصر لأن النظر يريد الزنى ورائد الفجور والبلوى به أشد وأكثر ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه.
ومنه تقديم الرحمة على العذاب، حيث وقع في القرآن ولهذا ورد: " إن رحمتي غلبت غضبي ".
وأما تقديم التعذيب على المغفرة في آية المائدة فللسياق.
ومنه قوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ} قال ابن الحاجب في أماليه: إنما قدم الأزواج لأن المقصود الإخبار أن فيهم أعداء ووقوع ذلك في الأزواج أقعد منه في الأولاد فكان أقعد في المعنى المراد فقدم ولذلك قدمت الأموال في قوله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} لأن الأموال لا تكاد تفارقها الفتنة: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}{مَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} ، وليست الأولاد في استلزام الفتنة مثلها وكان تقدمها أولى.

التاسع: سبق ما يقتضى تقديمه.
وهو دلالة السياق كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} لما كان إسراحها وهي خماص وإراحتها وهي بطان قدم الإراحة لأن الجمال بها حينئذ أفخر.
وقوله: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} لأن السياق في ذكر مريم في قوله: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} ولذلك قدم الابن في غير هذا المكان قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} وقوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} فإنه قدم الحكم مع أن العلم لا بد من سبقه للحكم ولكن لما كان السياق في الحكم قدمه قال تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} ، ويحتمل أن المراد بالحكم الحكمة وبها فسر الزمخشري قوله تعالى في سورة يوسف: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} وأما تقديم الحكيم على العليم في سورة الانعامفلأنه مقام تشريع الأحكام وأما في أول سورة يوسف فقدم العليم على الحكيم لقوله في آخرها: {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}.

ومنه تقديم المحو على الإثبات في قوله: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} فإن قبله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} ويمكن أن يقال ما يقع عليه المحو أقل مما يقع عليه غيره ولا سيما على قراءة تشديد يثبت فإنها ناصة على الكثرة والمراد به الاستمرار لا الاستئناف.
وقوله: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}.
ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً}، قدم "رسلا" هنا على "من قبلك" وفي غير هذه بالعكس لأن السياق هنا في الرسل.
ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} قدم القبض لأن قبله من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له اضعافا كثيرة وكان هذا بسطا فلا يناسب تلاوة البسط فقدم القبض لهذا وللترغيب في الإنفاق لأن الممتنع منه سببه خوف القلة فبين أن هذا لا ينجيه فإن القبض مقدر ولا بد.
العاشر: مراعاة اشتقاق اللفظ.
كقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}.
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}.
{يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}.

{قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}.
{ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ}.
{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ}.
وأما قوله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ } فقدم نفي التأخير لأنه الأصل في الكلام وإنما ذكر التقدم مع عدم إمكان التقدم نفيا لأطراف الكلام كله.
وكقوله: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ}.
وقوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}.
{لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}.
{لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ}.
وقوله: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ}.
{فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}.
فإن قلت قد جاء: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى}.{أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى}.
قلت: لمناسبة رءوس الآى.

ومثله: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ} ولأن الخطاب لهم فقدموا.
الحادي عشر: للحث عليه خيفة من التهاون به.
كتقديم تنفيذ الوصية على وفاء الدين في قوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فإن وفاء الدين سابق على الوصية لكن قدم الوصية لأنهم كانوا يتساهلون بتأخيرها بخلاف الدين.
ونظيره: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً} قدم الإناث حثا على الإحسان إليهم.
وقال السهيلي في [النتائج]: إنما قدمت الوصية لوجهين:.
أحدهما: أنها قربة إلى الله تعالى بخلاف الدين الذي تعوذ الرسل منه فبدىء بها للفضل.
والثاني: أن الوصية للميت والدين لغيره ونفسك قبل نفس غيرك تقول هذا لي وهذا لغيري ولا تقول في فصيح الكلام هذا لغيري وهذا لي.
الثاني عشر: لتحقق ما بعده واستغنائه هو عنه في تصوره .
كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}.

وقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً}.
وقوله: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تَابُوا}.
الثالث عشر: الاهتمام عند المخاطب.
كقوله: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}.
ونظيره قوله عليه السلام: " وأن تقرأ السلام على من عرفته ومن لم تعرفه ".
وقوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} لفضل الصدقة على القريب.
وكقوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}.
وقوله: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} فقدم الكفارة على الدية وعكس في قتل المعاهد حيث قال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}.
قال الماوردي في [الحاوي]: ووجهه أن المسلم يرى تقديم حق الله على نفسه والكافر يرى تقديم نفسه على حق الله قال: وقال ابن أبي هريرة: " إنما خالف بينهما ولم يجعلهما على نسق واحد لئلا يلحق بهما ما بينهما من قتل المؤمن في دار الحرب في قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فضم إليه الدية إلحاقا بأحد الطرفين "، فأزال هذا الاحتمال باختلاف اللفظين.

وقال الفقيه نجم الدين بن الرفعة: يحتمل أن يقال إنه لما كان الكفر يهدر الدماء وهو موجود كان الغاية ببذل الدم عند العصمة لأجل الميثاق أتم لأنه يغمض حكمته فلذلك قدمت الدية فيه وأخرت الكفارة لأن حكمها قد سبق. ولما كانت عصمة المسلم ثابتة وقياس الأصول أنه لا تجب الكفارة في قتل الخطأ لأنه لا إثم فيه خصوصا على المسلمين لرفع القلم عن الخطأ كانت العناية بذكر الكفارة فيه أتم لأنها التي تغمض فقدمت.
ومن هذا النوع قوله تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} قيل: لماذا بدأ بالمغرب قبل المشرق وكان مسكن ذي القرنين من ناحية المشرق ؟ قيل: لقصد الاهتمام إما لتمرد أهله وكثرة طغيانهم في ذلك الوقت أو غير ذلك مما لم ينته إلينا علمه.
ومن هذا أن تأخر المقصود بالمدح والذم أولىمن تقدمه كقوله نعم الرجل زيد أحسن من قولك زيد نعم الرجل لأنهم يقدمون الأهم وهم في هذا بذكر المدح والذم أهم.
فأما تقديمه في قوله تعالى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} فإن الممدوح هنا بـ"نعم العبد" هو سليمان عليه السلام وقد تقدم ذكره. وكذلك أيوب في الآية الآخرى والمخصوص بالمدح في الآيتين ضمير سليمان وأيوب وتقديره نعم العبد هو إنه أواب.
الرابع عشر: للتنبيه على أنه مطلق لا مقيد.
كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ}، على القول بأن "الله" في موضع المفعول الثاني لـ"جعل" و"شركاء" مفعول أول ويكون "الجن" في كلام ثان مقدر،.

كأنه قيل: فمن جعلوا شركاء ؟ قيل: الجن وهذا يقتضى وقوع الإنكار على جعلهم "لله شركاء" على الإطلاق فيدخل مشركة غير الجن ولو أخر فقيل: وجعلوا الجن شركاء لله كان الجن مفعولا أولا وشركاء ثانيا فتكون الشركة مقيدة غير مطلقة لأنه جرى على الجن فيكون الإنكار توجه لجعل المشاركة للجن خاصة وليس كذلك وفيه زيادة سبقت.
الخامس عشر: للتنبيه على أن السبب مرتب.
كقوله تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} قدم الجباه ثم الجنوب لأن مانع الصدقة في الدنيا كان يصرف وجهه أولا عن السائل ثم ينوه بجانبه ثم يتولى بظهره.
السادس عشر: التنقل.
وهو أنواع: إما من الأقرب إلى الأبعد، كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} قدم ذكر المخاطبين على من قبلهم وقدم الأرض على السماء.
وكذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}، لقصد الترقي.

وقوله: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}.
وإما بالعكس كقوله في اول الجاثية: {إِِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ}.
وإما من الأعلى كقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}.
وقوله: {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ}.
وإما من الأدنى كقوله: {وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً}.
وقوله: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً}.
وقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}.
فإن قلت: لم لا اكتفي بنفي الأدنى ليعلم منه نفى الأعلى بطريق الأولى ؟ قلت: جوابه مما سبق من التقديم بالزمان.
وكقوله: {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} الآية، وبهذا يتبين فساد استدلال المعتزلة على تفضيل الملك على البشر بقوله: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ} فإنهم زعموا أن سياقها يقتضي الترقي من الأدنى إلى الأعلى إذ لا يحسن أن يقال لا يستنكف فلان عن خدمتك ولا من دونه بل ولا من فوقه.
وجوابه أن هؤلاء لما عبدوا المسيح واعتقدوا فيه الولدية لما فيه من القدرة على الخوارق.

والمعجزات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغيره ولكونه خلق من غير تراب والتزهيد في الدنيا وغالب هذه الامور هي للملائكة أتم وهم فيها أقوى فإن كانت هذه الصفات أوجبت عبادته فهو مع هذه الصفات لا يستنكف عن عبادة الله بل ولا من هو أكبر منه في هذه الصفات للترقي من الأدنى إلى الأعلى في المقصود ولم يلزم منه الشرف المطلق والفضيلة على المسيح.
السابع عشر: الترقي.
كقوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} الآية، فإنه سبحانه بدأ منها بالأدنى لغرض الترقي لأن منفعة الرابع أهم من منفعة الثالث فهو أشرف منه ومنفعة الثالث أعم من منفعة الثاني ومنفعة الثاني أعم من منفعة الأول فهو أشرف منه.
وقد قرن السمع بالعقل ولم يقرن به البصر في قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} وما قرن بالأشرف كان أشرف وحكى ذلك عن علي بن عيسى الربعي.
قال الشيخ أبو الفتح القشيري:.
فإن قيل: قد كان الأولى أن يقدم الوصف الأعلى ثم ما دونه حتى ينتهي إلى أضعفها لأنه إذا بدا بسلب الوصف الأعلى ثم بسلب مادونه كان ذلك أبلغ في الذم.

لأنه لا يلزم من سلب الأعلى سلب ما دونه كما تقول ليس زيد بسلطان ولا وزير ولا أمير ولا وال والغرض من الآية المبالغة في الذم.
قلت: ما ذكرته طريق حسنة في علم المعاني والمقصود من الآية طريقة أخرى وهي أنه تعالى أثبت أن الأصنام التي تعبدها الكفار أمثال الكفار في أنها مقهورة مربوبة ثم حطها عن درجة المثلية بنفي هذه الصفات الثابتة للكفار عنها. وقد علمت أن المماثلة بين الذوات المتنائية إنما تكون باعتبار الصفات الجامعة بينها إذ هي أسباب في ثبوت المماثلة بينها وتقوى المماثلة بقوة أسبابها وتضعف بضعفها فإذا سلب وصف ثابت لإحدى الذاتين عن الأخرى انتفى وجه من المماثلة بينهما ثم إذا سلب وصف من الأول انتفى وجه من المماثلة أقوى من الأول ثم لا يزال يسلب أسباب المماثلة أقواها فأقواها حتى تنتفي المماثلة كلها بهذا التدريج وهذه الطريقة ألطف من سلب أسباب المماثلة أقواها ثم أضعفها فأضعفها.
الثامن عشر: مراعاة الإفراد.
فإن المفرد سابق على الجمع كقوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ}، وقوله: {مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} ولهذا لما عبر عن المال بالجمع أخر عن البنين في قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ}.

ومنه تقديم الوصف بالمفرد على الوصف بالجملة، في قوله: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} وقوله: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ}.
التاسع عشر: التحذير منه والتنفير عنه.
كقوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} ، قرن الزنى بالشرك وقدمه.
وقوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} قدمهن في الذكر لأن المحنة بهن أعظم من المحنة بالأولاد وفي صحيح مسلم: "ما تركت بعدي [في الناس] فتنة أضر على الرجال من النساء". ومن الحكمة العظيمة أنه بدأ بذكر النساء في الدنيا وختم [الحرث] وهما طرفان متشابهان وفيهما الشهوة والمعاش الدنيوي ولما ذكر بعد ذلك ما أعده للمتقين أخر ذكر الأزواج كما يجب في الترتيب الأخروي وختم بالرضوان. وكم في القرآن من مثل هذا العجب إذا حضر له الذهن وفرغ له الفهم !.
ومنه تقديم نفي الولد على نفي الوالد في قوله: { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} فإنه لما وقع في الأول منازعة الكفرة وتقولهم اقتضت الرتبة بالطبع تقديمه في الذكر اعتناء به قبل التنزيه عن الوالد الذي لم ينازع فيه أحد من الأمم.
العشرون: التخويف منه.
كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} ونظائره السابقة في الثامن.

الحادي والعشرون: التعجيب من شأنه.
كقوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ}.
قال الزمخشري: قدم الجبال على الطير لأن تسخيرها له وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز لأنها جماد والطير حيوان ناطق.
قال ابن النحاس: وليس مراد الزمخشري بناطق ما يراد به في حد الإنسان.
الثاني والعشرون: كونه أدل على القدرة.
كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ}.
والثالث والعشرون: قصد الترتيب.
كما في آية الوضوء فإن ادخال المسح بين الغسلين وقطع النظر عن النظير مع مراعاة ذلك في لسانهم دليل على قصد الترتيب.

وكذلك البداءة في الصفا بالسعي ومثله الكفارة المرتبة في الظهار والقتل.
وهنا قاعدة ذكرها أصحابنا وهي أن الكفارة المرتبة بدأ الله فيها بالأغلظ والمخيرة بدأ فيها بالأخف كما في كفارة اليمين ولهذا حملوا آية المحاربة في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا}، الآية على الترتيب لا التخيير لأنه بدأ فيها بالأغلظ طردا للقاعدة خلافا لمالك حيث جعلها على التخيير.
الرابع والعشرون: خفة اللفظ.
كما في قولهم: ربيعة ومضر مع أن مضر أشرف لكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم لأنهم لو قدموا مضر لتوالي حركات كثيرة وذلك يثقل فإذا قدموا ربيعة ووقفوا على مضر بسكون الراء نقص الثقل لقلة الحركات المتوالية.
وقد يكون تقديم الإنس على الجن من ذلك فالإنس أخف لمكان النون والسين المهموسة.
الخامس والعشرون: رعاية الفواصل.
كتأخير الغفور في قوله: {عَفُوٌّ غَفُورٌ} وقوله: {وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً}.

وإن كانت القاعدة في علم البيان تأخير ما هو الأبلغ فإنه يقال عالم نحرير وشجاع باسل وسبق له نظائر.
وكقوله: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ}، ولو قال: صلوه الجحيم لأفاد المعنى ولكن يفوت الجمع.
وقيل: فائدته الاختصاص.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فقدم [إياه] على [تعبدون] لمشاكلة رءوس الآى.
تنبيه:.
قد يكون في كل واحد مما ذكرنا من الأمثلة سببان فأكثر للتقديم فإما أن يعتقد إعادة الكل أو يرجح بعضها لكونه أهم في ذلك المحل. وإن كانت الأخرى أهم في محل آخر وإذا تعارضت الأسباب روعى أقواها فإن تساوت كان المتكلم بالخيار في تقديم أي الأمرين شاء.
النوع الثاني: مما قدم النية به التأخير.
فمنه ما يدل على ذلك الإعراب كتقديم المفعول على الفاعل في نحو قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}،{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا}، {وَإِذِ ابْتَلَى.

إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ}.
ونحوه مما يجب في الصناعة النحوية كذلك ولكن ذلك لقصد الحصر.
كتقديم المفعول. كقوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي}{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ}.
وكتقديم الخبر على المبتدأ في قوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} ولو قال:" وظنوا أن حصونهم مانعتهم " لما أشعر بزيادة وثوقهم بمنعها إياهم.
وكذا: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي} ولو قال:" أأنت راغب عنها " ؟ ما أفادت زيادة الإنكار على إبراهيم.
وكذلك: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ولم يقل: فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة وكان يستغنى عن الضمير لأن هذا لا يفيد اختصاص الذين كفروا بالشخوص.
ومنه ما يدل على المعنى، كقوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}، قال البغوي: هذا أول القصة وإن كانت مؤخرة في التلاوة.
وقال الواحدي: كان الاختلاف في القاتل قبل ذبح البقرة وإنما أخر في الكلام لأنه سبحانه لما قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} الآية علم المخاطبون أن البقرة لا تذبح إلا للدلالة على قاتل خفيت عينه عليهم فلما استقر علم هذا في نفوسهم أتبع بقوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} على جهة التوكيد لا أنه عرفهم الاختلاف في القاتل بعد أن دلهم على ذبح البقرة وقيل إنه من المؤخر الذي يراد به التقدم،.

وتأويله: وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها فسألتم موسى فقال لكم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}.
وأما الزمخشري ففي كلامه ما يدل على أن إيرادها إنما كان يتأتى على الوجه الواقع في القرآن لمعنى حسن لطيف استخرجه وأبداه.
ومنه قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} وأصل الكلام هواه إلهه كما تقول اتخذ الصنم معبودا لكن قدم المفعول الثاني على الأول للعناية كما تقول علمت منطلقا زيدا لفضل عنايتك بانطلاقه.
ومنه قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} الآية، أي أنزله قيما ولم يجعل له عوجا قاله جماعة، منهم الواحدي.
ورده فخر الدين في تفسيره بأن قوله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} معناه أنه كامل في ذاته وأن " قيما " معناه أنه مكمل لغيره وكونه كاملا في ذاته سابق على كونه مكملا لغيره لأن معنى كونه " قيما " أنه قائم بمصالح الغير. قال: فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح ما ذكر في الآية وما ذكر من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه. انتهى.
وهذا فهم عجيب من الإمام لأن القائل بالتقديم والتأخير لا يقول بأن كونه غير ذي عوج متأخر عن كونه قيما في المعنى وإنما الكلام في ترتيب اللفظ لأجل الإعراب وقد يكون أحد المعنيين ثابتا قبل الآخر ويذكر بعده.
وأيضا فإن هذا البحث إنما هو على تفسير القيم بالمستقيم فأما إذا فسر بالقيام على غيره فلا نسلم أن القائل يقول بالتقديم والتأخير.
وهاهنا أمران أمران:.

أحدهما: أن الأظهر جعل هذه الجملة أعنى قوله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} من جملة صلة "الذي" وتمامها وعلى هذا لا موضع لها من الإعراب لوجهين: أحدهما: أنها في حيز الصلة لأنها معطوفة عليها. والثاني : أنها اعتراض بين الحال وعاملها ويجوز في الجملة المذكورة أن يكون موضعها النصب على أنها حال من الكتاب والعامل فيها " أنزل ".
قاله جماعة، وفيه نظر.
وأما قوله:[ قيما ] فيجوز في نصبه وجوه:.
أحدها:- وهو قول الأكثر - أنه منصوب على الحال من [الكتاب] والعامل فيه [ أنزل ] وفي الكلام تقديم وتأخير وتقديره:[ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا ] فتكون الجملة على هذا اعتراضا.
والثاني: أن يكون منصوبا بفعل مقدر وتقديره: ولكن جعله قيما فيكون مفعولا للفعل المقدر.
والثالث : أن يكون حالا من الضمير في قوله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} وتكون حالا مؤكدة.
واختار صاحب الكشاف أن يكون [قيما] مفعولا لفعل مقدر كما ذكرناه لأن الجملة التي قبلها عنده معطوفة على الصلة و[قيما] من تمام الصلة وإذا كان حالا يكون فيه فصل بين بعض الصلة وتمامها فكان الأحسن جعله معمولا لمقدر.
وقال جماعة منهم ابن المنير في تفسير البحر بعد نقله كلام الزمخشري: وعجيب من كونه لم يجعل الفاصل المذكور حالا أيضا ولا فصل بل هما حالان متواليان من شيء واحد والتقدير أنزل الكتاب غير معوج.

وهذا القول - وهو جعل الجملة حالا - قد ذكره جماعة قبل ابن المنير والظاهر أن الزمخشري لم يرتض هذا القول لأن جعل الجملة حالا يفيده لا ما يفيد العطف من نفي العوج عن الكتاب مطلقا غير مقيد بالإنزال وهو المقصود فالفائدة التي هي أتم إنما تكون على تقدير استقلال الجملة كيف والقول بالتقديم والتأخير منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما نقله الطبري وغيره.
وقال الواحدي: هو قول جميع أهل اللغة والتفسير والزمخشري ربما لاحظ هذا المعنى ولم يمنع جواز غير ما قال لكن ما قال هو الأحسن.
وقال غير ابن المنير في الاعتراض على الزمخشري: إن الجملة وإن كانت مستقلة فهي في حيز الصلة للعطف فلم يقع فصل ويؤيد ما ذكره صاحب الكشاف أن بعض القراء يسكت عند قوله:[ عوجا ]ويفصل بينه وبين " قيما " بسكتة لطيفة وهي رواية حفص عن عاصم وذلك يحتمل أن يكون لما ذكرنا من تقدير الفصل وانقطاع الكلام عما قبله قال ابن المنير وتحتمل السكتة وجها آخر وهو أن يكون ذلك لرفع توهم أن يكون قيما نعتا للعوج لأن النكرة تستدعي النعت غالبا وقد كثر في كلامهم إيلاء النكرة الجامدة نعتها كقوله: {صِرَاطاً مُسْتَقِيماً}، و{قُرْآناً عَرَبِيّاً} فإذا ولي النكرة الجامدة اسم مشتق نكرة ظهر فيه معنى الوصف فربما خيف اللبس في جعل [قيما] نعتا لـ[عوج] فوقع اللبس بهذه السكتة وهذا أيضا فيه نظر لأن ذلك إنما يتوهم فيما يصلح أن يكون وصفا ولا يصلح قيما أن يكون وصفا ل عوج فإن الشيء لا يوصف بضده لأن العوج لا يكون قيما والأولى ما ذكرناه أولا

الثاني: نقل الإمام عن بعضهم أن قيما بدل من قوله عوجا وهو مشكل لأنه لا يظهر له وجه.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} قيل: التقدير: لقد همت به لولا أن رأى برهان ربه وهم بها وهذا أحسن لكن في تأويله قلق ولا يحتاج إلى هذا التأويل إلا على قول من قال: إن الصغائر يجوز وقوعها منهم.
وقوله: {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} قيل: أصله: فبشرناها بإسحاق فضحكت. وقيل: ضحكت أي حاضت بعد الكبر عند البشرى فعادت إلى عادات النساء من الحيض والحمل والولادة.
وقوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا}، قدم علىما بعده وهو مؤخر عنه في المعنى لأن ذلك يحصل للتوافق.
وقوله: {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} أي أحوى غثاء أي أخضر يميل إلى السواد والموجب لتأخير أحوى رعاية الفواصل.
وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً} قال ابن برهان النحوي: أصله: ومن يبتغ دينا غير الإسلام.
وقوله: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} قال أبو عبيد: الغربيب: الشديد السواد ففي الكلام تقديم وتأخير وقال صاحب [العجائب والغرائب]: قال ابن عيسى:.

الغربيب: الذي لونه لون الغراب فصار كأنه غراب. قال: والغراب يكون أسود وغير أسود وعلى هذا فلا تقديم ولا تأخير فيه.
وقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} على قول من يقول إن الذكر هنا القرآن.
وقوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}.
وقوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}.
وقوله: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} أي فعقروها ثم كذبوه في عقرها وفي إجابتهم.
وقوله: {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ} تقديره: ثم قضى أجلا وعنده أجل مسمى أي وقت مؤقت.
وقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} أ ي الأوثان من الرجس.
{هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} أي يرهبون ربهم.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} أي الذين هم حافظون لفروجهم.
{فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} أي مخلف رسله وعده.
{بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} أي بل الإنسان بصير على نفسه في شهود جوارحه عليه.
{خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} خلق العجل من الإنسان.
{وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً} أي ولولا.

كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان العذاب لازما لهم.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} أي كيف مده ربك.
{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} أي لشديد لحب الخير.
{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ.} أي زين للمشركين شركاؤهم قتل أولادهم لأن الشياطين كانوا يحسنون لهم قتل بناتهم خشية العار.
وقوله: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}.
وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.
وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} تقديره: مثل الذين كفروا بربهم كرماد اشتدت به الريح.
وقوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} أي فأنا عدو آلهتهم وأصنامهم وكل معبود يعبدونه من دون الله.
وقوله: { وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا} أي فزعوا وأخذوا فلا فوت لأن الفوت يكون بعد الأخذ.
وقوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ، يعني القيامة. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ}.

وذلك يوم القيامة. ثم قال: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} والنصب والعمل يكونان في الدنيا فكأنه على التقديم والتأخير معناه وجوه عاملة ناصبة ويوم القيامة خاشعة والدليل عليه قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ}.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ}، تقديره: لمقت الله إياكم في الدنيا حين دعيتم إلا الإيمان فكفرتم ومقته إياكم اليوم أكبر من مقتكم أنفسكم إذ دعيتم إلى النار.
وقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ، لأن الفجر ليس له سواد والتقدير حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر من الخيط الأسود من الليل أي حتى يتبين لكم بياض الصبح من بقية سواد الليل.
وقوله: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ}.
وقوله: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ} منظوم بقوله: {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ} لأنه موضع الشماتة.
وقوله: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ}، أي اثنين إلهين لأن اتخاذاثنين يقع على ما يجوز وما لايجوز و"إلهين" لا يقع إلا على ما لا يجوز ف إلهين أخص فكان جعله صفة أولى.

النوع الثالث: ما قدم في آية وأخر في أخرى.
فمن ذلك قوله في فاتحة الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وفي خاتمة الجاثية: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ} فتقديم "الحمد" في الأول جاء على الأصل والثاني على تقدير الجواب فكأنه قيل عند وقوع الأمر لمن الحمد ومن أهله فجاء الجواب على ذلك نظيره: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ثم قال: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}.
وقوله في سورة يس: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} قدم المجرور على المرفوع لاشتمال ما قبله من سوء معاملة أصحاب القرية الرسل وإصرارهم على تكذيبهم فكان مظنة التتابع على مجرى العبارة تلك القرية ويبقى مخيلا في فكره أكانت كلها كذلك أم كان فيها.. على خلاف ذلك، بخلاف ما في سورة القصص.
ومنها قوله في سورة النمل: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} ، وفي سورة المؤمنين: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ} ، فإن ما قبل الأولى {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا} وما قبل الثانية {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً}، فالجهة المنظور فيها هناك كون أنفسهم وأبائهم ترابا والجهة المنظور فيها هنا كونهم ترابا وعظاما ولا شبهة أن الأولى أدخل عندهم في تبعيد البعث.

ومنها قوله في سورة المؤمنين: {وَقَالَ الْمَلأُُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا}، فقدم المجرور على الوصف لأنه لو أخبر عنه - وأنت تعلم أن تمام الوصف بتمام ما يدخل عليه الموصوف وتمامه {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} - لاحتمل أن يكون من نعيم الدنيا واشتبه الأمر في القائلين أهم من قومه أم لا ؟ بخلاف قوله في موضع آخر منها: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} فإنه جاء على الأصل.
ومنها قوله في سورة طه: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى}.
بخلاف قوله في سورة الشعراء: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}.
ومنها قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}، وقال في سورة الإسراء: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} قدم المخاطبين في الأولى دون الثانية لأن الخطاب في الأولى في الفقراء بدليل قوله :{مِنْ إِمْلاقٍ} فكان رزقهم عندهم أهم من رزق أولادهم فقدم الوعد برزقهم على الوعد برزق أولادهم والخطاب في الثانية للأغيناء بدليل: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} فإن الخشية إنما تكون مما لم يقع فكان رزق أولادهم هو المطلوب دون رزقهم لأنه حاصل فكان أهم فقدم الوعد برزق أولادهم على الوعد برزقهم.
ومنها ذكر الله في أواخر سورة الملائكة: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فقدم ذكر السموات لأن معلوماتها أكثر فكان تقديمها أدل على صفة العالمية ثم قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} فبدأ بذكر الأرض لأنه في.

سياق تعجيز الشركاء عن الخلق والمشاركة وأمر الأرض في ذلك أيسر من السماء بكثير فبدأ بالأرض مبالغة في بيان عجزهم لأن من عجز عن أيسر الأمرين كان عن أعظمهما أعجز ثم قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا}، فقدم السموات تنبيها على عظم قدرته سبحانه لأنه خلقها أكبر من خلق الأرض كما صرح به في سور المؤمن ومن قدر على إمساك الأعظم كان على إمساك الأصغر أقدر.
فإن قلت: فهلا اكتفى من ذكر الأرض بهذا التنبيه البين الذي لا يشك فيه أحد !.
قلت: أراد ذكرها مطابقة لأنه على كل حال أظهر وأبين فانظر أيها العاقل حكمة القرآن وما أودعه من البيان والتبيان تحمد عاقبة النظر وتنتظر خير منتظر!.
ومن أنواعه أن يقدم اللفظ في الآية ويتأخر فيها لقصد أن يقع البداءة والختم به للاعتناء بشأنه وذلك كقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ}.
وقوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} إلى قوله: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ}.
وكذلك قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} فإنه لولا ما أسلفناه لقيل ما تكتمون وتبدون لأن الوصف بعلمه.

أمدح كما قيل: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} و{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}.
فإن قلت: فقد قال تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}.
قلت لأجل تناسب رءوس الآى.
ومنها أن يقع التقديم في موضع والتأخير في آخر، واللفظ واحد، والقصة واحدة، للتفنن في الفصاحة وإخراج الكلام على عدة أساليب كما في قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} وقوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً}.
وقوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} وقوله: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} قال الزمخشري في كشافه القديم علم بذلك أن كلا الطريقين داخل تحت الحسن وذلك لأن العطف في المختلفين كالتثنية في المتفقين فلا عليك أن تقدم أيهما شئت فإنه حسن مؤد إلى الغرض. وقد قال سيبويه: ولم يجعل للرجل منزلة بتقديمك إياه بكونه أولى بها من الجائي كأنك قلت: مررت بهما يعني في قولك مررت برجل وجاءني إلا أن الأحسن تقديم الأفضل فالقلب رئيس الأعضاء والمضغة لها الشأن ثم السمع طريق إدرك وحي الله وكلامه الذي قامت به السماوات والأرض وسائر العلوم التي هي الحياة كلها.
قلت: وقد سبق توجيه كل موضع بما ورد فيه من الحكمة.

القلب:.
وفي كونه من أساليب البلاغة خلاف فأنكره جماعة منهم حازم في كتاب: "منهاج البلغاء" وقال: إنه مما يجب أن ينزه كتاب الله عنه لأن العرب إن صدر ذلك منهم فبقصد العبث أو التهكم أو المحاكاة أو حال اضطرار والله منزه عن ذلك.
وقبله جماعة مطلقة بشرط عدم اللبس كما قاله المبرد في كتاب: "ما اتفق لفظه واختلف معناه".
وفصل آخرون بين أن يتضمن اعتبارا لطيفا فبليغ وإلا فلا ولهذا قال ابن الضائع: يجوز القلب على التأويل ثم قد يقرب التأويل فيصح في فصيح الكلام وقد يبعد فيختص بالشعر.
وهو أنواع:.
أحدها: قلب الإسناد.
وهو أن يشمل الإسناد إلى شيء والمراد غيره كقوله تعالى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} إن لم تجعل الباء للتعدية لأن ظاهره أن المفاتح تنوء بالعصبة ومعناه أن العصبة تنوء بالمفاتح لثقلها فأسند " لتنوء " إلى "المفاتح" والمراد إسناده إلى العصبة.

لأن الباء للحال والعصبة مستصحبة المفاتح لا تستصحبها المفاتيح وفائدته المبالغة يجعل المفاتح كأنها مستتبعة للعصبة القوية بثقلها.
وقيل: لا قلب فيه والمراد والله أعلم أن المفاتح تنوء بالعصبة أي تميلها من نقلها وقد ذكر هذا الفراء وغيره.
وقال ابن عصفور: والصحيح ما ذهب إليه الفارسي أنها بالنقل ولا قلب والفعل غير متعد فصار متعديا بالباء لأن [ناء] غير متعد يقال: ناء النجم أي نهض ويقال: ناء أي مال للسقوط فإذا نقلت الفعل بالباء قلت: نؤت به أي أنهضته وأملته للسقوط فقوله: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} أي تميلها المفاتح للسقوط لثقلها.
قال: وإنما كان مذهب الفارسي أصح لأن نقل الفعل غير المتعدي بالباء مقيس والقلب غير مقيس فحمل الآية على ما هو مقيس أولى.
ومنه قوله تعالى: {خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} أي خلق العجل من الإنسان قاله ثعلب وابن السكيت.
قال الزجاج: ويدل على ذلك: {وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً}.
قال ابن جنى: والأحسن أن يكون تقديره: خلق الإنسان من العجلة لكثرة فعله إياه واعتماده له وهو أقوى في المعنى من القلب لأنه أمر قد اطرد واتسع فحمله على القلب يبعد في الصنعة ويضعف المعنى.
ولما خفي هذا على بعضهم قال إن العجل هاهنا الطين قال: ولعمري إنه في اللغة كما ذكر غير أنه ليس هنا إلا نفس العجل ألا ترى إلى قوله عقبه: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ}، ونظيره قوله: { وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً}{وَخُلِقَ الإِنْسَانُ.

ضَعِيفاً} لأن العجلة ضرب من الضعف لما تؤذن به الضرورة والحاجة.
وقيل في قوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} أي إنه من المقلوب، وأنه {وجاءت سكرة الحق بالموت} وهكذا في قراءة أبي بكر.
مثله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}، قال الفراء: أي لكل أمر كتبه الله أجل مؤجل. وقيل في قوله: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} : هو من المقلوب أي يريد بك الخير ويقال: أراده بالخير وأراد به الخير.
وجعل ابن الضائع منه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} ، قال: فآدم صلوات الله على نبينا وعليه هو المتلقي للكلمات حقيقة ويقرب أن ينسب التلقي للكلمات لأن من تلقى شيئا أو طلب أن يتلقاه فلقيه كان الآخر أيضا قد طلب ذلك لأنه قد لقيه قال: ولقرب هذا المعنى قرىء بالقلب.
وجعل الفارسي منه قوله تعالى: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} أي فعميتم عليها.
وقوله: {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ}.
وقوله: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً}، {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} أي بلغت الكبر.
وقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} وقوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي.

إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} ، فإن الأصنام لا تعادي وإنما المعنى فإني عدو لهم مشتق من عدوت الشيء إذا جاوزته وخلفته وهذا لا يكون إلا فيمن له إرادة وأما عاديته فمفاعة لا يكون إلا من اثنين.
وجعل منه بعضهم: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} أي إن حبه للخير لشديد.
وقيل ليس منه لأن المقصود منه أنه لحب المال لبخيل والشدة البخل أي من أجل حبه للمال يبخل.
وجعل الزمخشري منه قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} كقوله: عرضت الناقة على الحوض لأن المعروض ليس له اختيار وإنما الاختيار للمعروض عليه فإنه قد يفعل ويريد وعلى هذا فلا قلب في الآية لأن الكفار مقهورون فكأنهم لا اختيار لهم والنار متصرفة فيهم وهو كالمتاع الذي يقرب منه من يعرض عليه كما قالوا: عرضت الجارية على البيع.
وقوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} ومعلوم أن التحريم لا يقع إلا على الملكف فالمعنى وحرمنا على المراضع أن ترضعه ووجه تحريم إرضاعه عليهن إلا يقبل إرضاعهن حتى يرد إلى أمه.
وقوله تعالى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ}، وقيل: الأصل وما تخدعهم إلا أنفسهم لأن الأنفس هي المخادعة والمسولة، قال تعالى: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ}.
ورد بأن الفاعل في مثل هذا هوالمفعول في المعنى وأن التغاير في اللفظ فعلى هذا يصح إسناد الفعل إلى كل منهما ولا حاجة إلى القلب.

الثاني: قلب المعطوف.
إما بأن تجعل المعطوف عليه معطوفا والمعطوف معطوفا عليه كقوله تعالى: {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}، حقيقته فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم لأنه نظره ما يرجعون من القول غير متأت مع توليه عنهم. وما يفسر به التولي من أنه يتوارى في الكوة التي ألقى منها الكتاب مجاز والحقيقة راجحة عليه.
وقوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} أي تدلى فدنا لأنه بالتدلي نال الدنو والقرب إلى المنزلة الرفيعة وإلى المكانة لا إلى المكان.
وقيل: لا قلب، والمعنى: ثم أراد الدنو وفي صحيح البخاري: "{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} المعنى فإذا استعذت فأقرأ ".
وقوله: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا}، وقال صاحب الإيضاح: لا قلب فيه لعدم تضمنه اعتبارا لطيفا.
ورد بتضمنه المبالغة في شدة سورة البأس يعنى هلكت بمجرد توجه الناس إليها ثم جاءها.
الثالث: العكس.
العكس، وهو أمر لفظي كقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ}.

وقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}.
{لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}.
{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}.
الرابع: المستوى.
وهو أن الكلمة او الكلمات تقرأ من أولها إلى آخرها ومن آخرها إلى أولها لا يختلف لفظها ولا معناها كقوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}.
{كُلٌّ فِي فَلَكٍ}.
الخامس: مقلوب البعض.
وهو أن تكون الكلمة الثانية مركبة من حروف الكلمة الأولى مع بقاء بعض حروف الكلمة الأولى كقوله تعالى: {فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ} فـ"بني" مركب من حروف "بين" وهو مفرق إلا أن الباقي بعضها في الكلمتين وهو أولها.

المدرج.
هذا النوع سميته بهذه التسمية بنظير المدرج من الحديث وحقيقته في أسلوب القرآن أن تجيء الكلمة إلى جنب أخرى كأنها في الظاهر معها وهي في الحقيقة غير متعلقة بها كقوله تعالى ذاكرا عن بلقيس: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} هو من قول الله لا من قول المرأة.
ومنه قوله تعالى: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}.
انتهى قول المرأة ثم قال يوسف عليه السلام: { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} معناه ليعلم الملك أني لم أخنه.
ومنه: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} تم الكلام فقالت الملائكة: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} فهذه صفة لأتقياء المؤمنين ثم قال: {يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ} فهذا يرجع إلى كفار مكة تمدهم إخوانهم من الشياطين في الغي.

وقوله: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} ثم أخبر عن فرعون متصلا: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}.
وقوله: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ} فالظاهر أن الكلام كله من كلام الزبانيةوالأمر ليس كذلك.
وقوله: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} من كلامه تعالى وقال: {إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.

الترقي.
كقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}،{لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً}.
فإن قيل فقد ورد: {فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} والغالب أن يقدم في القليل على الكثير مع أن الظلم منع للحق من أصله والهضم منع له من وجه كالتطفيف فكان يناسبه تقديم الهضم.
قلت: لأجل فواصل الاى فإنه تقدم قبله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} فعدل عنه في الثاني كيلا يكون أبطأ وقد سيقت أمثلة الترقي في أسباب التقديم.

الاقتصاص.
ذكره أبو الحسين بن فارس وهو أن يكون كلام في سورة مقتصا من كلام في سورة آخرى أو في السورة نفسها ومثله بقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}، والآخرة دار ثواب لا عمل فيها فهذا مقتص من قوله: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى}.
ومنه قوله تعالى: {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} مأخوذ من قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ}.
وقوله: {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً}.
فأما قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} فيقال: إنها مقتصة من أربع آيات لأن الإشهاد أربعة:.
الملائكة عليهم السلام في قوله: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ}.
والأنبياء عليهم السلام لقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً}.
وأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}.

والأعضاء لقوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
ومنه قوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} وقرئت مخففة ومثقلة فمن شدد فهو من [ نَدَّ ] إذا نفر وهو مقتص من قوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} الآية. ومن خفف فهو تفاعل من النداء مقتص من قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ}.

الألغاز.
واللغز الطريق المنحرف سمى به لانحرافه عن نمط ظاهر الكلام ويسمى ايضا أحجية لأن الحجى هو العقل وهذا النوع يقوي العقل عند التمرن والارتماض بحله والفكر فيه.
وذكر بعضهم أنه وقع في القرآن العظيم وجعل منه ما جاء في أوائل السور من الحروف المفردة والمركبةالتي جهل معناها وحارت العقول في منتهاها.
ومنه قوله تعالى في قصة إبراهيم لما سئل عن كسر الأصنام وقيل له: أنت فعلته فقال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} قابلهم بهذه المعارضة ليقيم عليهم الحجة ويوضح لهم المحجة.
وكذلك قول نمروذ: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} أتى باثنين فقتل أحدهما وأرسل الآخرة فإن هذه مغالطة.

الاستطراد.
وهو التعريض بعيب إنسان بذكر عيب غيره كقوله تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ}.
وكقوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} وقوله: {أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ}.

الترويد.
وهو أن يعلق المتكلم لفظة من الكلام ثم يردها بعينها ويعلقها بمعنى آخر كقوله: {حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ} الآية فإن الأول مضاف إليه والثاني مبتدأ.
وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
وقوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ}.
وقد يحذف أحدها ويضمر أولا يلاحظ على الخلاف في قوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}.

التغليب.
وحقيقته إعطاء الشيء حكم غيره. وقيل ترجيح أحد المغلوبين على الآخر أو إطلاق لفظة عليهما إجراء للمختلفين مجرى المتفقين.
وهو أنواع:.
الأول : تغليب المذكر.
كقوله تعالى: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} غلب المذكر لأن الواو جامعة لأن لفظ الفعل مقتص ولو أردت العطف امتنع.
وقوله: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}.
وقوله: {إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} والأصل:" من القانتات والغابرات " فعدت الأنثى من المذكر بحكم التغليب.
هكذا قالوا، وهو عجيب فإن العرب تقول نحن من بني فلان لا تريد إلا موالاتهم والتصويب لطريقتهم وفي الحديث الصحيح في الأشعريين: " هم مني وأنا منهم " فقوله سبحانه: {مِنَ الْقَانِتِينَ} ولم يقل: من "القانتات" إيذانا بان وضعها في العباد جدا واجتهادا وعلما وتبصرا ورفعة من الله لدرجاتها في أوصاف الرجال القانتين وطريقهم.
ونظيره ولكن بالعكس قول عقبة بن أبي معيط لأمية بن خلف لما أجمع القعود.

عن وقعة بدر لأنه كان شيخا فجاء بمجمرة فقال: يا أبا علي استجمر فإنما أنت من النساء فقال: قبحك الله وقبح ما جئت به ثم تجهز.
ونازعهم بعضهم في ذلك من وجه آخر فقال: يحتمل ألا يكون [من] للتبعيض بل لابتداء الغاية أي كانت ناشئة من القوم القانتين لأنها من أعقاب هارون أخي موسى عليه السلام.
الثاني: تغليب المتكلم على المخاطب والمخاطب على الغائب.
فيقال: أنا وزيد فعلنا وأنت وزيد تفعلان ومنه قوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} بتاء الخطاب غلب جانب [ أنتم ] على جانب [ قوم ] والقياس أن يجيء بالياء لأنه وصف القوم وقوم اسم غيبة ولكن حسن آخر الخطاب وصفا ل قوم لوقوعه خبرا عن ضمير المخاطبين. قال ابن الشجري.
ولو قيل: إنه حالل لـ {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} لن في الضمير الخطاب معنى الإشارة لملازمته لها أو لمعناها لكان متجها وإن لم تساعده الصناعة لكن يبعده أن المراد وصفهم بجهل مستمر لا مخصوص بحال الخطاب ولم يقل:[ جاهلون ] إيذانا بأنهم يتجددون عند كل مصيبة لطلب آيات جهلهم.
وقال أبو البركات بن الأنباري: ولو قيل: إنما قال:[ تجهلون] بالتاء – لأن [ قوم ] هو [ أنتم ] في المعنى فلذلك، قال:[ تجهلون ] حملا على المعنى - لكان حسنا ونظيره قوله:
*أنا الذي سمتني أمي حيدره*

بالياء حملا على [ أنا ] لأن الذي هو[ أنا ] في المعنى.
ومنه قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} غلب فيه جانب [ أنت ]على جانب [مَن] فاسند إليه الفعل وكان تقديره: فاستقيموا فغلب الخطاب على الغيبة لأن حرف العطف فصل بين المسند إليهم الفعل فصار كما ترى. قال صاحب الكشاف تقديره:فاستقم كما أمرت وليستقم كذلك من تاب معك.
وما قلنا أقل تقديرا من هذا فاختر أيهما شئت.
وقوله تعالى: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ} فأعاد الضمير بلفظ الخطاب وإن كان [من تبعك] يقتضى الغيبة تغليبا للمخاطب وجعل الغائب تبعا له كما كان تبعا له في المعصية والعقوبة فحسن أن يجعل تبعا له في اللفظ وهو من محاسن ارتباط اللفظ بالمعنى.
وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فإن الخطاب في [ لعلكم ] متعلق بقوله [خلقكم] لا بقوله [اعبدوا] حتى يختص بالناس المخاطبين إذ لا معنى لقوله [اعبدوا لعلكم تتقون].
ومنه قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فيمن قرأ بالتاء.
ويجوز أن يكون المراد بـ[ما تعملون] الخلق كلهم والمخاطب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكل سامع أبدا فيكون تغليبا ولا يجوز أن يعتبر خطاب من سواه بدونه من غير اعتبار التغليب لامتنان أن يخاطب في كلام واحد اثنان أو أكثر من غير عطف او تثنية أو جمع.
ومنه قوله تعالى:.......

الثالث: تغليب العاقل على غيره.
بأن يتقدم لفظ يعم من يعقل ومن لا يعقل فيطلق اللفظ المختص بالعاقل على الجميع كما تقول: "خلق الله الناس والأنعام ورزقهم"، فإن لفظ [هم] مختص بالعقلاء.
ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} لما تقدم لفظ الدابة والمراد بها عموم من يعقل ومن لا يعقل غلب من يعقل فقال: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي}.
فإن قيل: هذا صحيح في {فمنهم] لأنه لمن يعقل وهو راجع إلى الجميع فلم قال: [من] وهو لا يقع على العام بل خاص بالعاقل ؟.
قلت:[ مَن ] هنا بعض [ هم ]وهو ضمير من يعقل.
فإن قلت: فكيف يقع على بعضه لفظ ما لا يعقل ؟.
قلت: من هنا قال أبو عثمان: إنه تغليب من غير عموم لفظ متقدم فهو بمنزله من يقول رأيت ثلاثة زيدا وعمرا وحمارا.
وقال ابن الصائغ:[ هم ] لا تقع إلا على من يعقل فلما أعاد الضمير على كل دابة غلب من يعقل فقال:[ هم ] ومن بعض هذا الضمير وهو للعاقل فلزم أن يقول [من] فلما قال: بوقوع التغليب في الضمير صار ما يقع عليه حكمه حكم العاقلين فتمم ذلك بأن أوقع [من].
وقوله تعالى حاكيا عن السماء والأرض: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} ، إنما جمعهما جمع.

السلامة، ولم يقل [طائعين] ولا [طائعات] لأنه أراد: ائنيا بمن فيكم من الخلائق طائعين فخرجت الحال على لفظ الجمع وغلب من يعقل من الذكور.
وقال بعض النحويين: لما أخبر عنهما أنهما يقولان كما يقول الآدميون أشبهتا الذكور من بني آدم. وإنما قال: [طائعين] ولم يقل: [مطيعين] لنه من طعنا أي أنقدنا وليس من أطعنا يقال طاعت الناقة تطوع طوعا إذا انقادت.
وقوله تعالى: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} ، قيل: أوقع [ما] لأنها تقع على أنواع من يعقل لأنه إذا اجتمع من يعقل ومالا يعقل فغلب مالا يعقل كان الأمر بالعكس ويناقضه {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}.
وقال الزمخشري جاء بـ[ما] تحقيرا لشأنهم وتصغيرا قال:[ له قانتون] تعظيم.
ورد عليه ابن الضائع بصحة وقوعها على الله عز وجل قال: وهذا غاية الخطأ، وقوله في دعاء الأصنام: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ}.
وقوله: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} وأما قوله: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} وقوله: {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ}.
{إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}.
{لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا}.{يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ}.

لما أخبر عنها باخبار الآدميين جرى ضميرها على حد من يعقل وكذا البواقي.
فإن قيل: فقد غلب غير العاقل على العاقل في قوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ} فإنه لو غلب العاقل على غير العاقل لآتى بـ[مَن].
فالجواب أن هذا الموضع غلب فيه من يعقل وعبر عن ذلك ب ما لأنها واقعة على أجناس من يعقل خاصة كهذه الآية.
قوله: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} ولم يقل [ومن فيهن] قيل: لأن كلمة [ما] تتناول الأجناس كلها تناولا عاما باصل الوضع و[من] لا تتناول غير العقلاء بأصل الوضع فكان استعمال [ما] هنا أولى.
وقد يجتمع في لفظ واحد تغليب المخاطب على الغائب والعقلاء على غيرهم، كقوله: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ} ، أي خلق لكم أيها الناس من جنسكم ذكورا وإناثا وخلق الأنعام أيضا من أنفسها ذكورا وإناثا يذرؤكم أي ينبتكم ويكثركم أيها الناس والأنعام في هذا التدبير والجعل فهو خطاب للجميع للناس المخاطبين وللأنعام المذكور بلفظ الغيبة ففيه تغليب المخاطب على الغائب وإلا لما صح ذكر الجميع - أعنى الناس والأنعام - بطريق الخطاب لأن الأنعام غيب [وفيه] تغليب العقلاء على غيرهم وإلا لما صح خطاب الجمع بلفظ [كم] المختص بالعقلاء ففي لفظ [كم] تغليبان ولولا التغليب لكان القياس أن يقال: يذرؤكم وإياها هكذا قرره السكاكي والزمخشري.
ونوزعا فيه بأن جعل الخطاب شاملا للأنعام تكلف لا حاجة إليه لأن الغرض إظهار القدرة وبيان الألطاف في حق الناس فالخطاب مختص بهم والمعنى: يكثركم.

أيها الناس في التدبير حيث مكنكم من التوالد والتناسل وهيأ لكم من مصالحكم ما تحتاجون إليه في ترتيب المعاش وتدبير التوالد وجعلها أزواجا تبقى ببقائكم وعلى هذا يكون التقدير: وجعل لكم من الآنعام أزواجا وهذا أنسب بنظم الكلام مما قرروه وهو جعل الأنعام أنفسها أزواجا.
وقوله: {يَذْرَأُكُمْ فِيهِ} أي في هذا التدبير، كأنه محل لذلك ولم يقل [به] كما قال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} لأنه مسوق لإظهار الاقتدار مع الوحدانية فأسقط السببية وأثبت [في] الظرفية وهذا وجه من إعجاز قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} لأن الحياة من شأنها الاستناد إليه سبحانه لا إلى غيره فاختيرت [في] على الباء لأنه مسوق لبيان الترغيب والمعنى مفهوم والقصاص مسوق للتجويز وحسن المشروعية، {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.
الرابع: تغليب المتصف بالشيء على ما لم يتصف به.
كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} قيل: غلب غير المرتابين علىالمرتابين واعترض بقوله تعالى: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وهذا خطاب للكفار فقط قطعا فهم المخاطبون أولا بذلك ثم إن كنتم صادقين لا يتميز فيها التغليب ثم هي شاهدة بأن المتكلم معهم يخص.

الجاحدين بقوله :{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وإذا لم يكن الخطاب إلا فيهم فتغليب حال من لم يدخل في الخطاب لا عهد به في مخاطبات العرب.
الخامس: تغليب الأكثر على الأقل.
بأن ينسب إلى الجميع وصف يختص بالأكثر كقوله تعالى: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} أدخل شعيب عليه السلام في قوله :{لَتَعُودُنَّ} بحكم التغليب، إذ لم يكن في ملتهم أصلا حتى يعود إليها ومثله قوله :{إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} ، واعترض بأن عاد بمعنى صار لغة معروفة، وأنشدوا:
فإن تكن الأيام أحسن مرة ... إلى فقد عادت لهن ذنوب
ولا حجة فيه لجواز أن يكون ضمير الأيام فاعل عادت وإنما الشاهد في قول أمية:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ويحتمل جوابا ثالثا وهو أن يكون قولهم لشعيب ذلك من تعنتهم وبهتانهم وادعائهم أن شعيبا كان على ملتهم لا كما قال فرعون لموسى. وقوله: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} كناية عن أتباعه لمجرد فائدتهم وأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن قال ذلك عن نفسه وأتباعه فقد استثنى والمعلق بالمشيئة لايلزم إمكانه شرعا تقديرا والاعتراف بالقدرة والرجوع لعلمه سبحانه وأن علم العبد عصمة نفسه أدبا مع ربه لاشكا.

ويجوز أن يراد بالعود في ملتهم مجرد المساكنة والاختلاط بدليل قوله: {إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا}. ونظيره: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ويكون ذلك إشارة إلى الهجرة عنهم وترك الإجابة لهم لا جوابا لهم. وفيه بعد.
السادس: تغليب الجنس الكثير الأفراد على فرد من غير هذا الجنس مغموز فيما بينهم بأن يطلق اسم الجنس على الجميع.
كقوله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ} وأنه عد منهم مع أنه كان من الجن تغليبا لكونه جنيا واحدا فيما بينهم ولأن حمل الاستثناء على الاتصال هو الأصل. ويدل على كونه من غير الملائكة ما رواه مسلم في صحيحه: " خلقت الملائكة من نور والجن من النار ".
وقيل: إنه كان ملكا فسلب الملكية وأجيب عن كونه من الجن بأنه اسم لنوع من الملائكة.
قال الزمخشري: كان مختلطا بهم فحينئذ عمته الدعوة بالخلطة لا بالجنس فيكون من تغليب الأكثر.
هذا إن جعلنا الاستثناء متصلا ولم يجعل [إلا] بمعنى [لكن].
وقال ابن جنى في [ القد ]: قال أبو الحسن في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى.

ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وإنما المتخذ عيسى دون أمه فهو من باب:
*لنا قمراها والنجوم الطوالع*
السابع: تغليب الموجود على ما لم يوجد.
كقوله: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} قال الزمخشري: فإن المراد: المنزل كله وإنما عبر عنه بلفظ المضى وإن كان بعضه مترقبا تغليبا للموجود على ما لم يوجد.
الثامن: تغليب الإسلام.
كقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ} قاله الزمخشري: لأن الدرجات للعلو والدركات للسفل فاستعمل الدرجات في القسمين تغليبا.
التاسع: تغليب ما وقع بوجه مخصوص على ما وقع بغير هذا الوجه.
كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} ذكر الأيدي لأن أكثر الأعمال.

نزاول بها فحصل الجمع بالواقع بالأيدي تغليبا أشار إليه الزمخشري في آخر آل عمران.
ويشاكله ما أنشده الغزنوي في "العامريات" لصفية بنت عبد المطلب:
فلا والعاديات غداة جمع
بأيديها إذا سطع الغبار
العاشر: تغليب الأشهر.
كقوله تعالى: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} أراد المشرق والمغرب فغلب المشرق لأنه أشهر الجهتين قاله ابن الشجري وسيأتي فيه وجه آخر.
فائدتان:.
أحداهما: جميع باب التغليب من المجاز لأن اللفظ لم يستعمل فيما وضع له ألا ترى أن القانتين موضوع للذكور الموصوفين بهذا الوصف فإطلاقه على الذكور والإناث على غير ما وضع له وقس على هذا جميع الأمثلة السابقة.
الثانية: الغالب من التغليب أن يراعى الأشرف كما سبق ولهذا قالوا في تثنية الأب والأم: أبوان وفي تثنية المشرق والمغرب: المشرقان لأن الشرق دال على الوجود والغرب دال على العدم والوجود لا محالة أشرف وكذلك القمران، قال:
*لنا قمراها والنجوم الطوالع*
أراد الشمس والقمر فغلب القمر لشرف التذكير وأما قولهم سنة العمرين، يريدون.

أبا بكر وعمر قال ابن سيده في "المحكم": إنما فعلوا ذلك إيثارا للخفة أي غلب الأخف على الأثقل لأن لفظ [عمر] مفرد ولفظ أبي بكر مركب.
وذكر أبو عبيدة في غريب الحديث أن ذلك للشهرة وطول المدة.
وذكر غيرهما أن المراد به عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وعلى هذا فلا تغليب.
ورد بأنهم نطقوا بالعمرين قبل أن يعرفوا عمر بن عبد العزيز فقالوا يوم الجمل لعلي بن أبي طالب: سنة العمرين.

الالتفات .
وفيه مباحث:.
الأول: في حقيقة .
وهو نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب آخر تطرية واستدرارا للسامع وتجديدا لنشاطه وصيانة لخاطره من الملال والضجر بدوام الأسلوب الواحد على سمعه كما قيل:
لا يصلح النفس إن كانت مصرفة ... إلا التنقل من حال إلى حال
قال حازم في "منهاج البلغاء": وهم يسأمون الاستمرار على ضمير متكلم أو ضمير مخاطب فينتقلون من الخطاب إلى الغيبة وكذلك ايضا يتلاعب المتكلم بضميره فتارة يجعله تاء على جهة الإخبار عن نفسه وتارة يجعله كافا فيجعل نفسه مخاطبا وتارة يجعله هاء فيقيم نفسه مقام الغائب. فلذلك كان الكلام المتوالي فيه ضمير المتكلم والمخاطب لا يستطاب وإنما يحسن الانتقال من بعضها إلى بعض وهو نقل معنوي لا لفظي وشرطه أن يكون الضمير في المتنقل إليه عائدا في نفس الأمر إلى الملتف عنه ليخرج نحو أكرم زيدا وأحسن إليه فضمير أنت الذي هو في أكرم غير الضمير في إليه.
واعلم أن للمتكلم والخطاب والغيبة مقامات والمشهور أن الالتفات هو الانتقال من أحدها إلى الآخر بعد التعبير بالأول.

وقال السكاكي: إما ذلك وإما التعبير بأحدهما فيما حقه التعبير بغيره.
البحث الثاني في أقسامه.
وهي كثيرة:.
الأول: الالتفات من التكلم إلى الخطاب .
ووجهه حث السامع وبعثه على الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه وأنه أعطاه فضل عنايةوتخصيص بالمواجهة كقوله تعالى: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، الأصل: "وإليه أرجع" فالتفت من التكلم إلى الخطاب وفائدته أنه أخرج الكلام في معرض مناصحته لنفسه وهو يريد نصح قومه تلطفا وإعلاما أنه يريده لنفسه ثم التفت إليهم لكونه في مقام تخويفهم ودعوتهم إلى الله.
وأيضا فإن قومه لما أنكروا عليه عبادته لله أخرج الكلام معهم بحسب حالهم فاحتج عليهم بأنه يقبح منه أنه لا يعبد فاطره ومبدعه ثم حذرهم بقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
لذا جعلوه من الالتفات وفيه نظر لأنه إنما يكون منه إذا كان القصد الإخبار عن نفسه في كلتا الجملتين وهاهنا ليس كذلك لجواز أن يكون أراد بقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} الخاطبين ولم يرد نفسه ويؤيده ضمير الجمع ولو أراد نفسه لقال:[ نرجع].

وأيضا فشرط الالتفات أن يكون في جملتين و[ فطرني ] [ وإليه ترجعون ] كلام واحد.
وأجيب بأنه لو كان المراد بقوله:[ ترجعون ] ظاهره لما صح الاستفهام الإنكاري، لأن رجوع العبد إلى مولاه ليس بمعنى أن يعبده غير ذلك الراجع فالمعنى: كيف أعبد من إليه رجوعي وإنما ترك [ وإليه أرجع ]إلى [ وإليه ترجعون ] لأنه داخل فيهم.
ومع ذلك أفاد فائدة حسنة وهي أنه نبههم أنهم مثله في وجوب عبادة من إليه الرجوع فعلى هذا الواو للحال وعلى الأول واو العطف.
ومنه قوله: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} عدل عن قوله: {رَحْمَةً مِنَّا} إلى قوله: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} لما فيه من الإشعار بأن ربوبيته تقتضي رحمته وأنه رحيم بعبده كقوله: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ}.
وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ} {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} وهو كثير.
وقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} ولم يقل:[ لنغفر لك ] تعليقا لهذه المغفرة التامة باسمه المتضمن لسائر أسمائه الحسنى ولهذا علق به النصر فقال: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً}.
الثاني: من التكلم إلى الغيبة.
ووجهه أن يفهم السامع أن هذا نمط المتكلم وقصده من السامع حضر أو غاب،.

وأنه في كلامه ليس ممن يتلون ويتوجه فيكون في المضمر ونحوه ذا لونين وأراد بالانتقال إلى الغيبة الإبقاء على المخاطب من قرعه في الوجه بسهام الهجر فالغيبة أروح له وأبقى على ماء وجهه أن يفوت كقوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ} حيث لم يقل: [ لنا ] تحريضا على فعل الصلاة لحق الربوبية.
وقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
وقوله: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} إلى قوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} ولم يقل:[ بي ].و.
له فائدتان:.
إحداهما: دفع التهمة عن نفسه بالعصبية لها، والثاني : تنبيههم على استحقاقه الاتباع بما اتصف به من الصفات المذكورة من النبوة والأمية التي هي أكبر دليل على صدقه وأنه لا يستحق الاتباع لذاته بل لهذه الخصائص.
الثالث: من الخطاب إلى التكلم.
كقوله: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا}، وهذا إنما يتمشى على قول من لم يشترط أن يكون المراد بالالتفات واحدا فأما من اشترطه فلا يحسن أن يمثل به ويمكن أن يمثل بقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} على أنه سبحانه نزل نفسه منزلة المخاطب.

الرابع: من الخطاب إلى الغيبة .
كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} فقد التفت عن {كُنْتُمْ} إلى {جَرَيْنَ بِهِمْ} وفائدة العدول عن خطابهم إلى حكاية حالهم لغيرهم لتعجبه من فعلهم وكفرهم إذ لو استمر علىخطابهم لفاتت تلك الفائدة.
وقيل: لأن الخطاب أولا كان مع الناس مؤمنهم وكافرهم بدليل قوله: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} فلو قال:[ وجرين بكم ] للزم الذم للجميع فالتفت عن الأول للإشارة إلى الاختصاص بهؤلاء الذين شأنهم ما ذكره عنهم في آخر الآية فعدل عن الخطاب العام إلى الذم الخاص ببعضهم وهم الموصوفون بما أخبر به عنهم.
وقيل: لأنهم وقت الركوب حصروا لأنهم خافوا الهلاك وتقلب الرياح فناداهم نداء الحاضرين ثم أن الرياح لما جرت بما تشتهي النفوس وأمنت الهلاك لم يبق حضورهم كما كان على ما هي عادة الإنسان أنه إذا أمن غاب فلما غابوا عند جريه بريح طيبة فكرهم الله بصيغة الغيبة فقال :{وَجَرَيْنَ بِهِمْ}.
وقوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} ثم قال: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} فانتقل عن الخطاب إلى الغيبة ولو ربط بما قبله لقال:" يطاف عليكم" لأنه مخاطب لا مخبر ثم التفت فقال: {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فكرر الالتفات.
وقوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}.

وقوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}.
وقوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} والأصل [فقطعتم] عطفا على ما قبله لكن عدل من الخطاب إلى الغيبة فقيل إنه سبحانه نعى عليهم ما أفسدوه من أمر دينهم إلى قوم آخرين ووبخهم عليه قائلا: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله لم !.
وجعل منه ابن الشجري: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} وقد سبق أنه على حذف المفعول فلا التفات.
الخامس: من الغيبة إلى التكلم.
كقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}.
{وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا}.
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً}.
وقوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ} وفائدته أنه لما كان.

سوق السحاب إلى البلد إحياء للأرض بعد موتها بالمطر دالا على القدرة الباهرة والآية العظيمة التي لا يقدر عليها غيره عدل عن لفظ الغيبة إلى التكلم لأنه أدخل في الاختصاص وأدل عليه وأفخم.
وفيه معنى آخر وهو أن الأقوال المذكورة في هذه الآية منها ما أخبر به سبحانه بسببه وهو سوق السحاب فإنه يسوق الرياح فتسوقه الملائكة بأمره وإحياء الأرض به بواسطة إنزاله وسائر الأسباب التي يقتضيها حكمه وعلمه. وعادته سبحانه في كل هذه الأفعال أن يخبر بها بنون التعظيم الدالة على أن له جندا وخلقا قد سخرهم في ذلك كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي إذا قرأه رسولنا جبريل. وقوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً}.
وأما إرسال السحاب فهو سحاب يأذن في إرسالها ولم يذكر له سببا بخلاف سوق السحاب وإنزال المطر فإنه قد ذكر أسبابه: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ}.
وجعل الزمخشري منه قوله: في سورة طه: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى}: وزعم الجرجاني أن في هذه الآية التفاتا وجعل قوله: { وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} آخر كلام موسى ثم ابتدأ الله تعالى فأخبر عن نفسه بأوصافه لمعالجتها.
وأشار الزمخشري إلى أن فائدة الالتفات إلى التكلم في هذه المواضع التنبيه على.

التخصيص بالقدرة وأنه لا يدخل تحت قدرة واحد وهو معنى قول غيره إن الإشارة إلى حكاية الحال واستحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة. وكذا يفعلون لكل فعل فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب أو تهم المخاطب وإنما قال: {فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} لإفادة بقاء المطر زمانا بعد زمان.
ومثله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} ، عدل عن الغيبة في[ قضاهن ] و[ سواهن ] إلى التكلم في قوله: {وَزَيَّنَّا}، فقيل للاهتمام بذلك والإخبار عن نفسه بأنه جعل الكوكب زينة السماء الدنيا وحفظا تكذيبا لمن أنكر ذلك.
وقيل: لما كانت الأفعال المذكورة في هذه الآية نوعين:.
أحدهما : وجه الإخبار عنه بوقوعه في الأيام المذكورة وهو خلق الأرض في يومين وجعل الرواسي من فوقها وإلقاء البركة فيها وتقدير الأقوات في تمام أربعة أيام ثم الإخبار بأنه استوى إلى السماء وأنه أتمها وأكملها سبعا في يومين فأتى في هذا النوع بضمير الغائب عطفا على أول الكلام في قوله: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} إلى قوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} الآية.
والثاني: قصد به الإخبار مطلقا من غير قصد مدة خلقه وهو تزيين سماء الدنيا بمصابيح وجعلها حفظا فإنه لم يقصد بيان مدة ذلك بخلاف ما قبله فإن نوع الأول يتضمن إيجادا لهذه المخلوقات العظيمة في هذه المدة اليسيرة وذلك من أعظم آثار قدرته. وأما تزيين.

السماء الدنيا بالمصابيح فليس المقصود به الإخبار عن مدة خلق النجوم فالتفت من الغيبة إلى التكلم فقال: {زَيَّنَّا}.
فائدة في تكرار الالتفات في موضع واحد
وقد تكرر الالتفات في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} في أربعة مواضع، فانتقل عن الغيبة في قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}، إلى التكلم في قوله: {بَارَكْنَا حَوْلَهُ} ثم عن التكلم إلى الغيبة في قوله:{ليريه} بالياء على قراءة الحسن ثم عن الغيبة إلى التكلم في قوله: {آياتنا} ثم عن التكلم إلى الغيبة في قوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
وكذلك في الفاتحة فإن من أولها إلى قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أسلوب غيبة ثم التفت بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إلى أسلوب خطاب في قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ثم التفت إلى الغيبة بقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ولم يقل[ الذين غضبت ] كما قال: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}.
السادس: من الغيبة إلى الخطاب.
كقوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} ولم يقل:.

[ لقد جاءوا ] للدلالة على أن من قال مثل قولهم ينبغي أن يكون موبخا علهي منكرا عليه قوله كأنه يخاطب به قوما حاضرين.
وقوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ} ثم قال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا}.
وقوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً}.
وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ}.
وقوله: {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ}.
وقوله: {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل} ثم قال: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً}.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ } الآية.
وقوله: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى}.
وقوله: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}.
وقوله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ}.
وقوله حكاية عن الخليل: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ.

تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} إلى قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ}.
وقوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً}.
وقوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} إلى قوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}.
وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ..} الآية.
وجعل بعضهم منه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} ، وهو عجيب لأن [الذين] موصول لفظه للغيبة ولا بد له من عائد وهو الضمير في [آمنوا] فكيف يعود ضمير مخاطب على غائب ! فهذا مما لا يعقل.
وقوله: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، فقد التفت عن الغيبة وهو [مالك] إلى الخطاب وهو [إياك نعبد].
ولك أن تقول: إن كان التقدير: قولوا الحمد لله ففيه التفاتان - أعنى في الكلام المأمور به:.
أحدهما : في لفظ الجلالة فإن الله تعالى حاضر فأصله الحمد لك.
والثاني:[ إياك ] لمجيئه على خلاف الاسلوب السابق وإن لم يقدر: [قولوا] كان في [الحمد لله] التفات عن التكلم إلى الغيبة فإن الله سبحانه حمد نفسه ولا يكون في { إياك

نعبد} التفات لأن [قولوا] مقدرة معها قطعا فإما أن يكون في الآية التفات أو لا التفات بالكلية.
السابع: بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله أو تكلمه.
فيكون التفاتا عنه كقوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} بعد { أَنْعَمْتَ} فإن المعنى: غير الذين غضبت عليهم. ذكره التنوخي في "الأقصى القريب" والخفاجي وابن الأثير وغيرهم.
واعلم أنه على رأى السكاكي تجيء الأقسام الستة في القسم الاخير وهو الانتقال التقديري.
وزعم صحاب "ضوء المصباح" أنه لم يستعمل منها إلا وضع الخطاب والغيبة موضع التكلم ووضع التكلم موضع الخطاب ومثل الثالث بقوله: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي}، مكان [ وما لكم لا تعبدون الذي فطركم ].
وجعل بعضهم من الالتفات قوله تعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ} ثم قال: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}، وقوله: {الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}.
البحث الثالث: في أسبابه.
اعلم أن للالتفات فوائد عامة وخاصة فمن العامة التفنن والانتقال من أسلوب إلى آخر.

لما في ذلك من تنشيط السامع واستجلاب صفائه واتساع مجاري الكلام وتسهيل لوزن والقافية.
وقال البيانيون: إن الكلام إذا جاء على أسلوب واحد وطال حسن تغيير الطريقة.
ونازعهم القاضي شمس الدين بن الجوزي وقال: الظاهر أن مجرد هذا لا يكفي في المناسبة فإنا رأينا كلاما أطول في هذا والأسلوب محفوظ قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ..} إلى أن ذكر عشرة أصناف وختم بـ {الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ}، ولم يغير الأسلوب وإنما المناسبة أن الإنسان كثير التقلب وقلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن ويقلبه كيف يشاء فإنه يكون غائبا فيحضر بكلمة واحدة وآخر يكون حاضرا فيغيب فالله تعالى لما قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تنبه السامع وحضر قلبه فقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وأما الخاصة فتختلف باختلاف محاله ومواقع الكلام فيه على ما يقصده المتكلم.
فمنها: قصد تعظيم شأن المخاطب، كما في: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فإن العبد إذا افتتح حمد مولاه بقوله: [الحمد لله] الدال على اختصاصه بالحمد وجد من نفسه التحرك للإقبال عليه سبحانه فإذا انتقل إلى قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} الدال على ربوبيته لجميعهم قوى تحركه فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الدال على أنه منعم بأنواع النعم جليلها وحقيرها تزايد التحرك عنده فإذا وصل لـ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وهو خاتمة الصافات الدالة على أنه مالك الأمر يوم الجزاء فيتأهب قربه وتيقن الإقبال عليه بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمات.

وقيل: إنما اختير للحمد لفظ الغيبة وللعبادة الخطاب للإشارة إلى أن الحمد دون العبادة في الرتبة فإنك تحمد نظيرك ولا تعبده إذ الإنسان يحمد من لا يعبده ولا يعبد من لا يحمده فلما كان كذلك استعمل لفظ الحمد لتوسطه مع الغيبة في الخبر فقال:[ الحمد لله ] ولم يقل:[ الحمد لك ] ولفظ العبادة مع الخطاب فقال: { إياك نعبد } لينسب إلى العظيم حال المخاطبة والمواجهة على ما هو أعلى رتبة وذلك على طريق التأدب. وعلى نحو من ذلك جاء آخر السورة فقال: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} مصرحا بذكر المنعم وإسناد الإنعام إليه لفظا ولم يقل:[ صراط المنعم علهيم ] فلما صار إلى ذكر الغضب روى عنه لفظ الغضب في النسبة إليه لفظا وجاء باللفظ متحرفا عن ذكر الغاضب فلم يقل غير الذين غضبت عليهم تفاديا عن نسبة الغضب في اللفظ حال المواجهة.
ومن هذا قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً}، فإن التأدب في الغيبة دون الخطاب.
وقيل: لأنه لما ذكر الحقيق بالحمد وأجرى عليه بالصفات العظيمة من كونه ربا للعالمين ورحمانا ورحيما ومالكا ليوم الدين تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بأن يكون معبودا دون غيره مستعانا به فخوطب بذلك لتميزه بالصفات المذكورة تعظيما لشأنه كله حتى كأنه قيل إياك يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة لا غيرك.
قيل: ومن لطائف التنبيه على أن مبتدأ الخلق الغيبة منهم عنه سبحانه وقصورهم عن محاضرته ومخاطبته وقيام حجاب العظمة عليهم فإذا عرفوه بما هو له وتوسلوا للقرب بالثناء عليه وأقروا بالمحامد له وتعبدوا له بما يليق بهم تأهلوا لمخاطباته ومناجاته فقالوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

وفيه أنهم يبدون بين يدي كل دعاء له سبحانه ومناجاة له صفات عظمته لمخاطبته على الأدب والتعظيم لا عن الغفلة والإغفال ولا عن اللعب والاستخفاف كما يدعو بلا نية أو على تلعب وغفلة وهم كثير.
ومنه أن مناجاته لا تصعد إلا إذا تطهر من أدناس الجهالة به كما لا تسجد الإعضاء إلا بعد التطهير من حدث الأجسام ولذلك قدمت الاستعاذة على القرآن.
قال الزمخشري: وكما في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} ولم يقل:" واستغفرت لهم " [وعدل عنه إلى طريق الالتفات] لأن في هذا الالتفات بيان تعظيم استغفاره وأن شفاعة من اسمه الرسول بمكان.
ومنها: التنبيه على ما حق الكلام أن يكون واردا عليه، كقوله تعالى: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، أصل الكلام:[ وما لكم لا تعبدون الذي فطركم ] ولكنه أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويريهم أنه لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه ثم لما انقضى غرضه من ذلك قال: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ليدل على ما كان من أصل الكلام ومقتضيا له ثم ساقه هذا المساق إلى أن قال :{إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}.
ومنها : أن يكون الغرض به التتميم لمعنى مقصود للمتكلم، فيأتي به محافظة على تتميم.

ما قصد إليه من المعنى المطلوب له، كقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، أصل الكلام:[ إنا مرسلين رحمة منا ] ولكنه وضع الظاهر موضع المضمر للإنذار بأن الربوبية تقتضي الرحمة للمربوبين للقدرة عليهم أو لتخصيص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالذكر أو الإشارة إلى أن الكتاب إنما هو إليه دون غيره ثم التفت بإعادة الضمير إلى الرب الموضوع موضع المضمر للمعنى المقصود من تتميم المعنى.
ومنها: قصد المبالغة، كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} كأنه يذكرلغيرهم حالهم ليتعجب منها ويستدعي منه الإنكار والتقبيح لها إشارة منه على سبيل المبالغة إلى أن ما يعتمدونه بعد الإنجاء من البغي في الأرض بغير الحق مما ينكر ويقبح.
ومنها: قصد الدلالة على الاختصاص، كقوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ } فإنه لما كان سوق السحاب إلى البلد الميت وإحياء الأرض بعد موتها بالمطر دالا على القدرة الباهرة التي لا يقدر عليها غيره عدل عن لفظ الغيبة إلى التكلم لأنه أدخل في الاختصاص وأدل عليه: [ سقنا ] و[ أحيينا ].

ومنها: قصد الاهتمام، كقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} فعدل عن الغيبة في[ قضاهن ] و[ أوحى ] إلى التكلم في [ وزينا السماء الدنيا ] للاهتمام بالإخبار عن نفسه فإنه تعالى جعل الكواكب في سماء الدنيا للزينة والحفظ وذلك لأن طائفة اعتقدت في النجوم أنها ليست في سماء الدنيا وأنها ليست حفظا ولا رجوما فعدل إلى التكلم والإخبار عن ذلك لكونه مهما من مهمات الاعتقاد ولتكذيب الفرقة المعتقدة بطلانه.
ومنها: قصد التوبيخ، كقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً}، عدل عن الغيبة إلى الخطاب للدلالة على أن قائل مثل قولهم ينبغي أن يكون موبخا ومنكرا عليه ولما اراد توبيخهم على هذا أخبر عنه بالحضور، فقال: {لَقَدْ جِئْتُمْ} لأن توبيخ الحاضر ابلغ في الإهانة له.
ومنه قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ}، قال: {تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} دون [تقطعتم أمركم بينكم]، كأنه ينعى عليهم ما أفسدوه من أمر دينهم إلى قوم آخرين ويقبح عندهم ما فعلوه ويوبخهم عليه قائلا ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله فجعلوا أمر دينهم به قطعا تمثيلا لأخلاقهم في الدين.

فائدة.
اختلف في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} بعد {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ}.
فقيل: إن الكلام تم عند قوله: {لا رَيْبَ فِيهِ} وهذا الذي بعده من مقولا لله تصديقا لهم.
وقيل: بل هو من بقية كلامهم الأول على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة كقوله: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ}.
فإن قلت: قد قال في آخر السورة: {وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}، فلم عدل عن الخطاب هنا قلت إنما جاء الالتفات في صدر السورة لأن المقام يقتضيه فإن الإلهية تقتضي الخير والشر لتنصف المظلومين من الظالمين فكان العدول إلى ذكر الاسم الأعظم أولى. وأما قوله تعالى في آخر السورة: {إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}، فذلك المقام مقام الطلب للعبد من ربه أن ينعم عليه بفضله وأن يتجاوز عن سيئاته فلم يكن فيه ما يقتضى العدول عن الأصل المستمر.
البحث الرابع: في شرطه.
تقدم أن شرط الالتفات أن يكون الضمير في المنتقل إليه عائدا في نفس الأمر إلى المنتقل عنه وشرطه أيضا أن يكون في جملتين أي كلامين مستقلين حتى يمتنع بين الشرط وجوابه.

وفي هذا الشرط نظره فقد وقع في القرآن مواضع الالتفات فيها وقع في كلام واحد وإن لم يكن بين جزأى الجملة، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي}.
وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}.
وقوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ}، بعد قوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ} التقدير إن وهبت أمرأة نفسها للنبي إنا أحللنا لك وجملتا الشرط والجزاء كلام واحد.
وقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ}.
وقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وفيه التفاتان: أحدهما بين [ أرسلنا ] والجلالة، والثاني بين الكاف في[ أرسلناك ] [ ورسوله ] وكل منهما في كلام واحد.
وقوله: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ}.
وقوله: {فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً}، وجوز الزمخشري فيه أن يكون ضمير [ جزاؤكم ] يعود على[ التابعين ] على طريق الالتفات.
وقوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}، على قراءة الياء.

وقوله: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً}، قال التنوخي في" الأقصى القريب ": الواو للحال.
وقوله: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
البحث الخامس: أنه يقرب من الالتفات نقل الكلام إلى غيره.
وإنما يفعل ذلك إذا ابتلي العاقل بخصم جاهل متعصب فيجب أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة لأنه كلما كان خوضه معه أكثر كان بعده عن القبول أشد فالوجه حينئذ أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة وأن يؤخذ في كلام آخر أجنبي ويطنب فيه بحيث ينسى الأول فإذا اشتغل خاطره به أدرج له أثناء الكلام الأجنبي مقدمة تناسب ذلك المطلب الأول ليتمكن من انقياده.
وهذا ذكره الإمام أبو الفضل في كتاب" درة التنزيل"، وجعل منه قوله تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ}، قال: إن قوله: [ واذكر ] ليس متصلا بما قبله بل نقلا لهم عما هم عليه والمقدمة المدرجة قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} إلى قوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ}.
وهذا الذي قاله يخرج الآية عن الاتصال مع أن في الاتصال وجوها مذكورة في موضعها.

وألحق به الأستاذ أبو جعفر بن الزبير قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا..} الآية، فهذا إنكار منهم للبعث واستبعاد نحو الوارد في سورة ص، فأعقب ذلك بما يشبه الالتفات بقوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا..} إلى قوله: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}، فبعد العدول عن مجاوبتهم في قولهم: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} وذكر اختلافهم المسبب عن تكذيبهم في قوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}، صرف تعالى الكلام إلى نبيه والمؤمنين فقال: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا..} إلى قوله: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} وذلك حكمة تدرك مشاهدة لا يمكنهم التوقف في شيء منه ولا حفظ عنهم إنكاره فعند تكرر هذا قال تعالى: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}.
ومما يقرب من الالتفات أيضا الانتقال من خطاب الواحد والاثنين والجمع إلى خطاب آخر وهو ستة أقسام كما سبق تقسيم الالتفات:.
أحدها: الانتقال من خطاب الواحد لخطاب الاثنين، كقوله تعالى: {جِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ}.
الثاني: من خطاب الواحد إلىخطاب الجمع: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}.

الثالث: من الاثنين إلى الواحد، كقوله: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى}،{فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}.
الرابع: من الاثنين إلى الجمع، كقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}، وفيه انتقال آخر من الجمع إلى الواحد فإنه ثنى ثم جمع ثم وحد توسعا في الكلام.
وحكمة التثنية أن موسى وهارون هما اللذان يقرران قواعد النبوة ويحكمان في الشريعة فخصهما بذلك ثم خاطب الجميع باتخاذ البيوت قبلة للعبادة لأن الجميع مأمورون بها ثم قال لموسى وحده:{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} لأنه الرسول الحقيقي الذي إليه البشارة والإنذار.
الخامس: من الجمع إلى الواحد، كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} وقد سبق حكمته. ومن نظائره قول بعضهم في قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً } ثم قال: {إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} ، ولم يقل [منا] مع أنه للجمع أو للواحد المعظم نفسه وحكمته المناسبة للواقع فالهدى لا يكون إلا من الله فناسب الخاص للخاص.
السادس : من الجمع إلى التثنية، كقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا} إلى قوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
السابع: ذكر بعضهم من الالتفات تعقيب الكلام بجملة مستقلة ملاقية له في المعنى على طريق المثل أو الدعاء، فالأول كقوله: {وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} والثاني كقوله: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}.

الثامن: من الماضي إلى الأمر، كقوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ} وقوله: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} التاسع: من المستقبل إلى الأمر، تعظيما لحال من أجرى عليه المستقبل. وبالضد من ذلك في حق من أجرى عليه الأمر، كقوله تعالى: {يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} إلى قوله: {بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} فإنه أنما قال: {أُشْهِدُ اللَّهَ} ،و {اشْهَدُوا} ولم يقل [ وأشهدكم ] ليكون موازنا له ولا شك أن معنى إشهاد الله على البراءة صحيح في معنى يثبت التوحيد بخلاف إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة به فلذلك عدل عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما وجىء به على لفظ الأمر كما تقول للرجل منكرا أشهد على أني أحبك.
العاشر: من الماضي إلى المستقبل، نحو: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ}،{فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ}،{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
والحكمة في هذه أن الكفر لما كان من شأنه إذا حصل أن يستمر حكمه عبر عنه بالماضي ليفيد ذلك مع كونه نافيا أنه قد مضى عليه زمان ولا كذلك الصد عن سبيل الله فإن حكمه إنما ثبت حال حصوله مع أن في الفعل المستقبل إشعارا بالتكثير،.

فيشعر قوله: {وَيَصُدُّونَ} أنه في كل وقت بصدد ذلك ولو قال وصدوا لأشعر بانقطاع صدهم.
الحادي عشر: عكسه، كقوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ}،{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ}.
قالوا: والفائدة في الفعل الماضي إذا أخبر به عن المستقبل الذي لم يوجد أنه أبلغ وأعظم موقعا لتنزيله منزلة الواقع والفائدة في المستقبل إذا أخبر به عن الماضي لتتبين هيئة الفعل باستحضار صورته ليكون السامع كأنه شاهد وإنما عبر في الأمر بالتوبيخ بالماضي بعد قوله: [ ينفخ ] للإشعار بتحقيق الوقوع وثبوته وأنه كائن لا محالة كقوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً} والمعنى: يبرزون، وإنما قال: [ وحشرناهم ] بعد [نسير ] [ وترى ] وهما مستقبلان لذلك.

التضمين.
وهو إعطاء الشيء معنى الشيء وتارة يكون في الاسماء وفي الأفعال وفي الحروف فأما في الأسماء فهو أن تضمن اسما معنى اسم لإفادة معنى الاسمين جميعا كقوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} ضمن حقيق معنى حريص ليفيد أنه محقوق بقول الحق وحريص عليه.
وأما الأفعال فأن تضمن فعلا معنى فعل آخر ويكون فيه معنى الفعلين جميعا وذلك بأن يكون الفعل يتعدى بحرف فيأتي متعديا بحرف آخر ليس من عادته التعدي به فيحتاج إما إلى تأويله أو تأويل الفعل ليصح تعديه به.
واختلفوا أيهما أولى فذهب أهل اللغة وجماعة من النحويين إلى أن التوسع في الحرف وأنه واقع موقع غيره من الحروف أولى.
وذهب المحققون إلى أن التوسع في الفعل وتعديته بما لا يتعدى لتضمنه معنى ما يتعدى بذلك الحرف أولى لأن التوسع في الأفعال أكثر.
مثاله قوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} فضمن [ يشرب ] معنى [ يروي ] لأنه لا يتعدى بالباء فلذلك دخلت الباء وإلا فـ[يشرب] يتعدى بنفسه فأريد باللفظ الشرب والري معا فجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد.
وقيل التجوز في الحرف وهو الباء فإنها بمعنى [من].
وقيل لا مجاز أصلا بل العين هاهنا إشارة إلى المكان الذي ينبع منه الماء،.

لا إلى الماء نفسه نحو نزلت بعين فصار كقوله: مكانا يشرب به.
وعلى هذا: {فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ}، قاله الراغب.
وهذا بخلاف المجاز فإن فيه العدول عن مسماه بالكلية ويراد به غيره كقوله: {جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} ، فإنه استعمل [ أراد ] في معنى مقاربة السقوط لأنه من لوازم الإرادة وإن من أراد شيئا فقد قارب فعلهولم يرد باللفظ هذا المعنى الحقيقي الذي هو الإرادة البتة. والتضمين أيضا مجاز لأن اللفظ لم يوضع للحقيقة والمجاز معا والجمع بينهما مجاز خاص يسمونه بالتضمين تفرقه بينه وبين المجاز المطلق.
ومن التضمين قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} لأنه لا يقال: رفثت إلى المرأة لكن لما كان بمعنى الإفضاء ساغ ذلك.
وهكذا قوله: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} وإنما يقال: هل لك في كذا ؟ لكن المعنى أدعوك إلى أن تزكى.
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}، فجاء بـ[من] لأنه ضمن التوبة معنى العفو والصفح.
وقوله : {إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} ، وإنما يقال: خلوت به لكن ضمن [ خلوا ] معنى [ ذهبوا ] [ وانصرفوا ] وهو معادل لقوله لقوا وهذا أولى من قول من قال: إن [ إلى ] هنا بمعنى [الباء] أو بمعنى [مع].
وقال مكي: إنما لم تأت الباء لأنه يقال خلوت به إذا سخرت منه فأتى بـ[إلى] لدفع هذا الوهم.

وقوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}، قيل: الصراط منصوب على المفعول به أي لألزمن لك صراطك أو لأملكنه لهم و[ أقعد ] وإن كان غير متعد ضمن معنى فعل متعد.
وقوله: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ}، ضمن [تعد] معنى [تنصرف] فعدى بـ[من] قال ابن الشجري: ومن زعم أنه كان حق الكلام " لا تعد عينيك عنهم " بالنصب لأن تعد متعد بنفسه فباطل لأن عدوت وجاوزت بمعنى واحد. وأنت لا تقول: جاوز فلان عينه عن فلان ولو كانت التلاوة بنصب العين لكان اللفظ يتضمنها محمولا ايضا على لا تصرف عينك عنهم وإذا كذلك فالذي وردت به التلاوة من رفع العين يئول إلى معنى النصب فيها إذ كان [لا تعد عيناك] بمنزلة [لا تنصرف] ومعناه لا تصرف عينك عنهم فالفعل مسند إلى العين وهو في الحقيقة موجه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال: {وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ} اسند الإعجاب إلى الأموال والمعنى لا تعجب بأموالهم.
وقوله: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}، ضمن معنى [ لتدخلن ] أو [ لتصيرن ] أما قول شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} فليس اعترافا بأنه كان فيهم بل مؤول على ما سبق وتأويل آخر وهو أن يكون من نسبة فعل البعض إلى الجماعة أو قال على طريق المشاكلة لكلامهم وهذا أحسن.
وقوله: {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} ضمن [ لا تشرك ] معنى [ لا تعدل ] والعدل: التسوية أي لا تسوى به شيئا.

وقوله: {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} ضمن معنى [ أنابوا ] فعدى بحرفه.
وقوله: {إِِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} ضمن {لَتُبْدِي بِهِ} معنى [ تخبر به ] أو [ لتعلم ] ليفيد الإظهار معنى الإخبار لأن الخبر قد يقع سرا غير ظاهر.
وقوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} جوز الزمخشري نصب {مَقَاماً} على الظرف على تضمين {يَبْعَثَكَ} معنى يقيمك.
وقوله: {فأجمعوا أمركم وشركاءكم}، قال الفارسي: ومن قرأ { فَأَجْمِعُوا } بالقطع أراد فاجمعوا أمركم وشركاءكم كقوله:
*متقلدا سيفا ورمحا*
وقوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}، قال ابن سيده: عداه بـ[من] لأنه في معنى كشف الفزع.
وقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}، فإنه يقال ذل له لا عليه ولكنه هنا ضمن معنى التعطف والتحنن.
وقوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} ضمن {يُؤْلُونَ} معنى [ يمتعنون ] من وطئهن بالآلية.
وقوله: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلأِ الأَعْلَى} أي لا يصغون.
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} أي أنزل.
{فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} أي أحل له.

{وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي مميزك.
{إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} أي لا يرضى.
{اسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} أي أنيبوا إليه وارجعوا.
{هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} أي زال.
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} فإنه يقال: خالفت زيدا من غير احتياج لتعديه بالجار وإنما جاء محمولا على [ ينحرفون ] أو[ يزيغون ].
ومثله تعدية [رحيم] بالباء في نحو: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} حملا على [رءوف] في نحو: {رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ألا ترى أنك تقول: رأفت به ولا تقول رحمت به ولكن لما وافقه في المعنى تنزل منزلته في التعدية.
وقوله: {إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ضمن معنى سائل.
{الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} قال الزمخشري: ضمن معنى [ تحاملوا ] فعداه بـ[على] والأصل فيه من.
تنبيهان:.
الأول: الأكثر أن يراعى في التعدية ما ضمن منه وهو المحذوف لا المذكور كقوله تعالى: {الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} أي الإفضاء.
وقوله: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} أي يروى بها وغيره مما سبق.

ولم أجد مراعاة الملفوظ به إلا في موضعين: أحدهما قوله تعالى: {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} على قول ابن الضائع أنه ضمن [ يقال ] معنى [ ينادي ] و[ إبراهيم ] نائب عن الفاعل وأورد على نفسه كيف عدى باللام والنداء لا يتعدى به وأجاب بأنه روعي الملفوظ به وهو القول لأنه يقال: قلت له.
الثاني: قوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ}، فإنه قد يقال: كيف يتعلق التكليف بالمرضع ؟ فأجيب بأنه ضمن [حرم] المعنى اللغوي وهو المنع. فاعترض كيف عدى بـ[علي] والمنع لا يتعدى به فأجيب بأنه روعي صورة اللفظ.
الثاني: أن التضمين يطلق على غير ما سبق قال القاضي أبو بكر في كتاب:" إعجاز القرآن" هو حصول معنى فيه من غير ذكره له باسم [أو صفة ] هي عبارة عنه ثم قسمه إلى قسمين أحدهما ما يفهم من البنية كقولك معلوم فإنه يوجب أنه لا بد من عالم.
والثاني من معنى العبارة [من حيث لا يصح إلا به] كالصفة فضارب يدل على مضروب.
قال: والتضمين كله إيجاز، قال: وذكر أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} من باب التضمين لأنه تضمن تعليم الاستفتاح في الأمور باسمه على جهة التعظيم لله تعالى أو التبرك باسمه.
وذكر ابن الاثير في كتاب:" المعاني المتبدعة " أن التضمين واقع في القرآن خلافا لماأجمع عليه أهل البيان وجعل منه قوله تعالى في الصافات: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}.
ويطلق التضمين أيضا على إدراج كلام الغير في أثناء الكلام لتأكيد المعنى،.

أو لترتيب النظم ويسمى الإبداع كإبداع الله تعالى في حكايات أقوال المخلوقين كقوله تعالى حكاية عن قول الملائكة: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}.
ومثل ما حكاه عن المنافقين: {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}.
وقوله: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ}.
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ}.
{وَقَالَتِ النَّصَارَى}. ومثله في القرآن كثير.
وكذلك ما أودع في القرآن من اللغات الأعجمية.
ويقرب من التضمين في إيقاع فعل موقع آخر إيقاع الظن موقع اليقين في الأمور المحققة، كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ}.
{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ}.
{وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا}.
{وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ}.
{وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ}.
وشرط ابن عطية في ذلك ألا يكون متعلقة حسيا كما تقول العرب في رجل يرى حاضرا: أظن هذا إنسانا وإنما يستعمل ذلك فيما لم يخرج إلى الحس بعد كالآيات السابقة.

قال الراغب في "الذريعة": الظن إصابة المطلوب بضرب من الإمارة متردد بين يقين وشك فيقرب تارة من طرف اليقين وتارة من طرف الشك فصار أهل اللغة يفسرونه بهما فمتى رئي إلى طرف اليقين أقرب استعمل معه أن المثقلة والمخففة فيهما كقوله تعالى: { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ} {وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ}.
ومتى رئي إلى الشك أقرب استعمل معه أن التي للمعدومين من الفعل نحو ظننت أن يخرج.
قال: وإنما استعمل الظن بمعنى العلم في قوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} لأمرين:.
أحدهما: للتنبيه على أن علم أكثر الناس في الدنيا بالنسبة إلى علمهم في الآخرة كالظن في جنب العلم.
والثاني: أن العلم الحقيقي في الدنيا لا يكاد يحصل إلا للنبيين والصديقين المعنيين بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} والظن متى كان عن أمارة قوية فإنه يمدح به ومتى كان عن تخمين لم يمدح به كما قال تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}.
وجوز أبو الفتح في قوله: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} أن يكون المراد بها اليقين وأن تكون على بابها وهو أقوى في المعنى أي فقد يمنع من هذا التوهم فكيف عند تحقيق الأمر فهذا أبلغ كقوله: " يكفيك من شر سماعه " أي لو توهم البعث والنشور وما هناك من عظم الأمر وشدته لاجتنب المعاصي فكيف عند تحقق الأمر ! وهذا أبلغ.
وقيل: آيتا البقرة بمعنى الاعتقاد والباقي بمعنى اليقين والفرق بينهما أن الاعتقاد يقبل التشكيك بخلاف اليقين وإن اشتركا جميعا في وجوب الجزم بهما.

وكذلك قوله: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ}.
وقد جاء عكسه وهو التجوز عن الظن بالعلم، كقوله تعالى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا}، ولم يكن ذلك علما جازما بل اعتقادا ظنيا.
وقوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وكان يحكم بالظن وبالظاهر.
وقوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} وإنما يحصل بالامتحان في الحكم ووجه التجوز أن بين الظن والعلم قدرا مشتركا وهو الرجحان فتجوز بأحدهما عن الآخر.

وضع الخبر موضع الطلب في الأمر والنهي.
كقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ}.
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ}.
{سَلامٌ عَلَيْكُمْ}.
{الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ}.
وقوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} الآية، ولهذا جعلها العلماء من أمثلة الواجب.
{فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} على قراءة نافع أي لا ترفثوا ولا تفسقوا.
{وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} ، قالوا: هو خبر وتأويله نهى أي لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله كقوله: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} وكقوله: {لا تُضَارُّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} على قراءة الرفع وقيل إنه نهى مجزوم أعنى – قوله: {لا يَمَسُّهُ}- ولكن ضمت إتباعا للضمير كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ".
وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} ضمن {لا تَعْبُدُونَ} معنى: لا تعبدوا، بدليل قوله بعده: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} وبه يزول الإشكال في عطف الإنشاء على الخبر لكن إن كان حسنا معمولا لأحسنوا فعطف.

[قولوا] عليه أولى لاتفاقهما لفظا ومعنى وإن كان التقدير:[ ويحسنون ] فهو الذي قبله والعطف على القريب أولى. وقيل: {لا تَعْبُدُونَ} أبلغ من صريح النهي لما فيه من إيهام أن المنهي يسارع إلى الانتهاء فهومخبر عنه.
وكذا قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} في موضع [لا تسفكوا].
وقوله في سورة الصف: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} عطفا على قوله: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} ولهذا جزم الجواب.
وقوله: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} إلى قوله: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ} فإن المقام يشتمل على تضمين [إن أصحاب الجنة اليوم] معنى الطلب بدليل ما قبله: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} فإنه كلام وقت الحشر لوروده ومعطوفا بالفاء على قوله: {إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} وعام لجميع الخلق لعموم قوله: {لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} وإن الخطاب الوارد بعده على سبيل الالتفات وهو قوله: {وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} خطاب عام لأهل المحشر، فيكون قوله: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} إلى قوله: {أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} مقيدا بهذا الخطاب لكونه تفصيلا لما أجمله: {وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وإن التقدير أن أصحاب الجنة منكم يا أهل المحشر ثم جاء في التفسير أن قوله هذا: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} يقال لهم حين يساق بهم إلى الجنة بتنزيل ما هو للتكوين منزلة الكائن أي إن أصحاب الجنة منكم يا أهل المحشر يؤول حالهم.

إلى أسعد حال والتقدير حينئذ: فامتازوا عنكم إلى الجنة، هكذا قرره السكاكي في"المفتاح".
قيل: وفيه نظر لأنها إذا كانت طلبية ومعناها أمر المؤمنين بالذهاب إلى الجنة فليكن الخطاب معهم لا مع أهل المحشر.
ولهذا قال بعضهم: إن تضمين أصحاب أهل الجنة للطلب ليس المراد منه أن الجملة نفسها طلبية بل معناه أن يقدر جملة إنشائية بعدها بخلاف قوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً}.
ومنه قوله تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فإنه يقال: كيف جاء الجزم في جواب الخبر وجوابه أنه لما كان في معنى الأمر جاز ذلك إذ المعنى: آمنوا وجاهدوا.
وقال ابن جنى: لا يكون [يغفر] جوابا لـ[هل أدلكم] وإن كان أبو العباس قد قاله لأن المغفرة تحصل بالإيمان لا بالدلاة. انتهى. وقد يقال الدلالة: سبب السبب.
إذا علمت هذا فإنما يجيء الأمر بلفظ الخبر الحاصل تحقيقا لثبوته وأنه مما ينبغي أن يكون واقعا ولا بد وهذا هو المشهور.
وفيه طريقة أخرى نقلت عن القاضي ابي بكر وغيره وهي أن هذا خبر حقيقة غير مصروف عن جهة الخبرية ولكنه خبر عن حكم الله وشرعه ليس خبرا عن الواقع حتى يلزم ما ذكره من الإشكال وهو احتمال عدم وقوع مخبره فإن هذا إنما يلزم الخبر عن الواقع أما الخبر عن الحكم فلا لأنه لا يقع خلافه أصلا.

وضع الطلب موضع الخبر.
كقوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً}.
وقوله: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً}.
وقوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}.
وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ} فقوله :{وألق} معطوف على قوله :{أن بورك} فـ[ألق] وإن كان إنشاء لفظا لكنه خبر معنى. والمعنى: فلما جاءها قيل: بورك من في النار وقيل: ألق.
والموجب لهذا قول النحاة إن أن هذه مفسرة لا تأتي إلا بعد فعل في معنىالقول وإذا قيل كتبت إليه أن ارجع وناداني أن قم كله بمنزلة: قلت له وقال لي قم كذا قاله صاحب المفتاح.
وما ذكره من أن بورك خبرية لفظا ومعنى ممنوع لجواز أن يكون دعاء وهو إنشاء وقد ذكر هذا التقدير الفارسي وابو البقاء فتكون الجملتان متفقتين في معنى الإنشاء فتكون مثل {لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ}.
وقوله: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ} إلى قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فإنه يقال: كيف ورد التمني على التكذيب وهو إنشاء ؟.

وأجاب الزمخشري أنه ضمن معنى العدة وأجاب غيره بأنه محمول على المعنى من الشرط والخبر كأنه قيل: إن زددنا لم نكذب وآمنا والشرط خبر فصح ورود التكذيب عليه.
وقوله: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} أي ونحن حاملون بدليل قوله: {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} والكذب إنما يرد على الخبر.
وقوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} تقديره: ما أسمعهم وأبصرهم ! لأن الله تعالى لم يتعجب منهم ولكنه دل المكلفين على أن هؤلاء قد نزلوا منزلة من يتعجب منه.
ومما يدل على كونه ليس أمرا حقيقيا ظهور الفاعل الذي هو الجار والمجرور في الأول وفعل الأمر لا يبرز فاعله أبدا.
ووجه التجوز في هذا الأسلوب أن الأمر شأنه أن يكون ما فيه داعية للأمر وليس الخبر كذلك فإذا عبر عن الخبر بلفظ الأمر أشعر ذلك بالداعية فيكون ثبوته وصدقه أقرب. هذا بالنسبة لكلام العرب لا لكلام الله إذ يستحيل في حقه سبحانه الداعية للفعل.
بقى الكلام في أيهما أبلغ ؟ هذا القسم أو الذي قبله ؟.
قال الكواشي في قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً} الأمر بمعنى الخبر لتضمنه اللزوم نحو إن زرتنا فلنكرمك يريدون تأكيد إيجاب الإكرام عليهم.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: {لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} ورود الخبر والمراد الأمر أو النهي أبلغ من صريح الأمر والنهي كأنه سورع فيه إلى الامتثال والخبر عنه.

وقال النووي في شرح "مسلم" في باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها: وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يسوم على سوم أخيه " ، هكذا هو في جميع النسخ ولا يسوم بالواو ولا يخطب بالرفع وكلاهما لفظه لفظ الخبر والمراد به النهي وهو أبلغ في النهي لأن خبر الشارع لا يتصور وقوع خلافه والنهي قد يقع مخالفته فكأن المعنى عاملوا هذا النهي معاملة خبر الحتم ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ولا تسأل المرأة طلاق أختها " يجوز في تسأل الرفع والكسر والأول على الخبر الذي يراد به النهي وهو المناسب لقوله قبله: " لا يخطب ولا يسوم " والثاني على النهي الحقيقي. انتهى.

وضع النداء موضع التعجب
كقوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} قال الفراء: معناه: فيالها من حسرة والحسرة في اللغة أشد الندم لأن القلب يبقى حسيرا.
وحكى أبو الحسين بن خالويه في كتاب:" المبتدأ " عن البصريين أن هذه من أصعب مسألة في القرآن لأن الحسرة لا تنادي وإنما تنادى الاشخاص لأن فائدته التنبيه ولكن المعنى على التعجب كقوله: يا عجبا لم فعلت! {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ} وهو أبلغ من قولك: العجب. قيل: فكأن التقدير يا عجبا احضر يا حسرة احضري!.
وقرأ الحسن {يَا حَسْرَةَ العِبَادِ}.
ومنهم قال: الأصل [يا حسرتاه] ثم اسقطوا الهاء تخفيفا ولهذا قرأ عاصم {يَا أَسَفَاهُ عَلَى يُوسُفَ}.
وقال ابن جنى في كتاب:" الفسر ": معناه أنه لو كانت الحسرة مما يصح نداؤه لكان هذا وقتها.
وأما قوله تعالى: {يَا بُشْرَى}، فقالوا: معنى النداء فيما لا يعقل تنبيه المخاطب وتوكيد القصة فإذا قلت يا عجبا ! فكأنك قلت: اعجبوا فكأنه قال: يا قوم أبشروا.
قال أبو الفتح في:" الخاطريات": وقد توضع الجملة من المبتدأ والخبر موضع.

لمفعول به، كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} بعد قوله: {لَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا} المعنى: ولتنتفعوا بها عطفا على قوله: {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا} وعلى هذا قال: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ}. وكذلك قوله: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي ولتأكلوا منها ولذلك أتى وعليها وعلى الفلك تحملون فعطف الجملة من الفعل ومرفوعة على المفعول له.
ونظيره قوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ} أي ولأني ربكم فاتقون فوضع الجملة من المبتدأ والخبر موضع المفعول له.
وبهذا يبطل تعلق من تعلق على ثبوته في قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} وقوله: إن هذا ليس من مواضع الابتداء لجواز تقدير وأذان بأن الله برىء وبأن رسوله كذلك.

وضع جمع القلة موضع الكثرة.
لأن الجموع يقع بعضها موقع بعض لاشتراكها في مطلق الجمعية كقوله تعالى: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} فإن المجموع بالألف والتاء للقلة وغرف الجنة لا تحصى.
وقوله: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} ورتب الناس في علم الله أكثر من العشرة لا محالة.
وقوله: { الله يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ}.
وقوله: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} وهو كثير.
وقيل: سبب ذلك في الآية الأولى دخول الألف واللام الجنسية فيكون ذلك تكثيرا لها وكان دخولها على جمع القلة أولى من دخولها على جمع الكثرة إشارة إلى قلة من يكون فيها ألا ترى أنه لا يكون فيها إلا المؤمنون !.
وقد نص سبحانه على قتلهم بالإضافة إلى غيرهم في قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} فيكون التكثير الداخل في قوله: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ} لا من جهة وضع جمع القلة موضع جمع الكثرة ولكن من جهة ما اقتضته الألف واللام للجنس.
واعلم أن جموع التكثير الأربعة وجمعى التصحيح - أعنى جمع التأنيث وجمع التذكير - كل ذلك للقلة أما جموع التكسير فبالوضع وأما جمعا التصحيح، فلأنهما.

أقرب إلى التثنية، وهي أقل العدد فوجب أن يكون الجمع المشابه لها بمنزلتها في القلة وما عداها من الجموع فيرد تارة للقلة وتارة للكثرة بحسب القرائن قال تعالى: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}.{هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}.{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}،{إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}.{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ}.{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً}{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ}{وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء} {وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى} {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} {بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} فإن قلت: ليس هذا منه بل هي للقلة لأنها خمس.
قلت: لو كان كذلك لما صح: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء}.

{فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} فالمراد منها واحد والجواب عن أحدهما الجواب عن الآخر.
وقوله تعالى: {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ} الآية.{وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية.ولا تحصى كثرة.
ومن شواهد مجيء جمع القلة مرادا به الكثرة قول حسان رضي الله عنه:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
وحكى أن النابغة قال له:
قد قللت جفتاك وأسيافك ...
وطعن الفارسي في هذه الحكاية لوجود وضع جمع القلة موضع الكثرة فيما له جمع كثرة وفيما لا جمع له كثرة في كلامهم وصححها بعضهم قال يعنى أنه كان ينبغي لحسان تجنب اللفظ الذي أصله أن يكون في القلة وإن كان جائزا في اللسان وضعه لقرينة إذا كان الموضع موضع مدح أو أنه وإن كانت القلة لمعنى الكثرة لكن ليس في كل مقام.
ومن المشكل قوله تعالى: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} فإن أضعافا جمع قلة فكيف جاء بعد كثرة !.
والجواب أن جمع القلة يستعمل مرادا به الكثرة وهذا منه.
تنبيهان:.
الأول: إنما يسأل عن حكمة ذلك حيث كان له جمع كثرة فإن لم يكن فلا.

كقوله: { أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ } فإن أياما أفعال مع أنها ثلاثون لكن ليس لليوم جمع غيره ومن ثم أفرد السمع وجمع الأبصار في قوله: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ} لأن فعلا ساكن العين صحيحها لا يجمع على أفعال غالبا وليس له جمع تكسير فلما كان كذلك اكتفى بدلالة الجنس على الجمع.
وجعل بعضهم من هذا أنفسكم على كثرتها في القرآن وليس كذلك فقد جاء {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} وحكمته هنا ظاهرة لأن المراد استعياب جميع الخلق في المحشر.
ونظيره: {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} لإمكان الثمار وليس رأس آية.
منه: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} لإمكان آي ولا يقال إنه لطلب المشاكلة فقد قال تعالى بعده: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فدل على عدم المشاكلة لإمكان أخريات.
وكذلك قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} وليس رأس آية ولا فيه مشاكلة لإمكان الأنهر.
وقد جاء أنفس للقلة، كقوله: {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} وقيل: المراد نفسان من باب :{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}.
الثاني إنما يتم في المنكر أما المعرف فيستغنى بالعموم عن ذلك وبهذا يخدش في كثير مما سبق جعله من هذا النوع.وقد قال الزمخشري في قوله تعالى: {مِنَ الثَّمَرَاتِ} : إنه جمع قلة وضع موضع جمع الكثرة ورد عليه بأن [ أل ] في الثمرات للعموم فيصير كالثمار ولا حاجة إلى إرتكاب وضع جمع قلة موضع جمع كثرة وكذلك بيت حسان السابق فإن الجفنات معرفة [ أل ] وأسيافنا مضاف ليعم.

تذكير المؤنث.
يكثر في تأويله بمذكر، كقوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} على تأويلها بالوعظ.
وقوله: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} على تأويل البلدة بالمكان وإلا لقال:[ ميتة ].
وقوله: {فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي} أي الشخص أو الطالع.
وقوله: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أي بيان ودليل وبرهان.
وقوله: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً}.
وإنما يترك التأنيث كما يترك في صفات المذكر لا كما في قولهم: أمرأة معطار لأن السماء بمعنى المطر مذكر قال:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
ويجمع على أسمية وسمي قال العجاج:
تلفه الأرواح والسمى ...
وقوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} إ لى قوله: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} ذكر الضمير لأنه ذهب بالقسمة إلى المقسوم.

وقوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} ذهب بالانعام إلى معنى النعم أو حمله على معنى الجمع.
وقوله: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} ، ولم يقل قريبة قال الجوهري: ذكرت على معنى الإحسان. وذكر الفراء أن العرب تفرق بين النسب والقرب من المكان فيقولون: هذه قريبتي من النسب وقريبي من المكان فعلوا ذلك فرقا بين قرب النسب والمكان.
قال الزجاج: وهذا غلط لأن كل ما قرب من مكان ونسب فهو جار على ما يقتضيه من التذكير والتأنيث يريد أنك إذا أردت القرب من المكان قلت زيد قريب من عمرو وهند قريبة من العباس فكذا في النسب.
وقال أبو عبيدة: ذكر [ قريب ] لتذكير المكان أي مكانا قريبا. ورده ابن الشجري بأنه لو صح لنصب [ قريب ] على الظرف.
وقال الأخفش: المراد بالرحمة هنا المطر لأنه قد تقدم ما يقتضيه فحمل المذكر عليه.
وقال الزجاج: لأن الرحمة والغفران بمعنى واحد وقيل لأنها والرحم سواء.
ومنه: {وَأَقْرَبَ رُحْماً} فحملوا الخبر على المعنى ويؤيده قوله تعالى: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي}.
وقيل: الرحمة مصدر والمصادر كما لا تجمع لا تؤنث.
وقيل:[ قريب ] على وزن [فعيل] [وفعيل] يستوي فيها المذكر والمؤنث حقيقيا كان أو غير حقيقي. ونظيره قوله تعالى: {وَهِيَ رَمِيمٌ}.

وقيل: من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه مع الالتفات إلى المحذوف فكأنه قال: وإن مكان رحمة الله قريب ثم حذف المكان وأعطى الرحمة إعرابه وتذكيره.
وقيل: من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه أي إن رحمة الله شيء قريب أو لطيف أو بر أو إحسان.
وقيل: من باب إكساب المضاف حكم المضاف إليه إذا كان صالحا للحذف والاستغناء عنه بالثاني والمشهور في هذا تأنيث المذكر لإضافته إلى مؤنث كقوله:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم
فقال: تسفهت والفاعل مذكر لأنه اكتسب تأنيثا من الرياح إذ الاستغناء عنه جائز وإذا كانت الإضافة على هذا تعطى المضاف تأنيثا لم يكن له فلأن تعطيه تذكيرا لم يكن له كما في الآية الكريمة أحق وأولى لأن التذكير أولى والرجوع إليه أسهل من الخروج عنه.
وقيل: من الاستغناء بأحد المذكورين لكون الاخر تبعا له ومعنى من معاينة.
ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} فاستغنى عن خبر الأعناق بخبر أصحابها والأصل هنا إن رحمة الله قريب وهو قريب من المحسنين فاستغنى بخبر المحذوف عن خبر الموجود وسوغ ظهور ذلك المعنى.
ونظير هذه الآية الشريفة قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}، قال البغوى: لم يقل قريبة لأن تأنيثها غير حقيقي ومجازها الوقت.

وقال الكسائي: إتيانها قريب.
وقيل في قوله تعالى: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} ولم يقل: [صرصرة] كما قال: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} لأن الصرصر وصف مخصوص بالريح لا يوصف به غيرها فأشبه باب [حائض] ونحوه بخلاف [عاتية] فإن غير الريح من الأسماء المؤنثة يوصف به.
وأما قوله تعالى: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} ففي تذكير [منفطر] خمسة أقوال:.
أحدها : للفراء أن السماء تذكر وتؤنث فجاء [منفطر] على التذكير.
والثاني : لأبي على أنه من باب اسم الجنس الذي بينه وبين واحده التاء مفرده سماءة واسم الجنس يذكر ويؤنث نحو: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ}.
والثالث: للكسائي أنه ذكر حملا على معنى السقف.
والرابع : لأبي علي أيضا على معنى النسب أي ذات انفطار كقولهم امرأة مرضع أي ذات رضاع.
والخامس: للزمخشري أنه صفة لخبر محذوف مذكر أي شيء منفطر.
وسأل أبو عثمان المازني بحضرة المتوكل قوما من النحويين منهم ابن السكيت وأبو بكر بن قادم عن قوله تعالى: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً}: كيف جاء بغيرها.
ونحن نقول: امرأة كريمة إذا كانت هي الفاعل وليست بمنزلة [القتيل] التي هي بمعنى [المفعول] ؟ فأجاب ابن قادم وخلط فقال له المتوكل: أخطأت قل يا بكر للمازني قال: بغي ليس لـ[فعيل] وإنما هو [فعول] والأصل فيه [بغوى] فلما التقت واو وياء وسبقت إحدهما بالسكون أدغمت الواو في الياء فقيل:[ بغى ]كما تقول: امرأة.

صبور بغير هاء لأنها بمعنى صابرة فهذا حكم فعول إذا عدل عن فاعله فإن عدل عن مفعوله جاء بالهاء كما قال.
*منها اثنتان واربعون حلوبة*
بمعنى [محلوبة] حكاه التوحيدي في "البصائر".
وقال البغوي في قوله تعالى: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} ولم يقل: [رميمة] لأنه معدول عن فاعله وكلما كان معدولا عن جهته ووزنه كان مصروفا عن فاعلة كقوله: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} اسقط الهاء لأنها مصروفة عن [باغية].
وقال الشريف المرتضى في قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} إن الضمير في ذلك يعود للرحمة وإنما لم يقل و[لتلك] لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي كقوله تعالى: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} ولم يقل [هذه] على أن قوله: {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ} كما يدل على الرحمة يدل على أن [يرحم] ويجوز رجوع الكتابة إلى قوله إلا أن يرحم والتذكير في موضعه.
قال: ويجوز أن يكون قوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} كناية عن اجتماعهم على الإيمان وكونهم فيه أمة واحدة ولا محالة أنه لهذا خلقهم.
ويطابق هذه الآية قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}، قال: فأما قوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} فمعناه الاختلاف في الدين والذهاب عن الحق فيه.

بالهوى والشبهات. وذكر أبو مسلم بن بحر فيه معنى غريبا فقال: معناه أن خلف هؤلاء الكفار يخلف سلفهم في الكفر لأنه سواء قولك: خلف بعضهم بعضا وقولك اختلفوا كما سواء قولك: قتل بعضهم بعضا وقولهم: اقتتلوا. ومنه قولهم: لا أفعله ما اختلف العصران، [والجديدان]، أي جاء كل واحد منهم بعد الآخر.
واختلف في قوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ}، فقال الكسائي: أي من بطون ما ذكرنا.
وقال الفراء: ذكر لأنه ذهب إلى المعنى يعنى معنى النعم وقيل: الأنعام تذكر وتؤنث.
وقال أبو عبيدة: أراد البعض أي من بطون أيها كان ذا لبن.
وأنكر أبو حاتم تذكير الأنعام لكنه أراد معنى النعم.

تأنيث المذكر.
كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا} فأنث [ الفردوس ] وهو مذكر، حملا على معنى الجنة.
وقوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ، فأنث [ عشر ] حيث جردت من الهاء مع إضافته إلى الأمثال وواحدها مذكر وفيه أوجه:.
أحدها: أنث لإضافة الأمثال إلى مؤنث، وهو ضمير الحسنات والمضاف يكتسب أحكام المضاف إليه فتكون كقوله: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ}.
والثاني : هو من باب مراعاة المعنى لأن الأمثال في المعنى مؤنثه لأن مثل الحسنة حسنة لا محالة فلما أريد توكيد الإحسان إلى المطيع وأنه لا يضيع شيء من علمه كأن الحسنة المنتظرة واقعة جعل التأنيث في أمثالها منبهة على ذلك الوضع وإشارة إليه كما جعلت الهاء في قولهم: رواية وعلامة تنبيها على المعنى المؤنث المراد في أنفسهم وهو الغاية والنهاية ولذلك أنث المثل هنا توكيدا لتصوير الحسنة في نفس المطيع ليكون ذلك أدعى له إلى الطاعة حتى كأنه قال فله عشر حسنات أمثالها حذف وأقيمت صفته مقامه وروعي ذلك المحذوف الذي هو المضاف إليه كما يراعى المضاف في نحو قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ}، أي أو [كذى ظلمات] وراعاه في قوله: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ}، وهذا الوجه هو الذي عول عليه الزمخشري ولم يذكر سواه.
وأما ابن جنى فذكر في "المحتسب" الوجه الأول وقال: فإن قلت: فهلا حملته.

على حذف الموصوف فكأنه قال:[ فله عشر حسنات وأمثالها ]؟ قيل: حذف وإقامة الموصوف مقامه ليس بمستحسن في القياس وأكثر ما أتى في الشعر ولذلك حمل{دانية}من قوله: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا}، على أنه وصف جنة أو [وجنة دانية] عطف على [جنة] من قولهم: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً} ، لما قدر حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه حتى عطف على قوله: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} فكانت حالا معطوفة على حال.
وفي "كشف المشكلات" للأصبهاني: حذف الموصوف هو اختيار سيبويه وإن كان لا يرى حسن [ثلاثة مسلمين]، بحذف الموصوف.
وقوله تعالى حكاية عن لقمان: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} فأنث الفعل المسند لـ[مثقال] وهو مذكر ولكن لما أضيف إلى [حبة] اكتسب منه التأنيث فساغ تأنيث فعله.
وذكر أبو البقاء في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} أن التأنيث في [ذائقة] باعتبار معنى [كل] لأن معناها التأنيث قال: لأن كل نفس نفوس ولو ذكر على لفظ [كل] جاز يعنى - أنه لو قيل كل نفس ذائق جاز.
وهو مردود لأنه يجب اعتبار ما يضاف إليه [كل] إذا كانت نكرة ولا يجوز أن يعتبر كل.

وقوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ}، فإن الظاهر عود الضمير إلى الإبداء بدليل قوله: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، فذكر الضمير العائد على الإخفاء ولو قصد الصدقات لقال: [فهي] وإنما أنث [هي] والذي عاد إليه مذكر على حذف مضاف أي وإبداؤها نعم ما هي كقوله: القرية أسألها.
ومنه: {سَعِيراً} وهو مذكر، ثم قال: {إِذَا رَأَتْهُمْ} فحمله على النار.
وأما قوله: { لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ}، فقيل: الضمير عائد على الآيات المتقدمة في اللفظ.
وقال البغوي: إنما قال: {خَلَقَهُنَّ}، بالتأنيث، لأنه أجرى على طريق جمع التكسير ولم يجر على طريق التغليب للمذكر على المؤنث لأنه فيما لا يعقل.
وقيل: في قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}: إن المراد آدم فأنثه ردا إلى النفس. وقد قرىء شاذا [ من نفس واحد ].
وحكى الثعلبي في تفسيره في سورة " اقترب " بإسناده إلى المبرد، سئل عن ألف مسألة، منها: ما الفرق بين قوله تعالى: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} وقوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} وقوله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} و{كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ.

نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} ، فقال: كل ما ورد عليك من هذا الباب، فلك أن ترده إلى اللفظ تذكيرا ولك أن ترده إلى المعنى تأنيثا وهذا من قاعدة أن اسم الجنس تأنيثه غير حقيقي فتارة يلحظ معنى الجنس فيذكر وتارة معنى الجماعة فيؤنث قال تعالى في قصة شعيب: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ}، وفي قصة صالح: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ}. وقال: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} وقرئ:[ تشابهت ].
وأبدى السهيلي للحذف والإثبات معنى حسنا فقال: إنما حذفت منه لأن [الصيحة] فيها بمعنى العذاب والخزي إذ كانت منتظمة بقوله: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} فقوى التذكير بخلاف قصة شعيب فإنه لم يذكر فيها ذلك.
وأجاب غيره: بأن الصيحة يراد بها المصدر بمعنى الصياح فيجىء فيها التذكير فيطلق ويراد بها الوحدة من المصدر فيكون التأنيث أحسن.
وقد أخبر سبحانه عن العذاب الذي أصاب به قوم شعيب بثلاثة أمور كلها مفردة اللفظ:.
أحدها : الرجفة في قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}.
والثاني: الظلة في قوله: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ}.
والثالث: الصيحة وجمع لهم الثلاثة لأن الرجفة بدأت بهم فأصحروا في الفضاء خوفا من سقوط الأبنية عليهم فضربتهم الشمس بحرها ورفعت لهم الظلة فهرعوا إليها يستظلون بها من الشمس فنزل عليهم العذاب وفيه الصيحة فكان ذكر الصيحةمع الرجفة والظلة أحسن من ذكر الصياح فكان ذكر التاء أحسن.

فإن قلت: ما الفرق بين قوله سبحانه: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} وبين قوله: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ}.
قيل: الفرق بينهما من وجهين:.
لفظي ومعنوي:.
أما اللفظي، فهو أن الفصل بين الفعل والفاعل في قوله: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ}، أكثر منها في قوله: {حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} والحذف مع كثرة الحواجز أحسن.
وأما المعنوى، فهو أن [مَن] في قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} راجعة على الجماعة وهي مؤنثة لفظا، بدليل {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً}، ثم قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} ، أي من تلك الأمم ولو قال: [ضلت] لتعينت التاء - والكلامان واحد وإن كان معناهما واحدا - فكان إثبات التاء أحسن من تركها لأنها ثابتة فيما هو من معنى الكلام المتأخر.
وأما {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ}، فالفريق مذكر ولو قال: [ضلوا] لكان بغير تاء وقوله: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} في معناه، فجاء بغير تاء وهذا أسلوب لطيف من أساليب العرب أن يدعو حكم اللفظ الواجب في قياس لغتهم إذا كان في مركبه كلمة لا يجب لها حكم ذلك الحكم.
تنبيه:.
جاء عن ابن مسعود ذكروا القرآن. ففهم منه ثعلب أن ما احتمل تأنيثه وتذكيره كان تذكيره أجود.

ورد بأنه يمتنع إرادة تذكير غير الحقيقي التأنيث لكثرة ما في القرآن منه بالتأنيث: {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ} {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ}.
وإذا امتنع إرادة غير الحقيقي، فالحقيقي أولى.
قالوا: ولا يستقيم إرادة أن ما احتمل التذكير والتأنيث غلب فيه التذكير لقوله تعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ}. {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}، فأنث مع جواز التذكير قال تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ}، {مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ} قال: فليس المراد ما فهم بل المراد الموعظة والدعاء كما قال تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ} إلا أنه حذف الجار والمقصود ذكروا الناس بالقرآن أي ابعثوهم على حفظه كيلا ينسوه.
وقال الواحدي: إن قول ابن مسعود على ما ذهب إليه ثعلب والمراد أنه إذا احتمل اللفظ التذكير والتأنيث ولم يحتج في التذكير إلى مخالفة المصحف ذكر نحو: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ}.
قال: ويدل على إرادته هذا إن أصحاب عبد الله من قراء الكوفة كحمزة والكسائي ذهبوا إلى هذا فقرءوا ما كان من هذا القبيل بالتذكير، نحو: {يَوْمَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} وهذا في غير الحقيقي.
ضابط الثأنيث.
ضابط التأنيث ضربان:.
حقيقي وغيره، فالحقيقي: لا يحذف التأنيث من فعله غالبا إلا أن يقع فصل نحو:.

قام اليوم هند، وكلما كثر الفصل حسن الحذف والإثبات مع الحقيقي أولى ما لم يكن جمعا.
وأما غير الحقيقي فالحذف فيه مع الفصل حسن، قال تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ} ، فإن كثر الفصل ازداد حسنا، ومنه: { وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} ويحسن الإثبات ايضا نحو: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} فجمع بينهما في سورة هود.
وأشار بعضهم إلى ترجيح الحذف، واستدل عليه بأن الله تعالى قدمه عليه حيث جمع بينهما في سورة واحدة. وفيما قاله نظر.

التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي وعكسه.
قد سبق منه كثير في نوع الالتفات ويغلب ذلك فيما إذا كان مدلول الفعل من الأمور الهائلة المهددة المتوعد بها فيعدل فيه إلى لفظ الماضي تقريرا وتحقيقا لوقوعه كقوله تعالى: {وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ}.
وقوله في الزمر: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ}.
وقوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً}.
وقوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ} أي نحشرهم.
وقوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً}. ثم تارة يجعل المتوقع فيه كالواقع فيؤتى بصيغة الماضي مرادا به المضي تنزيلا للمتوقع منزلة ما وقع فلا يكون تعبيرا عن المستقبل بلفظ الماضي بل جعل المستقبل ماضيا مبالغة.
ومنه: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ}. {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} ونحوه.
وقد يعبر عن المستقبل بالماضي مرادا به المستقبل فهو مجاز لفظي كقوله تعالى:.

{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ} ، فإنه لا يمكن أن يراد به المضي لمنافاة {يُنْفَخُ} الذي هو مستقبل في الواقع. وفائدة التعبير عنه بالماضي الإشارة إلى استحضار التحقق وإنه من شأنه لتحققه أن يعبر عن بالماضي وإن لم يرد معناه والفرق بينهما أن الأول مجاز والثاني لا مجاز فيه إلا من جهة اللفظ فقط.
وقوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى}، أي يقول، عكسه لأن المضارع يراد به الديمومة والاستمرار كقوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ}.
وقوله: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، أي فكان استحضارا لصورة تكونه.
وقوله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}، أي ما تلت.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ}، أي علمنا.
فإن قيل: كيف يتصور التقليل في علم الله ؟.
قيل: المراد أنهم أقل معلوماته ولأن المضارع هنا بمعنى الماضي ف قد فيه للتحقيق لا التقليل.
وقوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} أي فلم قتلتم !.
وقوله: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} أي لم يتعارفوا حتى تأتيهم.
وقوله: {مُنْفَكِّينَ} قال مجاهد: منتهين وقيل: زائلين من الدنيا.

وقال الأزهري: ليس هو من باب [ما انفك] و[مازال] إنما هو من انفكاك الشيء إذا انفصل عنه.
وقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ}، المعنى: فلم عذب آباءكم بالمسخ والقتل؟ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يؤمر بأن يحتج عليهم بشىء لم يكن بعد لأن الجاحد يقول: إني لا أعذب لكن احتج عليهم بما قد كان.
وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً}.
فعدل عن لفظ [أصبحت] إلى [تصبح] قصد للمبالغة في تحقيق اخضرار الأرض لأهميته إذ هو المقصود بالإنزال.
فإن قلت: كيف قال النحاة: إنه يجب نصب الفعل المقرون بالفاء إذا وقع في جواب الاستفهام، كقوله: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} و[فتصبح] هنا مرفوع ؟.
قلت: لوجوه:.
أحدها: أن شرط الفاء المقتضية للنصب أن تكون سببية وهنا ليست كذلك بل هي لإستئناف لأن الرؤية ليست سببا للإصباح.
الثاني: أن شرط النصب أن ينسبك من الفاء وما قبلها شرط وجزاء وهنا ليس كذلك لأنه لو قيل: إن تر أن الله أنزل ماء تصبح لم يصح لأن إصباح الأرض حاصل سواء رئي أم لا.
فإن قيل: شاع في كلامهم إلغاء فعل الرؤية كما في قوله:[ ولا تزال- تراها- ظالمة ].

أي ولا تزال ظالمة وحينئذ فالمعنى منصب إلى الإنزال لا إلى الرؤية ولا شك أنه يصح أن يقال إن أنزل تصبح فقد انعقد الشرط والجزاء.
قلت: إلغاء فعل الرؤية في كلامهم جائز لا واجب فمن أين لنا ما يقتضي تعيين حمل الآية عليه ؟.
الثالث: إن همزة الاستفهام إذا دخلت على موجب تقلبه إلى النفي، كقوله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ}، وإذا دخلت على نفي تقلبه إلى الإيجاب فالهمزة في الآية للتقرير فلما انتقل الكلام من النفي إلى الإيجاب لم ينتصب الفعل لأن شرط النفي كون السابق منفيا محضا: ذكره العزيزي في "البرهان".
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة السجدة: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً}.
الرابع : أنه لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض لأن معناه إثبات الاخضرار فكان ينقلب النصب إلى نفي الاخضرار مثاله أن تقول لصاحبك ألم تر أني أنعمت فتشكر إن نصبت فأنت ناف لشكره شاك تفريطه وإن رفعت فأنت مثبت لشكره. ذكر هذا الزمخشري في الكشاف قال وهذا ومثاله مما يجب أن يرغب له من أتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله.
وقال ابن الخباز: النصب يفسد المعنى لأن رؤية المخاطب الماء الذي أنزله الله ليس سببا للاخضرار وإنما الماء نفسه هو سبب الاخضرار.
ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ}،.

فقال: [تثير] مضارعا وما قبله وما بعده ماضيا مبالغة في تحقيق إثارة الرياح الساحب للسامعين وتقدير تصوره في أذهانهم.
فإن قيل: أهم الأفعال المذكورة في الآية إحياء الموتى وقد ذكر بلفظ الماضي وما ذكرته يقتضي أولوية ذكره بلفظ المضارع إذ هو أهم وإثارة السحاب سبب أعيد على قريب.
قيل: لا نسلم بأهمية إحياء الأرض بعد موتها فالمقدمات المذكورة أهمها وأدلها على القدرة أعجبها وأبعدها عن قدرة البشر وإثارة السحاب أعجبها فكان أولى بالتخصيص بالمضارع وإنما قال: إن إثارة السحاب أعجب لأن سببها أخفى من حيث إنا نعلم بالفعل أن نزول الماء سبب في اخضرار الأرض وإثارة السحاب وسوقه سبب نزول الماء.
فلو خلينا وظاهر العقل لم نقل إن الرياح سببها لعدم إحساسنا بمادة السحاب وجهته.
ومن لواحق ذلك العدول عن المستقبل إلى اسم المفعول لتضمنه معنى الماضي، كقوله: {يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ}، تقريرا للجمع فيه وأنه لا بد أن يكون معادا للناس مضروبا لجميعهم وإن شئت فوازن بينه وبين قوله : {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ}، لتعرف صحة هذا المعنى.
فإن قلت: الماضي أدل على المقصود من أسم المفعول فلم عدل عنه إلى ما دلالته أضعف ؟ قلت: لتحصل المناسبة بين [مجموع] و[مشهور] في استواء شأنهما طلبا للتعديل في العبارة.
ومنه العدول عن المستقبل إلى اسم الفاعل، كقوله تعالى: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} فإن اسم الفاعل ليس حقيقة في الاستقبال بل في الحال.

==============

ج8. البرهان في علوم القرآن بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي



مشاكلة اللفظ للفظ.
هي قسمان: أحدهما - وهو الأكثر - المشاكلة بالثاني للأول، نحو [ أخذه ما قدم وما حدث ]. وقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} على مذهب الجمهور وأن الجر للجوار: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا}.
وقد تقع المشاكلة بالأول للثاني كما في قراءة إبراهيم بن أبي عبيلة: {الْحَمْدِ لِلَّهِ} بكسر الدال، وهي أفصح من ضم اللام للدال.

مشاكلة اللفظ للمعنى.
ومتى كان اللفظ جزلا كان المعنى كذلك ومنه قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ}، ولم يقل من [طين] كما أخبر به سبحانه في غير موضع: {نِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} إنما عدل عن الطين الذي هو مجموع الماء والتراب إلى ذكر مجرد التراب لمعنى لطيف وذلك أنه أدنى العنصرين وأكثفهما لما كان المقصود مقابلة من ادعى في المسيح الإلهية أتى بما يصغر أمر خلقه عند من ادعى ذلك فلهذا كان الإتيان بلفظ التراب أمس في المعنى من غيره من العناصر ولما اراد سبحانه الامتنان على بني إسرائيل أخبرهم أن يخلق لهم من الطين كهيئة الطير تعظيما لأمر ما يخلقه بإذنه إذ كان المطلوب الاعتداد عليهم بخلقه ليعظموا قدر النعمة به.
ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} فإنه سبحانه إنما اقتصر على ذكر الماء دون بقي العناصر لأنه أتى بصيغة الاستغراق وليس في العناصر الأربع ما يعم جميع المخلوقات إلا الماء ليدخل الحيوان البحري فيها.
ومنه قوله تعالى: {تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} فإنه سبحانه أتى بأغرب الفاظ القسم بالنسبة إلى أخواتها فإن [ والله [و[ بالله ]أكثر استعمالا وأعرف من [ تالله ] لما كان الفعل الذي جاور القسم أعزب الصيغ التي في بابه فإن [كان] وأخواتها أكثر استعمالا من [تفتأ] وأعرف عند العامة ولذلك أتى بعدها بأغرب ألفاظ الهلاك بالنسبة وهي لفظة [حرض]:.

ولما أراد غير ذلك قال: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} لما كانت جميع الألفاظ مستعملة.
ومنه قوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} فإنه سبحانه لما نهى عن الركون إلى الظالمين وهو الميل إليهم والاعتماد عليهم وكان دون ذلك مشاركتهم في الظلم أخبر أن العقاب على ذلك دون العقاب على الظلم وهو مس النار الذي هو دون الإحراق والاضطرام وإن كان المس قد يطلق ويراد به الإشعار بالعذاب.
ومنه قوله تعالى: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ}، فإنه نشأ في الآية سؤال وهو أن الترتيب في الجمل الفعلية تقديم الفعل وتعقيبة بالفاعل ثم بالمفعول فإن كان في الكلام مفعولان: أحدهما يعدى وصول الفعل إليه بالحرف، والآخر بنفسه قدم ما تعدى إليه الفعل بنفسه، وعلى ذلك جاء قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ}.
إذا ثبت هذا فقد يقال كيف توخى حسن الترتيب في عجز الاية دون صدرها ؟ والجواب أن حسن الترتيب منع منه في صدر الآية مانع أقوى وهو مخافة أن يتوالى ثلاثة أحرف متقاربات المخرج فيثقل الكلام بسبب ذلك فإنه لو قيل لئن بسطت يدك إلى والطاء والتاء متقاربة المخرج فلذلك حسن تقديم المفعول الذي تعدى الفعل إليه بالحرف على الفعل الذي تعدى إليه بنفسه ولما أمن هذا المحذور في عجز الآية لما اقتضته البلاغة من الإتيان باسم الفاعل موضع الجملة الفعلية لتضمنه معنى الفعل الذي تصح به المقابلة جاء الكلام على ترتيبه: من تقديم المفعول الذي تعدى الفعل إليه بنفسه على.

المفعول الذي يعدى إليه بحرف الجر. وهذا أمر يرجع إلى تحسين اللفظ وأما المعنى فعلى نظم الآية لأنه لما كان الأول حريصا على التعدي على الغير قدم المتعدى على الآلة فقال: إليَّ يدك ولما كان الثاني غير حريص على ذلك لأنه نفاه عنه قدم الآلة فقال: [يدي إليك] ويدل لهذا أنه عبر عن الأول بالفعل وفي الثاني بالاسم.
ويؤيد ذلك أيضا قوله في سورة الممتحنة : {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} ، لأنه لما نسبهم للتعدي الزائد قدم ذكر المبسوط إليهم على الآلة وذلك الجواب السابق لا يمكن في هذه الآية.
ومثله قوله: { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}، مقتضى الصناعة أن يؤتى بالتجنيس للازدواج في صدر الآية كما أتى به في عجزها لكن منعه توخى الأدب والتهذيب في نظم الكلام وذلك أنه لما كان الضمير الذي في [يجزي] عائدا على الله سبحانه وجب أن يعدل عن لفظ المعنى الخاص إلى رديفة حتى لا تنسب السيئة إليه سبحانه فقال في موضع السيئة: بما [عملوا] فعوض عن تجنيس المزاوجة بالإرداف لما فيه من الأدب مع الله بخلاف قوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} فإن هذا المحذور منه مفقود فجرى الكلام على مقتضى الصناعة.
ومنه قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى}، فإن سبحانه خص الشعري بالذكر دون غيرها من النجوم وهو رب كل شيء لأن العرب ظهر فيهم رجل يعرف بابن أبي كبشة عبد الشعري ودعا خلقا إلى عبادتها.
وقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} ولم يقل:[ لا تعلمون] لما في الفقه من الزيادة على العلم.

وقوله حكاية عن إبراهيم: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} فإنه لم يخل هذا الكلام من حسن الادب مع أبيه حيث لم يصرح فيه بأن العذاب لاحق له ولكنه قال: {إِنِّي أَخَافُ} فذكر الخوف والمس وذكر العذاب ونكره ولم يصفه بأنه يقصد التهويل بل قصد استعطافه ولهذا ذكر [الرحمن] ولم يذكر [المنتقم] ولا [الجبار] على حد قوله:
فما يوجع الحرمان من كف حازم ... كما يوجع الحرمان من كف رازق
ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} فإنه قد يقال: ما الحكمة في التعمير بالسخرية دون الاستهزاء ؟ وهلا قيل:[ فحاق بالذين استهزءوا بهم ]ليطابق ما قبله ؟.
والجواب أن الاستهزاء هو إسماع الإساءة والسخرية قد تكون في النفس ولهذا يقولون: سخرت منه كما يقولون: عجبت منه ولا يقال: تجنب ذلك لما في ذلك من تكرار الاستهزاء ثلاث مرات لأنه قد كرر السخرية ثلاثا في قوله تعالى: {إِِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}، وإنما لم يقل: [نستهزىء بكم] لأن الاستهزاء ليس من فعل الأنبياء.
وأما قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} فالعرب تسمى الجزاء على الفعل باسم الفعل كقوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} وهو مجاز حسن وأما الاستهزاء الذين نحن بصدده فهو استهزاء حقيقة لا يرضى به إلا جاهل.
ثم قال سبحانه: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ}، أي حاق بهم من الله الوعيد.

لبالغ لهم على ألسنة الرسل ما كانوا به يستهزئون بألسنتهم فنزلت كل كلمة منزلتها.
وقوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ولم يذكر الكعبة لأن البعيد يكفيه مراعاة الجهة فإن استقبال عينها حرج عليه بخلاف القريب ولما خص الرسول بالخطاب تعظيما وأيجابا لشرعته عمم تصريحا بعموم الحكم وتأكيدا لأمر القبلة.
قاعدة:.
إذا اجتمع الحمل على اللفظ والمعنى، بدئ باللفظ ثم بالمعنى، هذا هو الجادة في القرآن، كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا} أفرد أولا باعبتار اللفظ ثم جمع ثانيا باعتبار المعنى فقال: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} فعاد الضمير مجموعا كقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} فعاد الضمير من [يدخله] مفردا على لفظ [من] ثم قال [خالدين] وهو حال من الضمير.
وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}.
وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا}.
وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} إلى قوله: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ}.
وقد يجرى الكلام على أوله في الإفراد كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ.

قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} الآيتين فكرر فيها ثمانية ضمائر كلها عائد على لفظ [من] ولم يرجع منها شيء على معناها مع أن المعنى على الكثرة.
وقد يقتصر على معناها في الجميع كقوله تعالى في سورة يونس: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ}. وما ذكرنا من البداءة باللفظ عند الاجتماع هو الكثير قال الشيخ علم الدين العراقي: ولم يجيء في القرآن البداءة بالحمل على المعنى إلا في موضع واحد، وهو قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} فأنث [خالصة] حملا على معنى [ما] ثم راعى اللفظ فذكر وقال: {وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا}.
واعترض بعض الفضلاء وقال: إنما يتم ما قاله من البداءة بالحمل على المعنى في ذلك إذا كان ان الضمير الذي في الصلة التي في بطون هذه الانعام يقدر مؤنثا أما إذا قدر مذكرا فالبداءة إنما هو بالحمل على اللفظ.
وأجيب بأن اعتبار اللفظ والمعنى أمر يرجع إلى الأمور التقديرية لأن اعتبار الأمرين أو أحدهما أنما يظهر في اللفظ وإذا كان كذلك صدق أنه إنما بدىء في الآية بالحمل على المعنى فيتم كلام العراقي.
ونقل الشيخ أبو حيان في تفسيره عن ابن عصفور: أن الكوفيين لا يجيزون الجمع بين الجملتين إلا بفاصل بينهما ولم يعتبر البصريون الفاصل، قال: ولم يرد السماع إلا بالفاصل كما ذهب إليه الكوفيون. ونازعه الشيخ أثير الدين بقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ.

الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} ، وقال: ألا تراه كيف جمع بين الجمليتن دون فصل ! انتهى.
والذي ذكره ابن عصفور في شرح "المقرب": شرط الكوفيون في جواز اعتبار اللفظ بعد اعتبار المعنى الفصل فيجوزون: مَن يقومون اليوم وينظر في أمرنا إخوتنا ولا يجوزون: مَن يقومون وينظر في أمرنا إخوتنا لعدم الفصل وإنما ورد السماع بالفصل. انتهى.
وهذا يقتضى أن الكوفيين لا يشترطون الفصل عند اجتماع الجملتين إلا أن يقدم اعتبار المعنى ويؤخر اعتبار اللفظ كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} إنما بدئ فيه بالحمل على اللفظ.
وقال ابن الحاجب: إذا حمل على اللفظ جاز الحمل بعده على المعنى وإذا حمل على المعنى ضعف الحمل بعده على اللفظ لأن المعنى أقوى فلا يبعد الرجوع إليه بعد اعتبار اللفظ ويضعف بعد اعتبار المعنى القوي الرجوع إلى الأضعف.
وهذا معترض بأن الاستقراء دل على أن اعتبار اللفظ أكثر من اعتبار المعنى وكثرة موارده تدل على قوله وأما العود إلى اللفظ بعد اعتبار المعنى فقد ورد به التنزيل كما ورد باعتبار المعنى بعد اعتبار اللفظ فثبت أنه يجوز الحمل على كل واحد منهما بعد الاخر من غير ضعف.
وأما قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً } فقرأه الجماعة بتذكير [يقنت] حملا على لفظ [من] في التذكير [وتعمل] بالتأنيث حملا على معناها لأنها للمؤنث. وقرأ حمزة والكسائي [يعمل] بالتذكير فيهما حملا على لفظها.

رعاية للمناسبة في المتعاطفين. وتوجيه الجماعة أنه لما تقدم على الثاني صريح التأنيث في [منكن] حسن الحمل على المعنى.
وقال أبو الفتح في "المحتسب": لا يجوز مراجعة اللفظ بعد انصرافه عنه إلى المعنى.
وقد يورد عليه قوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} ثم قال: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} فقد راجع اللفظ بعد الانصراف عنه إلى المعنى إلا أن يقال: إن الضمير في جاء يرجع إلى الكافر لدلالة السياق عليه لا إلى [من].
ومنه الفرق بين [أسقى] و[سقى] بغير همز لما لا كلفة معه في السقيا ومنه قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } فأخبر أن السقيا في الآخرة لا يقع فيها كلفة بل جميع ما يقع فيها من الملاذ يقع فرصة وعفوا بخلاف [أسقى] بالهمزة فإنه لا بد فيه من الكلفة بالنسبة للمخاطبين كقوله تعالى: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً} {لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} لأن الإسقاء في الدنيا لا يخلو من الكلفة أبدا.
ومنه قوله تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} ، قال أبو سلمة محمد بن بحر الأصبهاني في تفسيره: إنما خص الموزون بالذكر دون المكيل لأمرين:.
أحدهما: أن غاية المكيل ينتهى إلى الموزون لأن سائر المكيلات إذا صارت قطعا دخلت في باب الموزون وخرجت عن المكيل فكان الوزن أعم من المكيل.
والثاني: أن في الموزون معنى المكيل لأن الوزن هو طلب مساواة الشيء بالشيء.

ومقايسته وتعديله به وهذا المعنى ثابت في المكيل فخص الوزن بالذكر لاشتماله على معنى المكيل.
وقال الشريف المرتضى في "الغرر": هذا خلاف المقصود بل المراد بالموزون القدر الواقع بحسب الحاجة فلا يكون ناقصا عنها ولا زائدا عليها زيادة مضرة.
ومنه قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً}، فذكر في مدة اللبث السنة وفي الانفصال العام للإشارة إلى أنه كان في شدائد في مدته كلها إلا خمسين عاما قد جاءه الفرج والغوث فإن السنة تستعمل غالبا في موضع الجدب ولهذا سموا شدة القحط سنة.
قال السهيلي: ويجوز أن يكون الله سبحانه قد علم أن عمره كان ألفا إلا أن الخمسين منها كانت أعواما فيكون عمره ألف سنة ينقص منها ما بين السنين الشمسية والقمرية في الخمسين خاصة لأن الخمسين عاما بحسب الأهلة أقل من خمسين سنة شمسية بنحو عام ونصف.
وابن على هذا المعنى قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} وقوله : {أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} فأنه كلام ورد في موضع التكثير والتتميم بمدة ذلك اليوم والسنة أطول من العام.

النحت.
نحو الحوقلة والبسملة، جعله ابن الزملكاني من1 نظوم القرآن ومثله بقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} ، قال: وكفى من كفتيه الشيء ولم يجيء للعرب كفتيه بالشيء فجعل بين الفعلين الفعل المذكور وهو متعد وخص من الفعل اللازم وهو اكتفيت به بالباء وكذلك انتصب [شهيدا] على التمييز أو الحال كأنه قيل: كفى بالله فاكتف به فاجتمع فيه الخبر والأمر.

الإبدال.
من كلامهم إبدال الحروف وإقامة بعضها مقام بعض يقولون: مدحه ومدهه وهو كثير ألف فيه المصنفون وجعل منه ابن فارس قوله تعالى: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} ، فقال: فالراء واللام متعاقبان، كما تقول العرب: فلق الصبح وفرقه. قال: وذكر عن الخليل- ولم أسمعه سماعا - أنه قال في قوله تعالى: {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} إنما أراد فحاسوا فقامت الجيم مقام الحاء.
قال ابن فارس: وما أحسب الخليل قال هذا ولا أحقه عنه.
قلت: ذكر ابن جنى في "المحتسب": أنها قراءة أبو السمال، وقال: قال أبو زيد - أو غيره: قلت له: إنما هو [فجاسوا] فقال: حاسوا وجاسوا واحد. وهذا يدل على أن بعض القراء يتخير بلا رواية ولذلك نظائر. انتهى.
وهذا الذي قاله ابن جنى غير مستقيم ولا يحل لأحد أن يقرأ إلا بالرواية. وقوله:" إنهما بمعنى واحد " لا يوجب القراءة بغير الرواية كما ظنه ابو الفتح وقائل ذلك والقارىء به هو أبو السوار الغنوى لا أبو السمال فاعلم ذلك. كذلك أسنده الحافظ أبو عمرو الداني، فقال: حدثنا المازني قال: سألت أبا السوار الغنوى، فقرأ: [فحاسوا] بالحاء غير الجيم فقلت: إنما هو [فجاسوا] قال: حاسوا وجاسوا واحد، ويعنى أن اللفظين بمعنى واحد وإن كان أراد أن القراءة بذلك تجوز في الصلاة والغرض كما جازت بالأولى فقد غلط في ذلك وأساء.

وزعم الفارسي في تذكرته في قوله: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ}، أنه بمعنى حب الخيل وسميت الخيل خيرا لما يتصل بها من العز والمنعة كما روى:" الخيل معقود بنواصيها الخير " وحينئذ فالمصدر مضاف إلى المفعول به.
وقيل في قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} إن أصله ملاقح لأنه يقال: ألقحت الريح السحاب أي جمعته وكل هذا تفسير معنى وإلا فالواجب صون القرآن أن يقال فيه مثل ذلك.
وذكر أبو عبيدة في قوله: {إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} ، معناه [تصدده] فأخرج الدال الثانية ياء لكسر الدال الأولى كما حكاه صاحب "الترقيص".
وحكى عن أبي رياش في قول امرىء القيس:
فسلى ثيابي من ثيابك تنسلى ...
معناه:[ تنسلل ] فاخرج اللام الثانية [ياء] لكسرة اللام الأولى ومثله قول الآخر:
وإني لأستنعى وما بي نعسة ... لعل خيالا منك يلقى خياليا
أراد استنعس، فاخرج السين ياء.
وقال الفارسي في "التذكرة" قرأ أبو الحسن - أو من قرأ له - قوله تعالى فيما حكى عن يعقوب في القلب والإبدال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} ، [غير.

عائد]، واستحسنه الفارسي ألا يعود إليه كما يعود في حال السعة من العشاء إلى الغذاء.
وقيل في قوله تعالى: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ}: إن خرقه واخترقه وخلقه واختلقه بمعنى هو قول أهل الكتابين في المسيح وعزير وقول قريش في الملائكة.
وجوز الزمخشري كونه من خرق الثوب إذا شقه أي أنهم اشتقوا له بنين وبنات.

المحاذاة.
ذكره ابن فارس، وحقيقته أن يؤتى باللفظ على وزن الاخر لأجل انضمامه إليه وإن كان لا يجوز فيه ذلك لو استعمل منفردا كقولهم: أتيته الغدايا والعشايا فقالوا: الغدايا لانضمامها إلى العشايا.
قيل: ومن هذا كتابه المصحف، كتبوا: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} بالياء، وهو من ذوات الواو لما قرن بغيره مما يكتب بالياء.
ومنه قوله تعالى: {لَسَلَّطَهُمْ} فاللام التي في [لسلطهم] جواب [لو].
ثم قال: {فَلَقَاتَلُوكُمْ} فهذه حوذيت بتلك اللام وإلا فالمعنى: لسلطهم عليكم فقاتلوكم.
ومثله :{لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} فهما لاما قسم - ثم قال: أو {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي} فليس ذا موضع قسم لأنه عذر5 للهدهد فلم يكن ليقسم على الهدهد أن يأتي بعذر لكنه لما جاء به على أثر ما يجوز فيه القسم أجراه مجراه.

ومنه الجزاء عن الفعل بمثل لفظه نحو: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أي يجازيهم جزاء الاستهزاء.
وقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ}{فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ}.
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}.

قواعد في النفي.
قد تقدم في شرح معاني الكلام جمل من قواعده ونذكر هاهنا زيادات.
اعلم أن نفي الذات الموصوفة قد يكون نفيا للصفة دون الذات، وقد يكون نفيا للذات. وانتفاء النهي عن الذات الموصوفة قد يكون نهيا عن الذات وقد يكون نهيا عن الصفة دون الذوات قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} فإنه نهى عن القتل بغير الحق. وقال: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ}.
ومن الثاني قوله: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}،{وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، أي فلا يكون موتكم إلا على حال كونكم ميتين على الإسلام، فالنهي في الحقيقة على خلاف حال الإسلام كقول القائل: لا تصل إلا وأنت خاشع فإنه ليس نهيا عن الصلاة بل عن ترك الخشوع.
وقوله: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية.
وقد ذكروا أن النفي بحسب ما يتسلط عليه يكون أربعة أقسام:.
الأول: بنفي المسند نحو، ما قام زيد بل قعد ومنه قوله تعالى: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} فالمراد نفي السؤال من أصله لأنهم متعففون ويلزم من نفيه نفى الإلحاف.

الثاني: أن ينفى المسند إليه، فينتفي المسند، نحو ما قام زيد إذا كان زيد غير موجود لأنه يلزم من عدم زيد نفي القيام ومنه قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}، أي لا شافعين لهم فتنفعهم شفاعتهم.
ومنه قول الشاعر:
*على لاحب لا يهتدي لمناره*
أي: على طريق لا منار له فيهتدي به ولم يكن مراده أن يثبت المنار فينتفى الاهتداء به.
الثالث: أن ينفى المتعلق دون المسند والمسند إليه نحو ما ضربت زيدا بل عمرا.
الرابع: أن ينفى قيد المسند إليه أو المتعلق نحو ما جاءني رجل كاتب بل شاعر، وما رأيت رجلا كاتبا بل شاعرا، فلما كان النفي قد ينصب على المسند وقد ينصب على المسند إليه أو المعلق وقد ينصب على القيد احتمل في قولنا: ما رأيت رجلا كاتبا أن يكون المنفى هو القيد فيفيد الكلام رؤية غير الكاتب وهو احتمال مرجوح ولا يكون المنفى المسند أي الفعل بمعنى أنه لم يقع منه رؤية عليه لا على رجل ولا على غيره وهو في المرجوحية كالذي قبله.

نفى الشيء رأسا.
لأنه عدم كمال وصفه أو لانتفاء ثمرته، كقوله تعالى في صفة أهل النار: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} فنفى عنه الموت لأنه ليس بموت صريح ونفى عنه الحياة لأنها ليست بحياة طيبة ولا نافعة كقوله تعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} أي ما هم بسكارى مشروب ولكن سكارى فزع.
وقوله: {لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} وهم قد نطقوا بقولهم :{يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} ولكنهم لما نطقوا بما لم ينفع فكأنهم لم ينطقوا.
وقوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا}.
وقوله: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.
ومنه قوله: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}، فإن المعتزلة احتجوا به على نفى الرؤية لأن النظر لا يستلزم الإبصار، ولا يلزم من قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} إبصار.
وهذا وهم لأن الرؤية تقال على أمرين: أحدهما الحسبان والثاني العلم، والآية من المعنى الأول أي تحسبهم ينظرون إليك لأن لهم أعينا مصنوعة بأجفانها وسوادها يحسب الإنسان أنها تنظر إليه بإقبالها عليه وليست تبصر شيئا.

ومنه: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ}.
ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ، فإنه وصفهم أولا بالعلم على سبيل التوكيد القسمى ثم نفاه أخبر عنهم لعدم جريهم على موجب العلم كذا قاله السكاكي وغيره.
وقد يقال: لم يتوارد النفي والإثبات على محل واحد لأن المثبت أولا نفس العلم والمنفي إجراء العمل بمقتضاه. ويحتمل حذف المفعولين أو اختلاف أصحاب الضميرين.
قال: ونظيره في النفي والإثبات قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}.
قلت: المنفي أولا التأثير والمثبت ثانيا نفس الفعل.
ومن هذه القاعدة يزول الإشكال في قوله: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} والمعنى: إن لم تفعل بمقتضى ما بلغت فأنت في حكم غير المبلغ كقولك لطالب العلم: إن لم تعمل بما علمت فأنت لم تعلم شيئا أي في حكم من لم يعلم.
ومنه نفي الشيء مقيدا والمراد نفيه مطلقا، وهذا من أساليب العرب يقصدون به المبالغة في النفي وتأكيده كقولهم فلان لا يرجى خيره ليس المراد أن فيه خيرا لا يرجى غرضهم أنه لا خير فيه على وجه من الوجوه.
ومنه: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} فإنه يدل على أن قتلهم لا يكون إلا بغير حق ثم وصف القتل بما لا بد أن يكون من الصفة وهي وقوعه على خلاف الحق.

وكذلك قوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} إنها وصف لهذا الدعاء وأنه لا يكون إلا عن غير برهان.
وقوله: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ}، تغليظ وتأكيد في تحذيرهم الكفر.
وقوله: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً}، لأن كل ثمن لها لا يكون إلا قليلا فصار نفى الثمن القليل نفيا لكل ثمن.
وقوله تعالى: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} فإن ظاهره نفي الإلحاف في المسألة والحقيقة نفي المسألة البتة وعليه أكثر المفسرين بدليل قوله: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ}، ومن لا يسأل لا يلحف قطعا ضرورة أن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص.
ومثله قوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} ، ليس المراد نفي الشفيع بقيد الطاعة بل نفيه مطلقا وإنما قيده بذلك لوجوه:.
أحدها: أنه تنكيل بالكفار لأن أحدا لا يشفع إلا بإذنه وإذا شفع يشفع لكن الشفاعة مختصة بالمؤمنين فكان نفى الشفيع المطاع تنبيها على حصوله لإضدادهم كقولك لمن يناظر شخصا ذا صديق نافع لقد حدثت صديقا نافعا وإنما تريد التنويه بما حصل لغيره لأن له صديقا ولم ينفع.
الثاني: أن الوصف اللازم للموصوف ليس بلازم أن يكون للتقييد بل يدل لأغراض من تحسينه أو تقبيحه نحو له مال يتمتع به وقوله تعالى: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا}{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

الثالث: قد يكون الشفيع غير مطاع في بعض الشفاعات وقد ورد في بعض الحديث ما يوهم صورة الشفاعة من غير إجابة كحديث الخليل مع والده يوم القيامة وإنما دل على التلازم دليل الشرع.
وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} أي من خوف الذل فنفي الولي لانتفاء خوف الذل فإن اتخاذ الولي فرع عن خوف الذل وسبب عنه.
وقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ، نفى الغلبة والمراد نفي اصل النوم والسنة عن ذاته ففي الآية التصريح بنفي النوم وقوعا وجوازا أما وقوعا فبقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} وأما جوازا فبقوله: {الْقَيُّومُ} وقد جمعهما قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام "
وقوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ} أي بما لا وجود له لأنه لو وجد لعلمه بوجود الوجوب تعلق علم الله بكل معلوم.
وقوله تعالى: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} ، على قول من نفى القبول لانتفاء سببه وهو التوبة لا يوجد توبة فيوجد قبول.
وعكسه: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ}، فإنه نفى لوجدان العهد لانتفاء سببه وهو الوفاء بالعهد.
وقوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}، أي من حجة أي لا حجة عليها فيستحيل إذن أن ينزل بها حجة.

ونظيره من السنة قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الدجال أعور والله ليس بأعور "، أي بذي جوارح كوامل بتخيل جوارح له نواقص.
ونظيره قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} ليس المراد أن كلمات الله تنفذ بعد نفاذ البحر بل لا تنفذ أبدا لا قبل نفاذ البحر، ولا بعده وحاصل الكلام لنفذ البحر ولا تنفذ كلمات ربي.
ووقع في شعر جرير قوله:
فيالك يوما خيره قبل شره ... تغيب واشيه وأقصر عاذله
قال الأصمعي: أنشدته كذلك لخلف الأحمر فقال: أصلحه:
فيالك يوما خيره دون شره ...
فإنه لا خير لخير بعده شر وما زال العلماء يصلحون أشعار العرب، قال الأصمعي: فقلت: والله لا ارويه أبدا إلا كما أوصيتني.

نقل ابن رشيق هذه الحكاية في العمدة وصوبها.
قال ابن المنير: ووقع لي أن الأصمعي وخلف الأحمر وابن رشيق أخطئوا جميعا وأصاب جرير وحده لأنه لم يرد إلا [فيالك يوم خير لا شر فيه] وأطلق[ قبل ]للنفي كما قلناها، في قوله تعالى: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} وقوله: {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}، فإن ظاهره نفي هذه الجوارح والحقيقة توجب نفي الآية عمن يكون له فضلا عمن لا يكون له.
وقوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، فالمراد لا ذاك ولا علمك به أي كلاهما غير ثابت.
وقوله: {بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً}، أي شركاء لا ثبوت لها أصلا ولا أنزل الله بإشراكها حجة وإنزال الحجة كلاهما منتف.
وقوله: {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ}، أي ما لاثبوت له ولا علم الله متعلقا به نفيا للملزوم وهو النيابة بنفي لازمه وهو وجوب كونه معلوما للعالم بالذات لو كان له ثبوت بأي اعتبار كان.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}.

أصله لن يتوبوا فلن يكون لهم قبول توبة فأوثر الإلحاق ذهابا إلى انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم وهو قبول التوبة الواجب في حكمه تعالى وتقدس.
وقوله: {ولا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً}، معلوم أنه لا إكراه على الفاحشة لمن لا يريد تحصنا لأنها نزلت فيمن يفعل ذلك.
ونظيره: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً}، وأكل الربا منهى عنه قليلا وكثيرا لكنها نزلت على سبب وهو فعلهم ذلك ولأنه مقام تشنيع عليهم وهو بالكثير أليق.
وقوله: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} الآية، المعنى آمنا بالله دون الأصنام وسائر ما يدعى إليه دونها إلا أنهم نفوا الإيمان بالملائكة والرسل والكتب المنزلة والدار الآخرة والأحكام الشرعية ولهذا أنه لما رد بقوله: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} بعد إثباته إيمانهم لأنه ضروري لا اختياري أوجب ألا يكون الكلام مسوقا لنفي أمور يراعي فيها الحصر والتقييد كقوله: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} فإنه لم يقدم المفعول في [ آمنا ] حيث لم يرد ذلك المعنى فركب تركيبا يوهم إفراد الإيمان بالرحمن عن سائر ما يلزم من الإيمان.
وقوله: {يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، فقيل من هذا الباب، فهي صفة لازمة وقيل التكبر قد يكون بحق وهو التنزه عن الفواحش والدنايا والتباعد من فعلها.
وأما قوله: {وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} فإن أريد بالبغي الظلم كان قوله {بِغَيْرِ الْحَقِّ} تأكيدا وإن أريد به الطلب كان قيدا.

قاعدة.
اعلم أن نفي العام يدل على نفي الخاص وثبوته لا يدل على ثبوته وثبوت الخاص يدل على ثبوت العام ولا يدل نفيه على نفيه ولا شك أن زيادة المفهوم من اللفظ توجب الالتذاذ به فلذلك كان نفي العام أحسن من نفي الخاص وإثبات الخاص أحسن من إثبات العام.
فالأول: كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل: [بضوئهم] بعد قوله: [ أضاءت ] لأن النور أعم من الضوء إذ يقال على القليل والكثير، وإنما يقال الضوء على النور الكثير ولذلك قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً} ففي الضوء دلالة على الزيادة فهو أخص من النور وعدمه لا يوجب عدم الضوء لاستلزام عدم العام عدم الخاص فهو أبلغ من الأول والغرض إزالة النور عنهم أصلا ألا ترى ذكره بعده .{وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ}.
وهاهنا دقيقة وهي أنه قال: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل:[ أذهب نورهم ] لأن الإذهاب بالشيء إشعار له بمنع عودته بخلاف الذهاب إذ يفهم من الكثير استصحابه في الذهاب ومقتضى منعه من الرجوع.
ومنه قوله تعالى: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالةٌ} ولم يقل:[ ضلال ] كما قالوا:.

{إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ} لأن نفي الواحد يلزم منه نفي الجنس البتة.
وقال الزمخشري: لأن الضلالة أخص من الضلال فكان أبلغ في نفي الضلال عنه، فكأنه قال: ليس به شيء من الضلال كما لو قيل: [لك] لك تمرة فقلت: ما لي تمرة.
ونازعه ابن المنير وقال: تعليله نفيها أبلغ [من نفي الضلال] لأنها أخص [منه] وهذا غير مستقيم فإن نفي الأعم أخص من نفي الأخص ونفي الأخص أعم من نفي الأعم فلا يستلزمه لأن الأعم لا يستلزم الأخص فإذا قلت هذا ليس بإنسان لم يلزم سلب الحيوانية عنه وإذا قلت هذا ليس بحيوان لم يكن إنسانا والحق أن يقال الضلالة أدنى من الضلال وأقل لأنها لا تطلق إلا على الفعلة الواحدة8 منه والضلال يصلح للقليل والكثير ونفي الأدنى أبلغ من نفي الأعلى لا من جهة كونه أخص بل من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.
والثاني: كقوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}، ولم يقل [طولها] لأن العرض أخص إذ كل ما له عرض فله طول ولا ينعكس. وأيضا إذا كان للشيء صفة يغني ذكرها عن ذكر صفة أخرى تدل عليها كان الاقتصار عليها أولى من ذكرها لأن ذكرها كالتكرار وهو ممل وإذا ذكرت فالأولى تأخير الدلالة على الأخرى حتى لا تكون المؤخرة قد تقدمت الدلالة عليها.

وقد يخل بذلك مقصود آخر كما في قوله: {وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} لأجل السجع وإذا كان ثبوت شيء أو نفيه يدل على ثبوت آخر أو نفيه كان الأولى الاقتصار على الدال على الآخر فإن ذكرت فالأولى تأخير الدال.
وقد يخل بذلك لمقصود آخر، كما في قوله تعالى: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} وعلى قياس ما قلنا ينبغي الاقتصار على صغيرة وإن ذكرت الكبيرة منها فلتذكر أولا.
وكذلك قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} وعلى ذلك القياس يكفي [لهما أف] أو يقول [ولا تنهرهما] [فلا تقل لهما أف] وإنما عدل عن ذلك للإهتمام بالنهي عن التأفيف والعناية بالنهي حتى كأنه قال: نهى عنه مرتين: مرة بالمفهوم وأخرى بالمنطوق.
وكذلك قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} فإن النوم غشية ثقيلة تقع علىالقلب تمنعه معرفة الأشياء والسنة مما يتقدمه من النعاس فلم يكتف بقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} دون ذكر النوم لئلا يتوهم أن السنة إنما لم تأخذه لضعفها ويتوهم أن النوم قد يأخذه لقوته فجمع بينهما لنفي التوهمين أو السنة في الرأس والنعاس في العين والنوم في القلب تلخيصه وهو منزه عن جميع المفترات ثم أكد نفي السنة والنوم بقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} لأنه خلقهما بما فيهما والمشاركة إنما تقع فيما فيهما ومن يكن له ما فيهما فمحال نومه ومشاركته إذ لو وجد شيء من ذلك لفسدتا بما فيهما وأيضا فإنه يلزم من نفي النسة نفي النوم أنه لم يقل لا ينام وإنما قال: {لا تَأْخُذُهُ}.

يعنى لا تغلبه فكأنه يقول لا يغلبه القليل ولا الكثير من النوم والأخذ في اللغة بمعنى القهر والغلبة ومنه سمى الأسير مأخوذا وأخيذا وزيدت [لا] في قوله: {وَلا نَوْمٌ} لنفيهما عنه بكل حال ولولاها لاحتمل أن يقال: لا تأخذه سنة ولا نوم في حال واحدة وإذا ذكرت صفات فإن كانت للمدح فالأولى الانتقال فيها من الأدنى إلى الأعلى ليكون المدح متزايدا بتزايد الكلام فيقولون: فقيه عالم وشجاع باسل وجواد فياض ولا يعكسون هذا لفساد المعنى لأنه لو تقدم الأبلغ لكان الثاني داخلا تحته فلم يكن لذكره معنى ولا يوصف بالعالم بعد الوصف بالعلام.
وقد اختلف الأدباء في الوصف بالفاضل والكامل أيهما أبلغ على ثلاثة أقوال:.
ثالثهما أنهما سواء قال الأقليشي: والحق أنك مهما نظرت إلى شخص فوجدته مع شرف العقل والنفس كريم الأخلاق والسجايا معتدل الأفعال وصفته بالكمال وإن وجدته وصل إلى هذه الرتب بالكسب والمجاهدة وإماطة الرذائل وصفته بالفضل وهذا يقتضي أنهما متضادان فلا يوصف الشخص الواحد بهما ألا بتجوز.
وقال ابن عبد السلام في قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} إنما قدم الغيب مع أن علم المغيبات أشرف من المشاهدات والتمدح به أعظم وعلم البيان يقتضي تأخير الأمدح وأجاب بأن المشاهدات له أكثر من الغائب عنا والعلم يشرف بكثرة متعلقاته فكان تأخير الشهادة أولى.
وقول الشيخ: إن المشاهدات له أكثر فيه نظر بل في غيبه ما لايحصى: {وَيَخْلُقُ

مَا لا تَعْلَمُونَ} ، وإنما الجواب أن الانتقال للأمدح ترق فالمقصود هنا بيان أن الغيب والشهادة في علمه سواء فنزل الترقي في اللفظ منزلة ترق في المعنى لإفادة استوائهما في علمه تعالى. ويوضحه قوله تعالى: { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} فصرح بالاستواء.
هذا كله في الصفات وأما الموصوفات فعلى العكس من ذلك فإنك تبدأ بالأفضل فتقول: قام الأمير ونائبه وكاتبه قال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} الآية. فقدم الخيل لأنها أحمد وأفضل من البغال وقدم البغال على الحمير لذلك أيضا.
فإن قلت: قاعدة الصفات منقوضة بالقاعدة الأخرى وهي أنهم يقدمون الأهم فالأهم في كلامهم كما نص عليه سيبويه وغيره.
وقال الشاعر:
أبي دهرنا إسعافنا في نفوسنا ... وأسعفنا فيمن نحب ونكرم
فقلت له نعماك فيهم أتمها ... ودع أمرنا إن المهم المقدم
قلت: المراد بقوله:" فقدم الأهم فالأهم "فيما إذا كانا شيئين متغايرين مقصودين وأحدهما أهم من الاخر فإنه يقدم وأما تأخر الأمدح في الصفات فذلك فيما إذا كانتا صفتين لشيء واحد فلو أخرنا الأمدح لكان تقديم الأول نوعا من العبث.
هذا كله في صفات المدح فإن كانت للذم فقد قالوا ينبغي الابتداء بالأشد ذما كقوله تعالى: {مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}قال ابن النفيس: في كتاب.

"طريق الفصاحة": وهو عندي مشكل ولم يذكر توجيهه.
وقال حازم في "منهاجه": يبدأ في الحسن بما ظهور الحسن فيه أوضح وما النفس بتقديمه أعنى ويبدأ في الذم بما ظهور القبح فيه أوضح والنفس بالالتفات إليه أعنى ويتنقل في الشيء إلى ما يليه من المزية في ذلك ويكون بمنزلة المصور الذين يصور أولا ما حل من رسوم تخطيط الشيء ثم ينتقل إلى الأدق فالأدق.
فائدة:.
نفي الاستطاعة قد يراد به نفي الامتناع أو عدم إمكان وقوع الفعل مع إمكانه نحو هل تستطيع أن تكلمني ؟ بمعنى هل تفعل ذلك وأنت تعلم أنه قادر على الفعل ؟ وقد حمل قوله تعالى حكاية عن الحواريين: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} على المعنى الأول أي هل يجيبنا إليه ؟ أو هل يفعل ربك ؟ وقد علموا أن الله قادر على الإنزال وأن عيسى قادر على السؤال وإنما استفهموا هل هنا صارف أو مانع ؟.
وقوله: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} {فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً} وقد يراد به الوقوع بمشقة وكلفة كقوله تعالى: {لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}.

فائدة:.
قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} قالوا: المجاز يصح نفيه بخلاف الحقيقة لا يقال للأسد: ليس بشجاع.
وأجيب بأن المراد بالرمي هنا المرتب عليه وهو وصوله إلى الكفار قالوا رد عليه السلب هنا مجاز لا حقيقة والتقدير: وما رميت خلقا إذ رميت كسبا أو ما رميت أنتهاء إذ رميت ابتداء وما رميت مجازا إذ رميت حقيقة.

إخراج الكلام مخرج الشك في اللفظ دون الحقيقة لضرب من المسامحة وحسم العناد.
كقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وهو يعلم أنه على لهدى وأنهم على الضلال لكنه أخرج الكلام مخرج الشك تقاضيا ومسامحة ولا شك عنده ولا ارتياب.
وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}.
ونحوه: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}. أورده على طريق الاستفهام والمعنى هل يتوقع منكم إن توليتم أمور الناس وتأمرتم عليهم لما تبين لكم من المشاهد ولاح منكم في المخايل: {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} تهالكا على الدنيا ؟.
وإنما أورد الكلام في الآية على طريق سوق غير المعلوم سياق غيره ليؤديهم التأمل في التوقع عمن يتصف بذلك إلى ما يجب أن يكون مسببا عنه من أولئك الذين أصمهم الله وأعمى أبصارهم فيلزمهم به على ألطف وجه إبقاء عليهم من أن يفاجئهم به وتأليفا لقلوبهم ولذلك التفت عن الخطاب إلى الغيبة تفاديا عن مواجهتهم بذلك.
وقد يخرج الواجب في صورة الممكن كقوله تعالى :{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}.
{فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ}.

و{عسى ربكم أن يرحمكم}.
{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ }.
وقد يخرج الإطلاق في صورة التقييد كقوله: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ}.
ومنه قوله تعالى حاكيا عن شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} فالمعنى لا يكون أبدا من حيث علقه بمشيئة الله لما كان معلوما أنه يشاؤه إذ يستحيل ذلك على الأنبياء وكل أمر قد علق بما لايكون فقد نفى كونه على أبعد الوجوه.
وقال قطرب: في الكلام تقديم وتأخير والاستثناء من الكفار لا من شعيب والمعنى: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا إلا أن يشاء الله أن تعودوا في ملتهم. ثم قال تعالى حاكيا عن شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} على كل حال.
وقيل: الهاء عائدة إلى القرية لا إلى الله.

الإعراض عن صريح الحكم.
كقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، أعرض عن ذكر مقدار الجزاء والثواب وذكر ما هو معلوم مشترك بين جميع أعمال البشر تفخيما لمقدار الجزاء لما فيه من إبهام المقدار وتنزيلا له منزلة ما هو غير محتاج إلى بيانه على حد [فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله] أعرض عن ذكر الجزاء إلى إعادة الشرط تنبيها على عظم ما ينال وتفخيما لبيان ما أتى به من العمل فصار السكوت عن مرتبة الثواب أبلغ من ذكرها.
وكقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} وهذه الآية تتضمن الرجوع والبقاء والجمع ألا تراه كيف رجع بعد ذكره المبتدأ الذي هو الذين عن ذكر خبره إلى الشروع في كلام آخر فبنى مبتدأ على مبتدأ وجمع والمعنى قوله: {إِنَّا لا نُضِيعُ} من خبر المبتدأ الأول وتقديره: إنا لانضيع أجرهم لأنا لا نضيع أجر من أحسن عملا.

الهدم.
وهو أن يأتي الغير بكلام يتضمن معنى فتأتي بضده فإنك قد هدمت ما بناه المتكلم الأول، كقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} هدمه بقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} وبقوله: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} وبقوله: {فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ}، تقديره إن كنتم صادقين في دعواكم.
ومنه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} هدمه بقوله: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ } وقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ}.
منه: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ } هدمه بقوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} أي في دعواهم الشهادة.

التوسع.
منه الاستدلال بالنظر في الملكوت، كقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
ويكثر ذلك في تقديرات العقائد الإلهية: لتتمكن في النفوس، كقوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} وذلك بعد ذكر النطفة وتقلبها في مراتب الوجود وتطورات الخلقة.
وكقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
ومنه التوسع في ترادف الصفات، كقوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}، فإنه لو أريد اختصاره لكان :{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} مظلم.
ومنه التوسع في الذم،كقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} إلى قوله: {عَلَى الْخُرْطُومِ}.

التشبيه.
اتفق الأدباء على شرفه في أنواع البلاغة وأنه إذا جاء في أعقاب المعاني أفادها كمالا وكساها حلة وجمالا قال المبرد في "الكامل": هو جار في كلام العرب حتى لو قال قائل: هو أكثر كلامهم لم يبعد. وقد صنف فيه أبو القاسم ابن البنداري البغدادي كتاب "الجمان في تشبهيات القرآن".
مباحث التشبيه.
وفيه مباحث:.
الأول: في تعريفه.
وهو إلحاق شيء بذي وصف في وصفه.
وقيل: أن تثبت للمشبه حكما من أحكام المشبه به.
وقيل: الدلالة على اشتراك شيئين في وصف هو من أوصاف الشيء الواحد كالطيب في المسك والضياء في الشمس والنور في القمر. وهو حكم إضافي لا يرد إلا بين الشيئين بخلاف الاستعارة.

الثاني: في الغرض منه.
وهو تأنيس النفس بإخراجها من خفي إلى جلي وإدنائه البعيد من القريب ليفيد بيانا.
وقيل: الكشف عن المعنى المقصود مع الاختصار فإنك إذا قلت: زيد أسد كان الغرض بيان حال زيد وأنه متصف بقوة البطش والشجاعة وغير ذلك إلا أنا لم نجد شيئا يدل عليه سوى جعلنا إياه شبيها بالأسد حيث كانت هذه الصفات مختصة به فصار هذا أبين وأبلغ من قولنا زيد شهم شجاع قوى البطش ونحوه.
الثالث: في أنه حقيقة أو مجاز.
والمحققون على أنه حقيقة قال الزنجاني في "المعيار": التشبيه ليس بمجاز لأنه معنى من المعاني وله ألفاظ تدل عليه وضعا فليس فيه نقل اللفظ عن موضوعه وإنما هو توطئة لمن سلك سبيل الاستعارة والتمثيل لأنه كالأصل لهما وهما كالفرع له.
والذي يقع منه في حيز المجاز عند البيانيين هو الذي يجيء على حد الاستعارة.
وتوسط الشيخ عز الدين فقال: إن كان بحرف فهو حقيقة أو بحذفه فمجاز بناء على أن الحذف من باب المجاز.

الرابع: في أدواته.
وهي أسماء وأفعال وحروف.
فالأسماء: مثل وشبه ونحوهما قال تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى} {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً}{إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا}.
والأفعال: كقوله: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}.
والحروف إما بسيطة كالكاف، نحو: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ}{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} وإما مركبة، كقوله تعالى: {كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ}.
الخامس: في أقسامه.
وهو ينقسم باعتبارات:.
الأول: أنه إما أن يشبه بحرف أولا.
وتشبيه الحرف ضربان:.
أحدهما: يدخل عليه حرف التشبيه فقط، كقوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} وقوله: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ}.

{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}.
{خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}.
{وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ}.
{وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}.
وثانيها: أن يضاف إلى حرف التشبيه حرف مؤكد ليكون ذلك علما على قوة التشبيه وتأكيده وكقوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ}.
{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ}.
{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}.
{تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ}.
{كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}.
فإن قيل كيف استرسل أهل الجنة وقوله: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} ولا شك أنه ليس به واحترزت بلقيس فقالت: {كَأَنَّهُ هُوَ} ولم تقل: هو هو ؟.
قيل: أهل الجنة وثقوا بأن الغرض مفهوم وأن أحدا لا يعتقد في الحاضر أنه عين المستهلك الماضي وأما بلقيس فالتبس عليها الأمر وظنت أنه يشبهه،.

لأنها بَنَتْ على العادة وهو أن السرير لا ينتقل من إقليم إلى آخر في طرفة عين.
وأما التشبيه بغير حرف، فيقصد به المبالغة تنزيلا للثاني منزلة الأول تجوزا، كقوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}.
وقوله: {وَسِرَاجاً مُنِيراً}.
وقوله: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}.
وكذلك: {تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ}.
وجعل الفارسي منه قوله تعالى: {قَوَارِيرَا. قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} أي كأنها في بياضها من فضة فهو على التشبيه لا على أن القوارير من فضة بدليل قوله: {بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ}، فقوله:[ بيضاء ] مثل قوله:[ من فضة ].
تنبيهان:.
الأول: هذا القسم يشبه الاستعارة في بعض المواضع والفرق بينهما -كما قاله حازم وغيره - أن الاستعارة وإن كان فيها معنى التشبيه فتقدير حرف التشبيه لا يجوز فيها والتشبيه بغير حرف على خلاف ذلك لأن تقدير حرف التشبيه واجب فيه.
وقال الرماني في قوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} أي تبصره لأنه لا يجوز تقدير حرف التشبيه فيها.

وقد اختلف البيانيون في نحو قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} إنه تشبيه بليغ أو استعارة ؟ والمحققون -كما قاله الزمخشري - على الأول قال: لأن المستعار له مذكور - وهم المنافقون - أي مذكور في تقدير الآية والاستعارة لا يذكر فيها المستعار له ويجعل الكلام خلوا عنه بحيث يصلح لأن يراد به المنقول عنه و[ المنقول] إليه لولا لا قرينة ومن ثم ترى المفلقين السحرة منهم كأنهم يتناسون التشبيه ويضربون عنه صفحا.
وقال السكاكي: لأن من شرط الاستعارة إمكان حمل الكلام على الحقيقة في الظاهر وتناسى التشبيه وزيد أسد لا يمكن كونه حقيقة فلا يجوز أن يكون استعارة.
الثاني: قد يترك التشبيه لفظا ويراد معنى إذ لم يرد معنى ولم يكن منويا كان استعارة.
مثاله قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}، فهذا تشبيه لا استعارة لذكر الطرفين الخيط الأسود وهو ما يمتد معه من غسق الليل شبيها بخيط أسود وابيض وبينا بقوله: {مِنَ الْفَجْرِ} والفجر - وإن كان بيانا للخيط الأبيض - لكن لما كان أحدهما بيانا للآخر لدلالته عليه اكتفى به عنه ولولا البيان كان من باب الاستعارة كما أن قولك رايت أسدا استعارة فإذا زدت من فلان، صار تشبيها وأما أنه لم زيد [من الفجر] حتى صار تشبيها ؟ وهلا اقتصر به.

على الاستعارة التي هي أبلغ فلأن شرط الاستعارة أن يدل عليه الحال ولو لم يذكر [من الفجر] لم يعلم أن الخيطين مستعاران من [بدا الفجر] فصار تشبيها.
التقسيم الثاني.
ينقسم باعتبار طرفيه إلى أربعة أقسام، لأنهما:.
إما حسيان، كقوله تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} وقوله: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ}.
أو عقليان، كقوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}.
وإما تشبيه المعقول بالمحسوس، كقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ} وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ}، وقوله: { كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} لأن حملهم التوراة ليس كالحمل على العاتق إنما هو القيام بما فيها.
أما عكسه فمنعه الإمام، لأن العقل مستفاد من الحس ولذلك قيل: من فقد حسا فقد فقد علما وإذا كان ان المحسوس أصلا للمعقول فتشبيهه به يستلزم جعل الأصل فرعا والفرع أصلا وهو غير جائز.

وأجازة غيره كقوله:
وكأن النجوم بين دجاه ... سنن لاح بينهن ابتداع
وينقسم باعتبار آخر إلى خمسة أقسام:.
الأول: قد يشبه ما تقع عليه الحاسة بما لا تقع اعتمادا على معرفة النقيض والضد فإن إدراكهما ابلغ من إدراك الحاسة كقوله تعالى: {كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ}، فشبه بما لا نشك أنه منكر قبيح لما حصل في نفوس الناس من بشاعة صور الشياطين وإن لم ترها عيانا.
الثاني: عكسه كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} أخرج ما لا يحس - وهو الإيمان - إلى ما يحس - وهو السراب - والمعنى الجامع بطلان التوهم بين شدة الحاجة وعظم الفاقة.
الثالث: إخرج ما لم تجر العادة به إلى ما جرت به، نحو: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}، والجامع بينهما الانتفاع بالصورة. وكذا قوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} والجامع البهجة والزينة ثم الهلاك وفيه العبرة.
الرابع: إخراج ما لا يعرف بالبديهة إلى ما يعرف بها كقوله: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} الجامع العظم وفائدته التشويق إلى الجنة بحسن الصفة.

الخامس: إخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوة فيها كقوله: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} والجامع فيهما العظم والفائدة البيان عن القدرة على تسخير الأجسام العظام في أعظم ما يكون من الماء.
وعلى هذه الأوجه تجري تشبيهات القرآن.
التقسيم الثالث.
ينقسم إلى مفرد ومركب:.
والمركب: أن ينزع من أمور مجموع بعضها إلى بعض، كقوله تعالى :{كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} فالتشبيه مركب من أحوال الحمار وذلك هو حمل الأسفار التي هي أوعية العلم وخزائن ثمرة العقول ثم لا يحسن ما فيها ولا يفرق بينها وبين سائر الأحمال التي ليست من العلم في شيء فليس له مما يحمل حظ سوى أنه يثقل عليه ويتعبه.
وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً}.
وقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} قال بعضهم: شبه الدنيا بالماء ووجه الشبه أمران: أحدهما: أن الماء إذا أخذت منه فوق حاجتك تضررت وإن أخذت قدر الحاجة انتفعت به فكذلك الدنيا. وثانيهما: أن الماء إذا أطبقت كفك عليه لتحفظه لم يحصل فيه شيء فكذلك الدنيا وليس المراد تشبيهها بالماء وحده بل المراد تشبيهه بهجةالدنيا في قلة البقاء والدوام بأنيق النبات الذي يصير بعد تلك البهجة والغضاضة والطراوة إلى ما ذكر.

ومن تشبيه المفرد بالمركب قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} فإنه سبحانه أراد تشبيه نوره الذي يلقيه في قلب المؤمن ثم مثله بمصباح ثم لم يقنع بكل مصباح بل بمصباح اجتمعت فيه أسباب الإضاءة بوضعه في مشكاة وهي الطاقة غير النافذة وكونها لا تنفذ لتكون أجمع للتبصر وقد جعل فيها مصباح في داخل زجاجة فيه الكوكب الدري في صفاتها وذهن المصباح من أصفى الأدهان وأقواها وقودا لأنه من زيت شجر في أوسط الزجاج لا شرقية ولا غربية فلا تصيبها الشمس في أحد طرفي النهار بل تصيبها أعدل إصابة.
وهذا مثل ضربه الله للمؤمن ثم ضرب للكافر مثلين: أحدهما: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ}، والثاني: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} شبه في الأول ما يعلمه من لا يقدر الإيمان المعتبر بالأعمال التي يحسبها بقيعة ثم يخيب أمله بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش يوم القيامة فيجيئه فلا يجده ماء ويجد زبانية الله عنده فيأخذونه فيلقونه إلى جهنم.
البحث السادس.
ينتظم قواعد تتعلق بالتشبيه.
الأولى: قد تشبه أشياء باشياء ثم تارة يصرح بذكر المشبهات كقوله تعالى:.

{وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيء} وتارة لا يصرح به بل يجيء مطويا على سنن الاستعارة كقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ}،{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} الآية.
قال الزمخشري: والذي عليه علماء البيان أن التمثيلين جميعا من جملة التمثيلات المركبة لا المفردة بيانه أن العرب تأخذ أشياء فرادى [معزولا بعضها من بعض لم يأخذ هذا بحجزه ذاك] فتشبهها بنظائرها كما ذكرنا، وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء تضامت حتى صارت شيئا واحدا بأخرى كقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} الآية.
ونظائره من حيث اجتمعت تشبيهات كما في تمثيل الله حال المنافقين أول سورة البقرة، قال الزمخشري: وأبلغه الثاني لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته ولذلك أخر قال وهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ.
الثانية: أعلى مراتب التشبيه في الأبلغية ترك وجه الشبه وأداتة نحو زيد أسد أما ترك وجهه وحده فكقوله زيد كالأسد وأما ترك أداته وحدها فكقوله: زيد الأسد شدة.
وفي كلام صاحب "المفتاح" إشارة إلى أن ترك وجه الشبه أبلغ من ترك أداتة قال: لعموم وجه الشبه.

وخالفه صاحب "ضوء المصباح" لأنه إذا عم واحتمل التعدد ولم تبق دلالته على ما به الاشتراك دلالة منطوق بل دلالة مفهوم فيحتمل أن يكون ما به الاشتراك صفة ذم لا مدح وهو غير لازم في ترك الأداة إلا أن يقال يلزم مثله من تركها لأن قرينة ترك الأداة تصرف إرادة المدح دون الذم.
وذكرهما كقولك: زيد كالأسد شدة.
الثالثة: قد تدخل الاداة على شيء وليس هو عين المشبه ولكنه ملتبس به واعتمد على فهم المخاطب كما قال تعالى: {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } الآية. المراد: كونوا أنصار الله خالصين في الانقياد كشأن مخاطبي عيسى إذ قالوا.
ومما دل على السياق قوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} وفيه زيادة وهو تشبيه الخارق بالمعتاد.
الرابعة: إذا كانت فائدته إنما هي تقريب الشبه في فهم السامع وإيضاحه له فحقه أن يكون وجه الشبه في المشبه به أتم والقصد التنبيه بالأدنى على الأعلى مثل قياس النحوي ولا سيما إذا كان الدنو جدا أو العلو جدا وعليه بنى المعري قوله:
ظلمناك في تشبيه صدغيك بالمسك ... وقاعدة التشبيه نقصان ما يحكى
وقول آخر:
كالبحر والكاف أني ضفت زائدة ... فيه فلا تظنها كاف تشبيه

وأما قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} فيمكن أن يكون المشبه به أقوى لكونه في الذهن أوضح إذ الإحاطة به أتم.
وأما قوله تعالى :{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} فهو من تشبيه الغريب بالأغرب لأن خلق آدم من خلق عيسى ليكون أقطع للخصم وأوقع في النفس وفيه دليل على جواز القياس وهو رد فرع إلى أصل لشبه ما لأن عيسى رد إلى آدم لشبه بينهما والمعنى أن آدم خلق من تراب ولم يكن له أب ولا أم فكذلك خلق عيسى من غير أب.
وقوله: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} شبههم بالخشب لأنه لا روح فيها وبالمسندة لأنه لا انتفاع بالخشب في حال تسنيده.
الخامسة: الأصل دخول أداة التشبيه على المشبه به وهو الكامل كقولك: ليس الفضة كالذهب وليس العبد كالحر وقد تدخل على المشبه لأسباب:.
منها وضوح الحال، كقوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} فإن الأصل وليس الأنثى كالذكر وإنما عدل عن الأصل لأن معنى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ} الذي طلبت {كَالأُنْثَى} التي وهبت لها لأن الأنثى أفضل منه وقيل: لمراعاة الفواصل لأن قبله: {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى}.
ووهم ابن الزملكاني في "البرهان" حيث زعم أن هذا من التشبيه المقلوب وليس كذلك لما ذكرنا من المعنى.

وقيل: لما كان جعل الفرع أصلا والأصل فرعا في التشبيه في حالة الإثبات يقتضى المبالغة في التشبيه كقولهم: القمر كوجه زيد والبحر ككفيه كان جعل الأصل فرعا والفرح أصلا في كماله الذي يقتضى نفي المبالغة في المشابهة لا نفي المشابهة وذلك هو المقصود هنا لأن المشابهة واقعة بين الذكر والآنثى في أعم الأوصاف وأغلبها ولهذا يقاد أحدهما بالآخر.
ومنها قصد المبالغة، فيقلب التشبيه ويجعل المشبه هو الأصل ويسمى تشبيه العكس لاشتماله على جعل المشبه مشبها به والمشبه به مشبها، كقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} كان الأصل أن يقولوا: إنما الربا مثل البيع لأن الكلام في الربا لا في البيع لكن عدلوا عن ذلك وتجرءوا إذ جعلوا الربا أصلا ملحقا به البيع في الجواز وأنه الخليق بالحل.
ويحتمل أن يكون المراد إلزام الإسلام فيحرم البيع قياسا على الربا لاشتماله على الفضل طردا لأصلهم وهو في المعنى نقض على علة التحريم ويؤيده قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} وفيه إشارة إلى أن الواجب اتباع أحكام الله واقتفاؤها من غير تعرض لإجرائها على قانون واحد وأن الأسرار الإلهية كثيرا ما تخفى وهو اعلم بمصالح عباده فيسلم له عنان الانقياد وأنهم جعلوا ذلك من باب إلزام الجدلي وجاء الجواب بفك الملازمة وأن الحكمة فرقت بينهما وفيه إبطال القياس في مقابلة النص.
ومنه قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} فإن الظاهر العكس لأن.

الخطاب لعبدة الأوثان وسموها آلهة تشبهيا بالله سبحانه وقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق فخولف في خطابهم لأنهم بالغوا في عبادتهم وغلوا حتى صارت عندهم أصلا في العبادة والخالق سبحانه فرعا فجاء الإشكال على وفق ذلك.
والظاهر أنهم لما قاسوا غير الخالق خوطبوا بأشد الإلزامين وهو تنقيص المقدس لا تقديس الناقص.
قال السكاكي: وعندي أن المراد بـ[من لا يخلق] الحي القادر من الخلق تعريضا بإنكار تشبيه الأصنام بالله تعالى من طريق الأولى. وجعل منه قوله تعالى :{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} بدل [هواه إلهه] فإنه جعل المفعول الأول ثانيا والثاني أولا للتنبيه على أن الهوى أقوى وأوثق عنده من إلاهه.
ومنه قوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}.
وقوله: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}، فإن بعضهم أورد أن أصل التشبيه يشبه الأدنى بالأعلى فيقال: [ أفتجعل المجرمين كالمسلمين والفجار كالمتقين ] فلم خولفت القاعدة !.
ويقال: فيه وجهان:.
أحدهما: أن الكفار كانوا يقولون: نحن نسود في الآخرة كما نسود في الدنيا ويكونون أتباعا لنا فكما أعزنا الله في هذه الدار يعزنا في الآخرة فجاء الجواب على معتقدهم أنهم أعلى وغيرهم أدنى.
الثاني: لما قيل قبل الآية: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ.

ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي يظنون أن الأمر يهمل وأن لا حشر ولا نشر أم لم يظنوا ذلك ولكن يظنون أنا نجعل المؤمنين كالمجرمين والمتقين كالفجار.
السادسة: أن التشبيه في الذم يشبه الأعلى بالأدنى، لأن الذم مقام الأدنى والأعلى ظاهر عليه فيشبه به في السلب ومنه قوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ}، أي في النزول لا في العلو.
ومنه: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} أي في سوء الحال وإذا كان في المدح يشبه الأدنى بالأعلى فيقال: تراب كالمسك وحصى كالياقوت وفي الذم مسك كالتراب وياقوت كالزجاج.
السابعة: قد يدخل التشبيه على لفظ وهو محذوف لامتناع ذلك، لأنه بسبب المحذوف كقوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ}.
فإن التقدير: ومثل واعظ الذين كفروا فالمشبه الواعظ والمقصود تشبيه حال الواعظ منهم بالناعق للأغنام وهي لا تعقل معنى دعائه وإنما تسمع صوته ولا تفهم غرضه وإنما وقع التشبيه على الغنم التي ينعق بها الراعي ويمد صوته إليها وفيه وجوه:.
أحدها: أن المعنى مثل الذين كفروا كمثل الغنم لا تفهم نداء الناعق فأضاف المثل إلى الناعق وهو في المعنى للمنعوق به على القلب.
ثانيها: ومثل الذين كفروا ومثلنا ومثل مثلك الذي ينعق أي مثلهم في الإعراض.

ومثلنا في الدعاء والإرشاد كمثل الناعق بالغنم فحذف المثل الثاني اكتفاء بالأول كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}.
وثالثها: أن المعنى: ومثل الذين كفروا في دعائهم الاصنام وهي لا تعقل ولا تسمع كمثل الذي ينعق بما لا يسمع وعلى هذا فالنداء والدعاء منتصبان بـ[ينعق] و[لا] توكيد للكلام ومعناها الإلغاء.
رابعها: أن المعنى ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام وعبادتهم لها واسترزاقهم إياها كمثال الراعي الذي ينعق بغنمه ويناديها فهي تسمع نداء ولا تفهم معنى كلامه فيشبه من يدعوه الكفار من المعبودات من دون الله بالغنم من حيث لا تعقل الخطاب.
وهذا قريب من الذي قبله ويفترقان في أن الأول يقتضي ضرب المثل بما لا يسمع الدعاء والنداء جملة ويجب صرفه إلى غير الغنم وهذا يقتضي ضرب المثل بما لا يسمع الدعاء والنداء جملة وإن لم يفهمهما والأصنام - من حيث كانت لا تسمع الدعاء جملة - يجب أن يكون داعيها وناديها أسوأ حالا من منادى الغنم ذكر ذلك الشريف المرتضى في كتاب "غرر الفوائد".
ومنه قوله تعالى: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ..} الآية، وإنما وقع التشبيه على الحرث الذي أهلكته الريح قيل فيه إضمار أي مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح.
قال ثعلب: فيه تقديم وتأخير، أي كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم أصابته ريح فيها صر فأهلكته.

وأما قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، فإن التقدير: كما يحب المؤمنون الله قال: وحذف الفاعل لأنه غير ملتبس.
واعترض عليه بأنه لا حاجة لذلك فإن المعنى حاصل بتقديره مبنيا للفاعل.
وأجيب بأنه تقدير معنى لكن محافظة على اللفظ فلا يقدر الفاعل إذ الفاعل في باب المصدر فضلة فلذلك جعله كذلك في التقدير.

الاستعارة.
هي من أنواع البلاغة وهي كثيرة في القرآن ومنهم من أنكره بناء على إنكار المجاز في القرآن والاستعارة مجاز وقد سبق تقديره. ومنع القاضي عبد الوهاب المالكي إطلاق لفظ الاستعارة فيه لأن فيها إيهاما للحاجة وهكذا كما منع بعضهم لفظ القرآن مخلوق وهو لا ينكر وقوع المجاز والاستعارة فيه إنما توقف على إذن الشرع.
ولا شك أن المجوزين للإطلاق شرطوا عدم الإبهام وقد يمنعون الإبهام المذكور لأنه في الاصطلاح اسم لأعلى مراتب الفصاحة.
وقال الطرطوسي: إن أطلق المسلمون الاستعارة فيه أطلقناها وإن امتنعوا امتنعنا ويكون هذا من قبيل أن الله تعالى عالم والعلم هو العقل ثم لا نصفه به لعدم التوقيف. انتهى.
والمشهور تجويز الإطلاق.
مباحث الاستعارة.
ثم فيها مباحث:.
الأول: وهي "استفعال"، من العارية، ثم نقلت إلى نوع من التخييل لقصد المبالغة.

في التخييل والتشبيه مع الإيجاز نحو لقيت أسدا وتعنى به الشجاع.
وحقيقتها أن تستعار الكلمة من شيء معروف بها إل شيء لم يعرف بها وحكمه ذلك إظهار الخفي وإيضاح الظاهر الذي ليس بجلي أو بحصول المبالغة أو للمجموع.
فمثال إظهار الخفي، قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ}، فإن حقيقته أنه في أصل الكتاب فاستعير لفظ [الأم] للأصل لأن الأولاد تنشأ من الأم كما تنشأ الفروع من الأصول. وحكمة ذلك تمثيل ما ليس بمرئي حتى يصير مرئيا فينتقل السامع من حد السماع إلى حد العيان وذلك أبلغ في البيان.
ومثال إيضاح ما ليس بجلي ليصير جليا، قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} لأن المراد أمر الولد بالذل لوالديه رحمة فاستعير للولد أولا جانب ثم للجانب جناح وتقدير الاستعارة القريبة:[ واخفض لهما جانب الذل ] أي اخفض جانبك ذلا.
وحكمة الاستعارة في هذاجعل ما ليس بمرئي مرئيا لأجل حسن البيان ولما كان المراد خفض جانب الولد للوالدين بحيث لا يبقى الولد من الذل لهما والاستكانة مركبا احتيج من الاستعارة إلى ما هو أبلغ من الأولى فاستعير الجناح لما فيه من المعاني التي لا تحصل من خفض الجناح لأن من ميل جانبه إلى جهة السفل أدنى ميل صدق عليه أنه خفض جانبه المراد خفض يلصق الجنب بالإبط ولا يحصل ذلك إلا بخفض الجناح كالطائر وأما قول أبي تمام:
لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي
فيقال: إنه أرسل إليه قارورة وقال: ابعث إلى فيها شيئا من ماء الملام فأرسل.

أبو تمام: أن ابعث لي ريشة من جناح الذل أبعث إليك من ماء الملام.
وهذا لا يصح له تعلق به والفرق بين التشبيهين ظاهر لأنه ليس جعل الجناح للذل كجعل الماء للملام فإن الجناح للذل مناسب فإن الطائر إذا وهى وتعب بسط جناحه وألقى نفسه إلى الأرض. وللإنسان أيضا جناح فإن يديه جناحاه وإذا خضع واستكان يطأطىء من رأسه وخفض من بين يديه فحسن عند ذلك جعل الجناح للذل وصار شبها مناسبا وأما ماء الملام فليس كذلك في مناسبة التشبيه فلذلك استهجن منه على أنه قد يقال إن الاستعارة التخييلية فيه تابعة للاستعارة بالكناية فإن تشبيه الملام بظرف الشراب لاشتماله على ما يكرهه الشارب لمرارته ثم استعار الملام له كمائه ثم يخرج منه شيء يشبه بالماء فالاستعارة في اسم الماء.
الثاني: في أنها قسم من أقسام المجاز لاستعمال اللفظ في غير ما وضع له.
وقال الإمام فخر الدين: ليس بمجاز لعدم النقل. وفي الحقيقة هي تشبيه محذوف الأداة لفظا وتقديرا ولهذا حدها بعضهم بادعاء معنى الحقيقة في الشيء مبالغة في التشبيه. كقولهم: انشقت عصاهم إذا تفرقوا وذلك للعصا لا للقوم ويقولون: كشفت الحرب عن ساق.
ويفترقان في أن التشبيه إذا ذكرت معه الأداة فلا خفاء أنه تشبيه وإن حذفت فهذا يلتبس بالاستعارة فإذا ذكرت المشبه كقولك: زيد الأسد فهذا تشبيه بليغ كقوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}، إن لم يذكر المشبه به فهو استعارة كقوله:
لدى أسد شاكي السلاح مقذف
له لبد أظفاره لم تقلم

فهذه استعارة نقلت لها وصف الشجاع إلى عبارة صالحة للأسد لولا قرينة السلاح لشككت هل أراد الرجل الشجاع أو الأسد الضاري ؟.
الثالث: لا بد فيها من ثلاثة أشياء أصول: مستعار، ومستعار منه، وهو اللفظ، ومستعار له وهو المعنى، ففي قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} المستعار الاشتعال، المستعار منه النار، والمستعار له الشيب، والجامع بين المستعار منه والمستعار له مشابهة ضوء النهار لبياض الشيب.
وفائدة ذلك وحكمته وصف ما هو أخفى بالنسبة إلى ما هو أظهر. وأصل الكلام أن يقال: واشتعل شيب الرأس وأنما قلب للمبالغة لأنه يستفاد منه عموم الشيب لجميع الرأس ولو جاء الكلام على وجهه لم يفد ذلك العموم. ولا يخفى أنه أبلغ من قولك كثر الشيب في الرأس وإن كان ذلك حقيقة المعنى والحق أن المعنى يعار أولا ثم بواسطته يعار اللفظ ولا تحسن الاستعارة إلا حيث كان الشبه مقررا بينهما ظاهرا وإلا فلا بد من التصريح بالشبه فلو قلت: رأيت نخلة أو خامة وأنت تريد مؤمنا إشارة إلى قوله: " مثل المؤمن كمثل النخلة " أو " الخامة " لكنت كالملغز.
ومن أحسن الاستعارة قوله تعالى :{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} وحقيقته [بدأ انتشاره] و[تنفس] أبلغ فإن ظهور الأنوار في المشرق من أشعة الشمس قليلا قليلا بينه وبين إخراج النفس مشاركة شديدة.

وقوله: {الليل نسلخ منه النهار} ، لأن انسلاخ الشيء عن الشيء أن يبرأ منه ويزول عنه حالا فحالا كذلك انفصال الليل عن النهار والانسلاخ أبلغ من الانفصال لما فيه من زيادة البيان.
وقوله: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}.
{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}.
وقوله: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} ، ويقولون للرجل المذموم: إنما هو حمار.
وقوله: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ}.
{أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ}، أي في الخلق الجديد.
{بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ}.
{خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}.
{لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ}.
{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}.
{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ}.
{وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}.

{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ}.
{أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ}، والمراد حفظهم وما يحصل لهم.
وقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ}، أي أتمها كما أمرت.
{إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ}، أي عصمك منهم، رواه شعبة عن أبي وجاء عن الحسن.
{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ}.
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}.
{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ}.
{فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً}.
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}، فالدمغ والقذف مستعار.
{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ}، يريد لا إحساس بها من غير صمم.
وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} ، فإنه أبلغ من بلغ وإن كان بمعناه لأن تأثير الصدع ابلغ من تأثير التبليغ فقد لا يؤثر التبليغ والصدع يؤثر جزما.

الرابع: تنقسم إلى مرشحة.
وهي أحسنها - وهي أن تنظر إلى جانب المستعار وتراعيه، كقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} ، فإن المستعار منه الذي هو الشراء هو المراعي هنا وهو الذي رشح لفظتي الربح والتجارة للاستعارة لما بينهما من الملاءمة.
وإلى تجريدية، وهي أن تنظر إلى جانب المستعار له، ثم تأتي بما يناسبه ويلائمه، كقوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ}، فالمستعار اللباس، والمستعار له الجوع فمجرد الاستعارة بذكر لفظ الأداة المناسبة للمستعار له وهو الجوع لا المستعار وهو اللباس ولو أراد ترشيحها لقال: وكساها لباس الجوع وفي هذه الآية مراعاة المستعار له الذي هو المعنى وهو الجوع والخوف لأن ألمهما يذاق ولا يلبس.
وقد تجيء ملاحظة المستعار الذي هو اللفظ، كقوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} إذا حملنا الحطب على النميمة فاعتبر اللفظ فقال: [حمالة] ولم يقل [راوية] فيلاحظ المعنى.
وأما الاستعارة بالكناية فهي ألا يصرح بذكر المستعار، بل تذكر بعض لوازمه تنبيها به عليه، كقوله: شجاع يفترس أقرانه وعالم يغترف منه الناس تنبيها على أن الشجاع أسد والعالم بحر.
ومنه المجاز العقلي كله عند السكاكي.

ومن أقسامها - وهو دقيق - أن يسكت عن ذكر المستعار ثم يومي إليه بذكر شيء من توابعه وروادفه تنبيها عليه فيقول شجاع يفترس أقرانه فنبهت بالافتراس على أنك قد استعرت له الأسد.
ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}، فنبه بالنقض الذي هو من توابع الحبل وروادفه على أنه قد استعار للعهد الحبل لما فيه من باب الوصلة بين المتعاهدين.
ومنها قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}، لأن حقيقته [عملنا] لكن [قدمنا] أبلغ لأنه يدل على أنه عاملهم معاملة القادم من سفره لأنه من أجل إمهالهم السابق عاملهم كما يفعل الغائب عنهم إذا قدم فرآهم على خلاف ما أمر به وفي هذا تحذير من الاغترار بالإمهال.
وقوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} ، لأن حقيقة [طغى] علا والاستعارة أبلغ لأن [طغى] علا قاهرا.
وكذلك: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}، لأن حقيقة [عاتية] شديدة والعتو أبلغ لأنه شدة فيها تمرد.
وقوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} ، الآية وحقيقته: لا تمنع ما تملك كل المنع والاستعارة أبلغ لأنه جعل منع النائل بمنزلة غل اليدين إلى العنق وحال الغلول أظهر.

وقوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} ، قيل: أخرجت ما فيها من الكنوز.
وقيل: يحيى به الموتى وأنها أخرجت موتاها فسمى الموتى ثقلا تشبيها بالحمل الذين يكون في البطن لأن الحمل يسمى ثقلا قال تعالى: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ}.
ومنها جعل الشيء للشيء وليس له من طريق الأدعاء والاحاطة به نافعة في آيات الصفات كقوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}.
وقوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}.
ويسمى التخييل: قال الزمخشري: ولا تجد بابا في علم البيان أدق ولا أعون في تعاطي المشبهات منه وأما قوله تعالى: {كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} قال الفراء: فيه ثلاثة أوجه:.
أحدها: أنه جعل طلعها رءوس الشياطين في القبح.
والثاني: أن العرب تسمى بعض الحيات شيطانا وهو ذو القرن.
الثالث: أنه شوك قبيح المنظر يسمى رؤس الشياطين.
فعلى الأول يكون تخييلا وعلى الثاني يكون تشبيها مختصا.
تقسيم آخر.
الاستعارة فرع التشبيه فأنواعها كأنواعه خمسة:.

الأول: استعارة حسي لحسى بوجه لحسي كقوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} فإن المستعار منه هو النار والمستعار له هو الشيب والوجه هو الانبساط فالطرفان حسيان والوجه ايضا حسي وهو استعارة بالكناية لأنه ذكر التشبيه وذكر المشبه وذكر المشبه به مع لازم من لوازم المشبه به وهو الاشتعال.
وقوله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ}، أصل الموج حركة المياه فاستعمل في حركتهم على سبيل الاستعارة.
الثاني: حسي لحسي بوجه عقلي كقوله تعالى :{أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} فالمستعار له الريح والمستعار منه المرأة وهما حسيان والوجه المنع من ظهور النتيجة والأثر وهو عقلي وهو ايضا استعارة بالكناية.
قال في الإيضاح: وفيه نظر لأن العقيم صفة للمرأة لا اسم لها ولهذا جعل صفة للريح لا اسما والحق أن المستعار منه ما في المرأة من الصفة التي تمنع من الحبل والمستعار له ما في الريح من الصفة التي تمنع من إنشاء مطر وإلقاح شجر [والجامع لهما ما ذكر].
وهو مندفع بالعناية لأن المراد من قوله المستعار منه المرأة التي عبر عنها بالعقيم ذكرها السكاكي بلفظ ما صدق عليه.
ومنه قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} ، المستعار له ظلمة النهار من ظلمة الليل والمستعار منه ظهور المسلوخ عند جلدته والجامع عقلي وهو ترتب أحدهما على الآخر.

وقوله: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ}، أصل الحصيد النبات والجامع الهلاك وهو أمر عقلي.
الثالث: معقول لمعقول، كقوله تعالى: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا}، فالرقاد مستعار للموت وهما أمران معقولان والوجه عدم ظهور الأفعال وهو عقلي والاستعارة تصريحية لكون المشبه به مذكورا.
وقوله: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} المستعار السكوت، والمستعار له الغضب، والمستعار منه الساكت، وهذه ألطف الاستعارات لأنها استعارة معقول لمعقول لمشاركته في أمر معقول.
الرابع: محسوس لمعقول، كقوله تعالى: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} أصل التماس في الأجسام فاستعير لمقاساة الشدة وكون المستعار منه حسيا والمستعار له عقليا وكونها تصريحية ظاهر والوجه اللحوق وهو عقلي.
وقوله: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} قالقذف والدمغ مستعاران.
وقوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} وقوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}.

وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} وكل خوض ذكره الله في القرآن فلفظه مستعار من الخوض في الماء.
وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} استعارة لبيانه عما أوحى إليه كظهور ماء في الزجاجة عند انصداعها.
وقوله: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} ، البنيان مستعار وأصله للحيطان.
وقوله: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} العوج مستعار.
وقوله: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} وكل ما في القرآن من الظلمات والنور مستعار.
وقوله: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} الوادي مستعار وكذلك الهيمان وهو على غاية الإيضاح.
{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ}.
الخامس: استعارة معقول لمحسوس: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} المستعار منه التكبر والمستعار له الماء والجامع الاستعلاء المفرط.
وقوله: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} العتو هاهنا مستعار.

وقوله: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} فلفظ الغيظ مستعار.
وقوله: { وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} فهو أفصح من مضيئة.
{حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}.
ومنها الاستعارة بلفظين، كقوله تعالى: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} يعني تلك الأواني ليس من الزجاج ولا من الفضة بل في صفاء القارورة وبياض الفضة وقد سبق عن الفارسي جعله من التشبيه.
ومثله: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} ، ينبى عن الدوام والسوط ينبي عن الإيلام فيكون المراد والله أعلم تعذيبهم عذابا دائما مؤلما.

التورية.
وتسمى الإيهام والتخييل والمغالطة والتوجيه، وهي أن يتكلم المتكلم بلفظ مشترك بين معنيين: قريب وبعيد ويريد المعنى البعيد يوهم السامع أنه أراد القريب مثاله قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}، أراد بالنجم النبات الذي لا ساق له والسامع يتوهم أنه أراد الكوكب لا سيما مع تأكيد الإيهام بذكر الشمس والقمر.
وقوله: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} والمراد المعرفة.
وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} أراد بها في نعمة وكرامة والسامع يتوهم أنه أراد من النعومة.
وقوله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} أراد بالأيد القوة الخارجة.
وقوله: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} ، أي مقرطون تجعل في آذانهم القرطة والحلق الذي في الأذن يسمى قرطا وخلدة والسامع يتوهم أنه من الخلود.
وقوله: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} أي علمهم منازلهم فيها أو يوهم إرادة العرف الذي هو الطيب.
وقوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}.
وقوله: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ} فذكر [رضوان] مع [الجنات] مما يوهم إرادة خازن الجنات.

وكان الأنصار يقولون: {رَاعِنَا} أي أرعنا سمعنا وأنظر إلينا والكفار يقولونها [فاعل] من الرعونة. وقال أبو جعفر: هي بالعبرانية فلما عوتبوا قالوا: إنما نقول مثل ما يقول المسلمون فنهي المسلمون عنها.
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} فقوله: [الولي] هو من أسماء الله ومعناه الولي لعباده بالرحمة والمغفرة وقوله: [الحميد] يحتمل أن يكون من [حامد] لعباده المطيعين أو [محمود] في السراء والضراء وعلى هذا فالضمير راجع إلى الله سبحانه. ويحتمل أن يكون الولي من أسماء المطر وهو مطر الربيع والحميد بمعنى المحمود وعلى هذا فالضمير عائد على الغيث.
وقوله: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} ، فإن لفظة [ربك] رشحت لفظة [ربه] لأن يكون تورية إذ يحتمل أنه أراد بها الإله سبحانه والملك فلو اقتصر على قوله: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} ولم تدل لفظة ربه إلا على الإله فلما تقدمت لفظة [ربك] احتمل المعنيين.
تنبيه:.
[في الفرق بين التورية والاستخدام ].
كثيرا ما تلتبس التورية بالاستخدام والفراق بينهما أن التورية استعمال المعنيين في اللفظ وإهمال الآخر وفي الاستخدام استعمالهما معا بقرينتين.

وحاصله أن المشترك إن استعمل في مفهومين معا فهو والاستخدام وإن أريد أحدهما مع لمح الآخر باطنا فهو التورية.
ومثال الاستخدام قوله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} فإن لفظة [كتاب] يراد بها الأمد المحتوم والمكتوب وقد توسطت بين لفظتين فاستخدمت أحد مفهوميها وهو الأمد واستخدمت [يمحو] المفهوم الآخر وهو المكتوب.
وقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} فإن الصلاة تحتمل إرادة نفس الصلاة، وتحتمل إرادة موضعها فقوله {حَتَّى تَعْلَمُوا} استخدمت إرادة نفس الصلاة، وقوله: {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ}، استخدمت إرادة موضعها.

التجريد.
وهو أن تعتقد أن في الشيء من نفسه معنى آخر كأنه مباين له فتخرج ذلك إلى ألفاظه بما اعتقدت ذلك كقولهم لئن لقيت زيدا لتلقين معه الأسد ولئن سألته لتسألن منه البحر فظاهر هذا أن فيه من نفسه أسدا وبحرا وهو عينه هو الأسد والبحر لا أن هناك شيئا منفصلا عنه كقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ}، فظاهر هذا أن في العالم من نفسه آيات وهو عينه ونفسه تلك الآيات.
وكقوله تعالى: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، وإنما هذا ناب عن قوله: وَاعْلَم أَنِّي عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
ومنه قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}.
وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
وقوله: {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} ، ليس المعنى أن الجنة فيها دار خلد وغير دار خلد بل كلها دار خلد فكأنك لما قلت: في الجنة دار الخلد اعتقدت أن الجنة منطوية على دار نعيم ودار أكل وشرب وخلد فجردت منها هذا الواحد كقوله:
وفي الله إن لم تنصفوا حكم عدل
وقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ}، على أحد.

التأويلات في الآية عن ابن مسعود: " هي النطفة تخرج من الرجل ميتة وهو حي ويخرج الرجل منها حيا وهي ميتة " قال ابن عطية في تفسيره هذه الآية: إن لفظة الإخراج في تنقل النطفة حتى تكون رجلا إنما هو عبارة عن تغيير الحال كما تقول في صبي جيد البنية يخرج من هذا رجل قوي.
وقد يحتمل قوله: {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} أي الحيوان كله ميتة ثم يحييه قال وهو معنى التجريد.
وذكر الزمخشري أن عمرو بن عبيد قرأ في قوله تعالى: {فكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} بالرفع بمعنى حصلت منها [سماء] وردة قال وهو من التجريد.و.
قرأ على وابن عباس في سورة مريم: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ، قال ابن جنى: هذا هو التجريد وذلك أنه يريد وهب لي من لدنك وليا يرثني منه وارث من آل يعقوب وهو الوارث نفسه فكأنه جرد منه وارثا.

التجنيس.
وهو إما بأن تتساوى حروف الكلمتين، كقوله تعالى :{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَة} {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} وفي ذلك رد على من قال: ليس منه في القرآن غير الآية الأولى.
وأما بزيادة في إحدى الكلمتين، كقوله تعالى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ. إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}.
وإما لاحق بأن يختلف أحد الحرفين كقوله: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ. وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}.
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}.
{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}.
{بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ}.
وقوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ}.
وإما في الخط وهو أن تشتبها في الخط لا اللفظ كقوله تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}.

وقوله: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}.
وأما في السمع لقرب أحد المخرجين من الآخر، كقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}.
تنبيهات:.
الأول: نازع ابن أبي الحديد في الآية الأولى وقال: عندي أنه ليس بتجنيس أصلا وأن الساعة في الموضعين بمعنى واحد والتجنيس أن يتفق اللفظ ويختلف المعنى وألا تكون إحداهما حقيقة والأخرى مجازا بل تكونا حقيقتين وإن زمان القيامة - وإن طال - لكنه عند الله تعالى في حكم الساعة الواحدة لأن قدرته لا يعجزها أمر ولا يطول عندها زمان فيكون إطلاق لفظة [الساعة] على أحد الموضعين حقيقة وعلى الآخر مجازا وذلك يخرج الكلام من التجنيس كما لو قلت: ركبت حمارا ولقيت حمارا وأردت بالثاني البليد. وأيضا لا يجوز أن يكون المراد بالساعة الساعة الأولى خاصة وزمان البعث فيكون لفظ الساعة مستعملا في الموضعين حقيقة بمعنى واحد فيخرج عن التجنيس.
الثاني: يقرب منه الاقتضاب وهو أن تكون الكلمات يجمعها أصل واحد في اللغة كقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ}.
وقوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} وقوله: {وْحٌ وَرَيْحَانٌ}.

وقوله: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ}.
{قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ}.
{وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}.
{ا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}.
{تَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ}.
{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ}.
{اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ}.
الثالث: اعلم أن الجناس من المحاسن اللفظية لا المعنوية ولهذا تركوه عند قوة المعنى بتركه ولذلك مثالان:.
أحدهما: قوله: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} فذكر الرازي في تفسيره أن الكاتب الملقب بالرشيدي قال: لو قيل: [ أتدعون بعلا وتدعون أحسن الخالقين ] [أوهم أنه أحسن لأنه كان] تحصل به رعاية معنى التجنيس أيضا مع كونه موازنا لـ[تذرون].
وأجاب الرازي: بأن فصاحة القرآن ليس لأجل رعاية هذه التكلفات بل لأجل قوة المعاني وجزالة الألفاظ.
وقال بعضهم: مراعاة المعاني أولى من مراعاة الألفاظ فلو كان [أتدعون].

[وتدعون] كما قال هذا القائل لوقع الإلباس على القارىء فيجعلهما بمعنى واحد تصحيفا منه وحينئذ فينخرم اللفظ إذا قرأ وتدعون الثانية بسكون الدال لا سيما وخط المصحف الإمام لا ضبط [فيه] ولا نقط.
قال: ومما صحف من القرآن بسبب ذلك وليس بقراءة قوله تعالى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} بالسين المهملة.
وقوله: {عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} بالباء الموحدة.
وقوله: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} بالعين المهملة.
وقرأ ابن عباس" مَنْ فرعون " على الاستفهام.
قلت: وأجاب الجويني عن هذا بما يمكن أن يتخلص منه: أن [يذر] أخص من [يدع] وذلك لأن الأول بمعنى ترك الشيء اعتناء بشهادة الاشتقاق نحو الإيداع فإنه عبارة عن ترك الوديعة مع الاعتناء بحالها ولهذا يختار لها من هو مؤتمن عليها ومن ذلك الدعة بمعنى الراحة وأما تذر فمعناها الترك مطلقا والترك مع الإعراض والرفض الكلي ولا شك أن السياق إنما يناسب هذا دون الأول فأريد هنا تبشيع حالهم في الأعراض عن ربهم وأنهم بلغوا الغاية في الإعراض.
قلت: ويؤيده قول الراغب: يقال فلا يذر الشيء أي يقذفه لقلة الاعتداد به.
والوزرة قطعة من اللحم [وتسميتها بذلك] لقلة الاعتداد به نحو قولهم [فيم لا يعتد به] هو: لحم على وضم قال تعالى: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} وقال تعالى: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} {ذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا}.

وإنما قال: {يَذَرُونَ} ولم يقل: يتركون، ويخلفون لذلك. انتهى.
وعن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني أنه أجاب عن هذا السؤال بأن التجنيس تحسين وإنما يستعمل في مقام الوعد والإحسان وهذا مقام تهويل والقصد فيه المعنى فلم يكن لمراعاة اللفظة فائدة.
وفيه نظر، فإنه ورد في قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ}.
المثال الثاني: قوله تعالى :{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} قال : معناه: وما أنت مصدق لنا فيقال: ما الحكمة في العدول عن الجناس وهلا قيل:[ وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين ] فإنه يؤدي معنى الأول مع زيادة رعاية التجنيس اللفظي ؟.
والجواب أن في [مؤمن لنا] من المعنى ما ليس في [مصدق] وذلك أنك إذا قلت: مصدق لي، فمعناه: قال لي: صدقت وأما [مؤمن] فمعناه مع التصديق إعطاء الأمن ومقصودهم التصديق وزيادة وهو طلب الأمن فلهذا عدل إليه.
فتأمل هذا اللطائف الغريبة والأسرار العجيبة فإنه نوع من الإعجاز !.
فائدة.
قال الخفاجي: إذا دخل التجنيس نفي عد طباقا كقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}، لأن [الذين لايعلمون] هم الجاهلون قال: وفي هذا يختلط التجينس بالطباق.

الطباق.
هو أن يجمع بين متضادين مع مراعاة التقابل كالبياض والسواد والليل والنهار وهو قسمان: لفظي ومعنوي، كقوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً} طابق بين الضحك والبكاء والقليل والكثير.
ومثله: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}.
{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا}
{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ}.
{سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}.
وقوله تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ..} الآية.
{وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وما يستوي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ}.
ثم إذا شرط فيهما شرط وجب أن يشترط في ضديهما ضد ذلك الشرط كقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى..} الآية، لما جعل التيسير.

مشتركا بين الآعطاء والتقى والتصديق وجعل ضده وهو التعسير مشتركا بين أضداد تلك الأمور وهي المنع والاستغناء والتكذيب.
ومنه: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} قابل بين العلو والدنو.
وقوله: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ}.
وقوله: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}، فذكر الليل والنهار وهما ضدان ثم قابلهما بضدين وهما الحركة والسكون على الترتيب ثم عبر عن الحركة بلفظ [الإرداف] فاستلزم الكلام ضربا من المحاسن زائدة على المبالغة وعدل عن لفظ الحركة إلى لفظ [ابتغاء الفضل] لكون الحركة تكون للمصلحة دون المفسدة وهي تسير إلى الإعانة بالقوة لكون الحركة وحسن الاختيار الدال على رجاحة العقل وسلامة الحس وإضافة الظرف إلى تلك الحركة المخصوصة واقعة فيه ليهتدي المتحرك إلى بلوغ المأرب.
ومن الطباق المعنوي قوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} معناه ربنا يعلم إنا لصادقون.
وقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً}، قال أبو علي في [الحجة]: لما كان البناء رفعا للمبنى قوبل بالفراش الذي هو على خلاف البناء ومن ثم وقع البناء على ما فيه ارتفاع في نصيبه إن لم يكن مدرا.

ومنه نوع يسمى الطباق الخفي كقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً} لأن الغرق من صفات الماء فكأنه جمع بين الماء في النار والنار قال ابن منقذ: وهي أخفى مطابقة في القرآن.
قلت: ومنه قوله تعالى: {مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً} فكأنه جمع بين الأخضر والأحمر وهذا أيضا فيه تدبيج بديعي.
ومنه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} لأن معنى القصاص القتل فصار القتل سبب الحياة.
قال ابن المعتز: وهذا من أملح الطباق وأخفاه.
وقوله تعالى في الزخرف: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً} لأن ظل لا تستعمل إلا نهارا فإذا لمح مع ذكر السواد كأنه طباق يذكر البياض مع السواد.
وقوله: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ}.

المقابلة.
[مباحث المقابلة].
وفيها مباحث:.
الأول: في حقيقتها.
وهي ذكر الشيء مع ما يوازيه في بعض صفاته ويخالفه في بعضها وهي من باب [المفاعلة] كالمقابلة والمضاربة وهي قريبة من الطباق والفرق بينهما من وجهين:.
الأول: أن الطباق لايكون إلا بين الضدين غالبا والمقابلة تكون لأكثر من ذلك غالبا.
والثاني: لا يكون الطباق إلا بالأضداد والمقابلة بالأضداد وغيرها ولهذا جعل ابن الآثير الطباق أحد أنواع المقابلة.
الثاني: في أنواعها.
وهي ثلاثة: نظيري، ونقيضي، وخلافي. والخلافي أتمها في التشكيك وألزمها بالتأويل والنقيضي ثانيها والنظيري ثالثها.
وذكر الشيخ أبو الفضل يوسف بن محمد النحوي القلعي: أن القرآن كله وارد عليها بظهور نكته الحكمية العلمية من الكائنات والزمانيات والوسائط الروحانيات والأوائل الإلهيات حيث اتحدت من حيث تعددت واتصلت من حيث انفصلت وأنها قد ترد على شكل المربع تارة وشكل المسدس أخرى، وعلى شكل.

المثلث، إلى غير ذلك من التشكيلات العجيبة والترتيبات البديعة ثم أورد أمثل من ذلك.
مثال مقابلة النظيرين مقابلة السنة والنوم في قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} لأنهما جميعا من باب الرقاد المقابل باليقظة.
وقوله: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ}، وهذه هي مقابلة النقيضين أيضا ثم السنة والنوم بانفرادهما متقابلان في باب النظيرين ومجموعهما يقابلان النقيض الذي هو اليقظة.
ومثال مقابلة الخلافين مقابلة الشر بالرشد في قوله تعالى: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} ، فقابل الشر بالرشد وهما خلافيان وضد الرشد الغي وضد الشر الخير والخير الذي يخرجه لفظ الشر ضمنا نظير الرشد قطعا وألغى الذي يخرجه لفظ الرشد ضمنا نظير الشر قطعا حصل من هذا الشكل أربعة الفاظ نطقان وضمنان فكان بهما رباعيان.
وهذا الشكل الرباعي يقع في تفسيره علىوجوه فقد يرد وبعضه مفسر مثل ما ذكرناه وقد يرد وكله مفسر، كقوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} فقابل {صَدَّقَ} بـ [كَذَّبَ] و{صَلَّى} الذي هو أقبل بـ تَوَلَّى}.
قوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً}، اللغو في الحثيثة المنكرة والتأثيم في الحيثية الناكرة واللغو منشأ المنكر ومبدأ درجاته والتأثيم منشأ التكبر ومبدأ درجاته فلا نكير إلا بعد منكر ولا اعتقاد إنكار إلا بعد اعتقاد تأثيم ومنشأ اللغو في أول طرف المكروهات وآخره في طرف المحظورات ومبدأ التأثيم.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} فقابل الإفساد بالتسبيح والحمد وسفك الدماء بالتقديس.

فالتسبيح بالحمد إذن ينفي الفساد والتقديس ينفي سفك الدماء والتسبيح شريعة للإصلاح والتقديس شريعة حقن الدماء وشريعة التقديس أشرف من شريعة التسبيح فإن التسبيح بالحمد للإصلاح لا للفساد وسفك الدماء للتسبيح لا للتقديس وهذا شكل مربع من أرضى وهو الإفساد وسفك الدماء وسمائي وهو التسبيح والتقديس والأرضي ذو فصلين والسمائي ذو فصلين ووقع النفس من الطرفين المتوسطين فالطرفان الإفساد في الطرف الأول والتقديس في الطرف الآخر والوسطان آخر الأرض وأول السماء فالأول متشرف على الآتي والاخر ملفت إلى الماضي.
وكم في كتاب الله من كل موجز ... يدور على المعنى وعنه يماصع
لقد جمع الإسم المحامد كلها ... مقاسيمها مجموعة والمشايع
وهذا القدر الذي ذكره هذا الحبر مرمى عظيم يوصل إلى أمور غير متجاسر عليها كما في آية الكرسي وغيرها.
وقسم بعضهم المقابلة إلى أربع:.
أحدها : أن يأتي بكل واحد من المقدمات مع قرينة من الثواني، كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً}.
والثانية: أن يأتي بجميع الثواني مرتبة من أولها، كما قال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}.
وكذلك: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.

الثالث: أن يأتي بجميع المقدمات ثم بجميع الثواني مرتبة من آخرها، ويسمى رد العجز على الصدر، كقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
الرابع: أن يأتي بجميع المقدمات ثم بجميع الثواني مختلطة غير مرتبة، ويسمى اللف، كقوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} فنسبة قوله: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} كنسبة قوله: {يَقُولَ الرَّسُولُ} إلى {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} لأن القولين المتباينين يصدران عن متباينين.
وكما قال تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} فنسبة قوله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} إلى قوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} كنسبة قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ} إلى قوله: {فَتَطْرُدَهُمْ} فجمع المقدمين التاليين بالالتفات.
وجعل بعضهم من أقسام التقابل مقابلة الشيء بمثله وهو ضربان:.
مقابل في اللفظ دون المعنى، كقوله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً}.

ومقابل في المعنى دون اللفظ، كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} فإنه لو كان التقابل هنا من جهة اللفظ لكان التقدير: وإن اهتديت فإنما اهتديت لها.
وبيان تقابل هذا الكلام من جهة المعنى أن النفس كل ما هو عليها لها، فهو أعنى أن كل ما هو وبال عليها وصار لها فهو بسببها ومنها لأنها أمارة بالسوء وكل ما هو مما ينفعها فبهداية ربهاوتوفيقه إياها وهذا حكم لكل مكلف وإنا أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسند إلى نفسه لأنه إذا دخل تحته مع علو محله كان غيره أولى به.
ومن هذا الضرب قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فإنه لم يدع التقابل في قوله: {لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً} لأن القياس يقتضى أن يكون [والنهار لتبصروا فيه]، وإنما هو مراعي من جهة المعنى لا من جهة اللفظ لأن معنى [مبصرا] تبصرون فيه طرق التقلب في الحاجات.
واعلم أن في تقابل المعاني بابا عظيما يحتاج إلى فضل تأمل وهو يتصل غالبا بالفواصل، كقوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} إلى قوله: {لا يَشْعُرُونَ}.
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} إلى قوله: {لا يَعْلَمُونَ}.
فانظر فاصلة الثانية {يَعْلَمُونَ} والتي قبلها {يَشْعُرُونَ} لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين: يجتمعون ومطيعون يحتاج إلى نظر واستدلال حتى يكسب الناظر.

المعرفة والعلم وإنما النفاق وما فيه من الفتنة والفساد أمر دنيوي مبني على العادات معلوم عند الناس فلذلك قال فيه [يعلمون].
وأيضا فإنه لما ذكر السفهفي الآية الآخرى - وهو جهل - كان ذكر العلم طباقا وعلى هذا تجيء فواصل القرآن وقد سبق في بابه.
ومن المقابلة قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً} ، فتقدم اقتران الوعد بالفقر والأمر بالفحشاء ثم قوبل بشيء واحد وهو الوعد فأوهم الإخلال بالثاني وليس كذلك وإنما لما كان الفضل مقابلا للفقر والمغفرة مقابلة للأمر بالفحشاء لأن الفحشاء توجب العقوبة والمغفرة تقابل العقوبة استغنى بذكر المقابل عن ذكر مقابله لأن ذكر أحدهما ملزوم ذكر الآخر.

تقسيم.
من مقابلة اثنين باثنين: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً}.
ومن مقابلة أربعة بأربعة: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآية.
ومن مقابلة خمس بخمس قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}، للدلالة على الحقير والكبير، وهو من الطباق الخفي الثاني :{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا}{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} الثالث [يضل] و[يهدي] به، والرابع {يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} الخامس [يقطعون] و[أن يوصل].
ومن مقابلة ست بست: قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ثم قال تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ.

وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ}، قابل الجنات والأنهار والخلد والأزواج والتطهير والرضوان بإزاء النساء في الدنيا وختم بالحرث وهما طرفان متشابهان وفيهما الشهوة والمعاش الدنياوي وأخر ذكر الأزواج كما يجب في الترتيب الأخروي وختم بالرضوان.
فائدة.
قد يجيء نظم الكلام على غير صورة المقابلة في الظاهر وإذا تؤمل كان من أكمل المقابلات ولذلك أمثلة:.
منها قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} فقابل الجوع بالعري والظمأ بالضحى والواقف مع الظاهر ربما يحيل أن الجوع يقابل بالظمأ والعري بالضحى.
والمدقق يرى هذا الكلام في أعلى مراتب الفصاحة لأن الجوع ألم الباطن والضحى موجب لحرارة الظاهر فاقتضت الآية جميع نفى الآفات ظاهرا وباطنا وقابل الخلو بالخلو والاحتراق بالاحتراق.
وهاهنا موضع الحكاية المشهورة بين المتنبي وسيف الدولة لما أنشده:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم

ومنها قوله تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ}، فإنه يتبادر فيه سؤال وهو أنه لم لا قيل مثل الفريقين كالأعمى والبصير والأصم والسميع لتكون المقابلة في لفظ الأعمى وضده بالبصير وفي لفظ الأصم وضده السميع.
والجواب أنه يقال: لما ذكر انسداد العين أتبعه بانسداد السمع وبضد ذلك لما ذكر انفتاح البصر أعقبه بانفتاح السمع فما تضمنته الآية الكريمة هو الأنسب في المقابلة والأتم في الإعجاز.

رد العجز على الصدر وعكسه.
{خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ}.
{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً}.
العكس.
وهو أن يقدم في الكلام جزء ثم يؤخر، كقوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وقدره الزمخشري أي لا حل بين المؤمن والمشرك والآية صرحت بنفي الحل من الجهتين فقد يستدل بها من قال إن الكفار مخاطبون بالفروع.
ومثله قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} أي ذبائحكم وهذه رخصة للمسلمين.

الجام الخصم بالحجة.
وهو الاحتجاج على المعنى المقصود بحجة عقلية تقطع المعاند له فيه. والعجب من ابن المعتز في بديعه حيث أنكر وجود هذا النوع في القرآن وهو من أساليبه.
ومنه قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ثم قال النحاة: إن الثاني امتنع لأجل امتناع الأول وخالفهم ابن الحاجب وقال: الممتنع الأول لأجل الثاني فالتعدد منتف لأجل امتناع الفساد.
وقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
وقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} وقوله حكاية عن الخليل: {وحاجه قومه} إلى قوله: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه}.
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}، المعنى أن الأهون أدخل في الإمكان من غيره وقد أمكن هو فالإعادة أدخل في الإمكان من بدء الخلق.
وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} الآية، وهذه حجة عقلية تقديرها أنه لو كان خالقان لاستبد كل منهما بخلقه فكان الذي يقدر عليه أحدهما لا يقدر عليه الآخر ويؤدي إلى تناهى.

مقدوراتهما وذلك يبطل الإلهية فوجب أن يكون الإله واحدا ثم زاد في الحجاج فقال: {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}، أي ولغلب بعضهم بعضا في المراد ولو أراد أحدهما إحياء جسم والآخر إماتته لم يصح ارتفاع مرادهما لأن رفع النقيضين محال ولا وقوعهما للتضاد فنفى وقوع أحدها دون الآخر وهو المغلوب وهذه تسمى دلالة التمانع وهي كثيرة في القرآن كقوله تعالى: {إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً}.
وقوله: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم}.
وقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} فبين أنا لم نخلق المنى لتعذره علينا فوجب أن يكون الخالق غيرنا.
ومنه نوع منطقي وهو استنتاج النتيجة من مقدمتين وذلك من أول سورة الحج إلى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}، فنطق على خمس نتائج من عشر مقدمات فالمقدمات من أول السورة: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} والنتائج من قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} إلى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}.
وتفصيل ترتيب المقدمات والنتائج أن يقول أخبر الله أن زلزلة الساعة شيء عظيم وخبره هو الحق ومن أخبر عن الغيب بالحق فهو حق بأنه هو الحق وأنه يأتي بالساعة.

على تلك الصفات ولا يعلم صدق الخبر إلا بإحياء الموتى ليدركوا ذلك ومن يأتي بالساعة يحيى الموتى فهو يحيي الموتى وأخبر أنه يجعل الناس من هول الساعة سكارى لشدة العذاب ولا يقدر على عموم الناس لشدة العذاب إلا من هو على كل شيء قدير فإنه علىكل شيء قدير وأخبر أن الساعة يجازي فيها من يجادل في الله بغير علم ولا بد من مجازاته ولا يجازي حتى تكون الساعة آتية ولا تأتي الساعة حتى يبعث من في القبور فهو يبعث من في القبور والله ينزل الماء على الأرض الهامدة فتنبت من كل زوج بهيج والقادر على إحياء الأرض بعد موتها يبعث من القبور.
ومنه قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} مقدمتان ونتيجة لأن اتباع الهوى يوجب الضلال والضلال يوجب سوء العذاب، فأنتج أن اتباع الهوى يوجب سوء العذاب.
وقوله: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} أي القمر أفل وربي فليس بآفل فالقمر ليس بربي أثبته بقياس اقتراني جلى من الشكل الثاني واحتج بالتعبير على الحدوث والحدوث على المحدث.

التقسيم.
وليس المراد به القسمة العقلية التي يتكلم عليها المتكلم لأنها قد تقتضي أشياء مستحيلة كقولهم الجواهر لا تخلو إما أن تكون مجتمعة أو متفرق أو لا مفترقة ولا مجتمعة أو مجتمعة ومفترقة معا أو بعضها مجتمع وبعضها مفترق فإن هذه القسمة صحيحة عقلا لكن بعضها يستحيل وجوده وهو استيفاء المتكلم أقسام الشيء بحيث لا يغادر شيئا وهو آلة الحصر ومظنة الإحاطة بالشيء، كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} فإنه لا يخلو العالم جميعا من هذه الآقسام الثلاثة إما ظالم نفسه وإما سابق مبادر إلى الخيرات وإما مقتصد فيها وهذا من أوضح التقسيمات وأكملها.
ومثله قوله: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}، وهذه الآية مماثلة في المعنى للتي قبلها وأصحاب المشأمة هم الظالمون لأنفسهم وأصحاب الميمنة هم المقتصدون والسابقون هم السابقون بالخيرات.
كذلك قوله تعالى: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} الآية فاستوفى أقسام الزمان ولا رابع لها.
وقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} إلى قوله: { مَا يَشَاءُ}، وهو في القرآن كثير وخصوصا في سورة براءة.
ومنه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً}، وليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار ولا ثالث لهما

وقوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} ، فاستوفت أقسام الأوقات من طرفي كل يوم ووسطه مع المطابقة والمقابلة.
وقوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} فلم يترك سبحانه قسما من أقسام الهيئات.
ومثله آية يونس: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً}.
لكن وقع بين ترتيب الآيتين مغايرة أوجبتها المبالغة وذلك أن المراد بالذكر في الأولى الصلاة فيجب فيها تقديم الاضطجاع وإذا زال بعض الضر قعد المضجع وإذا زال كل الضر قام القاعد فدعا لتتم الصحة وتكمل القوة.
فإن قلت: هذا التأويل لا يتم إلا إذا كانت الواو عاطفة فإنها تحصل في الكلام حسن اتساق وائتلاف الألفاظ مع المعاني وقد عدل عنها إلى [أو] التي سقط معها ذلك.
قلت: يأتي التضرع على أقسام فإن منه ما يتضرع المضرور عند وروده ومنه ما يقعده ومنه ما يأتي صاحبه قائم لا يبلغ به شيئا والدعاء عنده أولى من التضرع فإن الصبر والجزع عند الصدمة الأولى فوجب العدول عن الواو لتوخي الصدق في الخبر والكلام بالائتلاف ويحصل النسق والخبر بذلك التأويل الأول عن شخص واحد وبالثاني عن أشخاص فغلب الكثرة فوجب الإتيان بـ[أو] وابتدى بالشخص الذي تضرع لأن خبره أشد فهو أشد تضرعا فوجب تقديم ذكره ثم القاعد ثم القائم فحصل حسن الترتيب وائتلاف الألفاظ ومعانيها.

وقوله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً}، قسم سبحانه حال الزوجين إلى أربعة أقسام اشتمل عليها الوجود لأنه سبحانه إما أن يفرد العبد بهبة الإناث أو بهبة الذكور أو يجمعهما له أو لا يهب شيئا. وقد جاءت الأقسام في هذه الاية لينتقل منها إلى أعلى منها وهي هبة الذكور فيه ثم انتقل إلى أعلى منها وهي وهبتهما جميعا وجاءت كل أقسام العطية بلفظ الهبة وأفرد معنى الحرمان بالتأخير، وقال فيه [يجعل] فعدل عن لفظ الهبة للتغاير بين المعاني كقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أأنتم أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً}، فذكر امتداد وإنمائه بلفظ الزرع ومعنى الحرمان بلفظ الجعل.
وقيل: إنما بدأ سبحانه بالأناث لوجوه غير ما سبق.
أحدها: جبرا لهن لأجل استثقال الأبوين لمكانهن.
الثاني: أن سياق الكلام أنه فاعل لما يشاء لا ما يشاء الأبوان فإن الأبوين لا يريدان إلا الذكور غالبا وهو سبحانه قد أخبر أنه يخلق ما يشاء فبدأ بذكر الصنف الذي يشاؤه ولا يريده الأبوان غالبا.
الثالث: أنه قدم ذكر ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات حتى كانوا يئدوهن أي هذا النوع الحقير عندكم مقدم عندي في الذكر.
الرابع: قدمهن لضعفهن وعند العجز والضعف تكون العناية أتم.
وقيل: لينقل من الغم إلى الفرج.
وتأمل كيف عرف سبحانه الذكور بعد تنكير فجبر نقص الأنوثة بالتقديم، وجبر نقص المتأخر بالتعريف، فإن التعريف تنويه.

وهذا أحسن مما ذكره الواحدي أنه عرف الذكور لأجله الفاصلة.
ولما ذكر الصنفين معا قدم الذكور فأعطى لكل من الجنسين حقه من التقديم والتأخير. والله أعلم بما أراد.
بقى سؤال آخر، وهو أنه عطف الثاني والرابع بالواو والثالث بـ[ أو ]، ولعله لأن هبة كل من الإناث والذكور قد لا يقترن بها فكأنه وهب لهذا الصنف وحده أو مع غيره فلذلك تعينت [ أو ]. فتأمل لطائف القرآن وبدائعه!.
ومن هذا التقسيم أخذ بعض العلماء أن الخنثى لا وجود له، لأنه ليس واحدا من المذكورين، ولا حجة فيه، لأنه مقام امتنان، والمنة بغير الخنثى أحسن وأعظم. أو لأنه باعتبار ما في نفس الأمر، والخنثى لا يخرج عن أحدهما.

التعديد.
هي إيقاع الألفاظ المبددة على سياق واحد، وأكثر ما يؤخذ في الصفات ومقتضاها ألا يعطف بعضها على بعض لاتحاد محلها، ويجريها مجرى الوصف في الصدق على ما صدق، ولذلك يقل عطف بعض صفات الله على بعض في التنزيل وذلك كقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}.
وقوله: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ}.
وقوله :{الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ}.
وإنما عطف قوله :{هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} ، لأنها أسماء متضادة المعاني في موضوعها، فوقع الوهم بالعطف عمن يستبعد ذلك في ذات واحدة، لأن الشيء الواحد لا يكون ظاهرا باطنا من وجه، وكان العطف فيه أحسن. ولذلك عطف [الناهون] على [الآمرون]، [وأبكارا] على [ثيبات] من قوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ}.
وقوله: {أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} ، فجاء العطف لأنه لا يمكن اجتماعهما في محل واحد بخلاف ما قبله.
وقوله: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْل}، إنما عطف.

فيه بعضا ولم يعطف بعضا، لأن [غافرا] و[قابلا] يشعران بحدوث المغفرة والقبول، وهما من صفات الأفعال وفعله في غيره لا في نفسه، فدخل العطف للمغايرة لتنزلهما منزلة الجملتين، تنبيها على أنه سبحانه يفعل هذا ويفعل هذا. واما شديد العقاب فصفة مشبهة، وهي تشعر بالدوام والاستمرار، فتدل على القوة، ويشبه ذلك صفات الذات. وقوله: {ذِي الطَّوْلِ}، المراد به ذاته، فترك العطف لاتحاد المعنى.
وقد جاء قليلا في غير الصفات، كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ...} الآية، قال الزمخشري: العطف الأول كقوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً}، في أنهما جنسان مختلفان، إذا اشتركا في حكم لم يكن بد من توسيط العاطف بينهما، وأما العطف الثاني فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع، فكان معناه: أن الجامعين والجامعات لهذه الصفات أعد لهم مغفرة. انتهى.
وقال بعضهم: الصفات المتعاطفة إن علم أن موصوفها واحد من كل وجه، كقوله: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ}، فإن الموصوف [ الله ] وإما في النوع كقوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً}، فإن الموصوف الأزواج، وقوله: {الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، فإن الموصوف النوع الجامع للصفات المتقدمة. وإن لم يعلم أن موصوفها واحد من جهة وضع اللفظ. فإن دل دليل على أنه من عطف الصفات اتبع كهذه الآية، فإن هذه الاعداد لمن جمع الطاعات العشر، لا لمن انفرد بواحدة منها، إذ الإسلام والإيمان كل منهما شرطه في الآخر، وكلاهما شرط في حصول الأجر على البواقي، ومن كان مسلما مؤمنا فله أجره، ولكن ليس هذا الأجر العظيم الذي أعده الله في هذه الآية.

الكريمة، وقرن به إعداد المغفرة زائدا على المغفرة، فلخصوص هذه الآية جعل الزمخشري ذلك من عطف الصفات، والموصوف واحد، فلو لم يكن كذلك واحتمل تقدير موصوف مع كل صفة وعدمه حمل على التقدير، فإن ظاهر العطف التغاير. ولا يقال: الأصل عدم التقدير، لأن الظاهر يقدم على رعاية ذلك الأصل.
ومثاله قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ...} الآية، ولو كان من عطف الصفات لم يستحق الصدقة إلا من جميع الصفات الثمان، ولذلك إذا وقف على الفقهاء والنحاة والفقراء استحق من فيه إحدى الصفات.
تم بعون الله وجميل توفيقه الجزء الثالث من كتاب البرهان في علوم القرآن للإمام بدر الدين الزركشي ويليه الجزء الرابع وأوله: مقابلة الجمع بالجمع، وهو أحد أساليب القرآن المندرجة تحت النوع السادس والأربعين.


المجلد الرابع
تابع النوع السادس والأربعون...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقابلة الجمع بالجمع
تارة يقتضي مقابلة كل فرد من هذا بكل فرد من هذا كقوله تعالى {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} فإن الصلاة والزكاة في معنى الجمع فيقتضي اللفظ ضرورة أن كل واحد مأمور بجميع الصلوات وبالاستباق إلى كل خير كما يقال لبس القوم ثيابهم وركبوا دوابهم
وقوله تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} أي لكل واحدة منهن
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} لأنه لا يجوز أن يتذكر جميع المخاطبين بهذا القول في مدة وعمر واحد
وقوله: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} أي كل واحدة من هذا الشرر كالقصر والقصر البيت من أدم كان يضرب على الماء إذا نزلوا به ولا يجوز أن يكون الشرر كله كقصر واحد لأنه مناف للوعيد فإن المعنى تعظيم الشرر أي كل واحد من هذا الشرر كالقصر ويؤكده قوله بعده{كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ}فشبه بالجماعة أي فكل واحدة من هذا الشرر كالجمل فجماعته إذ الجمالات الصفر كذلك الأول كل شررة منه كالقصر قاله ابن جني وقوله: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ}

وقوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} فإن كل واحد من المؤمنين آمن بكل واحد من الملائكة والكتب والرسل
وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الآية فإنه لم يحرم على كل واحد من المخاطبين جميع أمهات المخاطبين وإنما حرم على كل واحد أمه وبنته
وكذلك قوله: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} فإنه ليس لجميع الأزواج نصف ما ترك جميع النساء وإنما لكل واحد نصف ما تركت زوجه فقط
وكذا قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ }وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} إنما معناه اتبع كل واحد ذريته وليس معناه أن كل واحد من الذرية اتبع كل واحد من الآباء وقوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} أي كل واحدة ترضع ولدها وكقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} فإن مقابلة الجمع أفادت المكنة لكل واحد من المسلمين قتل من وجد من المشركين
وقوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} وأما قوله تعالى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} فذكر المرافق بلفظ الجمع والكعبين بلفظ التثنية

لأن مقابلة الجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد ولكل يد مرفق فصحت المقابلة ولو قيل إلى الكعاب فهم منه أن الواجب فإن لكل رجل كعبا واحدا فذكر الكعبين بلفظ التثنية ليتناول الكعبين من كل رجل
فإن قيل: فعلى هذا يلزم ألا يجب إلا غسل يد واحدة ورجل واحدة؟
قلنا: صدنا عنه فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والإجماع وتارة يقتضي مقابلة ثبوت الجمع لكل واحد من آحاد المحكوم عليه كقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}
وجعل منه الشيخ عز الدين {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}
وتارة يحتمل الأمرين فيفتقر ذلك إلى دليل يعين أحدهما
أما مقابلة الجمع بالمفرد فالغالب أنه لا يقتضي تعميم المفرد وقد يقتضيه بحسب عموم الجمع المقابل له كما في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}
المعنى كل واحد لكل يوم طعام مسكين وقوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} إنما هو على كل واحد منهم ذلك

قاعدة فيما ورد في القرآن مجموعا ومفردا والحكم في ذلك
فمنه أنه حيث ورد ذكر الأرض في القرآن فإنها مفردة كقوله تعالى: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} وحكمته أنها بمنزلة السفل والتحت ولكن وصف بها هذا المكان المحسوس فجرت مجرى امرأة زور وضيف فلا معنى لجمعهما كما لا يجمع الفوق والتحت والعلو والسفل فإن قصد المخبر إلى جزء من هذه الأرض الموطوءة وعين قطعة محدودة منها خرجت عن معنى السفل الذي هو في مقابلة العلو فجاز أن تثنى إذا ضممت إليها جزءا آخر ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طوقه من سبع أرضين فجمعها لما اعتمد الكلام على ذات الأرض وأثبتها على التفصيل والتعيين لآحادها دون الوصف بكونها تحت أو سفل في مقابلة علو وأما جمع السموات فإن المقصود بها ذاتها دون معنى الوصف فلهذا جمعت جمع سلامة لأن العدد قليل وجمع القليل أولى به بخلاف الأرض فإن المقصود بها معنى التحت والسفل دون الذات والعدد
وحيث أريد بها الذات والعدد أتى بلفظ يدل على التعدد كقوله تعالى: {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}
وأيضا فإن الأرض لا نسبة إليها إلى السموات وسعتها بل هي بالنسبة إليها كحصاة في صحراء فهي وإن تعددت كالواحد القليل فاختير لها اسم الجنس
وأيضا فالأرض هي دار الدنيا التي بالنسبة إلى الآخرة كما يدخل الإنسان إصبعه في اليم فما يعلق بها هو مثال الدنيا والله تعالى لم يذكر الدنيا إلا مقللا لها

وأما السموات فليست من الدنيا على أحد القولين فإذا أريد الوصف الشامل للسموات وهو معنى العلو والفوق أفردته كالأرض بدليل قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} فأفرد هنا لما كان المراد الوصف الشامل وليس المراد سماء معينة
وكذا قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} بخلاف قوله في سبأ {عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} فإن قبلها ذكر الله سبحانه سعة علمه وأن له ما في السموات وما في الأرض فاقتضى السياق أن يذكر سعة علمه وتعلقه بمعلومات ملكه وهو السموات كلها والأرض
ولما لم يكن في سورة يونس ما يقتضي ذلك أفردها إرادة للجنس
وقال: السهيلي لأن المخاطبين بالإفراد مقرون بأن الرزق ينزل من السحاب وهو سماء ولهذا قال في آخر الآية {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} وهم لا يقرون بما نزل من فوق ذلك من الرحمة والرحمن وغيرها ولهذا قال في آية سبأ {قُلِ اللَّهُ} أمر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا القول ليعلم بحقيقته وكذا قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ}

فإنها جاءت مجموعة لتعلق الظرف بما في اسم الله تبارك وتعالى من معنى الإلهية فالمعنى هو الإله المعبود في كل واحدة من السموات فذكر الجمع هنا أحسن ولما خفي هذا المعنى على بعض المجسمة قال بالوقف على قوله {فِي السَّمَاوَاتِ} ثم يبتدئ بقوله {وَفِي الأَرْضِ}
وتأمل كيف جاءت مفردة في قوله {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} أراد لهذين الجنسين أي رب كل ما علا وسفل وجاءت مجموعة في قوله {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} في جميع السور لما كان المراد الإخبار عن تسبيح سكانها على كثرتهم وتباين مراتبهم لم يكن بد من جمع محلهم
ونظير هذا جمعها في قوله {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ}
وقوله {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ} أي تسبح بذواتها وأنفسها على اختلاف عددها ولهذا صرح بالعدد بقوله {السَّبْعُ}
وتأمل كيف جاءت مفردة في قوله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} فـ "الرزق" المطر وما توعدون الجنة وكلاهما في هذه الجهة لأنها في كل واحدة واحدة من السموات فكان لفظ الإفراد أليق
وجاءت مجموعة في قوله {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} لما كان المراد نفي علم الغيب عن كل من هو في واحدة واحدة من السموات أتى بها مجموعة

ولم يجئ في سياق الإخبار بنزول الماء منها إلا مفردة حيث وقعت لما لم يكن المراد نزوله من ذاتها بل المراد الوصف
فإن قيل: فهل يظهر فرق بين قوله تعالى في سورة يونس {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} وبين قوله في سورة سبأ {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ}؟
قيل: السياق في كل منهما مرشد إلى الفرق فإن الآيات التي في يونس سيقت للاحتجاج عليهم بما أقروا به من كونه تعالى هو رازقهم ومالك أسماعهم وأبصارهم ومدبر أمورهم بأن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي فلما كانوا مقرين بهذا كله حسن الاحتجاج به عليهم إذ فاعل هذا هو الله الذي لا إله غيره فكيف تعبدون معه غيره ولهذا قال بعده {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} أي هم يقرون به ولا يجحدونه والمخاطبون المحتج عليهم بهذه الآية إنما كانوا مقرين بنزول الرزق من قبل هذه السماء التي يشاهدونها ولم يكونوا مقرين ولا عالمين بنزول الرزق من سماء إلى سماء حتى ينتهي إليهم فأفردت لفظة السماء هنا لذلك
وأما الآية التي في سبأ فإنه لم ينتظم لها ذكر إقرارهم بما ينزل من السماء ولهذا أمر رسوله بأن يجيب وأن يذكر عنهم أنهم هم المجيبون فقال {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} ولم يقل {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} أي الله وحده الذي ينزل رزقه على اختلاف أنواعه ومنافعه من السموات ومنها ذكر الرياح في القرآن جمعا ومفردة فحيث ذكرت في سياق الرحمة جاءت

مجموعة كقوله تعالى {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً}
{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ}
وحيث ذكرت في سياق العذاب أتت مفردة كقوله تعالى {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ}
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا}
{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}
{مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح}
{وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ}
ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا" والمعنى فيه أن رياح الرحمة مختلفة الصفات والماهيات والمنافع وإذا هاجت منها ريح أثير لها من مقابلها ما يكسر سورتها فينشأ من بينهما ريح لطيفة تنفع الحيوان والنبات وكانت في الرحمة رياحا وأما في العذاب فإنها تأتي من وجه واحد ولا معارض ولا دافع ولهذا وصفها الله بالعقيم فقال {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} أي تعقم ما مرت به وقد اطردت هذه القاعدة إلا في مواضع يسيرة لحكمة فمنها قوله سبحانه في سورة يونس {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا

كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} فذكر ريح الرحمة بلفظ الإفراد لوجهين:
أحدهما: لفظي وهو المقابلة فإنه ذكر ما يقابلها ريح العذاب وهي لا تكون إلا مفردة ورب شيء يجوز في المقابلة ولا يجوز استقلالا نحو {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ}
الثاني: معنوي وهو أن تمام الرحمة هناك إنما تحصل بوحدة الريح لا باختلافها فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة من وجه واحد فإن اختلفت عليها الرياح وتصادمت كان سبب الهلاك والغرق فالمطلوب هناك ريح واحدة ولهذا أكد هذا المعنى فوصفها بالطيب دفعا لتوهم أن تكون عاصفة بل هي ريح يفرح بطيبها
ومنها قوله تعالى {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} وهذا أورده ابن المنير في كتابه على الزمخشري قال الريح رحمة ونعمة وسكونها شدة على أصحاب السفن
قال: الشيخ علم الدين العراقي وكذا جاء في القراءات السبع {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الريح} {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الريح} والمراد به الذي ينشر السحاب

ومن ذلك جمع الظلمات والنور {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}
ولذلك جمع سبيل الباطل وأفرد سبيل الحق كقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}
والجواب في ذلك كله أن طريق الحق واحد وأما الباطل فطرقه متشعبة متعددة ولما كانت الظلم بمنزلة طريق الباطل والنور بمنزلة طريق الجنة بل هما هما أفرد النور وجمع الظلمات ولهذا وحد الولي فقال{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} لأنه الواحد الأحد وجمع أولياء الكفار لتعددهم وجمع الظلمات وهي طرق الضلال والغي لكثرتها واختلافها ووحد النور وهو دين الحق
ومن ذلك أفرد اليمين والشمال في قوله {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} وجمعها في قوله {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} ولا سؤال فيه إنما السؤال في جمع أحدهما وإفراد الآخر كقوله تعالى: {يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ} قال الفراء: كأنه إذا وحد ذهب إلى واحد من ذوات الظلمة وإذا جمع ذهب إلى كلها والحكمة في تخصيص اليمين بالإفراد ما سبق فإنه لما كانت اليمين جهة الخير والصلاح وأهلها هم الناجون أفردت ولما كانت الشمال جهة أهل الباطل وهم أصحاب الشمال جمعت في قوله {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ}

وفيه وجوه أخر:
أحدهما: أن اليمين مقصود به الجمع أيضا فإن الألف واللام فيه للجنس فقام العموم مقام الجمع قاله ابن عطية الثاني: أن اليمين فعيل،وهو مخصوص بالمبالغة فسدت مبالغته جمعه كما سد مسد الشبه قوله {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} قاله ابن بابشاذ
الثالث: أن الظل حين ينشأ أول النهار يكون في غاية الطول ثم يبدو كذلك ظلا واحدا من جهة اليمين ثم يأخذ في النقصان وإذا أخذ في جهة الشمال فإنه يتزايد شيئا فشيئا والثاني فيه غير الأول فكلما زاد فيه شيئا فهو غير ما كان قبله فصار كل جزء منه ظلا فحسن جمع الشمائل في مقابلة تعدد الظلال قاله الرماني وغيره
قال: ابن بابشاذ: وإنما يصح هذا إذا كانا متوجهين نحو القبلة
الرابع: إن اليمين يجمع على أيمن وأيمان فهو من أبنية جمع القلة غالبا والشمال يجمع على شمائل وهو جمع كثرة والموطن موطن تكثير ومبالغة فعدل عن جمع اليمين إلى الألف واللام الدالة على قصد التكثير قاله السهيلي
وأما إفرادها في قوله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} فلأن المراد أهل هذه الجهة ومصيرهم إلى جهة واحدة هي جهة أهل الشمال مستقر أهل النار فإنها من جهة أهل الشمال فلا يحسن مجيئها مجموعة وإما إفرادهما في قوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} فإن لكل عبد قعيدا واحدا عن يمينه وآخر شماله يحصيان عليه الخير والشر فلا معنى للجمع بينهما وهذا بخلاف قوله تعالى ذاكرا عن إبليس: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ

وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} فإن الجمع هناك يقابله كثير مما يريد إغوائهم فجمع لمقابلة الجملة بالجملة المقتضي لتوزيع الأفراد على الأفراد
ومنها: حيث وقع في القرآن ذكر الجنة فإنها تجيء تارة مجموعة وتارة غير مجموعة والنار لم تقع إلا مفردة وفي ذلك وجهان:
أحدهما: لما كانت الجنات مختلفة الأنواع حسن جمعها وإفرادها ولما كانت النار واحدة أفردت باعتبار الجنس ونظيره قوله تعالى {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} ولم يقل وكؤوس لما سنذكره
الثاني : أنه لما كانت النار تعذيبا والجنة رحمة ناسب جمع الرحمة وإفراد العذاب نظير جمع الريح في الرحمة وإفرادها في العذاب
وأيضا فالنار دار حبس والغاضب يجمع جماعة من المحبوسين في موضع واحد أنكد لعيشهم والكريم لا يترك ضيفه ولاسيما إذا كان للدوام إلا في دار مفردة مهيأة له وحده فالنار لكل مذنب ولكل مطيع الجنة فجمع الجنان ولم يجمع النار
ومنها: جمع الآيات في موضع وإفرادها في آخر فحيث جمعت فلجمع الدلائل وحيث وحدت فلوحدانية المدلول عليه لما يخرج عن ذلك ولهذا قال في الحجر {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} ثم قال {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} فلما ذكر صفة المؤمنين بالوحدانية وحد الآية وليس لها نظير إلا في العنكبوت وهو قوله: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً}

ومنها مجيء المشرق والمغرب في القرآن تارة بالجمع وأخرى بالتثنية وأخرى بالإفراد لاختصاص كل مقام بما يقتضيه
فالأول: كقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ}
والثاني: كقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ}
والثالث: قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } فحيث جمع كان المراد نفي المشرق والمغرب وحيث ثنيا كان المراد مشرقي صعودها وارتفاعها فإنها تبتدئ صاعدة حتى تنتهي إلى غاية أوجها وارتفاعها فهذا مشرق صعودها وارتفاعها وينشأ منه فصلا الخريف والشتاء فجعل مشرق صعودها بجملته مشرقا واحدا ومشرق هبوطها بجملته مشرقا واحدا ومقابلهما مغربا
وقيل: هو إخبار عن الحركات الفلكية متحركة بحركات متداركة لا تنضبط لخطة ولا تدخل تحت قياس لأن معنى الحركة انتقال الشيء من مكان إلى آخر وهذه صفة الأفلاك قال تعالى {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} الآية فهذا وجه اختلاف هذه الألفاظ بالإفراد والتثنية والجمع وقد أجرى الله العادة إن القمر يطلع في كل ليلة من مطلع غير الذي طلع فيه بالأمس وكذلك الغروب فهي من أول فصل الصيف في تلك المطالع والمغارب إلى أن تنتهي إلى مطلع الاعتدال ومغربه عند أول فصل الخريف ثم تأخذ جنوبا في كل يوم في مطلع ومغرب إلى إن تنتهي إلى آخر مثلها الذي يقدر الله لها عند أول فصل الشتاء ثم ترجع كذلك إلى إن تنتهي إلى مطلع الاعتدال الربيعي ومغربه وهكذا أبدا فحيث أفرد الله له لفظ المشرق والمغرب أراد به الجهة نفسها التي تشتمل الواحدة على تلك المطالع جميعها والأخرى على تلك المغارب من غير نظر إلى تعددها وحيث جيء بلفظ الجمع المراد به

كل فرد منها بالنسبة إلى تعدد تلك المطالع والمغارب وهي في كل جهة مائة وثمانون يوما وحيث كان بلفظ التثنية فالمراد بأحدهما الجهة التي تأخذ منها الشمس من مطلع الاعتدال إلى آخر المطالع والمغارب الجنوبية وبهذا الاعتبار مشرقان ومغربان
وأما وجه اختصاص كل موضع بما وقع منه فأبدى فيه بعض المتأخرين معاني لطيفة فقال:
أما ما ورد مثنى في سورة الرحمن فلأن سياق السورة سياق المزدوجين:
الثاني: فإنه سبحانه أولا ذكر نوعي الإيجاد وهما الخلق والتعليم ثم ذكر سراجي العالم ومظهر نوره وهما الشمس والقمر ثم ذكر نوعي النبات فإن منه ما هو على ساق ومنه ما انبسط على وجه الأرض وهما النجم والشجر ثم ذكر نوعي السماء المرفوعة والأرض ثم أخبر أنه رفع هذه ووضع هذه ووسط بينهما ذكر الميزان ثم ذكر العدل والظلم في الميزان فأمر بالعدل ونهى عن الظلم ثم ذكر نوعي الخارج من الأرض وهما الجنوب ثم ذكر نوعي المكلفين وهما نوع إلا لإنسان والجان ثم ذكر نوعي المشرق والمغرب ثم ذكر بعد ذلك البحر من الملح والعذب فلهذا حسن تثنية المشرق والمغرب في هذه السورة
وإنما افردا في سورة المزمل لما تقدم من ذكر الليل والنهار فإنه سبحانه أمر نبيه بقيام الليل ثم أخبر أنه له في النهار سبحا طويلا فلما تقدم ذكر الليل والنهار تممه بذكر المشرق والمغرب اللذين هما مظهر الليل والنهار فكان ورودهما منفردين في هذا السياق أحسن من التثنية والجمع لأن ظهور الليل والنهار فيهما واحد وإنما جمعا في سورة المعارج في قوله {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ

إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} لأنه لما كان هذا القسم سعة مشارق ربوبيته وإحاطة قدرته والمقسم عليه إذهاب هؤلاء والإتيان بخير منهم ذكر المشارق والمغارب لتضمنها انتقال الشمس التي في أحد آياته العظيمة ونقله سبحانه لها وتصريفها كل يوم في مشرق ومغرب فمن فعل هذا كيف يعجزه إن يبدل هؤلاء وينقل إلى أمكنتهم خيرا منهم
وأيضا فإن تأثير مشارق الشمس ومغاربها في اختلاف أحوال النبات والحيوان أمر مشهود وقد جعله الله بحكمته سببا لتبدل أجسام النبات وأحوال الحيوانات وانتقالها من حال إلى حال ومن برد إلى حر وصيف وشتاء وغير ذلك بسبب اختلاف مشارق الأرض ومغاربها فكيف لا يقدر مع ما يشهدونه من ذلك على تبديل من هو خير وأكد هذا المعنى بقوله { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} فلا يليق بهذا الموضع سوى لفظ الجمع
وأما جمعهما في سورة الصافات في قوله {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} لما جاءت مع جملة المربوبات المتعددة وهي السموات والأرض وما بينهما وكان الأحسن مجيئها مجموعة لتنتظم مع ما تقدم من الجمع والتعدد
ثم تأمل كيف اقتصر على المشارق دون المغارب لاقتضاء الحال ذلك فإن المشارق مظهر الأنوار وأسباب لانتشار الحيوان وحياته وتصرفه في معاشه وانبساطه فهو إنشاء شهود فقدمه بين يدي..... على مبدأ البعث فكان الاقتصار على ذكر المشارق

ها هنا في غاية المناسبة للغرض المطلوب فتأمل هذه المعاني الكاملة والآيات الفاضلة التي ترقص القلوب لها طربا وتسيل الأفهام منها رهبا !
وحيث ورد البار مجموعا في صفة الآدميين قيل أبرار كقوله {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} وقال في صفة الملائكة {بَرَرَةٍ} قال الراغب فخص الملائكة بها من حيث أنه أبلغ من أبرار جمع بر وأبرار جمع بار وبر أبلغ من بار كما إن عدلا أبلغ من عادل
وهذا بناء على رواية في تفضيل الملائكة على البشر
ومنها إن الأخ يطلق على أخي النسب وأخي الصداقة والدين ويفترقان في الجمع فيقال في النسب إخوة وفي الصداقة إخوان كما قيل {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} وقال: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} قال جماعة من أهل اللغة منهم ابن فارس وحكاه أبو حاتم عن أهل البصرة ثم رده بأنه يقال للأصدقاء والنسب إخوة وإخوان قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} لم يعن النسب وقال {أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ} وهذا في النسب ونظيره قوله {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} إلى قوله {أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} وهذا هو الصواب واشتقاق اللفظين من تآخيت

الشيء فسمى الأخوان أخوين لأن كل واحد منهما يتأخى ما تأخاه الآخر أي يقصده
قال ابن السكيت: ويقال أخوة بضم الهمزة
ومنها إفراد العم والخال
ومنها إفراد السمع وجمع البصر كقوله تعالى {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ} لأن السمع غلب عليه المصدرية فأفرد بخلاف البصر فإنه اشتهر في الجارحة وإذا أردت المصدر قلت أبصر إبصارا ولهذا لما استعمل الحاسة جمعه بقوله {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} وقال {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ}
وقيل: في الكلام حذف مضاف أي على حواس سمعهم
وقيل: لأن متعلق السمع الأصوات وهي حقيقة واحدة ومتعلق البصر الألوان والأكوان وهي حقائق مختلفة فأشار في كل منهما إلى متعلقه
ويحتمل أن يكون البصر الذي هو نور العين معنى يتعدد بتعدد المقلتين ولا كذلك السمع فإنه معنى واحد ولهذا إذا غطيت إحدى العينين ينتقل نورها إلى الأخرى بخلاف السمع فإنه ينقص بنقصان أحدهما
وقال الزمخشري في قوله تعالى: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} أجرى الرعد والبرق على أصلهما مصدرين فافردهما دون الظلمات يقال: رعدت السماء رعدا

وبرقت برقا والحق إن الرعد والبرق مصدران فأفردهما أو هما مسببان عن سبب لا يختلف بخلاف الظلمة فإن أسبابها متعددة
ومنها حيث ذكر الكأس في القرآن كان مفردا ولم يجمع في قوله تعالى {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ} ولم يقل وكؤوس لأن الكأس إناء فيه شراب فإن لم يكن فيه شراب فليس بكأس بل قدح والقدح إذا جعل فيه الشراب فالاعتبار للشراب لا لإنائه لأن المقصود هو المشروب والظرف اتخذ للآلة ولولا الشراب والحاجة إلى شربه لما اتخذا والقدح مصنوع والشراب جنس فلو قال كؤوس لكان اعتبر حال القدح والقدح تبع ولما لم يجمع اعتبر حال الشراب وهو أصل واعتبار الأصل أولى فانظر كيف اختار الأحسن من الألفاظ
وكثير من الفصحاء قالوا: دارت الكؤوس ومال الرؤوس فدعاهم السجع إلى اختيار غير الأحسن فلم يدخل كلامهم في حد الفصاحة والذي يدل على ما ذكرنا إن الله تعالى لما ذكر الكأس واعتبر الأصل قال {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} فذكر الشراب
وحيث ذكر المصنوع ولم يكن في اللفظ دلالة على الشراب جمع فقال {وِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ }ثم ذكر ما يتخذ منه فقال {مِنْ فِضَّةٍ}
ومنها إفراد الصديق وجمع الشافعين في قوله تعالى {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} وحكمته كثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق قال الزمخشري:

ألا ترى إن الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم نهضت جماعة وافرة من أهل بلده بشفاعته رحمة له وإن لم يسبق له بأكثرهم معرفة وأما الصديق فأعز من بيض الأنوق وعن بعض الحكماء أنه سئل عن الصديق فقال اسم لا معنى له
ويجوز أن يريد بالصديق الجمع
وقال السهيلي: في الروض الأنف إذا قلت عبيد ونخيل فهو اسم يتناول الصغير والكبير من ذلك الجنس قال الله تعالى :{وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} وقال {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} وحين ذكر المخاطبين منهم قال العباد ولذلك قال حين ذكر التمر من النخيل {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} و{أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} فتأمل الفرق بين الجمعين في حكم البلاغة واختيار الكلام !
وأما في مذهب اللغة فلم يفرقوا هذا التفريق ولا نبهوا على هذا المعنى الدقيق
ومنها اختلاف الجمعين في قوله تعالى: { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} إلى قوله: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ} وقال: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً} فأما وجه التفرقة بين الجمع في الموضعين وكذلك قوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} إلى قوله: {أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ}

فخالف بين الجمعين في الأبناء وفي سورة الأحزاب {وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ}
ومنه قوله تعالى: {أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} وفي موضع آخر {وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ} فالمعدود واحد
وقد اختلف تفسيره فالأول جاء بصيغة جمع الكثرة والثاني بجمع القلة
وقد قيلفي توجيهه: إن آية البقرة سيقت في بيان المضاعفة والزيادة فناسب صيغة جمع الكثرة وآية يوسف لحظ فيها وهو قليل فأتى بجمع القلة ليصدق اللفظ المعنى
تنبيه
جمع التكسير يشمل أولى العلم وغيرهم وجمع السلامة يختص في أصل الوضع بأولى العلم وإن وجد في غيرهم فبحكم الإلحاق والتشبيه كقوله {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} ،وعلى هذا فأشرف الجمعين جمع السلامة وما يجمع جمع التكسير من مذكر غير العاقل قد يتبع بالصفة المفردة مؤنثه بالتاء كما يفعل بالخبر تقول: حقوق معقودة وأعمال محسوبة قال تعالى {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ}
وقال: {أَيَّاماً مَعْدُودَةً}
وقد يجمع بالألف والتاء في غير المفرد وإن لم يكثر إلا أنه فصيح ومنه {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}

قاعدة نحوية
نون ضمير الجمع في جمع العلاقات سواء القلة كالهندات أو الكثرة كالهنود فتقول الهندات يقمن والهنود يقمن قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ }: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} هذا هو الأكثر.
وقد جاء في القران بالإفراد قال تعالى: {وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} ولم يقل مطهرات
وأما جمع غير العاقل ففيه تفصيل
إن كان للكثرة أتيت بضميره مفردا فقلت الجذوع انكسرت وان كان القلة أتيت جمعا وقد اجتمعا في قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ} إلى أن قال {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} فالضمير في منها يعود إلى الاثني عشر وهو جمع كثرة ولم يقل منهن ثم قال سبحانه {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} فهذا عائد إلى الأربعة وهو جمع قله
فإن قيل: فما السر في هذا حيث كان يؤتى مع الكثرة بضمير المفرد ومع القلة بضمير الجمع وهلا عكس قلنا ذكر الفراء له سرا لطيفا فقال لما كان المميز مع جمع الكثرة واحدا وحد الضمير لأنه من أحد عشر يصير مميزه واحدا وهو أندرهم وأما جمع القلة فمميزه جمع لأنك تقول ثلاثة دراهم أربعة دراهم وهكذا إلى العشر تمييزه جمع فلهذا أعاد الضمير باعتبار المميز جمعا وإفرادا ومن هذا قوله سبحانه {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} فأتى بجمع القلة ولم يقل بحور لتناسب نظم الكلام وهذا هو الاختيار في إضافة العدد إلى جمع القلة

وأما قوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} فأضاف الثلاثة إلى القروء وهو جمع كثرة ولم يضفها إلى الأقراء التي هي جمع قلة قال الحريري المعنى لتتربص كل واحده منهن ثلاثة أقراء فلما أسند إلى جماعتهن والواجب على كل فرد منهن ثلاثة أتى بلفظ قروء لتدل على الكثرة المرادة والمعنى الملموح
قاعدة في الضمائر
وقد صنف ابن الأنباري في بيان الضمائر الواقعة في القران مجلدين وفيه مباحث:
الأول: للعدول إلى الضمائر أسباب:
منها وهو أصل وصفها للاختصار ولهذا قام قوله تعالى {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} مقام خمسة وعشرين لو أتى بها مظهرة
وكذا قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} نقل ابن عطية عن مكي أنه ليس في كتاب آية اشتملت على ضمائر أكثر منها وهي مشتملة على خمسة وعشرين ضميرا وقد قيل في آية الكرسي أحد وعشرون اسما ما بين ضمير وظاهر ومنها الفخامة بشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته كقوله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} يعني القرآن وقوله {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} ومنه ضمير الشأن

ومنها: التحقير كقوله تعالى {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} يعني الشيطان وقوله {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ}
{إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ}
الثاني: الأصل أن يقدم ما يدل عليه الضمير،بدليل الأكثرية وعدم التكليف ومن ثم ورد قوله تعالى {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} وتقدم المفعول الثاني في قوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ} فأخر المفعول الأول ليعود الضمير الأول عليه لقربه
وقد قسم النحويون ضمير الغيبة إلى أقسام
أحدها: وهو الأصل أن يعود إلى شيء سبق ذكره في اللفظ بالمطابقة نحو {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}
{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ}
{إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}
وقوله {يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ}
الثاني: أن يعود على مذكور في سياق الكلام مؤخر في اللفظ مقدم في النية كقوله تعالى {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً}

وقوله: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}
وقوله {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ }
الثالث: أن يدل اللفظ على صاحب الضمير بالتضمن كقوله تعالى {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} فإنه عائد على العدل المفهوم من اعدلوا
وقوله {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فالضمير يرجع للأكل لدلالة تأكلوا
وقوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} إلى قوله {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} أي المقسوم لدلالة القسمة عليه ويحتمل أن يعود على ما تركه الوالدان والأقربون لأنه مذكور وإن كان بعيدا
الرابع: أن يدل عليه بالالتزام كإضمار النفس في قوله تعالى {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} أضمر النفس لدلالة ذكر الحلقوم والتراقي عليها
وقوله {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} يعني الشمس
وقيل: بل سبق ما يدل عليها وهو العشي لأن العشي ما بين زوال الشمس وغروبها والمعنى إذ عرض عليه بعد زوال الشمس حتى توارت الشمس بالحجاب
وقيل: فاعل توارت ضمير الصافنات ذكره ابن مالك وابن العربي في الفتوحات ويرجحه أن اتفاق الضمائر أولى من تخالفها وسنذكره في الثامن

وكذا قوله: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} قيل الضمير لمكان الإغارة بدلالة والعاديات عليه فهذه الأفعال إنما تكون لمكان
وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أضمر القرآن لأن الإنزال يدل عليه وقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} فـ" عفي" يستلزم عافيا إذ أغنى ذلك عن ذكره وأعيد الهاء من {إِلَيْهِ} عليه
الخامس: إن يدل عليه السياق فيضمر ثقة بفهم السامع كإضمار الأرض في قوله {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} وقوله {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} وجعل ابن مالك الضمير للدنيا وقال وإن لم يقدم لها ذكر لكن تقدم ذكر بعضها والبعض يدل على الكل وقوله تعالى {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} يعني القرآن أو المسجد الحرام وقوله قال {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي}{يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} الضمير يعود على الميت وإن لم يتقدم له ذكر إلا أنه لما قال يوصيكم الله في أولادكم علم إن ثم ميتا يعود الضمير عليه وقوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} ثم قال {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} أي من الموروث وهذا وجه آخر غير ما سبق

وقوله {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا} ولم يقل اتخذه ردا للضمير إلى شيئا لأنه لم يقتصر على الاستهزاء بما يسمع من آيات الله بل كان إذا سمع بعض آيات الله استهزأ بجميعها وقيل شيئا بمعنى الآية لأن بعض الآيات آية وقد يعود الضمير على الصاحب المسكوت عنه لاستحضاره بالمذكور وعدم صلاحيته له كقوله {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ} فأعاد الضمير للأيدي لأنها تصاحب الأعناق في الأغلال وأغنى ذكر الأغلال عن ذكرها
ومثله قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} أي من عمر غير المعمر فأعيد الضمير على غير المعمر لأن ذكر المعمر يدل عليه لتقابلهما فكان يصاحبه الاستحضار الذهني
وقد يعود الضمير على بعض ما تقدم له كقوله تعالى {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً} بعد قوله {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ}
وقوله {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} فإنه عائد على المطلقات مع أن هذا خاص بالرجعى وهل يقتضي ذلك تخصيص الأول فيه خلاف أصولي وقوله {وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فإن الفضة بعض المذكور فأغنى ذكرها عن ذكر الجميع حتى كأنه قال {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} أصناف ما يكنز
وقد يعود على اللفظ الأول دون معناه كقوله تعالى {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} وقد سبق فيه وجه آخر

وقوله {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} على أحد الأقوال
ومما يتخرج عليه {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} ويستراح من إلزام تخصيص الأول
وقد يعود على المعنى كقوله في آية الكلالة {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} ولم يتقدم لفظ مثنى يعود عليه الضمير من كانتا قال الأخفش إنما يثنى لأن الكلام لم يقع على الواحد والاثنين والجمع فثنى الضمير الراجع إليها حملا على المعنى كما يعود الضمير جمعا في من حملا على معناها
وقال الفارسي: إنما جازت من حيث كان يفيد العدد مجردا من الصغير والكبير السادس ألا يعود على مذكور ولا معلوم بالسياق أو غيره وهو الضمير المجهول الذي يلزمه بالتفسير بجملة أو مفرد فالمفرد في نعم وبئس والجملة ضمير الشأن والقصة نحو هو زيد منطلق وكقوله تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أي الشأن الله أحد وقوله {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي}
وقوله {أَنَا اللَّهُ}
وقوله {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ} وقد يكون مؤنثا إذا كان عائده مؤنثا كقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} وأما قوله تعالى {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ} فذكر

الضمير مع اشتمال الجملة على جهنم وهي مؤنثة لأنها في حكم الفضلة إذا المعنى من يأت ربه مجرما يجز جهنم
تنبيه: والفرق بينه وبين ضمير الفصل أن الفصل يكون على لفظ الغائب والمتكلم والمخاطب قال تعالى {هَذَا هُوَ الْحَقَّ} {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ} {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً} ويكون له محل من الإعراب وضمير الشأن يكون إلا غائبا ويكون مرفوع المحل ومنصوبه قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ}
البحث الثالث: قد يعود على لفظ شيء والمراد به الجنس من ذلك الشيء كقوله تعالى {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} فإن الضمير في به يرجع إلى المرزوق في الدارين جميعا لأن قوله هذا الذي رزقنا من قبل مشتمل على ذكر ما رزقوه في الدارين قال الزمخشري ونظيره {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} أي بجنس الفقير والغني لدلالة قوله {غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً} على الجنسين ولو رجع إلى المتكلم به لوحده
البحث الرابع: قد يذكر شيئان ويعاد الضمير على أحدهما ثم الغالب كونه للثاني كقوله تعالى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} فأعاد الضمير للصلاة لأنها أقرب

وقوله {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} والأصل: قدرهما لكن اكتفى برجوع الضمير للقمر لوجهين قربه من الضمير وكونه هو الذي يعلم به الشهور ويكون به حسابها
وقوله {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أعاد الضمير على الفضة لقربها
ويجوز أن يكون إلى المكنوز وهو يشملها.
وقوله {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} أراد يرضوهما فخص الرسول بالعائد لأنه هو داعي العباد إلى الله وحجته عليهم والمخاطب لهم شفاها بأمره ونهيه وذكر الله تعالى في الآية تعظيما والمعنى تام بذكر الرسول وحده كما قال تعالى {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} فذكر الله تعظيما والمعنى تام بذكر رسوله
ومثله قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ}
وجعل منه ابن الأنباري: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} أعاد الضمير للإثم لقربه ويجوز رجوعه إلى الخطيئة والإثم على لفظها بتأويل ومن يكسب إثما ثم يرم به.
وقال الأنباري: ولم يؤثر الأول بالعائد في القرآن كله إلا في موضع واحد وهو قوله تعالى {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} معناه إليهما فخص التجارة بالعائد لأنها كانت سبب الانفضاض عنه وهو يخطب قال فأما كلام العرب فإنها تارة تؤثر الثاني بالعائد وتارة الأول فتقول إن عبدك وجاريتك عاقلة وإن عبدك وجاريتك عاقل

قلت: ليس من هذا قوله تعالى {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا}وقوله {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} لأن الإخبار عن أحدهما لوجود لفظه أو هي لإثبات أحد المذكورين فمن جعله نظير هذا فلم يصب إلا إن يدعى أن أو بمعنى الواو
وفي هاتين الآيتين لطيفة وهي أن الكلام لما اقتضى إعادة الضمير على أحدهما أعاده في الآية الأولى على التجارة وإن كانت أبعد ومؤنثة لأنها أجذب لقلوب العباد عن طاعة الله من اللهو بدليل أن المشتغلين بها أكثر من اللهو ولأنها أكثر نفعا من اللهو أو لأنها كانت أصلا واللهو تبعا لأنه ضرب بالطبل لقدومها على ما عرف من تفسير الآية وأعاده في الآية الثانية على الإثم رعاية لمرتبة القرب والتذكر
الخامس: قد يذكر شيئان ويعود الضمير جمعا لأن الاثنين جمع في المعنى كقوله تعالى { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} يعني حكم سليمان وداود وقوله {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} فأوقع أولئك وهو جمع على عائشة وصفوان بن المعطل
البحث السادس: قد يثنى الضمير ويعود على أحد المذكورين كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} قالوا: وإنما يخرج من أحدهما وقوله {نَسِيَا حُوتَهُمَا} وإنما نسيه الفتى

السابع: قد يجيء الضمير متصلا بشيء وهو لغيره كقوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} يعنى آدم ثم قال {ثم جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} فهذا لولده لأن آدم لم يخلق من نطفة
ومنه قوله تعالى: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} قيل نزلت في ابن حذافة حين قال: للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أبي؟: قال: حذافة " فكان نسبه فساءه ذلك فنزلت {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} وقيل نزلت في الحج حين قالوا أفي كل مرة ثم قال وإن تسألوا عنها يريد إن تسألوا عن أشياء أخر من دينكم بكم إلى علمها حاجة تبد لكم ثم قال {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي طلبها والسؤال عنها طلب فليست الهاء راجعة لأشياء متقدمة بل لأشياء أخر مفهومة من قوله {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} ويدل على ما ذكرنا أنه لو كان الضمير عائدا على أشياء مذكورة لتعدى إليها بـ "عن" لا بنفسه ولكنه مفعول مطلق لا مفعول به وقوله تعالى {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} يتبادر إلى الذهن أن الضمير في قوله هو عائد لإبراهيم لأنه أقرب المذكورين وهو مشكل لا يستقيم لأن الضمير في قوله {وَفِي هَذَا} راجع للقرآن وهو لم يكن في زمن إبراهيم ولا هو قاله والصواب أن الضمير راجع إلى الله سبحانه يعني {سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} يعني في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلكم وفي هذا الكتاب الذي أنزل عليكم وهو القرآن والمعنى جاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وهو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا الكتاب لتكونوا أي سماكم وجعلكم مسلمين لتشهدوا على الناس يوم القيامة وقوله {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} منصوب بتقدير اتبعوا لأن هذا

لناصب نصبه قوله {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} لأن الجهاد من ملة إبراهيم وفي سورة يس موضعان توهم فيهما كثير من الناس:
أحدهما: قوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} فقد يتوهم أن الضمير في هم راجع إلى الليل والنهار بناء على أن أقل الجمع اثنان وهو فاسد لوجهين أحدهما أن النهار ليس مظلما والثاني أن كون أقل الجمع اثنان مذهب مرجوح إنما الضمير راجع إلى الكفار الذين يحتج عليهم بالآيات و{مُظْلِمُونَ} داخلو الظلام كقولك مصبحون وممسون إذا دخلوا في هذه الأشياء والثاني: قوله تعالى {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ} يظن بعضهم أن معناه مثل السموات والأرض وهو فاسد لوجهين أحدهما أنهم ما أنكروا إعادة السموات والأرض حتى يدل على إنكارهم إعادتهما بابتدائهما وإنما أنكروا إعادة أنفسهم فكان الضمير راجعا إليهم ليتحقق حصول الجواب لهم والرد عليهم الثاني لتبين المراد في قوله {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} فإن قيل إنما أثبت قدرته على إعادة مثلهم لا على إعادتهم أنفسهم فلا دلالة فيه عليهم قلنا المراد بمثلهم هم كما في قوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقولهم مثلى لا يفعل كذا أي أنا وبدليل الآية الأخرى وقوله {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} قد يتوهم عوده على الله وليس كذلك

وإلا لنصب العمل كما تقول قام زيد وعمرا يضربه وإنما الفاعل في يرفعه عائد إلى العمل والهاء للكلم قال الفارسي في التذكرة المنصوب في يرفعه عائد للكلم لأن الكلم جمع كلمة قال كلم كالشجر في أنه قد وصف بالمفرد في قوله {مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ} وكذلك وصف الكلم بالطيب ولو كان الضمير المنصوب في {يَرْفَعُهُ} عائدا إلى العمل لكان منصوبا في هذا الوجه وما جاء التنزيل عليه من نحو {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} والضمير المرفوع في {يَرْفَعُهُ} عائد إلى العمل فلذلك ارتفع العمل ولم يحمل على قوله {يصعد} ويضمر له فعل ناصب كما أضمرت لقوله {وَالظَّالِمِينَ} والمعنى يرفع العمل الصالح الكلم الطيب ومعنى يرفع العمل أنه لا يحبط ثوابه فيرفع لصاحبه ويثاب عليه وليس كالعمل السيء الذي يقع معه الإحباط فلا يرفع إلى الله سبحانه
الثامن: إذا اجتمع ضمائر فحيث أمكن عودها لواحد فهو أولى من عودها لمختلف ولهذا لما جوز بعضهم في قوله تعالى {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} الخ أن الضمير في {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} ل لتابوت وما بعده وما قبله لموسى عابه الزمخشري وجعله تنافرا ومخرجا للقرآن عن إعجازه فقال والضمائر كلها راجعة إلى موسى ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما يؤدي إليه من تنافر النظر
فإن قلت: المقذوف في البحر هو التابوت وكذلك الملقى إلى الساحل

قلت: ما ضرك لو جعلت المقذوف والملقى إلى الساحل هو موسى في جوف التابوت حتى لا تفرق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذي هو قوام إعجاز القرآن والقانون الذي وقع عليه التحدي ومراعاته أهم ما يجب على المفسر انتهى ولا مزيد على حسنه
وقال في قوله {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} الضمائر لله عز وجل والمراد بتعزيز الله تعزيز دينه ورسوله ومن فرق الضمائر فقد أبعد أي فقد قيل إنها للرسول إلا الأخير لكن قد يقتضي المعنى التخالف كما في قوله تعالى {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} الهاء والميم في فيهم لأصحاب الكهف والهاء والميم في منهم لليهود قاله ثعلب والمبرد
وقوله تعالى {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} بعد قوله {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ}
وقوله {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ}
وقوله {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} أي عمروا الأرض الذين كانوا قبل قريش أكثر مما عمرتها قريش وقوله {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} الآية فيها اثنا عشر ضميرا،خمسة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وله والثالث ضمير في {الْغَارِ} لأنه يتعلق باستقرار محذوف

فيحتمل ضميرا والرابع: {صَاحِبُهُ} والخامس: {لا تَحْزَنْ} والسادس: {مَعَنَا} والسابع في {عَلَيْهِ} على قول الأكثر فيما نقله السهيلي لأن السكينة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دائما لأنه كان قد علم أنه لا يضره شيء إذا كان خروجه بأمر الله
وأما قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ} فالسكينة نزلت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين لأنه خاف على المسلمين ولم يخف على نفسه فنزلت عليه السكينة من أجلهم لا من أجله
وأما قوله تعالى: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} قيل الضميران عائدان على يوسف قال للناجي ذكر الملك بأمري
ورجح ابن السيد هذا لقوله تعالى {وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة} أي بعد حين
وفي قراءة ابن عامر بعد "أمَة" بالتخفيف أي نسيان وإلا لم يكن ليذكر تذكر الفتى بعد النسيان والذكر على هذا يحتمل وجهين أن يكون بمعنى التذكير ويكون مصدر ذكرته ذكرا فالتقدير فأنساه الشيطان ذكره عند ربه فأضاف الذكر إلى الرب وهو في الحقيقة مضاف إلى ضمير يوسف وجاز ذلك لملاءمته بينهما وقد يخالف بين الضمائر حذرا من التنافر كقوله تعالى {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} كما عاد الضمير على الاثني عشر ثم قال {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} لما أعاد على أربعة وهو جمع قلة
وجوز بعضهم عوده على الاثني عشر أيضا بل هو الصواب لأنه لا يجوز أن ينهى عن الظلم في الأربعة ويبيح الظلم في الثمانية بل ترك الظلم في الكل واجب

قلت: لكن يجوز التنصيص على أفضلية الحرم فإن الظلم قبيح مطلقا وفيهن أقبح فالظاهر الأول
التاسع: قد يسد مسد الضمير أمور:
منها الإشارة كما في قوله تعالى {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}
ومنها الألف واللام كقوله تعالى {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}
وقوله {نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} أي رسلك
وقوله {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} أصل الكلام أجره وصبره ولما كان المحسنون جنسا ومن يتق ويصبر واحد تحته أغنى عمومه من عود الضمير إليه
وقول الكوفيين: الألف واللام عوض من الضمير.
قال: ابن مالك وعليه يحمل قوله {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ} وزعم الزمخشري أن الأبواب بدل من المستكن في مفتحة
وهذا تكلف فوجب أن تكون الأبواب مرتفعة بمفتحة المذكور أو بمثله مقدرا وقد صح أن مفتحة صالح للعمل في الأبواب فلا حاجة إلى إبدال أيضا

ومنها الاسم الظاهر بأن يكون المقام يقتضي الإضمار فيعدل عنه إلى الظاهر وقد سبق الكلام عليه في أبواب التأكيد
العاشر: الأصل في الضمير عوده إلى أقرب مذكور ولنا أصل آخر وهو أنه إذا جاء مضاف ومضاف إليه وذكر بعدهما ضمير عاد إلى المضاف لأنه المحدث عنه دون المضاف إليه نحو لقيت غلام زيد فأكرمته فالضمير للغلام ومنه قوله تعالى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}
وعند التعارض راعى ابن حزم والماوردي الأصل الأول فقالا إن الضمير في قوله {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} يعود على الخنزير دون لحمه لقربه وقواه بعض المتأخرين لأن الضمير للمضاف دون المضاف إليه ليس بأصل مطرد فقد يعود إلى المضاف إليه كقوله تعالى {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}
وكذا الصفة فإنها كما في قوله تعالى {إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ}
وللجمهور أن يقولوا: وكذا عوده للأقرب ليس بمطرد فقد يخرج عن الأصل لدليل وإذا تعارض الأصلان تساقطا ونظر في الترجيح من خارج بل قد يقال عوده إلى ما فيه العمل بهما أولى كما يقوله الماوردي أن الضمير يعود إلى الخنزير لأن اللحم موجود فيه
وأما قوله تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}فأخبر خاضعين عن المضاف إليه ولو أخبر عن المضاف لقال خاضعة
وأما قوله تعالى {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} فقد عاد

الضمير في قول المحققين للمضاف إليه وهو موسى والظن بفرعون وكأنه لما رأى نفسه قد غلط في الإقرار بالإلهية من قوله {إِلَهِ مُوسَى} استدرك ذلك بقوله هذا
الحادي عشر: إذا عطف بـ "أو" وجب إفراد الضمير نحو إن جاء زيد أو عمرو فأكرمه لأن "أو" لأحد الشيئين فأما قوله تعالى {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} فقيل إن "أو" بمعنى الواو وقيل بل المعنى إن يكن الخصمان فعاد الضمير على المعنى
وقيل: للتنويع لا للعطف وعكس هذا إذا عطف بالواو وجب تثنية الضمير فأما قوله تعالى {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} فقد سبق الكلام عليه
فائدة
قوله {إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} أي ضحى يومها فدل بالجزء على الكل
قال الشيخ عز الدين: وإنما أضاف الضحى إلى نهار العشية لأنه لو أطلقها من غير إضافة لم يحسن الترديد بـ "أو" لأن عشية كل نهار من الظهر إلى الغروب وهو نصف النهار وضحاها مقدار ربعه مثلا وهو مقدار نصف العشية فلما أضافه إلى نهارها علم تقاربهما فحسن الترديد لإفادته الترديد بين اللبث الطويل والقصير ولو أطلقه لجاز أن يتوهم عشية نهار قصير وضحى يوم طويل فتساوى ذلك الضحى بالعشية فلا يحسن الترديد بينهما

فإن قيل"كيف يجمع بين قوله {لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} وهو الجزء اليسير من الزمان وبين الضحى والعشية؟وكيف حسن الترديد؟
فالجواب: أن هذا الحساب يختلف باختلاف الناس فمنهم من يعتقده طويلا ومنهم من يحسبه قصيرا قال تعالى {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً} ثم قال {إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما}
وقد يكون بحسب شدة الأمر وخفته ولبثتم يحتمل أن يكون في الدنيا ويحتمل أن يكون في البرزخ والأول أظهر
فائدة
وقد يتجوز بحذف الضمير للعلم به كقوله {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} أي بعثه وهو كثير
ومنه قوله {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} إلى قوله {يَتَرَبَّصْنَ} إذا جعلناه الخبر فالأصل يتربصن أزواجهن فوضع الضمير موضع الأزواج لتقدم ذكرهن فأغنى عن الضمير
فائدة
المضمر لا يكون إلا بعد الظاهر لفظا أو مرتبة أو لفظا ومرتبة ولا يكون قبل الظاهر لفظا ومرتبة إلا في أبواب ضمير الشأن والقصة كما سبق وباب نعم وبئس كقوله تعالى {فَنِعِمَّا هِيَ} و{سَاءَ مَثَلاً} والضمير في ربه رجلا وباب الإعمال إذا أعملت

الثاني والأول يطلب عمدة فمذهب سيبويه أنك تضمر في الأول فتقول ضربوني وضربت الزيدين
فائدة
الضمير لا يعود إلا على مشاهد محسوس فأما قوله تعالى {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فضمير له عائد على الأمر وهو إذ ذاك غير موجود فتأويله أنه لما كان سابقا في علم الله كونه كان بمنزلة المشاهد الموجود فصح عود الضمير إليه
وقيل: بل يرجع للقضاء لدلالة قضى عليه واللام للتعليل بمعنى من أجل كقوله تعالى {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} أي من أجل حبه
قاعدة
فيما يتعلق بالسؤال والجواب
الأصل في الجواب إن يكون مطابقا للسؤال إذا كان السؤال متوجها وقد يعدل في الجواب عما يقتضيه السؤال تنبيها على أنه كان من حق السؤال أن يكون كذلك ويسميه السكاكي الأسلوب الحكيم
وقد يجيء الجواب أعم من السؤال للحاجة إليه في السؤال وأغفله المتكلم
وقد يجيء أنقص لضرورة الحال

مثال: ما عدل عنه قوله تعالى {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} فعدل عن الجواب لما قالوا ما بال الهلال يبدو رقيقا مثل الخيط ثم يتزايد قليلا قليلا حتى يمتلئ ويستوي ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ فأجيبوا بما أجيبوا به لينتهوا على أن الأهم ما تركوا السؤال عنه
وكقوله تعالى {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} سألوا عما ينفقون فأجيبوا ببيان المصرف تنزيلا لسؤالهم منزلة سؤال غيره لينبه على ما ذكرنا ولأنه قد تضمن قوله {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ} بيان ما ينفقونه وهو خير ثم زيدوا على الجواب بيان المصرف
ونظيره {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} فيكون طابق وزاد نعم روي عن ابن عباس أنه قال جاء عمرو بن الجموح وهو شيخ كبير له مال عظيم فقال ماذا أنفق من أموالنا؟وأين نضعها؟فنزلت فعلى هذا ليست الآية مما نحن فيه لأن السائل لم يتعلق بغير ما يطلب بل أجيب ببعض ما سأل عنه
وقال ابن القشيري: السؤال الأول كان سؤالا عن النفقة إلى من تصرف ودل عليه الجواب والجواب يخرج على وفق السؤال وأما هذا السؤال الثاني فعن قدر الإنفاق ودل عليه الجواب أيضا
ومن ذلك أجوبة موسى عليه السلام لفرعون حيث قال فرعون {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} لأن "ما" سؤال عن الماهية أو عن الجنس ولما كان هذا السؤال خطأ لأن المسئول عنه ليس ترى ماهيته فتبين ولا جنس له

فيذكر عدل الكليم عن مقصود السائل إلى الجواب بما يعرف الصواب عند كيفية الخطاب ولا يستحق الجريان معه فأجابه بالوصف المنبه عن الظن المؤدي لمعرفته لكنه لما لم يطابق السؤال عنه فرعون لجهله واعتقد الجواب خطأ {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ} فأجابه الكليم بجواب يعم الجميع ويتضمن الإبطال لعين ما يعتقدونه من ربوبية فرعون لهم بقوله {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} فأجاب بالأغلظ وهو ذكر الربوبية لكل ما هو من عالمهم نصا ولما لم يرهم موسى عليه السلام تفطنوا غلظ عليهم في الثالثة،بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} فكأنه شك في حصول عقلهم
فإن قيل: قوله تعالى {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} ولم يقل عن قتال في الشهر الحرام لأنهم لم يسألوا إلا من أجل القتال فيه فكان ذكره أولى!
وقيل: لم يقع السؤال إلا بعد القتال فكان الاهتمام بالسؤال عن هذا الشهر هل أبيح فيه القتال وأعاده بلفظ الظاهر ولم يقل هو كبير ليعلم حكم قتال وقع في الشهر الحرام
وقد يعدل عن الجواب إذا كان السائل قصده التعنت كقوله تعالى {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} فذكر صاحب الإيضاح في خلق الإنسان إن اليهود إنما سألوا تعجيزا وتغليظا إذا كان الروح يقال بالاشتراك على روح الإنسان وجبريل وملك آخر يقال له الروح وصنف من الملائكة والقرآن وعيسى فقصد اليهود إن يسألوه فبأي يسمى أجابهم قالوا ليس هو فجاءهم الجواب مجملا فكان هذا الإجمال كيدا يرسل به كيدهم

وقيل: إنما سألوا عن الروح: هل هي محدثة مخلوقة أم ليست كذلك؟فأجابهم بأنها من أمر الله وهو جواب صحيح لأنه لا فرق بين أن يقول في الجواب ذلك أو يقول من أمر ربي لأنه أنما أراد أنها من فعله وخلقه
وقيل: أنهم سألوه عن الروح الذي هو في القرآن فقد سمى الله القرآن روحا في مواضع من الكتاب وحينئذ فوقع الجواب موقعه لأنه قال لهم الروح الذي هو القرآن من أمر ربي ومما أنزله الله على نبيه يجعله دلالة وعلما على صدقه وليس من فعل المخلوقين ولا مما يدخل في إمكانهم
وحكاه الشريف المرتضى في الغرر عن الحسن البصري قال ويقويه قوله بعد هذه الآية {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} فكأنه قال تعالى إن القرآن من أمر ربي ولو شاء لرفعه
ومثال الزيادة في الجواب قوله تعالى {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} فإنه عليه السلام فهم إن السؤال يعقبه أمر عظيم يحدثه الله في العصا فينبغي أن ينبه لصفاتها حتى يظهر له التفاوت بين الحالين وكذا قوله {وَمَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} وحسنه إظهار الابتهاج بعبادتها والاستمرار على مواظبتها ليزداد غيظ السائل
وقوله تعالى {اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} بعد قوله {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً} الآية ولولا قصد بسط الكلام ليشاكل ما تقدم لقال: "ينجيكم الله"

ومثال النقصان منه قوله تعالى ذاكرا عن مشركي مكة {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} أي ائت بقرآن ليس فيه سب آلهتنا أو بدله بأن تجعل مكان آية العذاب آية الرحمة وليس فيه ذكر آلهتنا فأمره الله أن يجيبهم على التبديل وطوى الجواب عن الاختراع قال الزمخشري لأن التبديل في إمكان البشر بخلاف الاختراع فإنه ليس في المقدور فطوى ذكره للتنبيه على أنه سؤال محال وذكر غيره إن التبديل قريب من الاختراع فلهذا اقتصر على جواب واحد لهما وخطر لي أنه لما كان التبديل أسهل من الاختراع وقد نفى إمكان التبديل كان الاختراع غير مقدور عليه من طريق أولى
فائدة
قيل أصل الجواب أن يعاد في نفس سؤال السائل ليكون وفق السائل قال الله تعالى {أَإِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ} وأنا في جوابه عليه السلام هو أنت في سؤالهم
قال {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} فهذا أصله ثم إنهم أتوا عوض ذلك محذوف الجواب اختصارا وتركا للتكرار
وقد يحذف السؤال ثقة بفهم السامع بتقديره كقوله تعالى {قُلْ هَلْ مِنْ

شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فإنه لا يستقيم أن يكون السؤال والجواب من واحد فتعين أن يكون {قُلِ اللَّهُ} جواب سؤال كأنهم سألوا لما سمعوا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو {مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فأجابهم الله عز وجل {قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فترك ذكر السؤال
ونظيره قوله تعالى {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ}
قاعدة
الأصل: في الجواب أن يكون مشاكلا للسؤال فإن كان جملة اسمية فينبغي أن يكون الجواب كذلك ويجيء ذلك في الجواب المقدر أيضا إلا أن ابن مالك قال في قولك من قرأ فتقول زيد فإنه من باب حذف الفعل على جعل الجواب جملة فعلية قال وإنما قدرته كذلك لا مبتدأ مع احتماله جريا على عادتهم في الأجوبة إذا قصدوا تمامها قال تعالى {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا}
ومثله {خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}{قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} فلما أتى بالجملة الفعلية مع فوات مشاكلة السؤال علم أن تقدير الفعل أولا أولى انتهى
ومما رجح به أيضا تقدير الفعل أنه حيث صرح بالجزء الأخير صرح بالفعل

والتشاكل ليس واجبا بل اللائق كون زيد فاعلا أي قرأ زيد أو خبرا أي القارئ زيد لا مبتدأ لأنه مجهول
بقي أن يقال في الأولى: التصريح بالفعل أو حذفه؟وهل يختلف المعنى في ذلك؟
والجواب: قال ابن يعيش التصريح بالفعل أجود وليس كما زعم بل الأكثر الحذف وأما قوله تعالى {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا} فكان الشيخ شهاب الدين بن المرحل رحمه الله يجعله من باب {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} من أنهم أجيبوا بغير ما سألوا لنكتة
وفيه نظر وأما المعنى فلا شك أنه يختلف فإنه إذا قيل من جاء فقلت جاء زيد احتمل إن يكون جوابا وأن يكون كلاما مبتدأ ولو قلت زيد كان نصا في أنه جواب وفي العموم الذي دلت عليه من وكأنك قلت الذي جاء زيد فيفيد الحصر وهاتان الفائدتان إنما حصلتا من الحذف
ومنه قوله تعالى {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} إذ التقدير الملك لله الواحد فحذف المبتدأ من الجواب إذ المعنى لا ملك إلا لله
ومن الحذف قوله تعالى {لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا}{لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}
ومن الإثبات قوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}

ولعله للتنصيص على الإحياء الذي أنكروه { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ} وقوله {خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} لأن ظاهر أمرهم أنهم كانوا معطلة ودهرية فأريد التنصيص على اعترافهم بأنها مخلوقة
وقوله: {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} لأنها استغربت حصول النبأ الذي أسرته
وقال ابن الزملكاني في البرهان أطلق النحويون القول بأن زيدا فاعل إذا قلت: زيد في جواب من قام على تقدير قام زيد والذي يوجبه جماعة علم البيان أنه مبتدأ لوجهين:
أولهما: أنه مطابق للجملة التي هي جواب الجملة المسئول بها في الاسمية كما وقع التطابق في قوله تعالى {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً} في الجملة الفعلية وإنما لم يقطع التطابق في قوله تعالى{ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} لأنهم لو طبقوا لكانوا مقرين بالإنزال وهم من الإذعان به على تفاوت الثاني: أن اللبس لم يقع عند السائل إلا فيمن فعل الفعل فوجب أن يقدم الفاعل في المعنى لأنه متعلق بغرض السائل وأما الفعل فمعلوم عنده ولا حاجة إلى السؤال عنه فحرى أن يقع في الأخرى التي هي محل التكملات والفضلات
وكذلك: أزيد قام أم عمرو؟فالوجه في جوابه أن تقول: زيد قام أو عمرو قام وقد أشكل على هذه القاعدة قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام في جواب:

{أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} فإن السؤال وقع عن الفاعل لا عن الفعل ومع ذلك صدر الجواب بالفعل مع أنهم لم يستفهموا عن كسر الأصنام بل كان عن الشخص الكاسر لها
والجواب أن ما بعد بل ليس بجواب للهمزة فإن بل لا يصلح أن يصدر بها الكلام ولأن جواب الهمزة بنعم أو بلى فالوجه أن يجعل إخبارا مستأنفا والجواب المحقق مقدر دل عليه سياق الكلام ولو صرح به لقال ما فعلته بل فعله كبيرهم وإنما اخترنا تقدير الجملة الفعلية على الجملة المعطوفة عليها في ذلك
فإن قلت: يلزم على ما ذكرت أن يكون الخلف واقعا في الجملتين المعطوف عليها المقدرة والمعطوفة الملفوظ بها بعد بل
قلت: وإنه لازم على أن يكون التقدير ما أنا فعلته بل فعله كبيرهم هذا مع زيادته بالخلف عما أفادته الجملة الأولى من التعريض إذا منطوقها نفي الفعل عن إبراهيم عليه السلام ومفهومها إثبات حصول التكسير من غيره
فإن قلت: ولابد من ذكر ما يكون مخلصا عن الخلف على كل حال
فالجواب من وجوه:
أحدها: أن في التعريض مخلصا عن الكذب ولم يكن قصده عليه السلام أن ينسب الفعل الصادر منه إلى الصنم حقيقة بل قصده إثبات الفعل لنفسه على طريق التعريض ليحصل غرضه من التبكيت وهو في ذلك مثبت معترف لنفسه بالفعل وليس هذا من الكذب في شيء
والثاني: إنه غضب من تلك الأصنام غيرة لله تعالى ولما كانوا لأكبرها أشد تعظيما كان منه أشد غضبا فحمله ذلك على تكسيرها وذلك كله حامل للقوم على الأنفة

أن يعبدوه فضلا عن أن يخصوه بزيادة التعظيم ومنبه لهم على أن المتكسرة متمكن فيها الضعف والعجز منادى عليها بالفناء منسلخة عن ربقة الدفع فضلا عن إيصال الضرر والنفع وما هذا سبيله حقيق أن ينظر إليه بعين التحقير لا التوقير والفعل ينسب إلى الحامل عليه كما ينسب إلى الفاعل والمفعول والمصدر والزمان والمكان والسبب إذ للفعل بهذه الأمور تعلقات وملابسات يصح الإسناد إليها على وجه الاستعارة.
الثالث: أنه لما رأى عليه السلام منهم بادرة تعظيم الأكبر لكونه أكمل من باقي الأصنام وعلم أن ما هذا شأنه يصان أن يشترك معه من دونه في التبجيل والتكبير حمله ذلك على تكسيرها منبها لهم على أن الله أغير وعلى تمحيق الأكبر اقدر وحري أن يخص بالعبادة فلما كان الكبير هو الحامل على تكسير الصغير صحت النسبة إليه على ما سلف ولما تبين لهم الحق رجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم انتم الظالمون إذ وضعتم العبادة بغير موضعها
وذكر الشيخ عبد القاهر أن السؤال إذا كان ملفوظا به فالأكثر ترك الفعل في الجواب والاقتصار على الاسم وحده وإن كان مضمرا فوجب التصريح بالفعل لضعف الدلالة عليه فتعين أن يلفظ به
وهو مشكل بقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ} فيمن قرأها بفتح الباء كأنه قيل من يسبحه فقيل يسبحه رجال ونظيره ضرب زيد وعمرو على بناء ضرب للمفعول نعم الأولى ذكر الفعل لما ذكر وعليه يخرج كل ما ورد في القران من لفظ قال مفصولا غير منطوق به نحو {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ

سَلامٌ} كأنه قيل: فما قال لهم؟ {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} ولذلك قالوا لا تخف
وعلى هذه السياقة تخرج قصة موسى عليه السلام في قوله {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} إلى قوله {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
وعلى هذا كل كلام جاء فيه لفظة قال هذا المجيء غير أنه يكون في بعض المواضع أوضح كقوله تعالى {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ} فإنه لا يخفى أنه جواب لقوله {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ}
ومثله {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} إلى قوله {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً}
فائدة
في أن أقل الأمم سؤالا أمة محمد عليه السلام
نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ما كان قوم أقل سؤالا من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سألوه عن أربعة عشر حرفا فأجيبوا
قال الإمام: ثمانية منها في البقرة {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} {يَسْأَلونَكَ عَنِ

الأَهِلَّةِ} والباقي ستة فيها والتاسعة {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} في المائدة
والعاشرة: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ}
الحادي عشر في بني إسرائيل: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ}
الثاني عشر في الكهف: {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ}
الثالث عشر في طه: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ}
الرابع عشر في النازعات: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ}
ولهذه المسألة ترتيب: اثنان منها في شرح المبدأ كقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} فإنه سؤال عن الذات وقوله {عَنِ الأَهِلَّةِ} سؤال عن الصفة
واثنان في الآخر في شرح المعاد وقوله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} وقوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}
ونظير هذا أنه ورد في القران سورتان أولهما {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} في النصف

الأول وهو السورة الرابعة وهي سورة النساء والثانية في النصف الثاني وهي سورة الحج ثم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} الذي في الأول يشتمل على شرح المبدأ والذي في الثاني يشتمل على شرح حال
فإن قيل: كيف جاء {يَسْأَلونَكَ} ثلاث مرات بغير واو {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ}{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} ثم جاء ثلاث مرات بالواو { وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ}؟
قلنا: لأن سؤالهم عن الحوادث الأول وقع متفرقا عن الحوادث والآخر وقع في وقت واحد فجيء بحرف الجمع دلالة على ذلك
فإن قيل: كيف جاء {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} وعادة السؤال يجيء جوابه في القران بـ "قل" نحو {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ونظائره؟
قيل: حذفت للإشارة إلى أن العبد في حالة الدعاء مستغن عن الواسطة وهو دليل على أنه أشرف المقامات فإن الله سبحانه لم يجعل بينه وبين الداعي واسطة وفي غير حالة الدعاء تجيء الواسطة

الخطاب بالشيء عن اعتقاد المخاطب دون ما في نفس الأمر
كقوله سبحانه وتعالى: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} وقعت إضافة الشريك إلى الله سبحانه على ما كانوا يقولون لأن القديم سبحانه أثبته
وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً}
وقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}
وقوله: {لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} أي بزعمك واعتقادك
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}
وقوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}
وقوله: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}
وقوله: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} أي أنكم لو علمتم قساوة قلوبكم لقلتم إنها كالحجارة أو أنها فوقها في القسوة ولو علمتم سرعة الساعة لعلمتم أنه في سرعة الوقوع كلمح البصر أو هو أقرب عندكم
وأرسلناه إلى قوم هم من الكثرة بحيث لو رأيتموهم لشككتم وقلتم مائة ألف أو يزيدون عليها

وجعل منه بعضهم قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} ونحوه مما كان عند المتكلم لأنه لا يكون خلافة فإنه كان على طمع ألا يكون منهم تكذيب
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي بالنسبة إلى ما يعتاده المخلوقون في إن الإعادة عندهم أهون من البداءة لأنه أهون بالنسبة إليه سبحانه فيكون البعث أهون عليه عندكم من الإنشاء
وحكى الإمام الرازي في مناقب الشافعي قال معنى الآية في العبرة عندكم لأنه لما قال للعدم" كن" فخرج تاما كاملا بعينيه وأذنيه وسمعه وبصره ومفاصله فهذا في العبرة أشد من إن يقول لشيء قد كان عد إلى ما كنت عليه فالمراد من الآية وهو أهون عليه بحسب عبرتكم لا أن شيئا يكون على الله أهون من شيء آخر
وقيل: الضمير في {عَلَيْهِ} يعود للخلق لأنه يصاح بهم صيحة فيقومون وهو أهون من أن يكونوا نطفا ثم علقا ثم مضغا إلى أن يصيروا رجالا ونساء
وقوله {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} أي يأيها العالم الكامل وإنما قالوا هذه تعظيما وتوقيرا منهم له لأن السحر عندهم كان عظيما وصنعة ممدوحة
وقيل: معناه يأيها الذي غلبنا بسحره كقول العرب خاصمته فخصمته أي غلبته بالخصومة ويحتمل أنهم أرادوا تعييب موسى عليه السلام بالسحر ولم ينافسهم في مخاطبتهم به رجاء أن يؤمنوا
وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} جيء بـ" إن" التي للشك وهو واجب دون إذ التي للوجوب سوقا للكلام على حسب حسبانهم أن

معارضته فيها للتهكم كما يقوله الواثق بغلبته على من يعاديه إن غلبتك وهو يعلم أنه غالبه تهكما به
وقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} والمراد بـ" من لا يخلق" الأصنام وكان أصله كما لا يخلق لأن" ما" لمن لا يعقل بخلاف "من" لكن خاطبهم على معتقدهم لأنهم سموها آلهة وعبدوها فأجروها مجرى أولى العلم كقوله للأصنام {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ} الآية أجرى عليهم ضمير أولى العقل كذا قيل
ويرد عليه أنه إذا كان معتقدهم خطأ وضلالة فالحكم يقتضي ألا ينزعوا عنه ويقلعوا لا أن يبقوا عليه إلا إن يقال الغرض من الخطاب الإيهام ولو خاطبهم على خلاف معتقدهم فقال: كما لا يخلق لاعتقدوا أن المراد به غير الأصنام من الجماد
وكذا ما ورد من الخطاب بعسى ولعل فإنها على بابها في الترجي والتوقع ولكنه راجع إلى المخاطبين قال الخليل وسيبويه في قوله تعالى {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} اذهبا إلى رجائكما وطمعكما لعله يتذكر عندكما فأما الله تعالى فهو عالم بعاقبة أمره وما يؤول إليه لأنه يعلم الشيء قبل أن يكون وهذا أحسن من قول الفراء إنها تعليلة أي يتذكر لما فيه من إخراج اللفظ عن موضوعه
ومنه التعجب الواقع في كلام الله نحو فما أصبرهم على النار أي هم أهل أن يتعجب منهم ومن طول تمكنهم في النار

ونحوه {قُتِلَ الأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}و{أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} ومنه قوله تعالى في نعيم أهل الجنة وشقاء أهل النار {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} مع أنهما لا يزولان لكن التقييد بالسماء والأرض جرت عادة العرب إذا قصدوا الدوام أن يعلقوا بهما فجاء الخطاب على ذلك
تنبيه
في التهكم يقرب من هذا التهكم وهو إخراج الكلام على ضد مقتضى الحال كقوله تعالى {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}
وجعل بعضهم منه قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} مع العلم بأنه لا يحفظ من أمره الله شيء

التأدب في الخطاب بإضافة الخير إلى الله
وأن الكل بيده كقوله تعالى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ثم قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ولم يقل غير الذين غضبت عليهم
وقوله {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} ولم يقل والشر وإن كانا جميعا بيده لكن الخير يضاف إلى الله تعالى إرادة محبة ورضا والشر لا يضاف إليه إلا إلى مفعولاته لأنه لا يضاف إلى صفاته ولا أفعاله بل كلها كمال لا نقص فيه وهذا معنى قوله والشر ليس إليك وهو أولى من تفسير من فسره لا يتقرب به إليك
وتأمل قوله: {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} فأضافه إلى نفسه حيث صرفه ولما ذكر السجن أضافه إليهم فقال {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} وإن كان سبحانه هو الذي سبب السجن له وأضاف ما منه الرحمة إليه وما منه الشدة إليهم
ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} ولم يقل أمرضني
وتأمل جواب الخضر عليه السلام عما فعله حيث قال في إعابة السفينة {فَأَرَدْتُ} وقال في الغلام {فَأَرَدْنَا} وفي إقامة الجدار { فَأَرَادَ رَبُّكَ}

قال الشيخ صفي الدين بن أبي المنصور في كتاب فك الأزرار عن عنق الأسرار لما أراد ذكر العيب للسفينة نسبه لنفسه أدبا مع الربوبية فقال فأردت ولما كان قتل الغلام مشترك الحكم بين المحمود والمذموم استتبع نفسه مع الحق فقال في الإخبار بنون الاستتباع ليكون المحمود من الفعل وهو راحة أبويه المؤمنين من كفره عائدا على الحق سبحانه والمذموم ظاهرا وهو قتل الغلام بغير حق عائدا عليه وفي إقامة الجدار كان خيرا محضا فنسبه للحق فقال {فَأَرَادَ رَبُّكَ} ثم بين إن الجميع من حيث العلم التوحيدي من الحق بقوله {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}
وقال ابن عطية: إنما أفرد أولا في الإرادة لأنها لفظ غيب وتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه كما تأدب إبراهيم عليه السلام في قوله {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله وأسند المرض إلى نفسه إذ هو معنى نقص ومعابة وليس من جنس النعم المتقدمة
وهذا النوع مطرد في فصاحة القرآن كثيرا ألا ترى إلى تقديم فعل البشر في قوله تعالى {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} !وتقديم فعل الله في قوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} وإنما قال: الخضر في الثانية {فَأَرَدْنَا} لأنه قد أراده الله وأصحابه الصالحون وتكلم فيه في معنى الخشية على الوالدين وتمنى التبديل لهما وإنما أسند الإرادة في الثالثة إلى الله تعالى لأنها أمر مستأنف في الزمن الطويل غيب من الغيوب فحسن إفراد هذا الموضع بذكر الله تعالى
ومثله قول مؤمني الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ

أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} فحذف الفاعل في إرادة الشر تأدبا مع الله وأضافوا إرادة الرشد إليه
وقريب من هذا قوله تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام في خطابه لما اجتمع أبوه وإخوته {إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ } ولم يقل من الجب مع أن الخروج منه أعظم من الخروج من السجن
وإنما آثر ذكر السجن لوجهين ذكرهما ابن عطية
أحدهما: إن في ذكر الجب تجديد فعل إخوته وتقريعهم بذلك وتجديد تلك الغوائل
والثاني: أنه خرج من الجب إلى الرق ومن السجن إلى الملك والنعمة هنا أوضح انتهى
وأيضا ولأن بين الحالين بونا من ثلاثة أوجه قصر المدة في الجب وطولها في السجن وأن الجب كان في حال صغره ولا يعقل فيها المصيبة ولا تؤثر في النفس كتأثيرها في حال الكبر والثالث إن أمر الجب كان بغيا وظلما لأجل الحسد وأمر السجن كان لعقوبة أمر ديني هو منزه عنه وكان أمكن في نفسه والله أعلم بمراده
ومثله قوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} وقال {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} فحذف الفاعل عند ذكر الرفث وهو الجماع وصرح به عند إحلال العقد
وقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} فحذف الفاعل عند ذكر هذه الأمور

وقال: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}
وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} ونظائر ذلك كثيرة في القرآن
وقال السهيلي في كتاب الإعلام في قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ} وقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ} ،والمكان المشار إليه واحد قال ووجه الفرق بين الخطابين أن الأيمن إما مشتق من اليمن وهو البركة أو مشارك له في المادة فلما حكاه عن موسى في سياق الإثبات أتى بلفظه ولما خاطب محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سياق النفي عدل إلى لفظ الغربي لئلا يخاطبه فيسلب عنه فيه لفظا مشتقا من اليمن أو مشاركا في المادة رفقا بهم في الخطاب وإكراما لهما هذا حاصل ما ذكره بمعناه موضح
وهو أصل عظيم في الأدب في الخطاب
وقال: أيضا في الكتاب المذكور في قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً.......} الآية أضافه هنا إلى النون وهو الحوت،وقال في سورة القلم {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} وسماه هنا ذا النون والمعنى واحد ولكن بين اللفظين تفاوت كبير في حسن الإشارة إلى الحالين وتنزيل الكلام في الموضوعين فإنه حين ذكره في موضع الثناء عليه قال ذا النون ولم يقل صاحب الحوت ولفظ النون أشرف لوجود هذا الاسم في حروف الهجاء في أوائل السور نحو {نْ وَالْقَلَمِ} وقد قيل إن هذا قسم بالنون والقلم وإن لم يكن قسما فقد عظمه بعطف المقسم به عليه وهو القلم وهذا

الاشتراك يشرف هذا الاسم وليس في الاسم وليس في اللفظ الآخر وهو الحوت ما يشرفه
فالتفت إلى تنزيل الكلام في الآيتين يلح لك ما أشرت إليه في هذا فإن التدبر لإعجاز القرآن واجب مفترض
وقال الشيخ أبو محمد المرجاني في قوله تعالى: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} خاطبه بمقدمة الصدق مواجهة ولم يقدم الكذب لأنه متى أمكن حمل الخبر على الصدق لا يعدل عنه ومتى كان يحتمل ويحتمل قدم الصدق ثم لم يواجهه بالكذب بل أدمجه في جملة الكذابين أدبا في الخطاب
ومثله: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
وكذا قوله تعالى عن مؤمن آل فرعون: {وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ}
وهذان المثالان من باب إرخاء العنان للخصم ليدخل في المقصود بألطف موعود
قاعدة
في ذكر الرحمة والعذاب في القرآن من أساليب القرآن حيث ذكر الرحمة والعذاب أن يبدأ بذكر الرحمة كقوله

تعالى: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} وعلى هذا جاء قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكاية عن الله تعالى: "إن رحمتي سبقت غضبي"
وقد خرج عن هذه القاعدة مواضع اقتضت الحكمة فيها تقديم ذكر العذاب ترهيبا وزجرا
منها: قوله في سورة المائدة: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } لأنها وردت في ذكر قطاع الطريق والمحاربين والسراق فكان المناسب تقديم ذكر العذاب لهذا ختم آية السرقة بـ "عزيز حكيم" وفيه الحكاية المشهورة وختمها بالقدرة مبالغة في الترهيب لأن من توعده قادر على إنفاذ الوعيد كما قاله الفقهاء في الإكراه على الكلام ونحوه ومنها قوله في سورة العنكبوت {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} لأنها في سياق حكاية إنذار إبراهيم لقومه
ومثلها {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ

قُلْ سِيرُوا} إلى قوله {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وبعدها {بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}
ومنها في آخر الأنعام قوله: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} لأن سورة الأنعام كلها مناظرة للكفار ووعيد لهم خصوصا وفي آخرها قبل هذه الآيات بيسير: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} الآية وهو تهديد ووعيد إلى قوله {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} الآية وهو تقريع للكفار وإفساد لدينهم إلى قوله {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} ،فكان المناسب تقديم ذكر العقاب ترهيبا للكفار وزجرا لهم عن الكفر والتفرق وزجرا للخلائق عن الجور في الأحكام
ونحو ذلك في أواخر الأعراف {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} لأنها في سياق ذكر معصية أصحاب السبت وتعذيبه إياهم فتقديم العذاب مناسب
والفرق بين هذه الآية وآية الأنعام حيث أتى هنا باللام فقال {لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} دون هناك أن اللام تفيد التوكيد فأفادت هنا تأكيد سرعة العقاب لأن العقاب المذكور هنا عقاب عاجل وهو عقاب بني إسرائيل بالذل والنقمة وأداء الجزية بعد المسخ لأنه في سياق قوله {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} ،فتأكيد السرعة أفاد بيان التعجيل وهو مناسب بخلاف العقاب المذكور في سورة الأنعام فإنه أجل بدليل قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ

فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} فاكتفى فيه بتأكيد إن ولما اختصت آية الأعراف بزيادة العذاب عاجلا اختصت بزيادة التأكيد لفظا بـ "إن" وجميع ما في القرآن على هذا اللفظ يناسبه التقديم والتأخير وعليه دليلان أحدهما تفصيلي وهو الاستقراء فانظر أي آية شئت تجد فيها مناسبا لذلك والثاني إجمالي وهو أن القران كلام أحكم الحكماء فيجب أن يكون على مقتضى الحكمة فوجب اعتباره كذلك وهذان دليلان عامان في مضمون هذه الفائدة وغيرها
وأما قوله تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} ولم يقل: ذو عقوبة شديدة لأنه إنما قال ذلك نفيا للاغترار بسعة رحمة الله في الاجتراء على معصيته وذلك أبلغ في التهديد معناه لا تغتروا بسعة رحمة الله فإنه مع ذلك لا يرد عذابه
ومثله قوله تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} وقد سبقت
فائدة في الفرق بين الخطاب بالاسم والفعل
وأن الفعل يدل على التجدد والحدوث والاسم على الاستقرار والثبوت ولا يحسن وضع أحدهما موضع الآخر
فمنه قوله تعالى {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} لو قيل يبسط لم يؤد

الغرض لأنه لم يؤذن بمزاولة الكلب البسط وأنه يتجدد له شيء بعد شيء فـ "باسط" أشعر بثبوت الصفة
وقوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ} لو قيل رازقكم لفات ما أفاده الفعل من تجدد الرزق شيئا بعد شيء ولهذا جاءت الحال في صورة المضارع مع أن العامل الذي يفيده ماض كقولك جاء زيد يضرب وفي التنزيل {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} إذ المراد أن يريد صورة ما هم عليه وقت المجيء وأنهم آخذون في البكاء يجددونه شيئا بعد شيء وهذا هو سر الإعراض عن اسم الفاعل والمفعول إلى صريح الفعل والمصدر
ومن هذا يعرف لم قيل {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ} ولم يقل المنفقين في غير موضع وقيل كثيرا المؤمنون والمتقون لأن حقيقة النفقة أمر فعلي شأنه الانقطاع والتجدد بخلاف الإيمان فإن له حقيقة تقوم بالقلب يدوم مقتضاها وإن غفل عنها كذلك التقوى والإسلام والصبر والشكر والهدى والضلال والعمى والبصر فمعناها أو معنى وصف الجارحة كل هذه لها مسميات حقيقية أو مجازية تستمر وآثار تتجدد وتنقطع فجاءت بالاستعمالين إلا أن لكل محل ما يليق به فحيث يراد تجدد حقائقها أو آثارها فالأفعال وحيث يراد ثبوت الاتصاف بها فالأسماء وربما بولغ في الفعل فجاء تارة بالصيغة الاسمية كالمجاهدين والمهاجرين والمؤمنين لأنه للشأن والصفة هذا مع أن لها في القلوب أصولا وله ببعض معانيها التصاق قوي هذا التركيب إذ القلب فيه جهاد الخواطر الرديئة والأخلاق الدنيئة وعقد على فعل المهاجرة كما فيه عقد على الوفاء بالعهد وحيث يستمر المعاهد عليه إلى غير ذلك

وانظر هنا إلى لطيفة وهو أن ما كان من شأنه إلا يفعل إلا مجازاة وليس من شأنه أن يذكر الاتصاف به لم يأت إلا في تراكيب الأفعال كقوله تعالى { وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} وقال {وأن الله لهاد الذين آمنوا ولكل قوم هاد}
وأما قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} فإن الإهلاك نوع اقتدار بين مع أن جنسه مقتضي به على الكل عالين وسافلين لا كالضلال الذي جرى مجرى العصيان
ومنه قوله تعالى {تذكروا فإذا هم مبصرون}لأن البصر صفة لازمة للمتقي وعين الشيطان ربما حجبت فإذا تذكر رأى المذكور ولو قيل يبصرون لأنبا عن تجدد واكتساب فعل لا عود صفة
وقوله: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} أتى بالماضي في خلق لأن خلقه مفروغ منه وأتى بالفاء دون الواو لأنه كالجواب إذ من صور المني قادر على أن يصيره ذا هدى وهو للحصر لأنهم كانوا يزعمون أن آلهتهم تهديهم ثم قال {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} فأتى بالمضارع لبيان تجدد الإطعام والسقيا وجاءت الواو دون الفاء لأنهم كانوا لا يفرقون بين المطعم والساقي ويعلمون أنهما من مكان واحد وإن كانوا يعلمون أنه من إله وأتى به هو لرفع ذلك ودخلت الفاء في {فَهُوَ يَشْفِينِ} لأنه جواب ولم يقل إذا مرضت فهو يشفين إذ يفوت ما هو موضوع لإفادة

التعقيب،ويذهب الضمير المعطى معنى الحصر ولم يكونوا منكرين الموت من الله وإنما أنكروا البعث فدخلت ثم لتراخي ما بين الإماتة والإحياء
وقوله تعالى: {أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} لأن الفعل الماضي يحتمل هذا الحكم دائما ووقتا دون وقت فلما قال {أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} أي سكوتكم عنهم أبدا ودعاؤكم إياهم واحد لأن {صَامِتُونَ} فيه مراعاة للفواصل فهو أفصح وللتمكين من تطريفه بحرف المد واللين وهو للطبع أنسب من صمتهم وصلا ووقفا
وفيه وجه آخر،وهو أن أحد القسمين موازن للآخر فيدل على أن المعنى أنتم داعون لهم دائما أم أنتم صامتون
فإن قيل: لم لا يعكس؟
قلنا: لأن الموصوف الحاضر والمستقبل لا الماضي لأن قبله {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ} والكلام بآخره فالحكم به قد يرجح
وقوله تعالى: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ} ،ولم يقل: أم لعبت لأن العاقل لا يمكن أن يلعب بمثل ما جاء به ظاهرا وإنما يكون ذلك أحد رجلين إما محق وإما مستمر على لهو الصبا وغي الشباب فيكون اللعب من شأنه حتى يصدر عنه مثل ذلك ولو قال أم لعبت لم يعط هذا
وقوله تعالى حاكيا عن المنافقين: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} يريدون أحدثنا الإيمان وأعرضنا عن الكفر ليروح ذلك خلافا منهم كما أخبر تعالى عنهم في قوله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا}

وجاءت الاسمية في الرد عليهم بقوله {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} لأنه أبلغ من نفي الفعل إذ يقتضي إخراج أنفسهم وذواتهم عن أن يكونوا طائفة من طوائف المؤمنين وينطوي تحته على سبيل القطع نفي بما أثبتوا لأنفسهم من الدعوى الكاذبة على طريقة {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} مبالغة في تكذيبهم ولذلك أجيبوا بالباء وكلامهم في هذا كما قيل خلي من المعنى ولكن مفرقع
وإذا قيل: أنا مؤمن أبلغ من آمن ونفي الأبلغ لا يستلزم نفي ما دونه وما حقيقة إخراج ذواتهم من جنس المؤمنين لم يرجع في البيان إلا على عي أو ترويج ولكن ذم الله تعالى طائفة تقول آمنا وهي حالة القول ليست بمؤمنة بيانا لأن هذا القول إنما صدر عنها ادعاء بحضور الإيمان حالة القول والانتظام بذلك في سلك المتصفين بهذه الصفة وهم ليسوا كذلك فإذا ذمهم الله شمل الذم أن يكونوا آمنوا يوما ثم تخلوا وأن يكونوا ما آمنوا قط من طريق الأولى والتعميم فقط وأعلم به أن ذلك حكم من ادعى هذا الدعوى على هذه الحال وبين أن هذا القول إنما قصدوا به التمويه بقوله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} ولو قال وما آمنوا لم يفد إلا نفيه عنهم في الماضي ولم يفد ذمهم إن كانوا آمنوا ثم ارتدوا وهذا أفاد نفيه في الحال وذمهم بكل حال ولأن ما فيه مؤمنين أحسن من آمنوا لوجود التمكين بالمد والوقف عقبه على حرف له موقف وأما قوله تعالى {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} دون يخرجون فقيل ما سبق وقيل استوى هنا يخرجون وخارجين في إفادة المعنى واختير الاسم لخفته وأصالته

وكذلك قوله تعالى {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} يخبرون عن أنفسهم بالثبات على الإيمان بهم
ومنه قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} قال الإمام فخر الدين الرازي لأن الاعتناء بشأن إخراج الحي من الميت لما كان أشد أتى بالمضارع ليدل على التجدد كما في قوله تعالى {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}
تنبيه
مضمر الفعل كمظهره في إفادة الحدوث ومن هذه القاعدة قالوا إن سلام الخليل عليه السلام أبلغ من سلام الملائكة حيث قال{قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ}فإن نصب سلاما إنما يكون على إرادة الفعل أي سلمنا سلاما وهذه العبارة مؤذنة بحدوث التسليم منهم إذ الفعل تأخر عن وجود الفاعل بخلاف سلام إبراهيم فإنه مرتفع بالابتداء فاقتضى الثبوت على الإطلاق وهو أولى بما يعرض له الثبوت فكأنه قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به اقتداء بقوله تعالى {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}
وذكروا فيه أوجها أخرى تليق بقاعدة الفلاسفة في تفضيل الملائكة على البشر وهو أن السلام دعاء بالسلامة من كل نقص وكمال البشر تدريجي فناسب الفعل وكمال الملائكة مقارن لوجودها على الدوام فكان أحق بالاسم الدال على الثبوت
قيل: وهو غلط لأن الفعل المنشأ هو تسليمهم أما السلام المدعو به فليس في موضوعه تعرض لتدرج وسلامة أيضا منشأ فعل ولا يتعرض للتدريج غير أن سلامه لم يدل بوضعه

اللغوي وقوع إنشائه ثم لو كان هذا المعنى معتبرا لشرع السلام بيننا بالنصب دون الرفع
تنبيه
هذا الذي ذكرناه من دلالة الاسم على الثبوت والفعل على التجدد والحدوث هو المشهور عند البيانيين وأنكر أبو المطرف بن عميرة في كتاب التمويهات على كتاب التبيان لابن الزملكاني قال هذا الرأي غريب ولا مستند له نعلمه إلا أن يكون قد سمع أن في مقوله أن يفعل وأن ينفعل هذا المعنى من التجدد فظن أنه الفعل القسيم للأسماء فغلط ثم قوله الاسم يثبت المعنى للشيء عجيب وأكثر الأسماء دلالتها على معانيها فقط وإنما ذاك في الأسماء المشتقة ثم كيف يفعل بقوله تعالى {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} وقوله في هذه السورة بعينها {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} وقال ابن المنير طريقة العرب تدبيج الكلام وتلوينه ومجيء الفعلية تارة والاسمية أخرى من غير تكلف لما ذكروه وقد رأينا الجملة الفعلية تصدر من الأقوياء الخلص اعتمادا على أن المقصود الحاصل بدون التأكيد كقوله تعالى {رَبَّنَا آمَنَّا} ولا شيء بعد {آمَنَ الرَّسُولُ} وقد جاء التأكيد في كلام المنافقين فقال {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}

قاعدة في قوله تعالى: {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ونحوها
جاء في التنزيل في موضع {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وفي موضع {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ}
والأول: جاء في تسعة مواضع أحدها في الرحمن {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}
والثاني : في أربع مواضع أولها في يونس {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ}
وجاء قوله تعالى: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} في أحد عشر موضعا أولها في البقرة {سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}
وجاء قوله {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} في ثمانية وعشرين موضعا أولها في آية الكرسي
قال بعضهم وتأملت هذه المواضع فوجدت أنه حيث قصد التنصيص على الإفراد ذكر الموصول والظرف ألا ترى إلى المقصود في سورة يونس من نفي الشركاء الذين اتخذوهم في الأرض وإلى المقصود في آية الكرسي في إحاطة الملك

وحيث قصد أمر آخر لم يذكر الموصول إلا مرة واحدة إشارة إلى قصد الجنس وللاهتمام بما هو المقصود في تلك الآية ألا ترى إلى سورة الرحمن المقصود منها علو قدرة الله وعلمه وشأنه وكونه سئولا ولم يقصد إفراد السائلين
فتأمل هذا الموضع
قاعدة في قوله تعالى :{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} ونحوها
قد يكون نحو هذا اللفظ في القرآن كقوله تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} إلى غير ذلك
والمفسرون على أن هذا الاستفهام معناه النفي فحينئذ فهو خبر وإذا كان خبر أفتوهم بعض الناس أنه إذا أخذت هذه الآيات على ظواهرها أدى إلى التناقض لأنه يقال لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ولا أحد أظلم ممن افترى عل الله كذبا ولا أحد أظلم ممن ذكر بآيات الله فأعرض عنها
واختلف المفسرون في الجواب عن هذا السؤال على طرق:
أحدها: تخصيص كل واحد في هذه المواضع بمعنى صلته فكأنه قال: لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله

كذبا وكذلك باقيها وإذا تخصص بالصلات زال عنه التناقض
الثاني: إن التخصيص بالنسبة إلى السبق لما لم يسبق أحد إلى مثله حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سالكا طريقتهم وهذا يئول معناه إلى السبق في المانعية والافترائية
الثالث: وادعى الشيخ أبو حيان الصواب ونفى الأظلمية لا يستدعي نفي الظالمية لأن نفي المقيد لا يدل على نفي المطلق فلو قلت ما في الدار رجل ظريف لم يدل ذلك على نفي مطلق رجل وإذا لم يدل على نفي الظالمية لم يلزم التناقض لأن فيها إثبات التسوية في الأظلمية وإذا ثبتت التسوية في الأظلمية لم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر لأنهم يتساوون في الأظلمية وصار المعنى لا أحد أظلم ممن افترى وممن كذب ونحوها ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية ولا يدل على أن أحد هؤلاء أظلم من الآخر كما أنك إذا قلت: لا أحد أفقه من زيد وعمر وخالد لا يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر بل نفي أن يكون أحدهم أفقه منهم
لا يقال: إن من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ولم يفتر على الله كذبا أقل ظلما ممن جمع بينهما فلا يكون مساويا في الأظلمية لأنا نقول هذه الآيات كلها إنما هي في الكفار فهم متساوون في الأظلمية وإن اختلفت طرق الأظلمية فهي كلها صائرة إلى الكفر وهو شيء واحد لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة لإفراد من

اتصف به وإنما تمكن الزيادة في الظلم بالنسبة لهم وللعصاة المؤمنين بجامع ما اشتركوا فيه من المخالفة فتقول الكافر أظلم من المؤمن ونقول لا أحد أظلم من الكافر ومعناه أن ظلم الكافر يزيد على ظلم غيره انتهى
وقال بعض مشايخنا: لم يدع القائل نفي الظالمية فيقيم الشيخ الدليل على ثبوتها وإنما دعواه أن ومن أظلم ممن منع مثلا والغرض أن الأظلمية ثابتة لغير ما اتصف بهذا الوصف وإذا كان كذلك حصل التعارض ولابد من الجمع بينهما وطريقه التخصيص فيتعين القول به
وقول الشيخ: إن المعنى لا أحد أظلم ممن منع وممن ذكر صحيح ولكن لم يستفد ذلك إلا من جهة التخصيص لأن الأفراد المنفي عنها الأظلمية في آية وأثبتت لبعضها الأظلمية أيضا في آية أخرى وهكذا بالنسبة إلى بقية الآيات الوارد فيها ذلك وكلام الشيخ يقتضي أن ذلك استفيد لا بطريق التخصيص بل بطريق أن الآيات المتضمنة لهذا الحكم في آية واحدة وإذا تقرر ذلك علمت أن كل آية خصت بأخرى ولا حاجة إلى القول بالتخصيص بالصلات ولا بالسبق
الرابع: طريقة بعض المتأخرين فقال متى قدرنا لا أحد أظلم لزم أحد الأمرين إما استواء الكل في الظلم وأن المقصود نفي الأظلمية من غير المذكور لا إثبات الأظلمية له وهو خلاف المتبادر إلى الذهن وإما أن كل واحد أظلم في ذلك النوع وكلا الأمرين إنما لزم من جعل مدلولها إثبات الأظلمية للمذكور حقيقة أو نفيها من غيره
وهنا معنى ثالث وهو أمكن في المعنى وسالم عن الاعتراض وهو الوقوف مع مدلول

اللفظ من الاستفهام والمقصود به أن هذا الأمر عظيم فظيع قصدنا بالاستفهام عنه تخييل أنه لا شيء فوقه لامتلاء قلب المستفهم عنه بعظمته امتلاء يمنعه من ترجيح غيره فكأنه مضطر إلى أن يقول لا أحد أظلم وتكون دلالته على ذلك استعارة لا حقيقة فلا يرد كون غيره أظلم منه إن فرض وكثيرا ما يستعمل هذا في الكلام إذا قصد به التهويل فيقال أي شيء أعظم من هذا إذا قصد إفراط عظمته ولو قيل للمتكلم بذلك أنت قلت إنه أعظم الأشياء لأبى ذلك فليفهم هذا المعنى فإن الكلام ينتظم معه والمعنى عليه
قاعدة
في الجحد بين الكلامين
قوله تعالى :{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} قال صاحب الياقوتة قال ثعلب والمبرد جميعا العرب إذا جاءت بين الكلامين بجحدين كان الكلام إخبارا فمعناه إنما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام ومثله ما سمعت منك ولا أقبل منك مالا وإذا كان في أول الكلام جحد كان الكلام مجحودا جحدا حقيقيا نحو ما زيد بخارج فإذا جمعت بين جحدين في أول الكلام كان أحدهما زائدا كقوله ما ما قمت يريد ما قمت ومثله ما إن قمت وعليه قوله تعالى: {فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} في أحد الأقوال

قاعدة في ألفاظ يظن بها الترادف وليست منه
ولهذا وزعت بحسب المقامات فلا يقوم مرادفها فيما استعمل فيه مقام الآخر فعلى المفسر مراعاة الاستعمالات والقطع بعدم الترادف ما أمكن فإن للتركيب معنى غير معنى الإفراد ولهذا منع كثير من الأصوليين وقوع أحد المترادفين موقع الآخر في التركيب وإن اتفقوا على جوازه في الإفراد
فمن ذلك الخوف والخشية لا يكاد اللغوي يفرق بينهما ولا شك أن الخشية أعلى من الخوف وهي أشد الخوف فإنها مأخوذة من قولهم شجرة خشية إذا كانت يابسة وذلك فوات بالكلية والخوف من قولهم ناقة خوفاء إذا كان بها داء وذلك نقص وليس بفوات ومن ثمة خصت الخشية بالله تعالى في قوله سبحانه {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}
وفرق بينهما أيضا بأن الخشية تكون من عظم المخشي وإن كان الخاشي قويا والخوف يكون من ضعف الخائف وإن كان المخوف أمرا يسيرا ويدل على ذلك أن الخاء والشين والياء في تقاليبها تدل على العظمة قالوا شيخ للسيد الكبير والخيش لما عظم من الكتان والخاء والواو والفاء في تقاليبها تدل على الضعف وانظر إلى الخوف لما فيه من ضعف القوة وقال تعالى {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} فإن الخوف من الله لعظمته يخشاه كل أحد كيف كانت حالة وسوء الحساب ربما لا يخافه من كان عالما بالحساب وحاسب نفسه قبل أن يحاسب

وقال تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وقال لموسى {لا تَخَفْ} أي لا يكون عندك من ضعف نفسك ما تخاف منه من فرعون
فإن قيل: ورد: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ} ؟
قيل: الخاشي من الله بالنسبة إلى عظمة الله ضعيف فيصح أن يقول يخشى ربه لعظمته ويخاف ربه أي لضعفه بالنسبة إلى الله تعالى
وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى لما ذكر الملائكة وهم أقوياء ذكر صفتهم بين يديه فقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} فبين أنهم عند الله ضعفاء ولما ذكر المؤمنين من الناس وهم ضعفاء لا حاجة إلى بيان ضعفهم ذكر ما يدل على عظمة الله تعالى فقال {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} ولما ذكر ضعف الملائكة بالنسبة إلى قوة الله تعالى قال {رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} والمراد فوقية بالعظمة
ومن ذلك الشح والبخل والشح هو البخل الشديد وفرق العسكري بين البخل والضن بأن الضن أصله إن يكون بالعواري والبخل بالهيئات ولهذا يقال هو ضنين بعلمه ولا يقال: هو بخيل لأن العلم أشبه بالعارية منه بالهيئة لأن الواهب إذا وهب شيئا خرج عن ملكه بخلاف العارية ولهذا قال تعالى {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} ولم يقل بـ "بخيل"

ومن ذلك الغبطة والمنافسة كلاهما محمود قال تعالى {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا حسد إلا في اثنتين" وأراد الغبطة وهي تمني مثل ماله من غير أن يغتم لنيل غيره فإن انضم إلى ذلك الجد والتشمير إلى مثله أو خير منه فهو منافسة
وقريب منها الحسد والحقد فالحسد تمني زوال النعمة من مستحقها وربما كان مع سعي في إزالتها كذا ذكر الغزالي هذا القيد أعنى الاستحقاق وهو يقتضي أن تمنى زوالها عمن لا يستحقها لا يكون حسدا
ومن ذلك السبيل والطريق وقد كثر استعمال السبيل في القرآن حتى إنه وقع في الربع الأول منه في بضع وخمسين موضعا أولها قوله تعالى {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ولم يقع ذكر الطريق مرادا به الخير إلا مقترنا بوصف أو بإضافة مما يخلصه لذلك كقوله تعالى {إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}
ومن ذلك جاء وأتى يستويان في الماضي ويأتي أخف من يجيء وكذا في الأمر جيئوا بمثله أثقل من فأتوا بمثله ولم يذكر الله إلا يأتي ويأتون وفي الأمر فأت فأتنا فأتوا لأن إسكان الهمزة ثقيل لتحريك حروف المد واللين تقول جيء أثقل من ائت
وأما في الماضي ففيه لطيفة وهي أن جاء يقال في الجواهر والأعيان وأتى في المعاني والأزمان وفي مقابلتها ذهب ومضى يقال ذهب في الأعيان ومضى في الأزمان ولهذا يقال حكم فلان ماض ولا يقال ذاهب لأن الحكم ليس من الأعيان

وقال {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل مضى لأنه يضرب له المثل بالمعاني المفتقرة إلى الحال ويضرب له المثل بالأعيان القائمة بأنفسها فذكر الله جاء في موضع الأعيان في الماضي وأتى في موضع المعاني والأزمان
وانظر قوله تعالى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} لأن الصواع عين {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ} لأنه عين وقال {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} لأنها عين
وأما قوله تعالى {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} فلان الأجل كالمشاهد ولهذا يقال حضرته الوفاة وحضره الموت وقال تعالى {بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي العذاب لأنه مرئي يشاهدونه وقال {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} حيث لم يكن الحق مرئيا
فإن قيل: فقد قال تعالى {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} وقال {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} فجعل الأمر آتيا وجائيا
قلنا: هذا يؤيد ما ذكرناه فإنه لما قال {جَاءَ} وهم ممن يرى الأشياء قال {جَاءَ} أي عيانا ولما كان الزرع لا يبصر ولا يرى قال {جَاءَ} ويؤيد هذا أن جاء يعدى بالهمزة ويقال أجاءه قال تعالى {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} ولم يرد أتاه بمعنى ائت من الإتيان لأن المعنى لا استقلال له حتى يأتي بنفسه ومن ذلك الخطف والتخطف لا يفرق الأديب بينهما والله تعالى فرق

بينهما فتقول: {خَطِفَ} بالكسر لما تكرر ويكون من شأن الخاطف الخطف وخطف بالفتح حيث يقع الخطف من غير من يكون من شأنه الخطف بكلفة وهو أبعد من خطف بالفتح فإنه يكون لمن اتفق له على تكلف ولم يكن متوقعا منه ويدل عليه أن فعل بالكسر لا يتكرر كعلم وسمع وفعل لا يشترط فيه ذلك كقتل وضرب قال تعالى {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} فإن شغل الشيطان ذلك وقال {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} لأن من شانه ذلك
وقال: {تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} فإن الناس لا تخطف الناس إلا على تكلف
وقال {وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}
وقال: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} لأن البرق يخاف منه خطف البصر إذا قوي
ومن ذلك مد وأمد قال الراغب أكثر ما جاء الإمداد في المحبوب {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ}{وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} والمد في المكروه {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً}
ومن ذلك سقى وأسقى وقد سبق ومن ذلك عمل وفعل والفرق بينهما

إن العمل اخص من الفعل كل عمل فعل ولا ينعكس،ولهذا جعل النجاة الفعل في مقابلة الاسم لأنه أعم والعمل من الفعل ما كان مع امتداد لأنه فعل وباب فعل لما تكرر
وقد اعتبره الله تعالى فقال: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ} حيث كان فعلهم بزمان
وقال: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} حيث يأتون بما يؤمرون في طرفة عين فينقلون المدن بأسرع من أن يقوم القائم من مكانه
وقال تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}،{وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} فإن خلق الأنعام والثمار والزروع بامتداد،وقال {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} وتبين لكم كيف فعلنا بهم فإنها إهلاكات وقعت من غير بطء
وقال: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} حيث كان المقصود المثابرة عليها لا الإتيان بها مرة
وقال {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} بمعنى سارعوا كما قال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} أي يأتون بها على سرعة من غير توان في دفع حاجة الفقير فهذا هو الفصاحة في اختيار الأحسن في كل موضع
ومن ذلك القعود والجلوس إن القعود لا يكون معه لبثة والجلوس

لا يعتبر فيه ذلك ولهذا تقول قواعد البيت ولا تقول جوالسه لأن مقصودك ما فيه ثبات والقاف والعين والدال كيف تقلبت دلت على اللبث والقعدة بقاء على حاله والدقعاء للتراب الكثير الذي يبقى في مسيل الماء وله لبث طويل وأما الجيم واللام والسين فهي للحركة منه السجل للكتاب يطوى له ولا يثبت عنده ولهذا قالوا في قعد يقعد بضم الوسط وقالوا جلس يجلس بكسره فاختاروا الثقيل لما هو أثبت
إذا ثبت هذا فنقول قال الله تعالى {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} فان الثبات هو المقصود وقال: {اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} أي لا زوال لكم ولا حركة عليكم بعد هذا وقال: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} ولم يقل مجلس إذ لا زوال عنه
وقال: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ} إشارة إلى أنه يجلس فيه زمانا يسيرا ليس بمقعد فإذا طلب منكم التفسح فافسحوا لأنه لا كلفة فيه لقصره ولهذا لا يقال قعيد الملوك وإنما يقال جليسهم لأن مجالسه الملوك يستحب فيها التخفيف والقعيدة للمرأة لأنها تلبث في مكانها
ومن ذلك التمام والكمال وقد اجتمعا في قوله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} والعطف يقتضي المغايرة فقيل الإتمام لإزالة نقصان الأصل والإكمال لإزالة نقصان العوارض بعد تمام الأصل ولهذا كان قوله تعالى {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} أحسن من تامة فإن التمام من العدد قد علم وإنما بقي احتمال نقص في صفاتها

وقيل تم يشعر بحصول نقص قبله وكمل لا يشعر بذلك ومن هذا قولهم رجل كامل إذا جمع خصال الخير ورجل تام إذا كان غير ناقص الطول وقال العسكري الكمال اسم لاجتماع أبعاض الموصوف به والتمام اسم للجزء الذي يتم به الموصوف ولهذا يقولون القافية تمام البيت ولا يقولون كماله ويقولون البيت بكماله
ومن ذلك الضياء والنور
فائدة
عن الجويني في الفرق بين الإتيان والإعطاء
قال: الجويني لا يكاد اللغويون يفرقون بين الإعطاء والإتيان وظهر لي بينهما فرق انبنى عليه بلاغة في كتاب الله وهو أن الإتيان أقوى من الإعطاء في إثبات مفعوله لأن الإعطاء له مطاوع يقال: أعطاني فعطوت ولا يقال في الإتيان أتاني فأتيت وإنما يقال: أتاني فأخذت والفعل الذي له مطاوع أضعف في إثبات مفعوله من الذي لا مطاوع له لأنك تقول قطعته فانقطع فيدل على أن فعل الفاعل كان موقوفا على قبول المحل لولاه لما ثبت المفعول ولهذا يصح قطعته فما انقطع ولا يصح فيما لا مطاوع له ذلك فلا يجوز أن يقال: ضربته فانضرب أو ما انضرب ولا قتلته فانقتل أو ما انقتل لأن هذه الأفعال إذا صدرت من الفاعل ثبت لها المفعول في المحل والفاعل مستقل بالأفعال التي لا مطاوع لها فالإيتاء إذن أقوى من الإعطاء

قال: وقد تفكرت في مواضع من القرآن فوجدت ذلك مراعى قال الله تعالى في الملك {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} لأن الملك شيء عظيم لا يعطيه إلا من له قوة ولأن الملك في الملك أثبت من الملك في المالك فإن الملك لا يخرج الملك من يده وأما المالك فيخرجه بالبيع والهبة
وقال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ} لأن الحكمة إذا ثبتت في المحل دامت
وقال: {آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} لعظم القرآن وشأنه
وقال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته يردون على الحوض ورود النازل على الماء ويرتحلون إلى منازل العز والأنهار الجارية في الجنان والحوض للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته عند عطش الأكباد قبل الوصول إلى المقام الكريم فقال فيه {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} لأنه يترك ذلك عن قرب وينتقل إلى ما هو أعظم منه
وقال: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} لأن من الأشياء ماله وجود في زمان واحد بلفظ الإعطاء وقال {لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} لأنه تعالى بعد ما يرضى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزيده وينتقل به من كل الرضا إلى أعظم ما كان يرجو منه لا بل حال أمته كذلك فقوله: {يُعْطِيكَ رَبُّكَ} فيه بشارة
وقال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} لأنها موقوفة على قبول منا وهم

لا يؤتون إيتاء عن طيب قلب وإنما هو عن كره إشارة إلى أن المؤمن ينبغي أن يكون إعطاؤه للزكاة بقوة لا يكون كإعطاء الجزية
فانظر إلى هذه اللطيفة الموقفة على سر من أسرار الكتاب
قاعدة في التعريف والتنكير
اعلم أن لكل واحد منهما مقاما لا يليق بالآخر
فأما التعريف فله أسباب:
الأول: الإشارة إلى معهود خارجي كقوله تعالى: {بكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ} ،على قراءة الأعمش فإنه أشير بالسحرة إلى ساحر مذكور وقوله {كمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} وأغرب ابن الخشاب فجعلها للجنس فقال: لأن من عصى رسولا فقد عصى سائر الرسل
ومنهم من لا يشترط تقدم ذكره وجعل منه قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} لأنهم كانوا يعتقدون أن الناس الذين آمنوا سفهاء

وقوله {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} أي الذكر الذي طلبته كالأنثى التي وهبت لها،وإنما جعل هذا للخارجي لمعنى الذكر في قولها: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً}ومعنى الأنثى في قولها {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى}
الثاني: لمعهود ذهني أي في ذهن مخاطبك كقوله تعالى {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} وإما حضوري نحو {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فإنها نزلت يوم عرفة
الثالث: الجنس وهي فيه على أقسام أحدها: أن يقصد المبالغة في الخبر فيقصر جنس المعني على المخبر عنه نحو زيد الرجل أي الكامل في الرجولية وجعل سيبويه صفات الله تعالى كلها من ذلك
وثانيها: أن يقصره على وجه الحقيقة لا المبالغة ويسمى تعريف الماهية نحو {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} وقوله {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أي جعلنا مبتدأ كل حي هذا الجنس الذي هو الماء
وقال بعضهم: المراد بالحقيقة ثبوت الحقيقة الكلية الموجودة في الخارج لا الشاملة لأفراد الجنس نحو الرجل خير من المرأة لا يريدون امرأة بعينها وإنما المراد هذا الجنس خير من ذلك الجنس من حيث هو وإن كان يتفق في بعض أفراد النساء من هو خير من بعض أفراد الرجال بسبب عوارض
وهذا معنى قول ابن بابشاذ: إن تعريف العهد لما ثبت في الأعيان وتعريف الجنس لما ثبت في الأذهان لأن التفضيل في الجنس راجع إلى الصورتين الكليتين في الذهن

إذ لا معنى للتفضيل في الصورة الذهنية وإنما أضاف إلى الذهن لأن تلك الحقيقة التي ذكرناها وإن كانت موجودة في الخارج لاشتمال الأفراد الخارجية عليها ولكنها كلها مطابقة للصورة الذهنية التي لتلك الحقيقة ولهذا تسمى الكلية الطبيعية
الرابع: أن يقصد بها الحقيقة باعتبار كلية ذلك المعنى وتعرف بأنها التي إذا نزعت حسن أن يخلفها كل وتفيد معناها الذي وضعت له حقيقة ويلزم من ذلك الدلالة على شمول الأفراد وهي الاستغراقية ويظهر أثره في صحة الاستثناء منه مع كونه بلفظ الفرد نحو {إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} وفي صحة وصفه بالجمع نحو {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا}
قال صاحب ضوء المصباح: سواء أكان الشمول باعتبار الجنس كالرجل والمرأة أو باعتبار النوع كالسارق والسارقة ويفرق بينهما بأن ما دخلت عليه من أجل فعله فيزول عنه الاسم بزوال الفعل فهي للنوع وما دخلت عليه من وصفه فلا يزول عنه الاسم أبدا هذا كله إذا دخلت على مفرد نحو {إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} {إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} خلافا للإمام فخر الدين ومن تبعه في قولهم إن المفرد المحلي بالألف واللام لا يعم ولنا الاستثناء في قوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} وليس في قوله {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} دلالة على العموم كما زعم صاحب الكشاف
فإن قلت: فإذا لم يكن السارق عاما فبماذا تقطع يد كل سارق من لدن سرق رداء صفوان إلى انقضاء العالم

قيل: لأن المراد منه الجنس أي نفس الحقيقة والمعنى أن المتصف بصفة السرقة تقطع يده وهو صادق على كل سارق لأن الحقيقة كما توجد مع الواحد توجد مع المتعدد أيضا فإن دخلت على جمع فاختلف العلماء هل سلبته معنى الجمع ويصير للجنس ويحمل على أقله وهو الواحد لئلا يجتمع على الكلمة عمومان أو معنى الجمع باق معها؟
مذهب الحنفية الأول وقضية مذهبنا الثاني ولهذا اشترطوا ثلاثة من كل صنف في الزكاة إلا العاملين ويلزم الحنفية ألا يصح منه الاستثناء ولا يخصصه وقد قال تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ} وقال {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} إلى قوله {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} وقد حققته في باب العموم من بحر الأصول
ثم الأكثر في نعتها وغيرها موافقة اللفظ كقوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} وقوله: {لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى}
وتجيء موافقة معنى لا لفظا على قلة كقوله: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}
وأما التنكير فله أسباب:

الأول: إرادة الوحدة نحو {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى}
الثاني: إرادة النوع كقوله {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} أي نوع من الذكر
{وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} ،وهي التعامي عن آيات الله الظاهرة لكل مبصر ويجوز أن يكون للتعظيم وجريا في قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} لأنهم لم يحرصوا على أصل الحياة حتى تعرف بل على الازدياد من نوع وإن كان الزائد أقل شيء ينطلق عليه اسم الحياة
الثالث: التعظيم كقوله تعالى {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي بحرب وأي حرب
وكقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} أي لا يوقف على حقيقته
وجعل منه السكاكي قوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} والظاهر من قول الزمخشري خلافه وهذا لم يصرح بأن العذاب لا حق به بل قال: {يَمَسَّكَ} وذكر الخوف وذكر اسم الرحمن ولم يقل المنتقم وذلك يدل على أنه لم يرد التعظيم
وقوله: { أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ}
فإن قلت: لِم لَم ينكر الأنهار في قوله {مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} ؟

قلت: لا غرض في عظم الأنهار وسعتها بخلاف الجنات
ومنه {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ}
وإنما لم ينكر سلام عيسى في قوله {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ} فإنه
في قصة دعائه الرمز إلى ما اشتق منه اسم الله تعالى والسلام: اسم من أسمائه مشتق من السلامة وكل اسم ناديته به متعرض لما يشتق منه ذلك الاسم نحو يا غفور يا رحيم
الرابع: التكثير نحو إن له لإبلاً وجعل منه الزمخشري قوله تعالى {إِنَّ لَنَا لأَجْراً} أي أجرا وافرا جزيلا ليقابل المأجور عنه من الغلبة على مثل موسى عليه السلام فإنه لا يقابل الغلبة عليه بأجر إلا وهو عديم النظير في الكثرة
وقد أفاد التكثير والتعظيم معا قوله تعالى {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} أي رسل عظام ذوو عدد كثير وذلك لأنه وقع عوضا عن قوله فلا تحزن وتصبر وهو يدل على عظم الأمر وتكاثر العدد
الخامس: التحقير كقوله تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} قالالزمخشري: أي من شيء حقير مهين ثم بينه بقوله {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ}
وكقوله تعالى: {إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنَّاً} أي لا يعبأ به وإلا لاتبعوه لأن ذلك دينهم {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} السادس: التقليل كقوله تعالى {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي رضوان

قليل من بحار رضوان الله الذي لا يتناهى أكبر من الجنات لأن رضا المولى رأس كل سعادة
وقوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} إذ المعنى أنه يحصل فيه أصل الشفاء في جملة صور ويجوز أن يكون للتعظيم
وعد صاحب الكشاف منه {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} أي بعض الليل
وفيه نظر لأن التقليل عبارة عن تقليل الجنس إلى فرد من أفراده لا ببعض فرد إلى جزء من أجزائه
تنبيه
هذه الأمور إنما تعلم من القرائن والسياق كما فهم التعظيم في قوله تعالى {لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} من قوله: بعده {لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} وكما فهم التحقير من قوله: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} من قوله بعده {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ}
قاعدة فيما إذا ذكر الاسم مرتين
إذا ذكر الاسم مرتين فله أربعة أحوال لأنه إما أن يكونا معرفتين أو نكرتين أو الثاني معرفة والأول نكره أو عكسه

فالأول: أن يكونا معرفتين والثاني فيه هو الأول غالبا حملا له على المعهود الذي هو الأصل في اللام أو الإضافة كـ "العسر" في قوله {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} ولذلك ورد لن يغلب عسر يسرين قال التنوخي إنما كان مع العسر واحدا لأن اللام طبيعة لا ثاني لها بمعنى أن الجنس هي والكلي لا يوصف بوحدة ولا تعدد
وقوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}
وقوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}
وقوله: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ}
وقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ}
وقوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}
وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ}
وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ}
وهذه القاعدة ليست مطردة وهي منقوضة بآيات كثيرة كقوله تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} فإنهما معرفتان وهما غيران فإن الأول هو العمل والثاني الثواب

وقوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} أي القاتلة والمقتولة
وقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ}
وقوله: {هَلْ أَتَى عَلَى الأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ}
وقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الأِنْسَانَ}
وقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}
وقوله: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}
وقوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ}
فالملك الذي يؤتيه الله للعبد لا يمكن أن يكون نفس ملكه فقد اختلفا وهما معرفتان لكن يصدق أنه إياه باعتبار الاشتراك في الاسم كما صرح بنحوه في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} فقد أعاد الضمير في المنفصل المستغرق باعتبار أصل الفضل
ونظيرها قوله تعالى: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}
وقوله: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ}
فالأول عام والثاني خاص
وقوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}

{إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}
وقوله: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ}
فالأول نصب على القسم والثاني نصب بـ "أقول"
وهذا بخلاف قوله: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}
وأما قوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} فالأولى معرفة بالضمير والثانية عامة والأولى خاصة فالأول داخل في الثاني
وكذا قوله: {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}
وقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}
وقوله: {أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ}
وقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}
وقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} ،ثم قال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ،فهما وإن اختلفا يكون الأول خاصا والثاني عاما متفقان بالجنس
وكذلك: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}
ولذلك استبدل بها على أن الأصل إلغاء الظن مطلقا

التالي بمشيئة الله ج9.وج10.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج22.تذكرة الحفاظ/شيوخ صاحب التذكرة الجزء الاخير

شيوخ صاحب تذكرة الحفاظ ج22. 1- ولقد انتفعت وتخرجت بشيخنا الإمام العالم المحدث الحافظ الشهيد أبي الحسين علي ابن الشيخ الفقيه ببعلبك ولز...